الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الفصل الأول)
2346-
(1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عله وسلم: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ
ــ
أنه حصل له شرود وإباق عن سيده، فرأى في بعض السكك بابًا قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكى وأمه خلفه تطرده، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكرًا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولا من يؤويه غير والدته فرجع مكسور القلب حزينًا فوجد الباب مُرتجًا فتوسده، ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحالة لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدى أين تذهب عني ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة لك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت فتأمل قول الأم: (لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة) وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟ فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به، فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها، ووراء هذا ما تجفوا عنه العبارة وتدق عن إدراكه الأذهان وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل، فإن كلاً منهما منزل ذميم ومرتع على علاته وخيم، ولا يحل لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم كما هو مفسد لحاسة الذوق، فلا يذوق طعم الإيمان ولا يجد ريحه. والمحروم كل المحروم من عرض عليه الغنى والخير فلم يقبله، فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العليم) ثم بسط ابن القيم الكلام في شرح قول صاحب المنازل:((الثاني أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه)) ثم ذكر النظر الرابع من الأنظار الخمسة التي تحصل عند صدور المعصية من العبد وهو النظر إلى محل الجناية ومصدرها أي النفس الأمارة بالسوء وشرح في ضمنه اللطيفة الثانية من لطائف أسرار التوبة ثم ذكر النظر الخامس وهو نظره إلى الآمر له بالمعصية المزين له فعلها، الحاض له عليها، وهو شيطانه الموكل به، ثم أطال الكلام في شرح اللطيفة الثالثة من أحب الوقف على ذلك رجع إلى المدارج (ج1: ص119: 126) .
2346-
قوله: (والله) فيه: القسم على الشيء تأكيدًا له وإن لم يكن عند السامع فيه شك (إني لأستغفر الله وأتوب إليه) يحتمل أن يكون المراد يقول هذا اللفظ بعينه ويؤيده ما أخرجه النسائي بسند جيد من طريق
فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً.
ــ
مجاهد عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة. ويحتمل أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة وينشئها. ويؤيده ما سيأتي في آخر الفصل الثاني من حديث ابن عمر قال: إن كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور. مائة مرة. أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة من طريق محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر (في اليوم) الواحد (أكثر من سبعين مرة) ، كذا في شعيب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، عند البخاري، وفي رواية معمر عن الزهري عن أبي سلمة عند الترمذي، وابن السني إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة، وهكذا وقع في حديث أنس عند أبي يعلي، والبزار، والطبراني، فيحتمل أن يريد به المبالغة والتكثير. والعرب تصنع السبع والسبعين والسبعمائة موضع الكثرة، ويحتمل أن يريد العدد بعينه. وقوله في رواية الكتاب أكثر مبهم، فيحتمل أن يفسر بحديث ابن عمر المذكور وأنه يبلغ المائة. وقد وقع في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند النسائي، وابن ماجة بلفظ: إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة. وفي حديث الأغر الآتي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة. قال الشوكاني بعد ذكر الروايات الثلاث: وينبغي الأخذ بالأكثر وهو رواية المائة فيقول في كل يوم أستغفر الله وأتوب إليه مائة مرة، فإن قال اللهم إني أستغفرك فاغفر لي وأتوب إليك فتب على. فقد أخذ بطرفي الطلب، والله سبحانه وتعالى {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (غافر: 3) - انتهى. وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم. والاستغفار يستدعي وقوع المعصية. وأجيب بعدة أجوبة منها: إن المراد باستغفاره صلى الله عليه وسلم استغفاره من الذي وقع في حديث الأغر الآتي وسيأتي تفسيره وتوضيحه. ومنها قول ابن الجوزي: هفوات لطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر. كذا قال وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضًا. ومنها: قول ابن بطال الأنبياء أشد الناس اجتهادًا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير - انتهى. ومحصله جوابه أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الذي يجب لله تعالى. ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة أو لمخاطبة الناس، والنظر في مصالحهم ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه، ومشاهدته ومراقبته فيرى ذلك ذنبًا بالنسبة إلى المقام العلي وهو الحضور في حظيرة القدس. ومنها إن الاستغفار تشريع
رواه البخاري.
2347-
(2) وعَنْ الأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ قال: قال رسول الله صلى الله عله وسلم: إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي
ــ
وتعليم لأمته أو من ذنوب أمته فهو كالشفاعة لهم. وقال الغزالي في الإحياء: كان صلى الله عليه وسلم دائم الترقي، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها فاستغفر من الحالة السابقة، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقًا بحسب تعدد الأحوال وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك. ومنها: إن استغفاره كان إظهارًا للعبودية وافتقارًا لكرم الربوبية. (رواه البخاري) في الدعوات وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص282)، والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (ج10: ص208) .
2347-
قوله: (وعن الأغر) بفتح الهمزة والغين المعجمة وتشديد الراء (المزني) نسبة إلى قبيلة مزينة مصغرًا. قال في التقريب: الأغر بن عبد الله المزني، ويقال: الجهني. ومنهم من فرق بينهما صحابي. قال البخاري: المزني أصح. وقال في الخلاصة: الأغر بن يسار المزني أو الجهني، والمزني أصح صحابي من المهاجرين الأولين. وقيل: اسم أبيه عبد الله. له ثلاثة أحاديث خرج له مسلم منها فرد حديث، وروى عنه ابن عمر ومعاوية بن قرة وأبو بردة. قلت: غاير بين الأغر المزني والجهني ابن منده، وكذا مال إلى التفرقة بينهما ابن الأثير، وجزم أبو نعيم وابن عبد البر بأنهما واحد، وصوبه الحافظ في الإصابة والتهذيب. (إنه ليُغان) بضم الياء وبالغين المعجمة مبنيًا للمفعول من باب ضرب من الغين وهو الغين والغطاء لغة، والمراد هنا ما يغشى القلب ويغطيه (على قلبي) نائب فاعل يغان أي يغشى أو يغطى قلبي. قال الجزري: الغين الغيم، وغينت السماء تغان إذا أطلق عليها الغيم. وقيل: الغين شجره ملتف أراد ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشر لأن قلبه أبدًا كان مشغولاً بالله تعالى، فإن عرض له وقتًا ما عارض بشري يشغله من أمور الأمة والملة ومصالحهما عد ذلك ذنبًا وتقصيرًا فيفزع إلى الاستغفار - انتهى. وقال القاري: يقال: غين عليه كذا أي غطى عليه، ((وعلى قلبي)) مرفوع على نيابة الفاعل يعني ليغشى على قلبه ما لا يخلوا البشر عنه من سهو والتفات إلى حظوظ النفس من مأكول ومنكوح ونحوهما، فإنه كحجاب وغيم يطبق على قلبه فيحول بينه وبين الملأ الأعلى حيلولة ما فيستغفر تصفية للقلب وإزاحة للغاشية، وهو إن لم يكن ذنبًا لكنه من حيث أنه بالنسبة إلى سائر أحواله نقص وهبوط إلى حضيض البشرية يشابه الذنب فيناسبه الاستغفار - انتهى. قلت: تحير العلماء في بيان معنى هذا الحديث وتأويله حتى قال السيوطي: هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه، وقد وقف الأصمعي إمام اللغة على تفسيره وقال: لو كان عن غير قلب الرسول صلى الله عليه وسلم لتكلمت عليه وفسرته، ولكن العرب تزعم أن الغين الغم الرقيق. وقال
..............................................................................................
ــ
السندي: حقيقته بالنظر إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم لا تدري وإن قدره صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم مما يخطر في كثير من الأوهام، فالتفويض في مثله أحسن نعم القدر المقصود بالإفهام مفهوم، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يحصل له حالة داعية إلى الاستغفار فيستغفر كل يوم مائه مرة فكيف غيره والله أعلم. وقال عياض: المراد بالغين الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل لأمر ما عد ذلك ذنبًا فاستغفر منه وقيل: هو شيء يعترى القلوب الصافية مم يتحدث به النفس فيهوشها. وقيل: هو السكينة التي تغشى قلبه، ويكون استغفاره إظهارًا للعبودية والافتقار وملازمة الخشوع وشكرًا لما أولاه. وقيل: هي حالة خشية وإعظام تغشى القلب ويكون استغفاره شكرها كما سبق. ومن ثم قال المحاسبي: خوف المتقربين الأنبياء والملائكة خوف إجلال وإعظام وإن كانوا آمنين عذاب الله. وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي: لا ينبغي أن يعتقد أن الغين نقص في حال صلوات الله عليه وسلامه، بل كمال أو تتمة كمال، وهذا سر دقيق لا ينكشف إلا بمثال، وهو أن الجفن المسبل على حدقة البصر، وإن كان صورته صورة نقصان من حيث هو إسبال وتغطية على ما من شأنه. أن يكون باديًا مكشوفًا، فإن المقصود من خلق العين إدراك المدركات الحسية، وذلك لا يتأتى إلا بانبعاث الأشعة الحسية من داخل العين واتصالها بالمرئيات على مذهب قوم، وبانطباع صور المدركات في الكرة الجليدية على مذهب آخر، فكيفما قدر لا يتم المقصود إلا بانكشاف العين عما يمنع من انبعاث الأشعة، ولكن لما كان الهواء المحيط بالأبدان الحيوانية قلما يخلو من الأغبرة السائرة بحركة الرياح، فلو كانت الحدقة دائمة الانكشاف لاستضرت بملاقاتها وتراكمها عليها، فأسبلت أغطية الجفون وقاية لها ومصقلة لتنصقل الحدقة بأسباب الأهداب، ورفعها لخفة حركة الجفن. فيدوم جلاؤها ويحتد نظرها، فالجفن وإن كان نقصانًا ظاهرًا فهو كمال حقيقة، فهكذا لم تزل بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم معترضة، لأن تصدأ بالأغبرة الثائرة من أنفاس الأغيار، فلا جرم دعت الحاجة إلى إسبال جفن من الغين على حدقة بصيرته سترًا لها ووقاية وصقالاً عن تلك الأغبرة المثارة بروية الأغيار وأنفاسها فصح أن الغين وإن كانت صورته نقصًا فمعناه كمال وصقال حقيقة. ثم قال أيضًا: إن روح النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل في الترقي إلى مقامات القرب مستتبعة للقلب في رقيها إلى مركزها، وهكذا القلب كان يستتبع نفسه الزكية ولا خفاء إن حركة الروح والقلب أسرع وأتم من نهضة النفس وحركتها، فكانت خطأ النفس تقصر عن مدى الروح والقلب في العروج والولوج في حرم القرب ولحوقها بهما فاقتضت العواطف الربانية على الضعفاء من الأمة إبطاء حركة القلب بإلقاء الغين عليه لئلا يسرع القلب ويسرح في معارج الروح ومدارجها، فتنقطع علاقة النفس عنه لقوة الانجذاب فتبقى العباد مهملين محرومين عن الاستنارة بأنوار النبوة والاستضاءة بمشكاة مصباح الشريعة،
وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. رواه مسلم.
2348-
(3) وعنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ
ــ
وحيث كان يرى صلى الله عليه وسلم إبطاء القلب بالغين الملقى عليه وقصور النفس عن شأو ترقي الروح إلى الرفيق الأعلى كان يفزع إلى الاستغفار إذ لم تف قواها في سرعة اللحوق لها - انتهى كلام الشيخ السهروردي. وقد ذكر الحافظ محصله في الفتح في شرح حديث أبي هريرة المتقدم. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: ((ونحن بالنور المقتبس من مشكاة مشايخ الصوفية نذهب في الوقت عليهم مذهبين)) أحدهما: أن نقول لما كان النبي صلى الله عليه وسلم أتم القلوب صفاءً وأكثرها ضياءً وأعرفها عرفانًا، وكان معنيًا مع ذلك بتشريع الملة وتأسيس السنة ميسرًا غير معسر لم يكن له بد من النزول إلى الرخص والإلتفات إلى حظوظ النفس، مع ما كان ممتحنًا به من أحكام البشرية، وكان إذا تعاطى شيئًًا من ذلك أسرع كدورة ما إلى القلب لكمال رقته وفرط نورانيته، فإن الشيء كلما كان أرق وأصفى كان ورود التأثيرات عليه أبين وأهدى، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أحس بشيء من ذلك عده على النفس ذنبًا فاستغفر منه، ولهذا المعنى كان استغفاره عند خروجه من الخلاء فيقول: غفرانك. والآخر: أن تقول: إن الله تعالى كما اقتناه عن العالمين أراد أن يبقيه لهم لينتفعوا به، فإنه صلى الله عليه وسلم لو ترك ما هو عليه، وفيه من الحضور والتجليات الإلهية لم يكن لينفرغ لتعريف الجاهد وتعليم الجاهل، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يرد إليهم الفينة بعد الفينة بنوع من الحجية والاستتار ليكمل حظهم عنه فيرى ذلك من سيئات حاله فيستغفر منه والله أعلم - انتهى. (وإني لأستغفر الله) جملة أخرى معطوفة (في اليوم مائة مرة) قال المناوي: أراد بالمائة التكثير فلا ينافي رواية: سبعين. (رواه مسلم)، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص211: 260) ، والبخاري في تاريخه (ج1: ق2 ص44) ، وأبو داود في أواخر الصلاة، كلهم من طريق حماد عن ثابت عن أبي بردة عن الأغر المزني ونسبه في الحصن والكنز للنسائي أيضًا.
2348-
قوله: (وعنه) أي الأغر المزني (يا أيها الناس توبوا إلى الله) فيه تلميح إلى قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} (النور: 31) فالتوبة واجبة على الناس جميعًا. قال النووي: هذا الأمر بالتوبة موافق لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} (التحريم: 8) قلت: وجوب التوبة ظاهر بحديث الأغر هذا، وبالأحاديث الأخرى وبالآيتين المذكورتين، وهو واضح بنور البصيرة عند من شرح الله بنور الإيمان صدره، فإن من عرف أن لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى، وإن كل محجوب عنه يشقى لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي محترق بنار الفراق
فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. رواه مسلم.
2349-
(4) وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ اللَّهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي
ــ
ونار الجحيم، وعلم أن لا مبعد عن لقاء الله إلا إتباع الشهوات ولا مقرب من لقاءه إلا الإقبال على الله بدوام ذكره، وعلم أن الذنوب سبب كونه محجوبًا مبعدًا عن الله تعالى. فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب. وإنما يتم الانصراف بالغلم والندم والعزم، وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن البصيرة، ومن لم يترشح لهذا المقام فيلاحظ ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث وارجع للبسط إلى كتاب التوبة من الإحياء للغزالي. قال القاري: قوله: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله)) الظاهر إن المراد بهم المؤمنون لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31) وفي الآية والحديث دليل وشاهد على أن كل أحد في مقامه وحاله يحتاج إلى الرجوع لتوقية كماله، وإن كل أحد مقصر في القيام بحق عبوديته كما قضاه وقدر، قال تعالى:{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (عبس: 23) ويدل عليه أيضًا قوله: (فإني أتوب إليه) أي أرجع رجوعًا يليق به إلى شهوده أو سؤاله أو إظهار الافتقار بين يديه (في اليوم مائة مرة) فأنتم أولى بأن ترجعوا إليه في ساعة ألف كرة (رواه مسلم) وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص211، 260) كلاهما من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي بردة أنه سمع الأغر المزني يحدث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيها الناس. إلخ وأخرج النسائي، وابن أبي شيبة، والطبراني، والحكيم الترمذي بنحوه.
2349-
قوله: (فيما يروى) هكذا في رواية أبي أسماء عن أبي ذر، ووقع في رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر فيما روى أي بلفظ الماضي (إنه) قال القاري: ضبط بفتح الهمزة وكسرها فتأمل في الفرق بينهما. (قال: يا عبادي) قال الطيبي: الخطاب لثقلين لتعاقب التقوى والفجور فيهم، ويحتمل أن يعم الملائكة فيكون ذكرهم مدرجًا في الجن لشمول الإجتنان لهم، وتوجه هذا الخطاب لا يتوقف على صدور الفجور ولا على إمكانه - انتهى. قال شيخنا: والظاهر هو الاحتمال الأول (إني حرمت) أي منعت (الظلم على نفسي) أي تقدست عنه وتعاليت فهو في حقي كالمحرم في حق الناس، إذا لا يتصور في حقه ظلم سواء قلنا إن الظلم وضع الشيء في غير محله أو أنه التعدي في ملك الغير أو مجاوزة الحد وهو المحمود في كل فعال من غير فصل، لأن فعله إما عدل وإما فضل. قال النووي قال العلماء: قوله حرمت الظلم على نفسي. معناه تقدست عنه وتعاليت والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، كيف يجاوز سبحانه حدًا وليس فوقه من يطيعه وكيف يتصرف في غير
وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ،
ــ
ملك، والعالم كله ملكه وسلطانه. وأصل التحريم في اللغة المنع فسمى تقديسه عن الظلم تحريمًا لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء - انتهى. (وجعلته بينكم محرمًا) أي حكمت بتحريمه فيما بينكم فإذا علمتم ذلك (فلا تظالموا) بفتح التاء وشدة الظاء للإدغام وتخفيفه أصله تتظالموا حذفت إحدى التاءين تخفيفًا أي لا يظلم بعضكم بعضًا، والمعنى أنه تعالى حرم الظلم عل عباده ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم فحرام على كل عبد أن يظلم غيره (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته) يعني إن الهداية لمن حصلت إنما هي من عند الله لا من عند نفسه، وكذلك الطعام والكسوة لمن حصل فإنما هو من عند الله لا من عند نفسه، وهذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم، وإن العباد لا يملكون لأنفسهم شيئًا من ذلك كله، وإن من لم يتفضل الله عليه بالهدى والرزق فإنه يحرمهما في الدنيا. قال المازري: ظاهر هذا أنهم خلقوا على الضلال إلا من هداه الله تعالى، وفي الحديث المشهور كل مولود يولد على الفطرة. قال: فقد يكون المراد بالأول وصفهم بما كانوا عليه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أو أنهم تركوا وما في طباعهم من إيثار الشهوات والراحة وإهمال النظر لضلوا، وهذا الثاني أظهر. وقال المناوي: كلكم ضال أي غافل عن الشرائع قبل إرسال الرسل إلا من هديته أي وقفته للإيمان أي للخروج عن مقتضى طبعه. وقال القاري: هذا لا ينافي قوله عليه الصلاة والسلام كل مولود يولد على الفطرة، فإن المراد بالفطرة التوحيد، والمراد بالضلالة جهالة تفصيل أحكام الإيمان وحدود الإسلام. ومنه قوله تعالى:{وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى} (الضحى: 7) - انتهى. وقال ابن رجب: قد ظن بعضهم أن قوله كلكم ضال إلا من هديته معارض لحديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل خلقت عبادي حنفاء)) ، وفي رواية ((مسلمين فاجتالتهم الشاطين)) وليس كذلك فإن الله خلق بني آدم وفطرهم على قبول الإسلام، والميل إليه دون غيره والتهيأ لذلك والاستعداد له بالقوة لكن لا بد للعبد من تعليم الإسلام بالفعل، فإنه قبل التعلم جاهل لا يعلم شيئًا كما قال تعالى:{وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} (النحل: 78) وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} والمراد {وَجَدَكَ} غير عالم مما علمك من الكتاب والحكمة، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) فالإنسان يولد مفطورًا على قبول الحق فإن هداه الله تعالى سبب له من يعلمه الهدى فصار مهديًا بالفعل بعد أن كان مهديًا بالقوة، وإن خذله الله قيض له من يعلمه ما يغير فطرته كما قال صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. وأما سؤال المؤمن من الله الهداية. فإن الهداية نوعان: هداية مجملة، وهي الهداية للإسلام والإيمان وهي حاصلة
فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ
ــ
للمؤمن، وهداية مفصلة، وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلاً ونهاراً، ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كل ركعة من صلاتهم قوله:{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (فاستهدوني) أي ساوني الهدى وأطلبوه مني (أهدكم) أوفقكم للهداية (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته) قال العلقمي: وذلك لأن الناس عبيد لا يملكون شيئاً وخزائن الرزق بيد الله عز وجل فمن لا يطعمه بفضله بقى جائعاً بعد له إذ ليس عليه إطعام أحد. فإن قلت: كيف هذا مع قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (هود: 6) قلت: هذا التزام منه تفضلاً، لا أن للدابة حقاً بالأصالة. فإن قلت كيف ينسب الإطعام إلى الله تعالى؟ ونحن نشاهد الأرزاق مرتبة على هذه الأسباب الظاهرة من الحرف والصناعات وأنواع للاكتساب. قلت: هو القدر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة، فالجاهل محجوب بالظاهر، عن الباطن، والعارف محجوب بالباطن عن الظاهر، قال والعالم جماده وحيوانه مطيع لله عز وجل طاعة العبد لسيده، فكما أن السيد يقول لعبده أعط فلانًا كذا، وأهد لفلان كذا، وتصدق على هذا الفقير بكذا، كذلك الله عز وجل يسخر السحاب فيسقي أرض فلان أو البلد الفلاني ويحرك قلب فلان لإعطاء فلان، ويوجه فلان إلى فلان بوجه من الوجوه لينال منه نفعاً ونحو ذلك - انتهى. وقال القاري: إلا من أطعمته أي من أطعمته وبسطت عليه الرزق وأغنيته فلا يشكل أن الإطعام عام للجميع فكيف يستثني (فاستطعموني) أي اطلبوا الطعام وتيسير القوت مني (أطعمكم) أي أيسر لكم أسباب تحصيله (كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني) أي أطلبوا مني الكسوة (أكسُكم) بضم السين أي أيسر لكم ستر عوراتكم وأزيل عنكم مساوي كشف سوءاتكم. قال الطيبي: فإن قلت ما معنى الاستثناء في قوله إلا من أطعمته وكسوته إذ ليس أحد من الناس محروم منهما. قلت: الإطعام والكسوة لما كانا معبرين عن النفع التام والبسط في الرزق وعدمهما عن التقتير والتضييق كما قال الله تعالى: {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ} (الرعد: 26) سهل التقصى عن الجواب، من هذا أن ليس المراد من إثبات الجوع والعرى في المستثنى منه، نفي الشبع والكسوة بالكلية، وليس في المستثنى إثبات الشبع والكسوة مطلقاً، بل المراد بسطهما وتكثيرهما وبوضع الحديث الرابع عشر من الفصل الثاني أنه وضع قوله:((وكلكم فقراء إلا من أغنيته)) في موضوعه - انتهى. (يا عبادي أنكم تُخطِئون) بضم أوله وكسر ثالثه من أخطأ، وبفتحهما من خطئ يخطأ خطأ أي أذنب فهو خطئ قال النووي: الرواية المشهورة بضم التاء، وروى بفتحها وفتح الطاء يقال خطأ يخطأ إذا فعل ما يأثم به فهو خطئ، ومنه قوله تعالى {اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} (يوسف: 97) ويقال في الإثم أيضاً أخطأ فهما صحيحان
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.
ــ
(بالليل والنهار) أي وخطيئة كل بحسب مقامه (وأنا أغفر الذنوب جميعاً) أي بالتوبة أو ما عدا الشرك إن شاء وهي كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53)(فاستغفروني) أي أطلبوا مني المغفرة (إنكم لن تبلغوا ضري) بفتح الضاد وضمه (فتضروني) حذف. نون الإعراب منه في نصبه بأن المضمرة في جواب النفي وكذا قوله (فتنفعوني) يعني أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعاً ولا ضراً، فإن الله تعالى في نفسه غني حميد لا حاجة له بطاعات العباد ولا يعود نفعها إليه. وإنما هم ينتفعون بها ولا يتضرر بمعاصيهم وإنما هم يتضررون بها قال الله تعالى {وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً} (آل عمران: 176) وقال حاكياً عن موسى وقال موسى: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم: 8) . قال القاري: أي: لا يصح منكم ضري ولا نفعي فإنكم لو اجتمعتم على عبادتي أقصى ما يمكن ما نفعتموني في ملكي، ولو اجتمعتم على عصياني أقصى ما يمكن لم تضروني بل {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء: 7) وهذا معنى قوله: (لو أن أولكم) أي: من الموجودين (وآخركم) ممن سيوجد. وقال ابن المالك: أي: من الأموات والأحياء والمراد جميعكم (وإنسكم وجنكم) أي: وملائكتكم تعميم بعد تعميم للتأكيد أو تفصيل وتبيين (كانوا على أتقى رجل قلب منكم) أي: لو كنتم على غاية التقوى بأن تكونوا جميعاً على تقوى أتقى قلب رجل واحد منكم. وقال القاضي: أي على أتقى أحوال قلب رجل، أي كان كل واحد منكم على هذه الصفة كذا في المرقاة. وقال الشيخ الدهلوي في ترجمته:((باشند بر برهيزكار ترين دل يك مرداز شما، يعني أكر فرض كرده شود دل يك كسى از شماكه متقي ترين دلها باشد وشماهمه برين صفت باشيد)) (ما زاد ذلك) أي: ما ذكر (في ملكي شيئًا) إما مفعول به أو مصدر، وهذا راجع إلى لن تبغلوا نفعي فتنفعوني نشرًا مشوشًا اعتمادًا على فهم السامع (كانوا على أفجر) أي: فجورًا فجرًا وأفجر أحوال (قلب رجل واحد منكم) وقال الشيخ الدهلوي في ترجمته: ((باشند برب فرماني كنده وكناه كننده ترين دل يك مرداز شما)) (ما نقص) بالتخفيف (ذلك) أي ما ذكر (من ملكي شيئًا) قال الطيبي: يجوز أن يكون مفعولاً به إن قلنا إن نقص متعد، ومفعولاً مطلقًا إن قلنا أنه لازم أي نقص نقصانًا قليلاً، والتنكير فيه للتحقير بدليل قوله في الحديث الآتي بدله جناح بعوضة، وهذا راجع إلى قوله
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.
ــ
((لن تبلغوا ضري فتضروني)) والمعنى أن ملكه لا يزيد بطاعة الخلق ولو كانوا كلهم بررة، أتقياء قلوبهم على أتقى قلب رجل منهم، ولا بنقص ملكه بمعصية العاصين، ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم فإنه سبحانه الغني بذاته عن من سواه، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي وجه كان (قاموا) أي وقفوا (في صعيد واحد) أي في أرض واحدة ومقام واحد قال ابن حجر: الصعيد يطلق على التراب وعلى وجه الأرض وهو المراد هنا (فسألوني) أي كلهم أجمعون. قال الطيبي: قيد السؤال بالإجماع في مقام واحد، لأن تزاحم السؤال وازدحامهم مما يدهش المسئول ويهم ويعسر عليه إنجاح مآربهم وإسعاف مطالبهم (فأعطيت كل إنسان) وكذا كل جني (مسألته) أي في آن واحد ومكان واحد (ما نقص ذلك) أي الإعطاء (مما عندي) والمراد بهذا ذكر كمال قدرته تعالى وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنقص بالعطاء ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد، وفي ذلك حث الخلق على سؤاله وإنزال حوائجهم به (إلا كما ينقص) أي كالنقص أو كالشيء الذي ينقصه (المخيط) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الياء المثناة تحت هو ما يخلط به الثواب كالإبرة ونحوها (إذا أدخل البحر) بالنصب على أنه مفعول ثان للإدخال، وذكر ذلك لتحقيق أن ما عنده لا ينقص البتة كما قال تعالى:{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} (النحل: 96) . فإن البحر إذا غمس فيه إبرة، ثم أخرجت لم ينقص من البحر بذلك شيء قال الطيبي: لما لم يكن ما ينقصه المخيط محسوسًا ولا معتدًا به عند العقل، بل كان في حكم العدم كان أقرب المحسوسات وأشبهم بإعطاء حوائج الخلق كافة، فإنه لا ينقص مما عنده شيئًا. وقال النووي قال العلماء: هذا تقريب إلى الأفهام، ومعناه لا ينقص شيئًا أصلاً كما قال في الحديث الآخر: لا يغيضها نفقة. أي لا ينقصها نفقة لأن ما عند الله لا يدخله نقص، وإنما يدخل النقص المحدود الفاني وعطاء الله تعالى من رحمته وكرمه وهما صفتان قديمتان لا يتطرق إليهما نقص، فضرب المثل بالمخيط في البحر لأنه غاية ما يضرب في المثل في القلة، والمقصود التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه فإن البحر من أعظم المرئيات عيانًا وأكبرها، والإبرة من أصغر الموجودات مع أنها صقيلة لا يتعلق بها ماء - انتهى. قلت: قد تبين في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجة السبب الذي لأجله لا ينقص ما عند الله بالعطاء بقوله: ((ذلك بأني جواد وأجد ما جد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام وإنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له كن فيكون)) وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: 82) فهو سبحانه إذا أراد شيئاً من عطاء أو عذاب أو غير ذلك قال له
يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. رواه مسلم.
ــ
كن فيكون، فكيف يتصور أن ينقص هذا، وكذلك إذا أراد أن يخلق شيئًا قال له: كن فيكون (إنما هي) أي القصة (أعمالكم أحصيها) أي أحفظها وأكتبها (عليكم) قال القاري: كذا في الأصول المعتمدة يعني من المشكاة بلفظ: عليكم وهو المناسب للمقام. ووقع في أصل ابن حجر لكم. وقال وفي نسخة عليكم. قلت: والذي في صحيح مسلم لكم، وهكذا وقع في جامع الأصول (ج11: ص349) وفي شرح الأربعين النووية لابن رجب وفي الجامع الصغير للسيوطي، والترغيب للمنذري فهو المعتمد. قال القاري: وقال الطيبي: قوله: أعمالكم أي جزاء أعمالكم تفسير للضمير المهم. وقيل: هو راجع إلى ما يفهم من قوله: (على أتقى قلب رجل، وعلى أفجر قلب رجل) وهو الأعمال الصالحة والطالحة يعني أنه سبحانه يحصي أعمال عباده ثم يوفيهم إياها بالجزاء عليها (ثم أوفيكم إياها) بتشديد الفاء من التوفية، وهي إعطاء الحق على التمام أي أعطيكم جزاء أعمالكم يوم القيامة وافيًا تامًا إن خيرًا فخير وإن شر فشر، وهذا كقوله تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8) وقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: 49) وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (فمن وجد خيرًا) أي: توفيق خير من ربه وعمل خير من نفسه (فليحمد الله) أي: على توفيقه إياه للخير لأنه الهادي (ومن وجد غير ذلك) أي: شرًا ولم يصرح به تحقيرًا له وتنفيرًا عنه (فلا يلومن إلا نفسه) لأنه صدر من نفسه أو لأنه باق على ضلاله الذي أشير إليه بقوله كلكم ضال قاله القاري. وقال العلقمي: إن الطاعات التي يترتب عليها الثواب والخير بتوفيق الله عز وجل فيجب حمده على التوفيق والمعاصي التي يترتب عليها العقاب والشر، وإن كانت بقدر الله وخذلانه العبد فهي كسب للعبد فليلُم نفسه لتفريطه بالكسب القبيح. وقال ابن رجب: قوله: ((ثم أوفيكم إياها)) الظاهر إن المراد توفيتها يوم القيامة كما قال تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ويحتمل أن المراد يوفي عباده جزاء أعمالهم في الدنيا والآخرة. ثم بسط شرح قوله: ((فمن وجد خيرًا)) إلخ. على هذين الاحتمالين من أحب الوقوف عليه رجع إلى شرحه للأربعين النووية (رواه مسلم) في البر والصلة من رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر، وفي آخره قال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه، وأخرجه مسلم أيضًا من رواية قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه عز وجل: إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي فلا تظالموا. قال مسلم
2350-
(5) وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَانَ فِي بني إسرائيل رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فأتى راهبًا فسأله فقال: أَلَهُ تَوْبَةً؟ قَالَ: لا. فَقَتَلَهُ. وَجَعَلَ يَسْأَلُ،
ــ
: وساق أي: أبو أسماء الحديث بنحوه، وحديث أبي إدريس أتم منه - انتهى. قلت رواه أحمد (ج5: ص160) من طريق قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء وساقه بلفظه، وأخرجه أحمد (ج5: ص154: 177) ، والترمذي، وابن ماجة، والبيهقي من رواية: شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر ويأتي لفظه في الفصل الثاني
2350-
قوله: (كان في بني إسرائيل رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه ولا على اسم أحد من الرجال ممن ذكر في القصة (قتل تسعة وتسعين إنسانًا) زاد الطبراني من حديث أبي معاوية بن أبي سفيان كلهم ظلمًا (ثم خرج يسأل) أي عن التوبة والاستغفار، وفي رواية هشام عن قتادة عند مسلم فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب (فأتى راهبًا) الراهب واحد رهبان النصارى، وهو الخائف والمتعبد المتنزل عن الخلق، وفيه إشعار بأن ذلك وقع بعد رفع عيسى عليه السلام، فإن الرهبانية إنما ابتداعها أتباعه كما نص عليه في القرآن (فسأله فقال) أي: القاتل (أله) أي: لهذا الفعل أو لهذا الفاعل (توبة) بعد هذه الجريمة العظيمة، وقوله:((أله توبة)) كذا في جميع نسخ المشكاة الحاضرة عندنا. قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة كما في نسخة المصابيح ألي توبة. قلت: في المصابيح الموجودة عندنا من طبعة بولاق 1294 فقال له: هل لي توبة. وليس في البخاري الهمزة ففي أصل الحافظ له توبة. قال الحافظ: بحذف أداة الاستفهام، وفيه تجريد أو التفات، لأن حق السياق أي مقتضى الظاهر أن يقول: ألي توبة. - انتهى. وفي أصل العيني والقسطلاني فقال له: هل من توبة. قال العيني: يعني فقال للراهب: هل من توبة لي. وقال القسطلاني: سقط لأبوي ذر والوقت لفظة من فتوبة رفع، وفي رواية مسلم أنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة (قال) أي: الراهب في جوابه (لا) أي: لا توبة له أو لك بعد أن قتلت تسعة وتسعين إنسانًا وأفتاه بذلك لغلبة الخشية عليه، واستبعاده إن تصح توبته بعد قتله لمن ذكر أنه قتله بغير حق (فقتله) وكمل به مائة. قال القاري: لعله لكونه أوهمه إنه لا يقبل له توبة منها وإن رضي مستحقوه. وقيل: لأن فتياه اقتضت عنده أن لا نجاة له فيئس من الرحمة ثم تداركه الله فندم على ما صنع فرجع يسأل. وفيه إشارة إلى قلة فطنة الراهب لأنه كان من حقه التحرز ممن اجترأ على القتل حتى صار له عادة بأن لا يواجهه بخلاف مراده، وأن يستعمل معه المعاريض مداراة عن نفسه هذا لو كان الحكم عنده صريحًا في عدم قبول توبة القاتل فضلاً عن أن الحكم لم يكن عنده إلا مظنونًا (وجعل) في البخاري (فجعل)(يسأل) أي من
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إيت قَرْيَةَ كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَإِلَى هَذِهِ
ــ
الناس ليدلوه على من يأتي إليه فيسأله عن قبول توبته (فقال له رجل) عالم بعد أن سأله فقال: إني قتلت مائة إنسان فهل لي من توبة، فقال: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة. ففي رواية هشام: فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة، فقال: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة، (إئت قرية كذا) باسمها (وكذا) بوصفها أي القرية الفلانية التي أهلها صلحاء وتب إلى الله واعبده معهم فقصد تلك القرية. وفي رواية هشام: انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق (أي بلغ نصفها) أتاه الموت. واسم هذه القرية نصرة وأما القرية المأتي منها فاسمها كفرة كما عند الطبراني بإسناد جيد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال النووي: قوله انطلق إلى أرض كذا وكذا إلخ، فيه استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب والأخدان المساعدين على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين، ومن يقتدي بهم وينتفع بصحبتهم ويتأكد بذلك توبته (فأدركه الموت) أي إماراته وسكراته فالفاء عطف على محذوف أي فقصدها وسار نحوها وقرب من وسط طريقها فأدركه الموت (فناء) بنون ومد وبعد الألف همزة أي نهض ومال (بصدره نحوها) أي إلى ناحية القرية التي توجه إليها للتوبة والعباد، أي ثم مات. قال الحافظ: هذا هو المعروف في هذا الحديث وحكى بعضهم فيه فنأى بغير مد قبل الهمزة وبإشباعها بوزن سعى، وتقول نأى ينأى نأيًا أي بعد، وعلى هذا فالمعنى فبعد بصدره عن الأرض التي خرج منها ووقع في رواية هشام ما يشعر بأن قوله فناء بصدره إدراج فإنه قال في آخر الحديث. قال قتادة:(راوي الحديث عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد) قال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره (فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب) زاد في رواية هشام: فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. قال النووي: قياس الملائكة ما بين القريتين وحكم الملك الذي جعلوه بينهم محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه أمره عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا رجلاً ممن يمر بهم فمر الملك في صورة رجل فحكم بذلك (فأوحى الله إلى هذه) أي إلى القرية التي توجه إليها وقصدها للتوبة وهي نصرة (أن تقربي) أي من الميت بفتح التاء وتشديد الراء وكلمة أن تفسيرية لما في الوحي من معنى القول: (وإلى هذه) أي إلى القرية التي خرج منها وهي كفرة، وقوله:((إلى هذه)) كذا في جميع نسخ المشكاة. ووقع في البخاري وأوحى إلى هذه أي بزيادة وحى قبل
أَنْ تَبَاعَدِي، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا. فَوُجِدَ إِلَى هذه أقرب بشبر فغفر له. متفق عليه.
ــ
إلى هذه (أن تباعدي) بفتح التاء أي عن الميت (فقال) وفي البخاري وقال: قال القاري: أي الله كما في نسخة يعني من المشكاة (قيسوا) الخطاب للملائكة المتخاصمين أي قدروا (ما بينهما) أي بين القريتين فقيس (فوجد) بضم الواو مبنيًا للمفعول أي الميت المتنازع فيه (إلى هذه) أي القرية التي توجه إليها وهي نصرة (أقرب) بفتح الموحدة (بشبر) في رواية هشام: فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، (فغفر له) وفي رواية هشام: فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية معاذ عن شعبة عند مسلم أيضًا: فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها. قال الحافظ في الحديث: مشروعية التوبة من جميع الكبائر حتى من قتل الأنفس، ويحمل على أن الله تعالى إذا قبل توبة القاتل تكفل برضا خصمه، قال الطيبي إذا رضي الله عن عبده أرضى خصومه. ورد مظالمه، ففي الحديث ترغيب في التوبة ومنع الناس عن اليأس ورجاء عظيم لأصحاب العظائم: وقال عياض في الحديث: إن التوبة تنفع من القتل كما تنفع من سائر الذنوب وهو وإن كان شرعًا لمن كان قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف لكن ليس هذا موضع الخلاف، لأن موضع الخلاف إذا لم يرد في شرعنا تقريره وموافقته، وأما إذا ورد فهو شرع لنا بلا خلاف، ومن الوارد في ذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فكل ما دون الشرك يجوز أن يغفر له، ومنه حديث عبادة بن الصامت ففيه بعد قوله: ولا تقتلوا النفس وغير ذلك من المنهيات ((فمن أصاب من ذلك شيئًا فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه)) متفق عليه. وأما قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (النساء: 93) فمعناه أنه يستحق أن يجازى بذلك، وقد أخبر الله بفضله أنه لا يخلد من مات موحدًا فيها فلا يخلد هذا، ولكن قد يعفي عنه فلا يدخل النار أصلاً، وقد لا يعفي عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين، ثم يخرج معهم إلى الجنة ، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء والله أعلم. وفيه: إن المفتي قد يجيب بالخطأ وفيه: فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك، إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه. وفيه: فضل العالم على العابد لأن الذي أفتاه أولاً بأن لا توبة له غلبت عليه العبادة فاستعظم وقوع ما وقع من ذلك القاتل من استجراءه على قتل هذا العدد الكثير. وأما الثاني: فغلب عليه العلم فأفتاه بالصواب ودله على طريق النجاة. وفيه: إن للحاكم إذا تعارضت عنده الأحوال وتعذرت البينات أن يستدل بالقرائن على الترجيح. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل، ومسلم في التوبة واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضًا أحمد (ج3: ص20: 72) ، وابن ماجة في الديات، وابن حبان في صحيحه، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ذكرهما
2351-
(6) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. رواه مسلم.
2352-
(7) وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ
ــ
الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص211، 212) ، والمنذري في الترغيب.
2351-
قوله: (لو لم تذنبوا) أي أيها المكلفون أو أيها المؤمنون (لذهب الله بكم) الباء للتعدية كما في قوله (ولجاء بقوم) أي لأذهبكم وأفناكم وأظهر قومًا آخرين من جنسكم أو من غيركم (يذنبون) أي يمكن وقوع الذنب منهم ويقع بالفعل عن بعضهم (فيستغفرون الله) أي فيتوبون أو يطلبون المغفرة مطلقًا (فيغفر لهم) لاقتضاء صفة الغفار، والغفور ذلك، ولذا قال الله تعالى:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} (نوح: 10) ولاستلزام هذه الصفة الإلهية وجود المعصية في الأفراد البشرية، والمعنى لو كنتم معصومين كالملائكة لذهب بكم، وجاء بممن يأتي منهم الذنوب لئلا يتعطل صفات الغفران والعفو، فلا تجرئة فيه على الانهماك في الذنوب. قال التوربشتي:لم يرد هذا الحديث مورد تسلية المنهمكين في الذنوب وتوهين أمرها على النفوس وقلة الاحتفال منهم بمواقعتها على ما يتوهمه أهل الغرة بالله، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم إنما بعثوا ليردعوا الناس عن غشيان الذنوب واسترسال نفوسهم فيها، بل ورد مورد البيان لعفوا الله عن المذنبين وحسن التجاوز عنهم، ليعظموا الرغبة في التوبة والاستغفار، والمعنى المراد من الحديث هو إن الله تعالى كما أحب أن يحسن إلى المحسن أحب أن يتجاوز عن المسيء، وقد دل على ذلك غير واحد من أسماءه الغفار الحليم التواب العفو، فلم يكن ليجعل العباد شأنًا واحدًا كالملائكة مجبولين على التنزه من الذنوب، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه ميالاً إلى الهوى مفتتنًا ومتلبسًا بما يقتضيه، ثم يكلفه التوقي عنه ويحذره عن مداناته ويعرفه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفى فأجره على الله وإن اخطأ الطريق فالتوبة بين يديه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم لو كنتم مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة لجاء الله بقوم يتأتى منهم الذنب، فيتجلى عليهم بتلك الصفات على مقتضى الحكمة، فإن الغفار يستدعي مغفورًا كما أن الرزاق يستدعي مرزوقًا - انتهى. وقد تقدم نحو هذا الكلام لابن القيم فتذكر. (رواه مسلم) في التوبة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص309) ، والحاكم (ج4: ص246) ، وفي الباب عن أبي أيوب عند أحمد، ومسلم، والترمذي وعن عبد الله ابن عمرو عند الحاكم (ج2: ص246) .
2352-
قوله: (إن الله يبسط يده) قيل: بسط اليد عبارة عن الطلب لأن عادة الناس إذا طلب أحدهم شيئًا من أحدهم بسط إليه كفه، والمعنى يدعو المذنبين إلى التوبة (بالليل ليتوب مسيء النهار) أي لا يعاجلهم
وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. رواه مسلم.
2353-
(8) وَعَنْ عَائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
ــ
بالعقوبة بل يمهلم ليتوبوا (ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) وقال النووي: معناه يقبل التوبة من المسيئين نهارًا وليلاً حتى تطلع الشمس من مغربها، ولا يختص قبولها بوقت فبسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازري: المراد به قبول التوبة، وإنما ورد لفظ بسط اليد لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله، وإذا كرهه قبضها عنه، فخوطبوا بأمر حسي يفهمونه وهو مجاز، فإن يد الجارحة مستحيلة في حق الله تعالى - انتهى. وقيل: البسط عبارة عن التوسع في الجود والعطاء والتنزه عن المنع، وفي الحديث تنبه على سعة رحمته وكثرة تجاوزه. وقال الطيبي: هو تمثيل يدل على أن التوبة مطلوبة عنده محبوبة لديه كأنه يتقاضاها من المسيء، (حتى تطلع الشمس من مغربها) فحينئذ يغلق باب التوبة قال تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} (الأنعام: 185) الآية، قال ابن الملك: مفهوم هذا الحديث وأشباهه يدل على أن التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من المغرب إلى يوم القيامة. (رواه مسلم) في التوبة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج4: ص395: 404) ونسبه في الكنز (ج4: ص128) لابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، والنسائي، وأبي الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء.
2353-
قوله: (إن العبد إذا اعترف) أي: بذنبه، قال القاري: أي: أقر بكونه مذنبًا وعرف ذنبه (ثم تاب) أي من ذنبه إلى الله. قال القاري: أي أتي بأركان التوبة من الندم والخلع والعزم والتدارك (تاب الله عليه) أي: قبل توبته لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (الشوري: 25) قال الطيبي: وحقيقته إن الله يرجع عليه برحمته - انتهى. والحديث قطعة من حديث طويل من حديث الإفك وقبلها قال: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة؟ إنه قد بلغني عنك كذا وكذا (هو كناية عما رميت به من الإفك) ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه. إلخ. قال الداودي: أمرها بالاعتراف ولم يندبها إلى الكتمان للفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن فيجب على أزواجه الاعتراف بما يقع منهن ولا يكتمنه إياه، فإنه لا يحل لنبي إمساك من يقع منها ذلك بخلاف نساء الناس فإنهن ندبن إلى الستر. وتعقبه عياض بأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك ولا فيه أنه أمرها بالاعتراف، وإنما أمرها أن تستغفر الله وتتوب إليه أي فيما بينها وبين ربها، فليس صريحًا في الأمر لها بأن تعترف عند الناس بذلك، قال الحافظ: وسياق جواب عائشة (بقولها ((والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم
متفق عليه.
2354-
(9) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. رواه مسلم.
ــ
وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني منه بريئة لتصدقني)) .) يشعر بما قاله الداودي لكن المعترف عنده ليس على إطلاقه فليتأمل، ويؤيد ما قال عياض: إن في رواية يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن الطبراني قالت، فقال لي أبي إن كنت صنعت شيئًا فاستغفري الله وإلا، فأخبري رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذرك - انتهى. قلت: ويرجح ما قال عياض إن في رواية للبخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن كنت قارفت سوءًا وظلمت فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده. (متفق عليه) هذا طرف من حديث الإفك الطويل أخرجه البخاري في باب تعديل النساء بعضهن بعضًا من الشهادات، وفي غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع من المغازي، وفي تفسير سورة النور، وأخرجه مسلم في التوبة، وأخرجه أيضًا أحمد، وأخرج ابن جرير الطبري، والترمذي بنحوه.
2354-
قوله: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها) إلخ هذا هو المراد من قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} (الأنعام: 158) الآية، لكن الآية مختصة بعدم قبول الإيمان، والحديث يدل على عدم قبول التوبة مطلقًا سواء كانت من الكفر أو من المعصية، وفيه اختلاف بين العلماء فتدبر كذا في اللمعات، (تاب الله عليه) أي: قبل توبته ورضي بها، قال النووي: هذا أي: طلوع الشمس من المغرب حد لقبول التوبة، وقد جاء في الحديث الصحيح إن للتوبة بابًا مفتوحًا فلا تزال مقبولة حتى يغلق، فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق وامتنعت التوبة على من لم يكن تاب قبل ذلك، وهو معنى قوله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} (الأنعام: 158) وللتوبة حد آخر، وهو أن يتوب قبل الغرغرة كما جاء في الحديث الصحيح، وأما في حالة الغرغرة وهي حالة النزع فلا تقبل توبته ولا غيرها، لأن المعتبر هو الإيمان بالغيب ولا تنفذ وصيته ولا غيرها. (رواه مسلم) في الدعاء، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص275) ، وعبد الرزاق، وابن جرير في تفسيرهما، ونقله ابن كثير في التفسير عن الطبري، ثم قال: لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وعليه في هذا استدراك فإنه في صحيح مسلم كما ترى فلا ينبغي في هذا أن يوصف بأنه لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وأغرب مما صنع ابن كثير صنيع الحافظ الهيثمي، فإنه ذكره في مجمع الزوائد (ج10: ص98) باللفظ الذي في صحيح مسلم، ثم قال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف.
2355-
(10) وَعَنْ أَنَسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ
ــ
2355-
قوله: (لله) بلام التأكيد المفتوحة (أشد فرحًا) قيل: الفرح في مثل هذا كناية عن الرضاء وسرعة القبول وحسن الجزاء لتعذر ظاهره عليه تعالى (بتوبة عبده) أي أرضى بتوبة عبده المؤمن وأقبل لها (حين يتوب إليه من أحدكم) أي من فرح أحدكم وسروره ورضاه، قيل: الفرح المتعارف في نعوت بني آدم غير جائز على الله تعالى، لأنه اهتزاز طرب يجده الشخص في نفسه عند ظفره بغرض يستكمل به نقصانه أو يسد به خلته أو يدفع به عن نفسه ضرارًا أو نقصانًا، وإنما كان غير جائز عليه تعالى لأنه الكامل بذاته الغني بوجوده الذي لا يلحقه نقص ولا قصور. وإنما معناه الرضا. والسلف فهموا منه ومن أشباهه الترغيب في الأعمال والأخبار عن فضل الله، وأثبتوا هذه الصفات لله تعالى ولم يشتغلوا بتفسيرها مع اعتقادهم تنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين وأما من اشتغل بالتأويل فله طريقان. أحدهما: أن التشبيه مركب عقلي من غير نظر إلى مفردات التركيب، بل تؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع وهي غاية الرضا ونهايته. وإنما إبراز ذلك في صورة التشبيه تقرير المعنى الرضا في نفس السامع وتصويرًا لمعناه. وثانيهما: تمثيلي وهو أن يتوهم للمشبه الحالات التي للمشبه به وينتزع له منها ما يناسبه حالة حالة بحيث لم يختل منها شيء يعني إنه من باب التمثيل وهو أن يشبه الحال الحاصلة بتنجيز الرضا والإقبال على العبد التائب بحال من كان في المفازة على الصورة المذكورة في الحديث، ثم يترك المشبه ويذكر المشبه به. قال القرطبي: هذا مثل قصد به بيان سرعة قبول الله توبة عبده التائب وإنه يقبل عليه بمغفرته ويعامله معاملة من يفرح بعمله، ووجه هذا المثل إن المعاصي حصل بسبب معصيته في قبضة الشيطان وأسره، وقد أشرف على الهلاك فإذا لطف الله به ووفقه للتوبة خرج من شوم تلك المعصية وتخلص من أسر الشيطان ومن المهلكة التي أشرف عليها فأقبل الله عليه بمغفرته وبرحمته، وإلا فالفرح الذي هو من صفات المخلوقين محال على الله تعالى (كما تقدم بيانه) لكن هذا الفرح عند ثمرة وفائدة، وهو الإقبال على الشيء المفروح به وإحلاله المحل الأعلى، وهذا هو الذي يصح في حقه تعالى فعبر عن ثمرة الفرح بالفرح على طريقة العرب في تسمية الشيء باسم ما جاوره أو كان منه بسبب - انتهى. والحاصل إن إطلاق الفرح في حقه تعالى مجاز عن رضاه وقد يعبر عن الشيء بسبه أو عن ثمرته الحاصلة عنه، فإن من فرح بشيء جاد لفاعله بما سأل، وبذل له ما طلب فعبر عن عطاءه تعالى وواسع كرمه بالفرح. وقال الطيبي: المراد كمال الرضا لأن الفرح المتعارف لا يجوز عليه تعالى، والمتقدمون من أهل الحديث فهموا من أمثال ذلك ما يرغب في الأعمال الصالحة ويكشف عن فضل الله تعالى على عباده مع كونه منزهًا عن صفات المخلوقين ولم يفتشوا عن معاني هذه الألفاظ، وهذه الطريقة السليمة. وقلما يزيغ عنه قدم الراسخ. وقال التوربشتي: هذا القول وأمثاله إذا أضيف إلى الله سبحانه، وقد عرف أنه مما يتعارفه الناس في نعوت بني آدم على
كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ.
ــ
ما تقدم في غير هذا الموضع، أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد بيان المعاني الغيبية ولم يطاوعه فيه لفظ موضوع لذلك، فله أن يأتي فيه بما يتضح دونه المعنى المراد، ولما أراد أن يبين أن التوبة منهم يقع عند الله بأحسن موقع عبر عنه بالفرح الذي عرفوه من أنفسهم في أسنى الأشياء وأحبها إليهم، ليهتدوا إلى المعنى المراد منه ذوقًا ومالاً، وذلك بعد أن عرفهم أن إطلاق تلك الألفاظ في صفات الله تعالى على ما يتعارفونه في نعوتهم غير جائز ولا يجوز لأحد أن يتعاطى هذا النوع في كلامه ويتسع فيه إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يجوز له ما لا يجوز لغيره لبراءه نطقه عن الهوى، ولأنه لا يقدم على ذلك إلا بإذن من الله، وهذه رتبة لا تنبغي إلا له صلى الله عليه وسلم انتهى. قلت: كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي صفة حقيقة لا مجاز، فهو تعالى يسمع ويبصر ويتكلم بما شاء متى شاء ويرضى ويسخط ويعجب ويفرح بتوبة عبده، ومعنى كل ذلك معلوم والكيف مجهول، فنثبت له ذلك كله ولا نكيفه ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا نؤوله ولا نعطله. قال شيخنا: لا حاجه إلى التأويل ومذهب السلف في أمثال هذا الحديث إمرارها على ظواهرها من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل هذا. وقد تقدم في أول الباب ما ذكره ابن القيم في بيان معنى هذا الحديث فراجعه (كان راحلته) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة كانت راحلته. قلت: والذي في صحيح مسلم (كان على راحلته) ، وهكذا نقله المنذري، والجزري، والراحلة البعير الذي يركبه الإنسان ويحمل عليه متاعه (بأرض فلاة) بالإضافة وبتنوين أي بمفازة ليس فيها ما يؤكل ويشرب (فانفلتت) أي: نفرت وفرت (وعليها) أي على ظهر (طعامه وشرابه) يعني يكون حزنه على غاية الشدة بذهاب الراحلة وخوف هلاك نفسه من عدم الزاد والماء (فأيس) من باب سمع (منها) أي: من وجدان الراحلة بعد طلبها (قد أيس من راحلته) أي: من حصولها ووصولها وهي جملة حالية (فبينما) كذا في جميع النسخ من المشكاة وفي صحيح مسلم فبينا (هو كذلك) أي: في هذا الحال منكسر البال (إذ هو بها قائمة عنده) إذ للمفاجأة وقائمة حال من الضمير المجرور، أي: إذ الرجل حاضر بتلك الراحلة حال كونها قائمة عنده من غير تردد في طلبها، وعليها زاده طعامه وشرابه (فأخذ بخطامها) بكسر المعجمة أي زمامها فرحًا بها فرحًا لا نهاية له (ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح) كرره لبيان عذره وسبب صدوره يعني أراد أن يحمد الله بما أنعم عليه من رد راحلته إليه وقصد أن يقول اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فسبق
رواه مسلم.
2356-
(11) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبت فاغفره. فَقَالَ رَبُّهُ: أَعْلم عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لعَبْدِي ثُمَّ مكث ما شاء الله،
ــ
لسانه عن نهج الصواب وأخطأ، وقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك من غاية الفرح، فكان أن فرح هذا الرجل على غاية الشدة فكذلك رضاء الله توبة عبده. قال عياض: فيه إن ما قاله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به، وكذا حكايته عنه على طريق علمي وفائدة شرعية لا على الهزل والمحاكاة والعبث، ويدل على ذلك حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولو كان منكرًا ما حكاه والله أعلم. (رواه مسلم) في التوبة، وأخرجه البخاري في أوائل الدعوات مختصرًا، وفي الباب عن البراء بن عازب والنعمان بن بشير عند أحمد، ومسلم، والحاكم وعن أبي سعيد عند أحمد، وابن ماجة، وعن أبي مسعود عند أحمد، والشيخين، وسيأتي في الفصل الثالث، وعن أبي هريرة عند أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة.
2356-
قوله: (إن عبدًا) أي: من هذه الأمة أو من غيرهم (أذنب ذنبًا) وفي البخاري إن عبدًا أصاب ذنبًا. قال الحافظ: كذا تكرر هذا الشك (أي: روي بالشك ها هنا وفي المواضع الآتية) في هذا الحديث من هذا الوجه (أي: من رواية همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة) ولم يقع في رواية حماد بن سلمة يعني رواه حماد بن سلمة عن إسحاق عند مسلم بلفظ: عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: أذنب عبد ذنبًا ولم يشك، وكذا في بقية المواضع ولفظ الكتاب للبخاري إلا أن المصنف اقتصر على أحد اللفظين بالجزم تبعًا للبغوي (فقال) ظاهره أنه عطف على أذنب. وقال الطيبي: خبر إن إذا كانت اسمها نكرة موصوفة ذكره القاري (رب) أي يا رب (أذنبت) أي: ذنبًا، وفي البخاري أذنبت، وربما قال أصبت أي بالشك (فاغفره) أي: الذنب وقوله فاغفره كذا لأبي ذر، وللكشميهني فاغفر لي قاله القسطلاني (فقال ربه) أي: للملائكة (أعلم عبدي) بهمزة الاستفهام والفعل الماضي وللأصيلى علم بحذف الهمزة. وقال الطيبي: قوله: ((أعلم)) قيل: إما استخبار من الملائكة، وهو أعلم به للمباهاة، وإما الاستفهام للتقرير والتعجيب، وإنما عدل عن الخطاب وهو قوله:((أعلمت عبدي. إلى الغيبة شكرًا لصيغة إلى غيره وإحمادًا له على فعله (إن له ربًا يغفر الذنب) أي إذ شاء لمن شاء، (ويأخذ به) أي يؤاخذ ويعاقب فاعله إذ شاء لمن شاء وفي رواية حماد ويأخذ بالذنب (غفرت لعبدي) أي ذنبه (ثم مكث) بفتح الكاف وضمها (ما شاء الله) أي من الزمان،
ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فاغفره. فقال: أَعْلم عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لعَبْدِي ثُمَّ مكث ما شاء الله، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخر فاغفره لي فقال: أَعْلم عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لعَبْدِي. فليفعل ما شاء.
ــ
وسقط هذا من رواية حماد (ثم أذنب ذنبًا) آخر، وفي البخاري ثم أصاب ذنبًا أو أذنب ذنبًا، وفي رواية حماد ثم عاد فأذنب (فقال: رب أذنبت ذنبًا) أي: آخر، وفي البخاري أصبت أو أذنبت آخر (فاغفره) لي وللأصيلي فاغفر لي (فقال) ربه:(أعلم عبدي) وللأصيلي علم بحذف الهمزة (إن له ربًا يغفر الذنب) تارة (ويأخذ به) أي يعاقب فاعله عليه أخرى (ثم مكث ما شاء الله) من الزمان (ثم أذنب ذنبًا) آخر، وفي البخاري بعده وربما قال: أصاب ذنبًا (قال) وفي بعض النسخ فقال: (رب أذنبت ذنبًا آخر) أي: من جنسه أو من غير جنسه، وفي البخاري:(رب أصبت أو قال أذنبت آخر) . قال القسطلاني: كذا بالشك في هذه المواضع المذكورة كلها في هذا الحديث من هذا الوجه ورواه حماد عن إسحاق عند مسلم ولم يشك (غفرت لعبدي) وزاد في رواية غير أبي ذر: ((ثلاثًا)) قال القسطلاني: أي: غفرت لعبدي الذنوب الثلاثة. وقال القاري في شرح الحصن: قوله: ثلاثًا ليس ظرفًا لقوله: غفرت كما يتبادر إلى الوهم بل بيان لما وقع من تكرار السؤال والجواب والحديث بين العبد والرب (فليفعل) قال القاري: وفي نسخة يعني من المشكاة وهي كما في المصابيح فليعمل: قلت وهكذا وقع في البخاري وكذا نقله المنذري في الترغيب والجزري في الحصن، وهكذا وقع عند أحمد (ج2: ص296) (ما شاء) أي: من الذنب المعقب بالتوبة الصحيحة، ففيه أن التوبة الصحيحة لا يضر فيها نقص بالذنب ثانيًا بل مضت على صحتها ويتوب من المعصية الثانية. وهكذا قال المنذري: قوله ((فليعمل ما شاء)) معناه إذ كان هذا دأبه يذنب الذنب فيتوب منه ويستغفر فليفعل ما شاء لأنه كلما أذنب كانت توبته واستغفاره كفارة لذنبه فلا يضره. لا أنه يذنب الذنب فيستغفر منه بلسانه من غير إقلاع ثم يعاوده، فإن هذه توبة الكذابين ويدل له قوله ثم أصاب ذنبًا آخر - انتهى. وفي رواية حماد: اعمل ما شئت فقد غفرت لك. قال النووي: معناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك. وقال الطيبي: أي اعمل ما شئت ما دمت تذنب ثم تتوب فإني أغفر لك. وهذه العبارة تستعمل في مقام السخط كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت: 40) وليس هذا المعنى مرادًا ها هنا، وفي مقام التلطف والحفاوة بالمخاطب وإظهار العناية والشفقة به كما في هذا الحديث وفي قوله في حديث حاطب بن أبي بلتعة: لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فقد غفر لكم، وكما تقول لمن تحبه وهو يؤذيك اصنع ما شئت فلست بتارك ذلك، وليس المراد من ذلك الحث على الفعل بل إظهار الحفاوة والتلطف -
..............................................................................................
ــ
انتهى. قلت: قد أشكل على كثير من الناس معنى قوله: فليعمل ما شاء كما أشكل عليهم معنى قوله المذكور في حديث حاطب، فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لأهل بدر وتخييرهم فيما شاءوا منها، وذلك ممتنع، وقد أجيب عن ذلك بوجوه منها ما قال ابن القيم في الفوائد (ص16) : إن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الإسلام وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم، لأنه قد تحقق ذلك فيهم وإنهم مغفور لهم، ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقًا بالمغفرة، فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا صيام ولا حج ولا زكاة ولا جهاد وهذا محال، ومن أوجب الوجبات التوبة بعد الذنب فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة، ونظير هذا قوله في الحديث الآخر: أذنب عبد ذنبًا فقال: أي: رب أذنبت ذنبًا فاغفره لي فغفره له الحديث. وفيه: ((قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء)) فليس في هذا إطلاق وإذن منه سبحانه له في المحرمات والجرائم. وإنما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك إذا أذنب وتاب، واختصاص هذا العبد بهذا لأنه قد علم أنه لا يصر على ذنب وإنه كلما أذنب تاب، حكم يعم كل من كانت حاله حاله لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك، كما قطع به لأهل بدر، وكذلك كل من بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له لم يفهم منه هو ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات بل كان هؤلاء أشد اجتهادًا وحذرًا وخوفًا بعد البشارة منهم قبلها كالعشرة المشهود لهم بالجنة وقد كان الصديق شديد الحذر والمخافة، وكذلك عمر فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت ومقيدة بانتفاء موانعها ولم يفهم أحد منهم من ذلك الإطلاق الإذن فيما شاءوا من الأعمال انتهى. قال النووي: في هذا الحديث أن الذنوب لو تكررت مائة مرة بل ألفًا أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته. وقال القرطبي في المفهم: هذا الحديث يدل على عظم فائدة الاستغفار وكثرة فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، لكن هذا الاستغفار هو الذي يثبت معناه في القلب مقارنًا للسان لتنحل به عقدة الإصرار، ويحصل معه الندم وهو ترجمة للتوبة، ويشهد له حديث خياركم كل مفتن تواب أي الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة لا من قال أستغفر الله بلسانه وقلبه مصر على تلك المعصية، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى استغفار، وفي حديث ابن عباس عند ابن أبي الدنيا مرفوعًا:((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه، ولكن الراجح إن قوله: والمستهزئ إلى آخره موقوف. قال القرطبي: وفائدة هذا الحديث إن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتداءه لأنه
متفق عليه.
2357-
(12) وَعَنْ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ أَنَّ رَجُلاً
ــ
أضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة لكن العودة إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه إن ضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه. وقال ابن بطال: في هذا الحديث إن المصر على المعصية في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له مغلبًا لحسنته التي جاء بها، وهي اعتقاد أن له ربًا خالقًا يعذبه يغفر له واستغفاره إياه على ذلك يدل عليه قوله تعالى:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160) ولا حسنة أعظم من التوحيد، فإن قيل: إن استغفار ربه توبة منه، قلنا ليس الاستغفار أكثر من طلب المغفرة، وقد يطلها المصر والتائب. ولا دلالة في الحديث على أنه تاب مما سأل الغفران عنه، لأن حد التوبة الرجوع عن الذنب، والعزم على أن لا يعود إليه والإقلاع عنه والاستغفار بمجرده لا يفهم منه ذلك، وقال غيره شروط التوبة ثلاثة: الإقلاع، والندم، والعزم على أن لا يعود إليه، والتعبير بالرجوع عن الذنب لا يفيد معنى الندم بل هو إلى معنى الإقلاع أقرب. قال بعضهم: يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوعه منه، فإنه يستلزم الإقلاع عنه، والعزم على عدم العود فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه. ومن ثم جاء الحديث الندم توبة وهو حديث حسن من حديث ابن مسعود أخرجه ابن ماجة وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان من حديث أنس وصححه. ومن شاء مزيد الكلام في ذلك فليرجع إلى مدارج السالكين (ج1: ص88) وإلى باب التوبة من أوائل كتاب الدعوات من الفتح، فإنه قد استوفى البحث في ذلك هناك وقال السبكي في الحلبيات: الاستغفار طلب المغفرة إما باللسان أو بالقلب أو بهما فالأول: فيه نفع لأنه خير من السكوت ولأنه يعتاد قول الخير، والثاني نافع جدًا، والثالث أبلغ منه لكن لا يمحصان الذنب (أي: قطعًا وجزمًا) حتى توجد التوبة منه فإن العاصي المصر يطلب المغفرة لا يستلزم ذلك وجود التوبة إلى أن قال: والذي ذكرته إن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ لكنه غلب عند كثير من الناس إن لفظ استغفر الله معناه التوبة، فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة، ثم قال وذكر بعضهم إن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} (هود: 3) والمشهود إنه لا يشترط - انتهى ملخصًا من فتح الباري. (متفق عليه) . أخرجه البخاري في باب قول الله: يريدون أن يبدلوا كلام الله من كتاب التوحيد ومسلم في التوبة، وأخرجه أيضًا أحمد (ج2: ص296) ، وابن السني (ص117) ، والحاكم (ج3 ص242) ونسبه في الحصن للنسائي أيضًا.
2357-
قوله: (حدث) أي: حكى لأصحابه (إن رجلاً) يحتمل أنه من هذه الأمة أو من غيرهم
قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ وَأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَني لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ أَوْ كَمَا قَالَ. رواه مسلم.
2358-
(13) وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ
ــ
(قال: والله لا يغفر الله لفلان) قاله استكثارًا أو استكبارًا لذنبه أو تعظيمًا لنفسه حين جنى عليه كما يصدر عن بعض جهلة الصوفية قاله القاري: (وأن الله تعالى) بفتح الهمزة أي وحدث أن الله تعالى وبكسرها أي والحال إن الله تعالى (قال: من ذا الذي يتألى علي) بفتح الهمزة وتشديد اللام المفتوحة أي: يتحكم علي ويحلف باسمي من الألية اليمين، يقال: آلى يؤلى إيلاء وائتلى يأتلى إيتلأ وتألى يتألى أي: حلف والاسم الألية (إني لا أغفر لفلان) وهذا استفهام إنكار فلا يجوز لأحد الجزم بالجنة أو النار أو عدم المغفرة إلا لمن ورد فيه النص (فإني قد غفرت لفلان) أي رغمًا لأنفك (وأحبطت عملك) قال المظهر: أي: أبطلت قسمك وجعلت حلفك كاذبًا، لما ورد في حديث آخر من يتأل على الله يكذبه (أي: من حكم وحلف نحو والله ليدخل الله فلانًا النار أبطل قسمه وجعل حلفه كاذبًا) فلا متمسك للمعتزلة إن ذا الكبيرة مع عدم الاستحلال يخلد في النار كالكفر يحبط عمله. وقال النووي: في الحديث دلالة لمذهب أهل السنة في غفران الذنوب بلا توبة إذا شاء الله غفرانها، واحتجت المعتزلة به في إحباط الأعمال بالمعاصي الكبائر. ومذهب أهل السنة إنها لا تحبط إلا بالكفر، ويتأول حبوط عمل هذا على أنه سقطت حسناته في مقابلة سيئاته، فسمي إحباطًا مجازًا، ويحتمل أنه جرى منه أمر آخر أوجب الكفر، ويحتمل أن هذا كان في شرع من كان قبلنا وكان هذا حكمهم - انتهى. وقيل: هو محمول على التغليظ. قال في اللمعات: قوله: ((من ذا الذي يتألى علي)) في هذه العبارة تخويف وتهديد شديد وفي صورة الغيبة دون أن يقول: أنت الذي تتألى، دلالة على التهديد لكل من يتألى من غير خصوصية بالمخاطب، ثم خاطبه بأنك إذا حلفت علي فأعلم إني قد غفرت له على رغم أنفك وأحبطت عملك جزاءً على ما قلت:(أو كما قال) شك الراوي أي: قال الرسول أو غيره ما ذكرته، أو قال: مثل ذلك. وهو تنبيه على النقل بالمعنى لئلا يتوهم نقل اللفظ أيضًا. قال النووي: ينبغي للراوي وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظه فقرأها على الشك أن يقول: عقيبه ((أو كما قال)) وكذا يستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده ((أو كما قال)) أو ((نحو هذا)) كما فعلته الصحابة فمن بعدهم. والله أعلم. وقد روى الدارمي في مسنده في باب من هاب الفتيا مخافة السقط آثارا كثيرة في ذلك فمن شاء فليرجع إليه. (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب.
2358-
قوله: (سيد الاستغفار) قال العزيزي: أي: أفضل أنواع صيغ الاستغفار يعني الأكثر ثوابًا
أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ
ــ
عند الله. قلت: ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله باب أفضل الاستغفار. قال الحافظ: ترجم بالأفضلية، ووقع الحديث بلفظ السيادة فكأنه أشار إلى أن المراد بالسيادة الأفضلية، ومعناها الأكثر نفعًا لمستعمله يعني إن النفع والثواب للمستغفر به لا للاستغفار نفسه والمراد المستغفر بهذا النوع من الاستغفار أكثر ثوابًا من المستغفر بغيره فهو نحو مكة أفضل من المدينة، أي ثواب العابد فيها أفضل من ثواب العابد في المدينة، ووجه كون هذا الاستغفار كذلك مما لا يعرف بالعقل، وإنما هو أمر مفوض إلى الذي قرر الثواب على الأعمال. وقال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعًا لمعاني التوبة كلها. وقد سبق أن التوبة غاية الاعتذار استعير له اسم السيد، وهو في الأصل الرئيس المقدم الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور. قال ابن أبي جمرة: جميع هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى بسيد الاستغفار ففيه الإقرار لله وحده بالإلهية ولنفسه بالعبودية، والاعتراف بأنه الخالق والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه والرجاء بما وعده به والاستعاذة من شر ما جنى به العبد على نفسه وإضافة النعم إلى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه ووفور رغبة في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو فهذا الاستغفار جامع لما يجب على العبد أن يقربه ويعترف ويدعو ويستغفر (أن تقول) بالمثناة الفوقية أي أيها المخاطب خطابًا عامًا أو أيها الراوي. قال القسطلاني: بصيغة المخاطب في الفرع. وقال الحافظ: قوله: أن يقول أي العبد، وثبت في رواية أحمد (ج4: ص122) ، والنسائي: إن سيد الاستغفار أن يقول العبد، وللترمذي من رواية عثمان بن ربيعة عن شداد: ألا أدلك على سيد الاستغفار، وفي حديث جابر عند النسائي: تعلموا سيد الاستغفار. قلت: رواية الترمذي تؤيد كونه بصيغة المخاطب: (لا إله إلا أنت خلقتني) ويروى: لا إله ألا أنت، أنت خلقتني) . قال الحافظ: كذا في نسخة معتمدة بتكرير أنت وسقطت الثانية من معظم الروايات. قيل: قوله: ((خلقتني)) استئناف بيان للتربية (وأنا عبدك) أي مخلوقك ومملوكك وهو حال كقوله: (وأنا على عهدك ووعدك) أي أنا مقيم على الوفاء بعهد الميثاق وأنا موقن بوعدك يوم الحشر والتلاق أو بوعدك بالثواب للمؤمنين على لسان الرسل (ما استطعت) أي قدر استطاعتي، فما مصدرية، والمضاف مقدر. وقال الخطابي: يريد أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك، ويحتمل أن يريد أنا مقيم على ما عاهدت إلي ومتمسك به ومتنجز وعدك في المثوبة والأجر عليه، واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه الاعتراف بالعجز والقصور من كنه الواجب في حقه تعالى. أي لا أقدر أن أعبدك حق عبادتك ولكن أجتهد بقدر طاقتي. وقيل: أراد بالعهد ما أخذه الله على عباده حيث أخرجهم أمثال الذر {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ
أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
ــ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (الأعراف: 172) فأقروا له بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية، وبالوعد ما قال على لسان نبيه إن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة (أبوء لك بنعمتك علي) بضم الموحدة وسكون الواو بعدها همزة ممدودًا أي اعترف بها من قولهم باء بحقه أي أقر به، وأصله البواء ومعناه اللزوم ومنه بوأه الله منزلاً إذا أسكنه فكأنه ألزمه به (وأبوء بذنبي) أي: أعترف به. وقيل: معناه احتمله برغمي لا أستطيع صرفه عني من قولهم باء فلان بذنبه إذا احتمله كرهًا لا يستطيع دفعه عن نفسه. قال القسطلاني: ولأبي ذر عن الكشميهني: وأبوء لك بذنبي، وفي رواية الترمذي: وأعترف بذنوبي. قال الطيبي: واعترف أولاً بأنه أنعم عليه ولم يقيده ليشمل كل النعم، ثم اعترف بالتقصير وإنه لم يقم بأداء شكرها وعده ذنبًا مبالغة في التقصير وهضم النفس – انتهى. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون قوله: وأبوء لك بذنبي اعترافًا بوقوع الذنب مطلقًا ليصح الاستغفار منه لا أنه عد ما قصر فيه من أداء شكر النعم ذنبًا (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له، وقد وقع صريحًا في حديث الإفك الطويل، وفيه كما تقدم قبل أربعة أحاديث ((العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله إليه)) وهذا الاعتراف فيما بينه وبين ربه لا عند الناس، لأنه يحب الستر والكتمان عن الناس إذا اقترف ذنبًا هو يستطيع أن يكتمه (قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (ومن قالها) أي: هذه الكلمات (من النهار) أي: في بعض أجزاءه، وفي رواية النسائي: فإن قالها حين يصبح، وللترمذي: لا يقولها أحدكم حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح أو حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسى (موقنًا بها) . أي: مخلصًا من قلبه مصدقًا بثوابه. وقال القاري: أي: حال كونه معتقدًا لجميع مدلولها إجمالاً أو تفصيلاً (فمات من يومه قبل أن يمسي) أي: قبل الغروب (فهو من أهل الجنة) أي: يموت مؤمنًا فيدخل الجنة أو مع السابقين أو بغير عذاب أو هو بشارة بحسن الخاتمة، وفي رواية الترمذي: إلا وجبت له الجنة، وفي رواية النسائي: دخل الجنة. قال السندي: أي: ابتداء وإلا فكل مؤمن يدخل الجنة بإيمانه، وهذا فضل من الله تعالى. وقال الكرماني: فإن قيل المؤمن وإن لم يقلها فهو من أهل الجنة. قلت: المراد أنه يدخلها ابتداء من غير دخول النار لأن الغالب أن الموقن بحقيقتها المؤمن بمضمونها لا يعصي الله تعالى أو إن الله يعفو عنه ببركة هذا الاستغفار، فإن قلت: فما الحكمة في كونه سيد الاستغفار؟ قلت: هذا وأمثاله من التعبديات والله أعلم بذلك لكن لا شك أن فيه ذكر الله تعالى أكمل الأوصاف وذكر العبد نفسه بأنقص الحالات وهي أقصى غاية التضرع ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقها إلا هو