الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متفق عليه.
2543-
(15) وعن البراء بن عازب قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين. رواه البخاري.
(الفصل الثاني)
2544-
(16) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج،
ــ
وهذا أيضًا يمكن الجمع بإرادة عمرة الجعرانة، فإنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى حنين في شوال، والإحرام بها في ذي القعدة، فكان مجازًا للقرب، وهذا إن صح وحفظ، وإلا فالمعول عليه الثابت. والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الحج، وفي المغازي، ومسلم في الحج واللفظ للبخاري في المغازي، وأخرجه أيضًا أحمد، وأبو داود والترمذي، والدارمي، والبيهقي (ج4: ص345) .
2543-
قوله: (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين) لا ينافي ما تقدم من حديث أنس وغيره كما سبق. قال القسطلاني: هذا لا يدل على نفي غيره، لأن مفهوم العدد لا اعتبار له. وقيل: إن البراء لم يعد الحديبية لأنها لم تتم، والتي مع حجته لكونها دخلت في أفعال الحج، وكلهن أي الأربعة في القعدة في أربعة أعوام على ما هو الحق، كما ثبت عن عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم: لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة، ولا ينافيه كون عمرته التي مع حجته في ذي الحجة، لأن مبدأها كان في ذي القعدة، لأنهم خرجوا لخمس بقين من ذي القعدة، كما في الصحيح، وكان إحرامه بها في وادي العقيق قبل أن يدخل ذو الحجة، وفعلها كان في ذي الحجة، فصح طريقا الإثبات والنفي. (رواه البخاري) من طريق يوسف بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن البراء، وروى أحمد (ج4: ص297) من طريق زكريا عن أبي إسحاق عن البراء قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج. واعتمر قبل أن يحج فقالت عائشة: لقد علم أنه اعتمر أربع عمر بعمرته التي حج فيها. وليس في رواية البراء هذه ما يدل نصًا على عدد عمره، ولا ما يدل على وقت عمرته من أي شهر. وروى أيضًا أحمد (ج4: ص298) ، والترمذي من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وليس فيه ما يدل على عدد عمره في ذي القعدة هل اعتمر فيه مرة أو مرتين أو ثلاثًا، لكن الظاهر أن المراد بيان عمرة الحديبية وعمرة القضاء كما وقع في رواية أحمد أيضًا (ج4: ص298) من طريق حجين عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء. والله أعلم.
2544-
قوله: (يا أيها الناس) خطاب عام يخرج منه غير المكلف (كتب عليكم الحج) أي: فرض بقوله تعالى:
فقام الأقرع بن حابس، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلتها نعم لوجبت، ولو وجبت
لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا
ــ
{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (3: 97)(فقام الأقرع بن حابس) بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي المجاشعي الدارمي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وشهد فتح مكة وحنينًا والطائف وهو من المؤلفة قلوبهم وقد حسن إسلامه. قال ابن إسحاق: قدم الأقرع بن حابس على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عطارد بن حاجب بن زرارة، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم وغيرهم من أشراف تميم بعد فتح مكة وقد كان الأقرع وعيينة بن حصن الفزاري شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنينًا والطائف، فلما قدم وفد تميم كانا معه، فلما قدم وفد بني تميم المدينة ودخلوا المسجد نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته: أن اخرج علينا يا محمد، فآذى ذلك من صياحهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك، ونزل فيهم القرآن:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (49: 4) والأقرع بن حابس هو القائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مدحي زين وإن ذمي شين)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلكم الله سبحانه. قال بن دريد: اسم الأقرع فراس، ولقب الأقرع لقرع كان به في رأسه، والقرع انحصاص الشعر. وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام، وشهد مع خالد بن الوليد حرب أهل العراق وكان على مقدمته. واستعمله عبد الله بن عامر على جيش سيره إلى خراسان فأصيب هو والجيش بالجوزجان وذلك في زمن عثمان (أفي كل عام؟) أي أكتب في كل عام قياسًا على الصوم، والزكاة فإن الأول: عبادة بدنية. والثاني: طاعة مالية والحج مركب منهما (لو قلتها) أي في جواب كلمة الأقرع (نعم) أي بالوحي أو الاجتهاد، قاله القاري. وقال ابن حجر: قوله: ((لو قلتها نعم)) إنه بدل من الضمير الراجع لما علم مما قبله وهو حجة كل عام. قلت: الحديث رواه أحمد ثمان مرات وليس في موضع منها: ((لو قلتها نعم)) فلفظه في الموضع الأول والثاني (ج1: ص255، 290، 291) : ((لو قلتها لوجبت)) أي بدون لفظة نعم. وهكذا ذكره البغوي في المصابيح، والمجد في المنتقى، وكذا وقع في رواية الدارمي، والبيهقي، وفي الموضع السابع (ج1: ص371) ، والثامن (ج1: ص372) : ((لو قلت: نعم)) أي بدون ضمير المؤنث وهكذا في رواية النسائي والحاكم والدارقطني، وفي الموضع الثالث (ج1: ص292) ، والخامس (ج1: ص323) ، والسادس (ج1: ص325) : ((لو قلت: كل عام لكان)) وفي الموضع الرابع (ج1: ص301) : ((لو قلت: نعم كل عام لكان كل عام)) فالظاهر أن ما وقع في نسخ المشكاة ((لو قلتها نعم)) أي بالجمع بين ضمير المؤنث وقوله نعم خطأ من الناسخ، والعلم عند الله تعالى (لوجبت) أي الحجة في كل عام (ولو وجبت) أي بالفرض والتقدير ابتداء أو بناء على الجواب (لم تعملوا بها) أي لكمال المشقة فيها (ولم تستطيعوا) قال القاري: أي ولم تطيقوا لها ولم تقدروا عليها فهو إما عطف تفسير والخطاب إجمالي للأمة أو
والحج مرة فمن زاد فتطوع. رواه أحمد، والنسائي، والدارمي.
2545-
(17) وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم
يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا،
ــ
للحاضرين والباقون على التبعية، ويؤيده أنه في رواية:((ولم تستطيعوا أن تعملوا بها)) أي كلكم من حيث المجموع، وإما عطف تغاير وعدم الاستطاعة مختص بمن يكون بعيدًا عن الحرم وهذه الاستطاعة أريد بها القدرة على الفعل، والاستطاعة في الآية إنما هي الزاد والراحلة فلا تنافي بينهما - انتهى. قلت: وقع في رواية أحمد (ج1: ص291) : ((لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها)) أي بواو العطف وكذا عند البيهقي، وفي أخرى لأحمد (ج1: ص255) : ((لم تعملوا بها أو لم تستطيعوا أن تعملوا بها)) أي بحرف ((أو)) وهكذا عند الحاكم (ج2: ص293)(والحج) وفي بعض النسخ الحج أي بدون الواو وهكذا وقع عند أحمد (ج1: ص291) ، والدارمي، والحاكم، والبيهقي، وكذا ذكره المجد في المنتقى والبغوي في المصابيح، والزيلعي، وابن كثير (مرة) مبتدأ وخبر أي وجوب الحج مرة واحدة (فمن زاد فتطوع) كذا في جميع النسخ وهكذا في المصابيح، والسنن للبيهقي، والمستدرك للحاكم (ج2: ص293) ، وفي المسند:((فهو تطوع)) وهكذا عند أبي داود أي من زاد على مرة فحجته أو فزيادته تطوع. (رواه أحمد) في مسنده ثمان مرات مطولاً ومختصرًا (والنسائي، والدارمي) وأخرجه أيضًا أبو داود، وابن ماجة، والدارقطني (ص255، 280)، والحاكم (ج1: ص441، 470، وج2: ص293) ، وابن الجارود (ص147) ، والبيهقي (ج4 ص326)، والطيالسي (ص348) وهو حديث صحيح. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.
2545-
قوله: (من ملك زادًا وراحلة) أي ولو بالإجازة و ((الزاد)) ما يتخذ من الطعام للسفر والجمع أزودة وأزواد و ((الراحلة)) من الإبل ما كان منها صالحًا لأن يرحل للذكر والأنثى، والتاء للمبالغة أي: لا للتأنيث، وقيل للنقل من الوصفية إلى الاسمية والجمع رواحل، وفي معنى الراحلة ما حدث من المراكب البرية والبحرية والهوائية الجوية (تبلغه) بتشديد اللام وتخفيفها أي: توصله (إلى بيت الله) ترك ذكر نفقة العود للظهور (ولم يحج) بفتح الجيم المشددة ويجوز ضمها وكسرها (فلا عليه) أي: فلا بأس ولا مبالاة ولا تفاوت عليه (أن يموت) أي: في أن يموت أو بين أن يموت (يهوديًا أو نصرانيًا) في الكفر إن اعتقد عدم الوجوب، وفي العصيان إن اعتقد الوجوب، وقيل: هذا من باب التغليظ الشديد والمبالغة في الوعيد لمن اعتقد وجوبه وتساهل في الأداء وهو قادر عليه، والأظهر أن وجه تخصيص الطائفتين بالذكر كونهما من أهل الكتاب غير عاملين به فشبه بهما من ترك الحج حيث لم يعمل بكتاب الله تعالى ونبذه وراء ظهره قاله القاري. وقال الطيبي: قوله: ((فلا عليه)) إلخ. أي: لا يتفاوت عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا، والمعنى أن وفاته في
وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} .
ــ
هذه الحالة ووفاته على اليهودية والنصرانية سواء فيما فعله من كفران نعمة الله تعالى وترك ما أمر به والانهماك في معصيته وهو من باب المبالغة والتشديد والإيذان لعظمة شأن الحج، ونظيره قوله تعالى:{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (3: 97) فإنه وضع فيه ((ومن كفر)) موضع ((ومن لم يحج)) تعظيمًا للحج وتغليظًا على تاركه - انتهى. وقال الشيخ ولي الله الدهلوي في حجة الله: ترك ركن من أركان الإسلام يشبه الخروج عن الملة، وإنما شبه تارك الحج باليهودي والنصراني، وتارك الصلاة بالمشرك لأن اليهود والنصارى يصلون ولا يحجون، ومشركوا العرب يحجون ولا يصلون - انتهى. وقال المحب الطبري: الإجماع منعقد على أن هذا ليس على ظاهره، وأن من مات من المسلمين ولم يحج وكان قادرًا عليه لا يكون تركه الحج مخرجًا له عن الإسلام، وهو محمول على المستحل لذلك فيكفر به، أو أن فعله أشبه فعل اليهودي والنصراني (وذلك أن الله) أي ما ذكر من شرط الزاد والراحلة والوعيد على ترك هذه العبادة لأن الله (تبارك) تكاثر خير وبره (وتعالى) عظمته وغناه (يقول) أي في كتابه:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ} أي واجب عليهم {حِجُّ الْبَيْتِ} بفتح الحاء وكسرها لغتان وقراءتان سبعيتان في مصدر حج بمعنى قصد {مَنِ اسْتَطَاعَ} منهم {إِلَيْهِ} أي إلى حج البيت الحرام لأنه المحدث عنه وإن كان يحتمل رجوع الضمير للبيت لكن الأول أولى، والناس عام مخصوص بالمستطيع قد خصص ببدل البعض وهو قوله:{مَنِ اسْتَطَاعَ} لأنه من المخصصات عند الأصوليين، فالحج فرض على المكلف إليه سبيلاً، وهو الذي يقدر على الوصول إليه بأي مركوب يناسبه وزاد يتزوده ولهذا أتى بهذا اللفظ الذي يمكن تطبيقه على جميع المركوبات الحادثة والتي ستحدث وهذا من آيات القرآن حيث كانت أحكامه صالحة لكل زمان وكل حال ولا يمكن الصلاح التام بدونها {سَبِيلاً} أي طريقًا وفسر صلى الله عليه وسلم استطاعة الطريق بالزاد والراحلة، رواه عنه غير واحد من الصحابة وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث ابن عمر. قال الشوكاني: اللام في قوله: {لِلّهِ} هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام ثم زاد هذا المعنى تأكيدًا حرف {عَلَى} فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب كما إذا قال القائل: لفلان على كذا. فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدًا لحقه وتعظيمًا لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس، لا يخرج منه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد. وقوله:{مَنِ اسْتَطَاعَ} في محل جر على أنه بدل بعض من الناس، وبه قال أكثر النحويين -انتهى. والحديث مع الآية صريح في تشديد الوعيد على من ملك زادًا وراحلة ولم يحج وقد استدل بظاهره من ذهب إلى وجوب الحج على الفور وقال: لو كان على التراخي لما كان للتوعد معنى وأجاب عنه من ذهب إلى أن الحج على التراخي بأنه لا حجة فيه إما على تأويل أنه محمول على المستحل لذلك فيكفر به فظاهر، وإما على تأويل أن فعله أشبه فعل اليهودي والنصراني فغايته أن يدل على تأثيمه، ونحن نقول
رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول
والحارث يضعف في الحديث
ــ
بذلك وهو أصح قولي الشافعي، والتأخير إنما جاز بشرط سلامة العاقبة. وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث ابن عباس الآتي (رواه الترمذي) وأخرجه أيضًا ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب كلهم من طريق هلال أبي هاشم الخراساني عن أبي إسحاق الهمداني عن الحارث عن علي (وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله) الراوي للحديث عن أبي إسحاق (مجهول) وسئل إبراهيم الحربي عنه فقال من هلال؟ وقال بن عدي: يعرف بهذا الحديث، وليس الحديث بمحفوظ، وقال العقيلي: لا يتابع عليه، وذكر الذهبي حديث علي هذا في ترجمة هلال بن عبد الله المذكور وقال: قال البخاري: منكر الحديث. وقال الترمذي: مجهول، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، وقال الحافظ في التقريب في ترجمته متروك، وقد روي عن علي موقوفًا ولم يرو مرفوعًا من طريق أحسن من هذا، وقال المنذري: طريق أبي أمامة على ما فيها أصلح من هذه. (والحارث يضعف في الحديث) الحارث هذا هو بن عبد الله الأعور الهمداني الحوتي الكوفي وقد تقدم ترجمته في (ج3: ص67) . اعلم أنه ورد في ترهيب من قدر على الحج فلم يحج أحاديث منها حديث علي وقد عرفت حاله ومنها حديث أبي أمامة وهو ثالث أحاديث الفصل الثالث وقد أخرجه الدارمي، وسعيد بن منصور في السنن، وأحمد، وأبو يعلى، والبيهقي من طريق عن شريك عن ليث بن أبي سليم عن ابن سابط عن أبي أمامة بلفظ:((من لم يحسبه مرض أو حاجة ظاهرة، أو سلطان جائز، فلم يحج فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا)) لفظ البيهقي، ولفظ أحمد:((من كان ذا يسار فمات ولم يحج)) الحديث، وليث ضعيف وشريك سيئ الحفظ وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله، رواه أحمد في كتاب الإيمان له، عن وكيع عن سفيان عن ليث عن بن سابط، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة)) فذكره مرسلاً، وكذا ذكره ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن ليث مرسلاً، وأرده أبو يعلي من طريق أخرى عن شريك مخالفة للإسناد الأول، وراويها عن شريك عمار بن مطرف ضعيف. وقال الذهبي في الميزان بعد أن ذكر طريق أبي يعلى هذه في ترجمة عمار بن مطر الرهاوي المذكور الراوي عن شريك: هذا منكر عن شريك. ومنها حديث أبي هريرة رفعه: ((من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير وجع حابس أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت أي الميتتين شاء إما يهوديًا أو نصرانيًا)) رواه ابن عدي من حديث عبد الرحمن القطامي عن أبي المهزم وهما متروكان عن أبي هريرة. قال الحافظ في التلخيص (ص203) بعد ذكر هذه الروايات: وللحديث طريق صحيحة إلا أنها موقوفة رواها سعيد بن منصور والبيهقي (ج4: ص334) عن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى أهل الأمصار فينظروا كل
2546-
(18) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا صرورة في الإِسلام.
ــ
من كان له جدة ولم يحتج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. لفظ سعيد، ولفظ البيهقي: أن عمر قال: ((ليمت يهوديًا أو نصرانيًا لها ثلاث مرات، رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة وخليت سبيله)) قال الحافظ: وإذا انضم هذا الموقف إلى مرسل بن سابط علم أن لهذا الحديث أصلاً ومحله على من استحل الترك وتبين بذلك خطأ من ادعى (يريد به ابن الجوزي فإنه ذكره في الموضوعات) أنه موضوع - انتهى. وقال البيهقي بعد رواية حديث أبي أمامة: وهذا وإن كان إسناده غير قوي فله شاهد من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الشوكاني في النيل بعد أن ساق طرق هذه الأحاديث: وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا وبذلك تتبين مجازفة ابن الجوزي في عده لهذه الأحاديث من الموضوعات فإن مجموع تلك الطرق لا يقصر عن كون الحديث حسنًا لغيره وهو محتج به عند الجمهور ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني ((لا يصح في الباب شيء)) لأن نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن - انتهى. وقد استدل بهذه الأحاديث على وجوب الحج على الفور لأنها تصرح أنه لا يمنعه من الإثم إلا مانع يمنعه من المبادرة إلى الحج كالمرض أو الحاجة الظاهرة أو السلطان الجائز فلو كان تراخيه لغير العذر المذكور لكان قد مات وهو آثم بالتأخير فدل على أن الوجوب الحج على الفور وأنه لا يجوز التأخير فيه إلا لعذر.
2546-
قوله (لا صرورة في الإسلام) الصرورة بفتح الصاد وضم الراء المهملتين وإسكان الواو وفتح الراء على وزن الضرورة من الصر بفتح الضاد وهو الحبس والمنع. قال اللحياني: رجل صرورة لا يقال إلا بالهاء. وقال ابن الجني: رجل صرورة، امرأة صرورة ليست الهاء لتأنيث الموصوف بما هي فيه وإنما لحقت لإعلام السامع أن هذا الموصوف بما هي فيه قد بلغ الغاية والنهاية، فجعل تأنيث الصفة أمارة لما أريد من تأنيث الغاية والمبالغة - انتهى. قال في المصباح المنير: الصرورة بالفتح الذي لم يحج، وهذه الكلمة من النوادر التي وصف بها المذكر والمؤنث مثل ملوكة وفروقة، ويقال أيضًا: صروري على النسبة وصارورة ورجل صرورة لم يأت النساء. سمي الأول بذلك لصره على نفقته لأنه لم يخرجها في الحج، وسمي الثاني بذلك لصره على ماء ظهره وإمساكه - انتهى. قلت: قد فسر الصرورة في الحديث بثلاثة معان، الأول: أنه الذي لم يحج قط وهو نفي معناه النهي. أي لا يترك الحج في الإسلام من استطاعه، فمن ترك الحج مع الاستطاعة فقد منع عن نفسه الخير. وقال القاري: أي من لم يحج بعد أن يكون عليه لا يكون في الإسلام. قال الطيبي: فدل ظاهره على أن من يستطيع الحج ولم يحج ليس بمسلم كامل. وقال القاضي: ظاهر الكلام يدل على أن تارك الحج ليس بمسلم، والمراد منه أنه لا ينبغي أن يكون في الإسلام أحد يستطيع الحج ولا يحج فعبر عنه بهذه العبارة للتشديد والتغليظ - انتهى. وقيل: معناه لا يطلق على من لم يحج صرورة في الإسلام، كان يطلق عليه في الجاهلية
رواه أبو داود.
ــ
يدل عليه ما روى البيهقي (ج5: ص165) ، والطبراني في الكبير عن ابن مسعود، قال: لا يقولن أحدكم إني صرورة فإن المسلم ليس بصرورة، وما روى الدارقطني (ص286)، والبيهقي (ج5: ص164، 165) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمسلم صرورة. الثاني: أنه الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مثل رهبانية النصارى فنهى عن ذلك، قال الزرقاني: ويسمى من لم ينزوج صرورة أيضًا لأنه صر الماء في ظهره وتبتل على مذهب الرهابنية - انتهى. وقال القاري: وقيل المراد بالصرورة التبتل وترك النكاح، أي ليس في الإسلام بل هو في الرهبانية، وأصل الكلمة من الصر وهو الحبس. الثالث: أن المراد من قتل في الحرم قتل، ولا يقبل قوله: إني صرورة ما حججت ولا عرفت حرمة الحرم كان الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثًا فلجأ إلى الكعبة لم يهج، فكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم، قيل هو صرورة فلا تهجه، قال الخطابي في المعالم (ج2: ص278) : الصرورة تفسر تفسيرين: أحدهما: أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى، ومنه قول النابغة:
لو أنها عرضت لأشمط راهب
…
عبد الإله صرورة متلبد
والوجه الآخر أن الصرورة هو: الرجل الذي لم يحج، فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج حتى لا يكون صرورة في الإسلام - انتهى. قال ابن الأثير (ج1: ص281) : حديث ((لا صرورة في الإسلام)) قال أبو عبيد: هو في الحديث التبتل وترك النكاح، أي ليس ينبغي لأحد أن يقول: لا أتزوج لأنه ليس من أخلاق المؤمنين وهو فعل النصارى. والصرورة أيضًا: الذي لم يحج قط، وأصله من الصر الحبس والمنع، وقيل: أراد من قتل في الحرم قتل، إلى آخر ما ذكرنا في بيان المعنى الثالث، والظاهر أن أبا داود، والحاكم، والبيهقي رجحوا أن الصرورة في الحديث هو الذي لم يحج فأخرجوا الحديث في أبواب الحج (رواه أبو داود)، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص312) ، والحاكم (ج1: ص448) ، والبيهقي (ج5: ص164) كلهم من طريق ابن جريج عن عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس وقد سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على هذا الحديث في شرح المسند (ج4: ص303) : إسناده صحيح عمر بن عطاء (راوي الحديث عن عكرمة) هو عمر بن عطاء بن أبي الخوار بضم الخاء وتخفيف الواو وآخره راء، ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما، وأعل بعضهم هذا الحديث وضعفه بأن عمر بن عطاء فيه هو عمر بن عطاء بن وراز بفتح الواو وتشديد الراء وآخره زاي وهو ضعيف لقول الإمام أحمد: كل شيء روى ابن جريج عن عمر بن عطاء عن عكرمة فهو ابن وراز، وكل شيء روى ابن جريج عن عمر بن عطاء عن ابن عباس فهو ابن أبي الخوار، كان كبيرًا، قيل له: أيروي ابن أبي الخوار عن عكرمة؟ قال لا. وكذا جاء نحو هذا عن ابن معين. قال: عمر بن عطاء الذي يروي عنه ابن جريج
2547-
(19) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أراد الحج فليعجل.
ــ
يحدث عن عكرمة ليس هو بشيء، وهو ابن وراز، وهم يضعفونه، كل شيء عن عكرمة فهو ابن وراز وعمر بن عطاء بن أبي الخوار ثقة. وأما ابن حبان فقد جمعهما رجلاً واحدًا فوهم. ذكره في الثقات باسم ((عمر بن عطاء بن وراز بن أبي الخوار)) وأما أن ابن أبي الخوار كبير يروي عن ابن عباس، فلا يمنع أن يروي عن عكرمة الذي من طبقته، وقد بين أبو داود أن هذا الرواي هو ابن أبي الخوار، فروى الحديث من طريق أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان عن ابن جريج عن عمر بن عطاء يعني ابن أبي الخوار عن عكرمة. وأخطأ المنذري خطأ شديدًا فقال:((في إسناده عمر بن عطاء وهو ابن أبي الخوار وقد ضعفه غير واحد من الأئمة)) . وقد تبع في هذا الخطأ أبا دواد فقد قال الآجري: سألت أبا دواد عن عمر ابن عطاء الذي روى عنه ابن جرير. فقال: هذا عمر بن عطاء بن أبي الخوار بلغني عن يحيى أنه ضعفه. قال الحافظ: كذا قال، والمحفوظ عن يحيى أنه وثقه وضعف الذي بعده. يعني ابن وراز. انظر ترجمتيهما في التهذيب:(ج7: ص483، 484) والحديث رواه الحاكم أيضًا، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وفي الباب عن ابن أخي جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا صرورة في الإسلام. ذكره الحافظ في المطالب العالية (ج1: ص312) وعزاه لأبي بكر، وأحمد بن منيع.
2547-
قوله (من أراد الحج) أي قدر على أدائه، لأن الإرادة مبدأ الفعل والفعل مسبوق بالقدرة، فأطلق أحد سببي الفعل على الآخر، والعلاقة الملابسة لأن معنى قوله:(فليعجل) فليغتنم الفرصة إذا وجد الاستطاعة من القوة والزاد والراحلة، والمراد قبل عروض مانع، وقوله:((فليعجل)) بتشديد الجيم من التعجيل كذا في جميع النسخ، وكذا وقع في المصابيح، والذي في السنن لأبي داود، والدارمي فليتعجل أي من التعجل، وهكذا ذكره ابن كثير في التفسير، والسيوطي في الجامع الصغير والمجد في المنتقى، والجزري في جامع الأصول (ج3: ص383) ، وكذا وقع عند أحمد (ج1: ص225) ، والحاكم (ج1: ص448) ، والبيهقي (ج4: ص339، 340) وفي بعض نسخ الدارمي ((فليستعجل)) أي من الاستعجال. قال الطيبي: التفعيل الاستفعال غير عزيز، ومنه التعجل بمعنى الاستعجال، والتأخر بمعنى الاستئخار - انتهى. وزاد في رواية أحمد (ج1: ص214: 323) ، وابن ماجة، والطحاوي، والبيهقي (ج4: ص340) : ((فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة)) (أي التي تمنعه عن أداء النسك) ومعنى ((يمرض المريض)) أي من قدر له المرض يمرض فيمنعه ذلك عن الحج، قال الحفني: أي قد يطرأ المرض على الصحيح الذي يؤل أمره إلى كونه مريضًا ففيه مجاز الأول، وقال الزمخشري: هذا من قبيل المجاز باعتبار الأول إذا المريض لا يمرض بل الصحيح، فسمي المشارف للمرض والضلال مريضًا وضالة، كما سمي المشارف للموت ميتًا، ومنه {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً} (71:
..............................................................................................
ــ
27) أي صائرًا إلى الفجور والكفر - انتهى. والقصد الحث على الاهتمام بتعجيل الحج قبل العوارض والموانع، وفيه دليل على أن الحج واجب على الفور، وقد اختلف العلماء هل الحج واجب على الفور أم على التراخي؟ فممن قال: إنه واجب على الفور الإمام أحمد، وأبو يوسف، وجمهور أصحاب أبي حنيفة، والمزني من أصحاب الشافعي. قال النووي: ولا نص في ذلك لأبي حنيفة، وكان الكرخي يقول: هو مذهب أبي حنيفة. وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي: إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه، فإن ابن شجاع روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج قال يحج ولا يتزوج، لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده، وهذا يدل على أنه على الفور - انتهى. وقال القاري: الأصح عندنا أن الحج واجب على الفور، وهو قول أبي يوسف، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه فذكر رواية ابن شجاع عنه، وأما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران كلاهما شهره بعض علماء المالكية أحدهما على الفور، والثاني: أنه على التراخي. ومحل الخلاف المذكور ما لم يحس الفوات بسبب من أسباب الفوات، فإن خشيه وجب عندهم فورًا اتفاقًا. وممن قال إن وجوبه على التراخي: الشافعي وأصحابه. قال النووي وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس. قال القاري: وقال محمد: وهو رواية عن أبي حنيفة، وقول الشافعي: إنه على التراخي إلا أن يظن فواته لو أخره لأن الحج وقته العمر نظرًا إلى ظاهر الحال في بقاء الإنسان فكان كالصلاة في وقتها يجوز تأخيره إلى آخر العمر كما يجوز تأخيرها إلى آخر وقتها، إلا أن جواز تأخيره مشروط عند محمد بأن لا يفوت يعني لو مات ولم يحج أثم. ولأبي يوسف: إن الحج في وقت معين من السنة والموت فيها ليس بنادر فيضيق عليه للاحتياط لا لانقطاع التوسع بالكلية فلو حج في العام الثاني كان مؤديًا بإتفاقهما، ولو مات قبل العام الثاني كان آثم بإتفاقهما، وثمرة الخلاف بينهما إن ما تظهر في حق تفسيق المؤخر، ورد شهادته عند من يقول بالفور وعدم ذلك عند من يقول بالتراخي كذا حققه الشمني - انتهى. واحتج من قال إنه على التراخي بأدلة منها أنهم قالوا: إن الحج فرض عام ست من الهجرة، وقيل سنة تسع ولا خلاف أن آية {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} الآية، نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع من الحديبية من إحصار المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة وذلك في ذي القعدة سنة ست وإذا كان الحج فرض عام ست وكان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا عام عشر فذلك دليل على أنه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج بعد نزول الآية. قالوا: ولاسيما إنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة في رمضان واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ثم رجع إلى المدينة ولم يحج. قالوا: واستخلف عتاب بن أسيد فأقام الناس الحج سنة ثمان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه ولم يحجوا. قالوا: ثم غزا غزوة تبوك في عام تسع وانصرف عنها قبل الحج فبعث أبا بكر رضي الله عنه فأقام الناس الحج سنة تسع ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه
..............................................................................................
ــ
قادرون على الحج، غير مشتغلين بقتال ولا غيره ولم يحجوا، ثم حج صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر حجة الوداع، قالوا: فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور بل على التراخي، قال المحب الطبري: وما يتكلف من عذر في حقه صلى الله عليه وسلم وإن كان خلاف الأصل والظاهر فهو معدوم في حقهم، ولو وجب عليهم على الفور لبينه لهم صلى الله عليه وسلم، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، والعذر بصد المشركين قد زال بالفتح سنة ثمان، وما قيل من أن التأخير كان لأن لا يرى منكرًا من حج المشركين وطواف العراة فلذلك دليل على الجواز، إذ لو لم يجز التأخير لما كان هذا عذرًا في إسقاط واجب تعين، ثم ينتقض بمن تخلف من الصحابة وليسوا بأفضل ممن بعثه، ومنها ما جاء في حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي أخرجه مسلم في أول كتاب الإيمان، وروى البخاري أصله، وفيه ((زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال صدق)) وقدوم ضمام بن ثعلبة على النبي صلى الله عليه وسلم كان سنة خمس من الهجرة، قاله محمد بن حبيب وآخرون. وقد صرح في هذا الحديث بوجوب الحج فتأخيره صلى الله عليه وسلم الحج إلى عام عشر دليل على أنه على التراخي لا على الفور، ومنها أنه إن أخر الحج من سنة إلى أخرى أو إلى سنين ثم فعله فإنه يسمى مؤديًا لحج لا قاضيًا له بإجماع المسلمين، قالوا: ولو حرم التأخير لكان قضاء لا أداء. ومنها ما هو مقرر في أصول الشافعية وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرائن لا يقتضي الفور، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر، ومنها أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة، قالوا: فهّي على التراخي ويقاس الحج عليها بجامع أن كلاً منهما واجب ليس له وقت معين، ومنها أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونها على التراخي بجامع أن كليهما واجب ليس له وقت معين، قالوا: ولكن تثبتت آثار أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة، واحتج من ذهب إلى أنه على الفور بأدلة أيضًا، منها آيات من كتاب الله تعالى يفهم منها ذلك وهي على قسمين، قسم منها فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامره جل وعلا، والثناء على من فعل ذلك. كقوله تعالى:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (3: 133) قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ} (57: 21) الآية، فقوله:{وَسَارِعُواْ} و {سَابِقُوا} فيه الأمر بالمسارعة والمسابقة إلى مغفرته وجنته جل وعلا وذلك بالمبادرة والمسابقة إلى امتثال أوامره، ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتاهما على الفور لا التراخي. وكقوله:{فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (2: 148 - 5: 48) الآية. ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال، وصيغ الأمر في قوله:{وَسَارِعُواْ} وقوله: {سَابِقُوا} وقوله: {فَاسْتَبِقُواْ} تدل على الوجوب، لأن الصحيح المقرر في الأصول أن صيغة ((افعل)) إذا تجردت عن القرائن اقتضت الوجوب، وذلك بدل على أن قوله:{سَابِقُوا} وقوله: {وَسَارِعُواْ} يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامر الله فورًا. ومن الآيات التي فيها الثناء
..............................................................................................
ــ
على المبادرين إلى امتثال أوامر ربهم قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (21: 90) الآية. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (23: 61) والقسم الثاني من الآيات يدل على توبيخ من لم يبادر وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يتمثل لأنه قد يكون اقترب أجله وهو لا يدري، فقد أمر الله تعالى خلقه أن ينظروا في غرائب صنعه وعجائبه كخلقه السماوات والأرض ونحو ذلك في آيات من كتابه كقوله:{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (10: 101) الآية. وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} (50: 6) الآية. ثم ذكر في آية أخرى ما يدل على أن ذلك النظر مع لزومه يجب معه النظر في اقتراب الأجل، فقد يقرب أجله ويضيع عليه أجر الامتثال بمعاجلة الموت، وذلك في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} (7: 184) إذًا المعنى: أو لم ينتظروا في أنه عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، فيضيع عليهم الأجر بعدم المبادرة قبل الموت. وفي الآية دليل واضح على أن الإنسان يجب عليه أن يبادر إلى امتثال الأمر، خشية أن يعالجه الموت قبل ذلك، ومنها أحاديث جاءت دالة على وجوب الحج على الفور كحديث ابن عباس (الذي نحن في شرحه) وهو حديث حسن وسيأتي تخريجه، وكحديث ابن عباس مرفوعًا: تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له، أخرجه أحمد (ج1: ص314) بسند ضعيف ووجه الدلالة من هذين الحديثين على وجوب الحج على الفور ظاهر. وكحديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل. قال عكرمة: سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق. أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي. وسيأتي في باب الإحصار وفوت الحج. ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:((وعليه الحج من قابل)) لأنه لو كان على التراخي لم يعين العام القابل، وهو دليل على أن الوجوب على الفور، ومن الأحاديث الدالة على ذلك أيضًا ما تقدم من حديث علي، وأبي أمامة وأبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وقد سبق بيان وجه الدلالة من هذه الأحاديث في شرح حديث علي، ومنها أن الله أمر به وأن جماعة من أهل الأصول قالوا: إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور أما الشرع فقد قدمنا الآيات القرآنية الدالة على المبادرة فورًا لامتثال أوامر الله كقوله: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية. وكقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية. وأما اللغة فإن أهل اللسان العربي مطبقون على أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء فلم يفعل فأدبه، فليس للعبد أن يقول له: صيغة افعل في قولك: ((اسقني ماء)) تدل على التراخي، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر، بل يقولون: إن الصيغة ألزمتك فورًا، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والترخي، وأما العقل فإنا لو قلنا: إن وجوب الحج على التراخي فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن
..............................................................................................
ــ
يكون ذلك التراخي له غاية معينة ينتهي عندها وإما لا، والقسم الأول ممنوع، لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه دون غيره من الأزمنة، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه، إن قلنا: إنه ليس على الفور، والحاصل أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع. والقسم الثاني هو أن تراخيه ليس له غاية يقتضي عدم وجوبه، لأن ما جاز تركه جوازًا لم تعين له غاية ينتهي إليها فإن تركه جائز إلى غير غاية، وهذا يقتضي عدم وجوبه، والمفروض وجوبه. فإن قيل: غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه. فالجواب أن البقاء إلى زمن متأخر ليس لأحد أن يظنه، لأن الموت يأتي بغتة فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجاءة، وقد قدمنا قوله تعالى في ذلك:{وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} ولا ينتهي إلى حالة يتقين الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات، ولاسيما العبادات الشاقة كالحج، والإنسان طويل الأمل يهرم ويشب أمله. وتحديد وجوبه بستين سنة تحديد لا دليل عليه، فهذه جملة أدلة القائلين بأن وجوب الحج على الفور، ومنعوا أدلة المخالفين، قالوا: إن قولكم إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة المتقدمة، فإن قدومه سنة خمس، وقد ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الحج، وأن قوله تعالى:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} الآية. نزلت عام ست في عمرة الحديبية، فدلت على أن الحج مفروض عام ست وأنه صلى الله عليه وسلم أخره بعد فرضه إلى عام عشر، كل ذلك مردود، بل الحج إنما فرض عام تسع، قالوا: والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي كان سنة تسع. وقال الحافظ في الإصابة في ترجمة ضمام بن ثعلبة المذكور ما نصه: وزعم الواقدي أن قدومه كان سنة خمس، وفيه نظر. وذكر ابن هشام عن أبي عبيد أن قدومه كان سنة تسع، وهذا عندي أرجح، إلخ. وانظر ترجيح الحافظ لكون قدومه عام تسع. وذكر ابن كثير قدوم ضمام المذكور في حوادث سنة تسع مع أنه ذكر قول من قال: إن قدومه كان قبل عام خمس، هذا وجه ردهم للاحتجاج بقصة ضمام، وأما وجه ردهم للاحتجاج بآية {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} فهو أنها لم يذكر فيها إلا وجوب الإتمام بعد الشروع، فلا دليل فيها على ابتداء الوجوب، وقد أجمع أهل العلم على من أحرم بحج أو عمرة وجب عليه الإتمام، ووجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب. قال ابن القيم في زاد المعاد نصه: وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية فليس فيها فريضة الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء. فإن قيل فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة؟ قيل: لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحهم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة، ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
..............................................................................................
ــ
بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (9: 28) فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية، ونزل هذه الآيات، والمناداة بها إنما كان عام تسع، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة في موسم الحج، وأردفه بعلي رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السف والله أعلم - انتهى من زاد المعاد. فتحصل أن آية:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} لم تدل على وجوب الحج ابتداء، وإنما دلت على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه كما هو ظاهر اللفظ، ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة، والحلاف في وجوبها معروف وسيأتي إن شاء الله إيضاحه، بل الذي أجمعوا عليه وهو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها، كما هو ظاهر الآية، وأن قصة ضمام بن ثعلبة كانت عام تسع كما رجحه الحافظ وغيره، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة، وأن الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيم في كلامه المذكور آنفًا، لأن آية {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} هي الآية التي فرض بها الحج، وهي من صدر سورة آل عمران، وقد نزل عام الوفود وفيه وفد نجران، وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع كما تقدم قريبًا، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء، وهو الصواب إن شاء الله تعالى. وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج عام فتح مكة، لأنه انصراف من مكة والحج قريب ولم يحج، لأنه لم يفرض، فإن قيل: سلمنا تسليمًا جدليًا أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة مع تمكنه منه، وقدرته عليه أن الحج لم يكن مفروضًا في ذلك الوقت وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع، وهو صلى الله عليه وسلم لم يحج عام تسع، بل أخر حجه إلى عام عشر، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره بعد فرضه إلى عام عشر فالجواب والله تعالى أعلم: أن عام تسع لم يتمكن فيه النبي وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت وهم عراة، وقد بين الله تعالى في كتابه أن منعهم من قربان المسجد الحرام إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع، وذلك في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وعامهم هذا هو عام تسع، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع، ولذا أرسل عليًا رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا عريان، فلو بادر صلى الله عليه وسلم إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى رؤيته المشركين يطوفون بالبيت وهم عراة، وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك، ولاسيما في حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم، فأول وقت أمكنه فيه الحج صافيًا من الموانع والعوائق بعد وجوبه عام عشر، وقد بادر بالحج فيه. وأجابوا عن قولهم:((إنه لو أخره من سنة إلى أخرى، أو إلى سنين، ثم فعله بعد ذلك فإنه يسمى مؤديًا لا قاضيًا بالإجماع، ولو حرم التأخير لكان قضاء)) بأن القضاء لا يكون إلا في العبادة المؤقتة بوقت معين، ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في الأصول، والحج لم يؤقت بزمن معين، والعمر كله وقت له، وذلك لا ينافي وجوب بالمبادرة خوفًا من طرو العوائق أو نزول الموت قبل الأداء كما تقدم إيضاحه، وأجابوا عن قولهم: ((إن من تمكن
..............................................................................................
ــ
من أداء الحج ثم أخره ثم فعله لا ترد شهادته فيما بين فعله وتأخيره ولو كان التأخير حرامًا لردت شهادته لارتكابه ما لا يجوز)) بأنه ما كل من ارتكب ما لا يجوز ترد شهادته بل لا ترد إلى بما يؤدي إلى الفسق وهنا قد يمنع من الحكم بتفسيقه مراعاة الخلاف. وقول من قال: ((إنه لم يرتكب حرامًا)) وشبهت الأدلة التي أقاموها على ذلك وأجاب القائلون بالتراخي عن الاحتجاج بأن الأمر يقتضي الفور من وجهين: أحدهما: أن أكثر الشافعية قالوا: إن الأمر المطلق المجرد عن القرائن لا يقتضي الفور بل هو على التراخي، هذا هو المعروف في كتب الشافعية في الأصول، ونقله القاضي أبو الطيب في تعليقه في هذه المسألة عن أكثر الشافعية، والثاني: أنه يقتضي الفور، وهنا قرينة ودليل يصرفه إلى التراخي، وهو ما تقدم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه أنهم أخروا الحج إلى عام عشر، وأما حديث ((من أراد الحج فليتعجل)) فجوابه من وجهين: أحدهما: أنه حجة لنا لأنه فوض فعله إلى إرادته واختياره، ولو كان على الفور لم يفوض تعجيله إلى اختياره. والثاني: أنه ندب جمعًا بين الروايتين. قال المحب الطبري: الأمر في حديث ابن عباس ((تعجلوا الحج)) وفي حديث أبي هريرة ((حجوا قبل أن لا تحجوا)) أخرجه الدارقطني، محمول على الندب، ويؤيد ذلك قوله:((من أراد الحج فليتعجل)) فقوله: ((فليتعجل)) محمول على الندب لا محالة، ولا يجوز حمله على الوجوب لأن الخطاب لا يخلوا إما أن يكون لمن وجب عليه الحج أو لمن لم يجب عليه، فإن كان الثاني فظاهر ما ذكرناه، وإن كان الأول وهو الأظهر بدليل الحديث الآخر يعني الفريضة كان فيه دلالة على أن الخطاب الأول ما اقتضى الفورية، وإلا لزم التكرار لا لفائدة مع قبحه من حيث ربطه بالإرادة، فإن من قال لعبده: افعل كذا الساعة على وجه الإلزام، ثم قال: إن أردت أن تفعل كذا فافعله الساعة. عد هذا مناقضًا للأول وكل من قال إنه على التراخي حمل هذا على الاستحباب ولا يلزم على ذلك تناقض، فإن من قال لعبده: افعل كذا في جميع النهار. ثم قال: إن أردت فعل هذا الواجب عليك على وجه الأولوية فافعله الساعة. كان هذا الكلام جاريًا على نهج الاستقامة ولا يعد مناقضًا للأول، فكان حمل الكلام الفصيح عليه أولى – انتهى. قالوا: وأما الجواب عن حديث ((فليمت إن شاء يهوديًا)) فمن أوجه: أحدها: أنه ضعيف، والثاني: أن الذم لمن أخره إلى الموت. ونحن نوافق على تحريم تأخيره إلى الموت، والذي نقول بجوازه هو التأخير بحيث يفعل قبل الموت. الثالث: أنه محمول على من تركه معتقدًا عدم وجوبه مع الاستطاعة فهذا كافر، ويؤيد هذا التأويل أنه قال:((فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا)) وظاهره أنه يموت كافر ولا يكون ذلك إلا إذا اعتقد عدم وجوبه مع الاستدامة، وإلا فقد أجمعت الأمة على أن من تمكن من الحج فلم يحج ومات لا يحكم بكفره بل هو عاص، فوجب تأويل الحديث لو صح، هكذا ذكر الشنقيطي في أضواء البيان أدلة الفريقين وأجوبتهم. والراحج عندنا هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه لقوة أدلته، قال الشنقيطي: أظهر القولين عندي وألقيهما بعظمة خالق السماوات والأرض وهو أن وجوب أوامره جل وعلى كالحج على الفور على التراخي لما قدمنا من النصوص الدالة على الأمر بالمبادرة، وللخوف من مباغتة الموت كقوله:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية، وما قدمنا معها من الآيات،
رواه أبو داود، والدارمي.
2548-
(20) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما
ينفيان الفقر والذنوب
ــ
وكقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} ولما قدمنا من أن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور، وقد بينا أوجه الجواب عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر، والعلم عند الله تعالى. (رواه أبو داود، والدارمي)، وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص225) ، والحاكم (ج1: ص448) ، والبيهقي (ج4: ص339، 340) ، والدولابي في الكنى (ج2: ص12) كلهم من طريق أبي معاوية عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن مهران أبي صفوان عن ابن عباس، وهذا إسناد جيد قد سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرج أيضًا أحمد (ج1: ص214: 323، 355) ، وابن ماجة، والطحاوي، والبيهقي (ج4: ص340) من طريق أبي إسرائيل الملائي عن فضيل بن عمرو عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس أو عن الفضل بن عباس أو عن أحدهما عن صاحبه بلفظ: ((من أراد أن يحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة)) وفي رواية لأحمد (ج1: ص314) عن ابن عباس: ((تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي إسرائيل الملائي، وهو إسماعيل الكوفي، وللتردد بين ابن عباس وأخيه الفضل، فإن سعيد بن جبير سمع عبد الله بن عباس، ولكنه لم يدرك الفضل.
2548-
قوله (تابعوا بين الحج والعمرة) أي أوقعوا المتابعة بينهما بأن تجعلوا كلاً منهما تابعًا للآخر. قال السندي: أي اجعلوا أحدهما تابعًا للآخر واقعًا على عقبه، أي إذا حججتم فاعتمروا، وإذا اعتمرتم فحجوا فإنهما متتابعان. وقال الحفني: أي ائتوا بهما متتابعين من غير طول فصل جدًا، وليس المراد بالمتابعة تعاقبهما من غير فاصل بل المراد كون الثاني بعد الأول بدون فاصل كبير بحيث ينسب للأول عرفًا، وقال المحب الطبري: يجوز أن يراد به التتابع المشار إليه في قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (4: 92 - 58: 4) فيأتي بكل واحد من النسكين عقيب الآخر بحيث لا يتخلل بينهما زمان يصح إيقاع الثاني فيه يعني يأتي بكل منهما عقب الآخر بلا فصل، وهو الظاهر من لفظ المتابعة، ويحتمل أن يراد به إتباع أحدهما الآخر ولو تخلل بينهما زمان بحيث يظهر مع ذلك الاهتمام بهما، ويطلق عليه عرفًا أنه ردفه وتبعه وهذا الاحتمال أظهر إذ القصد الاهتمام بهما وعدم الإهمال وذلك يحصل بما ذكرناه وسواء تقدمت العمرة أو تأخرت لأن اللفظ يصدق على الحالين - انتهى. (فإنهما) أي الحج والاعتمار (ينفيان) أي كل منهما (الفقر) أي يزيلانه وهو يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد والفقر الباطن بحصول غنى القلب (والذنوب) أي يمحوانها، وفي
كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة. رواه
الترمذي، والنسائي.
2549-
(21) ورواه أحمد، وابن ماجة عن عمر إلى قوله:((خبث الحديد)) .
ــ
حديث عامر بن ربيعة عند أحمد (ج3: ص446)((فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب)) وفي أخرى له (ج3: ص447) وللطبراني في الكبير ((فإن متابعة بينهما تزيد في العمر والرزق وتنفيان الفقر والذنوب)) وحديث عامر يدل على أن الله تعالى أعلم نبيه بأنه يترتب على تتابعهما ذلك لأمر علمه الشارع فذلك خصوصية للتتابع لا تحصل بدونه، قيل المراد بالذنوب الصغائر ولكن يأباه قوله:(كما ينفي الكِير) بكسر الكاف وهو ما ينفخ فيه الحداد من الزق لاشتعال النار للتصفية، وأما الموضع الذي يوقد فيه الفحم من حانوت الحداد فهو الكُور، بضم الكاف، وقيل: بالعكس، وقيل: لا فرق بينهما (خبث الحديد والذهب والفضة) أي وسخها، والخبث: بفتحتين الوسخ والردئ الخبيث، مثل متابعتهما في إزالة الذنوب بإزالة النار الخبث، لأن الإنسان مركوز في جبلته القوة الشهوية والغضبية محتاج لرياضة تزيلها والحج جامع لأنواع الرياضات من إنفاق المال وجهد النفس بالجوع والظمأ والسهر واقتحام المهالك ومفارقة الوطن ومهاجرة الإخوان والخلان وغير ذلك. والحديث قد استدل به على وجوب العمرة فإن ظاهره التسوية بين أصل الحج والعمرة، وفيه أن هذا استدلال بمجرد الاقتران، ومجرد اقتران العمرة بالحج لا يكون دليلاً على وجوبها لما تقرر في الأصول من ضعف دلالة الاقتران لاسيما وقد عارضها ما ورد من الأدلة القاضية بعدم الوجوب وأما الأمر بالمتابعة فهو مصروف عن معناه الحقيقي بما سلف، وسيأتي الكلام في هذه المسألة في شرح حديث أبي رزين العقيلي (وليس للحجة المبرورة) قيل: المراد بها الحج المقبول المقابل بالبر وهو الثواب ومن علامات القبول أن يرجع خيرًا مما كان ولا يعاود المعاصي. وقيل: هي التي لا يخالطها شيء من الإثم، مأخوذ من البر وهو الطاعة، ورجحه النووي. وقيل: هي التي لا رياء فيها وقيل: هي التي لا يعقبها معصية، وهما داخلان فيما قبلهما وقال القرطبي: الأقوال في تفسير الحج المبرور متقاربة المعنى وحاصلها أنه الحج الذي وفيت أحكامه فوقع موافقًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل (ثواب إلا الجنة) بالرفع والنصب أي لا يقتصر لصاحبها من الجزاء على تكفير ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة مع السابقين، وقوله:((إلا الجنة)) هو للترمذي فقط، وفي السنن للنسائي:((دون الجنة)) وكذا وقع في المسند وصحيح ابن حبان كما في الموارد (رواه الترمذي) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب (والنسائي) وأخرجه أيضًا أحمد (ج1: ص387) ، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما.
2549-
قوله: (رواه أحمد)(ج1: ص25، وج3: ص447)(وابن ماجة عن عمر) إلخ، وأخرجه أيضًا
2550-
(22) وعن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما يوجب الحج؟
قال: الزاد والراحلة.
ــ
ابن أبي خثيمة في تاريخه، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن، وهو: حديث ضعيف، لأن مداره على عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف لكن المتن صحيح من حديث عبد الله بن مسعود، وفي الباب عن عامر بن ربيعة، أخرجه أحمد، والطبراني في الكبير، وفيه أيضًا عاصم بن عبيد الله، وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير، والدارقطني في الأفراد، ورمز السيوطي لضعفه، وقال الهيثمي بعد عزوه للطبراني: وفيه حجاج بن نصير، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وعن جابر عند البزار، وعن ابن عباس عند الطبراني في الأوسط، ذكرهما الهيثمي مع الكلام فيهما.
2550-
قوله: (ما يوجب الحج؟) أي: ما شرط وجوب الحج؟ (قال: الزاد والراحلة) يعني أن الحج واجب على من وجدهما ذهابًا وإيابًا. واقتصر من بين سائر الشروط عليه لأنه الأصل والأهم المقدم قاله القاري. اعلم: أن الحج إنما يجب بخمس شروط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم، فأما الكافر فإنه غير مخاطب بفروع الدين خطابًا يلزمه أداء ولا يوجب قضاء، وأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن. وأما العبد فلا يجب عليه لأنه عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة فتضيع حقوق سيده المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد، ولما روى ابن عباس مرفوعًا: أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام. أخرجه ابن خزيمة، والإسماعيلي في مسند الأعمش، والحاكم، والبيهقي، وابن حزم وصححه. والخطيب في التاريخ. رواه بعضهم موقوفًا على ابن عباس ولا يضر ذلك فإن رواية المرفوع قوية، فالحديث لا يقل عن درجة الاحتجاج. ووجه الدلالة منه على أن الحرية شرط في وجوب الحج أنه لو حج وهو مملوك ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام، فلو كان واجبًا عليه في حال كونه مملوكًا أجزأه عن حجة الإسلام كما هو ظاهر وأما غير المستطيع فإنه لا يجب عليه لقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (2: 286) وقال سبحانه وتعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فخص المستطيع بالوجوب فيدل على نفيه عن غيره. قال ابن قدامة: وهذه الشروط الخمسة تنقسم أقسامًا ثلاثة منها: ما هو شرط للوجوب والصحة وهو: الإسلام، والعقل. فلم يجب على كافر ولا مجنون ولا تصح منهما، لأنهما ليسا من أهل العبادات، ومنها: ما هو شرط للوجوب والإجزاء. وهو: البلوغ، والحرية. وليس بشرط للصحة فلو حج الصبي والعبد صح حجهما ولم يجزئهما عن حجة الإسلام، ومنها: ما هو شرط للوجوب فقط وهو الاستطاعة، فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة فحج كان حجه صحيحًا مجزئًا، كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام من يسقط
..............................................................................................
ــ
عنه أجزأه. قال: واختلفت الرواية أي عن أحمد في شرطين وهما تخلية الطريق وهو: أن لا يكون في الطريق مانع من: عدو ونحوه وإمكان المسير، وهو: أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه، فروى أنهما من شرائط الوجوب فلا يجب الحج بدونهما، لأن الله تعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع، ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج فكان شرطًا كالزاد والراحلة، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وروى أنهما ليسا من شرائط الوجوب وإنما يشترطان للزوم السعي فلو كملت هذه الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين حج عنه بعد موته، وإن أعسر قبل وجودهما بقى في ذمته وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يذكرهما، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة. قال الترمذي: هذا حديث حسن - انتهى. وقال الشنقيطي بعد ذكر الشرائط الخمسة: أما العقل فكونه شرطًا في وجوب كل تكليف واضح لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال، وأما اشتراط البلوغ فواضح، لأن الصبي مرفوع عنه القلم حتى يحتلم، فالبلوغ والعقل كلاهما شرط وجوب، وأما الإسلام فالظاهر أنه على القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة فهو شرط صحة لا شرط وجوب، وعلى أنهم غير مخاطبين بها فهو شرط وجوب، والأصح خطاب الكفار بفروع الشريعة كما أوضحنا أدلته في غير هذا الموضع فيكون الإسلام شرط صحة في حقهم، ومعلوم أنه على أنه شرط وجوب فهو شرط صحة أيضًا، لأن بعض شرط الوجوب يكون شرطًا في الصحة أيضًا، كالوقت للصلاة، فإنه شرط لوجوبها وصحتها أيضًا، وقد يكون شرط الوجوب ليس شرطًا في الصحة كالبلوغ والحرية، فإن الصبي لا يجب عليه الحج مع أنه يصح منه لو فعله، وكذلك العبد إلا أنه لا يجزئ عن حجة الإسلام إلا إذا كان بعد البلوغ وبعد الحرية، وأما الحرية فهي شرط وجوب فلا يجب الحج على العبد، واستدل العلماء على عدم وجوب الحج على العبد بأمرين: الأول إجماع أهل العلم على ذلك ولكنه إذا حج صح حجه ولم يجزئه عن حجة الإسلام فإن عتق بعد ذلك فعليه حجة الإسلام، قال النووي في شرح المهذب: أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج لأن منافعه مستحقة لسيده، فليس هو مستطيعًا ويصح منه الحج بإذن سيده وبغير إذنه بلا خلاف عندنا. قال القاضي أبو الطيب: وبه قال الفقهاء: كافة. وقال داود: لا يصح بغير إذنه. والأمر الثاني حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام، ثم ذكر تخريجه عن التلخيص للحافظ وبسط الكلام في تقويته ثم قال: وأما الاستطاعة فقد نص تعالى على اشتراطها في قوله: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ومعنى الاستطاعة في اللغة العربية معروف، وتفسير الاستطاعة في الآية اختلف فيه العلماء فالاستطاعة في مشهور مذهب مالك الذي به الفتوى هي إمكان الوصول بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية مع الأمن على النفس والمال ولا يشترط عندهم الزاد والراحلة، بل يجب الحج عندهم على القادر على المشي إن كانت له صنعة يحصل منها قوته في الطريق: كالجمال، والخراز، والنجار، ومن أشبههم.
..............................................................................................
ــ
واشترط بعض المالكية في الصنعة المذكورة أن لا تكون مرزية به. واعلم أن المالكية اختلفوا في الفقير الذي عادته سؤال الناس في بلده وعادة الناس إعطاؤه، وذلك السؤال هو الذي منه عيشته إذا علم أنه إن خرج حاجًا وسأل أعطاه الناس ما يعيش به كما كانوا يعطونه في بلده، هل سؤاله الناس وإعطاؤهم إياه يكون بسببه مستطيعًا لقدرته على الزاد بذلك فيجب عليه الحج بذلك أو لا يجب عليه بذلك؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجب عليه به الحج ولا يعد استطاعة، وذهب أكثر المالكية إلى أن الفقير الذي عادته السؤال في بلده وعادة الناس إعطاؤه إذا كانت عادتهم إعطاؤه في سفر الحج كما كانوا يعطونه في بلده أنه يعد بذلك مستطيعًا، وأن تحصيله زاده بذلك السؤال يعد استطاعة. قال الشنقيطي: والذي يظهر لي رجحانه بالدليل من هذين القولين في هذه المسألة هو: القول الأول، وهو أن الحج لا يجب على من يعيش في طريقه بتكفف الناس، وأن سؤال الناس لا يعد استطاعة. ومن الأدلة الدالة على ذلك عموم قوله جل وعلا:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} (9: 92) الآية. وقد قدمنا مرارًا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب فقد صرح تعالى في هذه الآية برفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون، ولا شك أن الذي يتكفف الناس لشدة فقره داخل في عموم {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} وقد صرح تعالى بنفي الحرج عنهم، فيلزم من ذلك نفي الحرج عنه في وجوب الحج وهو واضح، ولكن كثيرًا من متأخري علماء المالكية خصصوا هذه الآية بمن ليس عادته السؤال في بلده قالوا: فلم تتناول محل النزاع. قال الشنقيطي: ظاهر الآية العموم في جميع {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} ، فتخصيصها بمن ليس عادته السؤال بدون دليل من كتاب أو سنة لا يصح ولا يعول عليه، وقد تقرر في الأصول أنه لا يمكن تخصيص العام إلا بدليل يجب الرجوع إليه سواء كان من المخصصات المتصلة أو المنفصلة، ومما يؤيد هذا في الجملة ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس. قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا المدينة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى:{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (2: 197) قال الحافظ في الفتح في الكلام على هذا الحديث: قال المهلب: في هذا الحديث من الفقه أن ترك السؤال من التقوى، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافًا، فإن قوله:{فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} أي: تزودوا واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في ذلك - انتهى. قال الشنقيطي: وفيه دليل ظاهر على حرمة خروج الإنسان حاجًا بِلا زاد ليسأل الناس، وظاهرها العموم في كل حاج يسأل الناس فقيرًا كان أو غنيًا كانت عادته السؤال في بلده أولاً وحمل النصوص على ظواهرها يجب إلا بدليل يجب الرجوع إليه، ومما يؤيد هذا أن الذين مدحهم الله في كتابه بتركهم سؤال الناس كانوا من أفقر الفقراء كما هو معلوم، وقد صرح تعالى بأنهم فقراء وأشار لشدة فقرهم وذلك في قوله تعالى:{لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} (أي بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم){لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (2: 273) الآية. فصرح بأنهم فقراء، وأثنى عليهم بالتعفف وعدم السؤال. قال: فالآية الكريمة
..............................................................................................
ــ
تدل بمنطوقها على الثناء على الفقير الصابر المتعفف عن مسألة الناس وتدل بمفهومها على ذم سؤال الناس، والأحاديث الواردة في ذم السؤال مطلقًا كثيرة جدًا، وبذلك كله تعلم أن سؤال الناس ليس استطاعة على ركن من أركان الإسلام وأن قول بعض المالكية ((أنه لا يعد استطاعة)) هو الصواب، وهو قول جمهور أهل العلم، وممن ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، ونقله ابن المنذر عن الحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأحمد، وإسحاق، وبه قال بعض أصحاب مالك. قال البغوي: وهو قول العلماء - انتهى. والاستطاعة عند أبي حنيفة الزاد والراحلة. فلو كان يقدر على المشي وعادته سؤال الناس لم يجب عليه الحج عنده، وحاصل مذهب الحنيفة أن مقدار ما يتعلق به وجوب الحج ملك مال يبلغه إلى مكة ذاهبًا وراجعًا، راكبًا في جميع السفر لا ماشيًا بنفقة متوسطة، فاضلاً عن: مسكنه، وخادمه، وفرسه، وسلاحه، وآلات حرفته، وثيابه، وأثاثه، ونفقة من عليه نفقته، وكسوته، وقضاء ديونه ولو مؤجلة إلى حين عوده. ولا يشترط نفقة لما بعد إيابه لا سنة ولا شهرًا ولا يومًا. والاستطاعة في مذهب الشافعي: الزاد والراحلة بشرط أن يجدهما بثمن المثل، فإن لم يجدهما إلا بأكثر من ثمن المثل سقط عنه وجوب الحج، ويشترط عند الشافعية في الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه فاضلاً عما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم مدة ذهابه ورجوعه وفاضلاً عن مسكن وخادم يحتاج إليهما وعن قضاء دين يكون عليه حالاً كان أو مؤجلاً. ويشترط عندهم أيضًا أن يكون صحيحًا لا مريضًا، ولا ينبغي أن يختلف في أن المرض القوي الذي يشق معه السفر مشقة فاضحة مسقط لوجوب الحج. ويشترط عندهم أيضًا أن يكون الطريق آمنًا من غير خفارة، والخفارة مثلثة الخاء: هي المال الذي يؤخذ على الحاج، ويشترط عندهم أيضًا أن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء، فإن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة وكان قادرًا على المشي على رجليه ولم يجد راحلة أو وجدها بأكثر من ثمن المثل أو أجرة المثل لم يجب عليه الحج عندهم، ولا يعد قدرته على المشي استطاعة عندهم لحديث: الزاد والراحلة في تفسير الاستطاعة، وإن لم يجد ما يصرفه في الزاد والماء ولكنه كسوب ذو صنعة يكتسب بصنعته ما يكفيه ففي ذلك عندهم تفصيل، وهو أنه إن كان لا يكتسب في اليوم إلا كفاية يوم واحد لم يجب عليه الحج، لأنه ينقطع عن الكسب في أيام الحج، وإن كان يكتسب في اليوم كفاية أيام لزمه الحج. وقال إمام الحرمين: وفيه احتمال يعني أنه يحتمل عدم وجوب الحج بذلك مطلقًا، فإن القدرة على الكسب يوم العيد لا تجعل كملك الصاع في وجوب الفطرة. والاستطاعة عند أحمد هي الزاد والراحلة. قال ابن قدامة في المغني: والاستطاعة المشترطة ملك الزاد والراحلة وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والشافعي، وإسحاق. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. وقال عكرمة: هي الصحة. قال ابن قدامة: ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر، فأما القريب الذي يمكنه المشي إلى مكة وبينه وبينها مسافة دون القصر فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي إليها فلزمه، وإن كان ممن لا يمكنه المشي (كشيخ كبير) اعتبر وجود الحمولة في حقه لأنه عاجز
..............................................................................................
ــ
عن المشي فهو كالبعيد، وأما الزاد فلا بد منه، قربت المسافة أو بعدت مع الحاجة إليه. فإن لم يجد زادًا ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج. والزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة، إلى أن قال: وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما بشراء أو كراء لذهابه ورجوعه. وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله، ويعتبر أن يكون هذا فاضلاً عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مئونتهم في مضيه ورجوعه، لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد، وقد روى عبد لله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت. رواه أبو داود، ويعتبر أن يكون فاضلاً عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم، وما لا بد منه، وأن يكون فاضلاً عن قضاء دينه، لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد، وسواء كان الدين لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى - كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها - وهل يعتبر في الاستطاعة أن يكون له إذا رجع من حجه ما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام أولاً يعتبر ذلك؟ بل يكفي لوجوب الحج أن يكون عنده من النفقة ما يقوم بكفايته وكفاية عياله على الدوام أو لا يعتبر ذلك؟ بل يكفي لوجوب الحج أن يكون عنده من النفقة ما يقوم بكفايته وكفاية عياله مدة ذهابه للحج ورجوعه فقط وفاقًا: للحنفية، والمالكية، والشافعية. وهما روايتان عند الحنابلة، والمقدم عندهم اعتبارًا هي الرواية الأولى يعني: أن يكون فاضلاً عن مئونته ومؤنت عياله على الدوام حتى بعد رجوعه من عقار أو بضاعة يتجر فيها أو صناعة ونحوها. وقال ابن جاسر في مفيد الأنام: والرواية الثانية أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى، لأن القول بأن الإنسان لا يكون مستطيعًا للحج إلا إذا كان عنده من النفقة بعد رجوعه من الحج ما يكفيه ويكفي عياله على الدوام أي دوام حياته يقضي بأن لا يكون غالب الأغنياء مستطيعين للحج لأنه قل من يثق من الأغنياء أن عنده من المال ما يكفيه ويكفي عياله على الدوام، هذا ما ظهر لي والله أعلم. قال ابن قدامة: ومن له عقار يحتاج إليه لسكناه أو سكنى عياله أو يحتاج إلى أجرته لنفقة نفسه أو عياله، أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها فلم يكفيهم، أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج، وإن كان من ذلك شيء فاضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحج به لزمه، وإن كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج، وإن كانت مما لا يحتاج إليها أو كان له بكتاب نسختان يستغني بأحدهما باع ما لا يحتاج إليه، فإن كان له دين على ملئ باذل له يكفيه للحج لزمه لأنه قادر، وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه لم يلزمه – انتهى. وإذا علمت أقوال أهل العلم ففي معنى الاستطاعة المذكورة في قوله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وعرفت مذاهبهم في ذلك فاعلم أن الأكثرين الذين فسروا الاستطاعة بالزاد والراحلة احتجوا لذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير الاستطاعة في الآية بالزاد والراحلة، وقد روى عنه ذلك غير واحد من الصحابة، منهم ابن عمر رضي الله عنه، أخرج حديثه الترمذي وغيره وهو الذي نحن في شرحه، وهو حديث ضعيف كما ستعرف، ومنهم ابن عباس رواه عنه ابن ماجة والدارقطني، وهو حديث صالح للاحتجاج، ومنهم أنس روى حديثه
..............................................................................................
ــ
الحاكم والدارقطني، وهو حديث صحيح، صححه الحاكم، وأقره الذهبي. ومنهم عائشة، رواه الدارقطني، والبيهقي في السنن، والعقيلي في الضعفاء وأعله بعتاب بن أعين. ومنهم علي بن أبي طالب، وجابر، وابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، أخرج أحاديثهم الدارقطني أيضًا، وكلها ضعيفة ورواه سعيد بن منصور في سننه والبيهقي عن الحسن مرسلاً وسنده صحيح، ومن شاء الوقوف على تفصيل الكلام في هذه الأحاديث رجع إلى ((أضواء البيان)) للشنقيطي فإنه قد بسط الكلام فيها أخذًا عن ((نصب الراية)) وغيره. ثم قال: قال غير واحد: إن هذا الحديث لا يثبت مسندًا وأنه ليس له طريق صحيحة إلا الطريق التي أرسلها الحسن. قال الشنقطي: والذي يظهر لي - والله أعلم - أن حديث الزاد والراحلة المذكور ثابت لا يقل عند درجة الاحتجاج لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم في المستدرك عن أنس قال: كلتاهما صحيحة الإسناد، وأقر تصحيحهما الحافظ الذهبي ولم يتعقبه بشيء، والدعوى على سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة في روايتهما الحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها غلط، وأن الصحيح عن قتادة عن الحسن مرسلاً دعوى لا مستند لها، بل هي تغليط وتوهيم للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل، والصحيح عند المحققين من الأصوليين والمحدثين أن الحديث إذا جاء من طريق صحيحة وجاء من طرق أخرى غير صحيحة فلا تكون الطرق علة في الصحيحة إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ، بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين، فرواية سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة الحديث المذكورة عن قتادة عن أنس مرفوعًا لم يخالفوا فيها غيرهم بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ فادعاء الغلط عليهما بلا دليل غلط. وقول النووي في شرح المهذب: وروى الحاكم حديث أنس وقال: هو صحيح، ولكن الحاكم متساهل، والله أعلم - يجاب عنه: بأنا لو سلمنا أن الحاكم متساهل في التصحيح، لا يلزم من ذلك أنه لا يقبل له تصحيح مطلقًا، ورب تصحيح للحاكم مطابق للواقع في نفس الأمر، وتصحيحه لحديث أنس المذكور لم يتساهل فيه، ولذا لم يبد النووي وجهًا لتساهله فيه، ولم يتكلم في أحد من رواته بل هو تصحيح مطابق. فإن قيل: متابعة حماد بن سلمة لسعيد بن أبي عروبة المذكورة راويها عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني وهو متروك لا يحتج بحديثه، كما جزم به غير واحد من العلماء بالرجال، وقال فيه ابن حجر في التقريب: متروك فقد تساهل الحاكم في قوله: إن هذه الطريق على شرط مسلم مع أن في إسنادها أبا قتادة المذكور. فالجواب أن أبا قتادة المذكور وإن ضعفه الأكثرون فقد وثقه الإمام أحمد وأثنى عليه وناهيك بتوثيق الإمام أحمد وثنائه، وذكر ابن حجر والذهبي أن عبد الله بن أحمد قال لأبيه: إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة المذكور كان يكذب، فعظم ذلك عنده جدًا وأثنى عليه، وقال: إنه يتحرى الصدق. قال: ولقد رأيته يشبه أصحاب الحديث. وقال أحمد في موضع آخر: ما به بأس، رجل صالح، يشبه أهل النسك ربما أخطأ. وفي
..............................................................................................
ــ
إحدى الروايتين عن ابن معين أنه قال: أبو قتادة الحراني ثقة، ذكرها عنه ابن حجر والذهبي. وقول من قال: لعله كبر فاختلط، تخمين وظن لا يثبت به اختلاطه، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث: أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملاً، والتجريح لا يقبل إلا مفصلاً، مع أن رواية سعيد بن أبي عروبة عن أنس ليس في أحد من رواتها كلام. ومما يؤيد ذلك موافقة الحافظ النقادة الذهبي للحاكم على تصحيح متابعة حماد، مع أن حديث أنس الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن، ولاسيما على قول من يقول: إن مراسيله صحاح إذا روتها عنه الثقات كابن المديني وغيره، ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد الاحتجاج بالمراسيل ويؤيده أيضًا الأحاديث المتعددة التي ذكرنا، وإن كانت ضعافًا لأنها تقوي غيرها ولاسيما حديث ابن عباس، فإنا قد ذكرنا سنده وبينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج. وقال الشوكاني في نيل الأوطار: ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج ومما يؤيد الحديث المذكور أن أكثر أهل العلم على العمل به كما قدمنا عن أبي عيسى الترمذي أنه قال في حديث ((الزاد والراحلة)) : والعمل عليه عند أهل العلم، وقد بينا أنه قول الأكثرين منهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد، فالحاصل أن حديث الزاد والراحلة لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج. ثم قال الشنقيطي: الذي يظهر لي - والله أعلم - أن حديث الزاد والراحلة وإن كان صالحًا لاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة لا يلزمه الحج إن كان عاجزًا عن تحصيل الراحلة، بل يلزمه الحج لأنه لا يستطيع إليه سبيلاً كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منه قوته في سفر الحج يحب عليه الحج، لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل فإن قيل: كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه دون الراحلة مع اعترافكم بقبول تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ((السبيل)) بالزاد والراحلة؟ وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل المذكور في الآية فالجواب من وجهين الأول: أن الظاهر المتبادر أنه صلى الله عليه وسلم فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة، لأن الغالب أن أكثر الحجاج آفاقيون قادمون من بلاد بعيدة، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات الطويلة وعدم إمكان سفره بلا زاد، ففسر صلى الله عليه وسلم الآية بالأغلب، والقاعدة المقررة في الأصول: أن النص إذا كان جاريًا على الأمر الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في حجره قائلين: إن قوله تعالى: {اللَاّتِي فِي حُجُورِكُم} (4: 27) جرى على العادة، فلا مفهوم مخالفة له، فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه، إما لعدم طول المسافة وإما لقوة ذلك الشخص على المشي، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها قوته في سفره، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى، والعلم عند الله تعالى، والوجه الثاني: أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب والحاج الماشي على رجليه، وقدم الماشي على الراكب، وذلك في قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ
..............................................................................................
ــ
ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (22: 28) انتهى. وقال ابن تيمية: في شرح العمدة بعد سرده لما ورد في ذلك: فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة موقوفة تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة مع علم النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيرًا من الناس يقدرون على المشي، وأيضًا فإن الله قال في الحج:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} إما أن يعني القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة أو قدرًا زائدًا على ذلك، فإن كان المعتبر هو الأول لم يحتج إلى هذا التقييد كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدر زائد في ذلك وليس هو إلا المال، وأيضًا فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسافة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد، ودليل الأصل قوله:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} (9: 92) الآية - انتهى. قلت: الراجح عندنا أن العاجز عن تحصيل الراحلة أو ما يقوم مقامها القادر على المشي على رجليه لا يلزمه الحج لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم استطاعة السبيل المذكورة في الآية بالزاد والراحلة، وهو يدل على اعتبار الراحلة للزوم الحج، وأما حمل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة فلا دليل عليه، والاستشهاد لذلك بقوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَاّتِي فِي حُجُورِكُم} فيه نظر لأن ها هنا قرينة تدل على أن الخطاب في هذه الآية خرج مخرج الغالب، وهي ما ورد في رواية للبخاري في قصة عرض أم حبيبة أختها عزة بنت أبي سفيان على النبي صلى الله عليه وسلم قوله: إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي أي بنت أبي سلمة، فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم بذلك. وأما قوله تعالى:{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} فلا دليل فيه على وجوب الحج على القادر على المشي العاجز عن الراحلة، وأما أكثر ما فيه أنه استدل به بعض العلماء على أن الحج ماشيًا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبًا، لأنه قدمهم في الذكر، خلافًا لما ذهب إليه الأكثرون من أن الحج راكبًا أفضل إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكبًا مع كمال قوته وقدرته على المشي. وقال ابن قدامة: ومن تكلف الحج ممن لا يلزمه فإن أمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة كالخرز، أو معاونة من ينفق عليه، أو يكتري لزاده، ولا يسأل الناس استحب له الحج لقول الله تعالى:{يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فقدم ذكر الرجال، ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله عز وجل وخروجًا من الخلاف وإن كان يسأل الناس كره له الحج لأنه يضيق على الناس ويحصل كلاً عليهم في التزام ما لا يلزمه - انتهى. قلت: وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم. وقال مالك: ليستا أي الزاد والراحلة من شرط وجوبه، فإذا قدر راجلاً وله صنعة أو من عادته السؤال فهو مستطيع كما ذكرنا في بيان مذهبه وما عليه الجمهور هو مقتضى القواعد الشرعية. قال ابن تيمية: كل عبادة اعتبر فيها المال فالمعتبر ملكه لا القدرة على ملكه كتحصيله بصنعة أو قبول هبة أو مسألة أو أخذ من صدقة أو بيت مال - انتهى. وهذا كله يتعلق بالمستطيع بنفسه، وأما ما يسمونه المستطيع بغيره فقد تقدم الكلام فيه في شرح حديث الخثعمية وهو نوعان: الأول منهما هو من لا يقدر على الحج بنفسه لكونه زمنًا،
..............................................................................................
ــ
أو هرمًا ونحو ذلك، ولكنه له مال يدفعه إلى من يحج عنه، فهل يلزمه الحج نظرًا إلى أنه مستطيع بغيره فيدخل في عموم قوله:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} أو لا يجب عليه الحج لأنه عاجز غير مستطيع بالنظر إلى نفسه فلا يدخل في عموم الآية، وبالقول الأول قال الشافعي وأصحابه، فيلزمه عندهم أجرة أجير يحج عنه بشرط أن يجد ذلك بأجرة المثل. قال النووي: وبه قال جمهور العلماء منهم علي بن أبي طالب، والحسن البصري، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وداود. وقال مالك: لا يجب عليه ذلك، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه. واحتج لذلك بقوله تعالى:{لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (53: 40) وبقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وهذا لا يستطيع بنفسه فيصدق عليه اسم غير المستطيع، وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة، فكذلك مع العجز كالصلاة، واحتج الأكثرون القائلون بوجوب الحج عليه بأحاديث رواها الجماعة، منها: حديث ابن عباس في قصة استفتاء الخثعمية وقد تقدم في الفصل الأول. ومنها: حديث أبي رزين العقيلي الآتي، ومنها: حديث علي في قصة الخثعمية أيضًا عند أحمد (ج: ص) ، والترمذي، والبيهقي (ج4: ص329) . ومنها: حديث عبد الله بن الزبير عند أحمد (ج4: ص5) ، والنسائي. ومنها حديث ابن عباس أيضًا عند النسائي كلاهما بنحو قصة الخثعمية. والنوع الثاني من نوعي المستطيع بغيره هو من لا يقدر على الحج بنفسه وليس له المال يدفعه إلى من يحج عنه، ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج، والولد مستطيع، فهل يجب الحج على الولد ويلزمه أمر الولد بالحج عنه لأنه مستطيع بغيره؟ فيه خلاف بين أهل العلم. قال النووي في شرح المهذب: فرع في مذاهبهم في المعضوب إذا لم يجد مالاً يحج به غيره فوجد من يطيعه، قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الحج عليه، وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: لا يجب عليه، وقد علمت أن مالكًا احتج في مسألة العاجز الذي له مال بقوله تعالى:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وبأنه عاجز بنفسه فهو غير مستطيع إلى الحج سبيلاً، وبأن سعيد بن منصور وغيره رووا عن ابن عمر بإسناد صحيح: أنه لا يحج أحد عن أحد، ونحوه عن الليث ومالك، وأن الذين خالفوه احتجوا بالأحاديث التي أشرنا إليها وفيها ألفاظ ظاهرها الوجوب، كتشبيهه بدين الآدمي، وكقول السائل: يجزئ عنه أن تحج عنه، والإجزاء دليل المطالبة، وفي بعض رواياتها أن السائل يقول: إن عليه فريضة الحج، ويستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الحج عنه وهو صلى الله عليه وسلم لم يبين له أن الحج سقط عنه بزمانته وعجزه عن الثبوت على الراحلة، وبقوله للولد ((أنت أكبر ولده)) وأمره بالحج عنه، وأما الذين فرقوا بين وجود المعضوب مالاً فأوجبوا عليه الحج وبين وجوده ولدًا يطيعه فلم يوجبوه، فلأن المال ملكه فعليه أن يستأجر به، والولد مكلف آخر ليس ملزمًا بفرض على شخص آخر، ولأنه وإن كان له ولد فليس بمستطيع ببدن ولا بزاد وراحلة، ولو وجد إنسانًا غير الولد يطيعه في الحج عنه، فهل يكون حكمه حكم الولد؟ فيه خلاف معروف، وأظهر الأقوال أنه كالولد،
..............................................................................................
ــ
تنبيه: إذا مات الشخص ولم يحج وكان الحج قد وجب عليه لاستطاعته بنفسه أو بغيره عند من يقول بذلك وكان قد ترك مالاً فهل يجب أن يحج ويعتمر عنه من ماله؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، فقال بعضهم: يجب أن يحج ويعتمر عنه من تركته سواء مات مفرطًا أو غير مفرط، لكون الموت أعجله عن الحج فورًا. وبهذا قال الشافعي وأحمد. قال ابن قدامة: وبهذا قال الحسن وطاوس والشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالموت، فإن أوصى بذلك فهو في الثلث، وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت كالصلاة، واحتجوا أيضًا بأن ظاهر القرآن كقوله:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} مقدم على ظاهر الأحاديث بل على صريحها لأنه أصح منها، وأجاب الأولون بأن الأحاديث مخصصة بعموم القرآن، وبأن المعضوب وجب عليه الحج بسعيه بتقديم المال وأجرة من يحج عنه، فهذا من سعيه، وأجابوا عن قياسه على الصلاة بأنها لا تدخلها النيابة بخلاف الحج والذين قالوا: يجب أن يحج عنه من رأس ماله، واستدلوا بأحاديث جاءت في ذلك تقتضي أن مات وقد وجب عليه الحج قبل موته أنه يحج عنه، منها:حديث ابن عباس عند البخاري المتقدم في الفصل الأول، ومنها: حديث ابن عباس عند البخاري أيضًا: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء. والحج في هذين الحديثين وإن كان منذورًا فإيجاب الله له على عباده في كتابه أقوى من إيجابه بالنذر مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقضائها وشبهها بدين الآدمي، قال المجدي في المنتقى بعد أن أشار لحديث البخاري الأول: وهو يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره حيث لم يستفصله أوارث هو أو لا؟ وشبهه بالدين - انتهى. وقد تقرر في الأصول أن عدم الاستفصال من النبي صلى الله عليه وسلم أي طلب التفصيل في أحوال الواقعة ينزل منزلة العموم القولي، وخالف في هذا الأصل أبو حنيفة كما هو مقرر في الأصول. ومنها: ما رواه النسائي في سننه بسند صالح للاحتجاج عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله! إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال نعم، قال: فدين الله أحق. ومنها: ما رواه النسائي أيضًا بسند صحيح أن ابن عباس قال: أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها؟ قال: نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها؟ فلتحج عن أمها. ومنها: ما رواه الدارقطني عن ابن عباس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو أن أباك ترك دينًا عليه أقضيته عنه؟ قال: نعم، قال فاحجج عن أبيك. ومنها: حديث بريدة الأسلمي عند أحمد، ومسلم وغيرهما أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي قد ماتت ولم تحج فيجزئها أن أحج عنها قال: نعم - الحديث. ومنها: حديث أنس بن مالك عند البزار والطبراني بنحو حديث ابن عباس
..............................................................................................
ــ
عند الدارقطني ومنها حديث عقبة بن عامر عند الطبراني بنحو حديث ابن عباس عند النسائي فهذه الأحاديث ليس فيها ذكر نذر الحج وهي مع ما تقدم حجة من قال: إن من وجب عليه الحج في الحياة وترك مالاً وجب أن يحج عنه وهي ظاهرة في ذلك لتشبيهه بدين الآدمي وأجاب المخالفون بأن الحج أعمال بدنية وإن كانت تحتاج إلى مال، والأعمال البدنية تسقط بالموت فلا وجوب لعمل بعد الموت، والذي يحج عنه متطوع وفاعل خيراً. قالوا: ووجه تشبيهه بالدين انتفاع كل منهما بذلك الفعل، فالمدين ينتفع بقضاء الدين عنه، والميت ينتفع بالحج عنه، ولا يلزم من قضاء الدين عن أحد أن القضاء عنه واجب، بل يجوز أن يكون قضاءه عنه غير واجب عليه، واحتجوا أيضًا بأن جميع الأحاديث الواردة بالحج عن الميت واردة بعد الاستئذان في الحج عنه، قالوا: والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد الحظر فهو للإباحة، لان الاستئذان والحظر الأول كلاهما قرينة على صرف الأمر عن الوجوب إلى الإباحة. ومن أمثلة كون الأمر بعد الاستئذان للإباحة أن الصحابة رضي الله عنهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما اصطادوه بالجوارح واستأذنوه في أكله نزل في ذلك قوله تعالى:{فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (5: 4) فصار هذا الأمر بالأكل للإباحة لأنه وارد بعد سؤال واستئذان، ومن أمثلته من السنة حديث مسلم: أأصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم - الحديث. فإن معنى ((نعم)) هنا ((صل فيها)) وهذا الأمر بالصلاة فيها للإباحة، لأنه بعد الاستئذان، وخلاف أهل الأصول في المسألة معروف. قال الشنقيطي بعد سرد الأحاديث المذكورة: هذه الأحاديث تدل قطعًا على مشروعية الحج عن المعضوب والميت، وقد قدمنا أن الأظهر عندنا وجوب الحج فورًا، وعليه فلو فرط وهو قادر على الحج حتى مات مفرطًا مع القدرة أنه يحج عنه من رأس ماله إن ترك مالاً، لأن فريضة الحج ترتبت في ذمته فكانت دينًا عليه، وقضاء دين الله صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المذكورة بأحقيته حيث قال: فدين الله أحق أن يقضى. أما من عاجله الموت قبل التمكن فمات غير مفرط فالظاهر لنا أنه لا إثم عليه، ولا دين لله عليه لأنه لم يتمكن من أداء الفعل حتى يترتب في ذمته، ولن يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد تقدم أن مالكًا ومن وافقوه لم يعملوا بظاهر هذه الأحاديث المذكورة مع كثرتها وصحتها لأنها مخالفة عندهم لظاهر القرآن في قوله:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} والمعضوب والميت ليس واحد منهما بمستطيع لصدق قولك: إنه غير مستطيع بنفسه، قال: وما اشتهر عن مالك أنه يقول: لا يحج أحد عن أحد، معناه عنده أن الصحيح القادر لا يصح الحج عنه في الفرض. والمعضوب عنده ليس بقادر، وأحرى الميت، فالحج عنهما من مالهما لا يلزم عنده إلا بوصية، فأن أوصى به صح من الثلث وتطوع وليه بالحج عنه خلاف الأولى عنده بل مكروه، والأفضل عنده أن يجعل ذلك المال الذي يحج به عنه في غير الحج كأن يتصدق به عنه أو يعتق به عنه ونحو ذلك، فإن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه، والحاصل أن النيابة عن الصحيح في غير الفرض عنده مكروهة، والعاجز عنده لا فرض عليه أصلاً للحج، قال الشنقيطي: والأحاديث المذكورة حجة على مالك ومن وافقه، قلت: القول الراجح المعول عليه عندنا هو
رواه الترمذي، وابن ماجة.
2551-
(23) وعنه قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الحاج؟ قال: الشعث التفل. فقام آخر فقال: يا رسول الله أي الحج أفضل؟ قال: العج والثج.
ــ
ما ذهب إليه الشافعي وأحمد ومن وافقهما للأحاديث التي ذكرنا وهي نص في ذلك، هذا وقد تقدم شيء من الكلام في هذه المسألة في شرح حديث ابن عباس في قصة استفتاء الخثعمية (رواه الترمذي، وابن ماجة) أخرجه الترمذي في الحج مختصرًا كما ذكره المصنف وفى تفسير سورة آل عمران مطولاً وهى الرواية الآتية بعد هذا، وأخرجه ابن ماجة مطولاً فقط في الحج، ورواه البيهقي مختصراً في (ج4: ص327) ، ومطولاً في (ج4: ص330) ، و (ج5: ص58) ، وروى الشافعي في الأم (ج2: ص99) المطول فقط ، والدارقطني (ص255) مطولاً ومختصرا ًكلهم من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي عن ابن عمر قال الترمذي: هذا حديث حسن. وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه - انتهى. قلت: تحسين الترمذي لهذا الحديث لا وجه له لان إبراهيم بن يزيد الخوزي المذكور متروك لا يحتج به كما جزم به غير واحد بل ذكر الحافظ في التهذيب ما يدل على أنهم أجمعوا على تركه وتضعيفه، ومنهم من كان يرميه بالكذب. ونقل المزي تحسين الترمذي وأقره، وقال الحافظ في التلخيص بعد نقل تحسين الترمذي: هو من إبراهيم بن يزيد الخوزي ، وقد قال: الظاهر أن الترمذي كان حسن الرأي فيه وكان هو الحديث عنده ولذلك حسن روايته هذه.
2551-
قوله: (ما الحاج؟) أي الكامل، والمعنى ما صفة الحاج الذي يحج؟ أو يكون ((ما)) بمعنى ((من)) قال الطيبي: يسأل بما عن الجنس وعن الوصف، والمراد هنا الثاني بجوابه صلى الله عليه وسلم. قلت: وقع عند الترمذي في التفسير بلفظ ((من الحاج؟)) وكذا ذكره المنذري في ترغيبه وعزاه لابن ماجة والزيلعي في نصب الراية (ج3: ص8) وعزاه للترمذي، وابن ماجة (قال: الشعث) بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة، وبالثاء المثلثة وهو البعيد العهد بتسريح شعره وغسله، وقال القاري: أي المغبر الرأس من عدم الغسل، مفرق الشعر من عدم المشط، وحاصله تارك الزينة (التفل) بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الفاء، وهو الذي ترك الطيب حتى تغيرت رائحته. وقال القاري: أي تارك الطيب فيوجد منه رائحة كريهة، من تفل الشيء من فيه إذا رمى به متكرهًا له (الحج) أي أعماله أو خصاله بعد أركانه (أفضل؟) أي أكثر ثوابًا (قال: العج، والثج) الأول بفتح العين المهملة وبالجيم لمشددة، وهو رفع الصوت بالتلبية، والثاني بفتح الثاء المثلثة وبالجيم المشددة وهو سيلانه دماء الهدي، وقيل دماء الأضاحي. قال وكيع في رواية ابن ماجة: يعني بالعج: العجيج بالتلبية، والثج: نحر البدن. قال الطيبي: ويحتمل أن يكون السؤال عن نفس الحج، ويكون المراد ما فيه العج
فقام آخر فقال: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: زاد وراحلة. رواه في شرح السنة، وروى ابن ماجة في سننه، إلا أنه لم يذكر الفصل الأخير.
ــ
والثج. وقيل: على هذا يراد بهما الاستيعاب لأنه ذكر أوله الذي هو الإحرام وآخره الذي هو التحلل بإراقة الدم اقتصارًا بالمبدأ والمنتهى عن سائر الأفعال، أي الذي استوعب جميع أعماله من الأركان والمندوبات (ما السبيل؟) أي المذكور في قوله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (قال: زاد وراحلة) أي بحسب ما يلقيان بكل أحد، والظاهر أن المعتبر هو الوسط بالنسبة إلى حال الحاج. وقوله:((زاد وراحلة)) كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، وهكذا وقع عند الشافعي، والبيهقي (ج4: ص330) ووقع عند الترمذي، وابن ماجة، والدارقطني، والبيهقي (ج5: ص58) الزاد والراحلة أي معرفًا باللام، وكذا ذكره المنذري في الترغيب نقلاً عن ابن ماجة (رواه) أي صاحب المصابيح (في شرح السنة) أي الحديث بكماله مسندًا (وروى ابن ماجة) أي الحديث، وكان حقه أن يقول: ورواه ابن ماجة (في سننه إلا أنه) أي ابن ماجة (لم يذكر الفصل الأخير) أي من الفصول الثلاثة في الحديث، وهو الآخر من قوله: فقام آخر، والفصل هنا بمعنى الفقرة في الكلام، وهذا وهم من المصنف فإن الحديث رواه ابن ماجة بكماله مسندًا، وكذلك رواه الترمذي في التفسير، والشافعي، والدارقطني، ثم البيهقي في سننهما كلهم من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر. وتقدم أن إبراهيم بن يزيد ضعيف متروك فهذا الحديث أيضًا ضعيف كالأول، ولكن حسنه المنذري وقال: رواه ابن ماجة بإسناد حسن. وقال الترمذي في التفسير بعد سياقه: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم ابن يزيد الخوزي المكي وقد تكلم بعض أهل لعلم في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه - انتهى. ومقتضى ما نقل الزيلعي عن الترمذي أنه وصف الحديث في التفسير بالغرابة حيث قال: قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم إلخ. قال الزيلعي: وله طريق آخر عند الدارقطني في سننه، أخرجه عن محمد بن الحجاج المضفر ثنا جرير ابن حازم، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن عمر مرفوعًا، ومحمد بن الحجاج المضفر ضعيف - انتهى. وهو - كما قال الزيلعي - ضعيف. قال الذهبي في الميزان فيه: روى عباس عن يحيى ليس بثقة. وقال أحمد: تركنا حديثه. وقال البخاري عن شعبة: سكتوا عنه. وقال النسائي: متروك ثم ذكر بعض عجائبه، وعلى كل حال فهو لا يحتج به. واعلم أن إبراهيم بن يزيد الخوزي كما تابعه في هذه الرواية جرير بن حازم من طريق محمد بن الحجاج المضفر الذي ذكرنا آنفًا أنه لا يحتج به فقد تابعه أيضًا فيها غيره من الضعفاء. قال الزيلعي بعد أن ذكر حديث إبراهيم الخوزي المذكور عند الترمذي وابن ماجة: ورواه الدارقطني (ج2: ص255)، ثم البيهقي (ج 4: ص330) . قال الدارقطني: وقد تابع إبراهيم بن يزيد عليه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، فرواه عن محمد بن عباد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك - انتهى. وهذا الذي أشار إليه رواه ابن عدي في الكامل، وأعله بمحمد بن عبد الله الليثي وأسند تضعيفه
..............................................................................................
ــ
عن النسائي وابن معين. ثم قال: والحديث معروف بإبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو من هذه الطريق غريب. ثم ذكر البيهقي تضعيف إبراهيم المذكور. قال: وروي من أوجه أخرى كلها ضعيفة. وروي عن ابن عباس من قوله، ورويناه من أوجه صحيحة عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً وفيه قوة لهذا السند - انتهى. ثم قال الزيلعي: قال الشيخ في الإمام: قوله: ((فيه قوة)) فيه نظر لأن المعروف عندهم أن الطريق إذا كان واحد ورواه الثقات مرسلاً وانفرد ضعيف برفعه، أن يعللوا المسند بالمرسل، ويحملوا الغلط على رواية الضعيف، فإذا كان ذلك موجبًا لضعف المسند فكيف يكون تقوية له؟ - انتهى. وهو كما قال: كما هو معروف في الأصول وعلم الحديث. ثم قال الزيلعي: قال يعني الشيخ في الإمام: والذي أشار إليه من قول ابن عباس رواه أبو بكر بن المنذر حدثنا علان بن المغيرة ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: والمرسل رواه سعيد بن منصور في سننه حدثنا هشام: ثنا يونس عن الحسين قال: لما نزلت {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال رجل: يا رسول الله وما السبيل؟ قال: زاد وراحلة - انتهى. حدثنا الهشيم: ثنا منصور عن الحسن مثله، حدثنا خالد بن عبد الله عن يونس عن الحسن مثله. قال: وهذه أسانيد صحيحة إلا أنها مرسلة. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة مسندًا، والصحيح رواية الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وأما المسند فإنما رواه إبراهيم بن يزيد وهو متروك، ضعفه ابن معين وغيره - انتهى من نصب الراية. وبهذا تعلم أن حديث ابن عمر المذكور لم يسند من وجه صحيح، لأن إبراهيم الخوزي متروك، ومحمد بن الحجاج المضفر الذي ذكرنا أن إبراهيم تابعه عليه جرير بن حازم من طريقه لا يحتج به كما بيناه. وقد بينا أن متابعة محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي لا تقويه لأنه ضعيف. ضعفه النسائي وأعل الحديث به ابن عدي في الكامل. وقال الذهبي في الميزان: ضعفه ابن معين، وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك - انتهى. وأما مرسل الحسن البصري المذكور وإن كان إسناده صحيحًا إلى الحسن فلا يحتج به، لان مراسيل الحسن لا يحتج بها. قال: الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته وقال الدارقطني: مراسيله فيها ضعف. وقال فيه أيضًا: وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعًا عالمًا رفيعًا فقيهًا، ثقة مأمونًا، عابدًا ناسكًا، كثير العلم، فصيحًا جميلاً وسيمًا، وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منهم فهو حجة، وما أرسل فليس بحجة. وقال السيوطى في التدريب (ص69) : وقال أحمد بن حنبل: مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإهما كانا يأخذان عن كل أحد، ثم قال بعد ذلك: وقال العراقي: مراسيل الحسن عندهم شبه الريح. وعدم الاحتجاج بمراسيل الحسن هو المشهور عند المحدثين. وقال بعض أهل العلم: هي صحاح إذا رواها عنه الثقات. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: وقال ابن المدينى: مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها. وقال أبو زرعه: كل شيء يقوله الحسن: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وجدت له أصلاً
2552-
(24) وعن أبى رزين العقيلي، أنه أتى النبي فقال: يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن. قال: حج عن أبيك واعتمر.
ــ
ثابتًا ما خلا أربعة أحاديث - انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن حديث ابن عمر المرفوع في تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة لم يثبت بوجه صحيح بحسب صناعة علم الحديث، لكن له شواهد بعضها صحيح وبعضها حسن. وعلى هذا فلا شك أن حديث الزاد والراحلة بمجموع طرقه صالح للقبول والاحتجاج كما قال الشوكانى وغيره.
2552-
قوله: (وعن أبي رزين) بفتح الراء وكسر الزاي (العقيلي) بالتصغير واسمه: لقيط بن عامر العامري وافد بني المنتفق. قال الترمذي بعد رواية حديثه: وأبو رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر. وقال الحافظ في التقريب: لقيط بن صبرة، بفتح المهملة وكسر الموحدة صحابي مشهور، ويقال: أنه أي صبرة جده، واسم أبيه عامر، وهو أبو رزين العقيلي، والأكثر على أنهما اثنان - انتهى. وقد تقدم ترجمة لقيط بن صبرة في الفصل الثاني من باب سنن الوضوء (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير) إلخ. قال الحافظ: هذه قصة أخرى، أي غير قصة الخثعمية. قال: ومن وحد بينها وبين حديث الخثعمية فقد أبعد وتكلف. (ولا الظعن) بفتحتين أو سكون الثاني، والأولى معجمة والثانية مهملة، مصدر ظعن يظعن بالضم - إذا سار. وفى المجمع: الظعن الراحلة. أي لا يقوى على السير ولا على الركوب من كبر السن - انتهى. وقيل: يمكن أن يكنى به عن القوة ويراد بنفي الاستطاعة عدم الزاد والراحلة، كأنه قال: ليس له زاد ولا راحلة ولا قوة على السير والركوب. وقال المظهر: يحتمل أن يريد بقوله: لا يستطيع الحج والعمرة، الذهاب إليهما راجلاً، وبالظعن ركوب الدابة (قال: حج) بالحركات في الجيم، والفتح هو المشهور (عن أبيك) الذي كبر، وفيه دليل على جواز حج الولد عن أبيه العاجز. وقال المحب الطبري: فيه أبين البيان على جواز حج الإنسان عن الحي الذي لا يستطيع الحج بنفسه، وأنه ليس كالصلاة والصوم وسائر الأعمال البدنية، وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله عز وجل إنما أراد بقوله:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} بعض الأعمال دون بعض. وقيل: إن الآية عامة خصها هذا الحديث وأمثاله. وقيل: إن ولد الرجل من كسبه كما ورد في بعض الآثار، وعليه فالآية عامة، وحج الولد عن أبيه متناول لها، وقد تقدم بسط الكلام في مسالة النيابة بالحج في شرح حديث الخثعمية وفى شرح حديث الزاد والراحلة (واعتمر) استدل به من قال بوجوب العمرة، وقد ذهب إلى وجوبها جماعة من أهل الحديث، وهو المشهور عن الشافعي وأحمد، وبه قال إسحاق والثوري، والمزني. قال أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا ولا أصح منه، وأجيب عنه بما قال السندي: لا يخفى أن الحج والعمرة عن الغير ليسا بواجبين على الفاعل، فالظاهر حمل الأمر على الندب وحينئذٍ دلالة الحديث على وجوب العمرة خفاؤها لا يخفى - انتهى. وبما ذكر الشنقيطي أن صيغة
..............................................................................................
ــ
الأمر في قوله: ((واعتمر)) واردة بعد سؤال أبى رزين وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال إنما تقتضي الجواز، لا الوجوب لأن وقوعها في جواب السؤال عن الجواز دليل صارف عن الوجوب إلى الجواز، والخلاف في هذه المسألة معروف - انتهى. والمشهور عن المالكية أن العمرة ليست بواجبة وهو قول الحنفية. واستدل القائلون بالوجوب أيضًا بما روي عن عمر في سؤال جبريل عن الإسلام، وفيه:((وأن تحج وتعتمر)) أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني وغيرهم، وأجيب عن هذا بأن الأمر مجرد اقتران العمرة بالأمور الواجبة المذكورة في الحديث لا يكون دليلاً على الوجوب لما تقرر في الأصول من ضعف دلالة الاقتران لاسيما وقد عارضه ما سيأتي من الأدلة القاضية بعدم الوجوب، فإن قيل: إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام يدل على الوجوب. فيقال: ليس كل أمر من الإسلام واجبًا، والدليل على ذلك حديث شعب الإسلام والإيمان، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع، واستدلوا أيضًا بما رواه ابن عدي، والبيهقي، عن جابر مرفوعاً: الحج والعمرة فريضتان. وفيه: ابن لهيعة وهو ضعيف. وقال ابن عدي: هو غير محفوظ عن عطاء عن جابر. وأخرجه أيضًا الدارقطني من حديث زيد بن ثابت بزيادة ((لا يضرك بأيهما بدأت)) وأجيب عنه بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. وفى الحديث أيضًا انقطاع. ورواه البيهقي موقوفًا على زيد. قال الحافظ: وإسناده أصح. واستدلوا أيضًا بحديث عائشة عند أحمد، وابن ماجة:((قالت: يا رسول الله أعلى النساء جهاد؟ قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة)) وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث، وأجيب عنه بأن لفظة:((عليهن)) ليست صريحة في الوجوب فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة، وإذا كان محتملاً لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة لزم طلب الدليل بأمر خارج، وقد دل دليل خارج على وجوب الحج، ولم يدل دليل خارج يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة، وبحديث الصبي بن معبد، قال: أتيت عمر فقلت: يا أمير المؤمنين إني أسلمت وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما، فقال عمر: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وبحديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابًا، وبعث به عمرو بن حزم، وكان في الكتاب: أن العمرة هي الحج الأصغر. أخرجه الدارقطني والأثرم. وبحديث ابن مسعود المتقدم بلفظ: ((تابعوا بين الحج والعمرة)) وقد تقدم الجواب عنه، واستأنسوا بقوله تعالى:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} قال ابن قدامة: ومقتضى الأمر الوجوب ثم عطفها على الحج، والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه. قال ابن عباس: إنها لقرينة الحج في كتاب الله. وفيه: أن لفظ الإتمام مشعر بأنه إنما يجب بعد الإحرام لا قبله. ويدل على ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن يعلى بن أمية، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، عليه جبة وعليها خلوق فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فنزلت: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} والسائل قد أحرم، وإنما سأل كيف يصنع؟ وقد انعقد الإجماع على وجوب إتمام الحج والعمرة ولو أفسدهما. قال ابن القيم: وليس في الآية فرضها، وإنما فيها إتمام الحج
..............................................................................................
ــ
والعمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء، وأجمع أهل العلم على مشروعيتها كالحج، واستدل القائلون بعدم الوجوب بما رواه الترمذي وصححه. وأحمد، والبيهقي وغيرهم عن جابر أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا وأن تعتمر خير لك. وفى رواية: أولى لك. وأجيب عنه بأن في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف. وتصحيح الترمذي له فيه نظر، لأن الأكثر على تضعيف الحجاج، واتفقوا على أنه مدلس على أن تصحيح الترمذي له إنما ثبت في رواية الكروخي فقط، وقد نبه صاحب الإمام على أنه لم يزد على قوله حسن في جميع الروايات عنه إلا في رواية الكروخي. وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب عن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر بنحوه. ورواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر، ورواه ابن عدي من طريق أبى عصمة عن ابن المنكدر عن أبى صالح، وأبو عصمة قد كذبوه. وفى الباب عن أبي هريرة عند الدارقطني، وابن حزم، والبيهقي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحج جهاد والعمرة تطوع. وإسناده ضعيف كما قال الحافظ. وعن طلحة عند ابن ماجة بنحوه بإسناد ضعيف، وعن ابن عباس عند البيهقي. قال الحافظ: ولا يصح من ذلك شيء. قال الشوكانى: وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره وهو محتج به عند الجمهور، ويؤيده ما عند الطبراني عن أبي أمامة مرفوعًا: من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة. قلت: ولما اختلفت الأدلة في إيجاب العمرة وعدمه اختلف العلماء في ذلك سلفًا وخلفًا، فذهب عمرو، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن عمرو، وسعيد ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي إلى وجوبها. وبه قال الثوري، وإسحاق، والشافعي، وأحمد في أحد قوليهما. واختاره البخاري في صحيحه. وروي عن ابن مسعود: أن العمرة ليست واجبة. وبه قال مالك، وأبو ثور، وأبو حنيفة وهو أحد قول الشافعي وأحمد واختيار ابن تيمية. وقال الشوكاني بعد ذكر أدلة الفريقين: والحق عدم وجوب العمرة لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك لا سيما مع اعتضادها بما تقد م من الأحاديث القاضية بعدم الوجوب، ويؤيد ذلك اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الحج في حديث:((بني الإسلام على خمس)) واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} قلت: ويؤيده أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال: ((لا أزيد عليهن ولا انقص)) لئن صدق ليدخلن الجنة. وقال شيخنا الأجل المباركفوري بعد ذكر دلائل وجوب العمرة: والظاهر هو وجوب العمرة والله أعلم. وقال الشنقيطي بعد ذكر كلام الشوكانى: الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين لا يقل عن درجة الحسن لغيره فيجب الترجيح بينهما، وقد رأيت الشوكاني رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية ترجيح أدلة الوجوب على أدلة عدم الوجوب، وذلك من ثلاثة أوجه: الأول أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل على الخبر المبقي على البراءة الأصلية. الثاني أن جماعة من أهل الأصول
رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
2553-
(25) وعن ابن عباس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
ــ
رجحوا الخبر الدال على الوجوب على الخبر الدال على عدمه. ووجه ذلك هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب. الثالث: أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها ولو مشيت على إنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالبًا بواجب على قول جمع كثير من العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: دع ما يربيك إلى مالا يربيك. ويقول: فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله - انتهى. واستدل بإطلاق الحديث على صحة حجة من لم يحج نيابة عن غيره. ويأتي الكلام في هذا في شرح حديث ابن عباس الذي يليه (رواه الترمذي) إلخ، وأخرجه أيضًا ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه كما في موارد الظمآن (ص239)، والدارقطني (ج2: ص282) ، والحاكم (ج1: 481) وصححه. والبيهقي (ج4: ص350)، ونقل المنذري في مختصر السنن (ج3: ص333) تصحيح الترمذي وأقره. وتقدم قول الإمام أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا ولا أصح منه.
2553-
قوله: (سمع رجلاً) قال الحافظ في التلخيص (ص203) : زعم ابن باطيس: أن اسم الملبي نبيشة وهو وهم منه فإنه اسم الملبي عنه فيما زعم الحسن بن عمارة، وخالفه الناس فيه فقالوا: إنه شبرمة. وقد قيل: إن الحسن بن عمارة رجع عن ذلك فحدث به على الصواب موافقًا لرواية غيره. وقد بينه الدارقطني في السنن (ج2: ص276) . (لبيك عن شبرمة) أي نيابة عنه في الحج والعمرة وشبرمة، بضم الشين المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة. قيل: هو صحابي توفي في حياته صلى الله عليه وسلم. قال الجزري في أسد الغابة ((شبرمة)) غير منسوب، له صحبة توفي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عطاء عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يلبي عن شبرمة، فذكر الحديث. وقال الحافظ في الإصابة في القسم الأول من حرف الشين المعجمة:((شبرمة)) غير منسوب وقع ذكره في حديث صحيح، فروى أبو داود، وأحمد، وإسحاق، وأبو يعلى، والدارقطني، والطبراني من طريق عزرة بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: سمع صلى الله عليه وسلم رجلاً يلبي عن شبرمة فقال: أحججت؟ قال: لا. قال: هذه عن نفسك وحج عن شبرمة. وروى الدارقطني من طريق عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس نحوه، رواه الدارقطني من طريق أبي الزبير عن جابر، ومن طريق عطاء عن عائشة نحوه (قال: أخ لي) أي من النسب (أو قريب لي) شك من الراوي (أحججت) بهمزة الاستفهام (عن نفسك؟) أي أولاً. وعن ابن حبان ((هل حججت قط؟)) (قال: لا) أي لم أحج عن نفسي
قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة.
ــ
(قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) وفى رواية الدراقطني، وابن حبان، وابن ماجة: فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة. قال ابن حبان: قوله: اجعل هذه عن نفسك. أمر وجوب. وقوله: ثم حج عن شبرمة أمر إباحة - انتهى. قال السندي: مفاد الحديث أن من عليه حجة الإسلام وأحرم بغيرها لا يجب عليه المضي في الغير بل يجب عليه صرف ذلك الإحرام إلى حجة الإسلام، لأن جعل تلك الحجة عن نفسه لا يكون إلا كذلك - انتهى. قلت: ظاهر الحديث أنه لا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره سواء كان مستطيعًا أو غير مستطيع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هذا الرجل الذي سمعه يلبي عن شبرمة، وهو منزل منزلة العموم، وإلى ذلك ذهب الشافعي. وقال الثوري: أنه يجزئ حج من لم يحج عن نفسه ما لم يتضيق عليه، واستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية للدارقطني: أيها الملبي عن نبيشة! هذه عن نبيشة، واحجج عن نفسك، فكأنه جمع بين هذا وبين حديث الكتاب على من كان مستطيعًا، ولكن رواية الدارقطني هذه قد تفرد بها الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث. وقد روى الدارقطني حديث نبيشة موافقًا لحديث شبرمة، وتقدم قول من قال: إن اسم شبرمة نبيشة، قال المحب الطبري: في الحديث دلالة للشافعي على أنه لا يحج عن الغير من لم يحج عن نفسه، فإن فعل انقلب إليه، ووجه الدلالة قوله:((ثم حج عن شبرمة)) وثم للترتيب فاقتضى ذلك أن يكون حجه عن الغير بعد حجه عن نفسه، فلغت الإضافة إلى الغير وبقي مجرد الإحرام فانصرف إليه لعدم القائل بالفصل إلا على رواية عن أحمد أنه لا ينعقد عنه ولا عن غيره ويؤيد ما ذكرنا رواية الدارقطنى، وابن ماجة وغيرهما بلفظ:((فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)) وهو صريح في إثبات المقصود، وممن قال: لا يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه، أحمد ابن حنبل في إحدى الروايتين وهو: قول الأوزاعي، وإسحاق، وقال مالك، وأبو حنيفة: يجوز أن يحج عن غيره وعليه فرضه وهو قول الحسن، وعطاء الثوري، وبه قال ابن المنذر من الشافعية - انتهى مختصرًا. وقال ابن قدامة: ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره، فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام، وبهذا قال الأوزاعي، والشافعي، وإسحاق. وقال أبو بكر عبد العزيز: يقع الحج باطلاً ولا يصح ذلك عنه ولا عن غيره. وقال الحسن، وإبراهيم، وأيوب السختياني، وجعفر بن محمد، ومالك، وأبو حنيفة: يجوز أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه، وحكي عن أحمد مثل ذلك. وقال الثوري: إن كان يقدر على الحج عن نفسه حج عن نفسه، وإن لم يقدر على الحج عن نفسه حج عن غيره، واحتجوا بأن الحج مما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة، وقال ابن قدامة: ولنا ما روى ابن عباس، فذكر حديث شبرمة ثم قال: ويفارق الزكاة فإنه يجوز أن ينوب عن الغير وقد بقى عليه بعضها وها هنا لا يجوز أن يحج عن الغير من شرع في الحج قبل إتمامه. قال: إذا ثبت هذا فإن عليه رد ما أخذ من النفقة لأنه لم يقع الحج عنه فأشبه ما لو لم يحج - انتهى. وقال الأمير اليماني: الحديث دليل على إنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه، فإذا أحرم عن غيره فإنه ينعقد إحرامه عن نفسه، لأنه صلى الله عليه وسلم -
..............................................................................................
ــ
أمره أن يجعله عن نفسه بعد أن لبى عن شبرمة فدل على أنها لم تنعقد النية عن غيره وإلا لأوجب عليه المضي فيه، وإن الإحرام ينعقد مع الصحة والفساد، وينعقد مطلقًا مجهولاً معلقًا، فجاز أن يقع عن غيره ويكون عن نفسه، وهذا لأن إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي والنهي يقتضي الفساد، وبطلان صفة الإحرام لا يوجب بطلان أصله، وهذا قول أكثر الأمة أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه مطلقًا مستطيعًا كان أو لا، لأن ترك الاستفصال والتفريق في حكاية الأحوال دال على العموم، ولأن الحج واجب في أول سنة من سني الإمكان، فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله عن غيره، لأن الأول: فرض. والثاني: نفل. كمن عليه دين وهو مطالب به، ومعه دراهم بقدره لم يكن له أن يصرفها إلا إلى دينه، وكذلك كل ما احتاج أن يصرفه إلى واجب عنه فلا يصرفه إلى غيره إلا أن هذا إنما يتم في المستطيع، ولذا قيل: إنما يؤمر بأن يبدأ بالحج عن نفسه إذا كان واجبًا عليه، وغير المستطيع لم يجب عليه فجاز أن يحج عن غيره، ولكن العمل بظاهر عموم الحديث أولى - انتهى. قلت: وأعل ابن الهمام من الحنفية الحديث بالإضطراب في الرفع، والوقف، والإرسال، وبعنعنة قتادة، وهو معروف بالتدليس. قال: ولو سلم فحاصله أمره بأن يبدأ بالحج عن نفسه وهو يحتمل الندب فيحمل عليه بدليل إطلاقه صلى الله عليه وسلم قوله للخثعمية: حجى عن أبيك. من غير استخبارها عن حجها لنفسها قبل ذلك وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل مقام عموم الخطاب. قال: وحديث شبرمة يفيد استحباب تقديم حجة نفسه. وبذلك يحصل الجمع ويثبت أولوية تقديم الفرض على النفل مع جوازه - انتهى ملخصًا. قال القاري بعد ذكره: لكن بقي فيه أشكال على مقتضى قواعدنا من أن الشخص إذا تلبس بإحرام عن غيره لم يقدر على الانتقال عنه إلى الإحرام عن نفسه للزوم الشرعي بالشروع وعدم تجويز الانقلاب بنفسه فكيف في إطاعة الأمر سواء قلن: إنه للوجوب أو الاستحباب فلا مخلص عنه إلا بتضعيف الحديث أو نسخه. لأن حديث الخثعمية في حجة الوداع، أو بتخصيص المخاطب بذلك الأمر والله تعالى أعلم - انتهى. قلت: كل ما أعلو به الحديث وضعفوه به مدفوع كما ستعرف، وأما حمله على النسخ أو تخصيصه بالمخاطب بذلك الأمر ففيه أن حديث شبرمة خاص وحديث الخثعمية عام. ولا تعارض بين العام والخاص، فيقدم الخاص ويبنى العام عليه، والتخصيص خلاف الأصل حتى يرد المخصص صريحًا ولا مخصص ها هنا وأما حمل ابن الهمام وغيره من الحنفية حديث شبرمة على الندب والأولوية والتمسك لذلك بحديث الخثعمية بأن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال، ففيه أنه لا تعارض بين الحديثين لما تقدم، فلا حاجة إلى تكلف الجمع بينهما، وقد تعقبه أيضًا صاحب فتح الملهم من الحنفية، وقد ذكرنا كلامه في شرح حديث الخثعمية فتذكر، وقال الشنقيطي بعد ذكر حديث شبرمة: فيه دليل على أن النائب عن غيره في الحج لا بد أن يكون قد حج عن نفسه حجة الإسلام وقاس العلماء العمرة على الحج في ذلك وهو قياس ظاهر، وخالف في هذا الاشتراط بعض العلماء كأبي حنيفة ومن وافقه فقالوا: يصح حج النائب عن غيره وإن لم يحج عن نفسه، واستدلوا بظواهر الأحاديث
رواه الشافعي، وأبو داود، وابن ماجة.
ــ
التي وردت في الحج عن المعضوب والميت فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: ((حج عن أبيك، حج عن أمك)) ونحو ذلك من العبارات، ولم يسأل أحد منهم هل حج عن نفسه أو لا؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال. قال الشنقيطي: الأظهر تقديم الحديث الخاص الذي فيه قصة شبرمة، لأنه لا يتعارض عام وخاص فلا يحج أحد عن أحد حتى يحج عن نفسه حجة الإسلام - انتهى. (رواه الشافعي) في الأم (ج2: ص105) من طريق ابن جريج، عن عطاء قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: لبيك عن فلان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت حججت فلب عن فلان، وإلا فاحجج عن نفسك ثم احجج عنه. وهذا كما ترى مرسل. ثم رواه الشافعي من طريق أيوب عن أبى قلابة، قال: سمع ابن عباس رجل يقول: لبيك عن شبرمة، فقال ابن عباس: ويحك وما شبرمة؟ قال: فذكر قرابة له - الحديث. وهذا موقوف. قيل: وأبو قلابة لم يسمع من ابن عباس شيئًا. (وأبو داود، وابن ماجة) واللفظ لأبي داود، روياه من طريق عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا، وكذا روى من هذا الطريق ابن الجارود (ص178) وإسناد هذا الحديث عند أبى داود، وابن ماجة، وابن الجارود رجاله كلهم ثقات معروفون إلا عزرة الذي رواه عنه قتادة، وقتادة روى عن ثلاثة كلهم اسمه عزرة، وعزرة المذكور في إسناد هذا الحديث عند أبي داود، وابن ماجة ذاكره غير منسوب، وكذا ذكره الدارقطني، وابن حبان، والبيهقي. وجزم البيهقي بأن عزرة بن يحيى، وعزرة بن يحيى لم يذكره البخاري في التاريخ، ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يخصه الحافظ في تهذيب التهذيب بترجمة، ولم يذكره الذهبي في الميزان، وقد ذكره الحافظ في التقريب فقال: عزرة بن يحيى عن سعيد بن جبير في قصة شبرمة، وعنه قتادة أيضًا، نسبه البيهقي. وبذلك جزم أبو علي النيسابوري وهو مقبول - انتهى. وروى البيهقي من طريق عبدة بن سليمان الكلابي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا إسناد صحيح، وليس في هذا الباب أصح منه، وروي موقوفًا، رواه غندر عن سعيد بن أبي عروبة كذلك، وعبدة نفسه محتج به في الصحيحين، وقد تابعه على رفعه أبو يوسف القاضي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن بشر عن سعيد بن أبى عروبة. ساق الدارقطنى بإسناده رواياتهم. قال البيهقي: من رواه مرفوعًا حافظ ثقة فلا يضره خلاف من خالفه، يعني لأن من رفعه حفظ ما لم يحفظ من وقفه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. قال: وعزرة هذا هو: عزرة بن يحيى، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا علي الحافظ يقول ذلك. وقد روى قتادة أيضًا عن عزرة بن تميم وعن عزرة بن عبد الرحمن ثم ساق البيهقي روايات أخر عن ابن عباس تؤيد الحديث المذكور. وذكره الحافظ في التلخيص وقال بعد ذكر كلام البيهقي في تصحيحه: وكذا رجح عبد الحق وابن القطان رفعه. وأما الطحاوي فقال: الصحيح أنه موقوف. وقال أحمد بن حنبل: رفعه خطأ. وقال ابن
2554-
(26) وعنه، قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق.
ــ
المنذر: لا يثبت رفعه، وقال الدارقطني: المرسل أصح، قال الحافظ: هو كما قال لكنه يقوي المرفوع لأنه من غير رجاله، ثم قال: فيجتمع من هذا صحة الحديث. وقال ابن تيمية: إن أحمد حكم في رواية ابنه صالح عنه إنه مرفوع. فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه. قال: وقد رفعه جماعة على إنه وإن كان موقوفًا فليس لابن عباس فيه مخالف - انتهى. وقال النووي في شرح المهذب: وأما حديث ابن عباس في قصة شبرمة فرواه أبو داود، والدارقطني، والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة، ثم ذكر لفظ أبي داود ثم قال: وإسناده على شرط مسلم. والظاهر أن النووي يظن أن عزرة المذكور في إسناده هو ابن عبد الرحمن، وذلك من رجال مسلم خلافًا لما جزم به البيهقي، ثم قال النووي: ورواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس، ثم ذكر بعض ما ذكرنا سابقًا من تصحيح البيهقي للحديث، وأن رفعه أصح من وقفه، قلت: ويظهر من كلام الحافظ في التلخيص أن عزرة المذكور في إسناد حديث شبرمة هو ابن عبد الرحمن، فقد قال: وأعل الحديث ابن الجوزي بعزرة فقال: قال يحيى بن معين: عزرة لا شيء ووهم في ذلك، إنما قال ذلك في عزرة بن قيس، وأما هذا فهو ابن عبد الرحمن ويقال فيه: ابن يحيى، وثقه يحيى بن معين، وعلي بن المديني وغيرهما، وروى له مسلم - انتهى. وبذلك جزم صاحب الجوهر النقي حيث قال بعد ذكر كلام البيهقي في نسب عزرة: قلت: عزرة الذي روى عن سعيد بن جبير، وروى عن قتادة هو: عزرة بن عبد الرحمن الخزاعي، كذا ذكر البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وصاحب الكمال، والمزي، وليس في كتاب أبى داود أحد يقال له: عزرة بن يحيى، بل ولا في بقية الكتب الستة. وترجم المنذري في أطرافه لهذا الحديث فقال: عزرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وفى تقييد المهمل للغسانى: وروى مسلم عن قتادة عن عزرة، وهو: عزرة بن عبد الرحمن الخزاعي عن سعيد بن جبير في كتاب اللباس - انتهى. وأما إعلال الحديث بأن قتادة لم يصرح بسماعه من عزرة وهو إمام في التدليس فقد أجيب عنه بأن الحديث قد صححه ابن حبان، وهذا يدل على أن هذا الحديث عنده مما سمعه قتادة من شيخه عزرة، وإن لم يذكر سماعه فيه فقد قال في مقدمة صحيحه (ج1: ص123) : فإذا صح عندي خبر من رواية مدلس أنه بين السماع فيه، لا أبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر- انتهى. على أن قتادة قد وافقه في رفع الحديث عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس عند الدارقطني وغيره وله شاهد من حديث عائشة عند الدارقطني أيضًا وأبي يعلى، وفى سنده ابن أبي ليلى، وفيه كلام ومن حديث جابر عند الدارقطني، والطبراني، وفيه ثمامة بن عبيدة وهو ضعيف. فتحصل من هذا كله أن الحديث حسن أو صحيح صالح للاحتجاج. والله تعالى أعلم.
2554-
قوله (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق) قال الطبرانى: العقيق موضع قريب من ذات عرق قبلها بمرحلة أو مرحلتين. وفى بلاد العرب مواضع كثيرة تسمى العقيق (منها وادي العقيق الذي بقرب المدينة الذي
رواه الترمذي، وأبو داود.
ــ
ورد فيه الحديث عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة)) فإن هذا بينه وبين المدينة أربعة أميال تقريبًا) وكل موضع شقه ماء السيل فوسعه فهو عقيق، والجمع أعقة وعقائق - انتهى. وقال الأزهري في تهذيب اللغة: يقال لكل مسيل ماء شقه السيل فأنهره ووسعه عقيق، قال: وفى بلاد العرب أربعة أعقة وهي أودية عادية. منها عقيق يدفق ماءه في غور تهامة وهو الذي ذكره الشافعي فقال: لو أهلوا من العقيق كان أحب إليّ، وهذا غير العقيق الذي هو بقرب المدينة على عدة أميال، والذي جاء ذكره في حديث ابن عمر المتقدم. وقال القاري: العقيق موضع بحذاء ذات العرق مما وراءه. وقيل: داخل في حد ذات العرق، وأصله: كل مسيل شقه السيل فوسعه من العق وهو القطع والشق. والمراد بأهل المشرق من منزله خارج الحرم من شرقي مكة إلى أقصى بلاد الشرق وهم العراقيون والمعنى: حد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعين لإحرام أهل المشرق العقيق. (رواه الترمذي، وأبو داود) من طريق وكيع عن سفيان عن يزيد بن أبى زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس وأخرجه أيضا أحمد (ج1: ص344) بهذا الإسناد وقد رواه أبو داود عن أحمد بالإسناد المذكور، ورواه والبيهقي في السنن الكبرى (ج5: ص28)
من طريق أبي داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وتعقبه المنذري فقال: في إسناده يزيد بن أبى زياد وهو ضعيف، وذكر البيهقي أنه تفرد به - انتهى. وقال الزيلعي (ج3: ص14) بعد نقل كلام البيهقي المذكور عن معرفة السنن: قال ابن القطان: هذا حديث أخاف أن يكون منقطعًا، فإن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس إنما عهد أن يروي عن أبيه عن جده ابن عباس، كما جاء في ((صحيح مسلم)) في صلاته عليه الصلاة والسلام من الليل، وقال مسلم في ((كتاب التميز)) : لا نعلم له سماعًا من جده، ولا أنه لقيه، ولم يذكر البخاري، ولا ابن أبي حاتم أنه يروي عن جده وذكر أنه يروي عن أبيه - انتهى. وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج5: ص73) : إسناده صحيح، ثم ذكر تخريجه وقال بعد نقل كلام المنذري، والبيهقي، وابن القطان عن نصب الراية: أما يزيد بن أبي زياد فثقة عندنا كما بينا في (662) وأما محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فقد سبقت روايته عن أبيه عن جده (2002) وذكر في التهذيب أنه: ((روى عن جده يقال مرسل)) ولكن الظاهر عندي أنه أدرك جده عبد الله بن عباس وسمع منه، فإنه من طبقة تدرك ذلك، إذ أن من الرواة عنه هشام بن عروة وهو قديم، أدرك ابن عباس صغيرًا فإنه ولد سنة (61) أي كانت سنه عند وفاة ابن عباس فوق السابعة يقينًا، فشيخه لو كان أقدم منه ببضع سنين لما بعد أن يسمع من جده وهو من أهله بل أكثر من هذا أن من الرواة عنه أيضًا، أعني عن محمد بن علي، حبيب بن أبي ثابت، وهو أقدم من هشام ابن عروة، وسمع من ابن عمر، وابن عباس، فأن يكون شيخه سمع من ابن عباس أولى، وقد ترجمه البخاري في الكبير
2555-
(27) وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود، والنسائي.
2556-
(28) وعن أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أهل بحجة أو عمرة من
ــ
(1/1/183) فذكر أنه روى عن أبيه، وهذا لا ينفي أنه روى عن جده أيضًا، ولعله لم يسمع من جده إلا قليلاً، فكانت أكثر روايته عن أبيه عن جده، وإن لم يمتنع أن يروي عن جده أيضًا - انتهى.
2555-
قوله: (وقت لأهل العراق ذات عرق) تقدم ضبطها وهي موضع من شرقي مكة بينهما مرحلتان يوازي قرن نجد وهي والعقيق متقاربان لكن العقيق قبيل ذات عرق، قال ابن الملك: كأنه صلى الله عليه وسلم عين لأهل المشرق ميقاتين: العقيق، وذات عرق، فمن أحرم من العقيق قبل أن يصل إلى ذات عرق فهو أفضل، ومن جاوزه فأحرم من ذات عرق جاز ولا شيء عليه - انتهى. وقال الشافعي: ينبغي أن يحرم من العقيق احتياطًا وجمعًا بين الحديثين. قلت: قد تقدم في شرح حديث جابر في المواقيت السابق في الفصل الأول الجمع بين حديثي ابن عباس، وعائشة بوجوه فتذكر. وقال الطبري: واستحب الشافعي الإحرام من العقيق لأهل العراق لما وقع من الالتباس في ذات عرق، فإنه قد قيل: إن ذات عرق خربت وخول بناءها إلى صوب مكة، فعلى الآتي من العراق أن يتحراها ويطلب آثارها، وذكر الشافعي أن من علامتها المقابر القديمة (رواه أبو داود، والنسائي) وأخرجه أيضًا أحمد، والطحاوي، والدارقطني (ص262)، والبيهقي (ج5: ص28) كلهم من طريق المعافى بن عمران عن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة. وزاد النسائي، والدارقطني، والبيهقي بقية المواقيت. ورواه ابن عدي في الكامل، ثم أسند عن أحمد بن حنبل أنه كان ينكر على أفلح بن حميد هذا الحديث يعني ذكره في هذا الحديث لذات عرق، وقال الحافظ في التلخيص (ج1: ص 205) : تفرد به المعافى بن عمران عن أفلح. والمعافى ثقة - انتهى. قلت: أفلح بن حميد ثقة، وزيادة العدل مقبولة، ولا يضره انفراد المعافى أيضًا لأنه ثقة، وكم من حديث صحيح غريب انفرد به ثقة عن ثقة كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث. وقال الذهبي في ترجمة أفلح بن حميد المذكور: وثقة ابن معين، وأبو حاتم، وقال ابن صاعد: كان أحمد ينكر على أفلح بن حميد وقوله: ((ولأهل العراق ذات عرق)) وقال ابن عدي في الكامل: وهو عندي صالح وهذا الحديث ينفرد به المعافى بن عمران عن أفلح عن القاسم عن عائشة، قلت: هو صحيح غريب -انتهى كلام الذهبي. وتراه صرح بأن هذا الحديث صحيح غريب مع أن هذا الحديث في توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق أصله عند مسلم من حديث جابر، إلا أن راويه شك في رفعه كما بينا، لكن له شواهد متعددة كما سبق بيانها في شرح حديث جابر المذكور في الفصل الأول.
2556-
قوله: (من أهل) وفى رواية لأحمد والدراقطني ((من أحرم)) (بحجة أو عمرة) أو للتنويع (من
المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة. رواه أبو داود، وابن ماجة.
ــ
المسجد الأقصى قيل: إنما خص المسجد الأقصى لفضله، وفى رواية ابن ماجة:((من بيت المقدس)) وكذا وقع في رواية لأحمد والدارقطني: (غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) أي من الصغائر ويرجى الكبائر (أو وجبت) أي ثبتت (له الجنة) أي ابتداء، و ((أو)) للشك من الراوي، ورواه الدارقطني بلفظ:((غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووجبت له الجنة)) من غير شك. وفيه: إشارة إلى أن موضع الإحرام متى كان أبعد كان الثواب أكثر، قال الطبري: قد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى فضيلة تقديم الإحرام عن الميقات، ويحتمل أن تكون هذه الخصيصة ثبتت لبيت المقدس دون غيره، ولو كان لأجل البعد عن مكة لكان غيره مما هو بعد أولى بالذكر. وقال الخطابي: فيه جواز تقديم الإحرام على الميقات من المكان البعيد مع الترغيب فيه، وقد فعله غير واحد من الصحابة، وكره ذلك جماعة، أنكر عمر بن الخطاب على عمران بن الحصين إحرامه من البصرة، وكرهه الحسن البصري، وعطاء بن أبى رباح، ومالك بن أنس، وقال أحمد بن حنبل: وجه العمل المواقيت، وكذلك قال إسحاق. قلت: يشبه أن يكون عمر إنما كره ذلك شفقًا أن يعرض للمحرم إذا بعدت مسافته آفة تفسد إحرامه ورأى أن ذلك في قصير المسافة أسلم - انتهى. قلت: الأظهر أن عمر رأى أن ذلك باب في تعدي هدى الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفة عن أمره فيجر إلى فتنة، وقد ذكر أبو شامة في كتاب البدع والحوادث أن مالكًا سئل عمن يحرم قبل الميقات فقال: يظن أنه أهدى من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم بسط الكلام في ذلك في شرح حديث جابر في المواقيت في الفصل الأول فتذكر. (رواه أبو داود، وابن ماجة) واللفظ لأبي داود ولفظ ابن ماجة في رواية: ((من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له)) وفى أخرى: ((من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب)) والحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج6: ص299) وابن حبان بلفظ: ((غفر له ما تقدم من ذنبه)) فقط. ورواه البيهقي (ج5: ص30) بلفظ أبي داود. قال المنذري: قد اختلف الرواة في متنه وإسناده اختلافًا كثيرًا. وقال النووي: إسناده ليس بالقوي، وقال ابن القيم: هذا الحديث قال غير واحد من الحفاظ: إسناده ليس بالقوي، وقال السعاتي في شرح المسند (ج11: ص112) بعد نقل كلام النووي: إسناده عند الإمام أحمد لا بأس به - انتهى. وأراد بذلك ما رواه أحمد من طريق ابن إسحاق حدثني سليمان بن سحيم مولى آل جبير عن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي عن أمه أم حكيم بنت أمية بن الأخنس السلمية عن أم سلمة، ومن هذا الطريق أخرجه ابن حبان في صحيحه، والدارقطني (ص282) ، ويحيى بن أبي سفيان، ذكره الحافظ في تهذيب التهذيب فقال: يحيى بن أبي سفيان بن الأخنس الأخنسي المدني روى عن جدته، وقيل: عن أمه، وقيل: خالته أم حكيم حكيمة بنت أمية بن الأخنس عن أم سلمة في الإحرام من بيت المقدس، وروى عنه عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس ومحمد بن إسحاق بن يسار، وقيل بينهما