المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(الفصل الأول) 2529- (1) عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول الله - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٨

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

الفصل: ‌ ‌(الفصل الأول) 2529- (1) عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول الله

(الفصل الأول)

2529-

(1) عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟

ــ

إلى عرفات ووقوف بساحتها ودعاء وابتهال ثم بيتوتة في المزدلفة وعودة إلى منى فرمي ونحر وحلق اقتداء بسنة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم قلت: وزعم بعض المتنورين أن الحج مؤتمر سياسي ثقافي فحسب وليس كذلك فإنه لو كانت هذه هي الحكمة التي شرع لها الحج استقرار وساده جو من الهدوء يساعد على ذلك ولكنه اضطراب وانتقال من مكان إلى مكان ومن نسك إلى نسك، ولكانت دعوة مقصورة على العلماء والزعماء والأذكياء والنبهاء وعلى الخاصة من المسلمين، إنها لا شك ثمرة من ثمرات الحج ولكن ليست هي الغاية التي شرعت لها هذه الفريضة العظيمة وفرضت على المسلمين فقال:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (3: 97) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا. ولكان له وضع غير هذا الوضع ومكان غير هذا المكان القاحل النائي، إنه عبادة ونسك، وطاعة وانقياد وحب وهيام واتصال بمؤسس هذه الملة وتجديد العهد بالمركز الروحي والمنبع الأصيل وتقليد للمحبين وتمثيل لما جرى لهم وتذكير للرحيل من دار الفناء إلى دار القرار والبقاء ويتبع ذلك فوائد وحكم وأسرار لا يحصيها إلا الله، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء منها.

2529-

قوله (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي خطب لنا عام فرض الحج فيه أو ذكر لنا أثناء خطبة له. قال الأبي: يمنع أن يكون هذه الخطبة في الحج لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حج في العاشرة وفرض الحج كان سابقًا، قيل سنة خمس وقيل تسع إلا أن يكون قاله أيضًا في حجة الوداع (قد فرض) بصيغة المجهول (فحجوا) بضم الحاء المهملة صيغة الأمر (فقال رجل) هو الأقرع بن حابس كما في حديث ابن عباس أول أحاديث الفصل الثاني (أكل عام؟) بالنصب لمقدر، أي أتأمرنا أن نحج كل عام؟ أو أفرض علينا أن نحج كل عام؟ وفي النسائي: فقال رجل: في كل عام؟ أي هو مفروض على كل إنسان مكلف في كل سنة أو هو مفروض عليه مرة واحدة؟ قال النووي: واختلف الأصوليون في أن الأمر هل يقتضي التكرار؟ والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه، والثاني يقتضيه، والثالث يتوقف فيما زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضاءه ولا بمنعه، وهذا الحديث قد يستدل به من يقول بالتوقف لأنه سأل فقال أكل عام؟ ولو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم يسأل ولقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا حاجة إلى السؤال بل مطلقه محمول على كذا وقد يجيب الآخرون عنه بأنه سأل استظهارًا واحتياطًا، وقوله: ذروني ما تركتكم، ظاهر في أنه لا يقتضي التكرار. قال المازري: ويحتمل أنه

ص: 295

فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتم

ــ

إنما احتمل التكرار عنده من وجه آخر، لأن الحج في اللغة قصد فيه تكرار فاحتمل عنده التكرار من جهة الاشتقاق لا من مطلق الأمر - انتهى. قال القاري بعد ذكر هذا الاحتمال بلفظة قيل: والأظهر أن مبني السؤال قياسه على سائر الأعمال من الصلاة والصوم وزكاة الأموال ولم يدر أن تكراره كل عام بالنسبة إلى جميع المكلفين من جملة المحال كما لا يخفى (فسكت) ، أي عن جوابه (حتى قالها)، أي قال الرجل السائل الكلمة التي تكلمها (ثلاثًا) قال التوربشتي: إنما سكت زجرًا له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أولى لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان الشريعة فلم يكن ليسكت عن بيان أمر علم أن بالأمة حاجة إلى الكشف عنه، فالسؤال عن مثله تقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نهوا عنه، والإقدام عليه ضرب من الجهل وشر فيه احتمال أن يعاقبوا بزيادة التكليف، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله ((لو قلت نعم لوجبت)) قال القاري: ثم لما رآه صلى الله عليه وسلم لا ينزجر ولا يقنع إلا بالجواب الصريح صرح به (فقال لو قلت نعم) ، أي فرضًا وتقديرًا، ولا يبعد أن يكون سكوته عليه الصلاة والسلام انتظار للوحي أو الإلهام. وقال السندي: وهذا بظاهره يقتضي أن أمر افتراض الحج كل عام كان مفوضًا إليه حتى لو قال نعم لحصل وليس بمستبعد إذ يجوز أن يأمر الله تعالى بالإطلاق ويفوض أمر التقييد إلى الذي فوض إليه البيان فهو إن أراد أن يبقيه على الإطلاق يبقيه عليه وإن أراد أن يقيده بكل عام يقيده به، ثم فيه إشارة إلى كراهة السؤال في النصوص المطلقة والتفتيش عن قيودها بل ينبغي العمل على إطلاقها حتى يظهر فيها قيد، وقد جاء القرآن موافقًا لهذه الكراهة - انتهى. وقال الحافظ: استدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد في الأحكام لقوله: ((لو قلت: نعم لوجبت)) ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي، وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال (لوجبت) ، أي هذه العبادة أو فريضة الحج المدلول عليها بقوله فرض، أو الحجة كل عام أو حجج كثيرة على كل أحد (ولما استطعتم) ، أي وما قدرتم كلكم إتيان الحج في كل عام، {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (ذروني) ، وفي رواية البخاري ((دعوني)) ، قال السندي: أي اتركوني من السؤال عن القيود في المطلقات. قال في القاموس: ذره، أي دعه، يذره تركًا ولا تقل وذرًا وأصله وذره يذره كوسعه يسعه لكن ما نطقوا بماضيه ولا بمصدره ولا باسم الفاعل، أو قيل وذرته شاذًا (ما تركتكم) ، أي لأني مبعوث لبيان الشرائع وتبليغ الأحكام، فما كان مشروعًا أبينه لكم لا محالة ولا حاجة إلى السؤال. قال السندي: ما مصدرية ظرفية، أي مدة تركي إياكم عن التكليف بالقيود فيها، وليس المراد لا تطلبوا مني العلم ما دام لا أبين لكم بنفسي - انتهى. وقال الحافظ: قوله ((ما تركتكم)) ، أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء وإنما غاير بين اللفظين لأنهم أماتوا الماضي واسم الفاعل منهما واسم مفعولهما وأثبتوا الفعل المضارع وهو يذر، وفعل الأمر وهو ذر ومثله دع ويدع ولكن سمع ودع كما قرئ به في الشاذ في قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (93: 3) وقال الشاعر:

ص: 296

فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم

ــ

ونحن ودعنا آل عمرو بن عامر

فرائس أطراف المثقفة السمر

ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنن في العبارة وإلا لقال: اتركوني. قال: والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع خشية أن ينزل به وجوبه أو تحريمه وعن كثرة السؤال لما فيه غالبًا من التعنت وخشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل فقد يؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة. قال ابن فرج: معنى قوله ((ذروني ما تركتكم)) لا تكثروا من الاستفسار عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر ولو كانت صالحة لغيره، كما أن قوله ((حجوا)) وإن كان صالحًا للتكرار فينبغي أن يكتفي بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة فإن الأصل عدم الزيادة ولا تكثروا التنقيب عن ذلك لأنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل إذ أمروا أن يذبحوا البقرة فلو ذبحوا، أي بقرة كانت لامتثلوا ولكنهم شددوا فشدد عليهم وبهذا تظهر مناسبة قوله:((فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم)) بقوله: ((ذروني ما تركتكم)) قال النووي: وهو دليل على أن لا حكم قبل ورود الشرع، وأن الأصل في الأشياء عدم الوجوب وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين. (فإنما هلك من كان قبلكم) ، أي من اليهود والنصارى، (بكثرة سؤالهم) كسؤال الرؤية والكلام وقضية البقرة. قال الأبي: وفيه مرجوحية كثرة السؤال، ومنه ما اتفق لأسد بن الفرات مع مالك حين أكثر السؤال بقوله: فإن كان كذا، فإن كان كذا؟ فقال له مالك: هذه سلسلة بنت أخرى، إن أردت هذا فعليك بأهل العراق، إلا أن يقال لا يلزم من المنع هنا المنع في غيره لما أشار إليه صلى الله عليه وسلم من أنه في مقام التشريع فخاف الافتراض فيما يشق ولا يقدر عليه - انتهى. وقال الحافظ: استدل به على النهى عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك. قال البغوي: في شرح السنة: المسائل على وجهين: أحدهما: ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} (16: 45. و 21، 6) الآية، وعلى ذلك تنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما، ثانيهما: ما كان على وجه التعنت والتكلف، وهو المراد في هذا الحديث والله أعلم. ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك وذم السلف، فعند أحمد من حديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات. قال الأوزاعي: هي شداد المسائل، وقال الأوزاعي أيضًا: إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط فلقد رأيتهم أقل الناس علمًا. وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل. وقال ابن العربي: كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق عليهم فأما بعد فقد أمن ذلك لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع. قال: وإنه لمكروه إن لم يكن حرامًا إلا للعلماء فإنهم فرعوا ومهدوا فنفع الله من بعدهم بذلك ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم - انتهى ملخصًا. وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عما هو أهم منه وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردًا عما يندر ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله والله المستعان – انتهى كلام الحافظ.

ص: 297

واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم،

ــ

(واختلافهم) عطف على كثرة السؤال لا السؤال، إذ الاختلاف وإن قل يؤدي إلى الهلاك، ويحتمل أنه عطف على سؤالهم هو إخبار عمن تقدم بأنه كثر اختلافهم في الواقع فأداهم إلى الهلاك وهو لا ينافي أن القليل من الاختلاف مؤد إلى الفساد، قاله السندي (على أنبيائهم)، يعني إذا أمرهم الأنبياء بعد السؤال أو قبله اختلفوا عليهم فهلكوا واستحقوا الإهلاك. قال الأبي: قوله ((واختلافهم على أنبيائهم)) هو زيادة على ما وقع فإن الذي وقع إنما هو إلحاح في السؤال لا الاختلاف (فإذا أمرتكم بشيء)، أي من الفرائض وفي رواية بأمر:(فأتوا منه ما استطعتم)، أي افعلوا قدر استطاعتكم. قال السندي: يريد أن الأمر المطلق لا يقتضي دوام الفعل وإنما يقتضي جنس المأمور به وأنه طاعة مطلوبة ينبغي أن يأتي كل إنسان منه على قدر طاقته، وأما النهي فيقتضي دوام الترك - انتهى. وقال: في اللمعات قوله: ((فأتوا منه ما استطعتم)) يجوز أن يكون تأكيدًا ومبالغة في إتيان ما أمر به وبذل الطاقة فيه، وأن يكون إشارة إلى التيسير ورفع الحرج كما في الصلاة وأركانها وشرائطها إذا عجز عن بعضها أتى بما استطاع، وهذا الأمر وأما في النهي فينبغي أن يحتاط في تركه ويبذل المجهود بالغًا ما بلغ. وقال النووي: هذا من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وأشباه هذا غير منحصرة، وأما قوله:((وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) فهو على إطلاقه، فإن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة أو شرب الخمر عند الإكراه أو التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره ونحو ذلك، فهذا ليس منهيًا عنه في هذا الحال. قال وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (64: 16) وأما قوله تعالى: {حَقَّ تُقَاتِهِ} ففيها مذهبان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} والثاني وهو الصحيح أو الصواب وبه جزم المحققون: أنها ليست منسوخة بل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} مفسرة لها ومبينة للمراد بها. قالوا: و {حَقَّ تُقَاتِهِ} هو امتثال أمره واجتناب نهيه، أي مع القدرة لا مع العجز ولم يأمر الله تعالى إلا بالمستطاع. قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (2: 286) انتهى. قال الحافظ: في الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلاً عما لا يحتاج إليه في الحال فكأنه قال: عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي فاجعلوا اشتغالكم بها عوضًا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله ثم يجتهد في تفهم ذلك والوقوف على المراد به ثم يتشاغل بالعمل به، فإن كان من العمليات يتشاغل بتصديقه واعتقاد حقيته، وإن كان من العمليات بذل وسعه في القيام به فعلاً وتركًا فإن وجد وقتًا زائدًا على ذلك فلا بأس أن يصرفه في الاشتغال بتعرف حكم ما سيقع على قصد العمل به إن لو وقع، فأما إن كانت

ص: 298

وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه. رواه مسلم.

2530-

(2) وعنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله.

ــ

الهمة مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضي ما سمع فإن هذا مما يدخل في النهي فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدل وسيأتي بسط ذلك قريبًا، أي في باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه من كتاب الاعتصام - انتهى. (وإذا نهيتكم عن شيء) ، أي من المحرمات (فدعوه) ، أي اتركوه كله، قال الحافظ: استدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتناءه بالمأمورات لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات، ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد. فإن قيل: إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضًا إذا لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين كذا قيل. والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعي من الاعتناء به بل هو من جهة الكف إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلاً، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف بل كل مكلف قادر على الترك بخلاف الفعل، فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بالاستطاعة دون النهي، وادعى بعضهم أن قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي، وقد قيد بالاستطاعة واستويا فحينئذٍ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار - انتهى (رواه مسلم) في الحج من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة، وكذا النسائي، وأحمد، وابن حبان، والطبري، والبيهقي (ج4: ص326) ، والدارقطني، وفي الباب عن ابن عباس، وسيأتي في الفصل الثاني، وعن علي عند الترمذي، وعن أبي أمامة عند الطبري، وعن أنس عند ابن ماجة، والحديث رواه البخاري من طريق آخر مختصرًا. أي من غير ذكر السبب في باب الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الاعتصام، ومسلم أيضًا في الفضائل، وأحمد (ج2: ص312) ، والترمذي في العلم، وابن ماجة في السنة.

2530-

قوله (سئل) بالبناء للمفعول، أبهم السائل وهو أبو ذر الغفاري وحديثه في العتق عند البخاري، (أي العمل) ، وفي رواية أي الأعمال وهو مبتدأ خبره (أفضل) ، أي أكثر ثوابًا عند الله تعالى (قال) ، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو (إيمان بالله ورسوله) نكر الإيمان ليشعر بالتعظيم والتفخيم، أي التصديق المقارن بالإخلاص المستتبع للأعمال الصالحة قال النووي: فيه تصريح بأن العمل يطلق على الإيمان والمراد به - والله أعلم - الإيمان الذي يدخل به في ملة الإسلام وهو التصديق بقلبه والنطق بالشهادتين، فالتصديق عمل القلب والنطق عمل اللسان ولا يدخل في الإيمان هنا الأعمال بسائر الجوارح: كالصوم، والصلاة، والحج، والجهاد وغيرها. لكونه جعل قسيمًا للجهاد والحج، ولقوله صلى الله عليه وسلم: إيمان بالله

ص: 299

قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور.

ــ

ورسوله. ولا يقال هذا في الأعمال ولا يمنع من تسمية الأعمال المذكورة إيمانًا فقد قدمنا دلائله - انتهى (قيل) القائل هو السائل في الأول (ثم ماذا؟) كلمة ثم للعطف مع الترتيب الذكرى، وما مبتدأ وذا خبره والمعنى ثم، أي شيء أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله؟ (قال الجهاد في سبيل الله) ، أي قتال الكفار لإعلاء كلمة الله، (قيل ثم ماذا؟) أفضل (قال: حج مبرور) ، أي مقبول من البر وهو القبول ومن علامات القبول أن يزداد بعده خيرًا، أي يكون حاله بعد الرجوع خيرًا مما قبله ولا يعاود المعاصي، وهو مفعول من بر المتعدي يقال: بر الله حجه، أي قبله ويبني للمفعول. فيقال بر حجه فهو مبرور ويستعمل لازمًا. فيقال بر حجه، ويقال أيضًا أبر الله حجه إبراًر، قال الجزري: يقال بر حجه وبر حجه وبر الله حجه، وأبره برًا بالكسر في الجميع وإبرارًا، وقيل: المبرور المقابل بالبر وهو الثواب، وقيل: هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة، وقيل: الذي لا يعقبه معصية، وقيل: هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم مأخوذ من البر وهو الطاعة، ومنه برت يمينه إذا سلم من الحنث وبر بيعه إذا سلم من الخداع ورجح هذا المعنى النووي. وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، ولأحمد والحاكم من حديث جابر قالوا: يا رسول الله ما بر الحج؟ قال: إطعام الطعام وإفشاء السلام. قال في الفتح: وفي إسناده ضعف، ولو ثبت كان هو المتعين دون غيره - انتهى. قلت حديث جابر هذا قال الحاكم: إنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه لأنه لم يحتجا بأيوب بن سويد لكنه حديث له شواهد كثيرة. وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح. وحسن سنده المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد، ولفظ الطبراني ((إطعام الطعام وطيب الكلام)) . قيل المراد أن هذه الخصال من علامات الحج المبرور وليست علاماته قاصرة على هذه، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أجاب السائل بذلك لكونه رأى منه التقصير في هذه الخصال لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجيب كل إنسان على حسب حاله ثم إنه عرف الجهاد باللام دون الإيمان والحج لأن المعرف بلام الجنس كالنكرة في المعنى فيوافق تنكير قسيميه. وقيل لأن الإيمان والحج لا يتكرر وجوبهما فناسبهما التنكير ليدل على الإفراد الشخصي بخلاف الجهاد فإنه قد يتكرر فعرف والتعريف للكمال إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل كذا قيل. وقد تعقبه الحافظ في الفتح واعترضه العيني حسب عادته بما لا طائل تحته. قال الحافظ: وقع في مسند الحارث بن أبي أسامة ((ثم جهاد)) ، أي بالتنكير فقد ظهر من هذه الرواية أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة لأن مخرجه واحد فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة ثم أنه قدم الجهاد على الحج مع أنه فرض كفاية، والحج فرض عين وذلك لأنه كان أول الإسلام ومحاربة أعداءه والجد في إظهاره، وقيل: هو محمول على الجهاد في وقت الزحف الملجئ والنفير العام فإنه حينئذ يجب الجهاد

ص: 300

..............................................................................................

ــ

على الجميع. وإذا كان هكذا فالجهاد أولى بالتحريض والتقديم من الحج لأنه يكون حينئذٍ فرض عين ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر فكان أهم منه. وقيل: قدم لأن نفع الجهاد متعد لما فيه من المصلحة العامة للمسلمين مع بذل النفس فيه بخلاف الحج فيهما، لأن نفعه قاصر ولا يكون فيه بذل النفس. وقيل ((ثم)) ها هنا للترتيب في الذكر كقوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (90: 17) فإنه من المعلوم أنه ليس المراد ها هنا الترتيب في الفعل وفي الحديث دليل على أن الإيمان بالله ورسوله أفضل من الجهاد والجهاد أفضل من الحج، وقد اختلفت الأحاديث المشتملة على بيان فاضل الأعمال من مفضولها فتارة تجعل الأفضل الإيمان كما في الحديث الذي نحن في شرحه، وتارة الصلاة لوقتها كما في حديث ابن مسعود، وتارة إطعام الطعام وقراءة السلام كما في حديث ابن عمرو، وتارة السلامة من اليد واللسان كما في حديث أبي موسى، وتارة الجهاد كما في حديث أبي سعيد، وتارة ذكر الله كما في حديث أبي الرداء، وتارة غير ذلك، واستشكلت للمعارضة الظاهرة، أي تباين الأجوبة واختلافها مع اتحاد السؤال. وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المفاضلة في الأعمال عدة مرات وكان يجيب على ذلك بما يناسب المقام والوقت ويصلح لحال السائل والمخاطب، فإن لكل إنسان عملاً يصلح له ولا ينجح إلا به فينبغي توقيفه على ما خفى عليه وتوجيهه إليه، وكذلك الوقت يختلف، فوقت تكون الصدقة أفضل من غيرها كوقت المجاعات والحاجة، وتارة يكون الجهاد أفضل من غيره كوقت الزحف الملجئ والنفير العام، وتارة يكون طلب العلم الشرعي أنفع للحاجة إليه والانصراف عنه، وكذلك وظائف اليوم والليلة، فساعة يكون الاستغفار والتوبة والدعاء أولى من القراءة، وساعة أخرى تكون الصلاة وهكذا. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله (ج2: ص43) : الفضل يختلف باختلاف الاعتبار والمقصود هنا، أي في حديث أبي هريرة الذي نحن في شرحه بيان الفضل باعتبار تنويه دين الله وظهور شعار الله، وليس بهذا الاعتبار بعد الإيمان كالجهاد والحج - انتهى. وقال القفال الشافعي الكبير: إن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص فإنه قد يقال ((خير الأشياء كذا)) ولا يراد به خير جميع الأشياء من جميع الوجوه والحيثيات والاعتبارات وفي جميع الأحوال والأوقات ولجميع الأشخاص والأفراد بل في حال دون حال ولواحد دون واحد ومن وجه دون وجه وفي وقت دون وقت، قال: ويجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا أو من خيرها أو من خيركم من فعل كذا فحذفت من وهي مرادة كما يقال فلان أعقل الناس وأفضلهم ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم. ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم خيركم لأهله، ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقًا. قال النووي: وعلى هذا الجواب يكون الإيمان أفضلها مطلقًا، والباقيات متساويات في كونها من أفضل الأعمال والأحوال، ويعرف فضل بعضها على بعض بدلائل تدل عليها وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص انتهى. وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في الفصل الثاني من باب الذكر، وإن شئت

ص: 301

متفق عليه.

2531-

(3) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق

ــ

مزيد التفضيل فارجع إلى شرح عمدة الأحكام (ج1: ص132)، وفتح الملهم شرح صحيح مسلم (ج1: ص214، 215) (متفق عليه) رواه البخاري في الإيمان، والحج، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص264، 268، 269، 287) ، والترمذي في فضائل الجهاد، والنسائي في الحج، والبيهقي (ج5: ص262) وأخرج أيضًا بنحوه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما والطيالسي.

2531-

قوله (من حج لله) ، أي لابتغاء وجه الله تعالى، والمراد الإخلاص، وفي رواية للبخاري من حج هذا البيت، أي قصد البيت الحرام لحج أو عمرة، ولمسلم في رواية ((من أتى هذا البيت)) قال الحافظ: وهو أعم من قوله: ((من حج)) يعني أنه يشمل الحج والعمرة، ويجوز حمل لفظ حج على ما هو أعم من الحج والعمرة فتساوي رواية ((من أتى)) من حيث أن الغالب أن إتيانه إنما هو للحج والعمرة، وللدارقطني (ص282) بسند فيه ضعف:((من حج أو اعتمر)) (فلم يرفث) بتثليث الفاء والضم المشهور في الرواية واللغة. قال الحافظ: فاء الرفث مثلثة في الماضي والمضارع، والأفصح الفتح في الماضي والضم في المستقبل، قال: والرفث الجماع ويطلق على التعريض به وعلى الفحش من القول. وقال الأزهري: الرفث اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة، وكان ابن عمر يخصه بما خوطب به النساء. وقال عياض: هذا من قول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} (2: 193) والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع - انتهى. والذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك وإليه نحا القرطبي وهو المراد بقوله في الصيام ((فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث)) - انتهى. قلت: روى البغوي في شرح السنة (ج6: ص) عن ابن عباس أنه أنشد شعرًا فيه ذكر الجماع فقيل: أتقول الرفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث ما وُوجِه، أي روجع وخوطب به النساء، فكأنه يرى الرفث المنهي عنه في الآية ما خوطب به المرأة دون ما يتكلم به من غير أن تسمع المرأة. وقال سعيد ابن جبير في قوله تعالى {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2: 193) : الرفث إتيان النساء، والفسوق السباب، والجدال المراء يعني مع الرفقاء والمكارين (ولم يفسق) بضم السين، أي لم يأت بسيئة ولا معصية. وقيل: أي لم يخرج عن حدود الشرع وأصله انفسقت الرطبة إذا خرجت فسمي الخارج عن الطاعة فاسقًا، قال في القاموس: الفسق بالكسر الترك لأمر الله تعالى، والعصيان والخروج عن طريق الحق أو الفجور كالفسوق، فسق كنصر وضرب وكرم فسقًا وفسوقًا. وإنه لفسق خروج عن الحق، وفسق جار، وعن أمر ربه خرج، والرطبة عن قشرها خرجت كانفسقت قيل: ومنه الفاسق لانسلاخه عن الخير والفويسقة الفارة لخروجها من حجرها على الناس - انتهى. والفاء في قوله ((فلم)) والواو في قوله

ص: 302

رجع كيوم ولدته أمه. متفق عليه.

2532-

(4) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العمرة إلى العمرة

ــ

((ولم)) عطف على الشرط في قوله من حج وجوابه قوله: (رجع) أي صار أو رجع من ذنوبه أو حجته أو فرغ من أعمال الحج وحمله على معنى رجع إلى بيته بعيد، وقوله (كيوم ولدته أمه) خير على الأول وحال على الوجهين الأخيرين بتأويل مشابهًا في البراءة من الذنوب لنفسه في يوم ولدته أمه فيه، إذ لا معنى لتشبيه الشخص باليوم، أو المعنى مشابهًا يومه بيوم ولادته في خلوه من الذنوب، وقوله ((كيوم)) يحتمل الإعراب، أي كسر الميم والبناء على الفتح والإضافة لقوله: ولدته أمه. وهو المختار في مثل هذا لأن صدر الجملة المضاف إليها مبني. وفي رواية للبخاري، ومسلم: كما ولدته أمه، وفي رواية أحمد (ج2: ص229) ، والدراقطني (ص282) : كهيئته يوم ولدته أمه. وظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر والتبعات، وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس الآتي المصرح بذلك وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري، وإليه ذهب القرطبي وعياض لكن قال الطبري: وهو محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها. قال الحافظ: وذكر لنا بعض الناس أن الطيبي أفاد أن الحديث إنما لم يذكر فيه الجدال كما ذكر في الآية على طريق الاكتفاء بذكر البعض وترك ما دل عليه ما ذكر. ويحتمل أن يقال إن ذلك يختلف بالقصد لأن وجوده لا يؤثر في ترك مغفرة ذنوب الحاج إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحج لما يظهر من الأدلة أو المجادلة بطريق التعميم فلا يؤثر أيضًا فإن الفاحش منها داخل في عموم الرفث، والحسن منها ظاهر في عدم التأثير، والمستوى الطرفين لا يؤثر أيضًا. قيل: ذكر الفسق في الحديث والنهي عنه في الحج مع كونه ممنوعًا في كل حال وفي كل حين هو لزيادة التقيح والتشنيع ولزيادة التأكيد في النهي عنه في الحج وللتنبيه على أن الحج أبعد الأعمال عن الفسق والله أعلم (متفق عليه) رواه البخاري في موضعين من كتاب الحج: في باب فضل الحج المبرور، وقبل جزاء الصيد، ورواه مسلم في أواخر الحج، وأخرجه أيضًا أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والدراقطني (ص282)، والبيهقي (ج5: ص65) ، والدارمي كلهم في الحج، وفي رواية الترمذي ((غفر له ما تقدم من ذنبه)) بدل قوله:((كيوم ولدته أمه)) .

2532-

قوله (العمرة) بضم العين مع ضم الميم وإسكانها، وهي في اللغة الزيادة، وقيل: القصد إلى مكان عامر، وقيل: إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام، وفي الشريعة زيادة البيت الحرام وقصده بكيفية مخصوصة وشروط مخصوصة ذكرت في كتب الحديث والفقه، وقيل: هي في الشرع إحرام وسعي وطواف وحلق أو تقصير، سميت بذلك لأنه يزار بها البيت ويقصد، وقال الراغب: العمارة نقيض الخراب، والاعتمار والعمرة الزيارة فيها عمارة الود، وجعل في الشريعة للقصد المخصوص - انتهى. (إلى العمرة) ، أي منتهية إلى العمرة، قال القاري: قوله: ((العمرة إلى العمرة)) ، أي العمرة

ص: 303

كفارة لما بينهما،

ــ

المنضمة أو العمرة الموصولة أو المنتهية إلى العمرة، وقال المناوي: أي العمرة حال كون الزمن بعدها ينتهي إلى العمرة، فإلى للانتهاء على أصلها، وقال الباجي وتبعه ابن التين: إن إلى يحتمل أن تكون بمعنى مع كقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (4: 2) وكقوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ} (61: 14) فيكون التقدير: العمرة مع العمرة مكفرة لما بينهما، فإذا كانت للغاية كان المكفر هو العمرة الأولى، وإذا كانت بمعنى مع كان المكفر العمرتين، ويدل للثاني حديث ((العمرتان تكفران ما بينهما)) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة. قال المناوي: فيه من لم أعرفهم ولم أرهم في كتب الرجال، وقال السندي: قيل: يحتمل أن تكون إلى بمعنى مع أي العمرة مع العمرة أو بمعناها متعلقة بكفارة، أي تكفر إلى العمرة ولازمه أنها تكفر الذنوب المتأخرة (كفارة لما بينهما) هذا ظاهر في فضل العمرة وأنها مكفرة للخطايا الواقعة بين العمرتين، قال في المطامح: نبه بهذا الحديث على فضل العمرة الموصولة بعمرة، قال العيني (ج10: ص 108، 109) : ظاهر الحديث أن الأولى هي المكفرة لأنها هي التي وقع الخبر عنها أنها تكفر ولكن الظاهر من جهة المعنى أن العمرة الثانية هي التي تكفر ما قبلها إلى العمرة التي قبلها فإن التكفير قبل وقوع الذنب خلاف الظاهر - انتهى. وقال الأبي: الأظهر أن الحديث خرج مخرج الحث على تكرير العمرة والإكثار منها لأنه إذا حمل على غير ذلك يشكل بما إذا اعتمر مرة واحدة فإنه يلزم عليه أن لا فائدة لها لأن فائدتها وهو التكفير مشروطة بفعلها ثانية إلا أن يقال: لم تنحصر فائدة العبادة في تكفير السيئات بل يكون فيها وفي ثبوت الحسنات ورفع الدرجات كما ورد في بعض الأحاديث ((من فعل كذا وكتب له كذا حسنة ومحيت عنه كذا كذا سيئة، ورفعت له كذا كذا درجة)) فتكون فائدتها إذا لم تكرر ثبوت الحسنات ورفع الدرجات. وقال شيخنا أبو عبد الله يعني ابن عرفة: إذا لم تكرر كفر بعض ما وقع بعدها لا كله - والله أعلم - بقدر ذلك البعض، وكذا في شرح الموطأ للزرقاني (ج2: ص269) قال ابن عبد البر: المراد تكفير الصغائر دون الكبائر، وذهب بعض علماء عصرنا إلى تعميم ذلك، ثم بالغ في الإنكار عليه، وكأنه يعني الباجي فإنه قال: ما من ألفاظ العموم فتقضي من جهة اللفظ تكفير جميع ما يقع بينهما إلا ما خصه الدليل واستشكل بعضهم كون العمرة كفارة للصغائر فقط مع أن اجتناب الكبار مكفر لها لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} (4: 31) الآية فماذا تكفر العمرة؟ وأجيب بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد فتغايرا من هذه الحيثية وقال السندي: هذا الاستشكال ليس بشيء لأن الذي لا يجتنب الكبائر فصغائره يكفرها العمرة، ومن ليس له صغيرة أو صغائره مكفرة بسبب آخر فالعمرة له فضيلة - انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث دلالة على استحباب الاستكثار من الاعتمار خلافًا لقول من قال: يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة

ص: 304

والحج المبرور

ــ

كالمالكية ولمن قال مرة في الشهر من غيرهم واستدل لهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة، وأفعاله على الوجوب أو الندب وتعقب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعله لرفع المشقة عن أمته وقد ندب إلى ذلك بلفظه فثبت الاستحباب من غير تقييد. وقال عياض: احتج به الجمهور وكثير من أصحاب مالك على جواز تكرير العمرة في السنة الواحدة وكرهه مالك لأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كل واحدة في سنة مع تمكنه من التكرير وتقدم كلام الأبي المالكي أن الحديث خرج مخرج الحث على تكرير العمرة والإكثار منها، قال الحافظ: واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسًا بأعمال الحج إلا ما نقل عن الحنفية أنه يكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ونقل الأثرم عن أحمد: إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها. قال ابن قدامة: هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام، وارجع لتفصيل الكلام في مسألة تكرار العمرة وتفضيل الطواف على العمرة إلى شفاء الغرام (ج1: ص179، 180) ، والقرى (ص297، 298)(والحج المبرور) قال ابن العربي: قيل هو الذي لا معصية بعده. قال الأبي: وهو الظاهر لقوله في الحديث الآخر: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق)) إذ المعنى حج ثم لم يفعل شيئًا من ذلك، ولهذا عطفها بالفاء المشعرة بالتعقيب، وإذا فسر بذلك كان الحديثان بمعنى واحد وتفسير الحديث بالحديث أولى. فإن قلت: المرتب على المبرور غير المرتب على عدم الرفث والفسق، لأن المرتب على المبرور هو دخول الجنة وهو أخص من الرجوع بلا ذنب لأن المراد بدخولها الدخول الأول والدخول الأول لا يكون إلا مع مغفرة كل الذنوب السابقة واللاحقة والرجوع بلا ذنب إنما هو في تكفير السابقة. قلت: إذا فسر المبرور بذلك فسر الرجوع بلا ذنب بأنه كناية عن دخول الجنة الدخول الأول المذكور - انتهى. تنبيه قال ابن بزيزة: قال العلماء: شرط الحج المبرور حلية النفقة فيه، وقيل لمالك رجل سرق فتزوج به أيضارع الزنا؟ قال: أي والذي لا إله إلا هو. وسئل عمن حج بمال حرام فقال: حجه مجزئ وهو آثم بسبب جنايته، وبالحقيقة لا يرقى إلى العالم المطهر إلا المطهر - انتهى. وقال الدردير: صح الحج فرضًا أو نفلاً بالحرام من المال فيسقط عنه الفرض والنفل وعصى إذ لا منافاة بين الصحة والعصيان - انتهى. وبه قالت الحنفية كما في رد المحتار عن البحر حيث قال: يجتهد في تحصيل نفقة حلال فإنه لا يقبل بالنفقة الحرام كما ورد في الحديث مع أنه يسقط الفرض عنه معها ولا تنافي في سقوطه وعدم قبولها - انتهى. وذلك لأن القبول أخص من الإجزاء، فإن القبول عبارة عن ترتيب الثواب على الفعل والإجزاء عبارة عن سقوط القضاء، وقال النووي في مناسكه: ليحرص أن تكون نفقته حلالاً خالصة عن الشبهة فإن خالف وحج بما فيه شبهة أو بمال مغصوب صح حجه في ظاهر الحكم لكنه ليس حجًا مبرورًا ويبعد قبوله، وهذا هو مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وجماهير العلماء من السلف والخلف. وقال أحمد بن

ص: 305

ليس له جزاء إلا الجنة. متفق عليه.

2523-

(5) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عمرة في رمضان تعدل حجة.

ــ

حنبل: لا يجزيه الحج بمال حرام - انتهى. (ليس له جزاء)، أي ثواب (إلا الجنة) بالرفع أو النصب وهو نحو ((ليس الطيب إلا المسك)) بالرفع فإن بني تميم يرفعونه حملاً لها على ما في الإهمال عند انتقاض النفي كما حمل أهل الحجاز ((ما)) على ((ليس)) في الإعمال عند استيفاء شروطها كذا في مغني اللبيب (ج1: ص227) قال النووي: ((ليس له جزاء إلا الجنة)) معناه أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لابد أن يدخل الجنة. وقال السندي: أي ابتداء وإلا فأصل الدخول فيها يكفي الإيمان ولازمه أن يغفر له الذنوب كلها صغائرها وكبائرها بل المتقدمة منها والمتأخرة - انتهى. قال في المطامح: وقضية جعل العمرة مكفرة والحج جزاءه الجنة أنه أكمل. وقال ابن القيم: في الحديث دليل على التفريق بين الحج والعمرة في التكرار إذ لو كانت العمرة كالحج لا يفعله في السنة إلا مرة لسوى بينهما ولم يفرق (متفق عليه)، وأخرجه أيضًا أحمد (ج: ص) ، ومالك، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، وابن الجارود (ص178)، والبيهقي (ج4: ص473، وج5: ص261) .

2533-

قوله (إن عمرة في رمضان) ، أي كائنة، وسبب الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع عن حجة الوداع قال لأم سنان الأنصارية ما منعك أن تحجي معنا، قالت: لم يكن لنا ناضحان فحج أبو ولدها وابنها على ناضح وترك لنا ناضحًا ننضح عليه قال فإذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة (تعدل حجة)، أي تعادلها وتماثلها في الثواب لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت ذكره المظهر. قال الطيبي: وهذا من باب المبالغة وإلحاق الناقص بالكامل ترغيبًا وبعثًا عليه وإلا كيف يعدل ثواب العمرة ثواب الحج انتهى. وقال ابن خريمة في هذا الحديث: إن الشيء يشبه بالشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني لا جميعها لأن العمرة لا يقضى بها فرض الحج ولا النذر انتهى. ووقع في رواية لمسلم: ((فعمرة في رمضان تقضي حجة أو معي)) ، أي بالشك، وفي رواية البخاري في باب حج النساء:((فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي)) بالجزم من غير شك، وفي رواية لأبي داود والحاكم (ج1: ص484) : ((أنها تعدل حجة معي)) وهكذا وقع عند ابن حبان في قصة أم سليم من حديث ابن عباس وفي حديث أنس عند الطبراني في الكبير ((عمرة في رمضان كحجة معي)) وفي حديث أبي طليق في قصة له ولامرأته عند الطبراني في الكبير والبزار ((قلت: فما يعدل الحج معك؟ قال: عمرة في رمضان)) وفي هذه الروايات ما يدل على أن المرأة المذكورة جعلت على نفسها حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم لتحوز بذلك شرف المعية وكثرة الثواب فأجابها صلى الله عليه وسلم بأن ذلك يحصل لها بالاعتمار في رمضان واختلف العلماء في معنى حديث الباب فقال بعهضم: إن الحجة التي فاتت هذه المرأة كانت تطوعًا لإجماع الأمة على أن العمرة لا تجزئ عن حجة الفريضة

ص: 306

..............................................................................................

ــ

إذ لا مانع من أن تكون حجت مع أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة فسقط عنها الفرض ثم أرادت أن تحج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوادع في السنة العاشرة فمنعها عدم تيسر الراحلة، وقال بعضهم: إن الحجة التي فاتت هذه المرأة هي حجة الوداع وكانت أول حجة أقيمت في الإسلام فرضًا لأن حج أبي بكر كان إنذارًا فعلى هذا يستحيل أن تكون تلك المرأة كانت قامت بوظيفة الحج بعد، لأن أول حج لم تحضره هي، ولم يأت زمان حج ثان عند قوله عليه الصلاة والسلام لها ذلك، وما جاء الحج الثاني إلا والرسول عليه الصلاة والسلام قد توفي فإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن يستحثها على استدراك ما فاتها من البدار ولا سيما الحج معه عليه الصلاة والسلام لأن فيه مزية على غيره قلت: وهذا مبني على أن الحج إنما فرض في السنة العاشرة ولكنه غير متفق عليه وقد تقدم ذكر الخلاف فيه، وعلى كل حال فإن كان ما فاتها حجة الفرض فيكون المراد من الحديث بيان فضل العمرة في رمضان وإعلامها أن ثوابها كثواب حجة لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن فرض الحج، فالعمرة في رمضان لا تسقط الحجة المفروضة بل من الإتيان بها من قابل، وإن كان ما فاتها تطوعًا فالعمرة في رمضان تقوم مقام الحجة في التطوع ونقل الترمذي عن إسحاق ابن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح وهو فضل من الله ونعمة فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها، وهكذا قال أبو بكر المعافري، كما في ((القرى)) وقد تقدم ما قال الطيبي وابن خزيمة في معنى الحديث وتوجيهه، وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القلب، وقال غيره يحتمل أن يكون المراد عمرة فريضة في رمضان كحجة فريضة، وعمرة نافلة في رمضان كحجة نافلة وقال ابن التين: قوله كحجة يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون لبركة رمضان، ويحتمل أن يكون مخصوصًا بهذه المرأة. قال الحافظ: الثالث قال به بعض المتقدمين ففي رواية أحمد بن منيع قال سعيد بن جبير: ولا نعلم هذا إلا لهذه المرأة وحدها، ووقع عند أبي داود من حديث أم معقل فكانت تقول الحج حجة، والعمرة عمرة، وقد قال هذا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري ألي خاصة تعني أو للناس عامة، قال الحافظ: والظاهر حمله على العموم كما تقدم، والسبب في التوقف استشكال ظاهره وقد صح جوابه. تنبيه لما ثبت أن عمره صلى الله عليه وسلم كانت كلها في ذي القعدة وقع تردد لبعض أهل العلم في أن أفضل أوقات العمرة أشهر الحج أو رمضان فحديث الباب يدل على الثاني، أي كون رمضان أفضل أوقات العمرة لكن فعله عليه الصلاة والسلام لما لم يقع إلا في أشهر الحج كان ظاهرًا أنه أفضل إذ لم يكن الله سبحانه وتعالى يختار لنبيه إلا ما هو الأفضل أو أن رمضان أفضل لتنصيصه عليه الصلاة والسلام على ذلك فتركه لاقترانه بأمر يخصه كاشتغاله بعبادات أخرى في رمضان تبتلاً، وأن لا يشق على أمته فإنه لو اعتمر في رمضان لبادروا إلى ذلك وخرجوا مع ما هم عليه من المشقة في

ص: 307

متفق عليه.

2534-

(6) وعنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبًا بالروحاء،

ــ

الجمع بين العمرة والصوم، ولقد كان بهم رؤوفًا رحيمًا، وقد كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته وخوفًا من المشقة عليهم كالقيام في رمضان بهم، ومحبته لأن يستقي بنفسه مع سقاة زمزم كيلا يغلبهم الناس على سقايتهم. وقال الحافظ: والذي يظهر أن العمرة في رمضان لغير النبي صلى الله عليه وسلم أفضل، وأما في حقه فما صنعه هو أفضل لأن فعله لبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه، فأراد الرد عليهم بالقول والفعل وهو لو كان مكروهًا لغيره لكان في حقه أفضل - انتهى. تنبيه آخر قد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) على استحباب تكرار العمرة والإكثار منها. قال المحب الطبري في القرى (ص566) : فيه دليل على استحباب تكرار العمرة من وجهين الأول: أن النكرة في سياق التفضيل، الظاهر منها إرادة العموم، فإنك إذا قلت: رجل من بني تيم يعدل قبيلة من غيرها، لم يتبادر إلى الفهم إلا أن كل واحد منها كذلك، فكذلك، كل عمرة في رمضان، والثاني: المراد بعمرة في رمضان إما أن يقال: كل عمرة لكل أحد أو عمرة لكل أحد أو عمرة لواحد لا بعينه، والأول هو المطلوب، والثالث غير مراد بالاتفاق، والثاني لازم للأول فيتعدى الحكم، بيان الملازمة أن اتصاف الفعل بالفضل إنما نشأ من جهة الزمان لا محالة، فإذا ثبت لفعل لزم ثبوته لمثله، وإن تكرر لقيام موجب الصفة ولعدم جواز تخلف الحكم عن مقتضيه، ومن ادعى تخصصها بعدم التكرار أو تخصيصها بالمخاطبة أو بميقات دون غيره أو معارضًا فعليه البيان - انتهى. قلت: قد ذهب إلى جواز تكرار العمرة واستحباب الإكثار منها الشافعي، وأبو حنيفة. وكرهه مالك إلا مرة في سنة، وأحمد في دون عشرة أيام كما تقدم في كلام ابن قدامة، ويؤيده ما أخرجه الشافعي عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر، وقوله:((حمم)) بالحاء المهملة، أي اسود بعد الحلق في الحج بنبات الشعر، والمعنى أنه كان لا يؤخر العمرة إلى المحرم، بل كان يخرج إلى الميقات، ويعتمر في ذي الحجة، وهكذا ذكره الجوهري، وابن الأثير وقيد بالمهملة (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص229، 308) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، وابن الجارود (ص179)، والبيهقي وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم العيني (ج10: ص117) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج3: ص280) .

2534-

قوله (إن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبًا) بفتح الراء وسكون الكاف جمع راكب أو اسم جمع كصاحب وصحب وهم العشرة فما فوقها من أصحاب الإبل في السفر دون بقية الدواب، ثم اتسع فيه فأطلق على كل جماعة (بالروحاء) بفتح الراء وسكون الواو بعدها حاء مهملة ثم ألف ممدودة. قال عياض: في المشارق هي من أعمال الفرع بينها وبين المدنية

ص: 308

فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله. فرفعت إليه امرأة صبيًا، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر.

ــ

نحو أربعين ميلاً، وفي صحيح مسلم ستة وثلاثون، وفي كتاب ابن أبي شيبة ثلاثون ميلاً، زاد في رواية أحمد وأبي داود:((فسلم عليهم)) وكان ذلك اللقاء كما قال ابن حبان حين رجوعه من مكة إلى المدينة ففي رواية النسائي عن ابن عباس ((قال صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان بالروحاء لقي قومًا)) الحديث. وفي رواية الشافعي في مسنده (ج1: ص289) وكذا عند البيهقي (ج5: ص155) من طريق الشافعي، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قفل، فلما كان بالروحاء لقي ركبًا)) الحديث، وبه جزم ابن القيم في الهدي حيث قال: ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى المدينة فلما كان بالروحاء لقي ركبًا فذكر قصة الصبي، وقيل وقعت هذه القصة في مقدمه إلى بيت الله، والمراد بالصدور والقفول صدوره من المدينة للحج ولا يخفى ما فيه، وارجع إلى ((القرى)) (ص49، 50)(فقال: من القوم؟) بالاستفهام (قالوا) ، أي بعضهم (المسلمون)، أي نحن المسلمون (فقالوا: من أنت؟) يعني أن الذي أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل بعد ذلك ليعرف من يخاطب (قال)، أي النبي (رسول الله) أي أنا رسول الله فلفظ رسول الله خبر مبتدأ محذوف. قال عياض: يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلاً فلم يعرفوه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل كونه نهارًا لكنهم لم يروه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك لعدم هجرتهم فأسلموا في بلدانهم ولم يهاجروا قبل ذلك، وسيأتي في حديث جابر في قصة حجة الوداع أنه أذن في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير ليأتموا به، فلعل هؤلاء ممن قدم فلم يلقوه إلا هنالك، وفي رواية مالك في موطأه، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بامرأة وهي في محفتها (بكسر الميم وفتح المهملة وتشديد الفاء - مركب للنساء كالهودج إلا أنها لا تقبب كما تقبب الهوادج) فقيل لها ((هذا رسول الله)) الحديث. قال الباجي: فقد كانت المرأة فيمن آمن به ولم تره ولم تعرف عينه فلذلك أخبرت به (فرفعت إليه امرأة صبيًا) ، أي أخرجته من المحفة رافعة له على يديها، وفي رواية أحمد وأبي داود:((ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفتها)) (فقالت: ألهذا؟) ، أي يحصل لهذا الصغير (حج) ، أي ثوابه، قيل: قوله: ((حج)) فاعل الظرف لاعتماده على الهمزة، ويجوز أن يكون مبتدأ مؤخرًا و ((لهذا)) خبر مقدم، وفي رواية أحمد، وأبي داود:((هل لهذا حج؟)) (قال) في الجواب (نعم)، أي له حج (ولك أجر) زادها على السؤال ترغيبًا لها. قال القاري: أي أجر السببية وهو تعليمه إن كان مميزًا أو أجر النيابة في الإحرام والرمي والإيقاف والحمل في الطواف والسعي إن لم يكن مميزًا، وقال عياض: وأجرها فيما تتكلفه في أمره في ذلك وتعليمه وتجنيبه ما يجتنب المحرم. وقال النووي: معناه: بسبب حملها وتجنيبها إياه ما يجتنبه المحرم وفعل ما يفعله المحرم، وقال الأمير اليماني: قوله: ((لك أجر)) ، أي بسبب حملها وحجها به، أو بسبب سؤالها عن ذلك الحكم، أو بسبب الأمرين، وفي الحديث دليل على مشروعية الحج بالصبيان وجوازه، ولا خلاف فيه بين العلماء

ص: 309

..............................................................................................

ــ

قال الأمير اليماني: الحديث دليل على أنه يصح حج الصبي وينعقد سواء كان مميزًا أم لا حيث فعل عنه وليه ما يفعل الحجاج وإلى ذلك ذهب الجمهور. واعلم أن في مسألة حج الصبي عدة أبحاث ينبغي التنبيه عليها. الأول: جواز الحج ومشروعيته بالصغار، وإليه ذهب الجمهور منهم الأمة الأربعة. قال الزرقاني: في الحديث مشروعية الحج بالصغار وبه قالت الأمة. قال عياض: لا خلاف بين العلماء في جواز الحج بالصبيان، وإنما منعه طائفة من أهل البدع ولا يلتفت إلى قولهم بل هو مردود بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإجماع الأمة، وقال الطبري: لا خلاف بي أهل العلم في جواز الحج بالصبي إلا قومًا من أهل العراق منعوه وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وإجماع الأمة يرد قولهم، وإنما الخلاف في أنه هل ينعقد حكم الحج عليهم؟ وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الفدية، فأبو حنيفة لا يلزمهم شيًا إنما يجتنبون ذلك على وجه التمرين والتعليم، وفي ما تقدم من قول عطاء: يفعل بالصغير ما يفعل بالكبير ويشهد به المناسك كلها إلا أنه لا يصلي عنه وإن شاءوا قمصوه موافقة له، وباقي الأئمة يرون وجوب الفدية - انتهى. وقال ابن البر في التمهيد: في الحديث الحج بالصبيان الصغار واختلف العلماء في ذلك فأجازه مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز من أصحابنا وغيرهم وأجازه الثوري، وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة، وأجازه الأوزاعي والليث فيمن سلك مسلكهما من أهل الشام ومصر وكل من ذكرناه يستحب الحج بالصبيان ويأمر به ويستحسنه، وعلى ذلك جمهور العلماء في كل قرن. وقالت طائفة: لا يحج بالصبيان، وهو قول لا يشتغل به ولا يعرج عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج بأغيلمة بني عبد المطلب وحج السلف بصبيانهم ولحديث الباب. وروينا عن أبي بكر الصديق أنه طاف بعبد الله بن الزبير في خرقة، وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: كانوا يحبون إذا حج الصبي أن يجردوه وأن يجنبوه عن الطيب وأن يلبي عنه إذا كان لا يحسن التلبية - انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج7: ص276) : ونستحب الحج بالصبي وإن كان صغيرًا جدًا أو كبيرًا وله أجر وحج وهو تطوع وللذي يحج به أجر، وكذلك ينبغي أن يدربوا ويعلموا الشراع من الصلاة والصوم إذا أطاقوا ذلك - انتهى. وقال الباجي: الصبيان على ضربين: ضرب يفهم ما يؤمر به، وضرب يصغر عن ذلك فلا يفهم ما يؤمر به ولا ينتهي عما نهي عنه. فأما الأول فروى ابن المواز وابن وهب عن مالك لا يحج بالرضيع، وأما ابن أربع سنين وخمس فنعم. وهذا إنما هو على الاستحباب، فإن أحرم به وألزم الإحرام لزمه، وإن كان صغيرًا جدًا لا يفهم - انتهى. وقال الأبي في الإكمال: اختلف قول مالك في الحج بالرضيع ومن لا يفهم، وحمل أصحابنا قوله بالمنع على الكراهة، وفي المدونة: يحج بالصبي وإن لم يبلغ أن يتكلم، وفي كتاب محمد: لا يحج بالرضيع، وأما ابن أربع فنعم اللخمي، ولا أرى أن يحج إلا بمن يعقل القربة، وأما الرضيع فهو كالبهيمة، قال وعلى هذا فلا يحج بالمجنون - انتهى. وقال ابن رشد في البداية (ج1: ص252) : اختلف أصحاب مالك في صحة

ص: 310

..............................................................................................

ــ

وقوعه من الطفل الرضيع وينبغي أن لا يختلف في صحة وقوعه ممن يصح وقوع الصلاة منه، وهو كما قال عليه الصلاة والسلام من السبع إلى العشر - انتهى. الثاني: هل ينعقد حجه أم لا؟ قال النووي: في الحديث حجة للشافعي، ومالك، وأحمد، وجماهير العلماء: أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزئه عن حجة الإسلام، بل يقع تطوعًا. وقال أبو حنيفة: لا يصح حجه، قال أصحابه وإنما فعلوه تمرينًا له ليعتاده فيفعله إذا بلغ. قال: وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه ويجري عليه أحكام الحج ويجب فيه الفدية ودم الجبران وسائر أحكام البالغ، فأبو حنيفة يمنع ذلك كله ويقول: إنما يجنب ذلك تمرينًا على التعليم، والجمهور يقولون يجري عليه أحكام الحج في ذلك وحجه منعقد يقع نقلاً - انتهى. قلت: هكذا نقل غير واحد من شراح الحديث وأصحاب كتب الفقه الجامع مذهب الحنفية في ذلك، منهم الحافظ في الفتح، وابن قدامة في المغني (ج3: ص252) ، وابن رشد في البداية (ج1: ص253) قال الحافظ: قال ابن بطال: أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ إلا أنه إذا حج به كان له تطوعًا عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه ولا يلزمه شيء من محظورات الإحرام، وإنما يحج به على جهة التدريب - انتهى. والذي يظهر من كتب الفقه الحنفي المعتبرة أن قول أبي حنيفة مثل قول الجمهور يعني أن الصبي ينعقد نقلاً، وإنما خلافه في وجوب الفدية والكفارات، ففي المبسوط: الصبي لو أحرم بنفسه وهو يعقل أو أحرم عنه أبوه صار محرمًا - انتهى. وفي العالمكيرية: لو أن الصبي حج قبل البلوغ لا يكون من حجة الإسلام ويكون تطوعًا - انتهى. وقال في الدر المختار: لو أحرم صبي عاقل أو أحرم عنه أبوه صار محرمًا وينبغي أن يجرده قبله ويلبسه إزارًا ورداءً، وقال القاري: في شرح اللباب ينعقد إحرام الصبي المميز للنفل لا للفرض ويصح أداءه بنفسه ولا يصح من غيره في الأداء ولا الإحرام بل يصحان من وليه له نيابة، وهذا كله مبني على انعقاده نفلاً. لكن في شرح المجمع: وعندنا إذا أهل الصبي أو وليه لم ينعقد فرضًا ولا نفلاً. وفي الهداية ما يدل على انعقاده نفلاً، ثم قال صاحب الهداية: واختلف المتأخرون فمنع بعضهم انعقاده أصلاً، وقيل ينعقد ويكون حج تمرين واعتياد - انتهى. ويمكن الجمع بأنه لا ينعقد انعقادًا ملزمًا وينعقد نقلاً غير ملزم لأنه غير مكلف ويتفرع عليه لو أنه لم يفعل شيًا من المأمورات أو ارتكب شيئًا من المحظورات لا يجب عليه شيء من القضاء والكفارات ويقوي ما ذكرنا في اختلاف المسائل: اختلفوا في حج الصبي، قال أبو حنيفة: لا يصح منه. قال يحيى بن محمد: معنى قول أبي حنيفة ((لا يصح منه)) على ما ذكره أصحابه: أنه لا يصح صحة يتعلق بها وجوب الكفارات، لا أنه يخرجه من ثواب الحج، وكذا يؤيد ما قلنا ما في الغاية من أن اعتكاف الصبي وصومه وحجه صحيح شرعي بلا خلاف - انتهى. ما في شرح اللباب، وقد صرح بانعقاد حجه نقلاً صاحب الهداية والغنية وابن نجيم، وابن عابدين، وغيرهم أيضًا. وقال الطحاوي: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، أي الحديث الذي نحن في شرحه أن

ص: 311

..............................................................................................

ــ

للصبي حجًا وهذا مما قد أجمع الناس جميعًا عليه ولم يختلفوا أن للصبي حجًا كما أن له صلاة - انتهى. وقد تبين مما ذكرنا أن حج الصبي يصح وينعقد نفلاً عند الحنفية أيضًا وأن خلافهم إنما هو في وجوب القضاء والكفارات، الثالث: هل يجب عليه الجزاء والفدية والكفارة والقضاء أم لا؟ وقد تقدم في كلام النووي من مذهب الجمهور وجوب ذلك خلافًا لأبي حنيفة. وقال الزرقاني: في حديث انعقاد حج الصبي وصحة وقوعه نفلاً وأنه مثاب عليه فيجتنب ما يجتنبه الكبير مما يمنعه الإحرام ويلزمه من الفدية والهدي ما يلزمه، وبه قال الأئمة الثلاثة والجمهور خلافًا لأبي حنيفة. وقال ابن عبد البر: قال مالك: ما أصاب الصبي من صيد أو لباس أو طيب فدى عنه، وبذلك قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا جزاء عليه ولا فدية - انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج2: ص281) : وفي ذلك دليل على أن حجه إذا فسد أو دخله نقص فإن جبرانه واجب عليه كالكبير، وإن اصطاد صيدًا لزمه الفداء كما يلزم الكبير. وفي وجوب هذه الغرامات عليه في ماله كما يلزمه لو أتلف مالاً لإنسان فيكون غرمه في ماله أو وجوبها على وليه إذ كان هو الحامل له على الحج والنائب عنه وفي ذلك نظر وفيه اختلاف بين الفقهاء - انتهى. قلت: في وجوب الكفارة والجزاء والقضاء عند أتباع الأئمة الثلاثة تفاصيل، اختلفوا فيها وأسقط بعهم في بعض الصور الكفارة والقضاء، وهي مبسوطة في كتب فروعهم، من شاء الوقوف عليها رجع إلى المغني لابن قدامة (ج2: ص255) ، ومناسك الحج والمجموع للنووي، والدسوقي على الشرح الكبير للدردير المالكي. وقال في شرح اللباب من فروع الحنفية: ولو أفسد أي الصبي نسكه أو ترك شيئًا من أركانه وواجباته لا جزاء عليه ولا قضاء حيث شروعه ليس بملزم له لأنه غيره مكلف في فعله - انتهى. وقد وافق ابن حزم الحنفية في ذلك حيث قال في المحلى (ج7: ص276، 277) : وإذا الصبي قد رفع عنه القلم فلا جزاء عليه في صيد إن قتله في الحرم أو في إحرامه ولا في حلق رأسه لأذى به عن تمتعه ولا لإحصاره لأنه غير مخاطب بشيء من ذلك ولو لزمه هدى للزمه أن يعوض منه الصيام وهو في المتعة وحلق الرأس وجزاء الصيد وهم لا يقولون بذلك. هذا ولا يفسد حجه بشيء مما ذكرنا إنما هو ما عمل، أو عمل به أجر وما لم يعمل فلا إثم عليه - انتهى. قلت: واستدل الحنفية بالحديث المشهور بين الفقهاء وأئمة الحديث ((رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ)) الحديث أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم، وابن حبان من حديث عائشة. وأحمد وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث علي. والطبراني بسنده عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثوبان، ومالك بن شداد وغيرهما. قال الحافظ: الرفع مجاز عن عدم التكليف لأنه يكتب لهم فعل الخير قاله ابن حبان: قلت: والراجح عندنا هو ما ذهب إليه الحنفية وابن حزم، لأنه لا نص لمن ذهب إلى خلاف ذلك ولا حجة لهم فيما قالوه، هذا ما عندي والعلم عند الله تعالى. والرابع: هل يثاب الصبي على حسناته من الصلاة والصوم

ص: 312

..............................................................................................

ــ

والحج وغيرها؟ قال العيني: استدل بالحديث بعضهم على أن الصبي يثاب على طاعته ويكتب له حسناته وهو قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب فيما حكاه المحب الطبري وحكاه النووي في شرح مسلم عن مالك، والشافعي، وأحمد والجمهور - انتهى. وقال الخطابي: إنما كان للصبي الحج من ناحية الفضيلة من دون أن يكون محسوبًا عن فرضه لو بقي حتى يبلغ ويدرك مدرك الرجال، وهذا كالصلاة يؤمر بها إذا أطاقها وهي غير واجبة عليه وجوب فرض، ولكن يكتب له أجرها تفضلاً من الله، ويكتب لمن يأمره بها ويرشده إليها أجر. فإذا كان له حج فقد علم أن من سنته أن يوقف به في الموقف ويطاف به حول البيت محمولاًً إن لم يطق المشي، وكذلك السعي بين الصفا والمروة ونحوه من أعمال الحج - انتهى. وقال الطبري: قد قال كثير من أهل العلم إن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته دون سيئاته، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وقد تقدم ما يدل عليه في باب تسمية الحج جهادًا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: جهاد الكبير والصغير والمرأة: الحج والعمرة. أخرجه النسائي. قال: ففيه دلالة على أن ثواب عبادة الصغير لنفسه، ثم إن كان الصبي يعقل عقل مثله أحرم بنفسه، وإن لم يعقل أحرم عنه. وفي التمهيد: قال أبو عمر: فإن قيل: فما معنى الحج بالصغير وهو عندكم غير مجزئ عنه من حجة الإسلام وليس ممن تجري الأقلام له وعليه؟ قيل: أما جري القلم له بالعمل الصالح فغير منكر أن تكتب للصبي درجة وحسنة في الآخرة بصلاته وزكاته وحجه وسائر أعمال البر التي يعملها على سنتها تفضلاً من الله عز وجل كما تفضل على الميت بأن يؤجر لصدقة الحي عنه ويلحقه ثواب ما لم يقصده ولم يعمله مثل الدعاء والصلاة عليه ونحو ذلك. ألا ترى أنهم أجمعوا على أن الصبي إذا عقل الصلاة يصلي، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنس واليتيم معه وأكثر السلف على إيجاب الزكاة في أموال اليتامى ويستحيل أن لا يؤجروا على ذلك، وللذي يقوم بذلك عنهم أجر كما للذي يحجهم أجر فضلاً من الله عز وجل ونعمة، فلا شيء يحرم الصغير التعرض لفضل الله، وقد روي عن عمر بن الخطاب معنى ما ذكرنا، ولا مخالف له أعلمه ممن يجب إتباع قوله، ثم ذكر بسنده إلى عمر قال: تكتب للصغير حسناته ولا تكتب عليه سيئاته - انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج7: ص276) : والله تعالى يتفضل بأن يأجرهم ولا يكتب عليهم إثمًا حتى يبلغوا، فإن قيل: لا نية للصبي، قلنا: نعم ولا تلزمه، إنما تلزم النية المخاطب المأمور المكلف والصبي ليس مخاطبًا ولا مكلفًا، وإنما أجره تفضل من الله تعالى مجرد عليه كما يتفضل على الميت بعد موته ولا نية له ولا عمل بأن يأجره بدعاء ابنه له بعد موته وبما يعمله غيره عنه من حج أو صيام أو صدقة ولا فرق، ويفعل الله ما يشاء - انتهى. وفي شرح اللباب: اتفقت الأئمة الأربعة على أن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته سواء كان مميزًا أو غير مميز، لكن اختلف أصحابنا هل تكون حسناته له دون أبويه أو يكون الأجر لوالديه من غير أن ينقص من أجر الولد شيء؟ ففي قاضي خان: قال أبو بكر الإسكاف: حسناته تكون له دون أبويه، وإنما يكون للوالد من ذلك

ص: 313

..............................................................................................

ــ

أجر التعليم والإرشاد إذا فعل ذلك. وفي الغاية: أن اعتكاف الصبي وصومه وحجه صحيح شرعي بلا خلاف وأجره له دون أبويه - انتهى. وقال بعضهم: تكون حسناته لأبويه أيضًا بناء على التسبب، والأحاديث تدل عليه فقد روي عن أنس أنه قال: من جملة ما ينتفع به المرء بعد موته إن ترك ولدًا تعلم القرآن والعلم فيكون لوالده أجر ذلك من غير أن ينقص من أجر الولد شيء - انتهى. الخامس: هل يجزئ الصبي عن حجة الإسلام، أي الحجة الفريضة؟ قال العيني: وفي أحكام ابن بزيزة: أما الصبي فاختلف القائلون بانعقاد حجه هل يجزيه عن حجة الفريضة؟ فقال داود وغيره يجزيه وقال مالك، والشافعي وغيرهما لا يجزيه، وقال ابن البر في التمهيد: اختلف العلماء أيضًا هل يجزئه عن حجة الإسلام فالذي عليه فقهاء الأمصار الذين قدمنا ذكرهم في هذا الباب أن ذلك لا يجزيه، وذكر أبو جعفر الطحاوي في معاني الآثار حديث الباب ثم قال: فذهب قوم إلى أن الصبي إذا حج قبل بلوغه أجزأه عن حجة الإسلام، واحتجوا بهذا الحديث وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجزيه عن حجة الإسلام، وعليه بعد بلوغه حجة أخرى، وكان لهم من الحجة على أهل المقالة الأولى أن في هذا الحديث أن للصبي حجًا، وهذا مما قد أجمع الناس عليه، ولم يختلفوا في أن للصبي حجًا وليس ذلك عليه بفريضة ومن جهة القياس فكما له صلاة وليست بفريضة فكذلك قد يجوز أن يكون له حج وليس بفريضة، وإنما هذا الحديث حجة على من زعم أنه لا حج له، وأما من يقول إن له حجًا وأنه غير فريضة فلم يخالف شيئًا من هذا الحديث، وهذا ابن عباس هو الذي روى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قد صرف حج الصبي إلى غير الفريضة ثم ذكر ابن عبد البر بسند الطحاوي قول ابن عباس بلفظ: أيما غلام حج به أهله فمات فقد قضى حجة الإسلام وإن أدرك فعليه الحج. قال أبو عمر: على هذا جماعة فقهاء الأمصار وأئمة الأثر. وقال الشوكاني: وشذ بعضهم فقال: إذا حج الصبي أجزاه ذلك عن حجة الإسلام لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) في جواب قوله: ((ألهذا حج؟)) وقال الطحاوي: لا حجة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) على أنه يجزيه عن حجة الإسلام بل فيه حجة على من زعم أنه لا حج له. قال لأن ابن عباس راوى الحديث قال أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى، ثم ساقه بإسناد صحيح وقد أخرج هذا الحديث مرفوعًا الحاكم (ج1: ص481) وقال: صحيح على شرطهما، والبيهقي (ج5: ص156) ، وابن حزم (ج7: ص44) وصححه. وقال ابن خزيمة: الصحيح موقوف، وأخرجه كذلك، قال البيهقي: تفرد برفعه محمد بن المنهال. ورواه الثوري عن شعبة موقوفًا ولكنه قد تابع محمد بن المنهال على رفعه الحارث بن شريح، أخرجه كذلك الإسماعيلي والخطيب، ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس: قال احفظوا عني ولا تقولوا. قال ابن عباس فذكره. وهو ظاهر في الرفع وقد أخرج ابن عدي من حديث جابر بلفظ ((لو حج صغير حجة لكان عليه حجة أخرى)) ومثل هذا حديث محمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن

ص: 314

..............................................................................................

ــ

أدرك فعليه الحج - الحديث، أورده صاحب المنتقي وقال: ذكره أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله هكذا مرسلاً. قال صاحب الفتح الرباني: لم أقف على هذا الحديث في المسند، ولعله في كتاب آخر من كتب الإمام أحمد، ولا سيما لم يعزه صاحب المنتقي إلى المسند، قال الشوكاني: وأخرجه أبو داود في المراسيل، وفيه راو لم يسم. قلت: وأخرجه أيضًا ابن حزم في المحلى (ج7: ص44)، وقال: هو مرسل وعن شيخ لا يدري اسمه ولا من هو؟ قال الشوكاني: فيؤخذ من مجموع هذه الأحاديث أنه يصح حجه ولا يجزئه عن حجة الإسلام إذا بلغ وهذا هو الظاهر فيتعين المصير إليه. قال القاضي عياض: أجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسلام إلا فرقة شذت فقالت يجزئه لقوله نعم، وظاهره استقامة كون حج الصبي مطلقًا، والحج إذا أطلق تبادر منه إسقاط الواجب. ولكن العلماء ذهبوا إلى خلافه محتجين بحديث ابن عباس المذكور يعني الذي رواه الحاكم، والطحاوي، والبيهقي وابن حزم، وغيرهم. السادس: فيمن يحرم عن الصبي، واختلفوا فيه أيضًا، والحديث دليل على أن الأم يجوز لها أن تحرم عنه، خلافًا للشافعية. قال الطبري: واختلف أصحابنا في من يحرم عنه، فأكثرهم ذهب إلى أن ذلك منوط بالولاية في ماله، فمن ثبت له الولاية فيه أحرم عنه، والمعنى بالإحرام عنه أنه ينوي بقلبه أنه جعله محرمًا، وذهب بعضهم إلى أن أمه مقدمة في ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:((ولك أجر)) والأولون يحملون ذلك على ما ذكرناه من أن معناه، أي فيما تتكلفين من أمره بالحج وتعليمه إياه والقيام بأمره - انتهى. وقال النووي: في شرح مسلم أما الولي الذي يحرم عن الصبي فالصحيح عند أصحابنا أنه الذي يلي ماله وهو أبوه أو جده أو الوصي أو القيم من جهة القاضي أو القاضي أو الإمام، وأما الأم فلا يصح إحرامها عنه إلا أن تكون وصية أو قيمة من جهة القاضي، وقيل: إنه يصح إحرامها وإحرام العصبة وإن لم يكن لهم ولاية المال، وهذا كله إن كان صغيرًا لا يميز، فإن كان مميزًا أذن له الولي فأحرم، فلو أحرم بغير إذن الولي أو أحرم الولي عنه لم ينعقد على الأصح، وصفة إحرام الولي من غير المميز أن يقول بقلبه:((جعلته محرمًا)) - انتهى. وقال في مناسكه: إن كان مميزًا أحرم بإذن وليه، فإن أحرم بغير إذنه لم يصح على الأصح ولو أحرم عنه وليه صح على الأصح، فإن لم يكن مميزًا أحرم عنه وليه وهو الأب وكذا الجد عند عدم الأب، ولا يتولاه عند وجوده، والوصي والقيم كالأب على الصحيح، ولا يتولاه الأخ والعم والأم على الأصح إذا لم يكن له وصية ولا ولاية من الحاكم. قال ابن حجر: قوله: ((وهو الأب)) ويشرط في الأب كما قاله الأذرعي شروط ولاية المال من العدالة وغيرها، فإن انتفى عنه بعضها انتقلت إلى الجد، وقوله:((عند عدم الأب)) ، أي أو وجوده لا بصفة الولاية، قوله:((والأم)) اعترض بما في مسلم ((أن امرأة رفعت صبيًا)) الحديث. ورد بأنه ليس في الحديث أنها أحرمت عنه، وبتقديره يحتمل كونها وصية أو قيمة، أو أن الأجر الحاصل إنما هو أجر الحمل والنفقة - انتهى. وقال الشيخ ولي الدين: لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على صحة الإحرام عنه مطلقًا لاحتمال أن هذا الصبي كان مميزًا فأحرم هو عن نفسه، وعلى تقدير أنه لم يميز فلعل له وليًا

ص: 315

..............................................................................................

ــ

أحرم عنه، وعلى تقدير أنها التي أحرمت فلعلها ولية مال - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3: ص253) : إن كان مميزًا أحرم بإذن وليه، وإن أحرم بدون إذنه لم يصح، لأن هذا عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه كالبيع، وإن كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالأب والوصي وأمين الحاكم صح، قال: فإن أحرمت أمه عنه صح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولك أجر)) ولا يضاف الأجر إليها إلا لكونه تبعًا لها في الإحرام. وقال الإمام أحمد: في رواية حنبل: يحرم عنه أبوه أو وليه، واختاره ابن عقيل، وقال: المال الذي يلزم بالإحرام لا يلزم الصبي وإنما يلزم من أدخله في الإحرام في أحد الوجهين. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه لأنه لا ولاية للأم على ماله، والإحرام يتعلق به إلزام مال فلا يصح من غير ذي ولاية، أما غير الأم والولي من الأقارب كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الأم، أما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجهًا واحدًا - انتهى. وقال الدردير: يحرم ولي أب أو غيره عن رضيع قرب الحرم، أي مكة لا من الميقات للمشقة، ويحرم الصبي المميز وهو الذي يفهم الخطاب ويحسن رد الجواب بإذن الولي من الميقات، وألا يحرم بإذنه بل بغيره فله تحليله إن رآه مصلحة ولا قضاء عليه إذا حلله. قال الدسوقي: قوله: أب أو غيره كوصي ومقدم وقاض، وأم وعاصب وإن لم يكن لهم نظر في المال كما نقله الأبي في شرح مسلم وأقره، وخلافًا للشافعية حيث قالوا: الولي الذي يحرم عنه إنما هو الولي الذي له النظر في المال، وقوله ((عن رضيع)) المراد به الصغير المميز - انتهى. وقال في شرح اللباب: ينعقد إحرام الصبي المميز للنقل ويصح أداؤه بنفسه دون غيره ولا يصح من غير الميز في الأداء ولا الإحرام بل يصحان من وليه فيحرم عنه من كان أقرب إليه في النسب فلو اجتمع أخ أو والد يحرم له الوالد على ما في فتاوى قاضي خان، والظاهر أنه شرط الأولوية - انتهى. وفي الغنية: ينعقد إحرام الصبي المميز للنقل إذا أحرم بنفسه، وكذا غير المميز إذا أحرم عنه وليه، فالمميز لا يصح النيابة عنه في الإحرام ولا في أداء الأفعال إلا فيما لم يقدر عليه فيحرم بنفسه ويقضي المناسك كلها بنفسه ويفعل كما يفعل البالغ، وأما غير المميز فلا يصح أن يحرم بنفسه لأنه لا يعقل النية ولا يقدر التلفظ بالتلبية، وهما شرطان في الإحرام فيحرم له وليه والأقرب أولى - انتهى. قال ابن عابدين: المراد من كان أقرب إليه بالنسب، فلو اجتمع والد وأخ يحرم له الوالد كما في الخانية، والظاهر أنه شرط الأولوية - انتهى. السابع: إذا أحرم الصبي فبلغ قبل الوقوف بعرفة ماذا يفعل وهل يجزئه عن حجة الإسلام؟ قال ابن عبد البر: في التمهيد اختلف الفقهاء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة، فقال مالك وأصحابه: لا سبيل إلى رفض الإحرام لهذين ولا لأحد ويتماديان على إحرامهما ولا يجزيهما حجهما ذلك عن حجة الإسلام. وقال أبو حنيفة: إن جدد الصبي إحرامًا بعد ما بلغ أجزأه، وقال الشافعي: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرمًا أجزأه عن حجة الإسلام،

ص: 316

..............................................................................................

ــ

وكذلك العبد إذا أحرم ثم عتق قبل الوقوف فوقف بها محرمًا أجزأه عن حجة الإسلام ولم يحتج إلى تجديد إحرام واحد منهما - انتهى. وقال النووي في مناسكه: إذا بلغ الصبي بعد خروج الوقت للوقوف أو قبل خروجه وبعد مفارقة عرفات ولم يعد إليها بعد البلوغ لم يجز عن حجة الإسلام وإن بلغ في حال الوقوف أو بعده فعاد ووقف في الوقت أجزأه عن حجة الإسلام - انتهى. وقال ابن قدامة: في المغني (ج3: ص248) : أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بخلافه على أن الصبي إذا حج في صغره والعبد إذا حج في رقه ثم بلغ أو عتق أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلاً. كذلك قال ابن عباس، وعطاء، والحسن والنخعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور وأصحاب الرأي. قال الترمذي: وقد أجمع أهل العلم عليه. وقال الإمام أحمد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدًا، أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن عتق فعليه الحج. رواه سعيد بن منصور في سننه، والشافعي في مسنده عن ابن عباس من قوله، فإن بلغ الصبي أو عتق العبد بعرفة أو قبلها غير محرمين فأحرما ووقفا بعرفة وأتما المناسك، أجزأهما عن حجة الإسلام، لا نعلم فيه خلافًا لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج، ولا فعلا شيئًا منها قبل وجوبه، وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان أجزأهما أيضًا عن حجة الإسلام، وكذلك قال ابن عباس، وهو مذهب الشافعي، وإسحاق. وقاله الحسن في العبد. وقال مالك لا يجزئهما، اختاره ابن المنذر. وقال أصحاب الرأي: لا يجزئ العبد، فأما الصبي فإن جدد إحرامًا بعد أن احتلم قبل الوقوف أجزأه وإلا فلا لأن إحرامهما لم ينعقد واجبًا فلا يجزي عن الواجب كما لو بقيا على حالهما. قال ابن قدامة: ولنا أنه أدرك الوقوف حرًا بالغًا فأجزأه كما لو أحرم تلك الساعة، قال أحمد: قال طاوس عن ابن عباس: إذا عتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته، فإن عتق بجمع لم تجزئ عنه، وهؤلاء يقولون: لا تجزئ، ومالك يقوله أيضًا، والحكم فيما إذا أعتق العبد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل طلوع الفجر ليلة النحر كالحكم فيما إذا كان ذلك فيها لأنهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ، ولو كان لحظة، وإن لم يعود أو كان ذلك قبل طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة الإسلام ويتمان حجهما تطوعًا لفوات الوقوف المفروض ولا دم عليها لأنهما حجا تطوعًا بإحرام صحيح من الميقات فأشبها البالغ الذي يحج تطوعًا، وإذا بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف أو في وقته وأمكنهما الإتيان بالحج لزمهما ذلك لأن الحج واجب على الفور فلا يجوز تأخيره مع إمكانه كالبالغ الحر، وإن فاتهما الحج لزمتهما العمرة لأنها واجبة أمكن فعلها فأشبهت الحج، ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب عليهما سواء كانا معسرين أو موسرين لأن ذلك وجب عليهما بإمكانه في موضعه فلم يسقط بفوات القدرة بعده - انتهى. وقال في الهداية: إذا بلغ الصبي بعد ما أحرم أو أعتق العبد فمضيا لم يجزهما

ص: 317

رواه مسلم.

2535-

(7) وعنه قال:

ــ

عن حجة الإسلام لأن إحرامهما انعقد لأداء النفل فلا ينقلب لأداء الفرض، ولو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف ونوى حجة الإسلام جاز، والعبد لو فعل ذلك لم يجز لأن إحرام الصبي غير لازم لعدم الأهلية، وأما إحرام العبد فلازم فلا يمكنه الخروج منه بالشروع في غيره - انتهى. ويتضح وجه الفرق بين الصبي والعبد عند الحنفية إذ يكفي تجديد الأول إحرامه دون الثاني بما ذكره القاري حيث قال لا يجب الحج على صبي فلو حج فهو نفل لا فرض لكونه غير مكلف فلو أحرم ثم بلغ فلو جدد إحرامه يقع عن فرضه وإلا لا، وإنما جوز له التجديد لكون شروعه غير ملزم، بخلاف العبد البالغ إذا عتق، فإنه ليس له أن يجدد إحرامه بالفرض للزوم الإحرام الأول في حقه بشروعه فليس له أن يخرج عنه إلا بأدائه - انتهى. هذا واختلفت الحنفية في صحة تجديد الإحرام بعد الوقوف فذهب بعضهم إلى أنه معتبر وقال بعضهم لا يعتبر لأن بالوقوف ولو لحظة تم حج النفل ولا يصح في سنة حجتان إجماعًا. (رواه مسلم) هو من إفراد مسلم، لم يخرجه البخاري في صحيحه، ومن عزاه إليهما كابن رشد في البداية ومحب الدين الطبري في القرى فقد سها، وقد أخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص219) ، والشافعي وأبو داود والنسائي والحاكم (ج1: ص484) ، وابن الجارود (ص147)، والبيهقي (ج5: ص155، 156) وأخرجه مالك مرسلاً. وفي الباب عن جابر أخرجه أحمد، وابن ماجة، وابن أبي شيبة، وعن السائب بن يزيد أخرجه أحمد والبخاري والترمذي. وعن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال ((بعثني أو قدمني النبي صلى الله عليه وسلم في الثقل من جمع بليل)) أخرجه البخاري. ووجه دخول هذا الحديث في الباب أن ابن عباس كان دون البلوغ إذ ذاك.

2535-

قوله (وعنه) ، أي عن ابن عباس، كذا قال مالك وأكثر الرواة عن الزهري عن سليمان عند الشيخين وغيرهما أن الحديث من مسند عبد الله بن عباس، وخالفهم ابن جريج عن الزهري في الصحيحين أيضًا فقال عن ابن عباس عن الفضل أن امرأة فذكره فجعله من مسند الفضل، وتابعه معمر، وروى ابن ماجة من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس أخبرني حصين بن عوف الخثعمي، قال: قلت: يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج - الحديث. قال الترمذي: سألت محمدًا يعني البخاري عن هذا فقال أصح شيء فيه ما روي عن ابن عباس عن الفضل. قال محمد: ويحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل ومن غيره ثم رواه بغير واسطة - انتهى. قال الحافظ: وإنما رجح البخاري الرواية عن الفضل لأنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ وكان عبد الله بن عباس قد تقدم من المزدلفة إلى منى مع الضعفة، وأخرج البخاري في باب التلبيلة والتكبير من طريق عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل فأخبر الفضل أنه لم

ص: 318

إن امرأة من خثعم، قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الراحلة،

ــ

يزل يلبي حتى رمى الجمرة. فكان الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة فحضره ابن عباس فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده ويؤيد ذلك ما وقع عند الترمذي وأحمد (ج1: ص75، 76) ، وابنه عبد الله (ج1: ص76) ، والطبري من حديث علي مما يدل على أن السؤال المذكور وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي، وأن العباس كان شاهدًا، ولفظ أحمد من طريق عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: هذا الموقف وعرفة كلها موقف ، فذكر الحديث، وفيه ((ثم أتى المنحر فقال هذا المنحر ومنى كلها)) ، قال:((واستفتته)) ، وفي رواية ابنه عبد الله: ثم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير قد أفند وقد أدركته فريضة الله في الحج، أفيجزئ عنه أن أؤدي عنه؟ قال: نعم فأدي عن أبيك. قال: وقد لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابًا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان. وظاهر هذا أن العباس كان حاضرًا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضًا كان معه - انتهى. (إن امرأة) قال الحافظ: لم تسم (من خثعم) قال القسطلاني: بفتح الخاء المعجمة وسكون المثلثة وفتح العين المهملة غير مصروف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة لا العلمية ووزن الفعل، وهي قبيلة مشهورة، أي من اليمن. وقال السندي: غير منصرف للعلمية ووزن الفعل أو التأنيث لكونه اسم قبيلة. وقال القاري: أو قبيلة من اليمن سموا به، ويجوز صرفه ومنعه. قال الزرقاني: قبيلة مشهورة سميت باسم جدها واسمه: أفتل بن أنمار. قال الكلبي: إنما سمي خثعم بجمل يقال له: خثعم، ويقال أنه لما تحالف ولد أفتل على إخوته نحروا بعيرًا ثم تخثعموا بدمه، أي تلطخوا به بلغتهم (إن فريضة الله على عباده في الحج) ، أي في أمره وشأنه، ويمكن في بمعنى من للبيانية قاله القاري. (أدركت) ، أي الفريضة (أبي) لم يسم أيضًا وهو مفعول (شيخنا) حال (كبيرًا) نعت له، قال السندي: قوله ((أدركت أبي شيخنا كبيرًا)) إلخ، يفيد أن افتراض الحج لا يشترط له القدرة على السفر وقد قرر صلى الله عليه وسلم ذلك فهو يؤيد أن الاستطاعة المعتبرة في افتراض الحج ليست بالبدن، وإنما هي بالزاد والراحلة، والله تعالى أعلم. (لا يثبت على الراحلة) نعت آخر ويحتمل أن يكون حالاً أيضًا ويكون من الأحوال المتداخلة أو شيخًا بدل لكونه موصوفًا، أي وجب عليه الحج بأن أسلم وهو شيخ كبير وله المال أو حصل له المال في هذه الحالة، والأول أوجه. قال الطيبي: وفي رواية: ((لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره)) وفي رواية: ((لا يستمسك على الرحل)) وفي رواية من الزيادة: ((إن شددته خشيت أن يموت)) ، وحديث أبي هريرة عند ابن خزيمة بلفظ:((وإن شددت بالحبل على الراحلة خشيت أن أقتله)) قال الحافظ: وهذا يفهم منه على أن من قدر على هذين الأمرين من الثبوت على الراحلة أو الأمن عليه من

ص: 319

..............................................................................................

ــ

الأذى لو ربط لم يرخص له في الحج عنه كمن يقدر على محمل موطأ كالمحفة. وقال الأمير اليماني: ظاهر الحديث مع الزيادة المذكورة أنه لا بد في صحة التحجيج عنه من الأمرين عدم ثباته على الراحلة والخشية من الضرر عليه من شده فمن لا يضره الشد كالذي يقدر على المحفة لا يجزئه حج الغير إلا أنه ادعى في البحر الإجماع على أن الصحة وهي التي يستمسك معها قاعدًا شرط بالإجماع فإن صح الإجماع فذاك وإلا فالدليل مع من ذكرنا - انتهى. وهذا وقد اختلف هل المسئول عنه رجل أو امرأة كما وقع الاختلاف في الروايات في السائل ففي بعض الروايات أنه امرأة، وفي بعضها أنه رجل، وقد بسط ذلك في الفتح (ج7: ص221) ، وفي باب حج المرأة عن الرجل فقال: اتفقت الروايات كلها عن ابن شهاب عن سليمان على أن السائلة كانت امرأة، وأنها سألت عن أبيها، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان فاتفق الرواة على أن السائل رجل. ثم اختلفوا عليه في إسناده ومتنه فذكر الاختلاف في الإسناد ثم قال: وأما المتن فقال هشيم عن يحيى عن سليمان: أن رجلاً سأل فقال: إن أبي مات، وقال ابن سيرين عنه فجاء رجل فقال: إن أمي عجوز كبيرة، وقال ابن علية عنه فجاء رجل فقال: إن أبي أو أمي، وخالف الجميع معمر عن يحي فقال: إن امرأة سألت عن أمها. وهذا الاختلاف كله عن سليمان بن يسار فأحببنا أن ننظر في سياق غيره، فإذا كريب قد رواه عن ابن عباس عن حصين بن عوف الخثعمي، قال قلت: يا رسول الله إن أبي أدركه الحج. وإذا عطاء الخراساني روى عن أبي الغوث بن حصين الخثعمي أنه استفتى النبي صلى الله عليه وسلم عن حجة كانت على أبيه. أخرجهما ابن ماجة، والرواية الأولى أقوى إسنادًا، وهذا يوافق رواية هشيم في أن السائل عن ذلك رجل سأل عن أبيه ويوافقه ما روى الطبراني من طريق عبد الله بن شداد عن الفضل بن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير، ويوافقهما مرسل الحسن عند ابن خزيمة وقد جمع بعض العلماء وهو الحافظ زين الدين العراقي شيخ الحافظ والعيني بين هذه الروايات بتعدد القضية إذ قال: إن السؤال وقع مرات: مرة من امرأة عن أبيها ومرة من امرأة عن أمها، ومرة من رجل عن أبيه ومرة في السؤال عن الشيخ الكبير، ومرة في الحج عن الميت لكن قال الحافظ: والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجل وكانت ابنته معه فسألت أيضًا والمسئول عنه أبو الرجل وأمه جميعًا، ويقرب ذلك ما رواه أبو يعلي بإسناد قوى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس، قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء، فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها وجعلت ألتفت إليها ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة. فعلى هذا فقول الشابة:((إن أبي)) لعلها لأرادت به جدها، لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها، فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه، ولا مانع أن يسأل عن أمه، وتحصل من هذا الروايات أن اسم الرجل حصين بن عوف الخثعمي، وأما ما وقع في الرواية الأخرى أنه أبو الغوث بن

ص: 320

أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع.

ــ

حصين، فإن إسنادها ضعيف، ولعله كان فيه عن أبي الغوث حصين فزيد في الرواية ابن أو أن أبا الغوث كان مع أبيه حصين فسأل كما سأل أبوه وأخته والله أعلم - انتهى. وقيل: الأحسن في الجمع بين ذلك أن يقال: إن البنت المذكورة في رواية أبي يعلى كانت مع عم لها لا مع أبيها، فإن التجوز في رواية أبي يعلى من لفظ:((معه بنت له)) أهون من التجوز في جميع الروايات المختلفة الواردة بلفظ: ((إن أبي شيخ كبير)) فالابنة سألت عن أبيها، والعم سأل عن أبيه، وأيضًا على ما أفاد الحافظ لم يبق الحاجة إلى سؤاله عن أبيه بعد ما سألت هي عنه (أفأحج عنه) ، أي أيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه لأن ما بعد الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوف على مقدر، والمعنى: أيصح مني أن أكون نائبة عنه في الحج فأحج عنه (قال: نعم) وعند أحمد (ج1: ص212)((فحجي عن أبيك)) (وذلك) أي جميع ما ذكر جرى (في حج الوداع) بمنى، الوداع بفتح الواو وقيل بكسرها سميت بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها ولم يحج بعد الهجرة غيرها، وكانت في سنة عشر من الهجرة وفي الحديث دليل على جواز حج المرأة عن الرجل وبالعكس، وذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز حج المرأة عن الرجل، قالوا: لأن المرأة تلبس في الإحرام ما لا يلبسه الرجل فلا يحج عنه إلا رجل مثله. وحديث الباب يرد هذا القول. قال ابن بطال: لا خلاف في جواز حج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل، ولم يخالف في جواز حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل إلا الحسن بن صالح - انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج3: ص233) : يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة، والمرأة عن الرجل والمرأة في الحج في قول عامة أهل العلم، لا نعلم فيه مخالفًا إلا الحسن بن صالح، فإنه كره حج المرأة عن الرجل، قال ابن المنذر: هذه غفلة عن ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة أن تحج عن أبيها، وعليه يعتمد من أجاز حج المرأ عن غيره. وفي الباب حديث أبي رزين (يعني الذي يأتي في الفصل الثاني) أحاديث سواه - انتهى. وفيه دليل على وجوب الحج على العاجز الذي يجد الاستطاعة بالغير، قال الخطابي: فيه دليل على أن فرض الحج يلزم من استفاد مالاً في حال كبره وزمانته إذا كان قادرًا به على أن يأمر غيره في حج عنه كما لو قدر على ذلك بنفسه - انتهى. قلت: واختلف العلماء فيه قال ابن رشد: أما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة فعند مالك وأبي حنيفة لا تلزم، وعند الشافعي تلزم، فيلزم على مذهبه الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدره هو ببدنه أن يحج عنه غيره، وهى المسألة التي يعرفونها بالمعضوب وهو الذي لا يثبت على الراحلة - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3: ص227) : من وجدت فيه شرائط وجوب الحج وكان عاجزًا عنه لمانع مأيوس من زواله كزمانة أو مرض لا يرجى زواله والشيخ الفاني متى وجد من ينوب عنه في الحج ومالاً يستنيبه به لزمه الحج، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي

ص: 321

..............................................................................................

ــ

وقال مالك: لا حج عليه إلا أن يستطيع بنفسه لأنه تعالى قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (- 3: 91) وهذا غير مستطيع، ولنا حديث أبي رزين وحديث ابن عباس في المرأة الخثعمية. وسئل علي رضي الله عنه عن شيخ لا يجد الاستطاعة قال: يجهز عنه - انتهى. وقال الخطابي: استدل الشافعي بخبر الخثعمية على وجوب الحج على المعضوب الزمن إذا وجد من يبذل له طاعته من ولده وولد ولده. ووجه ما استدل به من هذا الحديث أنها ذكرت وجوب فرض الحج على أبيها في حال الزمانة ولا بد من تعلق وجوبه بأحد أمور إما بمال أو بقوة بدن أو وجود طاعة من ذي قوة، وقد علمنا عجزه ببدنه ولم يجز للمال ذكر وإنما جرى الذكر لطاعتها وبذلها نفسها عنه فدل على أن الوجوب تعلق به، ومعلوم في اللسان أن يقال: فلان مستطيع لأن يبني داره إذا كان يجد من يطيعه في ابتنائها كما إذا وجد مالاً ينفقه في بنائها وكما لو قدر عليه بنفسه - انتهى. قال صاحب القرى: ولقائل أن يقول: استفسارها عن جواز الحج عنه وقع بعد إخبارها بإدراك الفرض له، فدل على تعلق الوجوب بأمر آخر غير الطواعية، فإن من لم يعلم جواز حجه عن أبيه لا يعلم وجوب الحج على أبيه بطواعيته وهذا ظاهر لمن تأمله، وليس ذلك الأمر الآخر إلا المال لتعذر القسمين الآخرين، أما الطواعية فلما ذكرناه، وأما القوة في البدن فلإخبارها أن الفرض أدركه وهو بحالة العجز، هذا هو الظاهر ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره، وتكون هي قد علمت أن الاستطاعة بالمال كالاستطاعة بالبدن. وعلى هذا يكون الحديث حجة على وجوب الحج على المعضوب بسبب الاستطاعة بالمال أو بطواعية الولد قياسًا عليه، وأما غير الولد فيمكن إلحاقه به لوجود مطلق الاستطاعة - انتهى. وقال الحافظ: استدل بالحديث على أن الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس، وعكس بعض المالكية فقال: من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب قلت: فسر المالكية الاستطاعة بإمكان الوصول إلى البيت من غير خروج عن عادة خلافًا للأئمة الثلاثة فإنهم فسروها بالزاد والراحلة كما سيأتي. قال ابن التين: الاستطاعة أن يقدر على الوصول إلى البيت من غير خروج عن عادة، فمن كان عادته السفر ماشيًا، أي وأمكن وصوله ماشيًا لزمه أن يمشي وإن لم يجد راحلة، ومن كان عادته تكفف الناس وأمكنه التوصل به لزمه وإن لم يجد زادًا، ومن كان عادته الركوب والغناء عن الناس لم يلزمه الحج إلا بوجدان ذلك، وصرح الدردير أنه يجب الحج على الأعمى القادر على المشي بقائد ولو بأجرة. وقال عياض: الاستطاعة عند مالك هي القدرة ولو على رجليه دون مشقة فادحة. وقال الأكثر: هي الزاد والراحلة، وجاء فيه حديث وتأويله عندنا أنه أحد أنواع الاستطاعة لا كلها وما وقع من الاختلاف في نقل مذهب أبي حنيفة بين ابن قدامة وابن رشد فهو مبني على اختلاف الروايات عنه كما سيأتي. قال القاري في شرح اللباب في شرائط وجوب الأداء: الأول منها سلامة البدن عن الأمراض والعلل. فقيل: الصحيح أنه شرط الوجوب فحسب على ما في النهاية. وقال في البحر: هو المذهب الصحيح. وقيل: إنه من شرط

ص: 322

..............................................................................................

ــ

الأداء على ما صححه قاضي خان في شرح الجامع، واختاره كثير من المشايخ، منهم ابن الهمام، فعلى الأول لا يجب على الأعمى والمقعد والمعضوب، أي: الضعيف والزمن الذي لا حراك به على ما في القاموس، والمراد هنا الشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة. قال ابن الهمام: ففي المشهور عن أبي حنيفة أنه لا يلزمهم الحج. قال في البحر: وهذا عند أبي حنيفة في ظاهر الرواية وهو رواية عنهما. وقالا في ظاهر روايتهما وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه يجب على هؤلاء إذا ملكوا الزاد والراحلة ومؤنة من يرفعهم ويضعهم. والخلاف المذكور في من وجد الاستطاعة وهو معذور، أما إن وجدها وهو صحيح ثم طرأ عليه العذر فالاتفاق على الوجوب - انتهى مختصرًا. واستدل بحديث الباب على وجوب الاستنابة على العاجز عن الحج الفرض، وقال عياض: لا حجة فيه لذلك، لأن قولها ((إن فريضة الله على عباده)) ألخ، لا يوجب دخول أبيها في هذا الفرض، وإنما الظاهر من الحديث أنها أخبرت أن فرض الحج بالاستطاعة نزل وأبوها غير مستطيع فسألت هل يباح لها أن تحج عنه له ويكون له في ذلك أجر؟ يعني أن معنى قولها المذكور أن إلزام الله عباده بالحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة من لا يستطيع فهل أحج عنه هل يجوز لي ذلك أو هل فيه أجر ومنفعة؟ فقال: نعم. ولا يخالفه. قوله ((فحجي عنه)) لأنه أمر ندب وإرشاد ورخصة لها أن تعمل لما رأى من حرصها على تحصيل الخير لأبيها. قال الحافظ وتعقب بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء فيتم الاستدلال، وفي بعض طرق مسلم ((إن أبي عليه فريضة الله في الحج)) ولأحمد في رواية ((والحج مكتوب عليه)) - انتهى. قلت: قولها ((أدركت أبي)) يرد التأويل الذي ذكره عياض فأنه صريح في إدراك الفرض له، والظاهر من إدراك الفرض للإنسان اللزوم وصرف اللفظ عن ظاهره خلاف الأصل وادعى بعض المالكية أن هذه القصة مختصة بالخثعمية كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير حكاه عنه ابن عبد البر وتعقب بأن الأصل عدم الخصوصية واحتج بعضهم لذلك بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب الواضحة بإسنادين مرسلين فزاد في الحديث ((حج عنه وليس لأحد بعده)) ولا حجة فيه لضعف الإسناد مع إرسالهما، وقد عارضه قوله في حديث الجهنية في باب الحج والنذر عن الميت عند البخاري ((اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)) وادعى آخرون منهم أن ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه ولا يخفى أنه جمود. واستدل بحديث الباب على جواز الحج عن غيره إذا كان لا يستطيع الحج بنفسه وأنه ليس كالصلاة والصوم وسائر الأعمال البدنية وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك أن الله عز وجل إنما أراد بقوله:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (- 53: 39) بعض الأعمال دون بعض. قال ابن العربي: حديث الخثعمية حديث متفق على صحته في الحج خارج عن القاعدة المستقرة في الشريعة من أن ليس للإنسان إلا ما سعي، رفقًا من الله في استدراك ما فرط فيه المرء بولده وماله، وتعقب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي وبأن عموم السعي

ص: 323

..............................................................................................

ــ

في الآية مخصوص اتفاقًا وقال الخطابي: في هذا الحديث بيان جواز حج الإنسان عن غيره حيًا وميتًا وأنه ليس كالصلاة والصيام وسائر الأعمال البدنية التي لا تجرى فيها النيابة، وإلى هذا ذهب الشافعي، وكان مالك لا يرى ذلك وقال: لا يجزئه إن فعل وهو الذي روى حديث ابن عباس، وكان يقول في الحج عن الميت: إن لم يوص به الميت أن تصدق عنه وأعتق أحب إليَّ من أن يحج عنه، وكان إبراهيم النخعي، وابن أبي ذئب يقولان: لا يحج أحد عن أحد والحديث حجة على جماعتهم - انتهى. وقال العيني: في الحديث جواز الحج عن غيره إذا كان معضوبًا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك، والليث، والحسن بن صالح: لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام، وحاصل ما في مذهب مالك ثلاثة أقوال، مشهورها: لا يجوز، ثانيها: يجوز من الولد، ثالثها: يجوز إن أوصى به. وعن النخعي وبعض السلف: لا يصح الحج عن ميت ولا عن غيره. وهي رواية عن مالك وإن أوصى به قال القرطبي: رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن يعني قوله تعالى: {لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (- 53: 39) فرجع ظاهر القرآن، ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنت ظنًا، قال: ولا يقال قد أجابها النبي صلى الله عليه وسلم على سؤالها، ولو كان ظنها غلطًا لبينه لها، لأنا نقول: إنما أجابها عن قولها ((أفاجع عنه؟ قال: حجى عنه)) لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها - انتهى. وتعقب بأن في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجة ظاهرة، وأما ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد في الحديث ((حج عن أبيك، فإن لم يزده خيرًا لم يزده شرًا)) فقد جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها للمخالف، كذا في الفتح، وذكر ابن حزم في المحلى (ج7 ص 58) حديث ابن عباس هذا من طريق عبد الرزاق ثم أجاب عنه وقد أحسن في الجواب فارجع إليه. وأجاب بعض المالكية عن حديث الخثعمية بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب، وبأنها عبادة بدنية فلا تصح النيابة فيها كالصلاة وقد نقل الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة، قالوا: ولأن العبادات فرضت على جهة الابتلاء وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن فيه يظهر الانقياد أو النفور بخلاف الزكاة فإن الابتلاء فيها بنقص المال وهو حاصل بالنفس وبالغير. وأجيب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح لأن عبادة الحج مالية بدنية معًا فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة، ولهذا قال المازري: من غلب حكم البدن في الحج ألحقه بالصلاة، ومن غلب حكم المال ألحقه بالصدقة، وقد أجاز المالكية الحج عن الميت إذا أوصى به، ولم يجيزوا ذلك في الصلاة، وبأن حصر الابتلاء في المباشرة ممنوع لأنه يوجد في الآمر من بذله المال في الأجرة كذا في الفتح. قلت: ويعتضد تغليب حكم المال بحديث الخثعمية وغيره من الأحاديث الواردة في الحج عن الغير حيًا وميتًا، وسيأتي مزيد الكلام في مسألة المستطيع بغيره في

ص: 324

..............................................................................................

ــ

شرح حديث ابن عمر سادس أحاديث الفصل الثاني وللمسألة فروع مفيدة جدًا يجب معرفتها منها: أنه لا فرق عند الجمهور بين من وجد الاستطاعة وهو معذور ومن وجدها وهو صحيح ثم طرأ عليه العذر لظاهر حديث الخثعمية خلافًا لما هو المشهور عن أبي حنيفة. فإن قيل فلم لا يجوز أن يكون الحج مستقرًا في ذمته قبل العضب؟ لما طرأ العضب سألت عن أداء ما كان واجبًا عليه ويدل عليه رواية أخرى عند مسلم بلفظ ((إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره)) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحجي عنه، وكذلك رواية أحمد ((والحج مكتوب عليه)) قلنا لا دلالة في الحديث على وقت الإدراك بل هو مجمل والحديث الأول مبين له، وهو قولها:((أدركت أبي شيخًا كبيرًا)) ، أي في هذه الحالة ويكون هذا السؤال وقع منها مرتين ذكرت في إحداهما وقت الإدراك وفي الأخرى أخبرت أن عليه الفرض، وتريد الذي أدركه في تلك الحال فيجمع بين الحديثين إذ لا تضاد بينهما. ومنها: أنهم اختلفوا فيما إذا عوفي المعضوب فقال الجمهور: لا يجزئه لأنه تبين أنه لم يكن ميئوسًا منه، وقال أحمد وإسحاق: لا تلزمه الإعادة كذا في الفتح وقال النووي في مناسكه: ولو استناب المعضوب من يحج عنه فحج عنه ثم زال العضب وشفي لم يجزه على الأصح بل عليه أن يحج. وقال ابن قدامة (ج3 ص228) : ومتى أحج هذا، (أي العاجز عن الحج لمانع مأيوس من زواله كزمانة) عن نفسه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر، وهذا قول إسحاق، وقال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر: يلزمه لأن هذا بدل إياس فإذا برأ تبين أنه لم يكن مأيوسًا منه فلزمه الأصل. ولنا أنه أتى بما أمر به فخرج عن العهدة كما لو لم يبرأ، أو نقول أدى حجة الإسلام بأمر الشارع فلم يلزمه حج ثان كما لو حج بنفسه، ولأن هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه، ولم يوجب الله عليه إلا حجة واحدة - انتهى. وقال في الهداية: والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت، لأن الحج فرض العمر. قال ابن الهمام: وإنما شرط دوامه إلى الموت لأن الحج فرض العمر فحيث تعلق به خطابه لقيام الشروط وجب عليه أن يقوم هو بنفسه في أول أعوام الإمكان، فإذا لم يفعل أثم، وتقرر القيام بها بنفسه في ذمته في مدة عمره، وإن كان غير متصف بالشروط فإذا عجز عن ذلك بعينه وهو أن يعجز عنه في مدة عمره رخص له الاستنابة رحمة وفضلاً منه فحيث قدر عليه وقتًا ما من عمره بعد ما استناب فيه لعجز لحقه ظهر انتفاء شرط الرخصة. ومنها: ما قال ابن قدامة (ج3: ص229) : من يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه ليس له أن يستنيب فإن فعل لم يجزئه وإن لم يبرأ، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة له ذلك، ويكون ذلك مراعى، فإن قدر على الحج بنفسه لزمه وإلا أجزأه ذلك لأنه عاجز عن الحج بنفسه أشبه المأيوس من برئه، ولنا أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه أن فعل كالفقير، وفارق المأيوس من برئه لأنه عاجز على الإطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت، ولأن النص إنما ورد في الحج عن الشيخ الكبير وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا يقاس عليه إلا من كان مثله فعلى هذا إذا استناب من يرجو

ص: 325

..............................................................................................

ــ

القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسًا من برئه فعليه أن يحج عن نفسه مرة أخرى لأنه استناب في حال لا تجوز له الاستنابة فيها فأشبه الصحيح - انتهى. وفي الغنية (ص172) : في شرائط النيابة في الحج الفرض دوام العجز إن كان لعذر يرجى زواله عادة كالحبس والمرض فلو عجز فأحج عنه فرضًا كان أمره موقوفًا، فإن دام عجزه حتى مات ظهر أنه وقع مجزئًا عن فرضه وإن قدر عليه وقتًا ما ظهر أنه وقع نفلاً له، وإن كان لعذر لا يرجى زواله عادة كالزمانة والعمى لا يشترط دوامه إلى الموت، إلى آخر ما قال، وارجع لمزيد التفصيل إلى رد المحتار. وقال الحافظ: في الفتح واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضب، فلا يدخل المريض لأنه يرجى برئه، ولا المجنون لأنه ترجى إفاقته، ولا المحبوس لأنه يرجى خلاصه، ولا الفقير لأنه يمكن استغناءه. ومنها: ما قال النووي: أما المعضوب فلا يصح الحج عنه بغير إذنه يعني في الفرض لأنه قال بعد ذلك: وتجوز الاستنابة في حج التطوع للميت والمعضوب على الأصح - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3: ص234) : ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه فرضًا كان أو تطوعًا لأنها عبادة تدخلها النيابة فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه، فأما الميت فتجوز عنه بغير إذن واجبًا كان أو تطوعًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لا إذن له، وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة - انتهى. وعند الحنفية فيه تفصيل كما في شرح اللباب والغنية ومنها: أنه نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافًا للشافعي، وعن أحمد روايتان كذا في الفتح. وقال ابن قدامة (ج3: ص230) : لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعًا. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزئ أن يحج غيره عنه، والحج المنذور كحجة الإسلام في إباحة الاستنابة عند العجز والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة فأما حج التطوع فينقسم أقسامًا ثلاثة أحدها: أن يكون ممن لم يؤد حجة الإسلام فلا يجوز أن يستنيب في حجة التطوع. الثاني: أن يكون ممن قد أدى حجة الإسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه فيصح أن يستنيب في التطوع، والثالث أن يكون قد أدى حجة الإسلام وهو قادر على الحج بنفسه فهل له أن يستنيب في حج التطوع؟ فيه روايتان. إحداهما: يجوز وهو قول أبي حنيفة. والثانية: لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض - انتهى. وفي الهداية: تجوز الإنابة في الحج النقل حالة القدرة، لأن باب النفل أوسع ومنها: أن من حج عن غيره وقع الحج. عن المستنيب خلافًا لمحمد بن الحسن فقال: يقع عن المباشر وللمحجوج عنه أجر النفقة. قال العيني: ظاهر المذهب أن الحج يقع عن المحجوج عنه لحديث الخثعمية، وعند محمد أن الحج يقع عن الحاج وللآخر ثواب النفقة - انتهى. وقال القاري: في الحديث دليل على أن الحج يقع عن الآمر وهو مختار شمس الأئمة السرخسي وجمع من المحققين وهو ظاهر المذهب. ومنها: أنه استدل

ص: 326

..............................................................................................

ــ

الحنفية بعموم حديث الخثعمية على جواز صحة حج من لم يحج نيابة عن غيره، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه، واستدلوا بحديث ابن عباس في شبرمة الآتي في الفصل الثاني. قال العيني: فيه أي في حديث الخثعمية ما يدل على أنه يجوز للرجل أن يحج عن غيره إن لم يكن حج عن نفسه لإطلاق الحديث ولم يسألها أحججت عن نفسك أم لا وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية. ويحكى كذلك عن الحسن، وإبراهيم، وأيوب، وجعفر بن محمد. وقال الأوزاعي والشافعي (وأحمد في روايته المشهورة عند أصحابه) وإسحاق: ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام. وقال أبو بكر عبد العزيز: يقع الحج باطلاً ولا يصح عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس - انتهى. وأجاب الحنفية عن حديث شبرمة بأنه مضطرب معلول، وبأنه محمول على الندب بدليل إطلاقه عليه الصلاة والسلام قوله للخثعمية حجي عن أبيك من غير استخبارها عن حجها لنفسها قبل ذلك، وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم الخطاب فيفيد جوازه عن الغير مطلقًا، وحديث شبرمة يفيد استحباب تقديم حجة لنفسه وبذلك يحصل الجمع. قلت: حديث شبرمة حديث صحيح أو حسن صالح للاحتجاج، وكل ما ذكروه في تعليله مدفوع ومردود كما سترى عند شرحه، وأما ما ذكروه من حمله على الاستحباب متمسكين على ذلك بحديث الخثعمية فقد تعقبه صاحب فتح الملهم (ج3: ص372) بأن سؤال الخثعمية إنما وقع بعد دفعه صلى الله عليه وسلم من المزدلفة إلى منى حين كان الفضل رديفه فكيف يتصور استفسارها عن مسألة النيابة في تلك الحجة بعد فراغها من الوقوف بعرفة فالظاهر أنها حجت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم سألت هل تحج عن أبيها، أي فيما يستقبل من الزمان إذا أرادت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم حجي عنه، ولما كان حجها عن نفسها معلومًا مشهودًا لم يحتج صلى الله عليه وسلم إلى استخبارها عنه حتى يقال: إن ترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم الأحوال، وحينئذٍ ارتفع التعارض بين حديث الخثعمية وبين حديث شبرمة رأسًا - انتهى. وفي حديث الخثعمية من الفوائد: جواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة كالاستفتاء عن العلم والترافع في الحكم والمعاملة. وفيه أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام وهو إجماع حكاه ابن عبد البر، ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم: ولا تنتقب المرأة. وفيه بيان ما ركب في الآدمي من الشهوة وجبلت طباعة عليه من النظر إلى الصور الحسنة. قال القرطبي: كان هذا النظر، أي نظر الفضل إلى المرأة ونظرها إلى الفضل بمقتضى الطباع البشرية فإنها مجبولة على النظر إلى الصورة الحسنة ففي نظر أحدهما إلى الآخر مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الشهوات. وفيه منع النظر إلى الأجنبيات ووجوب غض البصر خوف الفتنة في حق الرجال والنساء جميعًا لأنه لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، وكان الفضل أبيض حسن الشعر وسيمًا، وكذا المرأة كانت حسناء، وفي صرف وجه الفضل بل عنقه ووضع يده عليه مبالغة في منعه فإن المنع بالفعل أبلغ من القول، وروى أحمد وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن

ص: 327

متفق عليه.

2536-

(8) وعنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحج،

ــ

النبي صلى الله عليه وسلم قال للفضل حين غطى وجهه يوم عرفة: ((هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له)) . ولم ينقل أنه نهى المرأة عن النظر فيحتمل أنه اجتزأ بمنع الفضل لما رأى أنها تعلم بذلك منع نظرها إليه لأن حكمهما واحد أو تنبهت لذلك، أو كان ذلك الموضع هو محل نظره الكريم فلم يصرف نظرها ، واستدل ابن حزم بهذا الحديث على أن وجه المرأة ليس بعورة إذ قال لو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها على كشفه بحضرة الناس ولأمرها أن تسبل عليه من فوق ولو كان وجهها مغطي ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء - انتهى. ولا يخفى على المتأمل المنصف ما في هذا الاستدلال. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج، والمغاري، والاستئذان، ومسلم في الحج، وأخرجه أحمد (ج1: ص219) ، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، ومالك، والدارمي، وابن الجارود (ص177)، والبيهقي (ج4: ص328، 329، وج5: ص179) ، وابن حزم (ج 7: ص56، 57) ، والشافعي (ج1: ص287) ، وفي الباب عن بريدة عند أحمد ومسلم والترمذي والحاكم، وعن عبد الله بن الزبير عند أحمد والنسائي والبيهقي، وعن سودة بنت زمعه عند أحمد والطبراني والبيهقي، وعن أبي رزين وسيأتي في الفصل الثاني. وعن أنس عند البزار والطبراني في الكبير والأوسط، وعن عقبة بن عامر عند الطبراني في الكبير والأوسط، وعن علي عند أحمد، وعن الفضل بن عباس عند أحمد والشيخين والأربعة والبيهقي وغيرهم.

2536-

قوله: (أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي) إلخ، كذا وقع في النذور عند البخاري من رواية آدم عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ووقع في الحج والاعتصام عنده من طريق أبي عوانة عن أبي بشر بلفظ ((إن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج)) ورجح الحافظ في النذور هذه الرواية، أي كون السائل امرأة، وقال في الحج بعد ذكر رواية شعبة: فإن كان محفوظًا احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته، والبنت سألت عن أمها، وقال الشوكاني: لا منافاة بين الروايتين لأنه يحتمل أن تكون القصة متعددة وأن تكون متحدة، ولكن النذر وقع من الأخت والأم فسأل الأخ عن نذر أخته والبنت عن نذر الأم - انتهى. وسمى الحافظ في المقدمة (ص391) الرجل السائل عن الأخت: عقبة بن عامر إذ قال: حديث ابن عباس ((قال أتى رجل فقال إن أختي نذرت)) هو عقبة بن عامر ولم تسم أخته. وقال في المرأة الجهنية إنها امرأة سنان بن سلمة الجهني كما في النسائي ولأحمد ((سنان بن عبد الله)) وهو أصح ، وفي الطبراني أنها عمته ولم تسم أمها. وقال في الفتح: إن ما في النسائي لا يفسر به المبهم في حديث ابن عباس في المرأة الجهنية لأن فيه أن المرأة سألت بنفسها وفي النسائي أن زوجها سأل لها، ويمكن

ص: 328

وإنها ماتت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء.

ــ

الجمع بأن نسبة السؤال إليها مجازية، وإنما الذي تولى لها السؤال زوجها. قال: ولم أقف على اسمها ولا على اسم أبيها لكن في حرف الغين المعجمة من الصحابيات لابن مندة عن ابن وهب عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه، أن غاثية أو غايثة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة. وجزم ابن طاهر في المبهمات بأنه اسم الجهنية المذكورة في حديث ابن عباس لكن قال الذهبي أرسله عطاء ولا يثبت، ثم ذكر الحافظ رواية ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي توفيت وعليها مشي إلى الكعبة نذرًا. الحديث. ثم قال فإن كان محفوظًا حمل على واقعتين بأن تكون امرأته سألت على لسانه عن حجة أمها المفروضة وبأن تكون عمته سألت بنفسها عن حجة أمها المنذورة، ويفسر ((من)) في حديث الجهنية بأنها عمة سنان واسمها غاثية كما تقدم، ثم إنه قيل: أن حديث الجهنية مضطرب لأنه قد روى أن هذه المرأة قالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، وأجيب بأنه محمول على أن المرأة سألت عن كل من الصوم والحج، ويؤيد ذلك ما عند مسلم عن بريدة قالت: إن أمي، وفيه ((يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها)) (وأنها ماتت) ، أي ولم تف بنذرها (لو كان عليها دين) لمخلوق (أكنت قاضيه) بالنصب، أي الدين عنها (فاقض دين الله) ، كذا في جميع نسخ المشكاة، وفي المصابيح وهكذا وقع في نسخة العيني للبخاري، وكذا ذكره الحافظ في الفتح، ووقع في متن القسطلاني ومتن الفتح طبعة الهند، وفي جامع الأصول (ج4: ص198) : فاقض الله، أي حقه أو دينه (فهو أحق بالقضاء) ، أي فدين الله أحق بالأداء من غيره. وفي الحديث دليل على صحة النذر بالحج ممن لم يحج، فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور، وعليه الحج عن النذر، وقيل: يجزئ عن النذر ثم يحج عن حجة الإسلام، وقيل: يجزئ عنهما، وارجع إلى القرى لقاصد أم القرى (ص62) وفيه أيضًا دليل على أن من مات وفي ذمته حق لله تعالى من حج أو كفارة أو نذر فإنه يجب قضاءه، وفيه دليل أيضًا على أن الناذر بالحج إذا مات ولم يحج أجزأه إن يحج عنه الوارث أو غيره لعدم استفصاله صلى الله عليه وسلم للأخ هل هو وارث أولا، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما تقرر في الأصول ويدل على ذلك أيضًا قوله:((فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء)) وقوله في حديث الجهنية: ((اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)) وفيه مشروعية القياس وضرب المثل ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه، وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه، وفيه تشبيه المجهول حكمه بالمعلوم، فإنه دل على أن قضاء الدين المالي عن الميت كان معلومًا

ص: 329

متفق عليه.

ــ

عندهم متقررًا ولهذا حسن الإلحاق به، وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتب على ذلك مصلحة وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه، وفيه دليل على جواز الحج عن الميت وإن لم يوص لإلحاقه وتشبيهه بالدين ، وقال مالك: إنما يحج عنه إذا أوصى، وإذا أوصى حج من الثلث قال الأمير اليماني: دل الحديث على وجوب التحجيج عن الميت سواء أوصى أم لم يوص، لأن الدين يجب قضاءه مطلقًا، وكذا سائر الحقوق المالية من كفارة ونحوها، وإلى هذا ذهب ابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والشافعي، ويجب إخراج الأجرة من رأس المال عندهم، أي مقدمًا على الوصايا والميراث كدين الآدمي. وقال الحافظ: في هذا الحديث أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك. وفي قوله: ((فالله أحق بالوفاء)) دليل على أنه مقدم على دين الآدمي وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل: بالعكس، وقيل: هما سواء - انتهى. وقال العيني: قيل إذا اجتمع حق الله وحق العباد يقدم حق العباد فما معنى ((فهو أحق)) ؟ أجيب بأن معناه إذا كنت تراعي حق الناس فلأن تراعي حق الله كان أولى ولا دخل فيه للتقديم والتأخير إذ ليس معناه أحق بالتقديم - انتهى. قال الطيبي: في الحديث إشعار بأن المسئول عنه خلف مالاً فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن حق الله مقدم على حق العباد واجب عليه الحج عنه. والجامع علة المالية، وتعقبه الحافظ والعيني بأنه لا يتحتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالاً كما زعم لأن قوله:((أكنت قاضيه)) أعم من أن يكون المراد مما خلفه أو تبرعًا - انتهى. قلت: ووافق الشافعي أحمد في التحجيج عن الميت من رأس المال. قال ابن قدامة (ج3: ص242) : متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج وجب أن يخرج من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط، أو بغير تفريط، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت، فإن أوصي بها فهي من الثلث، وبهذا قال الشعبي والنخعي - انتهى. وعند الحنفية في ذلك تفصيل كما في شرح اللباب والغنية (ص 173) قالوا: إذا تبرع أحد بدون الوصية أجزأ إن شاء الله. وقال النووي: تجب الاستنابة عن الميت إذا كان قد استطاع في حياته ولم يحج، هذا إذا كان له تركة، وإلا فلا يجب على الوارث، ويجوز للوارث والأجنبي الحج عنه سواء أوصي به أولم يوص - انتهى. وأستدل بالحديث على أنه يصح ممن لم يحج أن يحج نيابة عن غيره لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسأله حج عن نفسه أم لا؟ ولأنه صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين. ورد بأنه سيأتي في حديث شبرمة ما يدل على عدم إجزاء حج من لم يحج عن نفسه، وأما مسألة الدين فإنه لا يجوز له أن يصرف ماله إلى دين غيره وهو مطالب بدين نفسه (متفق عليه) هذا وهم من المصنف فإن الحديث من أفراد البخاري، وأخرجه في النذور، وأخرجه بقصة الجهنية في الحج، وفي الاعتصام، وأما مسلم فلم يخرجه أصلاً، ولعل المصنف قلد في ذلك صاحب جامع الأصول، والله أعلم. والحديث

ص: 330

2537-

(9) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم.

ــ

أخرجه أيضًا أحمد (ج1 ص240) ، والنسائي في الحج، وابن الجارود (ص 178) ، وابن حزم (ج7 ص63) ، والبيهقي (ج5 ص179) .

2537-

قوله: (لا يخلون) أكد النهي مبالغة (رجل بامرأة) أي أجنبية. فيه حرمة اختلاء الأجنبي مع المرأة وهو إجماع كما قال في الفتح. وقد ورد في حديث ((فإن ثالثهما الشيطان)) واختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا بأن يكون معهما من يزيل معنى الخلوة كالنسوة الثقات مثلاً فقيل إنه يقوم لضعف التهمة به لأن المعنى المناسب للنهي إنما هو خشية أن يوقع بينهما الشيطان الفتنة، وقال القفال: لا يجوز بل لا بد من المحرم عملاً بلفظ الحديث. قال الشوكاني: وهو ظاهر الحديث، قلت: وكذلك يحرم الخلوة بالأجنبية لو كان معهما من لا يستحي منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك فإن وجوده كالعدم ((ولا تسافرن امرأة)) أي شابة أو عجوز سفرًا طويلاً أو قصيرًا للحج أو غيره ((إلا ومعها محرم)) بفتح الميم وتخفيف الراء أي من يحرم عليه نكاحها من الأقارب كأب وأخ وعم وخال ومن يجري مجراهم كزوج كما جاء مصرحًا في رواية للشيخين من حديث أبي سعيد ((إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها)) ، وفي أخرى ((إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها)) ، قال ابن دقيق العيد: لم يتعرض هنا للزوج وهو موجود في رواية أخرى ولا بد من إلحاقه بالحكم بالمحرم في جواز السفر معه (وكذا الخلوة بها) اللهم إلا أن يستعمل لفظة الحرمة في إحدى الروايتين في غير معنى المحرمية استعمالاً لغويًا فيما يقضي الاحترام فيدخل فيه الزوج لفظًا - انتهى. قال الحافظ: وفي آخر حديث ابن عباس هذا ما يشعر بأن الزوج يدخل في مسمى المحرم فإنه لما استثنى المحرم فقال القائل: إن امرأتي حاجة. فكأنه فهم إدخال الزوج في المحرم ولم يرد عليه ما فهمه بل قيل له أخرج معها. والاستثناء من الجملتين كما هو مذهب الشافعي لا من الجملة الأخيرة لكنه منقطع لأنه متى كان معها محرم لم يبق خلوة فتقدير الحديث لا يقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم، والواو في ((ومعها)) للحال، أي لا يخلون في حال إلا في هذه الحال، ووقع في رواية للبخاري لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم. قال القسطلاني: أي لها. وقال النووي: يحتمل أن يريد محرمًا لها، أو له. وهذا الاحتمال الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء فإنه لا فرق بين أن تكون معها محرم لها كأبيها وابنها وأخيها وأمها وأختها أو يكون محرمًا له كأخته وبنته وأمه وعمته وخالته فيجوز القعود معها في هذه الأحوال. قال: وحقيقة المحرم، أي عند الشافعية من النساء التي يجوز له النظر إليها والخلوة بها والمسافرة معها كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها. فخرج بالتأبيد أخت الزوجة وعمتها وخالتها ونحوهن، وخرجت

ص: 331

..............................................................................................

ــ

بسبب مباح أم الموطوءة بشبهة وبنتها فإنهما تحرمان على التأبيد وليستا محرمين، لأن وطئ الشبهة لا يوصف بالإباحة لأنه ليس بفعل المكلف، وخرج بقوله لحرمتها الملاعنة، لأن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظًا، والمحرم عام فيشمل محرم النسب كأبيها وابنها وأخيها وابن أختها وابن أختها وخالها وعمها، ومحرم الرضاع كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن أختها منه ونحوهم، ومحرم المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها، فيجوز لكل هؤلاء السفر بها والخلوة بها والنظر إليها من غير حاجة لكن لا يحل النظر بشهوة لأحد منهم هذا مذهب الشافعي والجمهور ووافق مالك على ذلك كله إلا ابن زوجها فكره سفرها معه لفساد الناس بعد العصر الأول ولأن كثيرًا من الناس لا ينزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلة محارم النسب والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب. قال النووي: وعموم هذا الحديث يرد على مالك، وقال ابن دقيق العيد: الحديث عام، فإن عنى بالكراهة التحريم مع محرمية ابن الزوج فهو مخالف لظاهر الحديث بعيد، وإن عنى كراهة التنزيه للمعنى المذكور فهو أقرب تشوفًا إلى المعنى، وقد فعلوا مثل ذلك في غير هذا الموضع، ومما يقويه ها هنا قوله ((لا يحل)) (في حديث ابن عمر عند الشيخين وحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره) استثنى منه السفر مع المحرم فيصير التقدير ((إلا مع ذي محرم)) فيحل ويبقي النظر في قولنا ((يحل)) هل يتناول المكروه أم لا بناء على أن لفظة ((يحل)) يقتضي الإباحة المتساوية الطرفين، فإن قلنا: لا يتناول المكروه. فالأمر قريب مما قاله إلا أنه تخصيص يحتاج إلى دليل شرعي عليه، وإن قلنا: يتناول. فهو أقرب لأن ما قاله لا يكون حينئذ منافيًا لما دل عليه اللفظ - انتهى. وفي الحديث دليل على تحريم سفر المرأة من غير محرم وهو مطلق في قليل السفر وكثيره وفي سفر الحج وغيره، وقد وردت أحاديث مقيدة لهذا الإطلاق إلا أنها اختلف ألفاظها ففي لفظ ((لا تسافر ثلاثاً)) وفي آخر ((فوق ثلاث)) وفي آخر ((يومين)) وفي آخر ((يومًا وليلة)) وفي آخر ((يومًا)) وفي آخر ((ليلة)) وفي آخر ((بريدًا)) وهو عند أبي داود والحاكم والبيهقي، وفي آخر ((ثلاثة أميال)) وهو عند الطبراني، قال الحافظ: وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات. وقال العيني: في هذا الحديث أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، وعموم اللفظ يتناول عموم السفر فيقتضي أن يحرم سفرها بدون ذي محرم معها سواء كان سفرها قليلاً أو كثيرًا للحج أو غيره، وإلى هذا ذهب إبراهيم النخعي والشعبي وطاوس والظاهرية، واحتج هؤلاء أيضًا بحديث أبي هريرة الآتي - انتهى. قال عياض بعد ذكر الألفاظ المختلفة في التقييد: هذا كله ليس يتنافر ولا يختلف، وقد يكون هذا في مواطن مختلفة ونوازل متفرقة فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهد، وإن حدث بها واحد فحدث مرات بها على اختلاف ما سمعها - انتهى. وقال النووي: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن. قال البيهقي: كأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تسافر ثلاثًا بغير محرم فقال: لا، وسئل عن سفرها يومين بغير محرم

ص: 332

..............................................................................................

ــ

فقال: لا، وسئل عن سفرها يومًا فقال: لا، وكذلك البريد، فأدى كل منهم ما سمعه، وما جاء منها مختلفًا عن راو واحًد فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكله صحيح، وليس في كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفرًا، فالحاصل أن كل ما يسمى سفرًا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يومًا أو بريدًا أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة فإنها تتناول جميع ما يسمى سفرًا - انتهى. وقد يمكن أن يجمع بينها بأن اليوم المذكور مفردًا والليلة المذكورة مفردة بمعنى اليوم والليلة المجموعين فمن أطلق يومًا أراد بليلته أو ليلة أراد بيومها، وهكذا عادة العرب يطلقون الليالي ويريدون بعددها من الأيام، ويكون ذكره يومين مدة مغيبها في هذا السفر في الذهاب والإياب يعنى أشار عند جمعهما إلى مدة الذهاب والرجوع، وعند إفرادهما أشار إلى قدر ما تقضي فيه الحاجة، والثالث، أي الوسط بين السير والرجوع لقضاء الحاجة في المقصد فأشار مرة إلى مسافة السفر ومرة إلى مدة الغيبة، وهكذا ذكر الثلاث فقد يكون اليوم الوسط بين الذهاب والرجوع الذي يقضي حاجتها بحيث سافرت له ويحتمل أن يكون هذا كله تمثيلاً لأقل الأعداد وأوائلها إذا الواحد أول العدد وأقله والاثنان أول الكثير وأقله والثلاث أول الجمع وأقله، فكأنه أشار إلى أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير ذي محرم فكيف بما زاد عليه، ولهذا قال في الحديث الآخر ((ثلاثة أيام فصاعدًا)) وحاصله أنه نبه بمنع الخروج أقل كل عدد على منع خروجها من البلد مطلقًا إلا بمحرم أو زوج ويحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذكر ما دونها فيؤخذ بأقل ما ورد في ذلك، وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد فعلى هذا يتناول السفر طويل السير وقصيره، ولا يتوقف امتناع سير المرأة على مسافة القصر خلافًا للحنفية كذا في الفتح. وقال الشوكاني: قد ورد من حديث ابن عباس عند الطبراني ما يدل على اعتبار المحرم فيما دون البريد، ولفظه: لا تسافر المرأة ثلاثة أميال إلا مع زوج أو ذي محرم. وهذا هو الظاهر أعني الأخذ بأقل ما ورد لأن ما فوقه منهي عنه بالأولى، والتنصيص على ما فوقه كالتنصيص على الثلاث واليوم والليلة واليومين والليلتين لا ينافيه لأن الأقل موجود في ضمن الأكثر، وغاية الأمر أن النهى عن الأكثر يدل بمفهومه على أن ما دونه غير منهي عنه، والنهي عن الأقل منطوق وهو أرجح من المفهوم. وقالت الحنفية: إن المنع المقيد بالثلاث متحقق، وما عداه مشكوك فيه فيؤخذ بالمتيقن ونوقض بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر فينبغي الأخذ بها وطرح ما سواها، فإنه مشكوك فيه، ومن قواعد الحنفية تقديم الخبر العام على الخاص، وقد خالفوا ذلك هنا. والاختلاف إنما وقع في الأحاديث التي وقع فيها التقييد بخلاف حديث ابن عباس فإنه لم يختلف فيه عليه، فهو سالم من الاضطراب، فالأخذ به أولى وقيل: ليس هذا من المطلق والمقيد الذي وردت فيه قيود متعددة وإنما هو من العام لأنه نكرة في سياق النفي فيكون من العام الذي ذكرت بعض أفراده ولا تخصيص بذلك على الراجح في الأصول. وأعلم أنهم اختلفوا في اشتراط المحرم أو الزوج

ص: 333

..............................................................................................

ــ

لوجوب الحج على المرأة. قال ابن رشد: اختلفوا هل من شروط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو محرم منها؟ فقال مالك والشافعي: ليس من شرط الوجوب ذلك، وتخرج المرأة إلى الحج إذا وجدت رفقة مأمونة. وقال أبو حنيفة وأحمد وجماعة: وجود ذي المحرم ومطاوعته لها شرط في الوجوب، وسبب الخلاف معارضة الأمر بالحج للنهي عن سفر المرأة إلا مع ذي محرم، فمن غلب عموم الأمر قال: تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم، ومن خصص العموم بأحاديث النهي ورأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال: لا تسافر إلا مع ذي محرم - انتهى. وقال ابن دقيق العيد: هذه المسألة تتعلق بالنصين إذا تعارضا وكان كل واحد منهما عامًا من وجه خاصًا من وجه، بيانه أن قوله تعالى:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (3: 91) الآية. عام في الرجال والنساء فمقتضاه أن الاستطاعة على السفر إذا وجدت وجب الحج على الجميع، وقوله صلى الله عليه وسلم ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)) خاص بالنساء، عام في كل سفر فيدخل فيه الحج، فمن أخرجه عنه خص الحديث بعموم الآية، ومن أدخله فيه خص الآية بعموم الحديث فيحتاج إلى الترجيح من خارج - انتهى. قال الشوكاني: ويمكن أن يقال إن أحاديث النهي عن السفر من غير محرم لا تعارض الآية لأنها تضمنت أن المحرم في حق المرأة من جملة الاستطاعة على السفر التي أطلقها القرآن وليس فيها إثبات أمر غير الاستطاعة المشروطة حتى تكون من تعارض العمومين. لا يقال: الاستطاعة المذكورة قد بينت بالزاد والراحلة كما سيأتي، لأنا نقول: قد تضمنت أحاديث النهي زيادة على ذلك البيان باعتبار النساء غير منافية فيتعين قبولها على أن التصريح باشتراط المحرم في سفر الحج بخصوصه كما في حديث ابن عباس عند البزار والدارقطني وحديث أبي أمامة عند الطبراني مبطل لدعوى التعارض - انتهى. وقال النووي: أجمعت الأمة على أن المرأة يلزمها حجة الإسلام إذا استطاعت لعموم قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} واستطاعتها كاستطاعة الرجل، لكن اختلفوا في اشتراط المحرم لها، فأبو حنيفة يشترطه لوجوب الحج عليها إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل، ووافقه جماعة من أصحاب الحديث وأصحاب الرأي وحكي ذلك عن الحسن البصري والنخعي، وقال عطاء وسعيد بن جبير، وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه: لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها. قال أصحابنا: يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات ولا يلزمها الحج عندنا إلا بأحد هذه الأشياء، فلو وجدت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها لكن يجوز لها الحج معها هذا هو الصحيح. وقال بعض أصحابنا: يلزمها بوجود نسوة أو امرأة واحدة، وقد يكثر الأمن ولا تحتاج إلى أحد بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة، والمشهور من نصوص الشافعي وجماهير أصحابه هو الأول، واختلف أصحابنا في خروجها لحج التطوع وسفر الزيارة والتجارة ونحو ذلك من الأسفار التي ليست واجبة فقال بعضهم: يجوز لها الخروج فيها مع نسوة ثقات كحجة الإسلام. وقال الجمهور: لا يجوز إلا مع زوج أو محرم وهذا هو الصحيح للأحاديث

ص: 334

..............................................................................................

ــ

الصحيحة. وقال القاضي: واتفق العلماء أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم إلا الهجرة من دار الحرب فاتفقوا على أن تهاجر منها إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها محرم، والفرق بينهما أن إقامتها في دار الكفر. حرام إذا لم تستطع إظهار الدين وتخشى على دينها ونفسها وليس كذلك التأخر عن الحج فإنهم اختلفوا في الحج هل هو على الفور أم على التراخي - انتهى. وقال الخرقي: وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل. قال ابن قدامة (ج3 ص236) : ظاهره أن الحج لا يجب على التي لا محرم لها، وقد نص عليه أحمد فقال أبو داود: قلت لأحمد: امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج؟ قال: لا، وقال أيضًا: المحرم من السبيل. وهذا قول الحسن والنخعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وعن أحمد أن المحرم من شرائط لزوم السعي دون الوجوب، فمتي فاتها الحج بعد كمال الشرائط بموت أو مرض لا يرجى برؤه أخرج عنها حجة، لأن شروط الحج المختصة به قد كملت وإنما المحرم لحفظها. وعنه رواية ثالثة: أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب. قال الأثرم: سمعت أحمد يسأل: هل يكون الرجل محرمًا لأم امرأته يخرجها إلى الحج؟ فقال: أما في فريضة الحج فأرجو لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته، وأما في غيرها فلا والمذهب الأول، وعليه العمل، وقال ابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي: ليس المحرم شرطًا في حجها بحال، قال ابن سيرين: تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به. وقال مالك: تخرج مع جماعة النساء، وقال الشافعي: تخرج مع حرة مسلمة ثقة، وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول. قال ابن المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث واشترط كل واحد منهم شرطًا لا حجة معه، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة. وقال لعدي بن حاتم: يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخاف إلا الله. ولأنه سفر واجب فلم يشترط له المحرم كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار، ولنا ما روى أبو هريرة مرفوعًا: لا يحل لامرأه تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم. ثم ذكر حديث ابن عباس الذي نحن في شرحه، ثم قال: وروى ابن عمر وأبو سعيد نحوًا من حديث أبي هريرة. قال أبو عبد الله: أما أبو هريرة فيقول ((يومًا وليلة)) ويروى عن أبي هريرة ((لا تسافر سفرًا)) أيضًا، وأما حديث أبي سعيد ((يقول ثلاثة أيام، قلت: ما تقول أنت؟ قال: لا تسافر سفرًا قليلاً ولا كثيرًا إلا مع ذي محرم)) . وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم. وهذا صريح في الحكم، ولأنها أنشأت سفرًا في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع، وحديثهم محمول على الرجل بدليل أنهم اشترطوا خروج غيرها معها، فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثنا أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل، ويحتمل أنه أراد أن الزاد والراحلة يوجب الحج مع كمال بقية الشروط، ولذلك اشترطوا تخلية الطريق وإمكان المسير وقضاء الدين ونفقة العيال واشتراط كل واحد منهم في محل

ص: 335

..............................................................................................

ــ

النزاع شرطًا من عند نفسه لا من كتاب ولا من سنة، فما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاشتراط، ولو قدر التعارض فحديثنا أخص وأصح وأولى بالتقدم، وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض، ولم يذكر فيه خروج غيرها معها، وقد اشترطوا ها هنا خروج غيرها معها، وأما الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها، ولأنها تدفع ضررًا متيقنًا بتحمل الضرر المتوهم فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلاً - انتهى كلام ابن قدامة. وقال الطبري في القرى (ص 44) : وافق أبا حنيفة في اشتراط المحرم أو الزوج أصحاب الحديث، وهو قول النخعي والحسن البصري، وبه قال أحمد وإسحاق وهو أحد قولي الشافعي، قال البغوي في شرح السنة: والقول باشتراط المحرم أولى لظاهر الحديث، ولم يختلفوا أنها ليس لها الخروج في غير الفرض إلا مع محرم إلا في كافرة أسلمت في دار الحرب أو أسيرة تخلصت فيلزمها الخروج بلا محرم. وقال (ص 45) : ووجه دلالة حديث عدي على عدم ذلك اعتبار المحرم أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن خروج المرأة وحدها عند أمانها على نفسها فوجب وقوعه لا محالة. ودل ذلك على الجواز إذ لو حرم لبينه فإنه وقت حاجة لأنه كالواقع وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، وهذا القائل يحمل أحاديث اشتراط المحرم على حال الخوف والخطر جمعًا بينهما وعملاً بهما وذلك أولى من إهمال بعضها ويمكن أن يقال: الحديث دل على الوقوع لا على الجواز لا بطريق المطابقة ولا بالاستلزام لأنه ورد في معرض الثناء على حال الزمان بالأمن والعدل، وذكر خروج المرأة وحدها في معرض الاستدلال على ذلك سواء كان جائزًا أو غير جائز، فالجواز وعدمه مسكوت عنه ولا إشعار للفظ الخبر بهما لا نفيًا ولا إثباتًا، إذ لو قال عقيب كلامه: وارتحالها لذلك جائز لها لم يعد ذلك تكرارًا لما فهم من الأول ولا مؤكدًا للفظه، أو قال: وارتحالها محرم عليها لم يعد ذلك نقضًا له، كيف وفي قوله لا تخاف أحدًا إلا الله إشعار بالحرمة إذ لو يحرم عليها ذلك لما خافت الله تعالى، وأما قوله ((وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز)) فمسلم ولم يتأخر، فإن أحاديث اشتراط المحرم إن ثبت الخطاب بها قبل هذا الحديث، فالتحريم ثابت عندهم، وليس في لفظ هذا الحديث ما يناقضه فيحمل على ما ذكرناه وإن كان الخطاب بها متأخرًا عن هذا الحديث فقد بين صلى الله عليه وسلم ما سكت فيه عنه مما احتمل إرادته قبل موته فلم يتأخر البيان عن وقت الحاجة على الحالين، وهذا هو الظاهر عندي وإن كان الصحيح من مذهب الشافعي خلافه – انتهى. قال الحافظ: ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات إذا أمن الطريق أول أحاديث باب حج النساء (يعني به حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: أذن عمر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف) لاتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك، ومن أبى ذلك من

ص: 336

فقال رجل: يا رسول الله! اكتتبت في غزوة

ــ

أمهات المؤمنين فإنما أباه من جهة خاصة لا من جهة توقف السفر على المحرم. وأجيب بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن أمهات المؤمنين وهم محارم لهن، لأن المحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد، فكذلك أمهات المؤمنين حرام على غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ثم إنه اختلف القائلون باشتراط المحرم للمرأة أن وجود الزوج أو المحرم شرط الوجوب أو شرط وجوب الأداء فللحنفية فيه قولان، والذي اختاره في فتح القدير أنه مع الصحة وأمن الطريق شرط وجوب الأداء فيجب الإيصاء إن منع المرض أو خوف الطريق أو لم يوجد زوج ولا محرم ويجب عليها التزوج عند فقد المحرم، وعلى الأول لا يجب شيء من ذلك كما في البحر وفي النهر، وصحح الأول في البدائع ورجع الثاني ففي النهاية تبعًا لقاضي خان، لكن جزم في اللباب أنه لا يجب عليها التزوج مع أنه مشى على جعل المحرم أو الزوج شرط أداء، ورجع هذا في الجوهرة وابن أمير الحاج في المناسك ووجهه أنه لا يحصل غرضها بالتزوج لأن للزوج أن يمتنع من الخروج معها بعد أن يملكها، ولا تقدر على الخلاص منه، وربما لا يوافقها فتضرر منه بخلاف المحرم، فإنه إن وافقها أنفقت عليه، وإن امتنع أمسكت نفقتها وتركت الحج وقال المرداوي من الحنابلة: المحرم من شرائط الوجوب كالاستطاعة وغيرها وعليه أكثر الأصحاب، ونقله الجماعة عن الإمام أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي وقدمه في المحرم والفروع والحاويين والرعايتين وجزم به في المنهاج والإفادات. قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب وهو من المفردات، وعنه أن المحرم من شرائط لزوم أداء الحج (فلا يمنع الوجوب والاستقرار في الذمة) ، وجزم به في الوجيز وأطلقه الزركشي – انتهى. وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الإيصاء به ثم لفظ ((امرأة)) في الحديث عام يشمل الشابة والعجوز لكن خص أبو الوليد الباجي المنع بغير العجوز التي لا تشتهى، أما هي فتسافر كيف شاءت في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم وتعقب بأن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة، ولو كانت كبيرة. وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروته وخيانته ونحو ذلك. وأجيب بأن الكلام إنما هي فيمن لا تشتهى أصلاً ورأسًا ولا نسلم أن من هي بهذه المثابة مظنة الطمع والميل إليها بوجه. قال ابن دقيق العيد: والذي قاله الباجي تخصيص العموم بالنظر إلى المعنى يعنى مراعاة الأمر الأغلب والمتعقب راعى الأمر النادر وهو الاحتياط. قال: والمتعقب على الباجي يرى جواز سفر المرأة وحدها في الأمن وسيرها في جملة القافلة فقد نظر أيضًا إلى المعنى مع كونه مخالفًا لظاهر الحديث يعنى فليس له أن ينكر على الباجي، وهذا الذي قاله من جواز سفرها وحدها هو قول للشافعي، نقله الكرابيسي، ولكن المشهور عن الشافعية اشتراط الزوج أو المحرم أو النسوة الثقات ولا يشترط أن يخرج معهن محرم أو زوج لإحداهن لانقطاع الأطماع باجتماعهن (فقال رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسم الرجل ولا امرأته ولا على تعيين الغزوة المذكورة (اكتتبت) بصيغة المجهول المتكلم من باب الافتعال (في غزوة

ص: 337

كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة. قال: اذهب فحج مع امرأتك. متفق عليه.

2538-

(10) وعن عائشة قالت: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد. فقال: جهادكن الحج.

ــ

كذا وكذا) ، أي كتبت نفسي في أسماء من عين لتلك الغزوة، وقيل: كتب وأثبت اسمي فيمن يخرج إلى غزوة كذا (وخرجت امرأتي حاجة) أي أرادت أن تخرج محرمة للحج أو قاصدة له، يعني وليس معها أحد من المحارم، وفي رواية للبخاري: إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج (اذهب فاحجج) بضم الجيم الأولى (مع امرأتك) قال الحافظ: أخذ بظاهرة بعض أهل العلم فأوجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية، والمشهور أنه لا يلزمه كالولي في الحج عن المريض فلو امتنع إلا بأجرة لزمها لأنه من سبيلها فصار في حقها كالمؤنة، واستدل به على أنه ليس للزوج منع امرأته من حج الفرض، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن له منعها لكون الحج على التراخي وأما ما رواه الدارقطني من طريق إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج فليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها، فأجيب عنه بأنه محمول على حج التطوع عملاً بالحديثين ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للزوج المنع من الخروج في الأسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما كان واجبًا - انتهى. وعند الحنفية ليس لزوجها منعها عن حجة الإسلام إذا كان معها محرم، وألا فله منعها، ولو خرج معها زوجها فلا نفقة له عليها بل هي لها عليه النفقة وإن لم يخرج معها فكذلك عند أبي يوسف، وقال محمد: لا نفقة لها لأنها مانعة نفسها بفعلها، وارجع إلى المغني (ج3 ص240) قال النووي: وفي الحديث تقديم الأهم فالأهم من الأمور المتعارضة لأنه لما تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها رجح الحج معها، لأن الغزو يقوم غيره في مقامه بخلاف الحج معها فإنه لا يقوم غيره مقامه في السفر معها إذا لم يكن لها محرم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج وفي الجهاد وفي النكاح، ومسلم في الحج واللفظ للبخاري في الجهاد، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1 ص222) ، والشافعي (ج1 ص290، 291) .

2538-

قوله (وعن عائشة قالت: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: جهادكن الحج) أي لا جهاد عليكن وعليكن الحج إذا استطعتن، وسماه جهادًا لما فيه من مجاهدة النفس ومشقة السفر وأتعاب البدن ومفارقة الأهل والوطن. والحديث رواه البخاري بألفاظ، واللفظ المذكور له في باب جهاد النساء من كتاب الجهاد والسير، وفي رواية له في الباب المذكور ((عن عائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم سأله نساءه عن الجهاد فقال: نعم الجهاد الحج)) ورواه في باب فضل الحج المبرور من أوائل كتاب الحج وفي أول الجهاد بلفظ ((عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور)) ورواه بنحوه أيضًا في باب حج النساء، وزاد ((فقالت عائشة: فلا أدع

ص: 338

متفق عليه.

2539-

(11) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر

ــ

الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه النسائي بلفظ ((ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أري عملاً في القرآن أفضل من الجهاد، قال: لا، ولكن أفضل الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور)) . ورواه ابن ماجة بلفظ ((قلت: يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة)) وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث، وفي رواية للبيهقي ((عن عائشة قالت: استأذنه نساءه في الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم: يكفيكن الحج، أو جهادكن الحج)) . قال ابن بطال: دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء وإنهمن غير داخلات في قوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً} (- 9: 41) وهو إجماع ولكن ليس في قوله ((جهادكن الحج)) إنه ليس أن يتطوعن بالجهاد، وإنما فيه أن الحج أفضل لهن، وإنما لم يكن الجهاد عليهن واجبًا لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال والحج يمكنهن فيه مجانبة الرجال والاستتار فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد. قال: وزعم بعض من ينقص عائشة في قصة الجمل أن قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (- 33: 33) يقتضي تحريم السفر عليهن، قال: وهذا الحديث يرد عليهم لأنه قال: ((لكن أفضل الجهاد)) فدل على أن لهن جهادًا غير الحج، والحج أفضل منه - انتهى. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد بقوله ((لا)) في جواب قولهن ((ألا نخرج فنجاهد معك)) ؟ أي ليس ذلك واجبًا عليكن كما وجب على الرجال، ولم يرد بذلك تحريمه عليهن، فقد ثبت في حديث أم عطية أنهن كن يخرجن فيداوين الجرحى، وفهمت عائشة ومن وافقها من هذا الترغيب في الحج إباحة تكريره لهن كما أبيح للرجال تكرير الجهاد، وخص به عموم قوله في حديث أبي واقد عند أحمد وأبي داود وغيرهما:((هذه ثم ظهور الحصر)) وقوله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وكان عمر متوقفًا في ذلك ثم ظهر له قوة دليلها، فأذن لهن في آخر خلافته ثم كان عثمان بعد يحج بهن في خلافته أيضًا، وقد وقف بعضهن عند ظاهر النهي. وقال البيهقي: في حديث عائشة هذا دليل على أن المراد بحديث أبي واقد وجوب الحج عليهن مرة واحدة كما بين وجوبه على الرجال مرة لا المنع من الزيادة. وفيه دليل على أن الأمر بالقرار في البيوت ليس على سبيل الوجوب (متفق عليه) هذا وهم من المصنف فإن الحديث من أفراد البخاري لم يخرجه مسلم في صحيحه أصلاً، ولم يعزه لمسلم أحد غير المصنف فيما أعلم، وأخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجة كلاهما في الحج، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي (ج4 ص326) وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه النسائي بإسناد صحيح بلفظ:((جهاد الكبير أي العاجز والصغير والضعيف والمرأة الحج والعمرة)) .

2539-

قوله (لا تسافر) للحج أو غيره سواء كان بالسيارة أو بالطيارة أو بالقطار، وهو نفي معناه نهي.

ص: 339

امرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم. متفق عليه.

ــ

قال القاري: وفي نسخة، أي من المشكاة بصيغة النهي (امرأة) أي شابة أو عجوز، وقوله:((لا تسافر امرأة)) كذا وقع في المشكاة والمصابيح، وفي الصحيحين ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر)) (مسيرة يوم وليلة) مصدر ميمي بمعنى السير كالمعيشة بمعنى العيش، واختلف الرواية عن أبي هريرة أيضًا في ذكر المدة ففي رواية للشيخين مسيرة يوم وليلة وهي المذكورة في الكتاب، وفي أخرى لمسلم ((مسيرة يوم)) وفي أخرى له ((مسيرة ليلة)) وفي أخرى له أيضًا ((أن تسافر ثلاثًا)) وفي رواية لأبي داود ((بريدًا)) وقد تقدم الكلام في ذلك، وأنه ليس المراد التحديد بل المدار على ما يسمى سفرًا، والاختلاف إنما وقع لاختلاف السائل والمواطن، وليس هو من المطلق والمقيد بل من العام الذي ذكرت بعض أفراده وذا لا يخصص على الأصح (إلا ومعها ذو محرم) ، وفي مسلم ((إلا مع ذي محرم عليها)) ولفظ البخاري ((ليس معها حرمة)) وفي أخرى لمسلم ((إلا ومعها رجل ذو حرمة منها)) وقوله ((ذو محرم)) هكذا وقع في الروايات، قيل: والظاهر أن لفظ ((ذو)) مقحم فإن المحرم للمرأة هو من لا يحل له نكاحها، وقيل: المراد ((ذو رحم محرم)) أي ذو قرابة محرم تزوجها. قال في القاموس: ورحم محرم، محرم تزوجها. قال صاحب تسير العلام: المرأة مظنة الشهوة والطمع وهي لا تكاد تقي نفسها لضعفها ونقصها ولا يغار عليها مثل محارمها الذين يرون أن النيل منها نيل من شرفهم وعرضهم، والرجل الأجنبي حينما يخلو بالأجنبية يكون معرضًا لفتن الشيطان ووساوسه، لهذه المحاذير التي هي وسيلة في وقوع الفاحشة وانتهاك الأعراض حرم الشارع على المرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم. قال: واختلفوا هل المرأة مستطيعة الحج بدون المحرم إذا كانت ذات مال أم أن وجود المحرم شرط في الاستطاعة؟ الصحيح أنه لا يحل له خروجها بدون محرم لأي سفر فتكون معذورة غير مستطيعة، واختلفوا في الكبيرة التي لا تميل إليها النفس هل تسافر بدون محرم؟ أم لا بد من المحرم؟ الصحيح الأخير، لأن الحديث عام في كل امرأة ولا يخلو الأمر من محذور فلكل ساقطة لاقطة. واختلفوا هل يكفي أن تكون مع رفقة أمينة أو تسافر مع امرأة مسلمة ثقة أم لا؟ الصحيح أنه لا بد من المحرم لعموم الحديث، ولأن غيرة المحرم ونظره مفقودان. واختلفوا في تحديد السفر تبعًا لاختلاف الأحاديث، والأحوط أن يؤخذ بأقلها لأنه لا ينافي ما فوقه، ويكون ما فوقه قضايا عين حسب حال السائل، والله أعلم. قال: وإذا قارنت حال المسلمين اليوم بهذه النصوص الصحيحة والآداب العالية والغيرة الكريمة والشهامة النبيلة والمحافظة على الفروج والأعراض وحفظ الأنساب وجدت كثيرًا من المسلمين قد نبذوا دينهم وراءهم ظهريًا ومرقوًا منه وصار التصون والحياء ضربًا من الرجعية والجمود. أما الانحلال الخلقي وخلع رداء الحياء والعفاف فهو التقدم والرقي فإنا لله وإنا إليه راجعون (متفق عليه) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة، ومسلم في الحج. وأخرجه أيضًا أحمد مرارًا ومالك في كتاب الجامع من الموطأ والشافعي في

ص: 340

2540-

(12) وعن ابن عباس قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

المسند (ج1 ص291) ، والترمذي في الرضاع وأبو داود، وابن ماجة في الحج، والحاكم (ج1 ص442) والبيهقي (ج5 ص227) .

2540-

قوله (وقت) أي حدد وعين المواضع الآتية للإحرام وجعلها ميقاتًا، وإن كان مأخوذًا من الوقت وهو المقدار من الزمان إلا أن العرف يستعمله في مطلق التحديد اتساعًا. قال الحافظ: أصل التوقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضًا. وقال ابن الأثير في النهاية: التوقيت والتأقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، يقال: وقت الشيء بالتشديد يوقته ووقت بالتخفيف يقته إذا بين مدته، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان فقيل للموضع ميقات. وقال ابن دقيق العيد: قيل إن التوقيت في الأصل ذكر الوقت، والصواب أن يقال: تعليق الحكم بالوقت ثم استعمل في التحديد للشيء مطلقًا لأن التوقيت تحديد بالوقت فيصير التحديد من لوازم التوقيت فيطلق عليه التوقيت، وقوله ها هنا ((وقت)) يحتمل أن يراد به التحديد أي حد هذه المواضع للإحرام ويحتمل أن يراد بذلك تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشرط المعتبر. وقال عياض: وقت أي حدد وجعل لهم ميقاتًا، وحد الحد الذي يحرمون منه والمواقيت كلها حدود للعبادات، وقد يكون وقت بمعنى أوجب عليهم الإحرام منه، ومنه قوله تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (- 4: 103) ويؤيده حديث ابن عمر عند البخاري بلفظ فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الولي العراقي: معنى التوقيت بهذه المواقيت أنه لا يجوز لمريد النسك أن يجاوزها غير محرم، والدليل على وجوب ذلك من أوجه (أحدها) أنه عليه الصلاة والسلام جعلها ميقاتًا للإحرام وقال:((خذوا عني مناسككم)) فلزمنا الوقوف عند ذلك (ثانيها) أنه قال في الرواية الأخرى ((يهل أهل المدنية من ذي الحليفة)) إلى آخر الحديث، فأتى به بلفظ الخبر، وهو هنا بمعنى الأمر، وإنما يستعمل الأمر بصيغة الخير لتأكده، والأمر المتأكد للوجوب (ثالثها) أنه قد ورد الأمر صريحًا في قوله في رواية البخاري وغيره ((من أين تأمرنا أن نهل)) وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وبين له مواضع الإهلال المأمور بها، وفي قوله في رواية مسلم من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر ((أمر رسول الله أهل المدنية أن يهلوا من ذي الحليفة)) الحديث (رابعها) أن في صحيح البخاري من حديث ابن عمر ((فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وذكر الحديث. وافتراض المواقيت صريح فيما ذكرناه، ولذلك بوب عليه البخاري ((فرض مواقيت الحج والعمرة)) وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور. وقالوا: لو تركها لزمه دم. قال الشيخ تقي الدين: وإيجاب الدم من غير هذا الحديث، وكأنه

ص: 341

لأهل المدينة ذا الحليفة،

ــ

يحتاج إلى مقدمة أخرى. ثم قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وآخرون: متى عاد إلى الميقات قبل التلبس بنسك سقط عنه الدم. وقال أبو حنيفة: إنما يسقط عنه الدم إذا عاد إليه ملبيًا، فإن عاد غير ملب استمر لزوم الدم. وقال عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وزفر: لا يسقط الدم بعوده إليه مطلقًا. وقال مالك: إن عاد إليه قبل أن يبعد عنه وهو حلال سقط، وإن عاد بعد البعد والإحرام لم يسقط، وأعلم أنه حكى الأثرم عن الإمام أحمد أنه سئل في أي سنة وقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت؟ فقال: عام حج – انتهى، كذا ذكره الحافظ وغيره من الشراح واكتفوا بذكره في مبدأ المواقيت. وروى البخاري في العلم من حديث ابن عمر ((أن رجلاً قام في المسجد فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يهل أهل المدينة من ذي الحليفة)) الحديث. ويشكل على ذلك أنهم تصدوا جميعًا للاعتذار عن مجاوزة أبي قتادة عام الحديبية عن المواقيت بغير إحرام وذكروا لذلك توجيهات مختلفة، وإذا كان التوقيت عام حجة الوداع لم يكن حاجة إلى الجواب والاعتذار عنه (لأهل المدينة) النبوية، أي سكانها ومن سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم (ذا الحليفة) مفعول وقت، والحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام تصغير الحلفة بفتحات نبت معروف، وذو الحليفة موضع معروف بقرب المدينة بينه وبينها ستة أميال قاله النووي وقبله الغزالي والقاضي عياض والشافعي كما في المعرفة، وكذا قال المجد في القاموس وياقوت الحموي في المعجم، وزادا كالقاضي أنه من مياه بني جشم بالجيم والشين المعجمة بين بني خفاجة من عقيل وقال ابن حزم: هو على أربعة أميال من المدينة، وقال السمهودي في وفاء الوفاء (ص 1194) : وقد اختبرت ذلك بالمساحة فكان من عتبة باب المسجد النبوي المعروف ببات السلام إلى عتبة باب مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع وسبعمائة ذراع واثنين وثلاثين ذراعًا ونصف ذراع بذراع اليد (وذراع اليد على ما ذكره المحب الطبري والنووي وغيرهما أربعة وعشرون إصبعًا، كل إصبع ست شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض) وذلك خمسة أميال وثلثا ميل ينقص مائة ذراع - انتهى. وقيل: ذلك دون خمسة أميال، فإن الميل عند الحنفية أربعة آلاف ذراع بذراع الحديد المستعمل الآن. وقال الحافظ: ذو الحليفة مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين، قاله ابن حزم (ج7 ص70) وقال غيره: بينهما عشر مراحل، قال: وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب وبها بئر يقال لها بئر علي - انتهى. وعلي هذا ليس بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال العيني: وبذي الحليفة عدة آبار ومسجدان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، المسجد الكبير الذي يحرم منه الناس، والمسجد الآخر مسجد المعرس - انتهى. وقال صاحب تيسير العلام: ذو الحليفة تسمى الآن آبار علي، وتبعد عن مكة بالمراحل (10) وبالفراسخ (80) وبالأميال (240) وبالكيلوات (430) والمرحلة هي مسيرة يوم وليلة بسير الإبل المحملة بالأثقال سيرًا معتادًا

ص: 342

ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد

ــ

ويقدر بها العرب الأوائل فأخذها عنهم العلماء (ولأهل الشام) ، أي ومن سلك طريقهم فمر بميقاتهم، والشام بلاد معروفة وهي من العريش إلى بالس، وقيل إلى الفرات قاله النووي في شرح أبي داود، قال القاري: قوله ((ولأهل الشام)) أي من طريقهم القديم لأنهم الآن يمرون على مدينة النبي الكريم - انتهى. وقال ابن حجر المكي الهيتمي: قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولأهل الشام الجحفة)) ، أي إذا لم يمروا بطريق المدينة وإلا لزمهم الإحرام من الحليفة إجماعًا على ما قاله النووي، قال القاري: وهذا غريب منه وعجيب، فإن المالكية وأبا ثور (وابن المنذر وهما من الشافعية) يقولون بأن له التأخير إلى الجحفة، وعندنا معشر الحنفية يجوز للمدني أيضًا تأخيره إلى الجحفة، فدعوى الإجماع باطلة مع وقوع النزاع - انتهى. قلت: وسيأتي الكلام في هذا مفصلاً ووقع في حديث عائشة عند النسائي ((ولأهل الشام ومصر الجحفة)) قال الولي العراقي: هذه زيادة يجب الأخذ بها وعليها العمل. وروى الشافعي بسنده عن عطاء مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل المغرب (الجحفة) بضم الجيم وإسكان الحاء المهملة وفتح الفاء قرية كبيرة كانت عامرة ذات منبر وهي الآن خربة بينها وبين البحر الأحمر بالأميال (6) وبالكيلوات (10) قال ابن حزم: وهي فيما بين المغرب والشمال من مكة، ومنها إلى مكة اثنان وثمانون ميلاً. وقال صاحب التيسير: تبعد عن مكة بالمراحل (5) وبالفراسخ (40) وبالأميال (120) وبالكيلوات (201) ويحرم منها أهل مصر والشام والمغرب ومن ورائهم من أهل الأندلس والروم والتكرور. قيل: إنها ذهبت أعلامها ولم يبق إلا رسوم خفية لا يكاد يعرفها إلا سكان بعض البوادي، فلذا - والله تعالى أعلم - اختار الناس الإحرام احتياطًا من المكان المسمى برابغ براء وموحدة وغين معجمة بوزن فاعل لأنها قرية قبل حذائها بقليل، وقيل: لا يحرمون من الجحفة لوخمها وكثرة حماها فلا ينزلها أحد إلا حم. وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عند الشيخين ((مهيعة)) بفتح الميم وإسكان الهاء وفتح التحتية والعين المهملة بوزن علقمة، وقيل: بكسر الهاء مع إسكان الياء على وزن لطيفة، والصحيح المشهور الأول. وسميت الجحفة لأن السيل أجحف بها، قال ابن الكلبي: كان العماليق يسكنون يثرب فوقع بينهم وبين بني عبيل - بفتح المهملة وكسر الموحدة، وهم إخوة عاد - حرب فأخرجوهم من يثرب فنزلوا مهيعة فجاء سيل فاجتحفهم أي: استأصلهم فسميت الجحفة (ولأهل نجد) أي: ساكنيها ومن سلك طريق سفرهم فمر بمياقتهم. ونجد بفتح النون وإسكان الجيم وآخره دال مهملة. قال الحافظ: هو كل مكان مرتفع، وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد منها هنا التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها الشام والعراق. وقال ياقوت: نجد تسعة مواضع، ونجد المشهور فيها اختلاف كثير، والأكثر أنها اسم للأرض التي أعلاها تهامة وأسفلها العراق والشام. وقال الخطابي: نجد ناحية المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها وهي مشرق أهلها، وذكر في المنتهى: نجد من بلاد العرب وهو خلاف الغور أعني تهامة، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض

ص: 343

قرن المنازل،

ــ

العراق فهو نجد. وقال عياض في المشارق وأبو عمر: نجد ما بين الجرش إلى سواد الكوفة. وحده مما يلي لمغرب الحجاز وعن يسار الكعبة اليمن. ونجد كلها من عمل اليمامة. قال السمهودي: والصواب أن الذي من عمل اليمامة موضع مخصوص من نجد لا كله. وقال في النهاية: النجد ما ارتفع من الأرض وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما يلي العراق - انتهى. وهو مذكر، قال الشاعر:

ألم تر أن الليل يقصر طوله

بنجد ويزداد النطاف به نجدا

ولو أنثه أحد ورده على البلاد لجاز له ذلك (قرن المنازل) بلفظ: جمع المنزل والمركب الإضافي هو اسم المكان ويقال له قرن أيضًا بلا إضافة كما ورد في رواية للشيخين، وأحمد، ومالك وغيرهم، وهو بفتح القاف وسكون الراء بعدها نون، وضبطه صاحب الصحاح بفتح الراء وغلطوه. وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك، لكن حكى عياض عن تعليق القابسي: أن من قاله بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه فإنه موضع فيه طريق متفرق. والجبل المذكور بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان. وحكى الرؤياني عن بعض قدماء الشافعية أن المكان الذي يقال له قرن موضعان: أحدهما في هبوط وهو الذي يقال له قرن المنازل، والآخر في صعود وهو الذي يقال له قرن الثعالب، والمعروف الأول، وفي أخبار مكة للفاكهي: إن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع، وقيل له قرن الثعالب لكثرة ما كان يأوى إليه من الثعالب، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت، وقد وقع ذكره في حديث عائشة في إتيان النبي صلى الله عليه وسلم الطائف يدعوهم إلى الإسلام وردهم عليه، قال: فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، الحديث. وذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية، ووقع في مرسل عطاء عند الشافعي في الأم (ج2: ص117) ولأهل نجد قرنًا ولمن سلك نجدًا من أهل اليمن وغيرهم قرن المنازل، ووقع في عبارة القاضي حسين في سياقه لحديث ابن عباس هذا ((ولأهل نجد اليمن ونجد الحجاز قرن)) ، وهذا لا يوجد في شيء من طرق حديث ابن عباس، وإنما يوجد ذلك من مرسل عطاء وهو المعتمد، فإن لأهل اليمن إذا قصدوا مكة طريقين إحداهما طريق أهل الجبال وهم يصلون إلى قرن أو يحاوذنه وهو ميقاتهم كما هو ميقات أهل المشرق، والأخرى طريق أهل تهامة، فيمرون بيلملم أو يحاوذنه وهو ميقاتهم لا يشاركهم فيه إلا من أتى عليه من غيرهم كذا في الفتح. وقال المحب الطبري: قرن المنازل وقرن الثعالب واحد وهو تلقاء ذات عرق على مرحلتين من مكة وهو ميقات أهل النجدين نجد الحجاز ونجد تهامة واليمن وقال ابن حزم: قرن شرق من مكة ومنها إلى مكة اثنان وأربعون ميلاً. وقال صاحب التيسير: وقرن لها معان أحدها أعلى الجبل ويسمى هذا المحرم الآن السير الكبير ويبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80) ويحرم منه أهل الطائف وأهل نجد نجد اليمن ونجد الحجاز وأهل الكويت فائدة

ص: 344

ولأهل اليمن يلملم،

ــ

قال ابن جاسر في ((مفيد الأنام)) : إذا ركب إنسان طائرة من نجد قاصدًا مكة لأداء نسكه فميقاته الشرعي ((قرن)) المعروف بالسيل وحيث أنه لا يتمكن من النزول بالطائرة في الميقات المذكور وقصد جدة لينزل في مطارها فإن الواجب عليه - والحالة ما ذكر - نية الإحرام في الطائرة إذا أتى على الميقات - قرن -المذكور أو على ما يحاذيه، فإذا نزل بجدة محرمًا قصد مكة لأداء نسكه، ولا يجوز له ترك الإحرام إذا أتى على الميقات أو حاذاه بقصد الإحرام من جدة لأن الإحرام من الميقات أو ما يحاذيه واجب، وتجاوزه بغير إحرام محرم، وفيه دم، ومثله إذا ركب طائرة من المدينة ونحوها قاصدًا مكة، والله أعلم - انتهى. (ولأهل اليمن) إذا مروا بطريق تهامة ومن سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم. قال في المواهب اللطيفة: أراد به بعض أهل اليمن ممن يسكن تهامة فإن اليمن يشمل نجدًا وتهامة، وقوله فيما تقدم لأهل نجد عام يشمل نجد الحجاز ونجد اليمن. وقال الولي العراقي: قال أصحابنا وغيرهم: المراد بكون يلملم ميقات أهل اليمن بعض اليمن وهو تهامة، فأما نجد فإن ميقاته قرن، وذلك لأن اليمن يشمل نجدًا وتهامة فأطلق اليمن وأريد بعضه وهو تهامة منه خاصة، وقوله فيما تقدم ((نجد)) تناول نجد الحجاز ونجد اليمن وكلاهما ميقات أهله قرن (يلملم) بفتح التحتانية واللام وسكون الميم بعدها لام مفتوحة ثم ميم، وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة، وقال ابن حزم: هو جنوب من مكة، ومنه إلى مكة ثلاثون ميلاً. وفي شرح المهذب يصرف ولا يصرف. قال العيني: إن أريد الجبل فمنصرف، وإن أريد البقعة فغير منصرف البتة بخلاف قرن، فإنه على تقدير إرادة البقعة يجوز صرفه لأجل سكون وسطه. ويقال فيه ((ألملم)) بالهمزة وهو الأصل والياء تسهيل لها، وحكى ابن سيده فيه ((يرموم)) براءين بدل اللامين. قال العيني: ووزن يلملم فعمعل كصمحمح، وليس هو من لملمت لأن ذوات الأربعة لا يلحقها الزيادة في أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو مدحرج، قال: فلأجل هذا حكمنا بأن الميم الأولى واللام الثانية زائدتان، ولهذا قال الجوهري في باب الميم وفصل الباء: يلم ثم قال ((يلملم)) لغة في الملم وهو ميقات أهل اليمن - انتهى. وقال صاحب التيسير: وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48) وبالكليوات (80) ويحرم منه أهل اليمن وأهل جاوه وأهل الهند والصين - انتهى. قلت: قد جرى عمل حجاج الهند والباكستان الذين يسافرون للحج من طريق البحر أنهم إذا وصلت باخرتهم قريبًا من بعض سواحل اليمن وكانوا على يوم وليلة أو أكثر من ميناء جدة يحرمون هناك في البحر بناء على زعمهم أنهم يحاذون إذ ذاك جبل ((يلملم)) الذي هو ميقات أهل اليمن ومن سلك طريقهم في البر إلى الحرم المكي، والذي هو على مرحلتين من مكة، أي على بعد ثمان وأربعين ميلاً منها، وعندي عملهم هذا محل نظر وبحث، بل الصواب عندي أنه لا يجب عليهم الإحرام في البحر في أي محل كانوا، أي قبل وصولهم إلى جدة بل لهم أن يؤخروا الإحرام حتى ينزلوا في ميناء جدة فيحرموا منها، وهذا يحتاج إلى شيء من البسط والتوضيح، فاعلم أن الأرض حول مكة في

ص: 345

..............................................................................................

ــ

جهاتها الأربع قد جعلت حرمًا وحدث لذلك حدود عينها إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر الله تعالى، ثم قررها نبينا صلى الله عليه وسلم، فحرم مكة ما أحاط وأطاف بها من جوانبها الأربع، ومسافة تلك الحدود من الكعبة المشرفة والمسجد الحرام ليست متساوية بل متفاوتة، فهي تنتهي على بعد عشرة أميال في جهة الحديبية وجدة وكذا في جهة الطائف، وتسعة في أخرى، أي الجعرانة، وسبعة في ناحية، أي في جهة عرفات والعراق، وكذا في جهة اليمن، وثلاثة فقط في أخرى، أي في جهة التنعيم. وقد نصبت علامات لانتهاء الحرم في الجهات المذكورة، وإذا وصلت هذه العلامات بخطوط مستقيمة بينها تحدث من ذلك خارطة تشبه شكلاً مخمسًا ويكون طول الحرم حول مكة سبعة وثلاثين ميلاً وهي التي تدور بأنصاب الحرم المبنية في جميع جوانبه، وقد جعل الله تعالى هذه المنطقة المحاطة بالخطوط حرمًا يجب تكريمه واحترامه، وشرع له أحكامًا يختص به، فمثلاً لا يقتل صيدها ولا يختلى خلاه ولا يعضد شجرها وغير ذلك من الأحكام، وحرمة هذه القطعة من الأرض ليست إلا لأن لها علاقة ونسبة ببيت الله الحرام وهو في الحقيقة تكريم للكعبة وإجلال للبيت. ثم إن خارج تلك الحدود على بعد عشرات من الأميال قد وقتت خمس أماكن للقادمين إلى مكة للحج والعمرة يقال لها المواقيت جمع الميقات، وهي خمسة: ذو الحليفة، الجحفة، قرن المنازل، يلملم، ذات عرق. قد عين النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمكنة ميقاتًا للحجاج القادمين من طرفها، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز لأحد يمر على واحد من هذه المواقيت الخمسة المنصوصة وهو يريد الحج أو العمرة أن يتجاوزه بدون الإحرام، فإن جاوزه غير محرم فقد أساء الأدب ببيت الله الحرام وعليه دم عند الجمهور، وإن سلك أحد طريقًا لا يقع فيها أي واحد من هذه المواقيت فإنه لا بد أن يمر بمحاذاته في محل ما فعليه أن يحرم قبل أن يتجاوز محل محاذاته، فإن لم يستطع أن يعرف محل المحاذاة فعليه أن يحرم قبل مرحلتين من مكة المكرمة. وبعد هذا فاعلم أن في الزمن القديم حينما كان السفر في البحر بالسفن الشراعية كان الحجاج القادمون من الهند والبلاد الشرقية ينزلون على واحدة من موانئ اليمن مثل الحديدة أو غيرها ثم يسافرون منها إلى مكة المكرمة في البر من طريق اليمن، ولذا كان الواجب عليهم أن يحرموا من يلملم)) لأن ميقات أهل اليمن ومن أتي من طريقهم يلملم، ولكن في زمننا هذا لا ترسي بواخر حجاج الهند والباكستان في موانئ اليمن بل تقطع طريقها في البحر رأسًا إلى جدة وترسي في مينائها، ولذا لا يقع يلملم في طريقهم ولا يمرون على خط محاذاتها أيضًا فليس هناك وجه معقول لا يجاب الإحرام عليهم في البحر قبل وصول باخرتهم إلى جدة، ولكن قد جرى العمل على أن ربان باخرة الحجاج القادمة من الهند أو الباكستان يعلن قبل الوصول إلى جدة بيوم وليلة أو أكثر بأن الباخرة ستمر قريبًا من جبل يلملم في الوقت الفلاني فعلى الحجاج أن يتأهبوا ويحرموا قبل ذلك، فالحجاج يحرمون في ذاك المحل من البحر عملاً بهذا الإعلان، فإن كان معناه أن جبل يلملم يرى بالتلسكوب (المنظار) وأمثالها من الآلات من ذلك المحل الذي يبعد منه

ص: 346

..............................................................................................

ــ

أكثر من خمسين ميلاً يقينًا فلا علاقة لهذه الرؤية بمسألة المحاذاة المعتبرة. وإن كان معناه أنه يمكن أن يخط خط مستقيم إلى جبل يلملم من ذلك المحل فهذا الإمكان متحقق من كل محل ولا يختص بمحل دون آخر، وعلى كل حال فإن المسألة ما زالت غير واضحة لي مع أني وافقتهم في الإحرام في ذاك المحل سنة 75، وسنة 82 من الهجرة، فأحرمت حيثما أحرموا وذلك لأنه لا شبهة في جواز الإحرام قبل الميقات عند الجمهور، وبما أنه لا يقع، أي ميقات في طريق بواخر الحجاج القادمة من الهند أو الباكستان ولا يحاذي أي واحد منها بل تقطع طريقها في البحر في حدود الآفاق، أي إلى غير جهة الحرم بعيدة عن يلملم الذي هو جبل من جبال تهامة وقريب من مكة المكرمة فلا يمكن لأية باخرة أو سفينة أن تتجاوزه أو تتجاوز خط محاذاته إلى جهة الحرم قبل وصولها إلى جدة ولو كانت تجرى على الساحل، وقد ذكرنا فيما سبق أن الحدود التي حدها رسول الله صلى الله عليه وسلم للحرم إذا أحطناها بالخطوط الممتدة من حد إلى حد تحدث منه صور مخمسة، ثم إنه قد وقتت خمس أماكن مواقيت للحج والعمرة على بعد عشرات من الميل (بل على نحو أكثر من مأتي ميل إلى جهة المدينة) وقد مر تفصيله فيما سبق، وإذا أحطنا تلك المواقيت الخمسة بالخطوط تظهر منها أيضًا صورة مخمسة ممتدة الأطراف. وإذا أتضح لك هذا فاعلم أن المنطقة الواقعة ما بين خارج حدود الحرم، أي خارج الخطوط المحيطة بحدود الحرم إلى المواقيت يقال لها الحل الصغير لأنه يحل فيها الصيد لكن يحرم المرور والدخول فيها بغير إحرام لمن يسكن وراء الميقات، مثلاً المنطقة الواقعة ما بين مكة والتنعيم في جهة المدينة حرم ومنها إلى ذي الحليفة حل صغير وسائر الأرض خارج حدود المواقيت الخمسة يقال لها الآفاق أو الحل الكبير، فالذين يسكنون خارج حدود الحرم دون حدود المواقيت (أي في الحل الصغير) يجب عليهم الإحرام قبل دخولهم حدود الحرم إذا أرادوا الحج والعمرة، مثلاً الذين يسكنون في شمال مكة بين التنعيم وذي الحليفة يجب عليهم أن يحرموا من التنعيم قبل الدخول في حدود الحرم، والذين يسكنون في الآفاق خارج المواقيت يجب عليهم الإحرام من مواقيتهم قبل أن يتجاوزوا حدود الميقات (أي قبل دخولهم في الحل الصغير) ، فالذي يمر على أحد هذه المواقيت الخمسة حكمه واضح أنه يحرم من ذلك الميقات قبل أن يتجاوزه إلى الحل الصغير أو إلى جهة الحرم. أما الذي لا يمر على واحد من هذه المواقيت فيجب عليه الإحرام قبل تجاوزه الخط الذي يمتد من ميقات إلى آخر ويكون حدًا فاصلاً بين الحل الصغير والآفاق، أي الحل الكبير، وإن هذا الخط في الأصل هو خط محاذاة الميقات، فالحاج ما دام خارج الخط المذكور فهو في الآفاق، وإذا جاوز هذا الخط فقد دخل حدود الحل الصغير، ولا يجوز لآفاقي أن يدخل الحل الصغير بدون الإحرام وقد ذكرنا فيما سبق أنه إن جاء أحد من طريق لا يقع أي ميقات فيه ولا يمكن له معرفة حد الحل الصغير بالضبط أعني خط محاذاة الميقات فعليه أن يحرم قبل مرحلتين من مكة. فإذا كانت باخرة الحجاج القادمين من

ص: 347

..............................................................................................

ــ

البلاد الشرقية - الهند أو الباكستان وغيرهما - لا تمر في البحر بيلملم أو بمحاذاتها بل تقطع طريقها في الآفاق، أي في الحل الكبير إلى غير جهة الحرم متوجهة إلى جدة وترسي في مينائها يجوز للحجاج المسافرين في تلك البواخر أن يؤخروا الإحرام إلى جدة ويحرموا منها، لأنها على مرحلتين من مكة، والمسافة بين مكة ويلملم أيضًا مثله كما قال الهيتمي في تحفة المحتاج بشرح المنهاج (ج 4 ص 45) : وخرج بقولنا ((إلى جهة الحرم)) ما لو جاوزه يمنة أو يسرة فله أن يؤخر إحرامه لكن بشرط أن يحرم من محل مسافته إلى مكة مثل مسافة ذلك الميقات كما قاله الماوردي وجزم به غيره، وبه يعلم أن الجائي من اليمن في البحر له أن يؤخر إحرامه من محاذاة يلملم إلى جدة لأن مسافتها إلى مكة كمسافة يلملم كما صرحوا به بخلاف الجائي فيه من مصر ليس له أن يؤخر إحرامه عن محاذاة الجحفة لأن كل محل من البحر بعد الجحفة أقرب إلى مكة منها فتنبه لذلك، هذا بالنسبة للحجاج المسافرين بالباخرة، أما الحجاج المسافرون بالطائرة فإن طائراتهم تقطع طريقها في أجواء البر وتمر على قرن المنازل عمومًا وتدخل أول الحل مارة على واحد من الميقاتين: قرن المنازل أو ذات عرق، ثم تصل جدة وتنزل بها، ولذا يجب عليهم الإحرام قبل مرورهم على قرن المنازل، وبما أنه يتعذر علم الساعة التي تمر فيها الطائرة على الميقات بالضبط فالأحوط لهم أن يحرموا عند ركوبهم الطائرة، لأنهم إن جاوزوا الميقات بدون الإحرام ووصلوا جدة غير محرمين يأثمون ويجب عليهم الدم عند الجمهور، وسيأتي مزيد الكلام في هذا في شرح حديث جابر في المواقيت. تنبيه قال النووي: أقرب المواقيت إلى مكة قرن المنازل ميقات أهل نجد وفي ذلك نظر لأن ابن حزم ذكر كما تقدم أن بين قرن ومكة اثنين وأربعين ميلاً وأن بين يلملم ومكة ثلاثين ميلاً فتكون يلملم حينئذ أقرب المواقيت إلى مكة وعلى ما ذكر صاحب التيسير يكون قرن ويلملم على حد سواء من مكة. قال الحافظ: أبعد المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة، فقيل: الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة. وقيل رفقًا بأهل الآفاق لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة أي: ممن له ميقات معين - انتهى. وقال في حجة الله البالغة: لما كان الإتيان إلى مكة شعثًا تفلاً تاركًا لغلواء نفسه مطلوبًا، وكان في تكليف الإنسان أن يحرم من بلده حرج ظاهر، فإن منهم من يكون قطره على مسيرة شهر وشهرين وأكثر وجب أن يخص أمكنة معلومة حول مكة يحرمون منها ولا يؤخرون الإحرام بعدها، واختار لأهل المدينة أبعد المواقيت لأنها مهبط الوحي ومأرز الإيمان ودار الهجرة وأول قرية آمنت بالله ورسوله، فأهلها أحق أن يبالغوا في إعلاء كلمة الله وأن يخصوا بزيادة تعظيم الله، وأيضًا فهي أقرب الأقطار التي آمنت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. قلت: لبيت الله الحرام من التكريم والتعظيم والتقديس والإجلال ما لا يخفى على مسلم، ومن آثار ذلك أن جعل له حمى وحدودًا لا يتجاوزها قاصده بحج أو عمرة إلا وقد أحرم وأتى في حال خشوع وخضوع وتقديس وإجلال عبادة لله واحترامًا لهذا البيت المطهر، ومن رحمة الله بخلقه أنه لم يجعل لهم ميقاتًا واحدًا في إحدى

ص: 348

فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن،

ــ

جهاته بل جعل لكل جهة محرمًا وميقاتًا يكون في طريق سالكه إلى مكة سواء كان من أهل تلك الجهة أو لا وذلك لئلا تلحقهم المشقة بقصدهم ميقاتًا ليس في طريقهم حتى جعل ميقات من داره دون المواقيت مكانه الذي هو فيه، حتى أهل مكة يحرمون بالحج من مكة فلا يلزمهم الخروج إلى الحل. وفي تقدير النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت وتحديدها معجزة من معجزاته الدالة على صدق نبوته، فقد حددها ووقتها وأهلها لم يسلموا غير أهل المدينة إشعارًا منه بأن أهل تلك الجهات سيسلمون ويحجون ويحرمون منها، وقد كان ولله الحمد والمنة (فهن) أي: المواقيت المذكورة (لهن) بضمير المؤنثات، وكان مقتضى الظاهر أن يكون ((لهم)) بضمير المذكرين، فأجاب ابن مالك بأنه عدل إلى ضمير المؤنثات لقصد التشاكل وكأنه يقول ناب ضمير عن ضمير بالقرينة لطلب التشاكل وأجاب غيره بأنه على حذف مضاف أي: هن لأهلهن أي: هذه المواقيت لأهل هذه البلدان بدليل قوله الآتي: ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) فصرح بالأهل ثانيًا. قال النووي: الضمير في ((لهن)) عائد على المواضع والأقطار المذكورة وهي المدينة، والشام، واليمن ونجد أي: هذه المواقيت لهذه الأقطار، والمراد لأهلها، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وفي رواية للبخاري ((هن لهم)) بضمير المذكرين وهو واضح. قال الحافظ: أي: المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة. ووقع في رواية أخرى أي: للبخاري في باب دخول مكة بغير إحرام بلفظ: ((هن لهن)) أي: المواقيت للجماعات المذكورة أو لأهلهن على حذف المضاف، والأول أي:((لهم)) بضمير المذكرين هو الأصل، ووقع في باب مهل أهل اليمن بلفظ:((هن لأهلهن)) وقوله: ((هن)) ضمير جماعة المؤنث وأصله لمن يعقل، وقد استعمل فيما لا يعقل لكن فيما دون العشرة - انتهى. وقال القرطبي: أما جمعه من لا يعقل بالهاء والنون في قوله: ((فهن لهم)) فمستعملة عند العرب وأكثر ذلك في العشرة فما دونها فإذا جاوزها قالوا بهاء المؤنث لا غير كما قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} (- 9: 36) ثم قال {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (-9: 36) أي: من الإثنى عشر، ثم قال:{فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} (- 9: 36) أي: في هذه الأربعة وقد قيل في الجميع وهو ضعيف شاذ - انتهى. (ولمن أتى) أي: مر (عليهن) أي: على المواقيت (من غير أهلهن) أي: من غير أهل البلاد المذكورة، وهذا يقتضي أن المواقيت المذكورة مواقيت أيضًا لمن أتى عليها وإن لم يكن من أهل تلك المواقيت المعينة، فإنه يلزمه الإحرام منها إذا أتى عليها قاصدًا لإتيان مكة لأحد النسكين، فيدخل في ذلك ما إذا ورد الشامي مثلاً إلى ذي الحليفة فإنه يجب عليه الإحرام منها ولا يتركه حتى يصل الجحفة، فإن آخر أساء ولزمه دم، هذا عند الجمهور. وقالت المالكية والحنفية: يجوز له التأخير إلى ميقاته وإن كان الأفضل له أن يحرم من ميقات المدينة أي: من ذي الحليفة. قال الحافظ: الشامي إذا أراد الحج فدخل المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها ولا يؤخره حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي، فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور وأطلق النووي الاتفاق ونفى الخلاف في

ص: 349

..............................................................................................

ــ

شرحيه لمسلم والمهذب في هذه المسألة فلعله أراد في مذهب الشافعي، وإلا فالمعروف عند المالكية أن الشامي مثلاً إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصلي وهو الجحفة جاز له ذلك وإن كان الأفضل خلافه وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية. . وقال الأبي المالكي بعد ذكر قول النووي ((وهذا لا خلاف فيه)) لعله يعني عندهم وأما عندنا فإنما ذلك لمن ليس ميقاته بين يديه كاليمني والعراقي والنجدي يمر أحدهم بذي الحليفة فإنه يحرم منها ولا يؤخره لأن ميقاته ليس بين يديه، وأما الشامي يمر بها فإنه يؤخر إلى الجحفة، لأنها ميقاته وهي بين يديه، نعم الأفضل له ذو الحليفة. قلت: فلا يصح الاعتذار الذي ذكره الحافظ والأبي مع وجود قول أبي ثور، وابن المنذر من الشافعية موافقًا للحنفية، والمالكية وقال ابن دقيق العيد: قوله: ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) عام فيمن أتى، يدخل تحته من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ومن ليس ميقاته بين يديها. وقوله:((ولأهل الشام الجحفة)) عام بالنسبة إلى من يمر بميقات آخر أولاً، فإذا قلنا بالعموم الأول دخل تحته هذا الشامي الذي مر بذي الحليفة، فيكون له التجاوز إليها، فلكل واحد منهما عموم من وجه (لاجتماعهما فيمن مر وهو من أهلها وافتراقهما في شامي مر بميقاته لا غير فأحرم منه ولم يأت غيره، وفي شامي مثلاً أتى ميقات أهل المدينة ولم يأت غيره) فكما يحتمل أن يقال ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه يحتمل أن يقال ((ولأهل الشام الجحفة، مخصوص بمن لم يمر بشيء من هذه المواقيت - انتهى. وقال الحافظ: قال ابن دقيق العيد: قوله ((ولأهل الشام الجحفة)) يشمل من مر من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمر، وقوله:((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) يشمل الشامي إذا مر بذي الحليفة وغيره. فها هنا عمومان قد تعارضا – انتهى ملخصًا. ثم أجاب الحافظ عن هذا التعارض فقال: ويحصل الانفكاك عنه بأن قوله ((هن لهن)) مفسر لقوله مثلاً ((وقت لأهل المدينة ذا الحليفة)) وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها ومن سلك طريق سفرهم فمر على ميقاتهم، ويؤيده ((عراقي خرج من المدينة فليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة غير محرم)) ويترجح بهذا قول الجمهور وينتفي التعارض. وقال الولي العراقي بعد ذكر كلام ابن دقيق العيد: لو سلك (أي: ابن دقيق العيد) ما ذكرته أولاً من أن المراد بأهل المدينة من سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم، لم يرد هذا الإشكال ولم يتعارض هنا دليلان، ومن المعلوم أن من ليس بين يديه ميقات لأهل بلدته التي هي محل سكنه كاليمني يحج من المدينة ليس له مجاوزة ميقات أهل المدينة غير محرم، وذلك يدل على ما ذكرناه أنه ليس المراد بأهل المدينة سكانها وإنما المراد بأهلها من حج منها وسلك طريق أهلها، ولو حملناه على سكانها لوردت هذه الصورة وحصل الاضطراب في هذا فنفرق في الغريب الطارئ على المدينة مثلاً بين أن يكون بين يديه ميقات لأهل بلده أم لا، فنحمل

ص: 350

..............................................................................................

ــ

أهل المدينة تارة سكانها وتارة على سكانها والواردين عليها، ويصير هذا تفريقًا بغير دليل، وإذا حملنا أهل المدينة على ما ذكرناه لم يحصل في ذلك اضطراب ومشى اللفظ على مدلول واحد في الأحوال كلها، والله أعلم - انتهى كلام الولي العراقي فتأمل. وقال الأمير اليماني: إن صح ما قد روي من حديث عرو أنه صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة تبين أن الجحفة إنما هي ميقات للشامي إذا لم يأت المدينة، ولأن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم فكل من مر بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض - انتهى. ووقع في رواية ((هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهن)) قال السندي: أي لكل مار مر عليهن من غير أهلهن الذين قررت لأجلهم، قيل: هذا يقتضي أن الشامي إذا مر بذي الحليفة فميقاته ذو الحليفة، وعموم ((ولأهل الشام الجحفة)) يقتضي أن ميقاته الجحفة فهما عمومان متعارضان، قلت: أنه لا تعارض إذ حاصل العمومين أن الشامي المار بذي الحليفة له ميقاتان أصلي وميقات بواسطة المرور بذي الحليفة، وقد قرروا أن الميقات ما يحرم مجاوزته بلا إحرام لا ما لا يجوز تقديم الإحرام عليه فيجوز أن يقال: ذلك الشامي ليس له مجاوزة شيء منهما بلا إحرام فيجب عليه أن يحرم من أولهما، ولا يجوز التأخير إلى آخرهما فإنه إذا أحرم من أولهما لم يجاوز شيئًا منهما بلا إحرام، وإذا أخر إلى آخرهما فقد جاوز الأول منهما بلا إحرام وذلك غير جائز له، وعلى هذا فإذا جاوزهما بلا إحرام فقد ارتكب حرامين بخلاف صاحب ميقات واحد فإنه إذا جاوزه بلا إحرام فقد ارتكب حرامًا واحدًا، والحاصل أنه لا تعارض في ثبوت ميقاتين لواحد، نعم لو كان معنى الميقات ما لا يجوز تقديم الإحرام عليه لحصل التعارض - انتهى. وقد علم مما ذكرنا أن ها هنا ثلاثة صور أو ثلاثة مسائل: إحداها أن يمر من ليس ميقاته بين يديه كاليمنى والعراقي والنجدي يمر أحدهم بذي الحليفة، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة أنه يلزمه الإحرام من ذي الحليفة، ولا يجوز له المجاوزة عنها بغير إحرام لأنه ليس ميقاته بين يديه وعليه حملت المالكية ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) . والثانية أن يمر من ميقاته بين يديه كالشامي مثلاً بذي الحليفة، واختلفوا فيه فقالت الشافعية والحنابلة وإسحاق: يلزمه الإحرام من ذي الحليفة ولا يجوز له التأخير إلى ميقاته، أي الجحفة لظاهر الحديث خلافًا للمالكية والحنفية وأبي ثور وابن المنذر من الشافعية. والثالثة أن المدني إذا جاوز عن ميقاته إلى الجحفة فهل يجوز له ذلك أم لا؟ وبالأول قالت الحنفية كما في كتب فروعهم، وبالثاني قال الجمهور وهو القول الراجح المعول عليه عندنا قلت: واستدل الحنفية بما روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أهل من الفرع، قال محمد في موطأه: أما إحرام عبد الله بن عمر من الفرع وهو دون ذي الحليفة إلى مكة فإن أمامها وقت آخر وهو الجحفة، وقد رخص لأهل المدينة أن يحرموا من الجحفة لأنها وقت من المواقيت (يعني أن الواجب أن لا يتجاوز عن مطلق الميقات لا عن الميقات الأول) ، ثم روى محمد عن أبي يوسف عن إسحاق بن راشد عن محمد بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

ص: 351

لمن كان يريد الحج والعمرة،

ــ

قال: من أحب منكم أن يستمتع بثيابه إلى الجحفة فليفعل - انتهى. قال القاري في شرح النقاية: لو لم يحرم المدني ومن بمعناه من ذي الحليفة وأحرم من الجحفة فلا شيء عليه وكره وفاقًا، وعن أبي حنيفة يلزمه دم، وبه قال الشافعي، لكن الظاهر هو الأول لما روي في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) فمن جاوز إلى الميقات الثاني صار ميقاتًا له - انتهى. وقال ابن الهمام: المدني إذا جاوز إلى الجحفة فأحرم بها فلا بأس، والأفضل أن يحرم من ذي الحليفة، ومقتضى كون فائدة التوقيت المنع من التأخير أن لا يجوز التأخير عن ذي الحليفة، ولذا روى عن أبي حنيفة أن عليه دمًا لكن الظاهر عنه هو الأول لما روي من تمام الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) فمن جاوز إلى الميقات الثاني صار من أهله، وروي عن عائشة أنها كانت إذا أرادت أن تحج أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أرادت أن تعتمر أحرمت من الجحفة، ومعلوم أن لا فرق في الميقات بين الحج والعمرة، فلو لم تكن الجحفة ميقاتًا لهما لما أحرمت بالعمرة منها، فبفعلها يعلم أن المنع من التأخير مقيد بالميقات الأخير - انتهى. وقال ابن نحيم: قوله: أي: الماتن ((أن هذه المواقيت لأهلها ولمن مر بها)) قد أفاد أنه لا يجوز مجاوزة الجميع إلا محرمًا فلا يجب على المدني أن يحرم من ميقاته وإن كان هو الأفضل، وإنما يجب عليه أن يحرم من آخرها عندنا - انتهى. قلت: فعل ابن عمر رضي الله عنهما مخالف لتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة فلا بد من تأويله، ولذا قال ابن عبد البر: محمله عند العلماء أنه مر بميقات لا يريد إحرامًا ثم بدا له فأهل منه أو جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها ثم بدا له في الإحرام كما قاله الشافعي وغيره، وقد روى حديث الميقات ومحال أن يتعداه مع علمه به فيوجب على نفسه دمًا، وهذا لا يظنه عالم - انتهى. وقال الباجي: يجوز أن يكون عبد الله بن عمر ترك ظاهره أي: الأمر بالمواقيت لرأي رآه أو تأويل تأوله. قال: وفي كتاب محمد: قال مالك: كان خروج عبد الله بن عمر إلى الفرع لحاجة ثم بدا له فأحرم منها - انتهى. ويمكن أن يأول أن ابن عمر لم يمر في طريقه على ذي الحليفة بل ذهب إلى الفرع من طريق آخر. قال ابن قدامة في المغني (ج3: ص264) : فإن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الحجفة سواء كان شاميًا أو مدنيًا لما روى أبو الزبير أنه سمع جابر يسأل عن المهل فقال: سمعته أحسبه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر من الجحفة. رواه مسلم، ولأنه مر على أحد المواقيت دون غيره فلم يلزمه الإحرام قبله كسائر المواقيت، ويمكن حمل حديث عائشة في تأخيرها إحرام العمرة إلى الجحفة على هذا، وأنها لا تمر في طريقها إلى ذي الحليفة لئلا يكون فعلها مخالفًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر أهل العلم - انتهى. وأما الحديث المرفوع الذي ذكره محمد في موطأه فهو مرسل ولا حجة في المرسل عند الجمهور لاسيما وهو معارض لأحاديث التوقيت الموصولة الصحيحة (لمن كان) بدل مما قبله بإعادة الجار، وفي رواية ((من كان)) (يريد الحج والعمرة) الواو بمعنى

ص: 352

..............................................................................................

ــ

أو، أو المراد إرادتها معًا على جهة القران. وفيه دلالة على أنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد دخول مكة لأحد النسكين، فلو لم يرد ذلك جاز له دخولها من غير إحرام وعليه بوب البخاري قال ((باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام)) ودخل ابن عمر حلالاً، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة، قلت: استدل البخاري بمفهوم قوله في حديث الباب لمن كان يريد الحج والعمرة على أن الإحرام يختص بمن أراد الحج والعمرة فمفهومه أن المتردد إلى مكة بغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام، وقد اختلف العلماء في هذا قال العيني: مذهب الزهري والحسن البصري والشامي في قول ومالك في رواية، وابن وهب وداود بن علي وأصحابه الظاهرية أنه لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام ومذهب عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه ومالك في رواية وهي قوله الصحيح والشافعي في المشهور عنه وأحمد وأبي ثور والحسن بن حيي لا يصلح لأحد كان منزله من وراء الميقات إلى الأمصار أن يدخل مكة إلا بالإحرام فإن لم يفعل أساء ولا شيء عليه عند الشافعي وأبي ثور وعند أبي حنيفة عليه حجة أو عمرة. وقال أبو عمر: لا أعلم خلافًا بين فقهاء الأمصار في الحطابين ومن يدمن الاختلاف إلى مكة ويكثره في اليوم والليلة أنهم لا يؤمرون بذلك لما عليهم فيه من المشقة - انتهى. وقال الحافظ: المشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقًا، وفي قول يجب مطلقًا. قال: والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب وفي رواية عن كل منهم لا يجب، وهو قول ابن عمر والزهري والحسن وأهل الظاهر، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثني الحنفية من كان داخل الميقات وزعم ابن عبد البر أن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب قلت: مذهب الحنفية على ما في الدر المختارة وغيره أنه يحرم تأخير الإحرام عن المواقيت لآفاقي قصد دخول مكة ولو لحاجة غير الحج كمجرد الرؤية والنزهة أو التجارة، وألحق بالآفاقي في هذا الحكم الحرمي والحلي إذا خرجا إلى الميقات بخلاف ما إذا بقيا في مكانهما فلا يحرم، أما لو قصد الآفاقي موضعًا من الحل كخُلَيْص وجدة قصدًا أوليًا عند المجاوزة حل له مجاوزته بلا إحرام، فإذا دخل به التحق بأهله فله دخول مكة بلا إحرام، وحل لأهل داخلها يعني لكل من وجد في داخل المواقيت دخول مكة غير محرم ما لم يرد نسكًا للحرج وقال النووي في شرح مسلم: في حديث الباب دليل لمن يقول بجواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد نسكًا سواء كان دخوله لحاجة تتكرر كالحطاب والحشاش والسقاء والصياد وغيرهم أم لم يتكرر كالتاجر والزائر وغيرهما، وسواء كان آمنًا أو خائفًا وهذا أصح القولين للشافعي، وبه يفتي أصحابه، والقول الثاني: لا يجوز دخوله بغير إحرام إن كانت حاجته لا تتكرر إلا أن يكون مقاتلاً أو خائفاً من قتال أو ظالم. ونقل القاضي نحو هذا عن أكثر العلماء - انتهى. وقال الباجي (ج3 ص80) : دخول مكة على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أن يريد دخولها للنسك في حج أو عمرة فهذا لا يجوز أن يدخلها إلا محرمًا. فإن تجاوز الميقات غير محرم فعليه دم. والضرب

ص: 353

..............................................................................................

ــ

الثاني أن يدخلها غير مريد للنسك وإنما يدخلها لحجة تتكرر كالحاطبين وأصحاب الفواكه فهؤلاء لا يجوز لهم دخولها غير محرمين لأن الضرورة كانت تلحقهم بالإحرام متى احتاجوا إلى دخولها لتكرر ذلك. والضرب الثالث أن يدخلها لحاجته وهي مما لا تتكرر فهذا لا يجوز له أن يدخلها إلا محرمًا لأنه لا ضرر عليه في إحرامه، وإن دخلها غير محرم فهل عليه دم أو لا الظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء - انتهى. وقال ابن قدامة: من جاوز الميقات مريدًا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه إن أمكنه سواء تجاوزه عالمًا به أو جاهلاً، علم تحريم ذلك أو جهله، فإن رجع إليه فأحرم منه فلا شيء عليه لا نعلم في ذلك خلافًا، وإن أحرم من دون الميقات فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع، وبهذا قال مالك وابن المبارك. قال: وأما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك فعلى قسمين أحدهما: لا يريد دخول الحرم بل يريد حاجة فيما سواه فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف ولا شيء عليه في ترك الإحرام، وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بدرًا مرتين وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذي الحليفة فلا يحرمون ولا يرون بذلك بأسًا ثم متى بدا لهذا الإحرام وتجدد له العزم عليه أحرم من موضعه ولا شيء عليه، هذا ظاهر كلام الخرقي، وبه يقول مالك والثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة، وحكى ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم، وبه قال أبو إسحاق والأول أصح. القسم الثاني من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة أضرب أحدها من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة كالحطاب والحشاش وناقل الميرة والفيح ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح مكة حلالاً وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه ولم نعلم أحدًا منهم أحرم يومئذٍ ولو أوجبنا الإحرام على كل من يتكرر دخوله أفضى إلى أن يكون جميع زمانه محرمًا فسقط للحرج وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأحد دخول الحرم بغير إحرام إلا من كان دون الميقات، ولنا ما ذكرناه، وقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء وقال: هذا حديث حسن صحيح. ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات أحرم من موضعه كالقسم الذي قبله، وفيه من الخلاف ما فيه. النوع الثاني: من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات أو عتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وهو قول أصحاب الرأي في الكافر يسلم والصبي يبلغ، وقالوا في العبد: عليه دم. وقال الشافعي في جميعهم: على كل واحد منهم دم، وعن أحمد في الكافر يسلم كقوله، ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسًا على الكافر يسلم. النوع الثالث: المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم. وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: لا يجب الإحرام عليه، وعن أحمد ما يدل على ذلك، وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام، ولأنه أحد

ص: 354

..............................................................................................

ــ

الحرمين فلم يلزم الإحرام كدخوله حرم المدينة، ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقى على الأصل. إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه فإن أحرم من دونه فعليه دم كالمريد للنسك - انتهى كلام ابن قدامة. وقد علم مما تقدم أن الإمام الشافعي ذهب في المشهور عنه إلى جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة وهو مذهب الظاهرية، ونصره ابن حزم في المحلى، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وأبو البقاء ابن عقيل، قال ابن مفلح في الفروع وهي ظاهرة واستدلوا على ذلك بقوله في هذا الحديث لمن كان يريد الحج والعمرة، واستدلوا أيضًا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح حلالاً وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه، وبما روى مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر دخل مكة بغير إحرام، وبأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما يجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة، وبأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقي على الأصل. واستدل لأبي حنفية ومالك وأحمد بقوله صلى الله عليه وسلم في مكة أنها حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي إنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرامًا كحرمتها بالأمس. قال الطحاوي وابن الهمام وغيرهما يعنى في الدخول بغير إحرام لإجماع المسلمين على حل الدخول بعده للقتال وأجيب عن ذلك بأن الحديث ليس له دخل في الإحرام، وإنما هو في تحريم القتال في مكة، قال الشيخ محمد عابد السندي في المواهب اللطيفة: وأما ما زعم الطحاوي بأن ذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي شريح وغيره أنها لم تحل له إلا ساعة من نهار وأن المراد بذلك جواز دخولها بغير إحرام لا تحريم القتل والقتال فيها لأنهم أجمعوا على أن المشركين لو غلبوا - والعياذ بالله - على مكة حل للمسلمين قتالهم وقتلهم فيها - انتهى. فقد دفعه الشيخ أبو الحسن السندي بأن ذلك مخالف لصريح الحديث، فإن في حديث أبي شريح عند الشيخين: فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: ((إن الله تعالى أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لي ساعة من نهار)) فهذا صريح في أن الساعة إنما أبيحت له في القتال لا في دخول مكة بغير إحرام، ولذلك قال النووي: في حديث أبي شريح دلالة على أن مكة تبقى دار الإسلام إلى يوم القيامة، ونهى المترخص إذا قاتل في رئاسة دنيوية، وفي دعواه الإجماع نظر فقد حكى القفال والماوردي وغيرهما القول بعدم حل القتال أصلاً في مكة ونقلوا في ذلك عن محققي الشافعية والمالكية - انتهى كلامه. وأشار الطحاوي إلى حديث أبي شريح في القتال والدخول بلا إحرام كليهما، فكان الأمران خاصة له في ذلك اليوم، ولا يخفى ما فيه، فإن قوله في الحديث ((فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ألخ. نص بأنه في تحرم القتال في مكة خاصة واستدل لهم أيضًا بحديث ابن عباس مرفوعًا ((لا يجاوز أحد الميقات إلا محرمًا)) أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني، وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير، وقد

ص: 355

فمن كان دونهن فمهله

ــ

ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وابن خزيمة وأبو أحمد الحاكم والأزدي، ووثقه ابن معين وابن سعد. وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ خلط بآخره. ورواه ابن عدي من وجهين ضعيفين وروى الشافعي عنه بإسناد صحيح أنه كان يرد من جاوز الميقات غير محرم. وأجيب عن هذا بأنه موقوف، وهو أيضًا معارض لما رواه مالك في الموطأ أن ابن عمر جاوز الميقات غير محرم، ولا يحتج بما روي عن ابن عباس مرفوعًا لضعف طرقها واستدل لهم أيضًا بأن الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة، فإن الله جعل البيت معظمًا وجعل المسجد الحرام فناء، وجعل مكة فناء للمسجد الحرام، وجعل المواقيت فناء للحرم والشرع ورد بكيفية تعظيمه وهو الإحرام على هيئة مخصوصة فيستوي فيه الحاج والمعتمر وغيرهما ولا يجوز تركه لأحد ممن يريد دخول مكة، وفيه أن هذا تعليل في معرض النص، والأصل عدم الخصوصية وهي لا تثبت إلا بدليل فتأمل وقد أجاب هؤلاء عن حديث الباب بوجوه منها أنه استدلال بمفهوم القيد الغالبي وهو ضعيف عند الحنفية ومنطوق حديث ابن عباس المرفوع والموقوف أولى من المفهوم المخالف في قوله لمن كان يريد الحج والعمرة ومنها أن دخوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح بغير إحرام حكم مخصوص له ولأصحابه بذلك الوقت. وقد تقدم ما فيه ومنها ما ذكره ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج3 ص6) ، وقد تركنا ذكره لطول كلامه، من شاء الوقوف عليه رجع إلى شرح العمدة ومنها أن قوله ((لمن كان يريد الحج والعمرة)) يحتمل أن يقدر فيه مضاف، أي لمن كان يريد مكان الحج والعمرة كما قال القاري:((يريد الحج والعمرة)) أي مكان أحد النسكين وهو الحرم - انتهى. أو يكون كناية عن إرادة دخول مكة، والنكتة في اختيار هذا التعبير التنبيه على أنه ليس من شأن المسلم قصد دخول مكة مع تركه فريضة الحج والعمرة. قالوا: ويؤيد لصحة هذا التأويل حديث ابن عباس المتقدم قلت: حديث الباب نص فيما ذهب إليه الشافعية، وقد اعترف بذلك صاحب فيض الباري (ج3 ص64) ، ولم يقم على إيجاب اِِِِِِِِِِِلإحرام على من أراد مجاوزة الميقات لغير النسكين دليل، وقد كان المسلمون في عصره صلى الله عليه وسلم يختلفون إلى مكة لحوائجهم ولم ينقل أنه أمر أحدًا منهم بإحرام فلا حاجة إلى تأويل حديث الباب بما يخالف ظاهره، ويخالف فعل ابن عمر رضي الله عنه. قال صاحب تيسير العلام: ما ذكر من الخلاف في حق غير المتردد إلى الحرم لجلب الفاكهة أو الحطب وغيرهما أو له بستان في الحل يتردد عليه أو له وظيفة أو عمل في مكة وأهله في جدة أو بالعكس فهؤلاء ونحوهم لا يجب عليهم الإحرام عند عامة العلماء فيما اطلعت عليه من كلام فقهاء المذاهب إلا ما ذهب إليه أبو حنفية من التحريم على كل داخل إلى مكة من غير إحرام، والعمل على خلافه - انتهى. (فمن كان دونهن) أي دون المواقيت يعني من كان بين الميقات ومكة (فمهله) بصيغة المفعول من الإهلال، أي موضع إحرامه. قال الحافظ: المهل بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام موضع الإهلال، وأصله رفع الصوت لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعًا. قال ابن الجوزي: وإنما

ص: 356

من أهله وكذاك وكذاك، حتى أهل مكة يهلون منها.

ــ

يقوله بفتح الميم من لا يعرف. وقال أبو البقاء العكبري: هو مصدر بمعني الإهلال كالُمدْخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج. قال البدر الدماميني: جعله هنا مصدرًا يحتاج إلى حذف أو تأويل ولا داعي إليه (من أهله) أي من محل أهله. قال القاري: أي من بيته ولو كان قريبًا من المواقيت ولا يلزمه الذهاب إليها. وفي رواية للشيخين ((ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ)) قال العيني: الفاء جواب الشرط، أي فمهله من حيث قصد الذهاب إلى مكة يعني يهل من ذلك الموضع. وقال الحافظ: أي فميقاته من حيث أنشأ الإحرام إذا سافر من مكانه إلى مكة، وهذا متفق عليه إلا ما روي عن مجاهد أنه قال: ميقات هؤلاء نفس مكة. قال ابن عبد البر: أنه قول شاذ، وقال السندي: أي يهل حيث ينشئ السفر من ((أنشأ)) إذا أحدث، يفيد أنه ليس لمن كان داخل الميقات أن يؤخر الإحرام عن أهله - انتهى. قال الحافظ: ويؤخذ من الحديث أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد، ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات لقوله ((فمن حيث أنشأ)) قال القاري: ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكم أهل المواقيت نفسها، والجمهور على أن حكمها حكم داخل المواقيت خلافًا للطحاوي حيث جعل حكمها حكم الآفاق (وكذاك وكذاك) بإسقاط اللام فيهما وهي رواية أبي ذر للبخاري وعند غيره ((وكذاك)) أي مرة، يعني وكذا من كان أقرب من هذا الأقرب، وكأنه منزل منزلة قولك وهكذا، أي الأقرب فالأقرب. وقال القاري: أي الأدون فالأدون إلى آخر الحل (حتى أهل مكة) وغيرهم ممن هو بها (يهلون) أي يحرمون (منها) أي من مكة، ولفظ أهل بالرفع على أن حتى ابتدائية، وقوله ((أهل مكة)) مبتدأ وخبره ((يهلون منها)) والجملة لا محل لها من الإعراب. وذكر الكرماني أنه روي فيه الجر أيضًا. وفي رواية ((حتى أهل مكة من مكة)) قال العيني: يجوز في لفظ ((أهل)) الجر لأن ((حتى)) تكون حرفًا جارًا بمنزلة إلى، ويجوز فيه الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره ((حتى أهل مكة يهلون من مكة)) كما في قولك جاء القوم حتى المشاة، أي حتى المشاة جاءوا. قال الحافظ: قوله ((أهل مكة من مكة)) ، أي لا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه بل يحرمون من مكة كالآفاقي الذي بين الميقات ومكة فإنه يحرم من مكانه ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات ليحرم منه، وهذا خاص بالحج، وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل يعني لقضية عائشة رضي الله عنها حين أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم لتحرم منه، وكذا قال غيره من أصحاب المذاهب الأربعة كالعيني والولي العراقي والمحب الطبري والقسطلاني وابن قدامة والشيخ محمد عابد السندي وغيرهم وادعوا الإجماع على ذلك قلت: حديث ابن عباس هذا نص في أن هذه المواقيت للحج والعمرة جميعًا لا للحج فقط فيلزم أن تكون مكة ميقاتًا لأهلها للحج والعمرة كليهما لا للحج فقط خلافًا للجمهور، ولهذا بوب البخاري عليه بقوله ((باب مهل أهل مكة للحج والعمرة)) ففيه إشعار بأن مكة عنده ميقات لأهلها للعمرة أيضًا قال الأمير اليماني: أعلم أن قوله ((حتى أهل مكة من مكة)) يدل على أن

ص: 357

..............................................................................................

ــ

ميقات عمرة أهل مكة كحجهم، وكذلك القارن منهم ميقاته مكة، ولكن قال المحب الطبري: إنه لا يعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة في حق المكي. قال: فعليه أن يخرج من الحرم إلى أدني الحل يدل عليه أمره صلى الله عليه وسلم عائشة أن تخرج إلى التنعيم وانتظاره مع جملة الحجيج لها، ثم فعل من جاور بمكة من الصحابة ثم تتابع التابعين وتابعيهم إلى اليوم، وذلك إجماع في كل عصر. قال الأمير اليماني: وجوابه أنه صلى الله عليه وسلم جعلها ميقاتًا لها بهذا الحديث، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال ((يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر)) ، يعنى إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة. وقال أيضًا: من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم ويجاوز الحرم. فآثار موقوفة لا تقاوم المرفوع، وأما ما ثبت من أمره صلى الله عليه وسلم لعائشة بالخروج إلى التنعيم لتحرم بعمرة فلم يرد إلا تطييب قلبها بدخولها إلى مكة معتمرة كصواحباتها، لأنها أحرمت بالعمرة معه ثم حاضت فدخلت مكة ولم تطف بالبيت كما طفن كما يدل له قولها ((قلت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد، قال: انتظري فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه)) الحديث. فإنه محتمل أنها إنما أرادت أن تشابه الداخلين من الحل إلى مكة بالعمرة، ولا يدل أنها لا تصح العمرة إلا من الحل لمن صار في مكة، ومع الاحتمال لا يقاوم حديث الباب. قال: وعند أصحاب أحمد أن المكي إذا أحرم للعمرة من مكة كانت عمرة صحيحة. قالوا: ويلزمه دم لما ترك من الإحرام من الميقات. قال الأمير اليماني: ويأتيك أن إلزامه الدم لا دليل عليه. وقال الشوكاني في السيل الجرار (ج2 ص 216) : وقع التصريح في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما بعد ذكر المواقيت لأهل كل محل أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((فهي لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة)) فصرح في هذا الحديث بالعمرة يعني ففيه تعيين ميقات للعمرة والحج كليهما لأهل هذه المواقيت ولأهل مكة جميعًا وقال أبو الحسن السندي في حاشيته على الصحيح: قول البخاري ((باب مهل أهل مكة للحج والعمرة)) كأنه نبه بذلك على أن سوق الحديث لميقات الحج والعمرة جميعًا لا لميقات الحج فقط، ولذلك قال: ممن أراد الحج والعمرة، فمقتضاه أن ما جعل ميقاتًا لأهل مكة يكون ميقاتًا لهم للحج والعمرة جميعًا لا للحج فقط، وإن ذهب الجمهور إلى الثاني وجعلوا ميقات العمرة لأهل مكة أدني الحل بحديث إحرام عائشة بالعمرة من التنعيم، وذلك لأن عائشة ما كانت مكية حقيقة فيجوز أن يكون ميقات مثلها التنعيم للعمرة وإن كان ميقات المكي نفس مكة، وكذا يجوز إحرامها من التنعيم لأنها أرادت العمرة الآفاقية حيث أرادت المساواة لسائر المعتمرين في ذلك السفر، فحديث عائشة لا يعارض هذا الحديث، فكأنه بهذه الترجمة أراد الاعتراض على الجمهور، والله تعالى أعلم - انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن كل ما استدل به الجمهور هو قضية عائشة في اعتمارها من التنعيم وآثار موقوفة عن ابن سيرين وعطاء وابن عباس. قالوا: قضية عائشة مع أثر ابن عباس مخصصة لحديث الباب، وفيه أن قضية عائشة واقعة جزئية محتملة، وحديث الباب فيه بيان ضابطه وقانون عام فيقدم على حديث عائشة، والآثار الموقوفة لا تعارض المرفوع، والعبرة لما روى الصحابي لا لرأيه

ص: 358

..............................................................................................

ــ

تنبيه: قال الطحاوي ذهب قوم (أي من الذين فرقوا بين ميقات المكي للحج وميقاته للعمرة) إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان من مكة إلا التنعيم، ولا ينبغي مجاوزته كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحج، وخالفهم آخرون فقالوا: مواقيت العمرة الحل وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بالإحرام من التنعيم لأنه كان أقرب الحل من مكة وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء، ويؤيد ذلك ما رواه الطحاوي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها، قال: فكان أدنانا من الحرم التنعيم فاعتمرت منه. قال: فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل - انتهى. وقال ابن قدامة بعد ذكر أثر ابن عباس المتقدم: إنما لزم الإحرام أي إحرام المكي للعمرة من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرام فإنه لو أحرم من الحرم لما جمع بينهما فيه لأن أفعال العمرة كلها في الحرم بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة فيجتمع له الحل والحرم والعمرة بخلاف ذلك (فبالخروج إلى الحل يتحقق فيها نوع سفر ويصح به كونه وافدًا على البيت الحرام) قال: ومن أي الحل أحرم جاز، وإنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة من التنعيم لأنها أقرب الحل إلى مكة - انتهى. تنبيه ثان: قال السندي في حاشيته على الصحيح قوله ((ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة)) مقتضاه أنه ليس لمن كان داخل المواقيت أن يؤخر الإحرام من أهله، وكذا ليس لأهل مكة أن يؤخروه من مكة، ويشكل عليه قول علمائنا الحنفية حيث جوزوا لمن كان داخل المواقيت التأخير إلى آخر الحل، ولأهل مكة إلى آخر الحرم من حيث أنه مخالف للحديث، ومن حيث أن المواقيت ليست مما يثبت بالرأي، والله تعالى أعلم - انتهى. قلت: اختلفوا في تعيين الإحرام بالحج لمن هو بمكة من مكة. قال الولي العراقي (ج2 ص 15، 16) : أما من هو بمكة فميقاته نفس مكة لا يجوز له تركها والإحرام خارجها ولو كان في الحرم، هذا هو الصحيح عند أصحابنا (الشافعية) وغيرهم، قال بعض أصحابنا: الإحرام من الحرم كله جائز، والحديث بخلافه. وقال المالكية: لو خرج إلى الحل جاز على الأشهر ولا دم لأنه زاد وما نقص. قال أصحابنا: ويجوز أن يحرم من جميع نواحي مكة بحيث لا يخرج عن نفس البلد، وفي الأفضل قولان أصحهما من باب داره، والثاني من المسجد الحرام تحت الميزاب - انتهى. وقال المحب الطبري (ص 73) : ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم ((حتى أهل مكة يهلون منها)) يدل على تعيين الإحرام بالحج من مكة حتى لو حرج وأحرم خارجًا منها كان مسيئًا وعليه دم. وفي المسألة خلاف، ثم قال: حجة من قال يجوز الإهلال بالحج لأهل مكة من الحرم خارجًا عن مكة وذكر فيه ما روي عن جابر في حديث فسخ الحج ((حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج)) وما روي عنه أيضًا قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أهللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح)) أخرجهما الشيخان. قال الطبري: والقائل بهذا يقول إطلاق مكة جائز على جميع الحرم، ومنه الحديث ((إن الله حرم مكة لا يختلي خلاها)) وهذا هو الأظهر عندي، وعليه بوب البخاري فقال ((باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي، والحاج إذا خرج إلى منى)) ثم ذكر الحديثين - انتهى. وقال النووي: ميقات من بمكة من أهلها أو غيرهم نفس مكة

ص: 359

..............................................................................................

ــ

على الصحيح، وقيل: مكة وسائر الحرم - انتهى. قال الحافظ: والثاني مذهب الحنفية. واختلف في الأفضل فاتفق المذهبان على أنه من باب المنزل، وفي قول للشافعي من المسجد، وحجة الصحيح ما في حديث ابن عباس ((حتى أهل مكة يهلون منها)) وقال مالك وأحمد وإسحاق: يهل من جوف مكة ولا يخرج إلى الحل إلا محرمًا - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص261) : من أي الحرم أحرم المكي بالحج جاز لأن المقصود من الإحرام به الجمع في النسك بين الحل والحرم، وهذا يحصل بالإحرام من أي موضع كان فجاز كما يجوز أن يحرم بالعمرة من أي موضع كان من الحل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حجة الوداع: إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء. ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت فيه البلدة وغيرها كالنحر تنبيه ثالث: اختلف العلماء في تقديم الإحرام على الميقات، قال العيني في شرح البخاري: قال ابن حزم: لا يحل لأحد أن يحرم بالحج أو العمرة قبل المواقيت، فإن أحرم أحد قبلها وهو يمر عليها فلا إحرام له ولا حج ولا عمرة له إلا أن ينوي إذا صار في الميقات تجديد الإحرام فذاك جائز وإحرامه حينئذ تام. وقال في شرح الهداية: تقديم الإحرام على هذه المواقيت جائز بالإجماع. وقال داود الظاهري: إذا أحرم قبل هذه المواقيت لا حج له ولا عمرة. قلت: وكذا نقل الإجماع في ذلك الخطابي والنووي وغيرهما. قال الحافظ: وفيه نظر، فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز، وهو ظاهر جواب ابن عمر، يشير إلى ما رواه البخاري في باب فرض مواقيت الحج والعمرة من طريق زيد بن جبير أنه أتى عبد الله بن عمر في منزله فسألته (فيه التفات)، من أين يجوز أن أعتمر؟ قال: فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد من قرن، الحديث. قال الحافظ: ويؤيده القياس على الميقات الزماني فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز التقديم عليه، وفرق الجمهور بين الزماني والمكاني فلم يجيزوا التقدم على الزماني وأجازوا في المكاني. وذهب طائفة كالحنفية وبعض الشافعية إلى ترجيح التقديم، وقال مالك يكره. قال الحافظ: وظاهر نص البخاري، أي تبويبه المذكور أنه لا يجيز الإحرام بالحج والعمرة من قبل الميقات، ويزيد ذلك وضوحًا ما سيأتي بعد قليل حيث قال: باب ميقات أهل المدينة ولا يهلون قبل ذي الحليفة. قال الحافظ: استنبط البخاري من إيراد الخبر أي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، إلخ بصيغة الخبر مع إرادة الأمر تعين ذلك، وأيضًا فلم ينقل عن أحد ممن حج مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحرم قبل ذي الحليفة، ولولا تعين الميقات لبادروا إليه لأنه يكون أشق فيكون أكثر أجرًا - انتهى. وقال العيني: هذه العبارة أي عبارة الترجمة تشير إلى أن البخاري ممن لا يرى تقديم الإهلال قبل المواقيت، وقال العيني أيضًا: اختلفوا أي القائلون بجواز التقديم هل الأفضل التزام الحج من المواقيت أو من منزله فقال مالك وأحمد وإسحاق: إحرامه من المواقيت أفضل. وقال الثوري، وأبو حنيفة والشافعي وآخرون: الإحرام من المواقيت رخصة، واعتمدوا في ذلك على فعل الصحابة فإنهم أحرموا من قبل المواقيت قالوا: وهم أعرف بالسنة وهم فقهاء الصحابة، أي وشهدوا إحرام

ص: 360

..............................................................................................

ــ

رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلموا أن إحرامه صلى الله عليه وسلم من الميقات كان تيسيرًا على أصحابة ورخصة لهم، وابن عمر كان أشد الناس إتباعًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصول أهل الظاهر تقتضي أنه لا يجوز الإحرام إلا من الميقات، إلا أن يصح إجماع على خلافه، وقال أبو عمر: كره مالك أن يحرم أحد قبل الميقات، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات، وفي تعليق البخاري:((كره عثمان أن يحرم من خراسان وكرمان، وكره الحسن وعطاء بن أبي رباح الإحرام من الموضع البعيد)) وقال ابن بزيزة: في هذا ثلاثة أقوال، منهم من جوزه مطلقًا، ومنهم من كرهه مطلقًا، ومنهم من أجازه في البعيد دون القريب. قلت: وتقدم آنفًا من قال بالكراهة من البعيد فهو قول رابع في المسألة، والقول الثالث: رواية للمالكية. قال الباجي: في أثر ابن عمر أنه أهل من إيلياء تقديم الإحرام قبل الميقات، وقد روى ابن المواز عن مالك جواز ذلك وكراهيته فيما قرب من الميقات، وروى العراقيون كراهيته على الإطلاق وإذا قلنا برواية ابن المواز فالفرق بين القريب والبعيد أن من أحرم بقرب الميقات فإنه لا يقصد إلا مخالفة التوقيت لأنه لم يستدم إحرامًا، وأما من أحرم على البعد منه فإن له غرضًا في استدامة الإحرام كما قلنا أن من كان في شعبان لم يجز له أن يتقدم صيام رمضان بصيام يوم أو يومين، ومن استدام الصوم من أول شعبان جاز له استدامة ذلك حتى يصله برمضان - انتهى. وقال الأبي: إن أحرم قبلها بيسير كره، وإن أحرم قبلها بكثير فظاهر المدونة الكراهة، وظاهر المختصر الجواز. ونقل اللخمي قولاً بعدم كراهة القريب - انتهى. وقال الولي العراقي في طرح التثريب (ج5: ص5) : قد بينا أن معنى التوقيت بهذه المواقيت منع مجاوزتها بلا إحرام إذا كان مريدًا للنسك، أما الإحرام قبل الوصول إليها فلا مانع منه عند الجمهور. ونقل غير واحد الإجماع عليه، بل ذهب طائفة من العلماء إلى ترجيح الإحرام من دويرة أهله على التأخير إلى الميقات وهو أحد قولي الشافعي ورجحه من أصحابه القاضي أبو الطيب والروياني، والغزالي، والرافعي، وهو مذهب أبي حنفية، وروي عن عمر وعلي أنهما قالا في قوله تعالى:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (2: 196) إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وقال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر أهل من إيلياء يعني بيت المقدس، وكان الأسود، وعلقمة، وعبد الرحمن، وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم انتهى. لكن الأصح عند النووي من قولي الشافعي أن الإحرام من الميقات أفضل. ونقل تصحيحه عن الأكثرين والمحققين، وبه قال أحمد، وإسحاق، وحكى ابن المنذر فعله عن عوام أهل العلم بل زاد مالك عن ذلك فكره تقدم الإحرام على الميقات. قال ابن المنذر: وروينا عن عمر أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة وكره الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، ومالك الإحرام من المكان البعيد - انتهى. وعن أبي حنيفة رواية أنه إن كان يملك نفسه عن الوقوع في محظور فالإحرام من دويرة أهله أفضل وإلا فمن الميقات. وبه قال بعض الشافعية - انتهى. وقال العيني: وقال الشافعي، وأبو حنفية: الإحرام من قبل هذه المواقيت أفضل لمن قوي على ذلك. وقد صح أن علي بن أبي طالب

ص: 361

..............................................................................................

ــ

وابن مسعود، وعمران بن حصين، وابن عباس، وابن عمر: أحرموا من المواضع البعيدة وعند ابن أبي شيبة أن عثمان بن العاص أحرم من المنجشانية وهي قرية من البصرة. وعن ابن سيرين أنه أحرم هو وحميد بن عبد الرحمن، ومسلم بن يسار من الدارات، وأحرم أبو مسعود من السيلحين. وقال أبو داود: يرحم الله وكيعًا أحرم من بيت المقدس، وأحرم ابن سيرين مع أنس من العقيق، ومعاذ من الشام ومعه كعب الحبر. وقال الأمير اليماني (ج2: ص189) : قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وهل يكره؟ قيل: نعم، لأن قول الصحابة: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة. يقتضي بالإهلال من هذه المواقيت ويقضي بنفي النقص والزيادة، فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن تكون تركها أفضل، ولولا ما قيل من الإجماع بجواز ذلك لقلنا بتحريمه لأدلة التوقيت، ولأن الزيادة على المقدرات من المشروعات كإعداد الصلاة ورمي الجمار لا تشرع كالنقص منها وإنما لم نجزم بتحريم ذلك لما ذكرنا من الإجماع، ولأنه روى عن عدة من الصحابة تقديم الإحرام على الميقات، فأحرم ابن عمر من بيت المقدس، وأحرم أنس من العقيق، وأحرم ابن عباس من الشام، وأهل عمران بن حصين من البصرة وأهل ابن مسعود من القادسية. وورد في تفسير الآية أن الحج والعمرة تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك عن علي وابن مسعود وإن كان قد تؤول بأن مرادهما أن ينشأ لهما سفرًا مفردًا من بلده كما أنشأ صلى الله عليه وسلم لعمرة الحديبية والقضاء سفرًا من بلده ويدل لهذا التأويل أن عليًا لم يفعل ذلك ولا أحد من الخلفاء الراشدين ولم يحرموا بحج ولا عمرة إلا من الميقات بل لم يفعله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون ذلك تمام الحج ولم يفعله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الخلفاء ولا جماهير الصحابة نعم الإحرام من بيت المقدس بخصوصه ورد فيه حديث أم سلمة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه أحمد، وفي لفظ:((من أحرم من بيت المقدس غفر له ما تقدم من ذنبه)) ورواه أبو داود ولفظه: ((من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة)) شك من الراوي، ورواه ابن ماجة بلفظ:((من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب)) فيكون هذا مخصوصًا ببيت المقدس فيكون الإحرام منه خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت، ويدل له إحرام ابن عمر منه، ولم يفعل ذلك من المدينة على أن منهم من ضعف الحديث، ومنهم من تأوله بأن المراد ينشئ لهما السفر من هنالك - انتهى كلام الأمير اليماني. وقال ابن قدامة (ج3: ص264) : لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرمًا تثبت في حقه أحكام الإحرام، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، ولكن الأفضل الإحرام من الميقات، ويكره قبله. روي نحو ذلك عن عمر وعثمان، وبه قال الحسن، وعطاء، ومالك، وإسحاق، وقال أبو حنيفة: الأفضل الإحرام من بلده وعن الشافعي كالمذهبين. وكان علقمة، والأسود، وعبد الرحمن، وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم. واحتجوا بما روت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من

ص: 362

..............................................................................................

ــ

أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة. شك عبد الله أيهما قال. رواه أبو داود. وفي لفظ رواه ابن ماجة: من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له. وأحرم ابن عمر من إيلياء، وروى النسائي، وأبو داود بإسناديهما عن الصبي بن معبد، قال: أهللت بالحج والعمرة معًا فلما أتيت العُذّيب لقيني سليمان بن ربيعة، وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جمعيًا فقال أحدهما: ما هذا بأفقه من بعيره، فأتيت عمر فذكرت له ذلك، فقال: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وهذا إحرام به قبل الميقات. وروي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل فإن قيل: إنما فعل هذا لتبيين الجواز، قلنا: قد حصل بيان الجواز بقوله كما في سائر المواقيت، ثم لو كان كذلك لكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم ولما تواطؤا على ترك الأفضل واختيار الأدنى، وهم أهل التقوى والفضل، وأفضل الخلق، لهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم، وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه. وروى الحسن أن عمران بن حصين أحرم من مصره فبلغ ذلك عمر فغضب، وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من مصره. وقال: إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له، رواهما سعيد والأثرم. قال البخاري: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان، ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره، ولأنه تغرير بالإحرام، وتعرض لفعل محظوراته، وفيه مشقة على النفس فكره كالوصال في الصوم. قال عطاء: انظروا هذه المواقيت التي وقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبًا في إحرامه فيكون أعظم لوزره فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك، فأما حديث الإحرام من بيت المقدس ففيه ضعف يرويه ابن أبي فديك، ومحمد بن إسحاق وفيهما مقال، ويحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس دون غيره ليجمع بين الصلاة في المسجدين في إحرام واحد، ولذلك أحرم ابن عمر منه، ولم يكن يحرم من غيره إلا من الميقات، وقول عمر للصبي: هديت لسنة نبيك يعني في القران فالجمع بين الحج والعمرة لا في الإحرام من قبل الميقات فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام من الميقات بين ذلك بفعله وقوله، وأما قول عمر، وعلي فإنهما قالا:((إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك)) ومعناه أن تنشئ لها سفرًا من بلدك تقصد له، ليس أن تحرم بها من أهلك، قال أحمد: كان سفيان يفسره بهذا وكذلك فسره به أحمد. ولا يصح أن يفسر بنفس الإحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم، وقد أمرهم الله بإتمام العمرة، فلو حمل قولهم على ذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تاركين لأمر الله، ثم إن عمر وعليًا ما كانا يحرمان إلا من الميقات، أفتراهما يريان أن ذلك ليس بإتمام لها ويفعلانه؟ هذا لا ينبغي أن يتوهمه أحد ولذلك أنكر عمر على عمران إحرامه من مصره واشتد عليه، وكره أن يتسامع الناس مخافة أن يؤخذ

ص: 363

..............................................................................................

ــ

به، أفتراه كره إتمام العمرة واشتد عليه أن يأخذ الناس بالأفضل، هذا لا يجوز فيتعين حمل قولهما في ذلك على ما حمله عليه الأئمة، والله أعلم - انتهى كلام ابن قدامة. قلت: القول الراحج عندنا قول من قال: بكراهة تقديم الإحرام قبل الميقات، وقد روي ذلك عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما كما تقدم، وهو الموافق لحكمة تشريع المواقيت، وما أحسن ما ذكر الشاطبي في الاعتصام (ج1: ص167) ومن قبله الهروي في ذم الكلام عن الزبير بن بكار: قال حدثني ابن عيينة قال سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: فأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أزيدها. قال: وأي فتنة أعظم من أن تري أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (24: 63) انتهى. وأما حديث: ((من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك)) فهو حديث منكر أخرجه البيهقي (ج5: ص31) من طريق جابر بن نوح عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} قال: فذكره. قال الشيخ ناصر الدين الألباني: هذا سند ضعيف، ضعفه البيهقي بقوله: فيه نظر ووجهه أن جابرًا هذا متفق على تضعيفه، وأورد له ابن عدي (50/2) هذا الحديث وقال: لا يعرف إلا بهذا الإسناد، ولم أر له أنكر من هذا - انتهى. وقد خفى هذا على الشوكاني فقال في نيل الأوطار (ج4: ص180) : ثبت هذا مرفوعًا من حديث أبي هريرة أخرجه ابن عدي والبيهقي - انتهى. وقد رواه البيهقي من طريق عبد الله بن سلمة المرادي عن علي موقوفًا، ورجاله ثقات إلا أن المرادي هذا كان تغير حفظه، وعلى كل حال هذا الموقوف أصح من المرفوع - انتهى. وأما حديث أم سلمة في الإحرام من المسجد الأقصى ففي صحته نظر وإن سكت عليه أبو داود. وقد أخرجه أيضًا أحمد (ج6: ص299) ، وابن ماجة، والدارقطني، والبيهقي (ج5: ص30) ، وابن حبان في صحيحه بألفاظ مختلفة كلهم من طريق حكيمة عن أم سلمة مرفوعًا. قال ابن القيم: في تهذيب السنن (ج2: ص 284) : قال غير واحد من الحافظ إسناده ليس بالقوي، وأعله المنذري بالاضطراب فقال في مختصر السنن (ج2: ص285) : وقد اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافًا كثيرًا وكذا أعله بالاضطراب الحافظ ابن كثير كما في نيل الأوطار (ج4: ص178)، ثم إن المنذري كأنه نسى هذا فقال في الترغيب والترهيب:((رواه ابن ماجة بإسناد صحيح)) وأنى له الصحة وفيه ما ذكره من الاضطراب، وسيأتي شيء من الكلام عليه في آخر الفصل الثاني، وفي الاستدلال به على جواز تقديم الإحرام على الميقات مطلقًا نظر لأن دلالته أخص من ذلك أعني أنه إنما يدل على أن الإحرام من بيت المقدس خاصة أفضل من الإحرام من المواقيت، وأما غيره من البلاد فالأصل الإحرام من المواقيت المعروفة وهو الأفضل كما قرره الأمير اليماني في سبل السلام وابن قدامة في المغني وهذا على فرض صحة الحديث أما وهو لم يصح كما رأيت فبيت المقدس كغيره في هذا الحكم لما سبق بيانه، وقد

ص: 364

متفق عليه.

2541-

(13) وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ــ

روى ما يدل عليه بعمومه وهو ما روى الهيثم بن كليب وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما والبيهقي في سننه من طريق واصل ابن السائب الرقاشي عن أبي سورة عن عمه أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا: ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه. قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف، واصل بن السائب منكر الحديث، قاله البخاري وغيره، ثم رواه البيهقي من طريق الشافعي: أنا مسلم عن ابن رباح عن عطاء مرفوعًا نحوه. وأعله بقوله: ((هذا مرسل)) قلت: ومسلم شيخ الشافعي هو ابن خالد الزنجي الفقيه، وهو صدوق كثير الأوهام كما في التقريب، وابن جريج مدلس وقد عنعنه واستدل أيضًا لأبي حنيفة ومن وافقه بما رواه أحمد والثقفي في مشيخته النيسابوريين (184، 185، 335/4) من طريق الحسن بن هادية قال: لقيت ابن عمر فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل عمان. قال: من أهل عمان؟ قلت: نعم. قال: أفلا أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت بلى. فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أني لأعلم أرضًا يقال لها عمان ينزح بجانبها البحر، والحجة منها أفضل من حجتين من غيرها. قال الشيخ الألباني: رجاله كلهم ثقات معروفون غير ابن هادية هذا فقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وأما ابن حبان فقد ذكره في الثقات (ج1: ص14) وهذا منه على عادته في توثيق المجهولين (المستورين) وتوثيق ابن حبان هذا هو عمدة الهيثمي حين قال في المجمع (ج3: ص217) : ((رواه أحمد ورجاله ثقات)) وحجة الشيخ الفاضل أحمد محمد شاكر في قوله في تعليقه على المسند ((إسناد صحيح)) وهذا غير صحيح لما سبق، وكم له في هذا التعليق وغيره من مثل هذه الصحيحات المبنية على هذه التوثيقات التي لا يعتمد عليها لضعف مستندها - انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص238، 249، 252، 332، 339) ، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن الجارود (ص148) ، والدارقطني، والشافعي، والبيهقي (ج5: ص29) .

2541-

قوله: (عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) كذا وقع في المشكاة والمصابيح، وهو يدل على أن الحديث عند مسلم مجزوم في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأمر ليس كذلك، فإن مسلمًا رواه أولا من طريق روح بن عبادة عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال: سمعت ثم انتهى فقال: أراه يعني النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يذكر مسلم لفظه، ومعنى هذا الكلام أن أبا الزبير سمع بعض الناس يسأل جابرًا عن مواضع إحرام الحجاج من جميع الجهات فقال جابر: سمعت، ثم وقف عن الكلام ورفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال أراه (بضم الهمزة)، أي أظن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((مهل أهل المدينة)) ، وأما قوله:((يعني النبي صلى الله عليه وسلم)) فهو من كلام أبي الزبير يفسر به رجوع الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قول جابر أراه يعني مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النووي: معناه أن أبا الزبير قال سمعت

ص: 365

مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق،

ــ

جابرًا ثم انتهى أي: وقف عن رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أراه أي أظنه رفع الحديث فقال: أراه يعني النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في الرواية الأخرى أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم رواه مسلم من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة إلخ. والطريقان تدلان على أن الحديث مشكوك في رفعه. قال النووي: لم يثبت رفع الحديث لكونه لم يجزم برفعه، وأجيب بأن قوله أراه أو أحسبه معناه أظنه، والظن في باب الرواية يتنزل منزلة اليقين وليس ذلك قادحًا في رفعه، وأيضًا فلو لم يصرح برفعه لا يقينًا ولا ظنًا فهو منزل منزلة المرفوع، لأن هذا لا يقال من قبل الرأي وإنما يؤخذ توقيفًا من الشارع لا سيما وقد ضمه جابر إلى المواقيت المنصوص عليها يقينًا باتفاق، وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة وابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي كلاهما عن أبي الزبير ولم يشكا في رفعه (مهل أهل المدينة) بضم الميم من الإهلال، أي موضع إحرامهم اسم مكان (والطريق الآخر)، أي مهل الطريق الآخر لهم. قاله القاري. (الجحفة) قال ابن مالك: أي إذا جاءوا من طريق الجحفة فهي مهلهم، وقال ابن حجر: أي ومهل أهل الطريق الآخر الذي لا يمر سالكه بذي الحليفة ولا يجاوزها يمنة أو يسرة هو الجحفة (ومهل أهل العراق من ذات عرق) بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف سمي الموضع بذلك لأن فيه عرقًا وهو: الجبل الصغير. وهي: أرض سبخة تنبت الطرفاء، وقيل: العرق من الأرض السبخة تنبت الطرفاء ويسمى الآن الضريبة بفتح الضاد وكسر الراء بعدها ياء ثم باء وهي الحد الفاصل بين تهامة ونجد وتبعد عن مكة بالمراحل (2) وبالفراسخ (16) وبالأميال (48) وبالكيلوات (80) ويحرم منه أهل العراق وبلاد إيران وحاج الشرق كله. والحديث صريح في أن ذات عرق ميقات أهل العراق بنص النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيته لكن قال النووي: لا يحتج بهذا الحديث مرفوعًا لكونه لم يجزم برفعه، وقد سبق الجواب عن ذلك ويشهد لكون ذات عرق ميقات أهل العراق بالنص ما وقع في حديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، والطحاوي، والدارقطني بإسناد صحيح كما قاله النووي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق، ويأتي الكلام عليه في الفصل الثاني. ويشهد له أيضًا حديث الحارث بن عمرو السهمي عند أحمد، والنسائي، وأبي داود، والطبراني، وحديث ابن عباس عند ابن عبد البر في التمهيد، والبزار في مسنده، وحديث ابن عمر عند ابن راهوية في مسنده وحديث أنس عند الطحاوي، والطبراني، وحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد، والدارقطني. وهذه الأحاديث وإن كان في كل منها ضعف ولا تخلو عن مقال فمجموعها لا يقتصر عن بلوغ درجة الاحتجاج به، وبها يرد على ابن خزيمة حيث قال: في ذات عرق أخبار لا يثبت منها شيء عند أهل الحديث. وعلي ابن المنذر حيث يقول: لم نجد في ذات عرق حديثًا يثبت. واعلم أنه قد اتفق العلماء على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على المواقيت الأربعة المذكورة في حديثي ابن عباس، وجابر وهي ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم. واختلفوا في ذات عرق

ص: 366

..............................................................................................

ــ

هل صارت ميقاتًا لأهل العراق بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم ونصه أم باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وممن قال إنه مجتهد فيه من السلف طاوس، وابن سيرين، وأبو الشعثاء، وجابر بن زيد حكاه البيهقي وغيره. وممن قال من السلف أنه منصوص عليه عطاء بن أبي رباح، وحكاه ابن الصباغ عن أحمد وأصحاب أبي حنيفة، واختلف قول الشافعي فيه فقال في موضع: هو منصوص عليه، وفي موضع: ليس منصوصًا عليه، وكذلك اختلف فيه الشافعية وأكثرهم على أنه منصوص عليه. ويدل لذلك الأحاديث السابقة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي نص فيها أن ذات عرق ميقات العراق. قال النووي: قالوا: وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوي بعضها بعضًا ويصير الحديث حسنًا ويحتج به، ويحمل تحديد عمر باجتهاده على أنه لم يبلغه تحديد النبي صلى الله عليه وسلم فحدده باجتهاده فوافق النص - انتهى. واستدل من قال إنه مجتهد فيه بما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال: لما فتح هذان المصران (أي الكوفة والبصرة، والمراد بفتحهما غلبة المسلمين على مكان أرضهما)، أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وهو جور، أي ميل عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرن شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق. قالوا: فهذا الحديث الصحيح صريح في أن توقيت ذات عرق باجتهاد من عمر، وقد جاءت بذلك أيضًا آثار عن بعض السلف قال الحافظ بعد ذكرها: هذا كله يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصًا، وبه قطع الغزالي، والرافعي في شرح المسند، يعني مسند الشافعي، والنووي في شرح مسلم، وكذا وقع في المدونة لمالك، وصحح الحنفية، والحنابلة، وجمهور الشافعية، والرافعي في الشرح الصغير، والنووي في شرح المهذب: أنه منصوص. وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه. وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة، وابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما عن أبي الزبير فلم يشكا في رفعه، ووقع في حديث عائشة وفي حديث الحارث بن عمرو السهمي كلاهما عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وهذا يدل على أن للحديث أصلاً، فلعل من قال إنه غير منصوص لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو عن مقال، ولهذا قال ابن خزيمة: رويت في ذات عرق أخبار لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث وقال ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتًا. قال الحافظ: لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى كما ذكرنا. قلت: أظهر القولين عندي وأرجحهما أن ذات عرق وقتها النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث، منها ما هو صحيح الإسناد ومنها ما في إسناده كلام، وبعضها يقوي يعضًا، ولا يعارض ذلك حديث ابن عمر عند البخاري الذي يدل على أن توقيت ذات عرق لأهل العراق باجتهاد من عمر، لاحتمال أن عمر لم يبلغه ذلك فاجتهد فوافق اجتهاده توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رضي الله عنه معروف أنه وافقه الوحي في مسائل متعددة، فلا مانع من أن تكون هذه منها لا شرعًا ولا عقلاً ولا عادة. قال ابن قدامة: ويجوز أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات

ص: 367

..............................................................................................

ــ

عرق فقال ذلك برأيه فأصاب ووافق قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان كثير الإصابة - انتهى. وأما إعلال بعضهم حديث ذات عرق بأن العراق لم تكن فتحت يومئذٍ فقال ابن عبد البر: هي غفلة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح لكنه علم أنها ستفتح، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق - انتهى. وبهذا أجاب الماوردي وآخرون فإن قلت: ما الجمع بين حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق، وبقية الأحاديث في التوقيت من ذات عرق؟ قلت: في ذلك أوجه: أحدها: ضعف حديث ابن عباس، فإنه تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو سيئ الحفظ، وبتقدير صحته أحاديث التوقيت من ذات عرق أصح وأكثر وأرجح. الثاني: أن ذات عرق ميقات الوجوب، والعقيق ميقات الاستحباب لأنه أبعد من ذات عرق فالإحرام من العقيق أفضل، فإن جاوزه وأحرم من ذات عرق جاز، وبهذا صرح الشافعية، الثالث: أن ذات عرق ميقات لبعض أهل العراق وهم أهل البصرة، والعقيق ميقات للبعض منهم وهم أهل المدائن، وقع ذلك في حديث لأنس عند الطبراني في الكبير، وفيه أبو ظلال هلال بن زيد، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور. الرابع: أن ذات عرق كانت أولاً في موضع العقيق الآن ثم حولت وقربت إلى مكة، وعلى هذا فذات عرق هو العقيق، واللفظان متواردان على شيء واحد، ومقتضى هذا الجواب وجوب الإحرام من العقيق، والجمهور على خلافه، فإنه لم يقل أحد: بتعيين الإحرام من العقيق، وإنما قالوا: يستحب احتياطًا. قال ابن المنذر: واختلفوا في المكان الذي يحرم منه من أتى من العراق على ذات عرق، فكان أنس يحرم من العقيق، واستحب ذلك الشافعي، وكان مالك، وإسحاق، وأحمد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي يرون الإحرام من ذات عرق، وقال أبو بكر: الإحرام من ذات عرق يجزئ وهو من العقيق أحوط. اعلم أن من سلك طريقًا إلى الحرم لا ميقات فيها فميقاته المحل المحاذي لأقرب المواقيت إليه كما يدل عليه ما قدمنا نقلاً عن صحيح البخاري من توقيت عمر ذات عرق لأهل العراق لمحاذاتها قرن المنازل، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم. قال المحب الطبري: في حديث ابن عمر عند البخاري دلالة على أن من مر على طريق لا ميقات فيه أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه نزولاً على قضاء عمر. وقال الولي العراقي: سكت في حديث ابن عباس عند الشيخين عن قاصد مكة للنسك من غير أن يمر على شيء من هذه المواقيت، وقد قال الجمهور: يلزمه الإحرام إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، وبه قال الأئمة الأربعة، وتمسكوا في ذلك بقول عمر رضي الله عنه لما شكى إليه أهل العراق جور قرن عن طريقهم:((انظروا حذوها من طريقكم)) والإحرام من محاذاة الميقات أقرب الأمور إلى النص، لأن القصد البعد عن مكة بهذه المسافة، فلزم إتباعه - انتهى. وحاصل مذهب الحنابلة في ذلك على ما في ((مفيد الأنام)) للشيخ ابن جاسر النجدي: من لم يمر بميقات من المواقيت الخمسة، أحرم بحج أو عمرة وجوبًا إذا علم أنه حاذى أقرب المواقيت منه لقول عمر رضي الله عنه:((انظروا حذوها من طريقكم)) رواه البخاري، وسن له أن

ص: 368

..............................................................................................

ــ

يحتاط ليخرج من عهدة الواجب، فإن لم يعلم حذو الميقات أحرم من بعد، إذ الإحرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه حرام، فإن تساويا قربًا منه فإنه يحرم من حذو أبعدهما من مكة من طريق، لأنه أحوط، فإن لم يحاذ ميقاتًا كالذي يجيء من ((سواكن)) إلى ((جدة)) من غير أن يمر ((برابغ)) ولا ((يلملم)) لأنهما أمامه، فيصل ((جدة)) قبل محاذاتهما أحرم من مكة بقدر مرحلتين، فيحرم في المثال من ((جدة)) لأنها على مرحلتين من مكة لأنه أقل المواقيت - انتهى. وقال ابن قدامة: من سلك طريقًا بين ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب لما روينا أن أهل العراق قالوا لعمر: إن قرنا جور عن طريقنا، فقال: انظروا حذوها من طريقكم، فوقت لهم ذات عرق فإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه احتاط فأحرم من بعد بحيث تيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرمًا، لأن الإحرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه لا يجوز، فالاحتياط فعل ما لاشك فيه، ولا يلزمه الإحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه، لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك، فإن أحرم ثم علم أنه قد جاوز ما يحاذيه من المواقيت غير محرم فعليه دم وإن شك في أقرب الميقاتين إليه فالحكم في ذلك على ما ذكرنا في المسألة قبلها، وإن كانتا متساويتين في القرب إليه أحرم من حذو أبعدهما - انتهى. وقال الحافظ: قد نقل النووي في شرح المهذب: من ليس له ميقات ولا يحاذي ميقاتًا يلزمه أن يحرم على مرحلتين اعتبارًا بقول عمر: هذا في توقيته ذات عرق، وتعقب بأن عمر إنما حدها لأنها تحاذي قرنًا وهذه الصورة إنما هي حيث يجهل المحاذاة، فلعل القائل بالمرحلتين أخذ بالأقل، لأن ما زاد عليه مشكوك فيه، لكن مقتضى الأخذ بالاحتياط أن يعتبر الأكثر الأبعد - انتهى. قلت: مذهب الشافعية: أن من سلك البحر أو طريقًا ليس فيه شيء من المواقيت الخمسة، أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، فإذا كان عند محاذاة ذي الحليفة على ميلين منها وعند محاذاة الجحفة على ميل كان ميقاته الجحفة، وإن استويا في القرب إليه أحرم عند محاذاة الأبعد من مكة، فإن لم يحاذ شيئًا - كالآتي من غربي جدة في البحر - أحرم على مرحلتين من مكة قال ابن حجر الهيتمي المكي في ((تحفة المحتاج بشرح المنهاج)) :(من سلك طريقًا) في بر أو بحر (لا ينتهي إلى ميقات، فإن حاذى ميقاتًا) ، أي سامته بأن كان على يمينه أو يساره ولا عبرة بما أمامه أو خلفه (أحرم من محاذاته) فإن اشتبه عليه موضع المحاذاة اجتهد ويسن أن يستظهر ليتيقن المحاذاة، فإن لم يظهر له شيء تعين الاحتياط (أو) حاذى (ميقاتين) بأن كان إذا مر على كلٍ تكون المسافة منه إليه واحدة (فالأصح أن يحرم من محاذاة أبعدهما) من مكة وإن حاذى الأقرب إليها أولا وليس له انتظار الوصول إلى محاذاة الأقرب إليها، كما ليس للمار على ذي الحليفة أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة، فإن استوت مسافتهما في القرب إلى طريقه وإلى مكة أحرم من محاذاتهما، ما لم يحاذ أحدهما قبل الآخر، وإلا فمنه، أما إذا لم تستو مسافتهما إليه بأن كان بين طريقه وأحدهما إذا مر عليه ميلان، والآخر إذا مر عليه فهذا هو ميقاته، وإن كان

ص: 369

..............................................................................................

ــ

أقرب إلى مكة. قال الشرواني: في حاشيته والحاصل أن العبرة أولاً بالقرب إليه ثم بالبعد من مكة، ثم بالمحاذاة أولاً؛ فإن انتفى جميع ذلك فمن محاذاتهما - انتهى. قال ابن حجر:(وإن لم يحاذ) شيئًا من المواقيت (أحرم على مرحلتين من مكة) لأنه لا ميقات دونهما. قال: والإحرام من المرحلتين هنا بدل عن أقرب ميقات إلى مكة، وأقرب ميقات إليها على مرحلتين منها، لا من الحرم، فاعتبرت المسافة من مكة لذلك. لا يقال: المواقيت مستغرقة لجهات مكة فكيف يتصور عدم محاذاته لميقات؟ فينبغي أن المراد عدم المحاذاة في ظنه دون نفس الأمر، لأنا نقول يتصور بالجائي من ((سواكن)) ((إلى جدة)) من غير أن يمر برابغ أو بيلملم لأنهما حينئذٍ أمامه، فيصل جدة قبل محاذاتهما؛ وهي على مرحلتين من مكة، فتكون هي ميقاته. قال النووي:(وإن بلغ الميقات مريدًا) للنسك (لم تجز مجاوزته) إلى جهة الحرم (بغير إحرام) قال ابن حجر: خرج بقولنا: ((إلى جهة الحرم)) ما لو جاوزه يمنة أو يسرة فله أن يؤخر إحرامه لكن بشرط أن يحرم من محل مسافته إلى مكة مثل مسافة ذلك الميقات كما قاله الماوردي. وجزم به غيره. وبه يعلم أن الجائي من اليمن في البحر له أن يؤخر إحرامه من محاذاة يلملم إلى جدة، لأن مسافتها إلى مكة كمسافة يلملم كما صرحوا به - انتهى. ومذهب الحنفية أن من سلك طريقًا ليس فيه ميقات معين برًا أو بحرًا اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتًا منها، ومن حذو الأبعد أولى. وإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة، كجدة. قال صاحب البحر: قد قالوا: من كان في برً أو بحرً لا يمر بواحد من هذه المواقيت المذكورة، عليه أن يحرم إذا حاذى آخرها، ويعرف بالاجتهاد، وعليه أن يجتهد فإذا لم يكن بحيث يحاذي فعلى مرحلتين إلى مكة. ولعل مراده بالمحاذاة المحاذاة القريبة من الميقات، وإلا فآخر المواقيت باعتبار المحاذاة ((قرن المنازل)) وقال القاري في شرح المناسك: وعين هذه المواقيت ليست بشرط ولهذا يصح الإحرام قبلها، بل الواجب عينها أو حذوها، أي محاذاتها ومقابلتها، فمن سلك غير ميقات، أي طريقًا ليس فيه ميقات معين برًا أو بحرًا اجتهد، وأحرم إذا حاذى ميقاتًا منها، أي من المواقيت المعروفة ومن حذو الأبعد أولى، فإن الأفضل أن يحرم من أول الميقات وهو الطرف الأبعد عن مكة، حتى لا يمر بشيء مما يقال ميقاتًا غير محرم، ولو أحرم من الطرف الأقرب إلى مكة جاز باتفاق الأربعة، وإن لم يعلم المحاذاة فإنه لا يتصور عدم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة، كجدة المحروسة من طرف البحر. وقال في حاشية قوله:((كجدة)) فإنها على مرحلتين عرفيتين من مكة، وثلاث مراحل شرعية ووجهه أن المرحلتين أوسط المسافات وإلا فالاحتياط الزيادة، كذا في شرح نظم الكنز. وأقول: لعل وجهه أيضًا أن أقرب المواقيت إلى مكة على مرحلتين عرفيتين من مكة، فقدر بذلك - انتهى. وقال في غنية الناسك: ومن كان في بر أو بحر لا يمر بواحد من المواقيت الخمس تحرى إذا لم يجد من يستخبره، وأحرم إذا غلب على ظنه أنه حاذى آخرها، قربت المحاذاة من الميقات أو بعدت كما في رد المحتار عن النهر، ومن حذو الأبعد أولى، وإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين عرفيتين من مكة كجدة من طرف البحر، فإنها على مرحلتين عرفيتين من

ص: 370

ومهل أهل نجد قرن، ومهل أهل اليمن يلملم. رواه مسلم.

2542-

(14) وعن أنس قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة،

ــ

مكة وثلاث مراحل شرعية (طوالع) - انتهى. وفي منسك الشيخ يحيى الحطاب من المالكية ((قال مالك)) : ومن حج في البحر من أهل مصر والشام وشبههما أحرم إذا حاذى الجحفة. قال شارحه الشيخ محمد البناني: أي ولا يؤخره إلى البر، وعليه درج الخرشي في شرحه حيث قال: إن من سافر في البحر فإنه يحرم إذا حاذى الميقات ولا يؤخره إلى البر - انتهى. فعليه إذا لم يحرم عند محاذاة الميقات ببحر وأخره إلى البر أساء وعليه دم عندهم تنبيه: قد اتضح مما ذكرنا من كلام ابن حجر المكي، وعلي القاري وغيرهما أنه لا يجب على الحاج الهنود والباكستانيين القادمين بالباخرة للحج أو العمرة أن يحرموا في أي محل من البحر قبل وصولهم إلى جدة، بل يجوز لهم أن يؤخروا الإحرام في البحر ويحرموا بعد نزولهم على ميناء جدة من جدة، لأنه لا يقع ميقات من المواقيت الخمسة في طريق بواخر الحجاج القادمين من الهند أو الباكستان ولا تحاذي شيئًا منها بل تقطع طريقها في البحر في حدود الآفاق بعيدة عن يلملم التي هي جبل من جبال نهامة وقريبة من مكة، فلا يمكن لأية باخرة أو سفينة قادمة من الهند والباكستان أن تتجاوزها أو تتجاوز خط محاذاتها إلى الحل الصغير ولو كانت تجري على الساحل فإن المواقيت الخمسة والخطوط الممتدة من ميقات إلى آخر الموصلة بعضها ببعض المحددة لحدودها كلها في البر، وأقرب المواقيت إلى مكة على مرحلتين منها، وجدة أيضًا على مرحلتين من مكة، فيجب عليهم أن يحرموا منها، وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً فتذكر. (رواه مسلم) ، قد تقدم أن مسلمًا رواه مشكوكًا في رفعه وكذا أخرجه أبو عوانة في مستخرجه، والشافعي، وأحمد، والدارقطني، والبيهقي، وأخرجه أيضًا أحمد، وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبو يعلى والدارقطني، والبيهقي من طريق الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن جابر، وأحمد من طريق ابن لهيعة، والحجاج، وابن ماجة من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي، الثلاثة عن أبي الزبير عن جابر، فلم يشكوا في رفعه إلا أن الحجاج مدلس. وابن لهيعة ضعفوه لاختلاطه بعد احتراق كتبه، وإبراهيم ابن يزيد غير محتج به، لكن لحديث جابر في توقيت ذات عرق لأهل العراق شواهد مرفوعة جياد حسان يجب العمل بمثلها مع تعددها ومجيئها مسندة ومرسلة من وجوه شتى.

2542-

قوله: (أربع عمر) بضم ففتح جمع عمرة (كلهن) ، أي بعد الهجرة (في ذي القعدة) بفتح القاف وبكسر بناء على أنه من المرة أو الهيئة، سمي بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن الأسفار، وإنما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه العمر في ذي القعدة لفضيلة هذا الشهر ولبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه، فإنهم كانوا يرون الاعتمار في أشهر الحج من أفجر الفجور ففعله صلى الله عليه وسلم مرات في ذي القعدة وهو من أشهر الحج ليكون أبلغ في بيان جوازه، وأبلغ في إبطال ما كانت الجاهلية

ص: 371

إلا التي كانت مع حجته، عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة،

وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين

ــ

عليه (إلا التي كانت مع حجته) بفتح الحاء وكسرها والمراد أي انتهاء وإلا فهي بالنظر إلى الابتداء كانت في ذي القعدة واستشكل ابن التين هذا الاستثناء فقال: هو كلام زائد والصواب حذفه لأنه عد التي مع حجته فكيف يستثنيها أولاً؟ وأجاب عياض بأن الرواية صواب، وكأنه قال في ذي القعدة منها ثلاث والرابعة عمرته في حجته، أو المعنى كلها في ذي القعدة إلا التي اعتمر في حجته، لأن التي في حجته كانت في ذي الحجة (عمرة) بالنصب على البدلية وبالرفع على أنه مبتدأ موصوف بقوله:(من الحديبية) بحاء مضمومة فمهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فموحدة مكسورة فتحتية ثانية مخففة، وقيل مشددة، أحد حدود الحرم على تسعة أميال من مكة. والخبر قوله:(في ذي القعدة) والحديبية قيل: اسم لبئر في طريق جدة سميت بشجرة حدباء هناك. قال الفاسي: يقال: إنها المعروفة الآن ببئر شمس، وقيل: شميس بالتصغير. وقال أبو علي البغدادي: في كتاب النوادر الحديبية مخففة الياء، موضع بين الحل والحرم. وقال أبو عمر ابن عبد البر: الحديبية آخر الحل وأول الحرم، وقيل: بعضها في الحل وبعضها في الحرم، وقيل: أكثرها في الحرم، وقال البخاري: الحديبية خارج من الحرم - انتهى. ووقع في رواية لمسلم: ((أو زمن الحديبية)) وهو شك من الراوي، والمعنى واحد، وفي رواية للبخاري:((عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون)) وكان توجهه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الاثنين مستهل ذي القعدة سنة ست، فخرج قاصدًا إلى العمرة وأحرم في ذي الحليفة، ولما بلغ الحديبية صده قريش عن الوصول إلى البيت، ووقعت بينهم المصالحة على أن يدخل مكة في العام المقبل وتحلل هو وأصحابه من العمرة بالنحر، ثم الحلق ورجع إلى المدينة، وعدوها من العمر مع عدم الطواف والسعي لترتب أحكامها من نحر الهدي، والحلق، أي الخروج من الإحرام، وقيل: باعتبار النية المترتب عليه المثوبة. وقال الكرماني: عمرة المحصر عن الطواف محسوبة بعمرة وإن لم تتم مناسكها، وعمرة الحديبية هي: العمرة الأولى من الأربع والثانية (عمرة) بالنصب والرفع كما مر (من العام المقبل في ذي القعدة) وهي: عمرة القضاء أو القضية سنة سبع (وعمرة من الجعرانة) بكسر الجيم وسكون العين المهملة وتخفيف الراء وبكسر العين وتشديد الراء لغتان، والأول ذهب إليه الأصمعي وصوبه الخطابي. قال ابن المديني: أهل المدينة يثقلون وأهل العراق يخففون، وبالتخفيف قيدها المتقنون. وقال الخطابي في ((تصحيف المحدثين)) : إن هذا مما ثقلوه وهو مخفف وهي موضع قريب من مكة معروف، بينها وبين الطائف وهي إلى مكة أقرب. قال القاري: وهو على ستة أميال أو تسعة أميال وهو الأصح، وسمي هذا الموضع باسم امرأة كانت تلقب بالجعرانة، وهي ريطة بنت سعد بن زيد بن عبد مناف، وقيل: كانت من قريش، وهي المشار إليها في قوله تعالى:{كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} (16: 92) كانت تغزل من أول النهار إلى نصفه ثم تنقضه، فضربت بها العرب مثلاً في الحمق ونقض ما أحكم من العقود وأبرم من العهود (حيث قسم غنائم حنين) بعد فتح مكة،

ص: 372

في ذي القعدة، وعمرة مع حجته،

ــ

وحنين بالتصغير واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال (في ذي القعدة) ، وهي العمرة الثالثة، وكانت في سنة ثمان بعد فتح مكة غزوة هوازن وغزوة الطائف. ويوم حنين هو: غزوة هوازن لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، نزل الجعرانة فقسم بها غنائم هوازن، ثم اعتمر منها فدخل مكة بهذه العمرة ليلاً، فقضى عمرته ثم خرج منها تحت ليلته إلى الجعرانة فبات بها، فلما أصبح وزالت الشمس خرج منها في بطن سرف حتى جامع الطريق طريق المدينة بسرف، ومن ثم خفيت هذه العمرة على كثير من الناس، (وعمرة مع حجته) أي مقرونة مع حجته وهي: الرابعة التي قرنها بحجة الوداع سنة عشر، وهي أيضًا باعتبار إحرامها كانت في ذي القعدة، وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد (ج1: ص246، 276) ، والترمذي و، أبي داود، وابن ماجة، وسكت عنه أبو داود، والمنذري. ورجاله كلهم ثقات. وعن عائشة عند أحمد، وأبي داود، والنسائي:((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاثًا سوى التي قرنها بحجة الوداع)) وقد سكت عنه أبو داود، والمنذري، وعن ابن عمر أنه سئل: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربع. الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما. وهذه الأحاديث تدل على أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: (الأولى) : عمرة الحديبية سنة ست من الهجرة (والثانية) : عمرة القضاء في السنة السابعة (والثالثة) : عمرة الجعرانة في السنة الثامنة بعد فتح مكة (والرابعة) : كانت مع حجته سنة عشرة، وكلها كانت في ذي القعدة إلا الرابعة فكانت في ذي الحجة، هذا هو الصحيح الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وذهب إليه المحققون من المحدثين والفقهاء. وقد ورد ما يخالف ذلك في العدد كحديث البراء التالي وحديث ابن عمر أنه سئل: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: مرتين. أخرجه أحمد (ج2: ص70) ، وأبو داود، والنسائي، وحديث عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال. أخرجه أبو داود، وسكت عنه هو والمنذري. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر كل ذلك في ذي القعدة. أخرجه أحمد (ج2: ص180) ، وفيه الحجاج بن أرطاة، وفيه كلام وقد وثق، وحديث عائشة عند أحمد بإسناد صحيح:((ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة، ولقد اعتمر ثلاث عمر)) وحديث عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر، عمرتين في ذي القعدة، وعمرة في شوال. أخرجه سعيد بن منصور في سننه، والبيهقي (ج4: ص346) ، وقوى الحافظ إسناده وحديث أبي هريرة ((قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر كلها في ذي القعدة)) أخرجه البيهقي (ج4: ص345) ، وحديث جابر بمثل حديث أبي هريرة عند البزار، والطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. وحديث عمر بن الخطاب قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا قبل حجه في ذي القعدة. أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: ورجاله ثقات إلا أن سعيد بن المسيب اختلف في سماعه من عمر. والجمع بين حديث أنس ومن وافقه وبين أحاديث هؤلاء الصحابة أن من قال مرتين لم يعد العمرة التي كانت مع حجته لأنها كانت مقرونة بحجه، وكانت في ذي الحجة كما تقدم، وكأنه لم يعد أيضًا العمرة الأولى

ص: 373

..............................................................................................

ــ

وهي عمرة الحديبية لكونها لم تتم، وإن كانت وقعت في ذي القعدة، أو عدها ولم يعد عمرة الجعرانة لخفائها عليه، لكونها ليلاً، ومن قال: ثلاثًا. لم يحسب العمرة التي قرنها بحجته لأن حديثه مقيد بكون ذلك في القعدة، والتي في حجته كانت في ذي الحجة وقال ابن حزم: صدقت عائشة، وصدق ابن عمر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر مذ هاجر إلى المدينة عمرة كاملة إلا اثنتين كما قال ابن عمر - وهما عمرة القضاء وعمرة الجعرانة عام حنين - وعدت عائشة إلى هاتين العمرتين عمرة الحديبية التي صد عنها صلى الله عليه وسلم، فأحل بالحديبية ونحر الهدي. والعمرة التي قرن مع حجة الوداع لم يكمل أفعالها، فتألف قولاهما، وعلى ذلك يحمل قول أنس:((أربع عمر)) ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء وعمرة الجعرانة، والصحيح أن الثلاث كانت في القعدة. واختلفوا هل اعتمر الرابعة؟ فمن قال: إنه كان قارنًا أو متمتعًا في حجته عدها أربعًا، ومن قال إنه كان مفردًا عدها ثلاثًا. ويجوز على هذا نسبة الرابعة إليه، لأنه أمر الناس بها وعملت بحضرته. وأما ما ورد مخالفًا لذلك في الزمن كحديث ابن عمر عند الشيخين:((أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعًا إحداهن في رجب)) فيحمل على النسيان كما صرحت بذلك عائشة فقالت: ((يغفر الله لأبي عبد الرحمن نسى)) وكذلك قال غير واحد من المحدثين المحققين. وأما ما وقع في رواية عائشة عند أبي داود، وسعيد بن منصور، والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة في شوال، فيجمع بينه وبين ما ورد في الأحاديث الصحيحة أن الثلاثة كانت في ذي القعدة، بأن يكون ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة، ويؤيده ما وقع في رواية عائشة نفسها عند أحمد، وابن ماجة بإسناد صحيح:((أنه ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة)) وأما ما رواه الدارقطني عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتمت، الحديث. وقد قدمنا الكلام عليه في قصر الصلاة (ج2: ص265) فقال ابن القيم: هذا الحديث غلط فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط وعمره مضبوطة العدد والزمان، ويرحم الله أم المؤمنين، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان قط، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة. رواه ابن ماجة وغيره. ولا خلاف أن عمره لم تزد على أربع، فلو كان قد اعتمر في رجب لكانت خمسًا، ولو كان قد اعتمر في رمضان لكانت ستًا إلا أن يقال: بعضهن في رجب، وبعضهن في رمضان، وبعضهن في ذي القعدة، وهذا لم يقع. وإنما الواقع اعتماره صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة كما قال أنس، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم انتهى. وقال القسطلاني: قد حكم الحافظ بغلط هذا الحديث يعني حديث عائشة عند الدارقطني، إذ لا خلاف أن عمره لم تزد على أربع. وقد عينها أنس وعدها، وليس فيها ذكر شيء منها في غير ذي القعدة سوى التي مع حجته، ولو كانت له عمرة في رجب، وأخرى في رمضان لكانت ستًا، ولو كانت أخرى في شوال - كما هو في سنن أبي داود عن عائشة، أنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في شوال - كانت سبعًا. والحق في ذلك أن ما أمكن فيه الجمع وجب ارتكابه دفعًا للمعارضة، وما لم يمكن فيه، حكم بمقتضى الأصح والأثبت.

ص: 374