المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(5) باب ‌ ‌(الفصل الأول) 2387- (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٨

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

الفصل: ‌ ‌(5) باب ‌ ‌(الفصل الأول) 2387- (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول

(5) باب

(الفصل الأول)

2387-

(1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما قضى الله الخلق كتب كتابًا فهو عنده

ــ

وله شواهد من حديث أنس أخرجه الحاكم (ج4: ص243) ، والبزار، والبيهقي، وابن حبان، ومن حديث وائل ابن حجر أخرجه الطبراني، ومن حديث ابن أبي سعيد عن أبيه أخرجه الطبراني، وأبو نعيم في الحلية، ومن حديث أبي هريرة أخرجه الطبراني في الصغير ذكرها في مجمع الزوائد (ج10: ص199) مع الكلام عليها.

(باب) بالرفع منونًا وبالوقوف مسكنًا ولم يذكر العنوان وغالب أحاديثه في رحمة الرحمن الباعثة على التوبة من العصيان والموجبة للرجاء وعدم اليأس من الغفران قاله القاري. وقلت: وقع في بعض النسخ ((باب في سعة رحمة الله)) ولا يخفى مناسبته للأحاديث المذكورة فيه.

2387-

قوله: (لما قضى الله الخلق) أي: خلق المخلوقات كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي: خلقهن، وقضى يطلق بمعنى حكم وأتقن وفرغ وأتم وأمضى وأنفذ، وكل صنعة محكمة متقنة فهي قضاء، وقال القاري: لما قضى الله الخلق أي: حين قدر الله خلق المخلوقات وحكم بظهور الموجودات، أو حين خلق الخلق يوم الميثاق أو بدأ خلقهم - انتهى. قلت: وقع في رواية البخاري في باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} (آل عمران: 28) من كتاب التوحيد لما خلق الله الخلق، وهكذا وقع في رواية لأحمد، ومسلم، وللترمذي إن الله حين خلق الخلق (كتب كتابًا) وفي رواية لهما، كتب في كتابه أي: في اللوح المحفوظ بأمره للملائكة أن يكتبوا أو للقلم، ويؤيده حديث عبادة بن الصامت أول ما خلق الله القلم (أي بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش) ثم قال: اكتب. فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة وحديث جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة أو الكتابة كناية عن الإثبات والإبانة والإخبار به. ووقع عند الترمذي، وابن ماجة كتب بيده على نفسه أي موجبًا إياه على نفسه بمقتضى وعده، وليس الكتب للاستعانة لئلا ينساه تعالى فإنه منزه عن ذلك لا يخفى عنه شيء وإنما ذلك لأجل الملائكة الموكلين بالمكلفين، فإن قيل: ما وجه تخصيص هذا بالذكر مع أن القلم كتب كل شيء. قلت: لما فيه من الرجاء الكامل وإظهار إن رحمته وسعت كل شيء بخلاف غيره (فهو) أي ذلك الكتابة بمعنى المكتوب وقيل عمله أو ذكره (عنده) أي: عندية المكانة لا عندية المكان لتنزهه عن سمات

ص: 75

فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي. في رواية: غلبت غضبي.

ــ

الحدثان (فوق عرشه) مكنونًا عن سائر الخلق مرفوعًا عن حيز الإدراك. قال الحافظ: فلا تكون العندية مكانية بل هي إشارة إلى كما كونه مخفيًا عن الخلق مرفوعًا عن حيز إدراكهم، وفيه تنبيه نبيه على تعظيم الأمور وجلالة القدر. قال الخطابي: المراد بالكتاب أحد شيئين. أما القضاء الذي قضاه كقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (المجادلة: 21) أي: قضى ذلك قال: ويكون معنى قوله فوق العرش أي عنده علم ذلك فهو لا ينساه ولا يبدله كقوله تعالى: {فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (طه: 52) وأما اللوح المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق وبيان أمورهم وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم، ويكون معنى فهو عنده فوق العرش أي ذكره وعلمه، وكل ذلك جائز في التخريج. قيل: العندية المكانية المعروفة مستحيلة في حقه تعالى، فهي محمولة على ما يليق به أو مفوضة إليه قلت: هي خبر جاء به التوقيف فقلنا به ونفينا عنه التكييف إذ ليس كمثله شيء فالأولى بل المتعين إمراره على ظاهره كما جاء من غير تصرف فيه (إن رحمتي) بكسر الهمزة وتفتح. قال الحافظ: بفتح أن على أنها بدل من الكتاب وبكسرها على أنها ابتداء كلام يحكي مضمون الكتاب: قال القاري: ويؤيد الثاني رواية للشيخين إن رحمتي تغلب غضبي. (سبقت غضبي وفي رواية غلبت غضبي) الرواية الثانية للبخاري فقط أوردها في بدء الخلق، ولفظ مسلم تغلب، وكذا وقع عند البخاري في باب قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ (آل عمران: 28) قال القاري: غلبت غضبي أي غلبت آثار رحمتي على آثار غضبي وهي مفسرة لما قبلها، والمراد بيان سعة الرحمة وكثرتها وشمولها الخلق حتى كأنها السابق والغالب كما يقال غلب على فلان الكرم إذا كان هو أكثر خصاله وإلا فرحمة الله وغضبه صفتان راجعتان إلى إرادته الثواب والعقاب، وصفاته لا توصف بغلبة إحداهما على الأخرى. وإنما هو على سبيل المبالغة للمجاز. وقيل: السبق والغلبة باعتبار التعلق أي تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب، لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة. وأما الغضب فإنه متوقف على سابقة عمل من العبد الحادث، وبهذا التقرير يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن كمن يدخل النار من الموحدين، ثم يخرج بالشفاعة وغيرها. وقال التوربشتي: في سبق الرحمة بيان إن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وإنها تنالهم من غير استحقاق، وإن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، ألا ترى إن الرحمة تشمل الإنسان جنينًا ورضيعًا وفطيمًا وناشئًا من غير أن يصدر منه شيء من الطاعة ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك. وقال الطيبي: أي: لما خلق الخلق حكم حكمًا جازمًا ووعد وعدًا لازمًا لا خلف فيه بأن رحمتي سبقت غضبي، فإن المبالغ في حكمه إذا أراد أحكامه عقد عليه سجلاً وحفظه ووجه المناسبة بين قضاء الخلق وسبق الرحمة إنهم مخلوقون للعبادة شكرًا للنعم الفائضة عليهم، ولا يقدر أحد على أداء حق الشكر، وبعضهم يقصرون فيه فسبقت رحمته في حق الشاكر بأن وفى جزاءه، وزاد عليه ما لا يدخل تحت الحصر وفي حق المقصر إذا تاب

ص: 76

متفق عليه.

2388-

(2) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله مائة رحمة،

ــ

ورجع بالمغفرة والتجاوز، ومعنى ((سبقت رحمتي)) تمثيل لكثرتها وغلبتها على الغضب بفرسي رهان تسابقتا فسبقت إحداهما على الأخرى - انتهى. وقال في اللمعات: وذلك لأن آثار رحمة الله وجوده وإنعامه عمت المخلوقات كلها وهي غير متناهية، بخلاف أثر الغضب فإنه ظاهر في بعض بني آدم بعض الوجوه كما قال تعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} (النحل: 18) وقال: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156) وأيضًا تهاون العباد وتقصيرهم في أداء شكر نعمائه تعالى أكثر من أن يعد ويحصى {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} (النحل: 61) فمن رحمته أن يبقيهم ويرزقهم وينعمهم بالظاهر ولا يؤاخذهم بهذا في الدنيا، وظهور رحمته في الآخرة قد تكفل ببيانه الحديث الآتي فإذن لا شك في أن رحمته تعالى سابقة وغالبة على غضبه - انتهى. وظاهر الحديث إن الكتابة بعد الخلق، ووقع في رواية للبخاري في باب {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21، 22) بلفظ: إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق ففيه إن الكتابة قبل الخلق، فقيل: معنى قوله قضى الخلق أي: أراد الخلق. وقيل المراد من الثاني: تعلق الخلق وهو حادث فجاز أن يكون بعده. وأما الأول فالمراد منه نفس الحكم وهو أولى فبالضرورة يكون قبله (متفق عليه) رواه البخاري في أول بدء الخلق وفي التوحيد في أربعة مواضع سبق ذكر الموضع الأول والرابع والثاني في باب قوله وكان عرشه على الماء، والثالث في باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، ورواه مسلم في التوبة، وأخرجه أحمد مرارًا منها (ج2: ص242: 258: 260) ، وأخرجه النسائي في الكبرى، والترمذي في الدعوات، وابن ماجة في باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة.

2388 -

قوله: (إن لله مائة رحمة إلخ) للحديث طرق وألفاظ، واللفظ المذكور ها هنا لمسلم رواه في التوبة من طريق عطاء عن أبي هريرة، وله أيضًا من رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة: خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه، وخبأ عنده مائة إلا واحدة، وللبخاري في الأدب، وكذا لمسلم في التوبة من رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده. تسعة وتسعين جزأ، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وللبخاري في الرقاق من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمه. ولمسلم من حديث سليمان أن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماوات والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فيها تعطف الوالدة على ولدها والوحش

ص: 77

أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف

ــ

والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة. قال القرطبي: يجوز أن يكون معنى خلق اخترع أوجد، ويجوز أن يكون بمعنى قدر، وقد ورد خلق بمعنى قدر في لغة العرب، فيكون المعنى إن الله أظهر لذلك يوم أظهر تقدير السماوات والأرض، وقوله كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، المراد بها التعظيم والتكثير. وقد ورد التعظيم بهذا اللفظ في اللغة والشرع كثيرًا، والمراد بالرحمة في قوله:((إن لله مائة رحمة)) بمقتضى الروايات المذكورة هي التي جعلها في عباده، وهي مخلوقة، وأما الرحمة التي هي صفة من صفاته فهي قائمة بذاته تعالى غير مخلوقة. وقال الطيبي: رحمه الله تعالى لا نهاية لها فلم يرد بما ذكره تحديدًا بل تصويرًا للتفاوت بين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافة المربوبين في الدنيا - انتهى. وقال في اللمعات: لعل المراد أنواعها الكلية التي تحت كل نوع منها أفراد غير متناهية، أو المراد ضرب المثل لبيان المقصود (من قلة ما عند الناس وكثرة ما عند الله) تقريبًا إلى فهم الناس أو هو من قبيل قوله:((إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة)) في أن الحصر باعتبار هذا الوصف فافهم. وقال القرطبي: مقتضى هذا الحديث إن الله علم أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة وكلها للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب: 43) فإن رحيمًا من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها. ويفهم من هذا أن الكفار لا يبقى لهم حظ من الرحمة لا من جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها، إذا كمل كل ما كان في علم الله من الرحمة للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (الأعراف: 156) الآية قال الحافظ: أما مناسبة خصوص عدد المائة فيحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة، والجنة هي محل الرحمة فكان كل رحمة بإزاء درجة، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى فمن نالته منها رحمة واحدة، كان أدنى أهل الجنة منزلة، وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة (أنزل منها) أي من جملة المائة (رحمة واحدة) وفي رواية، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة. قال القاري: الإنزال تمثيل مشير إلى أنها ليست من الأمور الطبيعية، بل هي من الأمور السماوية مقسومة بحسب قابلية المخلوقات (بين الجن) أي بعضهم مع بعض (والإنس) كذلك (والبهائم) أي مع أولادها (والهوام) بتشديد الميم جمع هامة، وهي كل ذات سم، وقد يقع على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات كذا في النهاية والله أعلم برحمتها فيما لا توالد فيها (فبها) أي بتلك الرحمة الواحدة وبسبب خلقها فيهم (يتعاطفون) أي يتمايلون فيما بينهم (وبها يتراحمون) أي بعضهم على بعض (وبها تعطف) بكسر الطاء

ص: 78

الوحش على ولدها، وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة. متفق عليه.

2389-

(3) وفي رواية لمسلم، عن سليمان نحوه، وفي آخره. قال: فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة.

2390-

(4) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد.

ــ

من ضرب أي تشفق وتحن (الوحش) بسكون المهملة (على ولدها) أي حين صغرها (وأخر الله) قال الطيبي: عطف على أنزل منها رحمة وأظهر المستكن بيانًا لشدة العناية برحمة الله الأخروية - انتهى. وفي رواية فأمسك عنده، وفي حديث سلمان وخبأ عنده (تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده) أي: المؤمنين (يوم القيامة) أي: قبل دخول الجنة وبعدها. وفيه إشارة إلى سعة فضل على عباده المؤمنين وإيماء إلى أنه أرحم الراحمين. وقال ابن أبي جمرة: في الحديث إدخال السرور على المؤمنين، لأن العادة أن النفس يكمل فرحها بما وهب لها إذا كان معلومًا مما يكون موعودًا، وفيه الحث على الإيمان واتساع الرجاء في رحمات الله تعالى المدخرة (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أحمد كما في مجمع الزوائد (ج10: ص214) ، والترمذي في الدعوات، وابن ماجة في باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة من أبواب الزهد، والحاكم (ج4: ص248) .

2389-

قوله: (وفي رواية لمسلم عن سلمان) الفارسي (نحوه) أي: بمعناه وقد ذكرنا لفظها (وفي آخره فإذا كان يوم القيامة أكملها) أي: أتم الرحمة الواحدة التي أنزلها في الدنيا (بهذه الرحمة) أي التي أخرها حتى يصير المجموع مائة رحمة فرحم بها عباده المؤمنين، وحديث سلمان أخرجه أحمد أيضًا (ج5: ص439) وفي الباب عن أبي سعيد عند ابن ماجة، وعن جندب عند أحمد والطبراني، وعن معاوية بن حيدة عن الطبراني وابن عساكر، وعن ابن عباس عند الطبراني والبزار، وعن عبادة بن الصامت عند الطبراني. من شاء الوقوف على ألفاظها رجع إلى مجمع الزوائد والكنز.

2337-

قوله: (وعنه) قال القاري: وفي نسخة وعن أبي هريرة وهو الأظهر لا يهام مرجع الضمير أن يكون إلى أقرب مذكور وهو سلمان، وأما على النسخة المشهورة التي هي الأصل فكأنه اعتمد على العنوان (لو يعلم المؤمن) قيل: الحكمة في التعبير بالمضارع دون الماضي الإشارة إلى أنه لم يقع له علم ذلك ولا يقع لأنه إذا امتنع في المستقبل كان ممتنعًا فيما مضى (ما عند الله من العقوبة) بيان لما (ما طمع) بكسر الميم من باب سمع أي ما رجا (بجنته) وللترمذي في الجنة (أحد) أي من المؤمنين فضلاً عن الكافرين، ولا بعد أن يكون أحد

ص: 79

ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد. متفق عليه.

2391-

(5) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله،

ــ

على إطلاقه من إفادة العموم إذ تصور ذلك وحده يوجب اليأس من رحمته، وفيه بيان كثرة عقوبته لئلا يغتر مؤمن بطاعته أو اعتمادًا على رحمته فيقع في الأمن ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (ما قنط) من القنوط وهو: اليأس من باب نصر وضرب وسمع (أحد) أي من الكافرين. قال الطيبي: الحديث في بيان صفتي القهر والرحمة لله تعالى، فكما أن صفات الله تعالى غير متناهية لا يبلغ كنه معرفتها أحد كذلك عقوبته ورحمته، فلو فرض أن المؤمن وقف على كنه صفته القهارية لظهر منها ما يقنط من ذلك الخواطر فلا يطمع بجنته أحد، وهذا معنى وضع أحد موضع ضمير المؤمن، ويجوز أن يراد بالمؤمن الجنس على سبيل الاستغراق فالتقدير أحد منهم. ويجوز أن يكون المعنى على وجه آخر وهو إن المؤمن قد اختص بأن يطمع في الجنة، فإذا انتفى الطمع منه فقد انتفى عن الكل، وكذلك الكافر مختص بالقنوط، فإذا انتفى القنوط عنه فقد انتفى عن الكل. وورد الحديث في بيان كثرة رحمته وعقوبته كيلا يغتر مؤمن برحمته فيأمن من عذابه ولا ييأس كافر من رحمته ويترك بابه. وحاصل الحديث إن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف بمطالعة صفات الجمال تارة وبملاحظة نعوت الجلال أخرى كذا في المرقاة. وقال في اللمعات: سياق الحديث لبيان صفتي اللطف والرحمة والغضب وعدم بلوغ أحد إلى كنههما، فلو علم المؤمنون الذين هم مظاهر رحمة الله ما عند الله من القهر ما طمع أحد منهم الجنة، وكذا في الكافرين، وهذا مقصود آخر لا ينافي سبق رحمته على غضبه بالمعنى الذي سبق - انتهى. (متفق عليه) . واللفظ لمسلم أخرجه من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه البخاري (في باب الرجاء مع الخوف من كتاب الرقاق) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كله رحمة واحدة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار قال الحافظ: وروى هذا الحديث العلاء ابن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقطعه حديثين أخرجهما مسلم من طريقه فذكر حديث الرحمة بلفظ: خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه وخبأ عنده مائة إلا واحدة. وذكر الحديث الآخر بلفظ: لو يعلم المؤمن إلخ. قلت: وهكذا وقع عند الترمذي في الدعوات.

2391-

قوله: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) بكسر الشين المعجمة وتخفيف الراء المهملة وآخره كاف أحد سيور النعل التي في وجهها. وقيل: وهو السير الذي يدخل فيه إصبع الرجل ويطلق أيضًا على

ص: 80

والنار مثل ذلك. رواه البخاري.

2392-

(6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رجل لم يعمل خيرًا قط

ــ

كل سير وقى به القدم من الأرض. قال الطيبي: ضرب العرب مثلاً بالشراك لأن سبب حصول الثواب والعقاب إنما هو بسعي العبد ويجري السعي بالأقدام، وكل من عمل خيرًا استحق الجنة بوعده، ومن عمل شرًا استحق النار بوعيده وما وعد وأوعد منجزان فكأنهما حاصلان (والنار مثل ذلك) أي: أقرب إلى أحدكم من شراك نعله. وقال القاري: إشارة إلى المذكور أي: النار مثل الجنة في كونها أقرب من شراك النعل أي: فلا يزهدن في قليل من الخير أن يأتيه فلعه يكون سببًا لرحمة الله به ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فربما يكون فيه سخط الله تعالى، ثم قيل: هذا لأن سبب دخول الجنة والنار مع الشخص وهو العمل الصالح والسيء وهو أقرب إليه من شراك نعله إذ هو مجاور له والعمل صفة قائمة به. قال ابن بطال: في الحديث إن الطاعة موصلة إلى الجنة وإن المعصية مقربة إلى النار، وإن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء، فينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأيته ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها. وقال ابن الجوزي: معنى الحديث إن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية (رواه البخاري) في الرقاق وهو من أفراده، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص387: 413: 442) .

2393-

قوله: (قال رجل) أي ممن كان قبلنا ففي حديث أبي سعيد عند البخاري: إن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً، وفي رواية له: ذكر رجلاً فيمن سلف أو فيمن كان قبلكم، وصرح في حديث حذيفة وأبي مسعود عند الطبراني إنه كان من بني إسرائيل، ولذلك أورد البخاري حديث أبي سعيد وحذيفة وأبي هريرة في ذكر بني إسرائيل. قيل اسم هذا الرجل جهينة فقد حكى الحافظ في الفتح (ج26: ص131: 132) إن أبا عوانة أخرج في صحيحه من حديث حذيفة عن أبي بكر الصديق إن الرجل المذكور في حديث الباب هو آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة. قال الحافظ (ج27: ص209) وقد وقع في غرائب مالك للدارقطني من طريق عبد الملك بن الحكم وهو واه عن مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة فيقول أهل الجنة عند جهينة الخير اليقين، وحكى السهيلي أنه جاء إن اسمه هناد (لم يعمل) صفة رجل (خيرًا قط) أي عملاً صالحًا بعد الإسلام، ووقع في رواية لمسلم لم يعمل حسنة قط. قال الباجي: ظاهر إن العمل ما تعلق بالجوارح وهو العمل، وإن جاز أن يطلق على الاعتقاد على سبيل المجاز والاتساع صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل إنه لم يعمل شيئًا من الحسنات التي تعمل بالجوارح، وليس فيه إخبار عن اعتقاد الكفر. وإنما يحمل هذا الحديث على أنه اعتقد الإيمان ولكنه لم يأت من شرائعه بشيء فلما حضره

ص: 81

لأهله. - وفي رواية - أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه: إذا مات فحرقوه، ثم أذروا

ــ

الموت خاف تفريطه فأمر أهله أن يحرقوه - انتهى. قلت: وقع في رواية أحمد (ج2: ص304) كان رجل ممن كان قبلكم لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد، وهكذا وقع استثناء التوحيد في حديث ابن مسعود أيضًا عن أحمد (ج1: ص398) ورواية الباب وإن لم يذكر فيها هذا الاستثناء صريحًا لكنها كالصريح في ذكره لإطباق الروايات على ذكر خشيته وخوفه من عذابه وغفرانه تعالى (لأهله) متعلق بقال (وفي رواية أسرف رجل على نفسه) أي بالغ في فعل المعاصي، وهذا لفظ مسلم وللبخاري كان رجل يسرف على نفسه، وفي حديث حذيفة عند البخاري إنه كان يسيء الظن بعمله. وفي حديث أبي سعيد عند الشيخين فإنه لم يبتئر عن الله خيرًا فسرها قتادة لم يدخر، ووقع في آخر حديث حذيفة عند البخاري. قال عقبة بن عمرو. أبو مسعود) وأنا سمعته (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) يقول ذلك وكان نباشًا (أي للقبور يسرق أكفان الموتى) قال الحافظ: قوله: ((وكان نباشًا هو من رواية حذيفة وأبي مسعود معا كما يدل عليه رواية ابن حبان. ووقع في رواية للطبراني بلفظ: بينهما حذيفة وأبو مسعود جالسين. فقال أحدهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن رجلاً من بني إسرائيل كان ينبش القبور)) ، فذكره (فلما حضره الموت) فيه تسمية الشيء بما قرب منه لأن الذي حضره في تلك الحالة علامات الموت لا الموت نفسه (أوصى بنيه) هذا لفظ مسلم، وللبخاري فلما حضره الموت قال لبنيه، وفي الحديث أبي سعيد عند البخاري فلما حُضر قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب قال إلخ. (إذا مات فحرقوه) بصيغة الأمر من التحريق، وهذا عند مسلم وللبخاري فأحرقوه أي من الإحراق، ومقتضى السياق أن يقول إذا مت فحرقوني لكنه على طريق الالتفات. قال الطيبي: قوله: ((إذا مات إلخ)) مقول قال: على الرواية الأولى ومعمول أوصى على الرواية الأخرى فقد تنازعا فيه في عبارة الكتاب - انتهى. قلت: قوله: وفي رواية إلى قوله: أوصي بنيه جملة معترضة وقوله: إذا مات إلخ إنما هو مقول، قال في الرواية الأولى: كما يدل عليه سياق الحديث عند البخاري في التوحيد ومسلم في التوبة. وأما سياق الرواية الثانية فعند البخاري في ذكر بني إسرائيل فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فاحرقوني إلخ. وعند مسلم فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فاحرقوني إلخ (ثم اذروا) يجوز فيه وصل الهمزة وقطعها من الثلاثي المجرد والمزيد يقال: ذرت الريح التراب وغيره تذروه ذروًا وذريًا وذرته، أطارته وسفته وأذهبته وفرقته بهبوبها. قال الحافظ: بهمز قطع وسكون المعجمة من أذرت العين دمعها وأذريت الرجل عن الفرس وبالوصل من ذروت الشيء ومنه تذروه الرياح. وفي رواية ثم اطحنوني ثم ذروني بضم المعجمة وتشديد الراء من الذر أي: فرقوني. وفي حديث حذيفة عند البخاري في

ص: 82

نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحد من العالمين،

ــ

الرقاق فذروني. قال الحافظ: بالتخفيف بمعنى الترك وبالتشديد بمعنى التفريق وهو ثلاثي مضاعف تقول ذررت الملح اذره، ومنه الذريرة نوع من الطيب. قال ابن التين: ويحتمل أن يكون بفتح أوله وكذا قرأناه ورويناه بضمها. وعلى الأول هو من التذرية وعلى الثاني من الذر (نصفه) أي نصف رماده (في البر ونصفه في البحر) وفي حديث حذيفة عند البخاري في أول ذكر بني إسرائيل إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا وأوقدوا فيه نارًا حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يومًا راحًا (أي: كثير الريح وشديدة) فاذروه في اليم الحديث. وفي حديث أبي سعيد عنده أيضًا في الرقاق فإذا مت فاحرقوني: حتى إذا صرت فحمًا فاسحقوني أو قال: فاسهكوني، ثم إذا كان ريح عاصف فاذروني فيها فأخذ مواثيقهم على ذلك. قال الباجي: وذلك على وجهين أحدهما على وجه الفرار مع اعتقاده أنه غير فائت كما يفر الرجل أمام الأسد مع اعتقاده أنه لا يفوته سبقًا ولكنه يفعل نهاية ما يمكنه فعله، والوجه الثاني أن يفعل هذا خوفًا من الباري تعالى وتذللاً ورجاء أن يكون هذا سببًا إلى رحمته ولعله كان مشروعًا في ملته - انتهى. (فو الله لئن قدر الله عليه) بتخفيف الدال وتشديدها من القدر بمعنى التضييق أو بمعنى القضاء لا من القدرة والاستطاعة (ليعذبنه) بنون التأكيد (عذابًا) أي: تعذيبًا (لا يعذبه) أي: ذلك العذاب (أحدًا من العالمين) من الموحدين وقد استشكل هذا الحديث لأن صنيع الرجل وقوله ظاهر في الشك في قدرة الله على البعث والإحياء والشك في القدر كفر، وقد قال في آخر الحديث خشيتك وغفر له والكافر لا يخشاه ولا يعفر له واختلف في تأويله. فقيل إن قدر بالتخفيف بمعنى ضيق ومنه قوله تعالى:{وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} (الطلاق: 7) بالتخفيف والتشديد وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} (الأنبياء: 87) والمعنى لئن ضيق الله عليه وناقشه في حساب وقيل: المعنى لئن قدر عليه العذاب أي قضى من قدر بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد أي لئن قدر عليه أن يعذبه ليعذبنه. ولكن هذا كالذي قبله معنى غير مناسب للسوق أصلاً مع أنه وقع في حديث معاوية بن حميدة عند أحمد (ج4: ص447)(ج5: ص3، 4) ثم اذروني في الريح لعلي أضل الله عز وجل. أي: أغيب عنه وأفوته. يقال: ضل الشيء إذا فات وذهب وهو كقوله تعالى: {لَّا يَضِلُّ رَبِّي} وهذا يدل على أن قوله: لئن قدر الله عليه على ظاهره وإنه أراد التمنع بالتحريق من قدرة الله ومع ذلك أخبر الصادق بغفرانه فلا بد من وجه يمكن القول بإيمانه. فقيل: مقصود الرجل بهذه الوصية إن فرقوا أجزائي في البر والبحر بحيث لا يكون هناك سبيل إلى جمعها فيحتمل أنه رأى أنه جمعه حينئذٍ يكون مستحيلاً والقدرة لا تتعلق بالمستحيل فلذلك قال: فلئن قدر

ص: 83

فلما مات فعلوا

ــ

الله عليه فلا يلزم أنه نفى القدرة أو شك فيها، فصار بذلك كافرًا فكيف يغفر له وذلك أنه ما نفى القدرة على ممكن. وإنما فرض غير المستحيل مستحيلاً فيما لم يثبت عنده أنه ممكن من الدين بالضرورة والكفر هو الأول لا الثاني. وقيل: إن الرجل ظن أنه إذا فعل هذا الصنيع ترك فلم ينشر ولم يعذب. وأما تلفظه بقوله: لئن قدر الله وبقوله فلعلي أضل الله فلأنه كان جاهلاً بذلك. وقد اختلف في مثله هل يكفر أم لا بخلاف الجاحد للصفة. قال الخطابي: أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله. وقيل: كان هذا الرجل موحدًا مثبتًا للصانع، وكان في زمن الفترة حين ينفع مجرد التوحيد ولم تبلغه شرائط الإيمان ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) وقيل: إنما وصى بذلك تحقيرًا لنفسه وعقوبة لها بعصيانها وإسرافها رجاء أن يرحمه الله فيغفر له وهذا يؤيد أن قوله: لئن قدر بمعنى ضيق ، وقيل: لقى من هول المطلع ما أدهشه وسلب عقله فلم يتمكن من تمهيد القول وتخميره فبادر بسقط من القول، وأخرج كلامه مخرجًا لم يعتقد حقيقته. قال التوربشتي: وهذا أسلم الوجوه. وقال الطيبي: وهو كلام صدر عن غلبة حيرة ودهشة من غير تدبر في كلامه كالغافل والناسي فلا يؤاخذ فيما قال. قال القاري: هذا هو الظاهر من الحديث كما سيأتي حيث قال تعالى: لم فعلت قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم. وقيل: ذلك لا يؤاخذ عليه وقال السندي: يحتمل أن شدة الخوف طيرت عقله فما التفت إلى ما يقول وما يفعل وأنه هل ينفعه أم لا، كما هو المشاهد في الواقع في مهلكة فإنه قد يتمسك بأدنى شيء لاحتمال أنه لعله ينفعه إذ هو فيما قال: وفعل في حكم المجنون - انتهى. وجعل الحافظ هذا القول أظهر الأقوال حيث قال، وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول ولم يقله قاصدًا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه، قال: وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر - انتهى. وقال ابن أبي جمرة: كان الرجل مؤمنًا لأنه قد أيقن بالحساب، وإن السيئات يعاقب عليها، وأما ما أوصى به فلعله كان جائزًا في شرعهم لتصحيح التوبة، فقد ثبت في شرع بني إسرائيل قتلهم أنفسهم. وقيل: ظن هذا الرجل أن الله تعالى إن وجده على حاله وهيئه يعذبه شديدًا وإذا وجده محترقًا مطحونًا مفرقًا فلعله يرحمه ويشفق عليه، لتحمله تلك المشاق والشدائد كما هو دأب الموالي الكرماء، فإنهم إذا وجد أحدهم عبده المسيء في مرض أو شدة رحمه وعطف عليه ورضي عنه، وإن كان قبل ذلك ساخطًا عليه وغضبان والله أعلم (فلما مات) أي: الرجل الموصي (فعلوا)

ص: 84

ما أمرهم، فأمر الله البحر، فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب! وأنت أعلم، فغفر له.

ــ

أي: أهله أو بنوه (ما أمرهم) به من التحريق وغيره وقوله: فلما مات إلخ لمسلم فقط (فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه) أي: من أجزاء الرجل، وفي رواية أخرى للبخاري فأمر الله تعالى الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم، وفي حديث أبي سعيد عنده أيضًا فقال الله كن فإذا رجل قائم. قال الحافظ: وفي حديث سلمان الفارسي عند أبي عوانة في صحيحه فقال الله له: كن فكان كأسرع من طرفة العين، وهذا جميعه كما قال ابن عقيل: أخبار عما سيقع له يوم القيامة، وليس كما قال بعضهم أنه خاطب روحه فإن ذلك لا يناسب قوله: فجمعه الله، لأن التحريق والتفريق إنما وقع على الجسد وهو الذي يجمع ويعاد عند البعث. (ثم قال) الله عز وجل (له) أي: للرجل (لم فعلت هذا) أي: ما ذكر من الوصية، وفي رواية ما حملك على ما صنعت (قال: من خشيتك يا رب) وفي حديث حذيفة عند البخاري ما حملني إلا مخافتك (وأنت أعلم) أي: إنما فعلته من خشيتك. قال ابن عبد البر: وذلك دليل على إيمانه، إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن بل لعالم. قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (فاطر: 28) ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به. وقد روى الحديث بلفظ: قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد، وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه والأصول تعضدها {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: 48) قلت: الخشية من لوازم الإيمان ولما كان فعله هذا من أجل خشية الله تعالى وخوفه فلا بد من القول بإيمانه، وعلى هذا فالحديث ظاهر بل هو كالصريح في استثناء التوحيد كما تقدم فلا إشكال فيه. (فغفر له) وفي حديث أبي سعيد عند البخاري في الرقاق فما تلافاه إن رحمه أي تداركه ((وما)) موصولة أي: الذي تلافاه هو الرحمة، أو نافية وصيغة الاستثناء محذوفة، وفي ذكر بني إسرائيل بلفظ: فتلقاه رحمة. قال الحافظ: قالت المعتزلة: غفر له لأنه تاب عند موته وندم على فعله. وقالت المرجئة: غفر له بأصل توحيده الذي لا تضر معه معصية، وتعقب الأول بأنه لم يرد أنه رد المظلمة فالمغفرة حينئذ بفضل الله لا بالتوبة، لأنها لا تتم إلا بأخذ المظلوم حقه من الظلم، وقد ثبت أنه كان نباشًا. وتعقب الثاني بأنه وقع في حديث أبي بكر الصديق المشار إليه أولاً أنه عذب فعلى هذا فتحمل الرحمة والمغفرة على إرادة ترك الخلود في النار، وبهذا يرد على الطائفتين معًا على: المرجئة في أصل دخول النار، وعلى المعتزلة في دعوى الخلود فيها، وفيه أيضًا رد على من زعم من المعتزلة إنه بذلك الكلام تاب فوجب على الله قبول توبته - انتهى. وقيل: إن مغفرته إنما هي لكمال خوفه وخشيته من الله عز وجل، لأن الخشية من المقامات السنية ولما كانت على أقصى مراتبها وإن حصلت عند حضور علامات الموت صارت سببًا لمحو جميع سيئاته ووسيلة إلى مغفرة جميع ذنوبه {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ

ص: 85

متفق عليه.

2393-

(7) وعن عمر بن الخطاب، قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسعى، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم

ــ

ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} وقد تقدم أن الخوف من الله من لوازم الإيمان. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل، وفي باب يريدون أن يبدلوا كلام الله من كتاب التوحيد، ومسلم في التوبة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص269: 304) ، ومالك، والنسائي في أو أخر الجنائز، وابن ماجة في ذكر التوبة، وفي الباب عن أبي سعيد عند أحمد، والشيخين وغيرهم، وعن حذيفة عند البخاري والنسائي وغيرهما، وعن ابن مسعود عند أحمد، وأبي يعلي، وعن معاوية ابن حيدة عند أحمد، والطبراني وعن سلمان الفارسي عند أبي عوانة، والطبراني.

2393-

قوله: (قدم) بكسر الدال (على النبي صلى الله عليه وسلم سبي) أي: أسرى من الغلمان والجواري، وسبيته سبيًا إذا حملته من بلد إلى بلد، وقوله:((قدم)) على صيغة المعلوم فعل ماض و ((سبي)) بالرفع فاعله، وفي رواية الكشميهني قدم بسبي على صيغة المجهول، وبالباء الموحدة في سبي وكان هذا من السبي هوازن (فإذا امرأة من السبي) لم يعرف الحافظ اسمها (قد تحلب) بفتح الحاء وتشديد اللام على وزن تفعل (ثديها) بالإفراد والرفع فاعله أي سأل لبن ثديها على حذف المضاف لكثرته لعدم ولدها معها. وقال الحافظ: أي تهيأ لأن يحلب (تسعى) بفتح الفوقية وسكون السين وفتح العين المهملتين من السعي وهو المشي بسرعة أي: تعدو المرأة في طلب ولدها. ووقع في بعض نسخ صحيح البخاري بقاف مكسورة من السقي بالسين المهملة والقاف. قال الحافظ: بفتح المثناة وبقاف مكسورة، وللكشميهني بسقي بموحدة مكسورة بدل الفوقية وفتح المهملة وسكون القاف وتنوين التحتية، وللباقين تسعى بفتح العين المهملة من السعي أي: تمشي بسرعة تطلب ولدها الذي فقدته، وفي رواية تبتغي من الابتغاء وهو الطلب. قال عياض: وهو وهم، والصواب ما في رواية البخاري تسعى بالسين من السعي. وتعقبه النووي بأن كلاً من الروايتين صواب لا وهم فيه فهي ساعية وطالبة مبتغية لابنها. وقال القرطبي: لإخفاء بحسن رواية تسعى ووضوحها ولكن لرواية تبتغي وجهًا وهو تطلب ولدها وحذف المفعول للعلم به فلا يغلط الراوي مع هذا التوجيه (إذا وجدت) قال الحافظ: قوله: إذا كذا أي: بالألف للجميع ولمسلم (صبيًا في السبي) أي: في جملة صبيان السبي (أخذته فالصقتة ببطنها) قال الحافظ: حذف منه شيء بينته رواية الإسماعيلي ولفظه: إذا وجدت صبيًا أخذته فأرضعته فوجدت صبيًا فأخذته فألزمته بطنها. وعرف من سياقه إنها كانت فقدت صبيها وتضررت بإجتماع اللبن

ص: 86

أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها. متفق عليه.

2394-

(8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن ينجي

ــ

في ثديها فكانت إذا وجدت صبيًا أرضعته ليخف عنها، فلما وجدت صبيها بعينه أخذته فالتزمته والصقته ببطنها من فرحها بوجدانه وغاية مجتهاله. (أترون) بضم الفوقية أي تظنون (هذه) أي: المرأة (طارحة) أي: ملقية (فقلنا) كذا في جميع النسخ، والذي في الصحيحين قلنا أي: بدون الفاء (لا) أي: لا نظن إنها طارحة. وقال القسطلاني: أي لا تطرحه. (وهي تقدر على أن لا تطرحه) أي: لا تطرحه طائعة أبدًا. وقال القاري: الواو للحال، وفائدة هذا الحال إنها إن اضطرت، يمكن طرحها والله منزه عن الاضطرار، فلا يطرح عبده في النار البتة، (لله) بفتح أوله لام تأكيد، وصرح بالقسم في رواية الإسماعيلي فقال: والله لله أرحم إلى آخره، (بعباده) أي المؤمنين أو مطلقًا (من هذه) المرأة (بولدها) هذا. قال الحافظ: كأن المراد بالعباد هنا من مات على الإسلام، ويؤيده ما أخرجه أحمد، والحاكم (والبزار ورجالهم رجال الصحيح) من حديث أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الصحابة وصبي على الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أو يوطأ فأقبلت تسعى، وتقول: ابني ابني وسعت فأخذته، فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال: ولا الله بطارح حبيبه في النار، فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر، وكذا من شاء إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي الكبائر. وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لفظ العباد عام، ومعناه خاص بالمؤمنين وهو كقوله تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (الأعراف: 156) فهي عامة من جهة الصلاحية، وخاصة بمن كتبت له. ثم ذكر ابن أبي جمرة احتمال تعميمه حتى في الحيوانات ورجحه العيني حيث قال، والظاهر إنها على العموم لمن سبق له. منها نصيب من أي العباد كان حتى الحيوانات على ما ورد في حديث أبي هريرة وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق - انتهى. قال ابن أبي جمرة: وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده وإن كل من فرض إن فيه رحمة ما يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه فليقصد العاقل لحاجته من هو أشد له رحمة. قال: وفي الحديث ضرب المثل بما يدرك بالحواس لما لا يدرك بها لتحصيل معرفة الشيء على وجهه وإن كان الذي ضرب له المثل لا يحاط بحقيقته، لأن رحمة الله لا تدرك بالعقل، ومع ذلك فضربها النبي صلى الله عليه وسلم للسامعين بحال المرأة المذكورة (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب رحمة الولد من كتاب الأدب، ومسلم في التوبة.

2394-

قوله: (لن ينجي) أي: من النار ((ولن)) لمجرد النفي. وقيل: لتوكيده، وينجي بفتح النون وكسر الجيم

ص: 87

أحدًا منكم عمله،

ــ

المشددة من التنجية، أو بسكون النون وتخفيف الجيم المكسورة من الانجاء، ومعناه لن يخلص النجاة من الشيء التخلص منه (أحدًا) بالنصب على المفعولية (منكم عمله) بالرفع على الفاعلية، وفي رواية أبي داود الطيالسي ما منكم من أحد ينجيه عمله. وفي رواية للشيخين: لن يدخل أحدًا عمله الجنة. وفي رواية لمسلم: ليس أحد منكم ينجيه عمله. وفي أخرى له: لن ينجو أحد منكم بعمله واستشكل هذا الحديث ونحوه بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزخرف: 72) وأجيب بأنه تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال. ويحمل الحديث على أصل دخول الجنة والخلود فيها فإن قلت: إن قوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل: 32) صريح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال أجيب: بأنه بلفظ مجمل بينه الحديث والتقدير ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، فليس المراد بذلك أصل الدخول، ويجوز أن يكون الحديث مفسرًا للآية والتقدير أدخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم، لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم، هذا محصل ما قاله ابن بطال في الجمع بين الآيتين وحديث الباب. وقال عياض: طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية فذكر نحوًا من كلام ابن بطال الأخير، وإن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل الله ورحمته. وقال ابن الجوزي: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة. الأول: أن التوفيق للعمل من رحمة الله ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. الثاني: إن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله. الثالث: جاء في بعض الأحاديث إن نفس دخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات بالأعمال. والرابع: إن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، والثواب لا ينفد، فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل بمقابلة الأعمال. وقال الكرماني: الباء في قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ليست للسببية بل للإلصاق أو المصاحبة أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين بن هشام في المغني فسبق إليه فقال:(ج1: ص97) ترد الباء للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض نحو اشتريته بألف وكافأت إحسانه بضعف. وقولهم هذا بذاك منه {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل: 32) وإنما لم نقدرها باء السببية كما قالت: المعتزلة (فإنهم يقولون العمل الصالح سبب موجب للجنة) وكما قال الجميع (أي: جميع أهل السنة) في لن يدخل أحدكم الجنة بعمله لأن المعطي

ص: 88

قالوا: ولا أنت يا رسول الله!

ــ

بعوض قد يعطي مجانًا بخلاف المسبب فلا يوجد بدون السبب قال: وقد تبين أنه لا تعارض بين الحديث والآية لاختلاف محملي الباءين جمعًا بين الأدلة، قلت: سبقه إلى ذلك ابن القيم، كما قال الحافظ، وقد حكى كلامه عن كتاب مفتاح دار السعادة قال الحافظ: ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث وجه آخر، وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولاً، وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله:{ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة أو للالصاق أو المقابلة ولا يلزم من ذلك أن تكون سبيية وحاصل هذا الجواب، إن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول والمثبت في الآية، دخولها بالعمل المتقبل، والقبول إنما يحصل من الله تفضلاً. وقال النووي: معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجميع بينها وبين الحديث، أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها، إنما هو برحمة الله وفضله فيصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بالأعمال أي: بسببها وهي من رحمة الله تعالى. ورد الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث. وقال التوربشتي: ليس المراد من هذا الحديث نفي العمل وتوهين أمره، بل توقف العباد، على أن العمل، إنما يتم بفضل الله وبرحمته، لئلا يتكلوا على أعمالهم اغترارًا بها، فإن الإنسان ذو السهو والنسيان عرضة للآفات ودرية للغفلات، قلما يخلص له من شائبة رياء أو شهوة خفية أو فساد نية أو قصد غير صالح، ثم إن سلم له العمل عن ذلك ولا يسلم إلا برحمة من الله فإن أرجى عمل من أعماله لا يفي بشكر أدنى نعمة من نعم ربه فأنى له أن يستظهر بعمل لم يهتد إليه أيضًا إلا برحمة من الله وفضل. وقال الطيبي: أي النجاة من العذاب والفوز بالثواب بفضل الله ورحمته والعمل غير مؤثر فيهما على سبيل الإيجاب، بل غايته أنه يعد العامل لأن يتفضل عليه ويقرب الرحمة إليه، ولذا قال فسددوا إلخ. والخطاب للصحابة والمراد معشر بني آدم. قال الماذري: مذهب أهل السنة إن إثابة الله تعالى من أطاعة بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع، وله تعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي، لأن العالم كله ملكه والدنيا والآخرة في سلطاته يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذب المطيعين وأدخلهم النار كان عدلاً منه، وإذا أكرمهم ونعمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر وخبره صدق لا خلف فيه أنه لا يفعل ذلك بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته، ويعذب الكافرين ويخلدهم في النار عدلاً منه. وهذا الحديث يقوي مقالتهم ويرد على المعتزلة حيث يثبتون الأعواض بالعقل ويوجبون ثواب الأعمال. ويوجبون الأصلح، ولهم في ذلك خبط كثير وتفضيل طويل (قالوا) وفي رواية لمسلم: فقيل: وفي أخرى له قال: رجل. قال الحافظ: لم أقف على تعيين القائل (ولا أنت يا رسول الله)

ص: 89

قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته، فسددوا، وقاربوا،

ــ

أي: لا ينجيك عملك مع عظم قدره، قال الطيبي: الظاهر ولا إياك أي: للعطف على أحدًا فعدل إلى الجملة الاسمية أي من الفعلية المقدرة مبالغة. أي: ولا أنت ممن ينجيه عمله استبعادًا عن هذه النسبة إليه. قلت: وقع في رواية لمسلم قال رجل: ولا إياك يا رسول الله. قال الكرماني: إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا أن يتغمدهم الله برحمته فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أنه إذا كان مقطوعًا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى. وقال الرافعي: لما كان أجر النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعة أعظم، وعمله في العبادة أقوم قيل: ولا أنت أي لا ينجيك عملك مع عظم قدره فقال: لا إلا برحمة الله. (قال ولا أنا) مطابق ولا أنت. أي: ولا أنا ممن ينجيه عمله. وفي رواية مسلم المشار إليها قال: ولا إياي إلا أن يتغمدني الله. أي: يسترني. وفي رواية لمسلم: إلا أن يتداركني (منه برحمة) وفي رواية لهما: بفضل ورحمته، وللمستملي بفضل رحمته بإضافة بفضل للاحقها. وفي رواية لمسلم: برحمته وفضل. وفي أخرى له: بمغفرة ورحمته. قال أبو عبيدة: المراد بالتغمد الستر وما أظنه إلا مأخوذًا من غمد السيف، لأنك إذا غمدت السيف فقد ألبسته الغمد وسترته به، كأنه جعل رحمة له غمدًا وستره بها وغشاه، قال القاري: والاستثناء منقطع، أي إلا أن يلبسني لباس رحمته فأدخل الجنة برحمته، والتغمد الستر أي يسترني برحمته ويحفظني كما يحفظ السيف بالغِمد، بكسر الغين وهو الغلاف، ويجعل رحمته محيطة بي إحاطة الغلاف للسيف. وقال الشيخ الدهلوي: معنى الاستثناء أي: لا ينجيني عملي إلا أن يرحمني الله، فحينئذ ينجيني عملي ويصير سببًا في نجاتي، وبدونه لا يصير سببًا، لأن العمل ليس علة حقيقية موجبة للنجاة. وقال الطيبي: الاستثناء منقطع. قال القسطلاني: ويحتمل أن يكون متصلاً من قبيل قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} (الدخان: 56) ولما أشعر هذا الكلام بإلغاء العمل، من حيث إيجابه النجاة، وهو لا ينافي سببيته ومدخليته، فيها باعتبار أنه يعد العامل لأن يتفضل عليه، ويقرب إلى الرحمة من جهة حكمه تعالى، بذلك ووضعه إياه، كذلك أشار إلى إثباته بقوله (فسددوا) بالسين المهملة المفتوحة وكسر الدال المهملة الأولى المشددة. أي اقصدوا السداد من الأمر وهو الصواب من قولهم سدد السهم إذا تحرى الهدف. وقيل: هو القصد من القول والعمل واختيار الصواب منهما، وهو ما بين الإفراط والتفريط، يعني قوموا العمل واطلبوا الصواب واقصدوا في العمل بلا إفراط وتفريط فلا تغلوا ولا تقصروا، وفي رواية لمسلم ولكن سددوا. قال الحافظ: ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل فكأنه قيل بل له فائدة، وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة، التي تدخل العامل الجنة، فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب، وهو اتباع السنة من الإخلاص، وغيره ليقبل عملكم، فينزل عليكم الرحمة، (وقاربوا) أي اطلبوا المقاربة وهي

ص: 90

واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا. متفق عليه.

ــ

القصد في الأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير. وقيل: المعنى إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرب منه، يعني اعملوا بالسداد، فإن عجزتم عنه فقاربوا أي اقربوا منه. وقال الحافظ: أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة، لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتركوا العمل، فتفرطوا

(واغدوا) بالغين المعجمة الساكنة والدال المهملة من الغدو، وهو السير من أول النهار، (وروحوا) بضم الراء وسكون الواو من الرواح وهو السير من أول النصف الثاني من النهار. وقال الجزري: الغدو الخروج بكرة، والرواح العود عشيًا، والمراد اعملوا أطراف النهار، وقتًا وقتًا (وشيء من الدلجة) بضم أوله وفتحه وإسكان اللام ويجوز فتحها، وبعد اللام جيم سير الليل، والمراد العمل في الليل، وقال وشيء من الدلجة لعسر سير جميع الليل، ففيه إشارة إلى تقليله وإلى الحث على الرفق في العبادة، وشيء مرفوع على الابتداء وخبره مقدر. أي اعملوا. أي فيه، أو مطلوب عملكم فيه. وقيل: التقدير ولكن شيء من الدلجة، وقيل: إنه مجرور لعطفه على مقدر، أي اعملوا بالغدو والروحة وشيء من الدلجة، أو المعنى استعينوا بشيء من الدلجة وفي بعض نسخ البخاري وشيئًا بالنصب، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول. قال الحافظ: وشيئًا منصوب بفعل محذوف، أي: افعلوا (والقصد القصد) بالنصب على الإغراء، أي الزموا الطريق الوسط المعتدل، قال الجزري: القصد العدل في الفعل والقول، والوسط بين الطرفين والتكرير للتأكيد (تبلغوا) المنزل الذي هو مقصدكم، وهو مجزوم على جواب الأمر، وقد شبه المتعبدين بالمسافرين، لأن العابد كالمسافر إلى محل إقامته وهو الجنة، وكأنه قال لا تستوعبوا الأوقات كلها بالسير بل اغتنموا أوقات نشاطكم وهو أول النهار وآخره وبعض الليل وارحموا أنفسكم فيما بينهما لئلا ينقطع بكم، قال الله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} (هود: 114) وقد تقدم بأبسط من هذا في شرح حديث أبي هريرة رقم (1256)، قال الطيبي: بين أولاً أن العمل لا ينجي إجابًا لئلا يتكلوا عليه، وحث آخرًا على العمل لئلا يفرطوا بناء على أن وجوده وعدمه سواء، بل العمل أدنى إلى النجاة، فكأنه معد وإن لم يوجب. وقال الرافعي: في الحديث إن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات، لأنه إنما عمل بتوفيق الله وإنما ترك المعصية بعصمة الله فكل ذلك بفضله ورحمته (متفق عليه) واللفظ للبخاري بل السياق المذكور بطوله من إفراده، أخرجه في الرقاق، وأخرجه مسلم في التوبة مختصرًا من طرق متعددة، وأخرجه البخاري أيضًا مختصرًا في أواخر المرضى مقرونًا بقوله:((ولا يتمنى أحدكم الموت إلخ)) . وأخرجه أيضًا أحمد مختصر (ج3: ص235: 256: 264: 362) ، وأبو داود الطيالسي، وأبو نعيم، وفي الباب عن عائشة عند الشيخين، وعن جابر عند مسلم، وعن جماعة من الصحابة غير هؤلاء كما في الكنز (ج4: ص150) .

ص: 91

2395-

(9) وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل أحدًا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا برحمة الله. رواه مسلم.

2396-

(10) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أسلم العبد فحسن إسلامه، يكفر الله عنه

ــ

2395-

قوله: (لا يدخل) بضم أوله (عمله) بالرفع فاعله (ولا يجيره) أي: لا يخلصه ولا ينجيه أجار فلانًا أغاثه وأعانه ونصره، وأجاره من العذاب أي أنقذه وأبعده (ولا أنا) أي: إياي (إلا برحمة الله) أي: إلا عملاً مقرونًا برحمته، فالاستثناء متصل فدخول الجنة بمحض الفضل ودرجاتها على حسب أعمال أصحابها بمقتضى العدل (رواه مسلم) في التوبة من طريق أبي الزبير عن جابر، وأخرجه أحمد (ج3: ص337) من طريق أبي سفيان عن جابر بلفظ: قاربوا وسددوا فإنه ليس أحدكم ينجيه عمله. قالوا: ولا إياك يا رسول الله قال: ولا إياي، إلا أن يتغمدني الله برحمته. وأخرجه أيضًا بنحوه (ج3: ص362: 394) .

2396-

قوله: (إذا أسلم العبد) هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء وذكره بلفظ المذكور تغليبًا (فحسن إسلامه) عطف على أسلم وهو بضم السين المخففة أي صار إسلامه حسنًا بمواطاة الظاهر الباطن، ويمكن تشديد السين ليوافق رواية أحسن أحدكم إسلامه أي جعله حسنًا بالمواطاة المذكورة، قال العيني: معنى حسن الإسلام الدخول فيه بالظاهر والباطن جميعًا، يقال في عرف الشرع حسن إسلام فلان إذا دخل فيه حقيقة، يعني صار إسلامه حسنًا باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن، والظاهر بأن لا يكون منافقًا، قال القاري: وليس معناه استقام على الإسلام وأدى حقه وأخلص في عمله لإيهامه إن مجرد الإسلام الصحيح لا يكفر (يكفر الله عنه) من التكفير وهو التغطية وهو في المعاصي كالإحباط في الطاعات، ويكفر بضم الراء جواب إذا، قيل: ويجوز جزمه فتكسر الراء حينئذٍ لالتقاء الساكنين، لأن الأصل في الساكن إذا حرك حرك بالكسر، ويرد بأن جزم جواب إذا، إنما يجوز في الضرورة، قال ابن هشام في مغنيه (ج1: ص85) : ولا تعمل إذا الجزم إلا في الضرورة كقوله:

استغن ما أغناك ربك بالغنى

وإذا تصبك خصاصة فتجمل

وقال الرضى: لما كان حدث ((إذا)) الواقع فيه مقطوعًا به في أصل الوضع لم يرسخ فيه معنى أن الدال على الفرض بل صار عارضًا على شرف الزوال، فلهذا لم تجزم إلا في الشعر مع إرادة معنى الشرط وكونه بمعنى متى، فقول الحافظ في الفتح: إن إذا لا تجزم أي في النثر، وذهل العيني عن كون محل جزمها، إنما هو في

ص: 92

كل سيئة كان زلفها، وكان بعد القصاص: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها.

ــ

الشعر خاصة لا في النثر، فتعقب الحافظ كعادته وإلا فذلك أمر ضروري لم يخل عنه أصغر كتاب في علم النحو. قال ابن آجروم: وإذًا في الشعر خاصة ولكن شغفه بالرد والتعقب على الحافظ أوقعه في ذلك، واستعمل الجواب مضارعًا وإن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى المستقبل. وفي رواية البزار كفر الله فواخى بينهما (كل سيئة) بنصب كل على المفعولية أي من الصغائر والكبائر (كان زلفها) جملة فعلية في محل الجر، لأنها صفة سيئة ((وزلفها)) بتخفيف اللام المفتوحة وتشديدها، ولأبي ذر أزلفها بزيادة همزة مفتوحة وهما بمعنى واحد كما قاله الخطابي وغيره أي أسلفها وقدمها على الإسلام، وفي المحكم أزلف الشيء قربه وزلفه مخففًا ومثقلاً قدمه، وفي الجامع الزلفة تكون في الخير والشر، وقال في المشارق: زلف بالتخفيف أي: جمع وكسب وهذا يشمل الأمرين. وأما القربة فلا تكون إلا في الخير فعلى هذا تترجح رواية غير أبي ذر أي: بدون الهمزة لكن الذي قاله الخطابي يساعد رواية أبي ذر أي بزيادة الهمزة المفتوحة فافهم (وكان بعد) بضم الدال بعد حسن الإسلام أو بعد تكفير السيئات به، وقوله: بعد كذا في جميع النسخ من المشكاة والمصابيح، والذي في الصحيح وكان بعد ذلك، وهكذا في الجامع الصغير، وكذا وقع عند النسائي (القصاص) بالرفع اسم كان على أنها ناقصة أو فاعل على أنها تامة، وعبر بالماضي، وإن كان السياق يقتضي المضارع لتحقق الوقوع فكأنه واقع وذلك كما في قوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (الأعراف: 44) أي: وكان بعد ذلك المجازاة في الدنيا أو في الآخرة على الأعمال التي يفعلها بعد إسلامه. قال العيني: المراد بالقصاص ها هنا مقابلة الشيء بالشيء أي: كل شيء يعمله يعطي في مقابله شيء إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا. وقال السندي: أي: المماثلة الشرعية وضعها الله تعالى فضلاً منه ولطفًا لا العقلية (الحسنة) بالرفع مبتدأ خبره (بعشر أمثالها) أي: تكتب أو تثبت بعشر أمثالها والجملة استنا فيها بيان وتفسير للقصاص، واللام في (الحسنة) للاستغراق يدل على هذا قوله: كل حسنة في حديث أبي هريرة رقم (44) المتقدم في كتاب الإيمان (إلى سبع مائة ضعف) متعلق بمقدر أي: منتهية إلى ذلك فهو حال والضعف المثل (إلى أضعاف كثيرة) أي: ممتدة إلى أمثال كثيرة فضلاً من الله ونعمة (والسيئة) مبتدأ خبره (بمثلها) أي: من غير زيادة عدلاً ورحمة كما قال: فلا يجزى إلا مثلها. والجملة معطوفة على الجملة قبلها (إلا أن يتجاوز الله عنها) أي: عن السيئة بقبول التوبة أو بالعفو وإن لم يتب، وفي فوائد سمويه إلا أن يغفر الله وهو الغفور، وفيه دليل لأهل السنة أن العبد تحت المشيئة إن شاء الله تعالى تجاوز عنه وإن شاء

ص: 93

رواه البخاري.

ــ

أخذه ورد على القاطع لأهل الكبائر بالنار كالمعتزلة، ثم قوله: إلى أضعاف كثيرة، هكذا وقع في جميع النسخ من المشكاة، وهو من زيادة المصنف أو الناسخ وهي خطأ وغلط بلا شك، لأنها ليست في صحيح البخاري ولم تقع أيضًا في سنن النسائي وليست أيضًا في الجامع الصغير والمصابيح والكنز (ج1: ص60) ويدل أيضًا على كونها غلطًا أنه استدل بعضهم بهذا الحديث كما ذكر شراح البخاري نقلاً عن الماوردي على أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة بل ينتهي إلى سبعمائة ثم رد كلهم على هذا البعض بحديث ابن عباس الآتي المصرح بالتضعيف إلى أكثر من سبعمائة ولو كانت هذه الزيادة في حديث أبي سعيد أيضًا لم يكن للاستدلال به على هذا القول وجه ولما احتاج من رد عليه إلى الاحتجاج على خلافه بحديث ابن عباس (رواه البخاري) هذا الحديث لم يسنده البخاري في موضع من صحيحه بل ذكره معلقًا في باب حسن إسلام المرء من كتاب الإيمان، فقال قال مالك: أخبرني زيد بن أسلم إن عطاء بن يسار أخبره أن أبا سعيد الخدري أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أسلم العبد إلخ. والبخاري لم يدرك زمن مالك فيكون تعليقًا ولكنه بلفظ جازم فهو صحيح ولا قدح فيه لأنه موصول من جهات أخر صحيحة، ولم يذكره لشهوته وكيف وقد عرف من شرطه وعادته أنه لا يجزم إلا بتثبت وثبوت، وليس كل معلق يقدح فيه، فهذا وإن كان معلقًا لكنه في حكم المتصل الموصول في كونه صحيحًا وقد وصله أبو ذر الهروي في روايته، فقال أخبرنا النضروي وهو العباس بن الفضل حدثنا الحسين بن إدريس حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم عن مالك عن زيد بن أسلم. وكذا وصله النسائي في (كتاب الإيمان) ، والحسن بن سفيان في مسنده، والبزار والبيهقي في الشعب والإسماعيلي، ولفظه من طريق عبد الله بن نافع عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أسلم العبد كتب الله له كل حسنة قدمها ومحى عنه كل سيئة زلفها، ثم قيل له: ائتنف العمل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة، والسيئة بمثلها، إلا أن يغفر الله. وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك من تسع طرق ولفظه من طريق طلحة بن يحيى عن مالك ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلفها ومحى عنه كل خطيئة زلفها بالتخفيف فيهما، وللنسائي نحوه لكن قال أزلفها فقد ثبت في جميع الروايات ما سقط من رواية البخاري، وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام وقوله:((كتب الله)) أي: أمر أن يكتب. وللدارقطني من طريق ابن شعيب عن مالك يقول الله لملائكته اكتبوا. قيل: وإنما اختصره البخاري وأسقط ما رواه غيره عمدًا لأنه مشكل على القواعد والأصول. فقال المازري ثم القاضي عياض وغيرهما: الكافر لا يصح منه التقرب فلا يثاب على العمل الصالح الصادر في شركه، لأن من شرط المتقرب كونه عارفًا بمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك ورده النووي فقال الصواب الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم فيه الإجماع أن الكافر إذا فعل

ص: 94

..............................................................................................

ــ

أفعالاً جميلة على جهة التقرب إلى الله تعالى كصدقة وصلة رحم وإعتاق ونحوها ثم أسلم ومات على الإسلام إن ثواب ذلك يكتب له. ودليله حديث أبي سعيد الخدري عند النسائي والدارقطني وغيرهما، وحديث حكيم بن حزام في الصحيحين أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير. قال الحافظ: وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي وابن بطال وغيرهما من القدماء والقرطبي وابن المنير من المتأخرين. وأما دعوى أنه مخالف للقواعد فغير مسلمة لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار، فإنه لا يلزم إعادتها إذا أسلم وتجزئه. قال ابن المنير: المخالف للقواعد دعوى أنه يكتب له ذلك في حال كفره، وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرًا، فلا مانع منه، كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل، وكما يتفضل العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة، جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفي الشروط. وقال بن بطال بعد ذكره: حديث أبي سعيد ولله أن يتفضل على عباده بما شاء، ولا اعتراض لأحد عليه، واستدل غيره بقوله صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة عن ابن جدعان وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه؟ فقال: إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر. قلت: وأول من لم يقل بهذا حديث حكيم بن حزام من وجوه. منها إن معنى قوله: أسلمت على ما أسلفت من خير إنك بفعلك ذلك اكتسبت طباعًا جميلة تنتفع بتلك الطباع في الإسلام بأن تكون تلك العادة معونة لك على فعل الطاعات، لما حصل لك من التدرب على فعلها، فلا تحتاج إلى مجاهدة جديدة، فتثاب بفضل الله عما تقدم بواسطة انتفاعك بذلك بعد إسلامك. ومنها إنك اكتسبت بذلك ثناء جميلاً فهو باق عليك في الإسلام ومنها أنه لا يبعد أن يزاد في حسناته التي يفعلها في الإسلام، ويكثر أجره لما تقدم له من الأفعال الحميدة. وقد جاء أن الكافر إذا كان يفعل خيرًا فإنه يخفف عنه به فلا يبعد أن يزاد به في أجوره. ومنها إنه ببركة ما سبق لك من فعل الخير هديت للإسلام لأن المبادي عنوان الغايات. ومنها إنك بتلك الأفعال رزقت الرزق الواسع. قال بن الجوزي: قيل إن النبي عر ورى عن جوابه فإنه سأل هل لي فيها من أجر فقال أسلمت على ما سلف من خير والعتق فعل الخير وكأنه أراد أنك فعلت الخير والخير يمدح فاعله ويجازي عليه في الدنيا، فقد روى مسلم من حديث أنس مرفوعًا إن الكافر يثاب في الدنيا بالرزق على ما يفعله من حسنة، ولا يخفى عليك إن كل ما تأولوا به حديث حكيم بن حزام تكلف مخالف لظاهره فالقول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه النووي ومن وافقه والله أعلم.

ص: 95

2397-

(11) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الحسنات والسيئات

ــ

2397-

قوله (وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا عند أحمد (ج 1: ص361) وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولأحمد (ج1: ص310) عن ابن عباس يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: لم أر في شيء من الطرق التصريح بسماع ابن عباس له من النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. ووقع في الصحيحين والمسند بعد هذا ((فيما يروي عن ربه عز وجل) أي الحديث من الأحاديث الإلهية، ثم هو محتمل أن يكون مما تلقاه صلى الله عليه وسلم عن ربه بلا واسطة، ويحتمل أن يكون مما تلقاه بواسطة الملك. قال الحافظ: وهو الراجح وقال الكرماني: هذا لبيان أنه من الأحاديث القدسية أو لبيان ما فيه من الإسناد الصريح إلى الله تعالى، حيث قال إن الله كتب. ويحتمل أن يكون لبيان الواقع، وليس فيه إن غيره ليس كذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي بل فيه إن غيره كذلك، إذ قال فيما يرويه أي في جملة ما يرويه أنه عز وجل إلخ (إن الله كتب الحسنات والسيئات) في البخاري فيما يروي عن ربه عز وجل قال: قال إن الله كتب إلخ قال الحافط: قوله ((إن الله كتب إلخ)) يحتمل أن يكون هذا من قول الله تعالى فيكون التقدير (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الله: إن الله كتب، ويحتمل أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يحكيه عن فعل الله تعالى أي والتقدير. قال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب، ووقع عند أحمد (ج1: ص279) بلفظ عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ربكم تبارك وتعالى رحيم من هم بحسنة. وللبخاري في التوحيد عن أبي هريرة بلفظ: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل إذا أراد عبدي أن يعمل. وأخرجه مسلم بنجوه. وفي رواية له عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال: الله عز وجل إذا هم عبدي. وقوله ((كتب إلخ)) أي أثبتهما في الأزل في علمه على وفق الواقع أو كتب بمعنى أمر الملائكة بكتبهما في اللوح المحفوظ أو كتب الحسنات أي قضاها وقدرها وجعلها حسنة وكذلك السيئة قدرها وجعلها سيئة أو أمر الحفظ بكتابتهما ليوازنهما أو صحفهما يوم القيامة. وفي الصحيحين والمسند (ج1: ص361) بعد هذا ((ثم بين ذلك)) أي ثم فصل الله ذلك الذي أجمله في قوله كتب الحسنات والسيئات بقوله ((فمن هم)) ففاعل بين هو الله تعالى والمجمل قوله كتب الحسنات والسيئات وقوله فمن هم بيان ذلك وشرحه بفاء الفصيحة، أو المعنى ثم بين الله للكتبة من الملائكة ذلك التقدير حتى عرفوه واستغنوا به عن استفسار في كل وقت كيف يكتبونه لكونه أمرًا مفروغًا عنه، أو المراد بين ذلك وفصله في التنزيل، ويؤيد هذا أنه وقع في الترغيب (ج1: ص25) للمنذري بلفظ ((ثم بين ذلك في الكتاب)) وقيل: فاعل بين هو النبي صلى الله عليه وسلم أي ثم فصل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الإجمال بما

ص: 96

فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة

ــ

بعده، فيكون من كلام الراوي، وإليه يشير صنيع البغوي والمصنف حيث تركه البغوي في المصابيح وتبعه المصنف في المشكاة، قيل وذكر اسم الإشارة باعتبار المذكور (فمن هم) قال الطيبي: الفاء للتفصيل لأن قوله كتب الحسنات مجمل لم يعرف منه كيفية الكتابة والهم ترجيح قصد الفعل، فقول هممت بكذا أي قصدته بهمتي وهو فوق مجرد خطور الشيء بالقلب، وقوله:((من هم)) كذا وقع في رواية من حديث أبي هريرة عند مسلم، وللبخاري في التوحيد إذا أراد. وأخرجها مسلم بلفظ إذا هم. فهما بمعنى واحد (بحسنة) أي من قصد بها وصمم على فعلها يعني عقد عزمه عليها فقد ورد ما يدل على أن مطلق الهم والإرادة لا يكفي، فعند أحمد (ج4: ص345) وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث خريم بن فاتك رفعه من هم بحسنة، فعلم الله إنه قد أشعر بها قلبه وحرص عليها، وقد تمسك به ابن حبان فقال بعد إيراد حديث الباب في صحيحه: المراد بالهم هنا العزم، ثم قال ويحتمل أن الله يكتب الحسنة بمجرد الهم بها وإن لم يعزم عليها زيادة في الفضل (فلم يعملها) بفتح الميم أي فلم يعمل الحسنة التي هم بها والمراد نفي عمل الجوارح (كتبها الله) أي قدرها وقضاها أو أمر الملائكة الحفظة بكتابتها بدليل حديث أبي هريرة عند البخاري في التوحيد بلفظ: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها. وأخرجه مسلم بنحوه. وفيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما بإطلاع الله إياه أو بأن يخلق له علمًا يدرك به ذلك، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجوني، قال ينادى الملك: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول يا رب إنه لم يعمله. فيقول: إنه نواه. وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة، وبالحسنة رائحة طيبة. وأخرج ذلك الطبري عن أبي معشر المدني وجاء مثله عن سفيان بن عيينة، ورأيت في شرح مغلطائي أنه ورد مرفوعًا قاله الحافظ (له) أي للذي هم بها (عنده) أي عند الله، وفيه إشارة إلى الشرف (حسنة) مفعول ثان باعتبار تضمين معنى التصيير أو حال موطئة، وذلك لأن العمل بالنية، ونية المؤمن خير من عمله فإنه يثاب على النية بدون العمل ولا يثاب على العمل بدون النية، لكن لا يضاعف ثواب الحسنة بالنية المجردة كذا في المرقاة. وقال الطوفي: إنما كتبت الحسنة بمجرد الإرادة. لأن إرادة الخير سبب إلى العمل وإرادة الخير خير، لأن إرادة الخير من عمل القلب. واستشكل بأن عمل القلب إذا اعتبر في حصول الحسنة فكيف لم يعتبر في حصول السيئة؟ وأجيب بأن ترك عمل السيئة التي وقع الهم بها يكفرها لأنه قد نسخ قصده السيئة وخالف هواه (كاملة) أي لا نقص فيها وإن نشأت عن مجرد الهم. ففيه إشارة إلى رفع توهم نقصها لكونها نشأت عن الهم المجرد، وإشارة إلى دفع كونها ليست كحسنة الفعل لكن الفعل يزيد بالمضاعفة وأقلها عشر. قال النووي: أشار بقوله عنده إلى مزيد الاعتناء به وبقوله كاملة إلى تعظيم الحسنة وتأكيد أمرها، فالمراد بالكمال عظم القدر لا التضعيف إلى العشرة كما زعم بعضهم أن التعبير بكاملة يدل على أنها تضاعف إلى العشرة، لأن ذلك هو الكمال لأنه يلزم منه مساواة من نوي الخير بمن فعله

ص: 97

فإن هم بها فعملها، كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عند حسنة كاملة.

ــ

والتضعيف مختص بالعامل. قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160) والمجيء بها بالجوارح. وأما الناوي فإنما ورد أنه يكتب له حسنة، ومعناه يكتب له مثل ثواب الحسنة، والتضعيف قدر زائد على أصل الحسنة. قال الحافظ: ظاهر الحديث حصول الحسنة بمجرد الترك سواء كان ذلك لمانع أو لا، ويتجه أن يقال يتفاوت عظم الحسنة بحسب المانع، فإن كان خارجيًا مع بقاء قصد الذي هم بفعل الحسنة فهي عظيمة القدر، ولاسيما إن قارنها ندم على تفويتها واستمرت النية على فيها عند القدرة، وإن كان الترك من الذي هم من قبل نفسه فهي دون ذلك إلا أن قارنها قصد الإعراض عنها جملة. والرغبة عن فعلها، ولاسيما إن وقع العمل في عكسها كأن يريد أن يتصدق بدرهم مثلاً فصرفه بعينه في معصية، فالذي يظهر في الأخير أن لا يكتب له حسنة أصلاً وأما ما قبله فعلى الاحتمال - انتهى. (فان هم بها) أي بالحسنة (فعملها) بكسر الميم يعنى جمع بين النية والعمل (كتبها الله له عنده) اعتناء به وتشريفًا له (عشر حسنات) قال تعالى:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160) وهذا أقل ما وعد به من الأضعاف وقوله فإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات يؤخذ منه رفع توهم إن حسنة الإرادة تضاف إلى عشرة التضعيف، فتكون الجملة إحدى عشرة، فإن هذا خلاف ظاهر هذا الحديث. (إلى سبع مائة ضعف) بكسر الضاد أي مثل (إلى أضعاف كثيرة) بحسب الزيادة في الإخلاص وصدق العزم وحضور القلب وتعدي النفع كالصدقة الجارية والعلم النافع والسنة الحسنة وشرف العمل ونحو ذلك (ومن هم بسيئة فلم يعملها) أي مراقبة لله وخوفًا منه مع القدرة عليها لما في حديث أبي هريرة عند البخاري في التوحيد، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة. ولمسلم وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرأي. بفتح الجيم وتشديد الراء وبعد الألف ياء المتكلم، وهي بمعنى من أجلي (كتبها الله له عنده حسنة كاملة) قد تقدم أن المراد بالكمال عظم القدر لا التضعيف إلى العشرة، وظاهر إطلاق هذا الحديث كتابة الحسنة بمجرد الترك، لكنه محمول على ما قيد به في حديث أبي هريرة فهو مخصوص لمن هم بسيئة فتركها لوجه الله تعالى. قال الحافظ: ويحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر، لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر والكف عن الشر خير، ويحتمل أيضًا أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة، فإن تركها من مخافة ربه سبحانه كتبت حسنة مضاعفة. وقال الخطابي: محل كتابة الحسنة على الترك، أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يسمى تاركًا إلا مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كان يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلاً، فيجد الباب

ص: 98

..............................................................................................

ــ

مغلقًا ويتعسر فتحه ومثله من تمكن من الزنا مثلاً فلم ينتشر أو طرقه ما يخاف من أذاه عاجلاً - انتهى. اعلم أنهم اختلفوا فيمن هم بمعصية أو عزم عليها بقلبه وصمم على فعلها هل يأثم في عزمه وتصميمه أم لا؟ قال المازري: ذهب ابن الباقلاني يعني ومن تبعه إلى أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه أنه يأثم، وحمل الأحاديث الواردة في العفو عمن هم بسيئة ولم يعملها على الخاطر الذي يمر بالقلب ولا يستقر. قال المارزي: وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ونقل ذلك عن الشافعي، ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة في ما أخرجه مسلم من طريق همام عنه بلفظ: فأنا أغفر له ما لم يعملها، فإن الظاهر إن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم به وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء المحدثين على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة كمن يأمر بتحصيل معصية، ثم لا يفعلها بعد حصولها فإنه يأثم بالأمر المذكور لا بالمعصية. قال الحافظ: ومما يدل على ذلك حديث: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصًا على قتل صاحبه. والذي يظهر أنه من هذا الجنس وهو أنه يعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقه ولا يعاقب عقاب من باشر القتل حشاء وهنا قسم آخر وهو من فعل المعصية ولم يتب منها، ثم هم أن يعود إليها فإنه يعاقب على الإصرار كما جزم به بن المبارك وغيره في تفسير قوله تعالى:{وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ} . ويؤيده أن الإصرار معصية اتفاقًا فمن عزم على المعصية وصمم عليها كتبت عليه سيئة فإذا عملها كتبت عليه معصية ثانية. قال عياض: فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة كما في الحديث، إنما تركها من جرأي فصار تركه لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة. فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية ولا عزم. قال النووي: وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} (النور: 19) الآية وقوله: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) وغير ذلك قال الحافظ: وأجيب عن القول الأول بأن المؤاخذة على أعمال القلوب المستقلة بالمعصية، لا تستلزم المؤاخذة على عمل القلب بقصد معصية الجارحة إذا لم يعمل المقصود للفرق بين ما هو بالقصد وما هو بالوسيلة. وقسم بعضهم ما يقع في النفس أقسامًا يظهر منه. الجواب عن الثاني أضعفها أن يخطر له ثم يذهب في الحال وهذا من الوسوسة وهو معفو عنها وهو دون التردد، وفوقه أن يتردد فيه فيهم به ثم ينفر عنه فيتركه ثم يهم به ثم يترك كذلك ولا يستمر

ص: 99

..............................................................................................

ــ

على قصده، وهذا هو التردد فيعفى عنه أيضًا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر عنه لكن لا يصمم على فعله وهذا هو الهم فيعفى عنه أيضًا، وفوقه أن يميل إليه ولا ينفر منه بل يصمم على فعله فهذا هو العزم، وهو منتهى الهم (وخمس بعضهم القسمة كما سبق في شرح حديث رقم 63) ثم العزم على القسمين. القسم الأول: أن يكون من أعمال القلوب صرفًا كالشك في الواحدانية أو النبوة أو البعث فهذا كفر ويعاقب عليه جزمًا ودونه المعصية التي لا تصل إلى الكفر كمن يحب ما يبغض الله ويبغض ما يحبه الله ويحب للمسلم الأذى بغير موجب لذلك، فهذا يأثم ويلتحق به الكبر والعجب والبغي والمكر والحسد، وفي بعض هذا خلاف فعن الحسن البصري إن سوء الظن بالمسلم حسده معفو عنه، وحملوه على ما يقع في النفس مما لا يقدر على دفعه لكن من يقع له ذلك مأمور بمجاهدته النفس على تركه. والقسم الثاني: أن يكون من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة فهو الذي وقع فيه النزاع. فذهبت طائفة إلى عدم المؤاخذة بذلك أصلاً، ونقل عن نص الشافعي، ويؤيده ما وقع في حديث خريم بن فاتك المنبه عليه قبل فإنه حيث ذكر الهم بالحسنة. قال: علم الله أنه أشعرها قلبه وحرص عليها وحيث ذكر الهم بالسيئة لم يقيد بشيء بل قال: فيه ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، والمقام مقام الفضل فلا يليق التحجير فيه. وذهب كثير من العلماء إلى المؤاخذة بالعزم المصمم، وسأل ابن المبارك سفيان الثوري أيؤاخذ العبد بما يهم به قال: إذا جزم بذلك. واستدل كثير منهم بقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (البقرة: 225) وحملوا حديث أبي هريرة الصحيح المرفوع إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم على الخطرات كما تقدم. ثم افترق هؤلاء فقالت طائفة يعاقب عليه صاحبه في الدنيا خاصة بنحو الهم والغم، وقالت طائفة بل يعاقب عليه يوم القيامة لكن بالعتاب لا بالعذاب، وهذا قول ابن جريج والربيع بن أنس وطائفة ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضًا، واستدلوا بحديث النجوى المروي في باب ستر المؤمن على نفسه من كتاب الأدب واستثنى جماعة ممن ذهب إلى عدم مؤاخذة من وقع منه الهم بالمعصية، ما يقع في الحرام المكي ولو لم يصمم لقوله تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) لأن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه فمن هم بالمعصية فيه خالف الواجب بانتهاك حرمته وانتهاك حرمة الحرم بالمعصية يستلزم انتهاك حرمة الله لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله فصارت المعصية في الحرم أشد من المعصية في غيره وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى، نعم من هم بالمعصية قاصدًا الاستخفاف بالحرم عصى، ومن هم بمعصية الله قاصدًا الاستخفاف بالله كفر، وإنما المعفو عنه الهم بالمعصية مع الذهول عن قصد الاستخفاف. وأجاب من لم يقل بالمؤاخذة بالعزم عن

ص: 100

فإن هو همَّ بها فعملها، كتبها الله له سيئةً واحدةً. متفق عليه.

ــ

حديث الملتقيين بسيفيهما بأنه يتعلق بفعل خارجي أي يتعلق بالملتقيين عزم كل منهما على قتل صاحبه واقترن بعزمه فعل بعض ما عزم عليه وهو شهر السلاح وإشارته به إلى الآخرة، فهذا الفعل يؤاخذ به سواء حصل القتل أم لا، ولا يلزم من قوله فالقاتل والمقتول في النار أن يكونا في درجة واحدة من العذاب بالاتفاق - انتهى كلام الحافظ. باختصار يسير (فإن هو) أي الشأن أو مريد العمل (هم بها) أي بالسيئة (فعملها) أي جمع بين القصد والعمل (كتبها الله له سيئة واحدة) في حديث أبي هريرة عند الشيخين فاكتبوها له بمثلها. ولمسلم من حديث أبي ذر: فجزاءه بمثلها أو اغفر له. وله في آخر حديث ابن عباس: أو محاها بالفضل أو بالتوبة أو بالاستغفار أو بعمل الحسنة التي تكفر السيئة. والأول أشبه بظاهر حديث أبي ذر ويستفاد من التأكيد بقوله واحدة إن السيئة لا تضاعف كما تضاعف الحسنة، وهو على وفق قوله تعالى:{فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} (غافر: 40) قال ابن عبد السلام في أماليه: فائدة التأكيد دفع توهم من يظن أنه إذا عمل السيئة كتبت عليه سيئة العمل، وأضيفت إليها سيئة الهم وليس كذلك، إنما يكتب عليه سيئة واحدة. وقد استثنى بعضهم وقوع المعصية في الحرم المكي والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة، ولكن قد تتفاوت بالعظم ولا يرد على ذلك قوله تعالى:{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (الأحزاب: 30) لأن ذلك ورد تعظيمًا لحق النبي صلى الله عليه وسلم، لأن وقوع ذلك من نساءه يقتضي أمرًا زائدًا على الفاحشة وهو أذى النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد مسلم بعد قوله أو محاها الله ((ولا يهلك على الله إلا هالك)) أي لا يهلك مع سعة هذه الرحمة إلا من حقت عليه الكلمة، أي من أصر على التجرؤ على السيئة عزمًا وقولاً وفعلاً، وأعرض عن الحسنات همًا وقولاً وفعلاً. قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل الله العظيم على هذه الأمة، لأنه لولا ذلك كاد لا يدخل أحد الجنة لأن عمل العباد للسيئات أكثر من عملهم الحسنات. ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من الإثابة على الهم بالحسنة وعدم المؤاخذة على الهم بالسيئة قوله تعالى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) إذ ذكر في السوء الافتعال الذي يدل على المعالجة والتكلف فيه بخلاف الحسنة وفيه: أن الله تعالى بفضله وكرمه جعل العدل في السيئة، والفضل في الحسنة فضاعف الحسنة ولم يضاعف السيئة، بل أضاف فيها إلى العدل الفصل، فأدارها بين العقوبة والعفو بقوله كتبت له واحدة أو يمحوها وبقوله فجزاءه بمثلها أو أغفر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب من هم بحسنة أو سيئة من كتاب الرقاق، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص227 - 279 - 310 - 361) والنسائي في الكبرى، وفي الباب عن أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما، وعن أبي ذر عند مسلم وعن أنس عند أبي يعلى.

ص: 101