المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. رواه أحمد والدارمي. ‌ ‌(7) باب الدعوات - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٨

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

الفصل: حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. رواه أحمد والدارمي. ‌ ‌(7) باب الدعوات

حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ. رواه أحمد والدارمي.

(7) باب الدعوات في الأوقات

(الفصل الأول)

ــ

الدين أو في بعض الفروع، كالختان وبقية العشرة من السنن المشهورة، (حنيفًا) حال من إبراهيم وهو المائل إلى دين الحق، المستقيم ضد الملحد المائل، إلى دين الباطل، وإن كان الحنف والإلحاد في أصل اللغة بمعنى مطلق الميل لكن خصا في الشرع بما ذكرنا. وقال ميرك: الحنيف المسلم المستقيم، وغلب هذا الوصف على إبراهيم الخليل. قال الأزهري: الحنيفية في الإسلام الميل إليه والإقامة على عقده، والحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام والثابت عليه. وقال ابن سيده في محكمه: الحنيف المسلم الذي يتحنف عن الأديان أي يميل إلى الحق. قال وقيل هو المخلص. وقوله: ((حنيفًا)) كذا وقع مقتصرًا عليه في جميع النسخ من المشكاة وهكذا عند أحمد في بعض الروايات ووقع في رواية عنده بعد هذا زيادة ((مسلمًا)) ، وهكذا وقع عند غيره من المخرجين وكذا نقله في الأذكار وجامع الأصول (ج5: ص69) والحصن والجامع الصغير، والمعنى منقادًا كاملاً بحيث لا يلتفت إلى غيره تعالى (وما كان من المشركين) فيه رد على كفار العرب في قولهم: نحن على دين أبينا إبراهيم وتعريض باليهود والنصارى، ثم هو مع ما قبله من الأحوال المتداخلة أتى بها تقريرًا وصيانة للمعنى المراد تحقيقًا عما يتوهم من أنه يجوز أن يكون حنيفًا حالاً منتقلة فرد ذلك التوهم بأنه لم يزل موحدًا ومثبتًا لأنها حال مؤكدة كذا في المرقاة (رواه أحمد) (ج3: ص406، 407) ، (والدارمي) في الاستيذان، وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى، والطبراني، وابن السني (ص12) ، لكن عند أحمد والطبراني في الصباح والمساء جميعًا، وعند النسائي، والدارمي، وابن السني في الصبح فقط، والحديث صححه النووي في الأذكار، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص116) : رجالهما أي رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح ، وقال صاحب السلاح بعد عزوه إلى النسائي: رجال إسناده رجال الصحيح. (باب الدعوات) المتفرقة (في الأوقات) أي المختلفة مما قدر لها الشارع، والوقت هو الزمان المضروب للفعل، كوقت الصلاة ووقت الزكاة ووقت الحج، وقد وردت دعوات في أحوال مخصوصة مختلفة كحال الغضب، وحال الصف، عند قتال الكفار، ونحو ذلك من الأحوال، كما وردت في أوقات مخصوصة بينها الشارع. ولما كان الدعاء في حال مخصوص مستلزمًا للدعاء في زمان مخصوص أدخل المصنف ذلك في الأوقات وقد أفرد بعضهم ذكر الأحوال لأن المعتبر فيها هو الحال لا الوقت فافهم. واعلم أن كل ما ورد من الشارع في زمن أو حال مخصوص يسن لكل أحد أن يأتي به لذلك ولو مرة للإتباع ما يربو على غيره، ومن ثم قالوا: صلاة النافلة في البيت أفضل منها في المسجد الحرام وإن قلنا بالأصح أن المضاعفة تختص به – انتهى باختصار يسير.

ص: 159

2439-

(1) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ.

ــ

2439-

قوله (لو أن أحدكم) . قال القاري: وفي نسخة صحيحة يعني من المشكاة ((أحدهم)) قلت: وهكذا وقع عند البخاري في الدعوات، وكذا لمسلم، ووقع عند البخاري في التوحيد في بعض النسخ، ((أحدكم)) وفي أخرى ((أحدهم)) وهكذا اختلفت نسخ المصابيح في ذلك، ((ولو)) هذه يجوز أن تكون للتمني على حد، {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} (26: 102) والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم تمنى لهم ذلك الخير يفعلونه لتحصل لهم السعادة، وحينئذٍ فيجئ فيه الخلاف المشهور هل يحتاج إلى جواب أم لا؟ وبالثاني قال ابن الصائغ وابن هشام. ويجوز أن تكون شرطية والجواب محذوف، والتقدير: لنال خيرًا كثيرًا أو لكان حسنًا، أو لسلم من الشيطان أو نحو ذلك، ويؤيده سياق الحديث كما لا يخفى، (إذا أراد أن يأتي أهله) أي يجامع امرأته أو جاريته، فالإتيان كناية عن الجماع، وهذه الرواية تدل على أن القول يكون قبل الشروع فهي مفسرة لغيرها من الروايات، التي فيها ((يقول حين يأتي أهله)) أو ((يقول حين يجامع أهله)) فإن هذا ظاهر في أن القول يكون مع الفعل فهو محمول على المجاز كقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} (16: 98) أي إذا أردت القراءة، ويجوز كون إذا ظرفًا لقال، وقال خبر لأن وكونها شرطية وجزاءها قال والجملة خبر أن. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود موقوفًا كما في الحصن والفتح إنه إذا أنزل قال: اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبًا. قال القاري: ولعله يقولها في قلبه أو عند انفصاله لكراهة ذكر الله، في حال الجماع بالإجماع (قال بسم الله) إلخ، أفاد الكرماني أنه رأى في نسخة قرئت على الفربري قيل لأبي عبد الله يعني البخاري من لا يحسن العربية يقولها بالفارسية؟ قال: نعم، (اللهم) أي يا الله (جنبنا) بتشديد النون من جنب الشيء يجنبه تجنيبًا إذا أبعده منه (الشيطان) أي بعده عنا وهو مفعول ثان (وجنب الشيطان ما رزقتنا) أي حينئذ من الولد، وصيغة الماضي للتفاؤل وتحقيق الرجاء، وهو في محل النصب، على أنه مفعول ثان. وأطلق ((ما)) على من يعقل لأنها بمعنى شيء كقوله تعالى:{وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (3: 36) وقال العيني كلمة ما موصولة والعائد محذوف تقديره الذي رزقتناه، وقول من قال من الشارحين ما ها هنا بمعنى شيء ليس بشيء (فإنه) علة للجزاء المحذوف أي الشأن (إن يقدر) بالبناء للمفعول (بينهما) ، أي بين الأحد والأهل (ولد) ذكر أو أنثى (في ذلك) أي الوقت أو الإتيان، والمراد إن كان قدر لأن التقدير أزلى لكن عبر بصيغة المضارعة بالنسبة للتعلق، قاله الحافظ:(لم يضره) بفتح الراء وضمها، ويقال الضم أفصح أي لم يضر ذلك الولد (شيطان) أي من الشياطين قيل نكره بعد تعريفه أولاً لأنه أراد في الأول الجنس وفي الآخر إفراده على سبيل الاستغراق والعموم، ويجوز أن يراد بالأول إبليس وبالثاني أعم،

ص: 160

أبدًا.

ــ

أو بالثاني سائر أعوانه. كذا في المرقاة. قلت: وقع في رواية أحمد (ج1: ص217)((لم يضر ذلك الولد الشيطان أبدًا)) وفي أخرى له (ج1: ص287) ولمسلم، وابن ماجة ((لم يسلط عليه الشيطان أو لم يضره)) وهكذا وقع معرفًا في بعض الروايات عند البخاري وغيره. قال الحافظ: واللام للعهد المذكور في لفظ الدعاء، وفي مرسل الحسن عند عبد الرزاق إذا أتى الرجل أهله فليقل بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، ولا تجعل للشيطان نصيبًا فيما رزقتنا فكان يرجى، إن حملت أن يكون ولدًا صالحًا (أبدًا) . قال القاري: فيه إيماء إلى حسن خاتمة الولد ببركة ذكر الله في ابتداء وجود نطفته في الرحم. فالضر مختص بالكفر. وقال السندي: لم يحمل أحد حديث الباب على العموم الضرر لعموم ضرر الوسوسة للكل، وقد جاء كل مولود يمسه الشيطان، إلا مريم وابنها، فقيل لا يضره بالإغواء والإضلال بالكفر، وقيل بالكبائر، وقيل: بالصرف عن التوبة إذا عصى، قيل إنه يأمن مما يصيب الصبيان من جهة الجان، وقيل لا يكون للشيطان عليه سلطان، فيكون من المحفوظين، قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (15: 42) انتهى. وقال الحافظ: اختلف في الضرر المنفي بعد الاتفاق على ما نقل عياض، على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر، وإن كان ظاهرًا في الحمل على عموم الأحوال من صيغة الماضي مع التأبيد، وكان سبب ذلك ما ثبت في الصحيح، أن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد، إلا من استثنى. فإن هذا الطعن نوع ضرر، في الجملة مع أن ذلك سبب صراخه ثم اختلفوا، فقيل: المعنى لم يسلط عليه من أجل بركة التسمية، (بحيث لا يكون له عمل صالح) ، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (15: 42) ويؤيد مرسل الحسن المذكور: وقيل المراد لم يطعنه في بطنه وهو بعيد، لمنابذته ظاهر الحديث المتقدم، وليس تخصيصه بأولى من تخصيصه هذا، وقيل المراد لم يصرعه، وقيل لم يضره في بدنه - انتهى. يعني أن الشيطان لا يتخبطه ولا يداخله بما يضر عقله أو بدنه، قال العيني: وهو الأقرب، وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن لا يضره في دينه أيضًا، ولكن يبعده انتفاء العصمة، وتعقب بأن اختصاص من خص بالعصمة بطريق الوجوب، لا بطريق الجواز فلا مانع أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمدًا، وإن لم يكن ذلك واجبًا له، وقال الداودي معنى لم يضره أي لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية، وقيل لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه، كما جاء عن مجاهد أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله، فيجامع معه. قال الحافظ: ولعل هذا أقرب الأجوبة. ويتأيد الحمل على الأول بأن الكثير ممن يعرف هذا الفضل العظيم يذهل عنه إرادة المواقعة، والقليل الذي قد يستحضره ويفعله لا يقع معه الحمل، فإذا كان ذلك نادرًا لم يبعد، وفي الحديث من الفوائد أيضًا استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك، حتى في حالة الملاذ كالوقاع، وفيه الاعتصام بذكر الله ودعاءه من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء، وفيه الاستشعار بأنه الميسر لذلك العمل والمعين عليه، وفيه إشارة إلى أن الشيطان

ص: 161

متفق عليه.

2440-

(2) وعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ.

ــ

ملازم لابن آدم لا ينطرد عنه إلا إذا ذكر الله، (متفق عليه) أخرجه البخاري في الطهارة، وفي صفة إبليس، وفي النكاح، وفي الدعوات، وفي التوحيد، ومسلم في النكاح، وكذا الترمذي، وأبو داود، والنسائي في عشرة النساء من الكبرى، وفي عمل اليوم والليلة، وابن ماجة وأحمد (ج1: ص212، 217، 244، 284، 287) ، وابن السني (ص195)، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص119) .

2440-

قوله (كان يقول عند الكرب) أي عند حلول الكرب وهو بفتح الكاف وسكون الراء بعدها موحدة، أي الغم الذي يأخذ النفس كذا في الصحاح. وقيل: الكرب أشد الغم. وقال الحافظ: هو ما يدهم المرأ مما يأخذ بنفسه فيغمه ويحزنه، وفي رواية للبخاري: كان يدعوا عند الكرب. وفي رواية لمسلم: كان يدعوا بهن ويقولهن عند الكرب. وفي أخرى له: كان إذا حز به أمر أي نزل به أمر مهم. قال الحافظ: هو بفتح المهملة والزاي وبالموحدة، أي هجم عليه أو غلبه، وفي حديث علي عند النسائي وصححه الحاكم ((لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات وأمرني إن نزل بي كرب أو شدة أن أقولها)) (لا إله إلا الله العظيم) ، الذي لا يعظم عليه شيء، وقيل أي البالغ أقصى مراتب العظمة التي لا يتصورها عقل ولا تحيط بكنهها بصيرة فلا يعظم عليه شيء (الحليم) هو الذي يؤخر العقوبة مع القدرة، وقيل هو الذي لا يستفزه غضب، ولا يحمله غيظ على استعجال العقوبة والمسارعة إلى الانتقام، (لا إله إلا الله رب العرش العظيم) بالجر على أنه نعت للعرش عند الجمهور، ونقل ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع العظيم على أنه نعت للرب، وكذا برفع الكريم في قوله:((رب العرش الكريم)) وبه قرأ ابن محيصن في آخر التوبة، وفي آية المؤمنين نعتًا للرب، والذي ثبت في رواية الجمهور بالجر فيهما، على أنه نعت للعرش ووصف العرش بالكريم، أي الحسن من جهة الكيفية، ووصفه بالعظيم من جهة الكمية، فهو ممدوح ذاتًا وصفة وخص بذكره لأنه أعظم الأجسام، فيدخل تحته الجميع، وقيل وصفه بالكرم، لأن الرحمة تنزل منه أو لنسبة إلى أكرم الأكرمين، وبالعظيم لأنه أعظم خلق الله، مطافًا لأهل السماء وقبلة للدعاء. قال الطيبي: صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية، وفيه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية والعظمة التي تدل على تمام القدرة والحلم الذي يدل على العلم إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم. وهما أصل الأوصاف الإكرامية. وقال القسطلاني أخذا عن ابن القيم: قد صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب لأنه مقتضى التربية ووصف الرب تعالى بالعظمة والحلم وهما صفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز ووصفه بكمال والربوبية

ص: 162

..............................................................................................

ــ

للعالم العلوي والسفلي والعرش الذي هو سقف، المخلوقات وأعظمها والربوبية التامة تستلزم توحيده، وإنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له، وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له، وسلب كل نقص وتمثيل عنه، وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه، فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوي نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى، فإذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف، التي تضمنها دعاء الكرب المذكور في هذا الحديث، وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور، وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها - انتهى. قال النووي: هذا حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار عنه عند الكرب، والأمور العظيمة. قال الطبري: كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب. قلت: حكى الحافظ عن ابن بطال أنه سعى بأبي بكر بن على عند السلطان بأصبهان، وكان عليه مدار الفتيا هناك فرأى أبو بكر الرازي في المنام، النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال له: قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب، الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه. قال الرازي: فأصبحت فأخبرته فدعا به، فلم يكن إلا قليلاً حتى أخرج. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ((الفرج بعد الشدة)) أنه كتب الوليد بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان: انظر الحسن بن الحسن فاجلده مائة جلده، وأوقفه للناس قال: فبعث إليه فجيء به فقام إليه علي الحسين فقال: يا ابن عم تكلم بكلام الفرج يفرج الله عنك، فقالها فرفع إليه عثمان رأسه فقال: أرى وجه رجل كذب عليه خلوا سبيله، فسأكتب إلى أمير المؤمنين بعذره فأطلق. وأخرج النسائي، والطبري، من طريق الحسن بن الحسن بن علي قال: لما زوج عبد الله بن جعفر ابنته قال: لها إن نزل بك أمر فاستقبليه بأن تقولي: لا إله الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين. قال الحسن: فأرسل إلى الحجاج فقلتهن، فقال: والله لقد أرسلت إليك وأنا أريد أن أقتلك: فلأنت اليوم أحب إليّ من كذا وكذا، وفي لفظ ((فسل حاجتك)) . قال الطبري: معنى قول ابن عباس (في بعض الروايات)((يدعو)) ، وإنما هو تهليل وتعظيم أي ليس فيه دعاء، يحتمل أمرين. أحدهما: أن المراد تقديم ذلك قبيل الدعاء، فيستفتح بهذا الذكر الدعاء ثم يدعو بما شاء، كما ورد في مسند أبي عوانة، في آخر الحديث ثم يدعو بعد ذلك. وعند عبد بن حميد: كان إذا حز به أمر قال: فذكر الذكر المأثور وزاد، ((ثم دعا)) وفي الأدب المفرد (ج2: ص161) من طريق آخر زاد في آخره ((اللهم اصرف عنى شره)) ، قال الطبري: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء، ثانيهما: ما أجاب به ابن عيينة عن الحديث الذي فيه ((كان أكثر ما يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)) ، الحديث. فقال سفيان: هو ذكر وليس فيه دعاء ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. قال: وقال أمية بن الصلت في مدح عبد الله بن جدعان:

ص: 163

متفق عليه.

2441-

(3) وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنُ صُرَدٍ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ ((أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) فَقَالُوا لِلرَّجُلِ:

ــ

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حباءك إن شيمتك الحباء

إذا أثنى عليك المرأ يومًا

كفاه من تعرضك الثناء

قال سفيان: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم، اكتفى بالثناء عن السؤال فكيف بالخالق - انتهى. وحاصل هذا الجواب أن الدعاء قد يكون صريحًا، وقد يكون تعريضًا، فإن الثناء على الكريم يتضمن الدعاء، والسؤال تعريضًا بألطف إيماء كمدح السائل والشاعر. قال الحافظ: ويؤيد الاحتمال الثاني حديث سعد بن أبي وقاص في دعوة ذي النون، إذ دعا وهو في بطن الحوت ((لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)) الحديث. وقد تقدم في الفصل الثاني من كتاب أسماء الله تعالى:(ج3: ص440) قلت: ويؤيد الاحتمال الأول رواية أبي عوانه والأدب المفرد (متفق عليه) أخرجه البخاري في الدعوات، وفي التوحيد، ومسلم في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص229، 255، 260، 269، 281، 284) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2 ص157، 161) ، وابن ماجة في الدعاء، وأبو عوانة في صحيحه.

2441-

قوله (عن سليمان بن صرد) بضم الصاد وفتح الراء بعدها دال مهملات، (استب رجلان) افتعال من السب أي تشاتما يعني شتم أحدهما الآخر، ولم يعرف الحافظ أسماء الرجلين، (عند النبي صلى الله عليه وسلم) أي بمحضر منه، (وأحدهما يسب صاحبه) ، أي سبًا شديدًا (مغضبًا)، بفتح الضاد حال من فاعل يسب (قد احمر وجهه) زاد في رواية: وانتفخت أوداجه. أي من شدة غضبه، ففي رواية للبخاري ((فغضب أحدهما فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير)) ، وفي حديث معاذ بن جبل عند أحمد وأصحاب السنن، حتى إنه ليخيل إلى أن أنفه ليتمزع من الغضب، (إني لأعلم كلمة) ، أي بالمعنى اللغوي الشامل للجملة المفيدة، (لو قالها لذهب) أي زال (عنه ما يجد)، أي ما يجده من الغضب ببركتها (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بدل من كلمة. وفي البخاري ((لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) أي ذهب عنه ما يجد، كما في رواية أخرى له وفي حديث معاذ: إني لأعلم كلمة لو يقولها هذا الغضبان لذهب عنه الغضب. ((اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم)) ، والحديث مقتبس من قوله تعالى:{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (7: 200) قال الطيبي: أي ولا تنفع الاستعاذة من أمتك إلا المتقين، بدليل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} أي ما أمرهم به تعالى ونهاهم عنه {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (7: 201) لطريق السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم (فقالوا للرجل) في

ص: 164

ألا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ. متفق عليه.

2442-

(4) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ

ــ

رواية مسلم ((فقام إلى الرجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم)) ، فدلت هذه الرواية على أن الذي خاطبه من الصحابة واحد وهو معاذ بن جبل، كما بينته رواية معاذ بن جبل عند أبي داود ولفظه، ((قال فجعل معاذ يأمره فأبى ومحك، (أي لج في الخصومة) وجعل يزداد غضبًا)) ، (لا تسمع) وفي بعض النسخ ألا تسمع، كما في البخاري (ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم) ، أي فتمتثل وتقول ذلك، (قال إني لست بمجنون)، وفي رواية ((أترى بي بأسًا أمجنون أنا اذهب)) قال الحافظ: هو خطاب من الرجل للرجل الذي أمره بالتعوذ، أي امض في شغلك، واخلق بهذا المأمور أن يكون كافرًا أو منافقًا، أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السييء. وقيل: إنه كان من جفاة الأعراب، وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون، ولم يعلم أن الغضب من شر الشيطان ومسه، ولهذا يخرج به عن صورته، ويزين إفساد ماله كتقطيع ثوبه وكسر آنيته، أو الإقدام على من أغضبه، ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال، وقد أخرج أحمد، وأبو داود، من حديث عطية السعدي: أن الغضب من الشيطان - الحديث. أي هو المحرك له الباعث عليه بإلقاء الوسوسة في قلب الآدمي ليغريه. وقال النووي: قول هذا الرجل الذي اشتد غضبه ((هل تري بي من جنون)) ، كلام من لم يفقه في دين الله تعالى، ولم يتهذب بأنوار الشريعة، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالجنون، ولم يعلم أن الغضب من نزعات الشيطان، ولهذا يخرج الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلم بالباطل ويفعل المذموم وينوي الحقد والبغض، وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له أوصني:((لا تغضب)) فردد مرارًا، فقال: لا تغضب. فلم يزده في الوصية على لا تغضب، مع تكراره الطلب. وهذا دليل ظاهر في عظم مفسدة الغضب، وما ينشأ منه ويحتمل أن هذا القائل كان من المنافقين، أو من جفاة الأعراب - انتهى. قلت: الظاهر أن قوله هذا أيضًا نشأ من شدة غضبه، وغلبة غيظه حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث قال للناصح ما قال. قال الشوكاني: في الحديث دليل على أن الغضب متسبب عن عمل الشيطان، ولهذا كانت الاستعاذة مذهبة للغضب، فمن غضب في غير حق ولا موعظة، صدق فليعلم أن الشيطان هو الذي يتلاعب به وأنه مسه طائف منه. وفي هذا ما يزجر عن الغضب لكل من يود أن لا يكون في يد الشيطان يصرفه كيف يشاء - انتهى. ومن أحب الوقوف على حقيقة الغضب والأسباب المهيجة له وعلاج الغضب بعد هيجانه، رجع إلى الإحياء للغزالي مع شرحه للزبيدي، (متفق عليه) أخرجه البخاري في صفة إبليس وفي الأدب، ومسلم في الأدب واللفظ للبخاري في باب الحذر من الغضب، وأخرجه أيضًا أحمد (ج6: ص394) ، وأبو داود في الأدب، والنسائي في عمل اليوم والليلة، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص124) .

2442-

قوله (إذا سمعتم صياح) ، بكسر الصاد (الديكة) بكسر الدال المهملة وفتح التحتانية جمع ديك، كفيلة

ص: 165

فَسلوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا.

ــ

جمع فيل وهو ذكر الدجاج، وليس المراد حقيقة الجمع لأن سماع واحد كاف، وللديك خصيصة ليست لغيره من معرفة الوقت الليلي، فإنه يقسط أصواته فيها تقسيطًا، لا يكاد يتفاوت ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده، لا يكاد يخطئ سواء طال الليل أم قصر، وزاد في رواية أحمد (ج2: ص308) ، والبخاري في الأدب المفرد، وابن السني ((في الليل)) (فسلوا الله) ، بنقل الهمزة، وروي بإثباته، أي فاطلبوا (من فضله) ، أي زيادة إنعامه عليكم، (فإنها رأت ملكًا) ، بفتح اللام نكرة إفادة للتعميم، قال عياض: كأن السبب فيه رجاء تأمين الملائكة على دعاءه، واستغفارهم له وشهادتهم له بالإخلاص. ويؤخذ منه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين تبركًا بهم، وصحح ابن حبان، وأخرجه أبو داود، وأحمد من حديث زيد بن خالد رفعه ((لا تسبوا الديك فإنه يدعو إلى الصلاة)) وفي رواية ((يوقظ للصلاة)) ، وعند البزار من هذا الوجه سبب قوله صلى الله عليه وسلم: ذلك أن ديكًا صرخ فلعنه رجل فقال ذلك. قال الحليمي: يؤخذ منه أن كل من استفيد منه الخير لا ينبغي أن يسب، ولا أن يستهان به بل يكرم ويحسن إليه، قال وليس معنى قوله:((يدعو إلى الصلاة)) أن يقول حقيقة صلوا أو حانت الصلاة، بل معناه أن العادة جرت بأنه يصرخ عند طلوع الفجر فطرة فطره الله عليها، (وإذا سمعتم نهيق الحمار) ، أي صوته المنكر. وزاد البخاري في الأدب المفرد، وابن السني في عمل اليوم والليلة ((من الليل)) ، وكذا وقع في حديث جابر عند أحمد، وأبي داود وغيره كما سيأتي في باب تغطية الأواني، وزاد فيه أيضًا ((نباح الكلاب)) ، قيل: أطلق الأمر بالتعوذ عند نهيق الحمر، في حديث الباب فاقتضى أنه لا فرق في طلبه بين الليل والنهار، وخصه في رواية أخرى بالليل. فإما أن يحمل المطلق على المقيد، أو يقال: خص الليل لأن انتشار الشياطين فيه أكثر، فيكون نهيق الحمير فيه أكثر، فلو وقع نهارًا كان ذلك. وقال الشوكاني: في قوله في الحديث الآخر ((من الليل)) يقيد المطلق فتكون الاستعاذة إذا سمع (النهيق) ، والنباح ليلاً لا نهارًا (فتعوذوا بالله من الشيطان) كذا في بعض النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في الصحيحين، والمسند، والترمذي، وبعض نسخ أبي داود، وزاد في بعض نسخ المشكاة ((الرجيم)) ، وهكذا وقع في المصابيح، وبعض نسخ أبي داود، قال الحفني: أي اعتصموا بالله منه بأن يقول أحدكم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو نحو ذلك من صيغ التعوذ. وقال المناوي: فتعوذا أي ندبًا بأي صيغة كانت، والأولى ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) (فإنه) أي الحمار (رأى شيطانًا) في الصحيحين والمصابيح ((فإنها رأت شيطانًا)) على تأويل الدابة ورعاية المقابلة، ووقع في المسند، والترمذي، وشرح السنة كما في المشكاة، يعني وحضور الشيطان مظنة الوسوسة والطغيان ومعصية الرحمن فناسب التعوذ لدفع ذلك، قال عياض: وفائدة الأمر بالتعوذ لما يخشى من شر الشيطان وشر وسوسته، فيلجأ إلى الله في رفع ذلك. وقال الطيبي: لعل السر فيه أن الديك أقرب الحيوانات صوتًا إلى الذاكرين الله، لأنها تحفظ غالبًا أوقات الصلاة وأنكر الأصوات صوت الحمير فهو أقربها صوتًا إلى من هو أبعد من

ص: 166

متفق عليه.

2443-

(5) وابْنَ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاثًا ثُمَّ قَالَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ

ــ

رحمة الله. وفيه دلالة على أن الله تعالى: خلق للديكة إدراكًا تدرك به النفوس القدسية، كما خلق للحمير والكلاب إدراكًا تدرك به النفوس الشريرة الخبيثة، ونزول الرحمة عند حضور الصلحاء، ونزول الغضب عند حضور أهل المعاصي. فائدة قال الداودي: ينبغي أن يتعلم من الديك خمسة أشياء: حسن الصوت، والقيام بالسحر، والسخاء، والغيرة، وكثيرة النكاح. تنبيه قيل: قوله: ((فإنها رأت ملكًا)) و ((إنه رأى شيطانًا)) ليس المعنى أنها لا تصوت إلا إذا رأت ملكًا أو شيطانًا، فإن صياح الديكة وكذلك نهيق الحمار، كثيرًا ما يكون لعوارض وأسباب غير رؤية الملك والشيطان، بل المعنى أن صوتهما قد يكون لذلك أيضًا، فلا يتعين أي الأصوات لذلك، وأيها لغيره فيستحب الدعوة والتعوذ عند كل تصويت منهما، ليقع البعض منهما موقعهما، وإن لم يقع الكل مقام الرؤية، مع أن زيادة الدعاء والتعوذ مطلوبة، وإن لم يكن في محل إجابة، وكذلك حضور شيطان، ووجوده لا يتوقف التعوذ عليه لأن الإنسان أحوج ما يكون إليهما، فكان تعميم فكان تعميم الأمر بالدعاء والتعوذ عند كل صياح ديك ونهيق حمار كتعميم أمر العبادة في ليالي القدر تحريًا لمظان القبول - انتهى. وفيه أنه روى الطبراني وأبو موسى الأصبهاني في ترغيبه من حديث أبي رافع رفعه ((لا ينهق الحمار، (ولابن السني ((لن ينهق الحمار)) ) حتى يرى شيطانًا أو يتمثل له شيطان، فإذا كان كذلك فاذكروا الله وصلوا عليّ)) ، وهذا يخالف ما أول به هذا القائل حديث الباب فتأمل (متفق عليه) . أخرجه البخاري في أواخر بدء الخلق، ومسلم في الدعاء، وأخرجه أيضا أحمد (ج2: ص207) ، والبخاري في الأدب المفرد (ج2: ص237) ، والترمذي في الدعوات، وأبو داود في الأدب، والنسائي في التفسير وفي عمل اليوم والليلة، وابن السني فيه (ص102)، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص126) .

2443-

قوله (كان إذا استوى على بعيره) ، أي استقر على ظهر مركوبه (خارجًا) ، أي من البلد منتهيًا (إلى السفر) ، كذا في جميع النسخ، أي معرفًا باللام وهكذا وقع في المصابيح، وشرح السنة، وكذا نقله الشوكاني في تحفة الذاكرين، والذي في صحيح مسلم خارجًا إلى سفر، وهكذا وقع في المسند (ج2: ص151) وأبي داود، وكذا نقله في جامع الأصول وفي الأذكار. وللترمذي، والدارمي ((كان إذا سافر فركب راحلته)) (كبر ثلاثًا) لعل الحكمة أن المقام مقام علو، وفيه نوع عظمة فاستحضر عظمة خالقه، ويؤيده أن المسافر إذا صعد عاليًا كبر وإذا نزل سبح، ويمكن أن يكون التكبير للتعجب من التسخير. (ثم قال) أي قرأ. أي قال: بنية القراءة امتثالاً لقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا} {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ} أي ذلل

ص: 167

لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ لنَا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ،

ــ

(لنا هذا) أي المركوب فانقاد لأضعفنا {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ، أي مطيقين ومقتدرين عليه من أقرن له إذا أطاقه وقوي عليه، أي ما كنا نطيق قهره واستعماله، لولا تسخير الله تعالى إياه لنا:{وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (43: 14) ، أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الأكبر واللام للتأكيد، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى:{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (2: 197) وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} (7: 26) قال البيضاوي: اتصال قوله: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} بما قبله لأن الركوب للنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى، فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه، ويستعد للقاء الله، يعني من شكر هذه النعمة أن يذكر عاقبة أمره، ويعلم أن استواءه على مركب الحياة كاستواءه، على ظهر ما سخر له ما لم يكن في المبدأ مطيقًا له ولا يجد في المنتهى بدًا من النزول عنه. كذا في اللمعات. وهذا الدعاء يسن عند ركوب أي دابة كانت لسفر أو غيره. فقول الراوي ((خارجًا إلى السفر)) حكاية للحال ودلالة على ضبط المقال، (اللهم) وفي رواية أحمد (ج2: ص145) ، والترمذي ((ثم يقول: اللهم)) (البر) أي الطاعة (والتقوى) ، أي عن المعصية أو المراد من البر الإحسان إلى الناس، أو من الله إلينا ومن التقوى امتثال الأوامر واجتناب النواهي، (ومن العمل) أي جنسه (ما ترضى) ، أي به عنا (اللهم هون) أمر من التهوين أي يسر (علينا سفرنا) ، مفعول لهون (هذا) ، وفي رواية الترمذي ((اللهم هون علينا المسير)) ، (واطو) أمر من طوى يطوي طيا (لنا بعده) كذا في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح، وشرح السنة، والمسند (ج2: ص145) ، وسنن أبي داود، والدارمي، والذي في صحيح مسلم ((واطو عنا بعده)) ، وهكذا في المسند (ج2: ص151) ، وجامع الأصول، والحصن. وللترمذي ((واطو عنا بعد الأرض)) أي قرب لنا بعد هذا السفر. قيل: هو عبارة عن تسير السير بإعطاء القوة له ولمركوبه. وقال ابن حجر: اطو لنا بعده حقيقة إذ ورد ((أن لله ملائكة يطوون الأرض للمسافر كما تطوى القراطيس)) ، أو المراد خفف مشاقه. قلت: لا مانع من حمله على الحقيقة ففيه إشارة إلى طي المكان والزمان، والمعنى ارفع عنا مشقة السفر بتقريب المسافة البعيدة لنا حسًا. (اللهم أنت الصاحب في السفر) ، أي الحافظ والمعين. والصاحب في الأصل الملازم وأراد بذلك مصاحبة الله إياه بالعناية والحفظ، وذلك أن الإنسان أكثر ما يبغي الصحبة في السفر، يبتغيها للاستيناس بذلك والاستظهار به والدفاع لما ينو به من النوائب فنبه بهذا القول على حسن الاعتماد عليه وكمال الاكتفاء عن صاحب سواه. قال البغوي: قوله ((أنت الصاحب في السفر)) أي الحافظ يقال صحبك الله، أي حفظك، وقوله سبحانه وتعالى:{وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ} (21: 43) أي لا يجارون، ومن صحبه الله

ص: 168

وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ. رواه مسلم.

ــ

لم يضره شيء (والخليفة في الأهل) ، الخليفة من ينوب عن المستخلف، فيما يستخلفه فيه يعني الذي يقوم مقام أحد في إصلاح أمره، والمعنى أنت الذي أرجوه وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي، أن يلم شعثهم ويثقف أودهم ويداوي سقمهم ويحفظ عليهم دينهم وأمانتهم، (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر) ، بفتح الواو وإسكان العين المهملة وبالثاء المثلثلة وبالمد، أي شدته ومشقته وتعبه وأصله من الوعث وهو الرمل والمشي فيه يشتد على صاحبه ويشق ويقال رمل أوعث ورملة وعثاء أي لما يشتد فيه السير للينه ثم قيل للشدة والمشقة وعثاء على التمثيل. وقال التوربشتي: وعثاء السفر مشقته أخذ من الوعث وهو مكان السهل الكثير الدهس الذي يتعب الماشي فيه ويشق عليه (وكآبة المنظر)، قال الجزري: المنظر هو ما ينظر إليه من أهله وماله وحاله، والكآبة بفتح الكاف وبالمد وهي تغير النفس بالانكسار من شدة الهم والحزن يقال كئب كآبة واكتئب فهو مكتئب وكئيب - انتهى. وقال الشوكاني: الكآبة بالمد التغير والانكسار من مشقة السفر وما يحصل على المسافر من الاهتمام بأموره - انتهى. والمنظر بفتح الظاء المعجمة مصدر ميمي أي من تغير الوجه بنحو مرض والنفس بالانكسار مما يعرض لها فيما يحبه مما يورث الهم والحزن وقيل: المراد منه الاستعاذة من كل منظر يعقب الكآبة عند النظر إليه (سوء المنقلب) بفتح اللام مصدر ميمي أي سوء الرجوع (في المال والأهل) أي من سوء الانقلاب إلى أهله وماله وذلك بأن يرجع منقوصًا مهمومًا بما يسوءه وقيل أي من أن يعود إلى وطنه فيرى في أهله وماله ما يسوءه مثل أن يصيب ماله آفة أو يجد أهله مرضى أو فقد بعضهم، وقيل أي من أن يطمع ظالم أو فاجر في المال والأهل (وإذا رجع) ، أي النبي صلى الله عليه وسلم من سفره إلى أهله (قالهن) ، أي الكلمات أو الجمل المذكورة وهي اللهم إنا نسألك (وزاد فيهن) ، أي في جملتهن بأن قال بعدهن (آئبون) ، بهمزة ممدودة بعدها همزة مكسورة اسم فاعل من آب يئوب إذا رجع، ومن تكلم به بالياء بعد الهمزة الممدودة فقد أخطأ كذا قيل: أي نحن راجعون من السفر بالسلامة إلى الوطن (تائبون) أي من المعصية إلى الطاعة (عابدون لربنا حامدون)، قال الطيبي: لربنا يجوز أن يتعلق بقوله عابدون لأن عمل اسم الفاعل ضعيف فيقوى به أو بحامدون ليفيد التخصيص، أي نحمد ربنا لا نحمد غيره وهذا أولى لأنه كالخاتمة للدعاء - انتهى. وفي الحديث استحباب هذا الذكر عند ابتداء الأسفار كلها، وقد جاءت فيه أذكار كثيرة (رواه مسلم) في المناسك، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص145، 151) والترمذي في الدعوات، وأبو داود في الجهاد، والنسائي، والدارمي، والبغوي في شرح السنة (ج5: ص140) ، وفي رواية أحمد (ج2: ص145) ، والدارمي، والترمذي بعد قوله ((في الأهل)) ((اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا)) ، وكان يقول إذا رجع إلى أهله، ((آئبون إن شاء الله تائبون عابدون لربنا حامدون)) . وفي رواية أبي داود نحوه بزيادة ونقصان يسير وفي آخره، ((وكان النبي صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا علوا الثنايا كبروا وإذا هبطوا سبحوا فوضعت الصلاة على ذلك)) .

ص: 169

2444-

(6) وعن عبد الله بن سرجس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم،

ــ

2444-

قوله: (وعن عبد الله بن سرجس) بفتح السين وكسر الجيم على وزن نرجس مصروفًا، (إذا سافر يتعوذ)، أي بالله (وكآبة المنقلب) بفتح الكاف وهمزة ممدودة أو ساكنة كرأفة ورآفة. في القاموس: الكأب والكأبة والكآبة: الغم وسوء الحال والانكسار من حزن والمنقلب بفتح اللام مصدر بمعنى الانقلاب أو اسم مكان والإضافة ظرفية. قال الخطابي: معناه أن ينقلب إلى أهله كئيبًا حزينًا لعدم قضاء حاجته أو إصابة آفة له أو يجدهم مرضى أو مات منهم بعضهم. وقال الجزري: المعنى أنه يرجع من سفره بأمر يحزنه إما إصابة في سفره وإما قدم عليه مثل أن يعود غير مقضي الحاجة أو أصابت ماله آفة أو يقدم على أهله فيجدهم مرضى أو قد فقد بعضهم (والحور بعد الكور) بفتح فسكون فيهما والحاء مهملة، أي من الانتقاص بعد الزيادة والاستكمال يعني من نقصان الحال والمال بعد زيادتهما وتمامهما، أي من أن ينقلب حالنا من السراء إلى الضراء ومن الصحة إلى المرض، وقيل: من فساد الأمور بعد صلاحها، وقيل: من التفرق بعد الاجتماع، وأصل الحور نقض العمامة بعد لفها، وأصل الكور من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها، وقيل الحور الرجوع عن الجماعة بعد أن كان فيهم. وروى مسلم في صحيحه:((من الحور بعد الكون)) بالنون مصدر كان يكون كونًا من كان التامة دون الناقصة يعني من النقصان والتغير بعد الثبات والاستقرار. وقيل: معناه الرجوع عن الحالة المستحسنة بعد أن كان عليها وفي، كلامهم حار بعد ما كان يريد كان على حالة جميلة فحار عن ذلك أي: رجع. قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى} (84: 14، 15) أي: لن يرجع. قال النووي في شرح مسلم: هكذا هو في معظم النسخ من صحيح مسلم ((بعد الكون)) بالنون بل لا يكاد يوجد في بلادنا إلا بالنون وكذا ضبطه الحفاظ المتقنون في صحيح مسلم. وقال في الأذكار: رواية النون أكثر وهي التي في أكثر أصول صحيح مسلم بل هي المشهورة فيها. قال الترمذي بعد ذكر الروايتين: وكلاهما له وجه. قال: يقال: إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعني الرجوع من شيء إلى شيء من الشر. قال النووي بعد ذكر كلام الترمذي هذا وكذا قال غيره من العلماء معناه بالراء والنون جميعًا الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص. قالوا ورواية مأخوذة من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها، ورواية النون مأخوذة من الكون مصدر كان يكون كونًا إذا وجد واستقر أي أعوذ بك من النقص بعد الوجود والثبات. قال المازري في رواية الراء: قيل أيضًا: أن معناه أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها، يقال: كار عمامته إذا لفها، وحارها إذا نقضها. وقيل: نعوذ بك من أن تفسد أمورنا بعد صلاحها كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس، وعلى رواية النون قال أبو عبيد سئل عاصم عن معناه فقال: ألم تسمع قولهم حار بعد ما كان أي إنه كان على حالة جميلة فرجع عنها - انتهى (ودعوة المظلوم) أي أعوذ بك من الظلم

ص: 170

وسوء المنظر في الأهل والمال. رواه مسلم.

2445-

(7) وعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ

ــ

فإنه يترتب عليه دعاء المظلوم، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب. ففيه التحذير من الظلم ومن التعرض لأسبابه. قال الطيبي: فإن قلت: دعوة المظلوم يحترز عنها سواء كانت في الحضر أو السفر. قلت: كذلك الحور بعد الكور لكن السفر مظنة البلايا والمصائب والمشقة فيه أكثر فخصت به، أو لأن دعوة المظلوم المسافر الذي لا يلقى الإعانة والإغاثة أقرب إلى الإجابة لاجتماع الكربة والغربة وعدم الإعانة والإغاثة (وسوء المنظر) بفتح الظاء المعجمة (في الأهل والمال) وهو كل ما يسوء النظر إليه وسماعه فيهما. قال الباجي: يريد الاستعاذة من أن يكون في أهله وماله ما يسوء النظر إليه. يقال: منظر حسن ومنظر قبيح. وقال القاري: أي من أن يطمع ظالم أو فاجر في المال والأهل. وقال السندي: المراد بسوء المنظر كل منظر يعقب النظر إليه سوءًا. (رواه مسلم) في المناسك وأخرجه أيضًا أحمد (ج5: ص82، 83) والترمذي في الدعوات، والنسائي في الاستعاذة، وفي السير من الكبرى، وفي اليوم والليلة، وابن ماجة في الدعاء، وابن السني (ص157) والبغوي (ج5: ص136) .

2445-

قوله: (وعن خولة) بفتح المعجمة وسكون الواو (بنت حكيم) بن أمية السلمية يقال: كنيتها أم شريك ويقال لها أيضًا: خويلة بالتصغير صحابية شهيرة. يقال: إنها كانت من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت قبل تحت عثمان ابن مظعون. قال ابن عبد البر: وكانت صالحة فاضلة روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنها سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير وغيرهما. قال الخزرجي: لها خمسة عشر حديثًا انفرد لها مسلم بحديث. يعني الذي نحن بصدد شرحه. قال القاري: وليس لها في الكتب (أي صحيح مسلم، وجامع الترمذي، والسنن الكبرى للنسائي، وسنن ابن ماجة، والموطأ) سوى هذا الحديث الواحد (من نزل منزلاً) في سفر أو حضر ولا وجه لتقييده بالسفر مع التنكير. قال الزرقاني: منزلاً أي مظنة للهوام والحشرات ونحوهما مما يؤذي ولو في غير سفر (فقال) في صحيح مسلم: ((ثم قال)) وهكذا في جامع الأصول والأذكار وكذا وقع عند الترمذي وأحمد في رواية وفي أخرى له ((فقال)) وفي رواية لمسلم ((إذا نزل أحدكم منزلاً فليقل)) وفي الموطأ وشرح السنة ((من نزل منزلاً فليقل)) وهو أمر ندب يدل عليه رواية الكتاب، ورواية أحمد بلفظ ((لو أن أحدكم إذا نزل منزلاً قال: أعوذ)) الحديث. (أعوذ) أي أعتصم (بكلمات الله) قال الهروي وغيره: الكلمات هي القرآن وقيل أسماءه وصفاته لأن كل واحد منها تامة لا نقص فيها لأنها قديمة والنقصان إنما يكون في المحدثات. وقيل هي جميع ما أنزله على أنبياءه لأن الجمع المضاف إلى المعارف يعم أي يقتضي العموم (التامات) أي الكاملات التي

ص: 171

مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ. رواه مسلم.

2446-

(8) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

لا يدخل فيها نقص ولا عيب، وقيل: هي النافعات الكافيات الشافيات من كل ما يتعوذ منه. يعني أنها تنفع المقولة له وتحفظه من الآفات وتكفيه. قال الجزري: وصف كلمات بالتمام إذ لا يجوز أن يكون شيء من كلامه ناقصًا ولا فيه عيب كما يكون في كلام الآدميين. وقيل: معنى التمام ههنا: أن ينتفع بها المتعوذ وتحفظه من الآفات - انتهى. وقال الباجي: وصفها بالتمام على الإطلاق يحتمل أن يريد به أنه لا يدخلها نقص وإن كان كلمات غيره يدخلها النقص، ويحتمل أن يريد بذلك الفاضلة، يقال: فلان تام وكامل أي فاضل، ويحتمل أن يريد به الثابت حكمها، قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} (7: 137) انتهى. قال الخطابي: كان الإمام أحمد يستدل به على أن كلام الله غير مخلوق لأنه صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق (من شر ما خلق) عبر بما للتعميم (لم يضره) بفتح الراء وضمها (شيء) أي من المخلوقات. قال المناوي: الشيء عند أهل السنة الموجود ويدخل فيه الموجودات كلها (حتى يرتحل) أي ينتقل (من منزله ذلك) قال الباجي: يريد أن تعوذه يتناول مدة مقامه فيه. قال الزرقاني: وشرط نفع ذلك الحضور والنية وهي استحضار أنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى التحصن به وأنه الصادق المصدوق، فلو قاله أحد واتفق أنه ضره شيء فلأنه لم يقله بنية وقوة يقين وليس ذلك خاصًا بمنازل السفر بل عام في كل موضع جلس فيه أو نام. وقال المناوي: والظاهر حصول ذلك لكل داع بقلب حاضر وتوجه تام فلا يختص بمجاب الدعوة. قال القاري: في الحديث رد على ما كان يفعله أهل الجاهلية من كونهم، إذا نزلوا منزلاً قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي ويعنون به كبير الجن ومنه قوله تعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (72: 6)(رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا البخاري في خلق أفعال العباد، وأحمد (ج6: ص377، 409) ، والترمذي في الدعوات، والنسائي في الكبرى، ومالك في كتاب الجامع من الموطأ، وابن ماجة في الطب، وابن السني (ص168) والدارمي (ص359)، والبغوي (ج5: ص145) ، وابن أبي شيبة، والطبراني، وزاد البخاري، والبغوي في آخره ((إن شاء الله)) وفي الباب عن عبد الرحمن بن عائش أخرجه أبو نعيم في المعرفة، وفي اليوم والليلة كما في الإصابة (ج2: ص406) ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص133) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

2446-

قوله (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي خلق أفعال العباد والموطأ، وشرح السنة عن أبي صالح عن أبي هريرة ((أن رجلاً من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي شيء؟ فقال: لدغتني عقرب)) الحديث. وهكذا وقع في رواية لأحمد، وهذا ظاهر في أن اللديغ رجل من أسلم، وروى أبو داود عن أبي صالح عن رجل من أسلم قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من أصحابه فقال يا رسول الله: لدغت الليلة فلم أنم

ص: 172

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ. قَالَ: أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ. رواه مسلم.

2447-

(9) وعنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يَقُولُ: سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ

ــ

الحديث. وأخرجه النسائي كذلك، وهذا يدل على أن اللديغ رجل آخر غير الأسلمي، ويحتمل أنهما قصتان وقعت القصة مرة للرجل الأسلمي وأخرى لغيره. والله تعالى أعلم. (فقال يا رسول الله ما لقيت) ما استفهامية للتعجب أي أي شيء لقيت، أي لقيت أمرًا عظيمًا ووجعًا شديدًا. أو موصولة والخبر محذوف، أي الذي لقيته لا أقدر وصفه لعظم شدته (من عقرب لدغتني البارحة)، أي الليلة الماضية (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم:(أما) بفتح الهمزة وخفة الميم (لو قلت) شرطية (من شر ما خلق) ، أي من شر خلقه وهو ما يفعله المكلفون من إثم ومضارة بعض لبعض من نحو ظلم وبغي وقتل وضرب وشتم وغيرهم من نحو لدغ ونهش وعض، وزاد ابن السني ((ثلاثًا)) ، أي لو قلت هذا التعوذ ثلاث مرات (لم تضرك) أي العقرب بأن يحال بينك وبين كمال تأثيرها بحسب كمال المتعوذ وقوته وضعفه لأن الأدوية الإلهية تمنع من الداء بعد حصوله وتمنع من وقوعه وإن وقع لم يضره. قال القرطبي: جربت ذلك فوجدته صدقًا تركت ليلة فلدغتني عقرب فتفكرت فإذا أنا نسيت هذا التعوذ. (رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد، ومالك في كتاب الجامع من الموطأ، وأبو داود في الطب، والنسائي في الكبرى، وابن ماجة في الطب، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص227)، والبغوي (ج5: ص146) وزاد في آخره ((إن شاء الله)) وروى أحمد (ج2: ص191) ، والترمذي، والحاكم (ج4: ص416) ، وابن حبان عن سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم واللفظ لأحمد قال: من قال إذا أمسى ثلاث مرات ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) لم يضره حمة تلك الليلة. قال (سهيل) : فكان أهلنا قد تعلموها فكانوا يقولونها فلدغت جارية منهم فلم تجد لها وجعًا. ورواه الطبراني بلفظ: من قال إذا أمسى ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) لم يضره شيء. وزاد أحمد في آخر حديث سهيل عن أبيه عن رجل من أسلم قال سهيل فكان أبي (أي أبو صالح) إذا لدغ أحد منا يقول: قالها؟ فإن قالوا نعم قال: كأنه يرى أنها لا تضره.

2447-

قوله (كان إذا كان في سفر وأسحر) ، أي دخل في وقت السحر بفتحتين وهو قبيل الصبح، وقال الزمخشري هو السدس الأخير من الليل (سمع سامع بحمد الله) روى سمع بفتح الميم وتشديدها من التسميع بمعنى الإسماع للغير كذا ضبطه القاضي عياض وصاحب المطالع وأشار إلى أنه رواية أكثر رواة مسلم. قالا: ومعناه بلغ سامع قولي هذا لغيره وقال مثله تنبيهًا على الذكر في السحر والدعاء في ذلك، وروي بكسر الميم وتخفيفها من السمع وكذا ضبطه الخطابي وآخرون. قال الخطابي: معناه شهد شاهد وهو أمر بلفظ الخبر يريد به الإشهاد على ما يقوله وحقيقته ليسمع السامع

ص: 173

وَحُسْنِ بَلائِهِ عَلَيْنَا رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ. رواه مسلم.

2448-

(10) وعن ابْنِ عُمَرَ قال: كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ

ــ

وليشهد الشاهد حمدنا لله تعالى وحسن بلائه، أي إنعامه علينا فإنا نعترف بذلك ونشهده عليه، وقال في اللمعات بعد ذكر الروايتين: وعلى الوجهين هو خبر بمعنى الأمر فالمعنى على الأول ليبلغ سامع قولي هذا إلى غيره ليسعى إلى الحمد والذكر والدعاء في هذا الوقت. وعلى الثاني ليسمع كل من يأتي منه السماع وليشهد على حمدنا لله تعالى. وقال التوربشتي: الحمل على الخبر أولى وأقوى لظاهر اللفظ، والمعنى أن من كان له سمع فقد سمع بحمدنا وحسن بلائه، أي حسن إنعامه وأفضاله علينا وأن كلا الأمرين أي حمدنا لله تعالى على نعمه وإنعامه علينا قد اشتهر واستفاض حتى لا يكاد يخفى على ذي سمع (وحسن بلائه علينا)، أي حسن إنعامه وأفضاله علينا. قال الجزري في جامع الأصول: حسن البلاء النعمة والبلاء الاختبار والامتحان فالاختبار بالخير ليتبين الشكر وبالشر ليظهر الصبر. وقال التوربشتي: أراد بالبلاء النعمة والله سبحانه يبلو عباده تارة بالمضار ليصبروا وطوراً بالمسار ليشكروا {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (21: 35) فالمحنة والمنحة جميعًا بلاء لمواقع الاختبار وكلاهما نعمة باعتبار حصول الأجر والمنحة أعظم البلائين لا سيما لذوي النفوس الكاملة لأنها الموجبة للقيام بحقوق الشكر والقيام بها أتم وأصعب وأعلى وأفضل من القيام بحقوق الصبر (ربنا صاحبنا) بسكون الموحدة صيغة الأمر من المصاحبة، أي كن لنا صاحبًا بالإعانة والإغاثة والكلاءة والحفظ. قال النووي: أي احفظنا وحطنا واكلأنا ومن صحبه الله لم يضره شيء (وأفضل علينا) أمر من الإفضال، أي أحسن إلينا وتفضل علينا بإدامة النعمة والتوفيق للقيام بحقوقها (عائذًا بالله من النار) اسم فاعل أقيم مقام المصدر كقولهم قم قائمًا، أي قيامًا فالنصب على المصدر يعني نعوذ بالله عياذًا، أو حال من فاعل يقول فيكون من كلام الراوي. ويجوز أن يكون من كلام الرسول فيكون حالاً من فاعل فعل مقدر هو أقول بصيغة المتكلم والتقدير: أقول ذلك عائذًا بالله من النار. وإليه مال النووي حيث قال: منصوب على الحال، أي أقول هذا في حال استعاذتي واستجارتي بالله من النار. (رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أبو داود في الأدب، والنسائي، وابن السني (ص164)، والحاكم (ج1: ص446) ، وأبو عوانة، وزاد أبو داود والحاكم بعد قوله بحمده ((ونعمته)) وزاد أيضًا الحاكم وأبو عوانة ((يقول ذلك ثلاث مرات ويرفع صوته)) كذا في الحصن.

2448-

قوله (إذا قفل) بقاف ثم فاء أي رجع وزنه ومعناه، ومنه تسمى القافلة، في النهاية: قفل أي عاد من سفره وقد يقال للسفر قفول في الذهاب والمجئي وأكثر ما يستعمل في الرجوع (من غزو أو حج أو عمرة) كأنه قصد استيعاب أنواع سفره صلى الله عليه وسلم ببيان أنه لا يخرج عن هذه الثلاثة وإلا فظاهره اختصاص ذلك بهذه الأمور الثلاث وليس الحكم كذلك عند الجمهور بل يشرع قول ذلك في كل سفر إذا كان سفر طاعة كصلة الرحم وطلب العلم لما يشمل الجميع من اسم الطاعة. وقيل: يتعدى أيضًا إلى المباح لأن المسافر فيه لا ثواب له فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب

ص: 174

يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آئِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ

ــ

وقيل: يشرع في سفر المعصية أيضًا لأن مرتكبها أحوج إلى تحصيل الثواب من غيرع، وهذا التعليل متعقب لأن الذي يخصه بسفر الطاعة لا يمنع من سافر في مباح ولا في معصية من الإكثار من ذكر الله وإنما النزاع في خصوص هذا الذكر في هذا الوقت المخصوص فذهب قوم إلى الاختصاص لكونها عبادات مخصوصة شرع لها ذكر مخصوص فتختص به كالذكر المأثور عقب الأذان وعقب الصلاة وإنما اقتصر الصحابي على الثلاث لانحصار سفر النبي صلى الله عليه وسلم فيها (يكبر) أي يقول الله أكبر (على كل شرف) بفتح المعجمة والراء بعدها فاء وهو المكان العالي، قال الجزري: الشرف ما ارتفع من الأرض. ووقع في رواية مسلم بلفظ ((إذا أوفى (أي ارتفع وعلا وأشرف واطلع) على ثنية (بمثلثة ثم نون ثم تحتانية مشددة هي العقبة في الجبل وقيل المرتفع من الأرض كالنشر والرابية وقيل هو طريق بين جبلين) أو فدفد)) (بفتح الفاء بعدها دال مهملة ثم فاء ثم دال والأشهر تفسيره بالمكان المرتفع، وقيل هو الأرض المستوية، وقيل الفلاة الخالية من شجر وغيره، وقيل غليظ الأودية ذات الحصى، وقيل الجلد من الأرض في ارتفاع وجمعه فدافد) قال الطيبي وجه التكبير على الأماكن العالية وهو استحباب الذكر عند تجدد الأحوال والتقلبات وكان صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك في الزمان والمكان لأن اختلاف أحوال العبد في الصباح والمساء والصعود والهبوط وما أشبه ذلك مما ينبغي أن لا ينسى ربه عند ذلك فإنه هو المتصرف في الأشياء بقدرته المدبر لها قبل صنعه - انتهى. وقال الزين العراقي: مناسبة التكبير على المرتفع أن الاستعلاء محبوب للنفس وفيه ظهور وغلبة فينبغي للمتلبس به أن يذكر عنده أن الله أكبر من كل شيء ويشكر له ذلك ويستمطر منه المزيد (ثم يقول: لا إله إلا الله) إلخ. قال الحافظ: يحتمل أنه كان يأتي بهذا الذكر عقب التكبير وهو على المكان المرتفع ويحتمل أن التكبير يختص بالمكان المرتفع وما بعده إن كان متسعًا أكمل الذكر المذكور فيه وإلا فإذا هبط سبح كما في حديث جابر (الآتي في أواخر الفصل الثالث من هذا الباب) ويحتمل أن يكمل الذكر مطلقًا عقب التكبير ثم يأتي بالتسبيح إذا هبط. قال القرطبي: وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنه المنفرد بإيجاد جميع الموجودات وأنه المعبود في جميع الأماكن (آئبون) بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي نحن آئبون أي راجعون وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع فإنه تحصيل الحاصل بل الرجوع في حالة مخصوصة وهي تلبسهم بالعبادة المخصوصة والاتصاف بالأوصاوف المذكورة (تائبون) أي إلى ربنا من التوبة وهي الرجوع عما هو مذموم إلى ما هو محمود شرعًا وفيه إشارة إلى التقصير في العبادة قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع أو تعليمًا لأمته أو المراد أمته وقد تستعمل التوبة لإرادة الاستمرار على الطاعة فيكون المراد أن لا يقع منهم ذنب (عابدون ساجدون لربنا حامدون) كلها رفع بتقدير نحن والجار والمجرور

ص: 175

صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. متفق عليه.

2449-

(11) وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى قال: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ:

ــ

متعلق بحامدون أو وبساجدون أو بهما أو بالصفات الخمسة على طريق التنازع (صدق الله وعده، أي فيما وعد به من إظهار دينه في قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} (48: 20) وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} (24: 55) الآية: وهذا في سفر الغزو ومناسبته لسفر الحج والعمرة قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} (48: 27)(ونصر عبده) يريد نفسه الكريمة (وهزم الأحزاب وحده) ، أي من غير فعل أحد من الآدميين، واختلف في المراد بالأحزاب هنا فقيل هم كفار قريش ومن وافقهم من العرب واليهود الذين تحزبوا، أي تجمعوا في غزوة الخندق ونزلت في شأنهم سورة الأحزاب، وقيل: المراد أعم من ذلك، أي أحزاب الكفار في جميع الأيام والمواطن. قال النووي: والمشهور الأول، وقيل: فيه نظر لأنه يتوقف على أن هذا الذكر إنما شرع من بعد الخندق، وأجيب: بأن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي خرج فيها بنفسه محصورة والمطابق منها لذلك غزوة الخندق والأصل في الأحزاب أنه جمع حزب وهو القطعة المجتمعة من الناس، فاللام إما جنسية، أي كل من تحزب من الكفار وإما عهدية والمراد من تقدم وهو الأقرب قاله الحافظ. وقال القاري: قوله: وهزم الأحزاب أي القبائل المجتمعة من الكفار لحرب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا اثني عشر ألفًا توجهوا من مكة إلى المدينة واجتمعوا حولها سوى من انضم إليهم من اليهود ومضى عليهم قريب من شهر لم يقع بينهم حرب إلا الترامي بالنبل والحجارة زعمًا منهم أن المؤمنين لم يطيقوا مقابلتهم فلا بد أنهم يهربون فأرسل الله عليهم ريحًا في ليلة شاتية سفت التراب على وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت أوتادهم وأكفأت قدورهم وأرسل الله ألفًا من الملائكة فكبرت في ذوائب عسكرهم فهاصت الخيل وقذف في قلوبهم الرعب فانهزموا ونزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} (33: 9) قال الزرقاني: وفي الحديث جواز السجع في الدعاء والكلام بلا تكلف وإنما ينهى عن التكلف لأنه يشغل عن الإخلاص ويقدح في النية (متفق عليه) أخرجه البخاري في أواخر أبواب العمرة من كتاب الحج وفي الجهاد وفي المغازي وفي الدعوات ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص6، 11، 16، 22، 39، 64، 106) ، ومالك في جامع الحج من الموطأ، وأبو داود في الجهاد، والنسائي في السير، وفي اليوم والليلة، وابن السني (ص165، 166، 169) ، ونسبه الجزري في جامع الأصول، وابن الجزري في الحصن، والسيوطي في الجامع الصغير للترمذي أيضًا، ولم يذكر المنذري في مختصر السنن والنابلسي في ذخائر المواريث، والعيني في العمدة الترمذي في من خرج هذا الحديث.

2449-

قوله (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب) ، أي في غزوة الخندق (فقال) ، تفسير لقوله دعا أو ودعا بمعنى

ص: 176

اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اللَّهُمَّ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ. متفق عليه.

ــ

أراد الدعاء (اللهم)، أي يا الله يا (منزل الكتاب) من الإنزال. وقيل: من التنزيل والمراد بالكتاب القرآن. وقيل: الجنس فيشمل سائر الكتب المنزلة على الأنبياء (سريع الحساب) يعني يا سريع الحساب. قال الكرماني: إما أن يراد به أنه سريع حسابه بمجئي وقته، وإما أنه سريع في الحساب أي مسرع حساب الخلق يوم القيامة. قال السندي: قوله: ((منزل الكتاب سريع الحساب)) لكونهما للفصل بين الحق والباطل يقتضيان دفع أهل الباطل وهدم بنيانهم، فينبغي التوسل بهما لذلك - انتهى. ووقع في رواية للشيخين ((منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب)) قيل أشار بهذا الدعاء إلى وجوه النصر عليهم فبالكتاب إلى القرآن الموعود فيه بالنصر على الكفار قال تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} (9: 14) فيكون المراد شدة الطلب للنصر كنصره هذا الكتاب بخذلان من يكفر به ويجحده وبمجري السحاب إلى القدرة الظاهرة في تسخير السحاب تنبيهًا على سرعة إجراء ما يقدره فإنه قدر جريان السحاب على أسرع حال وكأنه يسأل بذلك سرعة النصر والظفر. وبهازم الأحزاب إلى تجريد التوكل واعتقاد أن الله هو المنفرد بالفعل من غير حول منا ولا قوة. قال القسطلاني: أو المراد التوسل إليه بنعمة فأشار بالأولى إلى نعمة الدين بإنزال الكتاب وبالثانية إلى نعمة الدنيا وحياة النفوس بإجراء السحاب الذي جعله سببًا في نزول الغيث والأرزاق، وبالثالثة إلى أنه حصل بها حفظ النعمتين فكأنه قال: اللهم كما أنعمت بعظيم نعمتك الأخروية والدنيوية وحفظهما فأبقهما وقد وقع هذا السجع اتفاقًا من غير قصد - انتهى. وقال الحافظ: وفيه أي في الدعاء التنبيه على عظم هذه النعم الثلاث فإن بإنزال الكتاب حصلت النعمة الأخروية وهي الإسلام وبإجراء السحاب حصلت النعمة الدنيوية وهي الرزق وبهزيمة الأحزاب حصل حفظ النعمتين وكأنه قال: اللهم كما أنعمت بعظيم النعمتين الأخروية والدنيوية وحفظهما فأبقهما (اللهم اهزم الأحزاب) ، أي اكسرهم وبدد شملهم فهزمهم الله تعالى بأن أرسل عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها كما في سورة الأحزاب (اللهم اهزمهم) تأكيد وتعميم (وزلزلهم) قال النووي، أي أزعجهم وحركهم بالشدائد قال أهل اللغة الزلزال والزلزلة الشدائد التي تحرك الناس. وقال الحافظ: المراد الدعاء عليهم إذا انهزموا أن لا يستقر لهم قرار، وقال الداودي أراد أن تطيش عقولهم وترعد أقدامهم عند اللقاء فلا يثبتوا. قال القسطلاني: إنما خص الدعاء عليهم بالهزيمة والزلزلة دون أن يدعو عليهم بالهلاك لأن الهزيمة فيها سلامة نفوسهم وقد يكون ذلك رجاء أن يتوبوا من الشرك ويدخلوا في الإسلام، والإهلاك الماحق لهم مفوت لهذا المقصد الصحيح. وفي رواية الإسماعيلي في هذا الحديث من وجه آخر زيادة في هذا الدعاء وهي أنه صلى الله عليه وسلم دعا أيضًا فقال: اللهم أنت ربنا وربهم ونحن عبيدك وهم عبيدك نواصينا ونواصيهم بيدك فاهزمهم وانصرنا عليهم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد، والمغازي، والدعوات، والتوحيد، ومسلم في الجهاد، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص353، 354، 381) ، والترمذي، وأبو داود في الجهاد، والنسائي في السير، وفي عمل اليوم والليلة، وابن ماجه في الجهاد، والحميدي في مسنده (ج2: ص314) والبغوي في شرح السنة (ج5: ص152) .

ص: 177

2450-

(12) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى. وفي رواية

ــ

2450-

قوله (وعن عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وإسكان الباء (نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، أي ضيفًا (على أبي)، أي والدي (فقربنا إليه طعامًا ووطبة) بواو مفتوحة وطاء ساكنة فموحدة في جميع نسخ المشكاة. قال النضر: الوطبة الحيس يجمع بين التمر والأقط والسمن. قلت: روي هذا اللفظ في صحيح مسلم على وجوه شتى. واختلف في أنه أيها أصح. قال القاضي عياض: في المشارق في حرف الواو: وطيئة بفتح الواو وكسر الطاء بعدها همزة ممدودة (كسفينة) هو التمر يخرج نواه ويعجن باللبن. وقال ابن دريد: هي عصيدة التمر. وقال ابن قتتيبة: هي الغرارة يكون فيها القديد والكعك وغيره. قيل: الوطيئة على وزن وثيقة هي الصحيح وهي طعام كالحيس سمي به لأنه يوطأ باليد أي يمرس وقيل هو سقاء اللبن ورد بأنه لا يؤكل منها بل يشرب إلا أن يقال بأنه غلب الأكل على الشرب وبأن قوله ثم أتي بشراب ينافيه إلا أن يراد به الماء. وروي وطئة بفتح الواو وكسر الطاء بعدها همزة غير ممدودة قال النووي: ونقل القاضي عياض عن رواية بعضهم في صحيح مسلم وطئة بفتح الواو وكسر الطاء بعدها همزة وادعى أنه الصواب وهكذا ادعاه آخرون. والوطئة بالهمزة عند أهل اللغة طعام يتخذ من التمر كالحيس. وروى السمرقندي رطبة بضم الراء وفتح الطاء بعدها موحدة واحدة الرطب وكذا ذكر الحميدي. وقال هكذا جاء فيما رأينا من نسخ مسلم رطبة بالراء وهو تصحيف من الراوي وإنما هو بالواو، وهذا الذي ادعاه على نسخ مسلم هو فيما رآه وإلا فأكثرها بالواو وكما قال النووي والجزري. وقال النووي: قوله: وطبة بالواو وإسكان الطاء وبعدها باء موحدة وهكذا رواه النضر بن شميل هذا الحديث عن شعبة والنضر إمام من أئمة اللغة وفسره النضر بأنه الحيس يجمع التمر البرني والأقط المدقوق والسمن. وكذا ضبطه أبو مسعود الدمشقي وأبو بكر البرقاني وآخرون وهكذا هو عندنا في معظم النسخ ثم ذكر النووي رواية الرطبة ووهنها قيل وعلى الروايات يحمل الطعام على الخبز (فأكل منها) أي من الوطبة. قال القاري: وكان الظاهر أن يقال منهما أو منه بتأويل المذكور فهو من قبيل {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ} (9: 34) في رجع الضمير إلى أقرب ما ذكر وترك الآخر للوضوح فهو من باب الاكتفاء (ثم أتي بتمر) أي جئي به (ويلقي) بضم أوله (النوى) جنس النواة (بين إصبعيه) بتثليث الهمزة والموحدة ففيه تسع لغات والأشهر كسر الهمزة وفتح الموحدة (ويجمع السبابة) أي المسبحة (والوسطى) قال النووي: قوله ((ويلقي النوى بين إصبعيه)) ، أي يجعله بينهما لقلته ولم يلقه في إناء التمر لئلا يختلط بالتمر. وقيل كان يجمعه على ظهر الإصبعين ثم يرمي به. قلت: ويؤيد الثاني ما وقع في رواية أحمد (ج4: ص188) ، وابن السني (ص152)((فكان يأكل التمر ويضع النوى على ظهر إصبعيه، ثم يرمي به)) ويؤيده أيضًا الروية الآتية (وفي رواية) هذه الرواية ليست في

ص: 178