المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(10) كتاب المناسك

(10) كتاب المناسك

ــ

(كتاب المناسك) أي مناسك الحج وهكذا عقد النسائي في سننه والطحاوي في شرح معاني الآثار، وهو جمع المنسك بفتح السين وكسرها وقرئ بهما في السبعة قوله تعالى:{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} (- 22: 34) وهو مصدر ميمي من نسك ينسك إذا تعبد ثم سميت أفعال الحج كلها مناسك، قاله القاري. وقال ابن جرير: أصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر، يقال: إن لفلان منسكًا يعتاده، وإنما سميت مناسك الحج بذلك لتردد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة، وقال العيني: المناسك جمع منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك، والمنسك المذبح، وقد نسك ينسك نسكًا إذا ذبح والنسيكة الذبيحة وجمعها نسك، والنسك أيضًا الطاعة والعبادة وكل ما تقرب به إلى الله عز وجل، والنسك ما أمرت به الشريعة والورع وما نهت عنه، والناسك العابد وسئل ثعلب عن الناسك ما هو؟ فقال: هو مأخوذ من النسكية وهي سبيكة الفضة المصفاة كأن الناسك صفي نفسه لله تعالى - انتهى. والحج بفتح الحاء وكسرها لغتان قرئ بهما قوله تعالى {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (- 3: 97) في السبع وأكثر السبعة على الفتح، وفي أمالي الهجري أكثر العرب يكسرون الحاء فقط، ونقل الطبري أن الفتح لغة أهل نجد والكسر لغيرهم. والحجة فيها لغتان أيضًا فتح الحاء وكسرها فمعناه على الفتح الفعلة من الحج، أي المرة وعلى الكسر الحالة والهيئة كالتلبية والإجابة. وقال الجوهري: والحجة بالكسر المرة الواحدة وهو من الشواذ لأن القياس بالفتح وهو مبني على اختياره أنه بالفتح الاسم. ومعنى الحج في اللغة القصد هكذا أطلقه أئمة اللغة، وقيده بعضهم بكثرة القصد إلى معظم، واستدل بقول المخبل السعدي:

وأشهد من عوف حلولاً

يحجون سب الزبرقان المزعفرا

يقول: يأتونه مرة بعد أخرى لسؤدده وارجع لشرح البيت إلى هامش القرى لقاصد أم القرى (ص35) . وقيل: هو إطالة الاختلاف إلى الشيء واختاره ابن جرير، وقال الحافظ: أصل الحج في اللغة القصد. وقال الخليل: كثرة القصد إلى معظم، وفرق بعضهم بين فتح الحاء وكسرها فنقل الطبري عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم والكسر المصدر وعن غيره عكسه. وقال النووي: الحج بالفتح هو المصدر وبالفتح والكسر جميعًا الاسم منه. وقال سيبوبه: المكسور مصدر واسم للفعل، والمفتوح مصدر فقط. وقال ابن السكيت: بفتح الحاء القصد وبالكسر القوم الحجاج، والحاج الذي يحج، وربما يظهرون التضعيف في ضرورة الشعر، قال:

بكل شيخ عامًر أو حاجًج

ويجمع على حجاج وحجيج وحجج بضم الحاء كبازل وبزل ونازل ونزل وعائذ وعوذ ومعناه في عرف الشرع القصد إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم في وقت مخصوص بأفعال مخصوصة كالطواف والسعي والوقوف بعرفة وغيرها

ص: 287

..............................................................................................

ــ

بإحرام، وقيل: هو زيارة مكان مخصوص وهو البيت العتيق في زمان مخصوص وهو أشهر الحج لعمل مخصوص وهو الطواف والسعي والوقوف محرمًا وهو فرض بالكتاب والسنة والإجماع وجاحده كافر عند الكل بلا نزاع، وقال الحافظ: وجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وقال ابن قدامة: والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع وأما سبب الحج فهو البيت لأنه يضاف إليه ولذا لا يجب في العمرة إلا مرة واحدة لعدم تكرار السبب، قال الحافظ: أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر - انتهى. وفي شرح الإقناع: وكالقضاء عند إفساد التطوع، وأما ما رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما وأبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والطبراني في الأوسط والبيهقي في سننه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا ((يقول الله تبارك وتعالى: إن عبدًا صححت له جسمه وأوسعت له في رزقه يأتي عليه خمس سنين لا يفد إليَّ لمحروم)) فهو محمول على الندب يدل على ذلك حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثاني: الحج مرة فمن زاد فهو تطوع واختلف هل هو على الفور أو التراخي فقال بالأول مالك وأحمد وأبو يوسف والمزني من أصحاب الشافعي، وقال بالثاني الشافعي والثوري والأوزاعي ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس، واختلفت الرواية فيه عن أبي حنيفة قال ابن قدامة: من وجب عليه الحج وأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره، أي فيأثم إن أخره بلا عذر وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي: يجب الحج وجوباً موسعاً وله تأخيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمَّر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة لا محاربًا ولا مشغولاً بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج، ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضيًا له دل على أن وجوبه على التراخي، ثم بسط ابن قدامة في الاستدلال على وجوبه على الفور، والجواب عما استدل به القائلون بالتراخي، وقال النووي في مناسكه: إذا وجدت شرائط الوجوب وجب على التراخي فله تأخيره ما لم يخش العضب فإن خشيه حرم عليه التأخير على الأصح، وإذا أخر فمات تبين أنه مات عاصيًا على الأصح لتفريطه، وقال الزبيدي في شرح الإحياء (ص) : اختلف فيه عند أصحابنا فقال أبو يوسف: هو في أول أوقات الإمكان فمن أخره عن العام الأول أثم، وهو أصح الروايتين عن أبي حنيفة كما في المحيط والخانية وشرح المجمع، وفي القنية أنه المختار. قال القدوري: وهو قول مشائخنا وبالتراخي قال محمد. لكن جوازه مشروط بأن لا يفوته حتى لو مات ولم يحج أثم عنده أيضًا، ووقت الحج عند الأصوليين يسمى مشكلاً لوجهين. الوجه الأول أنه يشبه المعيار، لأنه لا يصح في عام واحد إلا حج واحد، ويشبه الظرف لأن أفعاله لا تستغرق أوقاته. والوجه الثاني أن أبا يوسف لما قال بتعيين أشهر الحج من العام الأول جعله كالمعيار ومحمد لما قال بعدمه جعله كالظرف ولم يجزم كل منهما بما قال فإن أبا يوسف لو جزم بكونه معيارًا لقال من أخره عن العام الأول يكون قضاء لا أداء مع أنه لا يقول به، بل يقول إنه يكون أداء، ولقال إن التطوع في العام الأول لا يجوز مع أنه لا يقول به بل يقول إنه يجوز، وإن محمدًا لو جزم بكونه ظرفًا لقال إن من أخره عن العام الأول لا يأثم أصلاً لا في مدة حياته ولا

ص: 288

..............................................................................................

ــ

في آخر عمره مع أنه لا يقول به بل يقول: إن مات ولم يحج أثم في آخر عمره فحصل الإشكال، ثم إن القائل بالفور لا يجزم بالمعيارية، والقائل بالتراخي لم يجزم بالظرفية بل كل منهما يجوز الجهتين لكن القائل بالفور يرجح جهة المعيارية ويوجب أداءه في العام الأول حتى لو أخره عنه بلا عذر أثم لتركه الواجب لكن لو أداه في العام الثاني كان أداء لا قضاء، والقائل بالتراخي يرجح جهة الظرفية حتى لو أداه بعد العام الأول لا يأثم بالتأخير لكن لو أخره فمات ولم يحج أثم في آخر عمره، وقال بعض أصحابنا المتأخرين: والمعتمد أن الخلاف في هذه المسألة ابتدائي فأبو يوسف عمل بالاحتياط لأن الموت في سنته غير نادر فيأثم، ومحمد حكم بالتوسع لظاهر الحال في بقاء الإنسان - انتهى. قال الشوكاني في السيل الجرار (ج2 ص159) : أما الخلاف في كون الحج على الفور أو التراخي فمرجعه ما وقع في الأصول من الخلاف في صيغة الإيجاب هل هي للفور أو للتراخي، وقد دل على الفور عند الاستطاعة الأحاديث الواردة في الوعيد لمن وجد زادًا ولم يحج وهي وإن كان فيها مقال فمجموع طرقها منتهض. واستدل القائلون بالتراخي بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من تأخير حجه إلى سنة عشر مع كون فرض الحج نزل في سنة خمس أو ست على خلاف في ذلك - انتهى. قلت: استدل لأحمد ومالك ومن وافقهما بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (- 2: 196) والأمر يقتضي الفور، وبقوله صلى الله عليه وسلم تعجلوا الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدرى ما يعرض له. وأخرجه أحمد، والبيهقي من حديث ابن عباس، وبما سيأتي في الفصل الثاني من حديث ابن عباس ((من أراد الحج فليعجل)) ومن حديث علي ((فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا)) وفي الفصل الثالث من حديث أبي أمامة ((من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة)) ألخ وبقوله صلى الله عليه وسلم ((حجوا قبل أن لا تحجوا)) الحديث أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وارجع للجواب عن ذلك إلى القرى لقاصد أم القرى (ص 37) وإلى الفتح الرباني (ج11 ص21) وكيف ما كان الأمر التسارع إلى أدائه مطلوب والأحوط هو التعجيل للمستطيع بقدر الإمكان لأن الأجل غير معلوم وحينئذ يشكل تأخير النبي صلى الله عليه وسلم في حجه إلى العاشرة مع فرضيته قبل ذلك سنة خمس أو ست أو سبع أو ثمان على اختلاف في ذلك والقائلون بالفور أشد احتياجًا إلى الاعتذار عن ذلك، والتخلص من هذا الإشكال وقد أجيب بأنه اختلف في الوقت الذي فرض فيه الحج على أقوال ومن جملتها أنه فرض سنة تسع حكاه النووي في الروضة وصححه القاضي عياض والقرطبي، ومنها أنه تأخر نزوله إلى أواخر تسع أو إلى سنة عشر حكاه العيني عن أمام الحرمين، وبه جزم ابن القيم في الهدي (ج1 ص180)، وعلى هذا فلا تأخير لأنه لما فرض الحج بقوله تعالى:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (- 3: 97) في أواخر السنة التاسعة وهي سنة الوفود أو في العاشرة بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير، وأما قوله تعالى:

{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (- 2: 196) فإنه وإن نزل سنة ست عام الحديبية فليس فيه فريضة الحج وإنما فيه الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيها وذلك لا يقتضي

ص: 289

..............................................................................................

ــ

وجوب الابتداء ولو سلم أنه فرض من قبل العاشرة سنة خمس لما وقع في قصة ضمام بن ثعلبة من ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدي ومحمد بن حبيب سنة خمس، أو فرض سنة ست كما هو المشهور عند الجمهور بناء على أنها نزل فيها قوله تعالى:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} وأن المراد بالإتمام ابتداء الفرض لما ورد في قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: ((وأقيموا)) أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم فكان تراخيه صلى الله عليه وسلم لعذر مع علمه ببقاء حياته ليكمل التبليغ وسيأتي بيان العذر في ذلك والإشكال إنما هو في التراخي مع عدم العذر. قال ابن الهمام: إن تأخيره عليه الصلاة والسلام ليس يتحقق فيه تعريض الفوات وهو الموجب للفور لأنه كان يعلم أنه يعيش حتى يحج ويعلم الناس مناسكهم تكميلاً للتبليغ. قال القاري: والأظهر أنه عليه الصلاة والسلام أخره عن سنة خمس أو ست لعدم فتح مكة، وأما تأخيره عن سنة ثمان فلأجل النسيء وأما تأخيره عن سنة تسع فلما ذكرنا في رسالة مسماة بالتحقق في موقف الصديق وقال ابن رشد في مقدماته: أما قول من قال إن حجة أبي بكر كانت تطوعًا لأنه حج في ذي القعدة قبل وقت الحج على النسيء وإنه صلى الله عليه وسلم إنما أخر إلى عام عشر ليوقعه في وقته فليس ذلك عندي بصحيح بل حج أبي بكر في ذي القعدة هو وقته حينئذٍ شرعًا ودينًا قبل أن ينسخ النسيء ثم حج النبي في ذي الحجة من العام المقبل وأنزل الله {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (9: 37) فنسخ ذلك النسيء ولو كان في الحج فرض في ذي الحجة ونسخ النسيء عند فرض الحج قبل حج أبي بكر لما حج أبو بكر في ذلك العام إلا في ذي الحجة ولا مكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في ذلك العام لو شاء فيه فالصحيح أنه إنما أخر الحج في ذلك العام للعراة الذين كانوا يطوفون بالبيت من المشركين حتى يعهد إليهم في ذلك ما جاء في الحديث لا ليوقعه في ذي الحجة إذ كان قادرًا على أن يوقعه في ذلك العام في ذي الحجة - انتهى. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: قد ذهب قوم إلى أن تأخير الحج بعد الفتح إنما كان للنسيء المذكور في كتاب الله وهو تأخير الأشهر عن مواضعها حتى عاد الحساب في الأشهر إلى أن أصله الموضع الذي بدأ الله به في أمر الزمان يوم خلق السماوات والأرض وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض. وهذا التأويل في سنة عتاب بن أسيد (أي في سنة ثمان بعد الفتح) محتمل، وفي العام الذي بعث أبا بكر أميرًا على أهل الموسم غير المحتمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر بالحج في غير وقته المعلوم، وقد ذكر بعض أهل العلم بالسير أن الحج عام الفتح وقع في ذي القعدة على الحساب الذي ابتدعوه وكانوا ينسأون في كل عامين من شهر إلى شهر وكان الحج عام حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذي الحجة على الحساب القويم وإنما وجه استينائه بالحج إلى السنة العاشرة - والله أعلم - هو أن لم يرض أن يحضر الموسم وأهل الشرك حضور هناك، لأنه لو تركهم على ما يتدينون به من هديهم المخالف لدين الحق لكان ذلك وهنًا في الدين، ولو منعهم لأفضى ذلك إلى التشاغل إلى ما أرادوه من النسك بالقتال ثم إلى استحلال حرمة الحرم، وقد كان أخبر يوم الفتح أن حرمتها عادت إلى ما كانت عليه، وأنه لم يحل له إلا ساعة من النهار فرأى أن يبعث الناس إلى الحج وينادي في أهل

ص: 290

..............................................................................................

ــ

الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ليكون حجه خاليًا عن العوارض التي ذكرناها، وقد ذكرنا لذلك وجوهًا غيرها في كتاب المناسك واكتفينا ها هنا بالقول الوجيز إيثارًا للاختيار - انتهى. قال الأبي المالكي في شرح صحيح مسلم: والقول بالتراخي إنما هو ما لم يخف الفوات وخوفه يكون بعلو السن وخوف تعاهد الأمراض، وعلو السن حده ابن رشد بالستين. والله أعلم. واختلف في أن الحج كان واجبًا على الأمم قبلنا أم وجوبه مختص بنا؟ قال القاري: الأظهر الثاني، واختار ابن حجر الأول مستدلاً بقوله:((ما من نبي إلا وحج)) فهو من الشرائع القديمة، وجاء أن آدم عليه السلام حج أربعين سنة من الهند ماشيًا. قال القاري: وهذا كما ترى لا دلالة فيه على إثباته ولا على نفيه وإنما يدل على أنه مشروع فيما بين الأنبياء ولا يلزم من كونه مشروعًا أن يكون واجبًا مع أن الكلام إنما هو في الأمم قبلنا، ولا يبعد أن يكون واجبًا على الأنبياء دون أممهم، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام لما بلغ عسفان في حجة الوداع قال: لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطهما الليف وأزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق رواه أحمد - انتهى. وأما فضل الحج فمشهور قد وردت فيه النصوص الحديثية الكثيرة الصحيحة وسيأتي بعضها في الكتاب وأما حكمه وأسراره وفوائده ومصالحه المرعية فيه فهي أكثر من أن تحصى ولا يوفيها بيانًا إلا التصانيف المستقلة وقد نوه بها حكماء الإسلام وأشادوا بها في مؤلفاتهم ولنلم بنبذة منها ليقف القارئ على قُلّ من كُثر من أسرار شريعته الرشيدة وأهدافها الحميدة فيرى أن له دينًا يهدف بعبادته إلى صلاح الدين والدنيا. قال صاحب تيسير العلام شرح عمدة الأحكام: هذا المؤتمر الإسلامي العظيم وهذا الاجتماع الحاشد فيه من المنافع الدينية والدنيوية والثقافية والاجتماعية والسياسية ما يفوت الحصر والعد، أما الدينية فما يقوم به الحاج من هذه العبادة الجليلة التي تشتمل على أنواع من التذلل والخضوع بين يدي الله تعالى فمنها تقحم الأسفار وإنفاق الأموال والخروج من ملاذ الحياة بخلع الثياب واستبدالها بإزار ورداء حاسر الرأس وترك الطيب والنساء وترك الترفة بأخذ الشعور والأظفار ثم التنفل بين هذه المشاعر. كل هذا بقلوب خاشعة وأعين دامعة وألسنة مكبرة ملبية قد حدا بهم الشوق إلى بيت ربهم ناسين في سبيل ذلك الأهل والأوطان والأموال والنفس النفيس. وأما الثقافية فقد أمر الله بالسير في الأرض للاستبصار والاعتبار ففيه من معرفة أحوال الناس والاتصال بهم والتعرف على شئون الوفود التي تمثل أصقاع العالم كله ما يزيد الإنسان بصيرة وعلمًا إذا تحاك بعلمائهم واتصل بنبهائهم فيجد لكل علم وفن طائفة تمثله. وأما الاجتماعية والسياسية فإن الحج مؤتمر عظيم يضم وفودًا متنوعة العلوم مختلفة الثقافات متباينة الاتجاهات والنزعات فإذا كل حزب بحزبه وطائفة بشبيهتها ومثلوا ((لجان الحكومة الواحدة)) ودرسوا وضعهم الغابر والحاضر والمستقبل. ورأوا ما الذي أخرهم وما الذي يقدمهم وما هي أسباب الفرقة بينهم وما أسباب الائتلاف والاجتماع وتوحيد الكلمة؟ وبحثوا شئونهم الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية

ص: 291

..............................................................................................

ــ

على أساس المحبة والوئام وبروح الوحدة والالتئام وأصبحوا يدًا واحدة ضد عدوهم وقوة مرهوبة في وجه المعتدي عليهم وبهذا يصير لهم كيان مستقل خاص له مميزاته وأهدافه ومقاصده يسمع صوته ويصغى إلى كلمته ويحسب له ألف حساب وبهذا يعود للمسلمين عزهم ويرجع إليهم سؤددهم ويبنون دولة إسلامية دستورها كتاب الله وسنة رسوله وشعارها العدل والمساواة وهدفها الصالح العام وغايتها الأمن والسلام حينئذٍ تتجه إليهم أنظار الدنيا وتسلم الزمام بأيديهم فيقوضون مجالس بنيت على الظلم والبغي ويبنون على أنقاضها العدل والإحسان وبهذا يقر السلام ويستتب الأمن وتتجه المصانع النهوج التي تصنع للموت الذريع أسلحة الدمار والخراب إلى أن تخترع المعدات التي تساعد على التثمير والتصنيع وإخراج خيرات الأرض فتحقق حكمة الله بخلقه حيث يحل الخصب والرخاء والأمن والسلام، مكان الجدب والغلاء والخوف والدماء، وإذا علم المسلم المؤمن ثمرات هذه الاجتماعيات الإسلامية فهم جيدًا أن له دينًا عظيمًا جليل القدر يقصد منها بعد عبادة الله صلاح الكون واتساقه لأن الاجتماع هو أعظم وسيلة لجمع الأمة وتوحيد الكلمة، ولذا فإنه عني بالاجتماعات عناية عظيمة تحقيقًا للمقاصد الكريمة، ففرض على أهل المحلة الاجتماع في مسجدهم كل يوم خمس مرات، وفرض على أهل البلد عامة الاجتماع للجمعة في كل أسبوع، وفرض على المسلمين الاجتماع في كل عام - انتهى. وقال الشيخ مصطفى السقاء في مقدمته على القرى لقاصد أم القرى: لفريضة الحج من الفضائل النفسية والاجتماعية ما لا يخفى على المتأمل فمن أول تلك الفضائل تعظيم ذلك البيت المقدس وعمارته إذ هو الرمز الباقي لقيام ديانة التوحيد في الأرض، وخلاص الإنسان من فوضى الوثنية والنحل الزائغة الضالة {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (3: 96) ومن ذلك تعمير الأرض المقدسة التي حضنت ذلك الدين الجديد دين التوحيد إلى أن ترعرع وقوى، ونما وانتشر وقضى على الأوثان والأصنام في جزيرة العرب أولاً، فلولا هذه البيئة البعيدة عن معترك الحياة الصاخبة بتيارات المدنيات وغطرسة الملوك والجبابرة لم يتح لهذا الدين أن ينمو ويذيع، وحسبنا دليلاً على هذا ما لقيه إبراهيم من اضطهاد بين قومه وعشيرته حتى اضطروا إلى الهجرة بدينه من بلاده، والآية الكريمة {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (14: 37) مفصحة بهذا المعنى أي إفصاح. ثم بسط في ذكر المنافع السياسية والاجتماعية بنحو ما تقدم، ثم قال: أما الفائدة التهذيبية التي يجنيها الحاج من رحلته فهي رياضة النفس وتذليلها فإن أعمال الحج منذ يشرع الحاج في توجيه النية والنطق بالتلبية تدخل في نفسه شعورًا قلبيًا بالقرب من الله ولا يزال هذا الشعور ينمو ويزيد كلما اقترب من الأماكن المقدسة حتى إذا حل تلك الرحاب النضرة والساحات المطهرة وانغمس في أداء الأعمال شعر بسمو روحي وفيض إلهي يدب في نفسه وينتقل

ص: 292

..............................................................................................

ــ

به من حال إلى حال حتى ينتهي إلى احتقار سلطان المادة وتأثيره في النفس، وهذا الفيض الشعوري تمتزج فيه العناصر الروحية بعضها ببعض وتتجاوب في النفس وتتبين آثارها في الإرادة والعمل من تعظيم للدين وحب شديد للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من الأمة وغيرة على المجتمع الإسلامي ورغبة في إسعاده، ومن ندم على ما سبق من التفريط في جنب الله ورغبة في استدراك ما فات في أزمان الغفلة وغرة الشباب من الطاعات والقربات وهذه الرياضة النفسية هي ثمرة الحج الكبرى حتى إذا انتهت أعماله وعاد الحاج إلى وطنه وأهله لم يفارقه ذلك الشعور الرباني ولا ريب أن كثيرًا ممن حجوا مخلصين لله تتأثر حياتهم بذلك الشعور الفياض الذي كسبوه في أثناء ارتحالهم في الأراضي المقدسة وتلمح في أخلاقهم الاستقامة والإقلاع عن كثير من المساوي التي كانت تشوب حياتهم قبل الحج ومثل هذا يسمى الحج المبرور الذي يتقبله الله ويعظم الثواب عليه، كما جاء في الحديث. ثم ذكر ما يحصل في هذا السفر الطويل الشاق من فائدة تعويد المسافر خلال تلك الرحلة احتمال كثير من المشقات بالتنقل المستمر لأداء المناسك ونقل الأمتعة والأزواد ونصب الخيام أو تقويضها وإعداد الرواحل أو السيارات وغير ذلك من الأعمال الشاقة، ثم قال: وبعض الحجاج يلتمسون مع أداء فريضة الحج في هذا الموسم ضروبًا من النفع المادي فينقلون المتاجر من شتى البلاد إلى الحجاز ويبيعونها هناك ويتزودون لبلادهم وأهليهم من طرائف الحجاز ومما يحمله إليه الناس من سائر البقاع والأصقاع، وليس هذا العمل محرمًا في الدين تقول الآية الكريمة {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (2: 198) وتقول آية أخرى {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (22: 27، 28) ومن هذه المنافع التجارة التي يقوم عليها الموسم ويمكن أن تجعل البلاد المقدسة سوقًا إسلامية للتجارة (بدل أن تكون سوقًا تجارية لمصنوعات: أوربا، وروسيا، وأمريكا،، واليابان، والصين. وغير ذلك من بلاد الشرق والغرب) كما كانت في القرون الإسلامية الأولى سوقًا من أعظم الأسواق بين الممالك الإسلامية الشرقية والغربية ومن أعظم الأسباب لنشر الحضارة والثقافة في أحقاب طويلة، فقد كان التجار يتحينون موسم الحج لينقلوا حاصلات بلادهم وثمرات اجتهادهم إلى مكة والمدينة حيث يجتمع العديد الأكبر فيقبل الناس على اقتناء الطرف والنفائس من الثياب والحلي والطنافس والأواني النحاسية وأنواع الطيب ونحو ذلك ويتخذون منها الهدايا للأهل والأصحاب، وكان العلماء وأصحاب الفنون يلتقون في الموسم فيأخذ بعضهم عن بعض ويتبادلون الكتب والآثار العلمية والفنية وخاصة علماء الحديث الذين يجدون في هذا الموسم أحسن الفرص للرواية والإجازة وكان هذا التبادل التجاري والثقافي في جميع مظاهره من أحسن الوسائل لتعميم الحضارة وبعث روح التنافس الجدي بين المسلمين في الممالك والأقطار المختلفة - انتهى. وقال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة (ج2: ص42) : المصالح المرعية في الحج أمور منها تعظيم البيت فإنه من شعائر الله وتعظيمه هو تعظيم الله تعالى ومنها تحقيق معنى العرضة فإن لكل دولة أو ملة اجتماعًا يتوارده الأقاصي والأداني ليعرف فيه بعضهم بعضًا ويستفيدوا أحكام

ص: 293

..............................................................................................

ــ

الملة ويعظموا شعائرها، والحج عرضة المسلمين وظهور شوكتهم واجتماع جنودهم وتنويه ملتهم وهو قوله تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} (2: 125) ومنها موافقة ما توارث الناس عن سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإنهما إمامًا الملة الحنيفية ومشرعاها للعرب والنبي صلى الله عليه وسلم بعث لتظهر به الملة الحنيفية وتعلو به كلمتها وهو قوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (22: 78) فمن الواجب المحافظة على ما استفاض عن إماميها كخصال الفطرة ومناسك الحج وهو قوله صلى الله عليه وسلم: قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ومنها الاصطلاح على حال يتحقق بها الرفق لعامتهم وخاصتهم كنزول منى والمبيت بمزدلفة فإنه لو لم يصطلح على مثل هذا لشق عليهم ولو لم يسجل عليه لم تجتمع كلمتهم عليه مع كثرتهم وانتشارهم. ومنها الأعمال التي تعلن بأن صاحبها موحد تابع للحق متدين بالملة الحنيفية شاكر لله على ما أنعم على أوائل هذه الملة كالسعي بين الصفا والمروة، ومنها أن أهل الجاهلية كانوا يحجون وكان الحج أصل دينهم ولكنهم خلطوا أعمالاً ما هي مأثورة عن إبراهيم عليه السلام وإنما هي اختلاق منهم وفيها إشراك لغير الله كتعظيم أساف ونائله وكالإهلال لمناة الطاغية وكقولهم في التلبية: لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، ومن حق هذه الأعمال أن ينهي عنها ويؤكد في ذلك، وأعمالاً انتحلوها فخرًا وعجبًا كقول حمس: نحن قطان الله فلا نخرج من حرم الله فنزل: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ومنها أنهم ابتدعوا قياسات فاسدة هي من باب التعمق في الدين، وفيها حرج للناس ومن حقها أن تنسخ وتهجر كقولهم: يجتنب المحرم دخول البيوت من أبوابها وكانوا يستورون من ظهورها ظنًا منهم أن الدخول من الباب ارتفاق ينافي هيئة الإحرام فنزل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} (2: 189) وككراهيتهم في التجارة موسم الحج ظنًا منهم أنها تخل بإخلاص العمل لله فنزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (2: 198) وكاستحبابهم أن يحجوا بلا زاد ويقولون: نحن المتوكلون وكانوا يضيقون على الناس ويعتدون فنزل: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (2: 197) انتهى باختصار يسير. قلت: شرع الحج لجميع هذه الفوائد والمصالح المذكورة وغيرها مما نعلم منها الكثير ونجهل منها الكثير، وربما كان ما نجهله ونتمتع به أكثر مما نعرفه فقد قال الله تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (22: 28) فأطلق المنافع ونكرها وأبهمها ودل هذا التعبير البليغ على كثرتها وتنوعها وتجددها في كل زمان وأنها أكثر من أن يأتي عليها الإحصاء والاستقصاء ويحيطها المحيطون ولكن من أوضح ملامح الحج والروح المسيطرة على جميع أعماله ومناسكه هو الحب والهيام والوله والتفاني وإعطاء زمام الجسم والفكر للقلب والعاطفة وتقليد العشاق والمحبين إمامهم وزعيمهم إبراهيم الخليل فحينًا طواف الحب والهيام حول البيت الحرام وحينًا تقبيل الحجر الأسود والاستلام وحينًا سعى بين غايتين وتقليد ومحاكاة للأم الحنون حتى في تؤدتها ووقارها وفي جريها وهرولتها. ثم قصد لمنى في يوم معين هو يوم التروية، ثم قصد

ص: 294