الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الفصل الأول)
2564-
(1) عن عائشة، قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم،
ــ
2564-
قوله: (كنت أطيب) أي أعطر (رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: استدل بقولها: ((كنت أطيب)) على أن ((كان)) لا تقتضي التكرار لأنها لم يقع منها ذلك إلا مرة واحدة، وقد صرحت في رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوداع كما سيأتي في كتاب اللباس (أي عند البخاري) كذا استدل به النووي في شرح مسلم، وتعقب بأن المدعي تكراره إنما هو التطيب لا الإحرام، ولا مانع من أن يتكرر التطيب لأجل الإحرام مع كون مرة واحدة، ولا يخفى ما فيه. وقال النووي في موضع آخر: المختار أنها لا تقتضي تكرارًا ولا استمرارًا، وكذا قال الفخر في المحصول وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه. قال: ولهذا استفدنا من قولهم: ((كان حاتم يقري الضيف)) ، أن ذلك كان يتكرر منه. وقال جماعة من المحققين: إنها تقتضي التكرار ظهورًا، وقد تقع قرينة تدل على عدمه، لكن يستفاد من سياقه لذلك المبالغة في إثبات ذلك، والمعنى أنها كانت تكرر فعل التطيب لو تكرر منه فعل الإحرام لما اطلعت عليه من استحبابه لذلك، على أن هذه النقطة لم تتفق الرواة عنها عليها، فرواها مالك عند الشيخين، وتابعه منصور عند مسلم، ويحيى بن سعيد عند النسائي كلهم عن عبد الرحمن بن القاسم شيخ مالك بلفظ ((كنت)) ورواه سفيان بن عينة عن عبد الرحمن بن القاسم عند البخاري بلفظ ((طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وكذا سائر الطرق ليس فيها صيغة ((كان)) انتهى بزيادة يسيرة. وتعقب العيني كلام الحافظ أن ((سائر الطرق ليس فيها صيغة كان)) وبسط الروايات التي وردت بصيغة كان، وقال بعد ذكر استدلال النووي، وما اعترض به عليه: قال الإمام فخر الدين: إن ((كان)) لا تقتضي التكرار ولا الاستمرار (أي عرفًا ولا لغةً) وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه وقال بعض المحققين: تقتضي التكرار ولكن قد تقع قرينة تدل على عدمه. قلت (قائله العيني)((كان)) تقتضي الاستمرار بخلاف ((صار)) ولهذا لا يجوز أن يقال في موضع: ((كان الله)) ((صار)) - انتهى. وذكر الشيخ تقى الدين في شرح العمدة أنها تدل عليه عرفًا لا لغةً. والله تعالى أعلم (لإحرامه) أي عند إرادته فعل الإحرام لأجل دخوله فيه (قبل أن يحرم) أي يدخل فيه، وفي رواية للنسائي:((عند إحرامه حين أراد أن يحرم)) ولمسلم نحوه، واستدل به على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام. قال الولي العراقي في ((طرح التثريب)) (ج5: ص75) : وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأبى يوسف، وأحمد بن حنبل، وحكاه ابن المنذر عن سعد بن أبى وقاص، وابن الزبير، وابن عباس، وإسحاق، وأبى ثور، وأصحاب الرأي، وحكاه الخطابي عن أكثر الصحابة، وحكاه ابن عبد البر عن أبى سعيد الخدري، وعبد الله بن جعفر، وعائشة، وأم حبيبة، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، والشعبي، والنخعي
..............................................................................................
ــ
وخارجة بن زيد، ومحمد بن الحنفية. قال: واختلف في ذلك عن الحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وقال به الثوري، والأوزاعي، وداود، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء، وعد منهم غير من قدمنا معاوية. وحكاه ابن قدامة عن ابن جريج. قال ابن المنذر: وبه أقول. وذهب مالك إلى منع أن يتطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه. وحكى الشيخ أبو الظاهر قولاً بوجوب الفدية وعلله بأن بقاء الطيب كاستعماله، وقال محمد بن الحسن: يكره أن يتطيب قبل الإحرام بما تبقى عينه بعده، وحكى ابن المنذر عن عطاء كراهة التطيب قبل الإحرام، وحكاه النووي عن الزهري. قال القاضي عياض: وحكي أيضاً عن جماعة من الصحابة والتابعين. وقال ابن عبد البر: وممن كره الطيب للمحرم قبل الإحرام عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وعثمان بن أبى العاص، وعطاء، وسالم بن عبد الله على اختلاف عنه، والزهري، وسعيد بن جبير والحسن، وابن سيرين على اختلاف عنهم، وهو اختيار أبى جعفر الطحاوي إلا أن مالكًا كان أخفهم في ذلك قولاً، ذكر ابن عبد الحكم عنه قال: وترك الطيب عند الإحرام أحب إلينا - انتهى. وقال الشنقيطي في أضواء البيان (ج5: ص448) : اعلم أن العلماء اختلفوا في التطيب عند إرادة الإحرام قبله بحيث يبقى أثر الطيب وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام هل يجوز ذلك؟ لأنه وقت الطيب غير محرم، والدوام على الطيب ليس كابتدائه كالنكاح عند من يمنعه في حال الإحرام مع إباحة الدوام على نكاح معقود قبل الإحرام، أو لا يجوز ذلك؟ لأن وجود ريح الطيب أو عينه أو أثره في المحرم بعد إحرامه كابتدائه للتطيب، ولأنه متلبس حال الإحرام بالطيب، مع أن الطيب منهي عنه في الإحرام فقال جماهير من أهل العلم: إن الطيب عند إرادة الإحرام مستحب. قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء، منهم: سعد بن أبى وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو يوسف، وأحمد وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود وغيرهم إلخ. وقال النووي في شرح مسلم: وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين منهم: سعد بن أبى وقاص، وابن عباس إلى آخره كما في شرح المهذب. وقال ابن قدامة في المغني: يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة، ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية أو أثره كالعود، والبخور، وماء الورد، هذا قول ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبى وقاص، وعائشة، وأم حبيبة، ومعاوية. وروى عن محمد بن الحنفية، وأبى سعيد الخدري، وعروة، والقاسم، والشعبي، وابن جريج إلخ. وقال جماعة آخرون من أهل العلم: لا يجوز التطيب عند إرادة الإحرام، فإن فعل ذلك لزمه غسله حتى يذهب أثره وريحه. وهذا هو مذهب مالك. قال النووي في شرح مسلم: وقال آخرون بمنعه منهم: الزهري ومالك ومحمد بن الحسن، وحكي أيضاً عن جماعة من الصحابة والتابعين إلخ. وقال ابن قدامة في المغني: وكان عطاء يكره ذلك وهو قول مالك، وروى ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر رضي الله
..............................................................................................
ــ
عنهم إلخ – انتهى. قلت: هكذا أطلق ((مذاهب الأئمة الأربعة)) عامة شراح الحديث كالحافظ والنووي والعيني، ونقلة المذاهب كابن رشد، وابن قدامة، وابن عبد البر، وابن المنذر وغيرهم، لكن في فروعهم تفاصيل في هذه المسألة، ففي مفيد الأنام لابن جاسر النجدي:((ويسن لمريد الإحرام أن يتطيب ولو امرأة غير محدة لحرمة الطيب عليها، في بدنه سواء كان الطيب مما تبقى عينه كالمسك أو أثره كالعود، والبخور، وماء الورد لقول عائشة: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم - الحديث. قال شيخ الإسلام (يعني ابن تيمية) : وكذلك إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه فهو حسن ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولم يأمر به الناس - انتهى. ويكره لمريد الإحرام تطييبه ثوبه الذي يريد الإحرام فيه، فإن طيبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه فليس له لبسه والطيب فيه لأن الإحرام يمنع الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة، فإن لبسه بعد نزعه وأثر الطيب باق لم يغسله حتى يذهب، فدى لاستعماله الطيب، أو نقل الطيب من موضع بدنه إلى موضع آخر، أو تعمد مسه بيده فعلق الطيب بها، أو نحى الطيب عن موضعه ثم رده إليه بعد إحرامه فدى، لأنه ابتداء للطيب، فإن ذاب الطيب بالشمس أو بالعرق فسال إلى موضع آخر من بدن المحرم فلا شيء عليه لحديث عائشة قالت: كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها. رواه أبو داود - انتهى. وهكذا ذكر في ((الروض المربع)) من فروع الحنابلة، ومذهب الشافعية في الطيب عند الإحرام كمذهب الحنابلة، ففي ((روضة المحتاجين)) : يسن أن يتطيب في بدنه للإحرام قبله ولو بما له جرم، ولا بأس باستدامته بعده. لكن لو نزع ثوبه المطيب وإن كان لا يسن تطييبه ثم لبسه ورائحة الطيب موجودة فيه لزمه الفدية في الأصح، كما لو ابتدأ لبس الثوب المطيب أو أخذ الطيب من بدنه ثم رده إليه، ولا عبرة بانتقال الطيب بإسالة العرق، ولو تعطر ثوبه من بدنه لم يضر جزمًا - انتهى. وفى الدر المختار: وطيب بدنه إن كان عنده لا ثوبه بما تبقى عينه، هو الأصح. قال ابن عابدين: قوله: ((طيب بدنه)) أي استحبابًا عند الإحرام ولو بما تبقى عينه كالمسك والغالية هو المشهور. قال: والفرق بين الثوب والبدن أنه اعتبر في البدن تابعًا، والمتصل بالثوب منفصل عنه. وأيضاً المقصود من استنانه وهو حصول الارتفاق حالة المنع منه حاصل بما في البدن فأغنى عن تجويزه في الثوب - انتهى. وفى البحر الرائق: يسن له استعمال الطيب في بدنه قبيل الإحرام بما تبقى عينه بعده أولا تبقى وكرهه محمد بما تبقى، وقيدنا بالبدن إذ لا يجوز التطيب في الثوب بما تبقى عينه على قول الكل على إحدى الروايتين عنهما. قالوا: وبه نأخذ. والفرق لهما بينهما أنه اعتبر في البدن تابعًا على الأصح، وما بالثوب منفصل عنه فلم يعتبر تابعًا - انتهى. واختار الطحاوي قول محمد ورجحه في شرح الآثار، لكنه لم يذكر الفرق بين الثوب والبدن في قول الشيخين وكذا لم يفرق بينهما محمد في موطأه. وكذا لا ذكر للفرق بينهما في عامة كتب الحنفية، نعم فرق بينهما ابن الهمام، وقال بعد ذكر الفرق الذي تقدم عن ابن نجيم في البحر: وقد قيل: يجوز في الثوب أيضاً على قولهما
..............................................................................................
ــ
وقال في ((غنية الناسك)) : أما الثوب فلا يجوز أن يطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام إجماعًا. وقيل يجوز في الثوب أيضاً عندهما كما في الفتح والبحر، والأولى أن لا يطيب ثوبه كما في اللباب - انتهى. وقال الباجى: إن مالكًا لا يجيز لأحد من الأمة استعمال الطيب عند الإحرام إذا كان طيب تبقى له رائحة بعد الإحرام، ولا يدهن بدهن فيه ريح تبقى، وإن تطيب لإحرامه فلا فدية عليه، لأن الفدية بإتلاف الطيب في وقت ممنوع من إتلافه وهذا أتلفه قبل ذلك، وإنما تبقى منه بعد الإحرام الرائحة، وليس ذلك بإتلاف فتجب الفدية، ورأيت لبعض الفقهاء أن من تطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته فهو بمنزلة من تطيب بعد الإحرام، لأن استدامته كابتداء التطيب، فإن أراد بذلك أنه ممنوع في الحالتين فهو صحيح، وإن أراد به وجوب الفدية فليس بصحيح لأنها إنما تجب بإتلاف الطيب أو لمسه - انتهى. وفى الشرح الكبير للدردير: وحرم عليهما تطيب بكورس إلا طيبًا يسيرًا باقيًا في ثوبه أو بدنه مما تطيب به قبل إحرام فلا فدية عليه وإن كره. قال الدسوقي: أي بشرط أن يكون الباقي أثره أو ريحه مع ذهاب جرمه، هذا مقتضى كلام سند، والذي يظهر من كلام الباجي وغيره أنها لا تسقط الفدية إلا في بقاء ريحه دون الأثر، فقد اتفق الجميع على أنه إذا كان الباقي شيئًا من جرمه فالفدية واجبة. وإن كان الباقي رائحته فلا فدية. والخلاف فيما إذا كان الباقي أثره أي لونه دون جرمه، فقيل بعدم وجوبها وقيل بوجوبها - انتهى. قال الشنقيطي: أظهر قولي أهل العلم عندي أنه إن طيب ثوبه قبل الإحرام فله الدوام على لبسه كتطييب بدنه، وإنه إن نزع عنه ذلك الثوب المطيب بعد إحرامه فليس له أن يعيد لبسه، فإن لبسه صار كالذي ابتدأ الطيب في الإحرام فتلزمه الفدية، وكذلك إن نقل الطيب الذي تلبس به قبل الإحرام من موضع من بدنه إلى موضع آخر بعد الإحرام فهو ابتداء تطيب في ذلك الموضع الذي نقله إليه وكذلك إن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه ثم رده إليه لأن كل تلك الصور فيها ابتداء تلبس جديد بعد الإحرام بالطيب وهو لا يجوز. أما إن كان قد عرق فسال الطيب من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه في ذلك لأنه ليس من فعله، ولحديث عائشة عند أبى داود الذي ذكرناه قريبًا ، وقال بعض علماء المالكية: ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطيب في بدنه أو ثوبه، إلا أنه إذا نزع ثوبه لا يعود إلى لبسه، فإن عاد فهل عليه في العود فدية؟ يحتمل أن نقول: لا فدية، لأن ما فيه قد ثبت له حكم العفو كما لو لم ينزعه، وقال أصحاب الشافعي: تجب عليه الفدية لأنه لبس جديد وقع بثوب مطيب - انتهى من الحطاب. قلت: واحتج الجمهور القائلون باستحباب الطيب عند الإحرام بحديث عائشة الذي نحن في شرحه، وقد وقع في رواية عنها عند مسلم، قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام. قال الجزري: الذريرة نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وقال النووي: هي فتات قصب طيب يجاء به من الهند. وفي لفظ عند مسلم أيضاً عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه؟ قالت:
..............................................................................................
ــ
بأطيب الطيب وفي رواية: ((بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم، ثم يحرم)) وفي رواية عنها: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم، يتطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته)) وفي لفظ عنها: ((قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك)) كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم. قالوا: فهذا الحديث دليل صريح في مشروعية الطيب قبل الإحرام وإن كان أثره باقيًا بعد الإحرام، بل ولو بقى عينه وريحه، لأن رويتها وبيص الطيب في مفارقه صلى الله عليه وسلم وهو محرم صريح في ذلك. قالوا: وقد وردت آثار بذلك تدل على عدم خصوصية ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يفعل ذلك، وروي عن ابن عباس أنه أحرم وعلى رأسه مثل الرُب من الغالية. وقال مسلم بن صبيح: رأيت ابن الزبير وهو محرم وعلى رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل لاتخذ منه رأس مال. واحتج الذين منعوا ذلك بحديث يعلى بن أمية التميمى الآتي في باب ما يجتنبه المحرم، فقد صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الطيب الذي تضمخ به يعلى قيل الإحرام وأمر بإنقائه، فهو دليل واضح على أن من تضمخ بالطيب قبل إحرامه لا يجوز له الدوام بل يجب غسله وانقاؤه. وقد اعتضد حديث أبي يعلى هذا ببعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة، منهم عمر، وعثمان، وابن عمر، وعثمان بن أبي العاص. قال المالكية ومن وافقهم: قد تبين بهذه الآثار المروية عن هؤلاء الصحابة أن حديث يعلى غير منسوخ. قالوا: وإنكار عمر ذلك في خلافته على صحابين معاوية، والبراء بن عازب، وعلى تابعي كبير كثير بن الصلت بمحضر الجمع الكثير من الناس صحابة وغيرهم مع عدم إنكار أحد عليه، من أقوى الأدلة على تأويل حديث عائشة. قلت: قد أجاب الجمهور عن حديث يعلى بوجهين: أحدهما أن قصته كانت بالجعرانة وهي سنة ثمان بلا خوف، وقد ثبت حديث عائشة الذي نحن في شرحه في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر، والثاني أن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب. فلعل علة الأمر فيه ما خالطه من الزعفران، وقد ثبت النهي عن تزعفر الرجل مطلقًا محرمًا وغير محرم. وفي حديث ابن عمر:((ولا يلبس أي المحرم من الثياب شيئًا مسه الزعفران)) وقد جاء مصرحًا في الحديث في مسند أحمد (ج4: ص224)، والطحاوي (ص364) :((قال له اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك الزعفران)) وأجاب المالكية عن حديث عائشة الذي احتج به الجمهور بوجوه منها أنهم حملوه على أنه تطيب، ثم اغتسل بعده، فذهب الطيب قبل الإحرام، قالوا: ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرمًا، فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى ولا يبقى مع ذلك طيب. ويكون قولها: ثم أصبح ينضح طيبًا، أي قبل غسله، وقد وقع في رواية للشيخين أن ذلك للطيب كان ذريرة وهي مما يذهبه الغسل. وقولها:((كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم)) ، المراد به أثره لا جرمه، قاله القاضي عياض. وقال ابن العربي:
..............................................................................................
ــ
ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عين الطيب بقيت. وأجيب عن ذلك بأن دعوى أن التطيب للنساء، يرده صريح الحديث في قولها:((طيبته لإحرامه)) وادعاء أن اللام للتوقيت خلاف الظاهر، وادعاء أن الطيب زال بالغسل قبل الإحرام، ترده الروايات الصريحة عن عائشة أنها كانت تنظر إلى وبيص الطيب في مفرقه صلى الله عليه وسلم وهو محرم، لأن الوبيص في اللغة: البريق، واللمعان، وهو وصف وجودي، والوصف الوجودي لا يوصف به المعدوم وإنما يوصف به الموجود، فدل على أن الطيب الموصوف بالوبيص موجود بعينه، وهو يرد قول ابن العربي:((أنه لم يرد في شيء من طرق حديث عائشة أن عين الطيب بقيت)) ويؤيده ما رواه أبو داود في سننه. قال النووي: بإسناد حسن، من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال علو وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا. والمسك بضم السين وتشديد الكاف نوع من الطيب يضاف إلى غيره من الطيب ويستعمل، فهذا حجة في جواز بقاء عين الطيب في المحرم بعد الإحرام إن كان استعماله للطيب يضاف إلى غيره من الطيب ويستعمل، فهذا حجة في جواز بقاء عين الطيب في المحرم بعد الإحرام إن كان استعماله للطيب قبل الإحرام. قال الحافظ: يرد دعوى أنه لم يبق للطيب أثر بعد الغسل، قوله في رواية أخرى للحديث المذكور: ثم أصبح محرمًا ينضح طيبًا، فهو ظاهر في أن نضح الطيب وهو ظهور رائحته كان في حال إحرامه ودعوى بعض المالكية أن فيه تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: طاف على نسائه ينضح طيبًا، ثم أصبح محرمًا، خلاف الظاهر. ويرده قوله في رواية عند مسلم: كان إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك، وللنسائي وابن حبان: رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم وقال بعض المالكية: إن الوبيص كان بقايا الدهن المطيب الذي تطيب به فزال وبقى أثره من غير رائحة، ويرده قول عائشة:((ينضح طيبًا)) وقال بعضهم: بقى أثره لا عينه. قال ابن العربى: ليس في شتى من طرق حديث عائشة أن عينه بقيت - انتهى. ثم ذكر الحافظ حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة وقال: فهذا صريح في بقاء عين الطيب ولا يقال: إن ذلك خاص بالنساء لأنهم أجمعوا على أن الرجال والنساء سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين. وقال بعضهم: كان ذلك طيبًا لا رائحة له تمسكًا برواية الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة: ((بطيب لا يشبه طيبكم)) قال بعض رواته: يعني لا بقاء له. أخرجه النسائي. ويرد هذا التأويل ما في الذي قبله، ولمسلم من رواية منصور بن زاذان عن عبد الرحمن بن القاسم: بطيب فيه مسك. وله من طريق الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم: كأني أنظر إلى وبيص المسك. وللشيخين من طريق عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه: ((بأطيب ما أجد)) وللطحاوي، والدارقطني من طريق نافع عن ابن عمر عن عائشة:((بالغالية الجيدة)) وهذا يدل على أن قولها: ((بطيب لا يشبه طيبكم)) أي أطيب منه، لا كما فهمه القائل يعني ليس له بقاء - انتهى. ومنها: أن ذلك التطيب خاص به صلى الله عليه وسلم وأجيب عن ذلك بأن حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة المتقدم نص في عدم خصوص ذلك به
..............................................................................................
ــ
صلى الله عليه وسلم ويعضده الآثار المروية عن بعض الصحابة كما تقدم عن ابن عباس وابن الزبير. وأما إنكار عمر، وعثمان على بعض الصحابة فهو مما لا يعارض به الصحيح المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن سنته أولى بالاتباع من قول كل صحابي مع أنهم خالفهم بعض الصحابة وقد ثبت في صحيح مسلم أن عائشة أنكرت ذلك على ابن عمر رضي الله عنهم. قال الحافظ: ادعى المالكية أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم قاله المهلب وأبو الحسن القصار، وأبو الفرج من المالكية، قال بعضهم: لأن الطيب من دواعي النكاح فنهى الناس عنه وكان هو أملك الناس لإربه ففعله. ورجحه ابن العربي بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح، وقد ثبت عنه أنه قال: حبب إليّ النساء والطيب. أخرجه النسائي من حديث أنس، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس. وقال المهلب: إنما خص بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي. وتعقب بأنه فرع ثبوت الخصوصية، وكيف بها ويردها حديث عائشة بنت طلحة المتقدم، وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عائشة قالت: طيبت أبي بالمسك لإحرامه حين أحرم. وقولها: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين. أخرجه الشيخان. ومنها أن الدوام على الطيب بعد الإحرام كابتداء الطيب في الإحرام بجامع الاستمتاع بريح الطيب في حال الإحرام في كل منهما. وأجيب عن ذلك بأنه منتقض بالنكاح فإن ابتداء عقده في حال الإحرام ممنوع عند الجمهور خلافًا لأبى حنيفة مع الإجماع على جواز الدوام على نكاح وقع عقده قبل الإحرام، ثم أحرم بعد عقده الزوجان وهو دليل على أنه ما كل دوام كالابتداء، وقد تقرر في الأصول أن المانع بالنسبة إلى الابتداء والدوام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: هو المانع للدوام والابتداء معًا كالحديث، فإنه مانع من ابتداء الصلاة، مانع من الدوام عليها إذا طرأ في أثناءها. والثاني: هو المانع للدوام فقط دون الابتداء كالطلاق فإنه مانع من الدوام على العقد الأول والاستمتاع بالزوجية بموجبه، وليس مانعًا من ابتداء عقد جديد والاستمتاع بها بموجبه. والثالث: هو المانع من الابتداء فقط دون الدوام كالنكاح بالنسبة إلى الإحرام، فإن الإحرام مانع من ابتداء العقد، وليس مانعًا من الدوام على عقد كان قبله. قالوا: ومن هذا الطيب فإن الإحرام مانع من ابتدائه، وليس مانعًا من الدوام عليه. ومنها أن حديث عائشة المذكور يقتضي إباحة الطيب لمن أراد الإحرام، وحديث يعلى بن أمية يقتضي منع ذلك والمقر في الأصول أن الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة والجواز، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام. وأجيب عنه بأن محل ذلك فيما إذا جهل المتقدم منهما، أما إذا علم المتقدم فإنه يجب الأخذ بالمتأخر، لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث، وقصة يعلى وقعت بالجعرانة عام ثمان بلا خلاف، وحديث عائشة في حجة الوداع عام عشر، ومن المقرر في الأصول أن النصين إذا تعارضا وعلم المتأخر منهما فهو ناسخ للأول كما هو معلوم في محله. ومنها أن حديث يعلى من قول النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه الصريح في الأمر بإزالة الطيب وإلقائه من البدن وظاهره العموم لأن خطاب الواحد يعم حكمه الجميع لاستواء الجميع في التكليف، والعموم القولي لا يعارضه فعل
ولحله قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك،
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول. وأجيب عنه بما قدمنا آنفًا من الأدلة على ذلك الفعل الذي هو التطيب قبل الإحرام ليس خاصًا به كما دل عليه حديث عائشة المذكور. وقولها في الصحيح: ((طيبته بيدي هاتين)) صريح في أنها شاركته في ملابسة ذلك الطيب. ومنها قياس الطيب على اللبس، وتعقب بأن استدامة اللبس لبس واستدامة الطيب ليس بطيب، ويظهر ذلك بما لو حلف، كذا في الفتح هذا. وقد اتضح بما ذكرنا من أدلة الفريقين ومناقشتها أن القول الراجح المعول عليه هو ما ذهب إليه الجمهور. قال الشنقيطي: أظهر قولي أهل العلم عندي في هذه المسألة أن الطيب جائز عند إرادة الإحرام ولو بقيت ريحه بعد الإحرام لحديث عائشة المتفق عليه، ولإجماع أهل العلم على أنه آخر الأمرين، والأخذ بآخر الأمرين أولى كما هو معلوم، وقد علمت الأدلة على أنه ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم وحديث عائشة بعد حديث يعلى بسنتين، أي فيتعين الأخذ بحديث عائشة (ولحله) أي لأجل خروجه من إحرامه بعد أن يرمي ويحلق (قبل أن يطوف بالبيت) أي طواف الإفاضة. وفي اللباس عند البخاري: قبل أن يفيض. وللنسائي: ((وحين يريد أن يزور البيت)) ولمسلم نحوه. وللنسائي في رواية أخرى: ((ولحله بعد ما يرمي جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت)) قال القارى: قوله: ((قبل أن يطوف بالبيت)) متعلق بـ ((حله)) وفيه دليل على أن الطيب يحل بالتحلل الأول خلافًا لمن ألحقه بالجماع (بطيب) متعلق بأطيب (فيه مسك) قد تقدم في رواية أنه ذريرة، ولا تنافي إذ لا مانع أنهم كانوا يخلطون الذريرة بالمسك. قال الحافظ: واستدل به على حل الطيب وغيره من محرمات الإحرام بعد رمي الجمرة، ويستمر امتناع الجماع ومتعلقاته إلى الطواف بالبيت، وهو دال على أن للحج تحللين، فمن قال: عن الحلق نسك كما هو قول الجمهور وهو الصحيح عند الشافعية، يوقف استعمال الطيب وغيره من المحرمات المذكورة عليه. ويؤخذ ذلك من كونه صلى الله عليه وسلم في حجته رمى ثم حلق ثم طاف فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها:((قبل أن يطوف بالبيت)) - انتهى. والحاصل أن إضافة الحل إلى ما قبل الطواف يؤمي إلى أن الحل الأصغر أي التحلل الأول هو بعد الرمي والحلق وغيرهما ما سوى الطواف. واعلم أن ها هنا ثلاثة مسائل خلافية، الأولى: أن الحلاق هل هو نسك أو إطلاق من محظور أي استباحت محظور، فذهب الجمهور إلى الأول، واختلف فيه قول الشافعي، والصحيح عند الشافعية: أن الحلق نسك كما تقدم في كلام الحافظ. ولا شك أن الذي تدل نصوص الشرع على رجحانه أن الحلاق نسك على من أتم نسكه، وعلى من فاته الحج، وعلى المحصر بعدو، وعلى المحصر بمرض. قال ابن قدامة: والحلق والتقصير نسك، في الحج والعمرة في ظاهر مذهب أحمد، وقول الخرقي، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي. وعن أحمد أنه ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور كان محرمًا عليه بالإحرام فأطلق فيه عند الحل كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام الثانية: أن التحلل الأول هل يحصل بالرمي والحلق معًا أو بالرمي فقط، فمن قال: إن الحلق نسك، قال:
..............................................................................................
ــ
إن التحلل الأول لا يكون إلا بعد الرمي والحلق معًا، ومن قال: إن الحلق غير نسك، قال: يحصل التحلل الأول بمجرد انتهائه من رمي جمرة العقبة يوم النحر، قال مالك: إذا رمى جمرة العقبة فقد حل له قتل القمل، وحلق الشعر، وإلقاء التفث ولبس الثياب. قال الزرقاني: ولم يبق عليه من محرمات الإحرام سوى النساء والصيد، وكره الطيب حتى يطوف للإفاضة - انتهى. قال الباجى: وذلك أن موانع الإحرام على ضربين: رفث، وإلقاء تفث، فالرفث هو الجماع، وما في معناه مما يدعو إليه، وأما إلقاء التفث فهو كحلق الشعر، وخلع ثياب الإحرام، فأما إلقاء التفث فهو مباح بأول التحللين وهو رمي الجمرة، وأما الرفث فإنه لا يستباح إلا بآخر التحللين وهو طواف الإفاضة - انتهى. قال الدردير: حل برميها أي جمرة العقبة، وكذا بخروج وقت أدائها غير جماع ومقدماته وغير صيد، فحرمتهما باقية، وكره الطيب وهذا هو التحلل الأصغر. ومذهب الحنفية في المشهور عندهم أن الرمي غير محلل، ولا يحصل التحلل عندهم إلا بالحلق أو التقصير، قال الشنقيطي (ج5: ص288) : مذهب مالك أنه بمجرد رمي جمرة العقبة يوم النحر يحل له كل شيء إلا النساء والصيد والطيب، والطيب مكروه عنده بعد رميها لإحرام. وإن طاف طواف الإفاضة وكان قد سعى حل له كل شيء. ومذهب أبى حنيفة أنه إذا حلق أو قصر حل التحلل الأول ويحل به كل شيء عنده إلا النساء، وإن طاف طواف الإفاضة حل له النساء، وهم يقولون: إن حل النساء بعد الطواف إنما هو بالحلق السابق لا بالطواف لأن الحلق هو المحلل دون الطواف غير أنه أخر عمله إلى ما بعد الطواف فإذا طاف عمل الحلق عمله، كالطلاق الرجعي أخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته إلى الاسترداد، فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت. والدليل على ذلك أنه لو لم يحلق حتى طاف بالبيت لم يحل له شتى حتى يحلق، وبذلك تعلم أن المدار عندهم على الحلق، إلا أن الحلق عندهم بعد رمي جمرة العقبة وبعد النحر إن كان الحاج يريد النحر، ومذهب الشافعي أنه على القول بأن الحلق نسك يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة: هي رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة. فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة تحلل التحلل الأول، وإن فعل الثالث منها تحلل التحلل الثاني. وبالأول: يحل عنده كل شيء إلا النساء، وبالثاني: تحل النساء، وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك، فالتحلل الأول يحصل بواحد من اثنين هما: رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة، ويحصل التحلل الثاني بفعل الثاني، ومذهب الإمام أحمد أنه إن رمى جمرة العقبة ثم حلق تحلل التحلل الأول، وبه يحل عنده كل شيء إلا النساء. فإن طاف طواف الإفاضة حلت له النساء - انتهى. وقال ابن قدامة (ج3: ص392) : قول الخرقي: ((قصر من شعره ثم قد حل)) يدل على أنه لا يحل إلا بعد التقصير، وهذا ينبني على أن التقصير نسك وهو المشهور، فلا يحل إلا به، وفي رواية أخرى: أنه إطلاق من محظور. وقال أيضاً (ج3: ص439) : ظاهر كلام الخرقي أن الحل إنما يحصل بالرمي والحلق معا وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا
..............................................................................................
ــ
رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما. ولأنهما نسكان يتعقبهما الحل، فكان حاصلاً بهما. وعن أحمد إذا رمى الجمرة فقد حل، ولم يذكر الحلق، وهذا يدل على أن الحل بدون الحلق، وهذا قول عطاء، ومالك، وأبى ثور، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله في حديث أم سلمة: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، وكذلك قال ابن عباس. قال بعض أصحابنا: هذا مبني على الخلاف في الحلق هل هو نسك أو لا؟ فإن قلنا: نسك حصل الحل به وإلا فلا. وفي الروض المربع: يحصل التحلل الأول باثنين من حلق، ورمي، وطواف، والتحلل الثاني بما بقى مع سعي - انتهى. وبه جزم النووي في مناسكه فقال: أي اثنين منها أتى بهما حصل التحلل الأول، ويحصل التحلل الثاني بالعمل الباقي من الثلاثة. هذا على المذهب الصحيح المختار أن الحلق نسك وقال الولي العراقي في طرح التثريب (ج5: ص80) : قال جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة: للحج تحللان، ثم اختلفوا في أمرين (أحدهما) فيما يحصل به التحلل الأول، فقال الشافعية: إن قلنا إن الحلق نسك وهو الصحيح المشهور حصل التحلل الأول بفعل أمرين من ثلاثة أمور: وهي رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة مع سعيه إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم، فإذا فعل اثنين منها أي اثنين كانا حصل التحلل الأول. وإن قلنا إن الحلق ليس نسكًا حصل التحلل الأول بواحد من الرمي والطواف، فأيهما فعله أولاً حل التحلل الأول، وعند أصحابنا يجوز تقديم بعض هذه الأمور على بعض، وترتيبها بتقديم الرمي ثم الحلق ثم الطواف مستحب فقط. قالوا: ولو لم يرم جمرة العقبة حتى خرجت أيام التشريق فات الرمي ولزمه دم، ويصير كأنه رمى بالنسبة لحصول التحلل به. والأصح عند الرافعي، والنووي أنه يتوقف تحلله على الإتيان ببدله، ولكن نص الشافعي على خلافه وحكى الرافعي وجهًا شاذًا أنه يحصل التحلل الأول بالرمي وحده أو الطواف وحده، ولو قلنا الحلق نسك. وقال الحنابلة: يحصل التحلل الأول بالرمي والحلق، وقال المالكية للحج تحللان يحصل أحدهما برمي جمرة العقبة والآخر بطواف الإفاضة، ولو قدم طواف الإفاضة على جمرة العقبة قال مالك، وابن القاسم: يجزئه وعليه هدي. وعن مالك أيضاً لا يجزئه، وهو كمن لم يفض، وقال أصبغ: أحب إلى أن يعيد الإفاضة وهو في يوم النحر آكد وقال الحنفية: إن التحلل الأول بالحلق خاصة دون الرمي والطواف فليسا من أسباب التحلل، وفرقوا بأن التحلل هو الجناية في غير أوانها، وذلك مختص بالحلق. وأما ذبح الهدي فليس مما يتوقف عليه التحلل، إلا أن الحنفية والحنابلة قالوا: إن المتمتع إذا كان معه هدي لا يحل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر
…
(الأمر الثاني) فيما يحل بالتحلل الأول - وهي المسألة الثالثة - وقد اتفق هؤلاء على أنه يحل به ما عدا الجماع ومقدماته، وعقد النكاح، والصيد والطيب، وأجمعوا على أنه لا يحل الجماع. واختلفوا في بقية هذه الأمور فقال الشافعية: يحل الصيد والطيب، واختلفوا في عقد لنكاح والمباشرة فيما دون الفرج.
..............................................................................................
ــ
وفيه قولان للشافعي أصحهما التحريم، كذا صححه النووي، ونقله عن الأكثرين. وذكر الرافعي أن القائلين به أكثر عددًا، وقولهم أوفق لظاهر النص في المختصر، ولكنه صحح في الشرح الصغير الحل. واقتضى كلامه في المحرر التفصيل بين المسألتين، فصرح بإباحة عقد النكاح بالأول وجعل المباشرة داخلة فيما يحل بالثاني، وكلام الحنابلة موافق للمرجح عندنا. وعبارة الشيخ مجد الدين ابن تيمية في المحرر: ثم قد حل من كل شيء إلا النساء، وعنه: يحل إلا من الوطء في الفرج، وكذا مذهب الحنفية. قال صاحب الهداية: وقد حل له كل شيء إلا النساء، ثم قال: ولا يحل الجماع فيما دون الفرج عندنا خلافًا للشافعي، فنصب الخلاف معه على أحد قوليه. وأما عقد النكاح فهو جائز عندهم في الإحرام وقال المالكية: يستمر تحريم النساء والصيد والطيب إلا أنهم أوجبوا في الصيد الجزاء ولم يوجبوا في الطيب الفدية كما تقدم. قال ابن حزم الظاهري: وهذا عجب، فإن احتجوا بالأثر الوارد في تطييب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يطوف بالبيت قلنا: لا يخلو هذا الأثر أن يكون صحيحًا ففرض عليكم ألا تخالفوه، وقد خالفتموه، أو غير صحيح فلا تراعوه، وأوجبوا الفدية على من تطيب كما أوجبتموها على من تصيد. وقال ابن عبد البر: راعى مالك الاختلاف في هذه المسألة فلم ير الفدية على من تطيب بعد رمي جمرة العقبة وقبل الإفاضة. وقال أبو عباس القرطبي: اعتذر بعض أصحابنا عن هذا الحديث بادعاء خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قلنا الأصل التشريع وعدم التخصيص، والقول بالتخصيص يحتاج إلى دليل، وليس ثم دليل على ذلك. وقال ابن العربي: هذه مسألة مشكلة قديمًا، اختلف السلف فيها على أربعة أقوال: الأول: أن من رمى الجمرة حل له كل شيء إلا النساء والطيب. الثاني: زاد مالك: ((والصيد)) لقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (5: 95) وهذا حرام بعد. الثالث: قال عطاء إلا النساء والصيد لأن الطيب حل بفعله صلى الله عليه وسلم فبقى النساء والصيد على تحريمه. الرابع: النساء خاصة، وهو قول الشافعي وهو حديث عائشة وهو الصحيح. وبه قال ابن عباس، وطاوس، وعلقمة - انتهى. قلت: وفيه قول خامس كما قال ابن النذر: وهو أن المحرم إذا رمى الجمرة يكون في ثوبيه حتى يطوف بالبيت، كذلك قال أبو قلابة. قال ابن قدامة: روي عن عروة أنه قال: لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا يتطيب. وروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم فيما أبيح للحاج بعد رمي جمرة العقبة قبل الطواف بالبيت، فقال عبد الله بن الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم بن عبد الله، وطاوس، والنخغي، وعبد الله بن حسن، وخارجة بن زيد، والشافعي، وأحمد ، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: يحل له كل شيء إلا النساء، وروينا ذلك عن ابن عباس، وقال عمر بن الخطاب، وابن عمر: يحل له كل شيء إلا النساء والطيب. وقال مالك: يحل له كل شيء إلا النساء والطيب والصيد - انتهى. قال الباجى: مذهب مالك المنع من ذلك ومن دواعي النكاح. قال: ومن رمى جمرة العقبة حل له كل شيء إلا النساء والطيب والصيد، فإذا أفاض حل له كل شيء، فمن تطيب قبل أن يفي فلا فدية عليه، لأنه وجد منه أحد التحللين، ووجه آخر أنه محل اختلف في استباحة
..............................................................................................
ــ
استعمال الطيب فيه فلم يجب له فدية، أصل ذلك التطيب للإحرام - انتهى. وقال الأبي: القول بسقوط الفدية هو له في المدونة. وعنه رواية أخرى بثبوتها، ولا يتحقق لزومها إلا إذا كان المنع على وجه التحريم - انتهى. وذكر ابن قدامة في المغني (ج3: ص438) اختلاف العلماء في هذه المسألة نحو ما تقدم عن ابن المنذر، وقال: إن المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق حل له كل ما كان محظورًا بالإحرام إلا النساء، هذا الصحيح من مذهب أحمد نص عليه في رواية جماعة فيبقى ما كان محرمًا عليه من النساء من الوطء والقبلة واللمس بشهوة وعقد النكاح، ويحل له ما سواه، وعن أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج لأنه أغلظ المحرمات، ويفسد النسك بخلاف غيره - انتهى. وفى الروض المربع من فروع الحنابلة: ثم إذا رمى، وحلق، أو قصر، فقد حل له كل شيء كان محظورًا بالإحرام إلا النساء وطئًا ومباشرة وقبلة ولمسًا بشهوة وعقد النكاح - انتهى. وبه جزم النووي في المناسك إذ قال: ويحل بالتحلل الأول جميع المحرمات بالإحرام إلا الاستمتاع بالنساء فإنه يستمر تحريمه حتى يتحلل التحللين، وكذا يستمر تحريم المباشرة بغير الجماع على الأصح، زاد ابن حجر: أي وتحريم عقد النكاح كما في المنهاج وغيره - انتهى. وقال العيني (ج10: ص93) بعد ذكر اختلاف العلماء عن ابن المنذر: قلت مذهب عروة وجماعة من السلف أنه لا يحل للحاج اللباس والطيب يوم النحر وإن رمى جمرة العقبة وحلق وذبح حتى تحل له النساء، ولا تحل له النساء حتى يطوف طواف الزيارة. وقال علقمة، وسالم، وطاوس، وخارجة بن زيد، وإبراهيم النخعي، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وأحمد في الصحيح، وأبو ثور، وإسحاق: إذا رمى المحرم جمرة العقبة ثم حلق حل له كل شيء كان محظورًا بالإحرام إلا النساء، واختلفوا في حكم الطيب فقال أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد في رواية: حكم الطيب حكم اللباس فيحل كما يحل اللباس. وقال مالك، وأحمد في رواية: حكم الطيب حكم الجماع فلا يحل له حتى يحل الجماع - انتهى. قلت: قد تقدم في بيان المسألة الثانية أن المحلل عند الحنفية الحلق، ولذا قال القاري في شرح اللباب: حكمه أي الحلق التحلل فيباح به جميع ما حظر بالإحرام من الطيب والصيد ولبس المخيط وغير ذلك إلا الجماع ودواعيه كالتقبيل واللمس على ما ذكره الكرماني، لكن في منسك الفارسي والطرابلسى: لا يحل الجماع فيما دون الفرج بخلاف اللمس والقبلة - انتهى. ولعل مرادهما أنهما مكروهان بخلاف الجماع فيما دون الفرج فإنه حينئذٍ حرام فلا تنافي، فإنه أي الجماع وتوابعه يتوقف حله على طواف الإفاضة - انتهى. قال الشنقيطى: لم أر لمالك بالنسبة إلى الصيد مستندًا من النقل إلا أمرين: أحدهما: أثر مروي عن مكحول عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب والصيد. ذكر هذا الأثر صاحب المهذب. وقال النووي في شرحه: وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فهو مرسل، لأن مكحولاً لم يدرك عمر، فحديثه عنه منقطع. والثاني التمسك بظاهر قوله تعالى:{لا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (95: 5) لأن حرمة الجماع المتفق عليها بعد رمي جمرة العقبة دليل على بقاء إحرامه في الجملة فيشمله عموم
..............................................................................................
ــ
{لا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} لأنه لو زال حكم إحرامه بالكلية لما حرم عليه الوطء. وأما حجته مالكًا أعني مالكًا بالنسبة إلى النساء والطيب فهي ما روى في موطأه عن نافع، وعبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، لا يمس أحد نساء ولا طيبًا حتى يطوف بالبيت. قال الباجي: لم يذكر عمر تحريم الصيد لأن المقيم بها مقيم بالحرم، والصيد ممنوع فيه للحلال فلا يستبيحه لطواف الإفاضة ولا غيره، وإنما تكلم على ما يستباح بطواف الإفاضة ويمنع منه الإحرام خاصة دون حرمة الحرم. ولا خلاف على المذهب أن الصيد ممنوع في ذلك الوقت في الحل، فلو أصابه في الحل قبل طواف الإفاضة لكان عليه جزاؤه، وقد قال به ابن القاسم - انتهى. ومما يستدل به لمالك على منع الطيب ما رواه الحاكم في المستدرك (ج1: ص461) من طريق يحيى بن سعيد، وعن القاسم بن محمد عن عبد الله بن الزبير، قال: من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والصبح بمنى ثم يغدو إلى عرفة - الحديث. وفيه فإذا رمى الجمرة الكبرى حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يزور البيت. ثم قال: هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولم يتعقبه عليه الذهبي. ولا يخفى أن هذه الآثار لا تصلح لمعارضة أحاديث حل الطيب المرفوعة الصحيحة، وعلى فرض أن أثر ابن الزبير مرفوع، فهو أيضاً لا يعتد به بجنب الأحاديث الدالة على حل الطيب ولا سيما وهى مثبته لحله. قال الشنقيطي: وأما حجة من قال: إنه إن رمى جمرة العقبة وحلق حل له كل شيء إلا النساء، كأحمد والشافعي ومن وافقهما فمنها حديث عائشة المتفق عليه يعني الحديث الذي نحن في شرحه، وقد ذكر مسلم لهذا الحديث ألفاظًا متعددة متقاربة معناها واحد، ومنها ما رواه أحمد (ج1: ص234، 344، 369) والنسائي، وابن ماجة، والطحاوي، والبيهقي من طريق الحسن العرني عن ابن عباس، قال: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء. قال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟ قال في البدر المنير: إسناده حسن كما قاله المنذري، إلا أن يحيى بن معين وغيره قالوا: إن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس. ومنها ما رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني، والبيهقي، وسعيد بن منصور، والطحاوي من طريق الحجاج بن أرطاة عن الزهري عن عمرة عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء. قال أبو داود، ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة: إن الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه شيئًا. ورواه الطحاوي والبيهقي أيضاً من طريق الحجاج بن أرطاة عن أبى بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة. قال المنذري: قد ذكر غير واحد من الحفاظ أن الحجاج بن أرطاة لا يحتج بحديثه - انتهى. وقد ذكر المصنف حديث ابن عباس المتقدم وحديث عائشة هذا في باب خطبة يوم النحر
..............................................................................................
ــ
ورمي أيام التشريق، ويأتي بقية الكلام عليهما هناك إن شاء الله. ومنها ما رواه أبو داود والحاكم (ج1: ص489) والبيهقي من حديث أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم النحر: إن هذا يوم رخص لكم إذا رميتم أن تحلوا يعني من كل ما حرمتم منه إلا النساء. وفي إسناده محمد بن إسحاق، ولكنه صرح بالتحديث، قال الحافظ وأعتذر بعض المالكية عن الأحاديث الدالة على حل الطيب بعد رمي جمرة العقبة قبل طواف الإفاضة بأن عمل أهل المدينة على خلافها، وتعقب بما رواه النسائي من طريق أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسًا من أهل العلم منهم: القاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر، وعمر عبد العزيز، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث فسألهم عن التطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره به، فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من اعين قد اتفقوا على ذلك فكيف يدعي مع ذلك العمل على خلافه؟ قال الشنقيطي: وأما ما ذكرنا عن الشافعي من أنه يحل له كل شيء إلا النساء باثنين من ثلاثة: هي الرمي، والحلق، والطواف وتحل النساء بالثالث منها، بناء على أن الحلق نسك، وعلى أنه ليس بنسك يحل له كل شيء إلا النساء بواحد من اثنين: هما: الرمي، والطواف، وتحل له النساء بالثاني منهما. لم نعلم له نصًا يدل عليه هكذا، والظاهر أنه رأى هذه الأشياء لها مدخل في التحلل، وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق فجعل هو الطواف كواحد منهما قال: والتحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول لحديث عائشة المتفق عليه الذي هو صريح في ذلك، وكذلك لبس الثياب، وقضاء التفث، وأن الجماع لا يحل له إلا بالتحلل الأخير، وأما حلية الصيد بالتحلل الأول فهي محل نظر، لأن الأحاديث التي فيها التصريح بأنه يحل له كل شيء إلا النساء، قد علمت ما فيها من الكلام، وحديث عائشة المتفق عليه لم يتعرض لحل الصيد، وظاهر قوله:{لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} يمكن أن يتناول ما بعد التحلل الأول لأن حرمة الجماع تدل على أنه متلبس بالإحرام في الجملة وإن كان قد حل له بعض ما كان حرامًا عليه - انتهىكلام الشنقيطي. تنبيه: عقد الترمذي لحديث عائشة هذا ((باب ما جاء في الطيب عند الإحلال قبل الزيارة)) وقال بعد روايته: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر وذبح وحلق أو قصر فقد حل له كل شيء إلا النساء وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق (وهو قول الحنفية) وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: حل له كل شيء إلا النساء والطيب. (أخرجه محمد في الموطأ بلفظ ((من رمى الجمرة ثم حلق أو قصر ونحر هديًا إن كان معه، حل له ما حرم عليه في الحج إلا النساء والطيب حتى يطوف بالبيت)) .) وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم (وبه قال ابن عمر رضي الله عنه وهو قول مالك) وهو قول أهل الكوفة (ليس المراد بأهل الكوفة الإمام أبا حنيفة لأن مذهبه في هذا الباب هو ما ذهب إليه الشافعي، وأحمد، وإسحاق) . قال محمد في الموطأ بعد رواية أثر عمر المذكور: هذا قول عمر، وابن عمر، وقد روت عائشة خلاف ذلك. قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين
كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
ــ
بعد ما حلق قبل أن يزور البيت. فأخذنا بقولها، وعليه أبو حنيفة والعامة من فقهائنا - انتهى. والعبارات المذكورة بين القوسين كلها لشيخنا في شرح كلام الترمذي، وكلام شيخنا في شرح هذا المقام وكذا كلام الترمذي كلاهما. واضح بين حق وصواب ليس فيه أدنى خفاء وغموض لكن مع وضوحه لم يفهمه البنوري بل أخطا خطأ فاحشًا فاعترض على شيخنا، وليس ذلك إلا لسوء فهمه وسقمه:
وكم من عائب قولاً صحيحًا وآفته من الفهم السقيم أو لعدائه الكامن في قلبه مع أصحاب الحديث عامة ومع شيخنا خاصة، حيث اعترض عليه ولم يدر ما يخرج من فيه وما يسود به القرطاس قال البنوري في ((معارف السنن)) (ج6: ص526) : وما ذكره الترمذي من عدم الجواز قول أهل الكوفة فليس هو مذهبه أهل الكوفة من الإمام أبى حنيفة وأصحابه، بل هو مذهب محمد بن الحسن الشيباني من أصحابه كما صرح به الموطأ بعد رواية أثر عمر الفاروق: فقال وبهذا نأخذ
…
قال: وأما أبو حنيفة فإنه كان لا يرى به بأسًا - انتهى. هكذا عبارة الإمام محمد في موطأه، وما ذكره الشيخ المباركفوري في تحفته معزوًا إلى الموطأ فقد غلط وأخطأ في نقل عبارته، ولا أدري ماذا حدث له. والله أعلم - انتهى كلام البنوري. قلت: لم يخطأ شيخنا في نقل العبارة عن الموطأ كما لا يخفى على من طالع موطأه (ص227) باب ما يحرم على الحاج بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر فكل ما كتبه شيخنا في شرح الترمذي في هذا الباب هو حق وصواب. نعم كلام البنوري يدل على أنه لم يفهم كلام الترمذي أصلاً حيث نقل كلام الإمام محمد عن موطأه من باب من تطيب قبل أن يحرم (ص197، 198) مع أنه لا علاقة له بما ذكره الترمذي في الباب المذكور من أثر عمر، واختلاف أهل العلم في مسألة التطيب بعد الرمي والحلق قبل طواف الزيارة (كأني أنظر) أرادت بذلك قوة تحققها لذلك بحيث أنها لشدة استحضارها له كأنها ناظرة إليه (إلى وبيص الطيب) أي بريقه ولمعانه، وفي رواية لمسلم:((وبيص المسك)) والوبيص بفتح الواو وكسر الموحدة بعدها ياء تحتانية ثم صاد مهملة البريق، من وبص الشيء يبص وبيصًا أي برق. وقال الإسماعيلي: الوبيص زيادة على البريق وأن المراد به التلألؤ وأنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط (في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الميم جمع مفرق بفتح الميم وكسر الراء ويجوز فتحها وهو المكان الذي يفرق فيه الشعر في وسط الرأس، قيل: ذكرته بصيغة الجمع نظرًا إلى أن كل جزء منه كان مفرقًا. قال القاري: المفرق وسط الرأس الذي يفرق فيه شعر الرأس وإنما ذكر على لفظ الجمع تعميمًا لسائر جوانب الرأس التي يفرق فيها كأنهم سموا كل موضع منه مفرقًا وفي رواية للشيخين: ((مفرق)) على لفظ الواحد وهكذا ذكره البغوي في مصابيح السنة. وفي رواية البخاري في اللباس ((كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته)) (وهو محرم) زاد النسائي، وابن حبان، وابن ماجة:((بعد ثلاث)) وفيه دليل
متفق عليه.
2565-
(2) وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً
ــ
على أن بقاء أثر الطيب ورائحته بعد الإحرام لا يضر ولا يوجب فدية كما هو مذهب الجمهور: الشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم من السلف والخلف خلافًا لمالك ومن وافقه. (متفق عليه) أي على أصل الحديث، وقد رواه البخاري في الطهارة، وفي الحج، وفي اللباس، ومسلم في الحج، وصنيع المصنف والبغوي يدل على أن سياق الحديث على النسق المذكور للشيخين جميعًا وأنهما أورداه بهذا اللفظ، والأمر ليس كذلك فقولها:((لإحرامه قبل أن يحرم ولحله)) لمسلم. ولفظ البخاري: ((لإحرامه حين يحرم)) وفي أخرى له: ((حين أحرم ولحله حين أحل)) وقولها: ((بطيب فيه مسك)) لمسلم وحده. وأما قولها: ((كأني أنظر)) إلخ. فقد اتفقنا عليه، رواه البخاري في الطهارة، والحج، ومسلم في الحج والحديث أخرجه أيضاً أحمد، ومالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، والطحاوي، وابن الجارود، والبيهقي وغيرهم بألفاظ مختلفة متقاربة المعنى من شاء الوقوف على اختلاف روايات الشيخين وأصحاب السنن رجع إلى جامع الأصول (ج3: ص397) .
2565-
قوله: (يهل) من الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية (ملبدًا) بكسر الباء وفتحها، حال من فاعل يهل، أي سمعته يرفع صوته بالتلبية حال كونه ملبدًا شعر رأسه بنحو الصمغ لينضم الشعر ويلتصق بعضه ببعض احترازًا عن تمعطه وتقمله. قال العلماء: التلبيد إلصاق شعر الرأس عند الإحرام بالصمغ أو الخطمي وشبههما مما يضم الشعر ويلزق بعضه ببعض ويمنعه من التشعث، والتمعط، والتقمل، وتخلل الغبار في الإحرام، وإنما يفعل ذلك من يطول مكثه في الإحرام، واستفيد من استحباب التلبيد قبل الإحرام لكونه أرفق به. وقد نص عليه الشافعي وأصحابه، وهو موافق لحديث الأعرابي الذي خر عن بعيره وهو محرم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يمسوه بطيب ولا يخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا. وفي رواية ((ملبدًا)) رواه أحمد، والشيخان. قلت: التلبيد مندوب عند الشافعية صرح به العيني، والقسطلاني، والطبري وغيرهم، وكذا ذكره في مندوبات الإحرام أصحاب فروع الشافعية كصاحب تحفة المحتاج (ج4: ص56) وغيره، وأما عند الحنفية فصرح أهل فروعهم أن التلبيد إن كان بالثخين ففيه دم للتغطية وإن كان مع الطيب أيضاً ففيه دمان. قال ابن الملك: التلبيد جائز عند الشافعي، وعندنا يلزمه دم إن لبد بما ليس فيه طيب لأنه كتغطية الرأس، ودمان إن كان فيه طيب. وأشكل عليه صاحب البحر بما ثبت في الصحيحين من تلبيده صلى الله عليه وسلم. قال ابن عابدين في هامشه: أجاب عنه العلامة المقدسي في شرحه بقوله: أقول لا ريب في وجوب حمل فعله صلى الله عليه وسلم على ما هو سائغ بل ما هو أكمل. فالتلبيد الذي فعله صلى الله عليه وسلم يسير لا يحصل به التغطية، ولا يمنع ابتداء فعله في الإحرام ولا بقاؤه. والموجب للدم يحمل على المبالغة فيه بحيث تحصل منه تغطية. وقال أيضاً في رد المحتار: وعليه يحمل ما في الفتح عن رشيد الدين في مناسكه إذ قال: وحسن أن يلبد رأسه قبل الإحرام - انتهى. وقال صاحب الغنية (ص35) : وحسن أن يلبد رأسه بنحو خطمي أو
يقول: لبيك
ــ
غيره لكن تلبيدًا سائغًا وهو اليسير الذي لا يحصل به التغطية، فإن استصحاب التغطية الكائنة قبل الإحرام لا يجوز بخلاف الطيب، وعليه يجب أن يحمل تلبيده صلى الله عليه وسلم في إحرامه، وتمامه في جنايات رد المحتار. وقال القاري: ولعله كان به صلى الله عليه وسلم عذر، قال: ويمكن حمله على التلبيد اللغوي من جمع الشعر ولفه وعدم تخليته متفرقًا، ففي القاموس: تلبد الصوف ونحوه تداخل ولزق بعضه ببعض - انتهى. قلت: حمل فعله صلى الله عليه وسلم على عذر يحتاج إلى دليل، والأصل عدم العذر وأما حمل التلبيد على المعنى اللغوي ففيه: أن شراح الحديث، وأهل اللغة، وأصحاب غريب الحديث: كالخطابي، والحافظ، والعيني، والمجد، والجوهري، والجزري، والزمخشري وغيرهم قد اتفقوا على ما ذكرنا من العلماء من معنى التلبيد، ولزوق بعض الصوف أو الشعر ببعضه لا يحصل إلا بما يصلح للإلزاق والإلصاق كالصمغ أو الخطمي أو العسل وما يشبه ذلك، ويؤيد ذلك ما سيأتي في الفصل الثاني من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم لبد رأسه بالغسل. قال الحافظ: قال ابن عبد السلام يحتمل أنه بفتح المهملتين، ويحتمل أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة، وهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره. قال الحافظ ضبطناه في روايتنا في سنن أبى داود بالمهملتين - انتهى. والظاهر أن ابن عمر ذكر ما رأى من تلبيده صلى الله عليه وسلم عند الإحرام وهو الذي فهمه أبو داود وغيره حيث أورد حديثه هذا في المناسك (يقول) بدل من يهل (لبيك) اختلف في لفظه وفي اشتقاقه ومعناه، أما لفظة فتثنية عند سيبويه ومن تبعه، يراد بها التكثير في العدد والعود مرة لا أنها لحقيقة التثنية بحيث لا يتناول إلا فردين وقال يونس بن حبيب البصري: هو اسم مفرد، والياء فيه كالياء في لديك وعليك وإليك، يعني في انقلاب الألف ياء لاتصالها بالضمير، ورد بأنها قلبت ياء مع المظهر. وعن الفراء: هو منصوب على المصدر ولا يكون عامله إلا مضمرًا وأصله ((لبا لك)) فثني على التأكيد أي ألب إلبابًا بعد إلبابٍ. وأما معناه: فقيل: معناه أجبتك إجابة بعد إجابة أو إجابة لازمة، قال ابن الأنباري: ومثله حنانيك أي تحننًا بعد تحنن، وقيل: معناه أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة، من ألب بالمكان كذا ولب به، إذا أقام به ولزمه، وقيل معناه: اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم: دارى تلب دارك وتواجهها. وقيل: معناه محبتي لك من قولهم: امرأة لبة إذا كانت محبة لزوجها، وعاطفة على ولدها، وقيل: إخلاصي لك من قولهم: حسب لبابك أي خالص محض ومن ذلك لب الطعام، ولبابه، وقيل: قربًا منك من الإلباب وهو: القرب، وقيل: معناه أنا ملب بين يديك، أي خاضع لك. حكى هذه الأقوال القاضي عياض وغيره. قال الحافظ، والعيني: والأول منها أظهر وأشهر، لأن المحرم مستجيب لدعاء الله إياه في حج بيته، ولهذا من دعا فقال: لبيك فقد استجاب. وقال ابن عبد البر: قال جماعة من أهل العلم: إن معنى التلبية: إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام حين أذن في الناس بالحج - انتهى. قال الحافظ: وهذا أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبى حاتم بأسانيدهم في تفاسيرهم عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة وقتادة وغير واحد، والأسانيد إليهم قوية، وأقوى ما فيه عن ابن عباس ما أخرجه أحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبى ذبيان عن أبيه، عنه، قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له:
اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك،
ــ
أذن في الناس بالحج، قال: رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعليّ البلاغ. قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون. ومن طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وفيه:((فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء)) ، وأول من أجابه أهل اليمن. فليس حاج يحج من يومئذٍ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذٍ. قال ابن المنير في الحاشية: وفي مشروعيته التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى (اللهم لبيك) أي يا الله! أقمت ببابك إقامة بعد إقامة وأجبت نداءك إجابة بعد أخرى. وجملة ((اللهم)) بمعنى يا الله بين المؤكد والمؤكد، والتثنية لإفادة التكرار والتكثير، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (67: 4) أي كرات كثيرة، وتكرار اللفظ لتوكيد ذلك (لبيك لا شريك لبيك) استئناف فيستحسن الوقف على لبيك الثانية كما يستحسن على الرابعة. قال القاري: التلبية الأولى المؤكدة بالثانية لإثبات الألوهية، وهذه بطرفيها لنفي الشركة الندية والمثلية في الذات والصفات (إن الحمد) روى بكسر الهمزة على الاستيناف وفتحها على التعليل، وجهان مشهوران لأهل الحديث واللغة. قال الجمهور: والكسر أجود. وحكاه الزمخشري عن أبى حنيفة، وابن قدامة عن أحمد بن حنبل، وحكاه ابن عبد البر عن اختيار أهل العربية. وقال الخطابي: الفتح رواية العامة. وحكاه الزمخشري عن الشافعي. وقال ثعلب: الاختيار الكسر، وهو أجود في المعنى من الفتح، لأن من كسر جعل معناه: إن الحمد والنعمة لك على كل حال، ومن فتح قال معناه: لبيك لهذا السبب، وكذا رجح الكسر ابن دقيق العيد، والنووي، قال ابن دقيق العيد: لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة، وأن الحمد والنعمة لله على كل حال، والفتح يدل على التعليل، فكأنه يقول: أجبتك لهذا السبب، والأول أعم وأكثر فائدة. وقال ابن الهمام: الكسر أوجه ويحوز الفتح، أما الكسر فهو على استيناف الثناء وتكون التلبية للذات، والفتح على أنه تعليل للتلبية، أي لبيك لأن الحمد والنعمة لك. ومال الباجي إلى أن لا مزية لأحد الوجهين على الآخر، وقال ابن عبد البر: المعنى عندي واحد، لأنه يحتمل أن يكون من فتح الهمزة أراد لبيك لأن الحمد على كل حال، والملك لك والنعمة وحدك دون غيرك حقيقة لا شريك لك. وتعقب بأن التقييد ليس في الحمد، وإنما هو في التلبية، فمعنى الفتح تلبيته بسبب أن له الحمد، ومعنى الكسر تلبيته مطلقًا غير معلل ولا مقيد فهو أبلغ في الاستجابة لله (والنعمة لك) المشهور فيه النصب. قال عياض: ويجوز الرفع على الابتداء، ويكون الخبر محذوفًا، والتقدير: إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك. قال ابن الأنباري: إن شئت جعلت خبر إن محذوًفا، والموجود خبر المبتدأ تقديره: إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك (والملك) بالنصب أيضاً على المشهور، ويجوز الرفع وتقديره: والملك كذلك، قال الحافظ: وقال الولي العراقي: فيه وجهان أيضاً، أشهرهما النصب
لا شريك لك. لا يزيد على هؤلاء الكلمات
ــ
عطفًا على اسم إن، والثاني الرفع على الابتداء، والخبر محذوف لدلالة الخبر المتقدم عليه. ويحتمل أن تقديره: والملك كذلك. وقال القاري: بالنصب عطف على الحمد ولذا يستحب الوقف عند قوله: ((والملك)) قال ابن المنير: قرن الحمد والنعمة وأفرد ((الملك)) لأن الحمد متعلق بالنعمة ولهذا يقال: الحمد لله على نعمه فجمع بينهما، وأما الملك فهو معنى مستقل بنفسه ذكر لتحقيق أن النعمة كلها لله لأنه صاحب الملك. قال القاري: ولا مانع من أن يكون ((الملك)) مرفوعًا، وخبره (لا شريك لك) أي فيه (لا يزيد) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (هؤلاء الكلمات) أي التلبية المذكورة. قيل: هذا لا ينافي ما رواه النسائي وغيره من حديث أبى هريرة قال: كان من تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لبيك إله الحق)) لاحتمال أن ابن عمر لم يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم وسمعها أبو هريرة، والظاهر أنه كان يقول هذه الجملة التي رواها أبو هريرة قليلاً لتضافر الروايات على رواية ابن عمر. قلت حديث ابن عمر الذي نحن في شرحه رواه الشيخان من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وروى أحمد (ج2: ص47، 77) ، ومالك، ومسلم من طريق نافع عن ابن عمر مرفوعًا لفظ التلبية كما هو متفق عليه، ثم زادوا ((قال (أي نافع) وكان عبد الله بن عمر يزيد مع هذا: لبيك، لبيك، لبيك وسعديك والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل)) فإن قيل: كيف زاد ابن عمر في التلبية ما ليس منها مع أنه كان شديد التحري لإتباع السنة؟ واللائق بورعه وشدة إتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يزيد على تلبيته صلى الله عليه وسلم أجاب الأبي بأنه رأى أن الزيادة على النص ليست نسخًا، وأن الشيء وحده كذلك هو مع غيره، فزيادته لا تمنع من إتيانه بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم، أو فهم عدم القصر على أولئك الكلمات، وأن الثواب يتضاعف بكثرة العمل، واقتصار المصطفى صلى الله عليه وسلم بيان لأقل ما يكفي وأجاب الولي العراقي بأنه ليس فيه خلط السنة بغيرها، بل لما أتى بما سمعه ضم إليه ذكرًا آخر في معناه، وباب الأذكار لا تحجير فيه إذا لم يؤد إلى تحريف ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فإن الذكر خير موضوع والاستكثار منه حسن، على أن أكثر هذا الذي زاده كان صلى الله عليه وسلم يقوله في دعاء استفتاح الصلاة، وهو: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك - انتهى. والجوابان متقاربان. وفي مسلم وأحمد (ج2: ص131) : عن ابن عمر، كان عمر يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الكلمات، ويقول: لبيك اللهم لبيك وسعديك، إلى آخر ما زاده هنا، قال الحافظ: فعرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه، وأخرج ابن أبى شيبة عن المسور بن مخرمة قال: كانت تلبية عمر، فذكر مثل المرفوع وزاد: لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك، ذا النعماء والفضل الحسن - انتهى. واعلم أنه أجمع المسلمون على لفظ التلبية المذكورة في حديث ابن عمر المتفق عليه، وحديث جابر الطويل عند مسلم في قصته حجة الوداع، ولكن اختلفوا في الزيادة عليه بألفاظ فيها تعظيم الله ودعاءه ونحو ذلك، فكره بعضهم الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكاه ابن عبد البر عن مالك قال: وهو أحد قولي الشافعي. وقال آخرون: لا بأس بالزيادة المذكورة، واستحب بعضهم الزيادة المذكورة. قال ابن عبد البر: أجمع
..............................................................................................
ــ
العلماء على القول بهذه التلبية المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في الزيادة فيها فقال مالك: أكره الزيادة فيها على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى عنه أنه لا بأس أن يزاد فيها ما كان ابن عمر يزيده. وقال الثورى، والأوزاعي، ومحمد ابن الحسن: له أن يزيد فيها ما شاء وأحب، وقال أبو حنيفة، وأحمد، وأبو ثور: لا بأس بالزيادة. وقال الترمذي: قال الشافعي: إن زاد في التلبية شيئًا من تعظيم الله تعالى فلا بأس إن شاء الله، وأحب إلى أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو يوسف والشافعي في قول لا ينبغي أن يزاد فيها على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة وإليه ذهب الطحاوي واختاره، ذكره العيني. وقال الحافظ بعد ذكر ما روى عن ابن عمر وأبيه رضي الله عنهما من الزيادة على التلبية المروية عنه صلى الله عليه وسلم ما لفظه: واستدل به على استحباب الزيادة على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. قال الطحاوي بعد أن أخرجه أي لفظ التلبية المرفوع من حديث ابن عمر، وابن مسعود، وعائشة، وجابر، وعمرو بن معد يكرب: أجمع المسلمون جميعًا على هذه التلبية غير أن قومًا قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذكر لله ما أحب، وهو قول محمد، والثوري، والأوزاعي، واحتجوا بحديث أبى هريرة يعني الذي أخرجه أحمد، والنسائي، وابن ماجة، وصححه ابن حبان، والحاكم، قال: كان من تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك إله حق لبيك، وبزيادة ابن عمر المذكورة. وخالفهم آخرون فقالوا: لا ينبغي أن يزاد على ما عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس كما في حديث عمرو بن معد يكرب ثم فعله هو ولم يقل: لبوا بما شئتم مما هو من جنس هذا، بل علمهم كما علمهم التكبير في الصلاة، فكذا لا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئًا مما علمه ثم أخرج حديث عامر بن سعد بن أبى وقاص عن أبيه: أنه سمع رجلاً يقول: لبيك ذا المعارج، فقال: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فهذا سعد قد كره الزيادة في التلبية، وبه نأخذ - انتهى. قال في البحر: هذا اختيار الطحاوي، ولعل مراده من الكراهة أن يزيد الرجل من عند نفسه على التلبية المأثورة، أو أراد الزيادة في خلال التلبية المسنونة، فإن أصحابنا قالوا: إن زاد عليها فهو مستحب. قال صاحب السراج الوهاج: هذا بعد الإتيان بها، أما في خلالها فلا - انتهى. وفي ((غنية الناسك)) ندب أن يزيد فيها لا في خلالها بل بعدها وجاز قبلها فيقول: لبيك إله الخلق لبيك، أو لبيك لبيك وسعديك، إلخ. ولا يستحب الزيادة من غير المأثور بل هو جائز كما يفهم من الفتح والتبيين. أما النقص عنها أو الزيادة في خلالها فيكره تنزيهًا، ذكره في الكبير. وفي شرح اللباب: ما وقع من الزيادة مأثورًا يستحب، وما ليس مرويًا فجائز أو حسن، كذا في رد المحتار. وقال محمد بعد رواية حديث ابن عمر من طريق نافع، وفيه الزيادة المذكورة، وبهذا نأخذ، التلبية هي التلبية الأولى التي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما زدت فحسن وهو قول أبى حنيفة والعامة من فقهائنا - انتهى. قال الحافظ: ويدل على الجواز ما وقع عند النسائي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود قال: كان من تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره. ففيه دلالة على أنه كان يلبي بغير ذلك. وما تقدم من حديث أبى هريرة عند النسائي وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم وما تقدم عن عمر وابن عمر من فعلهما، وروى سعيد بن منصور
متفق عليه.
ــ
من طريق الأسود بن يزيد أنه كان يقول: لبيك غفار الذنوب. وللحاكم، والبيهقي عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم وقف بعرفات، فلما قال: لبيك اللهم لبيك، قال: إنما الخير خير الآخرة. وللدارقطني في العلل وأبي ذر الهروي، والبزار عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: لبيك حجًا تعبدًا ورقًا. ولمسلم في حديث جابر الطويل في صفة الحج: حتى استوت به ناقته على البيداء وأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك إلخ. وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم شيئًا منه، ولزم تلبيته وأخرجه أبو داود من الوجه الذي أخرجه منه مسلم، قال: والناس يزيدون ((ذا المعارج)) ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئًا. وفي رواية البيهقي ((ذا المعارج)) و ((ذا الفواصل)) قال الحافظ بعد ذكر حديث جابر من رواية مسلم وأبى داود: وهذا يدل على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو صلى الله عليه وسلم عليها، وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يردها عليهم وأقرهم عليها وهو قول الجمهور، وبه صرح أشهب، وحكى عن ابن عبد البر عن مالك الكراهة. قال: وهو أحد قولي الشافعي، وحكى الترمذي عن الشافعي، قال: فإن زاد في التلبية شيئًا من تعظيم الله فلا بأس، وأحب إلى أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن ابن عمر حفظ التلبية عنه، ثم زاد من قبله زيادة ونصب البيهقي الخلاف بين أبى حنيفة والشافعي فقال: الاقتصار على المرفوع أحب ولا ضيق أن يزيد عليها، قال: وقال أبو حنيفة: إن زاد فحسن، وحكى في المعرفة عن الشافعي قال: ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم الله ودعائه، غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك - انتهى. وهذا أعدل الوجوه فيفرد ما جاء مرفوعًا. وإذا اختار قول ما جاء موقوفًا أو أنشأه هو من قبل نفسه مما يليق قاله على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع، وهو شبيه بحال الدعاء في التشهد، فإنه قال فيه: ثم ليتخير من المسألة والثناء ما شاء أي بعد أن يفرغ من المرفوع، كما تقدم ذلك في موضعه - انتهى. قلت: الأفضل والأولى هو الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتصار على لفظ تلبيته الثابت في الصحيحين وغيرهما، لأن الله تعالى يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وهو صلى الله عليه وسلم يقول: ((لتأخذوا عني مناسككم)) ، وأن الزيادة المذكورة لا بأس بها، لما روي من فعل عمر وابنه، ومعلوم أن الزيادة على تلبيته النبي صلى الله عليه وسلم لو كان فيها محذور لما فعلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما، ولما وقع في حديث جابر الطويل عند مسلم وأبى داود، وهو واضح في أنهم يزيدون على تلبيته صلى الله عليه وسلم ويقرهم على ذلك. ولم ينكره عليهم كما ترى. (متفق عليه) رواه البخاري في اللباس ومسلم في الحج، وأخرجه أيضًا البيهقي (ج5: ص44) ، وأخرجه البخاري أيضاً في الحج من طريق نافع عن ابن عمر مختصرًا، ورواه أحمد بذكر التلبيد والتلبية جميعًا في (ج2: ص131) وبذكر التلبية فقط مرارًا، وروى النسائي، وأبو داود، وابن ماجة التلبيد في باب التلبيد والتلبية في باب صفة التلبية، وروى مالك، والترمذي فقط. وأما قوله:((لا يزيد على هؤلاء الكلمات)) فلم أجده إلا عند الشيخين والبيهقي. والله أعلم.
2566-
(3) وعنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدخل رجله في الغرز واستوت به ناقته قائمة
أهل من عند مسجد ذي الحليفة.
ــ
2566-
قوله: (إذا أدخل) كذا في جميع النسخ للمشكاة والمصابيح، وهكذا في رواية أحمد (ج2:ص29، 37) ، والبيهقي (ج5: ص35) ، وابن ماجة، وكذا ذكر المحب الطبري في القرى (ص65) وعزاه لمسلم. والذي في صحيح مسلم ((وضع)) مكان أدخل (في الغرز) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعدها زاي أي الركاب من جلد أو خشب، وقيل: هو ركاب كور البعير من جلد أو خشب أو حديد، وقيل: هو للكور مطلقًا مثل الركاب للسرج الذي يضع الراكب قدميه فيه، والكور بالضم بالفارسية ((بالان)) والركاب بالكسر حلقه آهني كه بر زين بندند تا وقت سواري بائي در آن نهند (واستوت به ناقته) أي رفعته مستويًا على ظهرها فالباء للتعدية، وفي مسلم:((وابعثت به راحلته قائمة)) وفي أخرى له: ((أهل حين استوت به ناقته)) ومعنى انبعاثها به استواءها قائمة (أهل) أي رفع صوته بالتلبية ونوى أحد النسكين أو بهما (من عند مسجد ذي الحليفة) يريد بدأ بالإهلال منه، وكان ابن عمر ينكر بذلك على من روى أنه صلى الله عليه وسلم إنما أهل حين استوى على البيداء وقد اختلفت الروايات عن الصحابة في مبدأ إهلاله صلى الله عليه وسلم فمنها ما يدل على أنه أهل في دبر الصلاة في مسجد ذي الحليفة كما في رواية ابن عباس عند أحمد، والترمذي، والنسائي، والبيهقي (ج5: ص37) وفي رواية أبى داود المازني عند ابن حزم (ج7: ص93) ، ومنها ما يدل على أنه أهل حين استوت به ناقته قائمة خارج مسجد ذي الحليفة عند الشجرة كما وقع في روايات ابن عمر عند أحمد، والشيخين وغيرهم، وفى حديث أنس عند البخاري، وأبى داود، والبيهقي، والطحاوي. وقال الزيلعي بعد ذكر حديث أنس: وأخرج أي البخاري أيضاً عن عطاء عن جابر أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته - انتهى. وقال المجد في المنتقى بعد ذكر حديث جابر: رواه البخاري، وقال: رواه أنس، وابن عباس - انتهى. ومنها ما يدل على أنه أهل حين استوت به على البيداء أي بعد ما علا على شرف البيداء كما وقع في روايات ابن عباس أيضاً عند أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وأبي داود، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم (ج1: ص447) ، والطحاوي. وفي حديث جابر عند مسلم، والترمذي، والطحاوي. وفي حديث أنس عند أحمد، والنسائي، وأبي داود. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند أبى داود، والنسائي، والبيهقي، والحاكم. والبيداء هذه قال العلماء: هي الشرف الذي قدام ذي الحليفة إلى جهة مكة وهي بقرب ذي الحليفة، وذكره النووي، وقال البكري: البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد الوادي، وفي أول البيداء بئر ماء. وقد جمع بين هذه الروايات المختلفة بأن الناس كانوا يأتون أرسالاً جماعة بعد أخرى فرأى قوم شروعه صلى الله عليه وسلم في الإهلال بعد الفراغ من صلاته بمسجد ذي الحليفة فنقلوا عنه أنه أهل بذلك المكان ثم أهل لما استقلت به راحلته فسمعه
..............................................................................................
ــ
آخرون فظنوا أنه شرع في الإهلال في ذلك الوقت لأنهم لم يسمعوا إهلاله بالمسجد فقالوا: إنما أهل عندما استقلت به راحلته، ثم روى كذلك من سمعه يهل على شرف البيداء، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم حيث قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه ثم ركب على ناقته وأهل أيضاً، ثم أهل لما استقلت به على البيداء - انتهى مختصرًا ملخصًا. ويؤيد هذا الجمع ما رواه أحمد (ج1: ص) ، وأبو داود، والحاكم (ج1: ص451) ، والبيهقي (ج5: ص37) ، والطحاوي (ج1: ص362) عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: عجبًا لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله فقال: إني لأعلم الناس بذلك إنما كانت منه حجة واحدة، فمن هنالك اختلفوا، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجًا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس كانوا يأتون أرسالاً فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين علا على شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء - انتهى. قال الحافظ في الفتح: وقد أزال الإشكال أي إشكال اختلاف الروايات في مكان إهلاله صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو داود، والحاكم من طريق سعيد بن جبير قلت لابن عباس: عجبت، فذكر الحديث، ثم قال: فعلى هذا فكان إنكار ابن عمر على ما يخص الإهلال بالقيام على شرف البيداء - انتهى. وقال الشوكاني في شرح حديث ابن عباس المذكور: هذا الحديث يزول به الإشكال، ويجمع بين الروايات المختلفة بما فيه، فأوضحه ثم قال: وهذا يدل على أن الأفضل لمن كان ميقاته ذا الحليفة أن يهل في مسجدها بعد فراغه من الصلاة، ويكرر الإهلال عند أن يركب على راحلته وعند أن يمر بشرف البيداء - انتهى. وقال الطحاوي بعد رواية حديث ابن عباس المذكور: فبين عبد الله ابن عباس الوجه الذي جاء اختلافهم، وأن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم الذي ابتدأ الحج ودخل به فيه كان في مصلاه، فبهذا نأخذ، ينبغي للرجل إذا أراد الإحرام أن يصلي ركعتين ثم يحرم في دبرهما كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول أبى حنيفة، وأبى يوسف، ومحمد - انتهى. وقال الحافظ في الدراية: قوله: ((ولو لبى بعد ما استوت به راحلته جاز)) ولكن الأول يعني الإهلال دبر الصلاة في مسجد ذي الحليفة أفضل لما روينا، كذا قال. والأحاديث في أنه لبى بعد ما استوت به راحلته أكثر وأشهر من الحديث الذي احتج به فذكرها من رواية ابن عمر، وأنس، وجابر، ثم قال: وقد ورد ما يجمع بين هذه الأحاديث (المختلفة) من حديث ابن عباس عند أبى داود، والحاكم فذكره، ثم قال: وهذا لو ثبت لرجح ابتداء الإهلال عقيب الصلاة إلا أنه من رواية خصيف (بن عبد الرحمن) وفيه ضعف - انتهى. وقال ابن حزم:
..............................................................................................
ــ
حديث ابن عباس هذا في طريقه خصيف وهو ضعيف، وحديث أبى داود الأنصاري المازني من طريقة قوم غير مشهورين والأحاديث الدالة على إحرامه صلى الله عليه وسلم بعد ما استقلت به راحلته، وإحرامه بعد الاستواء على البيداء كلها صحيحة، متفق علي صحتها، إلا أن في أحاديث ابن عمر زيادة على حديث جابر، وأنس وعائشة، وهو: أنه صلى الله عليه وسلم أهل من عند مسجد ذي الحليفة حين أدخل رجله في الغرز واستقلت به الراحلة، وهذا صريح في الدلالة على أنه لم يكن عقيب الركوب ولا في مصلاه، ولو صح حديث ابن عباس، وأبى داود لوجب تقديم العمل به على حديث ابن عمر لما فيه من الزيادة، لكن لما كان حديث ابن عمر متفقًا على صحته ولم يصح حديثهما وجب المصير إليه دونهما، ولما كان في حديث ابن عمر زيادة على حديث من سواه ممن اتفق على صحة روايته وهي كون الإهلال من عند المسجد فيكون ذلك قبل الاستواء على البيداء، وجب العمل به، ويكون من رواه عند الاستواء على البيداء إنما سمعه حالتئذٍ يلبي فظن أن ذلك أول إهلاله. ويمكن أن يقضي بحديث ابن عمر على حديث ابن عباس، ويكون قوله:((في مصلاه)) زيادة من الراوي ليس من قول ابن عباس ويصدق على من أحرم من عند المسجد عند استقلال ناقته به أنه لما فرغ من ركعتيه أهل، ولا يلزم من ذلك التعقيب. وهذا الجمع أولى من إسقاط حديث من أصله. والله أعلم، هذا آخر كلام ابن حزم. قال الطبري بعد ذكره: وما رواه الترمذي وقال: ((هو حسن)) فيه دلالة على جواز الاحتجاج به، والمختار المصير إليه والعمل به - انتهى. قلت: وقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا بعد رواية حديث ابن عباس من طريق خصيف مختصرًا ((هذا حديث غريب)) ليس فيها لفظ: ((حسن)) ونسب الزيلعي إليه أنه قال: حديث حسن غريب، وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي. والله أعلم. قال الحافظ في الفتح: قد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل - انتهى. قلت: ذهب مالك، والشافعي والجمهور إلى أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت راحلته لاتفاق أغلب الروايات في المعنى وأصحها وأشهرها على أنه صلى الله عليه وسلم أهل عند انبعاث راحلته وانبعاثها هو استواؤها قائمة. وقال أبو حنيفة، وأحمد، وداود: يحرم عقب الصلاة وهو جالس في مصلاه قبل ركوب دابته وقبل قيامه. قال النووى: وهو قول ضعيف للشافعي، وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف - انتهى. قلت: يشير إلى حديث ابن عباس الذي أحال عليه الزيلعي، والحافظ، والشوكاني وغيرهم للجمع بين الأحاديث المختلفة في مبدأ إحرامه صلى الله عليه وسلم، وقد سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم مفسر (أي لغيره من الأحاديث الواردة) في الباب ولم يخرجاه، وأقره عليه الذهبي، وإنما ضعفه من ضعفه كالنووي، والبيهقي والمنذري لأن في إسناده خصيف بن عبد الرحمن وهو غير متفق على ضعفه، على أن النووي نفسه قال في شرح المهذب: وأما قول البيهقي أن خصيفًا غير قوي، فقد خالفه فيه كثيرون من الحفاظ والأئمة المتقدمين فوثقه يحيى بن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، ومحمد بن سعد. وقال النسائي فيه:((هو صالح)) - انتهى. قال ابن قدامة في المغني (ج3: ص275) : قد روى عن أحمد أن الإحرام
متفق عليه.
2567-
(4) وعن أبى سعيد الخدري، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخًا
ــ
عقيب الصلاة، وإذا استوت به راحلته، وإذا بدأ بالسير سواء، لأن الجميع قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صحيحة قال الأثرم: سألت أبا عبد الله أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة؟ أو إذا استوت به راحلته؟ فقال: كل ذلك قد جاء في دبر الصلاة، وإذا علا البيداء، وإذا استوت به ناقته، فوسع ذلك كله. والأولى الإحرام عقيب الصلاة لما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس وفيه بيان وزيادة علم فيتعين حمل الأمر عليه ولو لم يقله ابن عباس لتعين حمل الأمر عليه جمعًا بين الأخبار المختلفة، وهذا على سبيل الاستحباب، وكيفما أحرم جاز، لا نعلم أحدًا خالف في ذلك - انتهى مختصرًا. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص10، 17، 18، 28، 29، 37) ومالك، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والبيهقي وغيرهم بألفاظ مختلفة، واللفظ المذكور لأحمد (ج2: ص29، 37) ومسلم، وابن ماجة باختلاف يسير.
2567-
قوله (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ) بالضم حال أي نرفع أصواتنا بالتلبية وفي رواية: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ، قال النووي: فيه استحباب رفع الصوت بالتلبية وهو متفق عليه بشرط أن يكون رفعًا مقتصدًا بحيث لا يؤذي نفسه، والمرأة لا ترفع بل تسمع نفسها، لأن صوتها محل فتنة، ورفع الرجل مندوب عند العلماء كافة، وقال أهل الظاهر: هو واجب - انتهى. ويأتي مزيد الكلام في هذه المسألة في شرح حديث خلاد بن السائب الآتي (بالحج صراخًا) بضم الصاد مفعول مطلق، ولعل الاقتصار على ذكر الحج لأنه الأصل والمقصود الأعظم أو لأنه المبدوء به ثم أدخل عليه العمرة، قال القاري: وقد يقال: هذا حال الراوي ومن وافقه، وأما حاله عليه الصلاة والسلام فمسكوت عنه يعرف من محل آخر فلا ينافي ما سيأتي - انتهى. وفي الحديث دليل على استحباب ذكر النسك في التلبية، ويدل عليه أيضاً حديث أنس الآتي. قال المحب الطبرى: الظاهر من لفظ الحديث ذكر النسك في التلبية، وقد اختلف أصحابنا في استحباب ذلك فمنهم من استحبه لظاهر هذه الأحاديث، ومنهم من قال: لا يستحب لما تقدم من حديث جابر قال: ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلبيته قط حجًا ولا عمرة، ومن حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر حجًا ولا عمرة. أخرجهما البيهقي ولما روي عن ابن عمر أنه كان إذا سمع بعض أهله يسمي حجًا يقول: لبيك بحج، صك في صدره وقال: أتعلم الله بما في صدرك؟ أخرجه البيهقي وسعيد بن منصور وقال: أتعلم الله بما في نفسك؟ قال الطبري: هذا الاختلاف - والله أعلم - في غير التلبية الأولى التي تكون عند عقد الإحرام، أما تلك فالظاهر استحباب ذكر النسك فيها قولاً واحدًا، وعلى ذلك يحمل ما ورد من الأحاديث، على أن حديث ابن عمر يعم الأولى وغيرها - انتهى. قال القاري: في حديث أبى سعيد رد على الشافعية أنه إنما يذكر الحج والعمرة في أول تلبيته فقط.
رواه مسلم.
2568-
(5) وعن أنس، قال: كنت رديف أبى طلحة وإنهم ليصرخون بهما جميعًا الحج والعمرة.
ــ
وقال ابن قدامة (ج3: ص290، 291) : ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته. قال أحمد إن شئت لبيت بالحج، وإن شئت لبيت بالحج والعمرة، وإن شئت بعمرة، وإن لبيت بحج وعمرة بدأت بالعمرة، فقلت: لبيك بعمرة وحجة. وقال أبو الخطاب: لا يستحب ذلك، وهو اختيار ابن عمر، وقول الشافعي لأن جابرًا قال: ما سمى النبي صلى الله عليه وسلم في تلبيته حجًا ولا عمرة، وسمع ابن عمر رجلاً يقول: لبيك بعمرة. فضرب صدره وقال: تعلمه ما في نفسك؟ ولنا ما روى أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عمرة وحجًا، وقال جابر: قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك بالحج. وقال ابن عباس: قدم رسول الله وأصحابه وهم يلبون بالحج، وقال ابن عمر: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج. متفق على هذه الأحاديث. وقال أنس: سمعتهم يصرخون بهما صراخًا. رواه البخاري. وقال أبو سعيد: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج فحللنا. فلما كان يوم التروية لبينا بالحج وانطلقنا إلى منى. وهذه الأحاديث أصح وأكثر من حديثهم. وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه، فإن النسائي روى بإسناده عن الصبي بن معبد أنه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعًا، ثم ذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك، وإن لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس، فإن النية محلها القلب - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أحمد (ج3: ص5، 75) والبيهقي (ج5: ص40) .
2568-
قوله: (كنت رديف أبى طلحة) أي راكبًا خلف ظهره وهو زوج أمه (وإنهم) أي الصحابة والنبي معهم (ليصرخون) اللام فيه للتأكيد (بهما) أي بالحج والعمرة (جميعًا الحج والعمرة) بالجر على أنه بدل من الضمير في بهما، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هما أو أحدهما الحج والآخر العمرة، ويجوز النصب على الاختصاص بتقدير أعني وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا. وقال المهلب: إنما سمع أنس من قرن خاصة، وليس في حديثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرخ بهما وإنما أخبر بذلك عن قوم، وقد يمكن أن يسمع قومًا يصرخون بحج وقومًا يصرخون بعمرة. قال العيني: هذا تحكم وخروج عما يقتضيه الكلام، فإن الضمير في ((يصرخون)) يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه. والباء في بهما يتعلق بيصرخون، فكيف يفرق مرجع الضمير إلى بعضهم بشيء وإلى الآخرين بشيء آخر - انتهى مختصرًا. وقال الكرماني أيضاً: مراد أنس بذلك من نوى منهم القرآن، ويحتمل أن يكون على سبيل التوزيع بأن يكون بعضهم صارخًا بالحج وبعضهم بالعمرة. قال الحافظ ويشكل عليه قوله في الطريق الأخرى يقول: لبيك بحجة وعمرة معًا. وسيأتي إنكار ابن عمر على أنس ذلك، وسيأتي ما فيه في باب التمتع والقرآن - انتهى. وقال
رواه البخاري.
2569-
(6) وعن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله ع
ــ
العيني بعد ذكر كلام الكرماني: لا يوجد في الرد عليه أقوى من قوله صلى الله عليه وسلم لبيك بحجة وعمرة معًا كما سيجيء بيانه - انتهى. وفى الحديث حجة للجمهور في استحباب رفع الصوت بالتلبية، وقد جاءت فيه أحاديث كما سيجيء الإشارة إليها في شرح حديث خلاد بن السائب. (رواه البخاري) في باب الارتداف في الغزو والحج من كتاب الجهاد، وأخرجه أيضاً في الحج مقطعًا في مواضع، منها في باب رفع الصوت بالإهلال بلفظ:((صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعًا)) ، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج5: ص40) ، ولمسلم:((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبى بالعمرة والحج جميعًا)) وفي لفظ: ((أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما بالحج والعمرة)) .
2569-
قوله: (خرجنا) أي من المدينة، واختلف في عدد الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم، فقيل: تسعون ألفًا، ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفًا، ويقال: أكثر من ذلك، حكاه البيهقي. قال الزرقاني: هذا في عدة الذين خرجوا معه، وأما الذين حجوا معه فأكثر المقيمين بمكة، والذين أتوا من اليمن مع علي، وأبي موسى رضي الله عنهما انتهى. وقال القاري: بلغ جملة من معه صلى الله عليه وسلم تسعين ألفًا، وقيل مائة وثلاثين ألفًا - انتهى. وقال الشيخ الدهلوي في اللمعات: ورد في بعض الروايات أنهم كانوا أكثر من الحصر والإحصاء ولم يعينوا عددهم، وقد بلغوا في غزوة تبوك التي هي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم مائة ألف، وحجة الوداع كانت بعد ذلك، ولا بد أن يزدادوا فيها، ويروى: مائة وأربعة عشر ألفًا، وفي رواية: مائة وأربعة وعشرون ألفًا - انتهى. (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) زادت عمرة بنت عبد الرحمن عنها ((لخمس ليال بقين من ذي القعدة)) كما في الموطأ والصحيحين وغيرهما، وكذا وقع في حديث ابن عباس عند البخاري في باب ((الخروج آخر الشهر)) من كتاب الجهاد، وفي باب ((ما يلبس المحرم من الثياب)) من كتاب الحج، وكذا وقع في حديث جابر عند النسائي. قال القسطلانى: يقتضي أن تكون قالته عائشة بعد انقضاء الشهر، ولو قالته قبله لقالت إن بقين - انتهى. وقال الحافظ: فيه استعمال الفصيح في التاريخ وهو ما دام في النصف الأول من الشهر يؤرخ بما خلا وإذا دخل النصف الثاني يؤرخ بما بقى وقال أيضًا: فيه رد على من منع إطلاق القول في التاريخ لئلا يكون الشهر ناقصًا فلا يصح الكلام، فيقول مثلاً لخمس إن بقين بزيادة أداة الشرط، وحجة الجواز أن الإطلاق يكون على الغالب - انتهى. ويؤيده ما ورد في ليالي القدر عند الترمذي من حديث أبى بكر رفعه:((التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين)) الحديث. وما وقع في حديث آخر: ((تاسعة تبقى وسابعة تبقى)) واختلف في يوم خروجه صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال، الأول: أنه خرج يوم الجمعة وهذا وهم قبيح وخطأ فاحش يرده الروايات الصحيحة، إذ من المعلوم الذي لا ريب أنه صلى الظهر يوم خروجه بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين. القول الثاني: ما ذهب إليه ابن حزم واختاره العيني في شرح البخاري: أن
..............................................................................................
ــ
خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة، حكى هذا القول ابن القيم في الهدي (ج1: ص181، 182) عن ابن حزم، وذكر كلامه مفصلاً ثم بسط في الرد عليه، وسيأتي شيء من كلامه مع الجواب عنه. القول الثالث: ما اختاره المحققون من شراح الحديث وأصحاب التاريخ: أن خروجه كان لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت، وبه جزم ابن القيم في الهدي، وهو مختار الحافظ في الفتح (ج6: ص80) إذ قال في شرح قول ابن عباس: ((وذلك لخمس بقين من ذي القعدة)) ما لفظه: أخرج مسلم مثله من حديث عائشة، واحتج به ابن حزم في كتاب حجة الوداع له على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس، قال: لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا شك، لأن الوقفة كانت يوم الجمعة بلا خلاف، وظاهر قول ابن عباس:((لخمس)) يقتضي أن يكون خروجه من المدينة يوم الجمعة بناء على ترك عد يوم الخروج، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا كما سيأتي من حديث أنس، فتبين أنه لم يكن يوم الجمعة، فتعين أنه يوم الخميس، وتعقبه ابن القيم بأن المتعين أن يكون يوم السبت بناء على عد يوم الخروج أو على ترك عده، ويكون ذو القعدة تسعًا وعشرين يومًا - انتهى. ويؤيده ما رواه ابن سعد، والحاكم في الإكليل أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة. وقال الحافظ أيضاً (ج18: ص85) : جزم ابن حزم بأن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس، وفيه نظر لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس قطعًا لما ثبت وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة وتعين أن أول الشهر يوم الخميس فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة لكن ثبت في الصحيحين عن أنس:((صلينا الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين)) فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة، فما بقى إلا أن يكون خروجهم يوم السبت، ويحمل قول من قال:((لخمس بقين)) أي إن كان الشهر ثلاثين، فاتفق أن جاء تسعًا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليالي لا خمس، وبهذا تتفق الأخبار. هكذا جمع الحافظ عماد الدين ابن كثير بين الروايات، وقوي هذا الجمع بقول جابر أنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع، وكان دخوله صلى الله عليه وسلم مكة صبح رابعة كما ثبت في حديث عائشة وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت كما تقدم، فيكون مكثه في الطريق ثمان ليال وهى المسافة الوسطى - انتهى. وقال في شرح ((باب الخروج آخر الشهر)) من كتاب الجهاد: قد استشكل قول ابن عباس وعائشة أنه خرج لخمس بقين، لأن ذا الحجة كان أوله الخميس للاتفاق على أن الوقفة كانت يوم الجمعة، ولا يصح ذلك لقول أنس أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا ثم خرج. وأجيب بأن الخروج كان يوم السبت، وإنما قال الصحابة:((لخمس بقين)) بناء على العدد، لأن ذا القعدة كان أوله الأربعاء فاتفق أن جاء ناقصًا، فجاء أول ذي الحجة الخميس، فظهر أن الذي كان بقى من الشهر أربع لا خمس، كذا أجاب به جمع من العلماء، ويحتمل أن يكون الذي قال:((لخمس بقين)) أراد
عام حجة الوداع، فمنَّا من أهل بعمرة، ومنَّا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج،
ــ
ضم يوم الخروج إلى ما بقى لأن التأهب وقع في أوله، وإن اتفق التأخير إلى أن صليت الظهر فكأنهم لما تأهبوا باتوا ليلة السبت على سفر اعتدوا به من جملة أيام السفر. والله أعلم، وقال ابن القيم: وجه ما اخترناه أن الحديث صريح في أنه خرج لخمس بقين وهى: يوم السبت، والأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء فهذه خمس، وعلى قول ابن حزم يكون خروجه لسبع بقين، فإن لم يعد يوم الخروج كان لست، وأيهما كان فهو خلاف الحديث، وإن اعتبر الليالي كان خروجه لست ليال بقين لا خمس، فلا يصح الجمع بين خروجه يوم الخميس وبين بقاء خمس من الشهر ألبتة، بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت كان الباقي بيوم الخروج خمس بلا شك، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته شأن الإحرام، وما يلبس المحرم بالمدينة على منبره، والظاهر أن هذا كان يوم الجمعة لأنه لم ينقل أنه جمعهم ونادى فيهم لحضور الخطبة، وقد شهد ابن عمر رضي الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره، وكان عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله، فأولى الأوقات به الجمعة التي تلي خروجه، والظاهر أنه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعض يوم من غير ضرورة، وقد اجتمع إليه الخلق، وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين، وقد حضر ذلك الجمع العظيم، والجمع بينه وبين الحج ممكن بلا تفويت. والله أعلم. (عام حجة الوداع) بكسر الحاء المهملة وبفتحها وبفتح الواو، وجاز كسرها، قال النووي: سميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها وقال لعليّ لا أحج بعد عامي هذا فلم يحج بعد الهجرة غيرها وكانت سنة عشر من الهجرة، وفيه دليل على أنه لا بأس بالتسمية بذلك خلافًا لمن كرهه، وتسمى البلاغ أيضًا، لأنه قال صلى الله عليه وسلم فيها: هل بلغت؟ وحجة الإسلام، لأنها التي حج فيها بأهل الإسلام ليس فيها مشرك (فمنا من أهل بعمرة) أي لبى بها بأن قال لبيك بعمرة فقط، فقد كان صلى الله عليه وسلم خيرهم عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل، (ومنَّا من أهل بحج وعمرة) أي جمع بينهما فكان قارنًا، (ومنَّا من أهل بالحج) وحده ويشكل على ما وقع في هذه الرواية من التخيير بين الأنساك الثلاثة ما ورد في الصحيحين وغيرهما من رواية الأسود عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحج، وللبخاري من وجه آخر عن أبى الأسود عن عروة عنها: مهلين بالحج، ولمسلم عن القاسم عنها:((لا نذكر إلا الحج)) وله أيضاً: ((ملبين بالحج)) فظاهره أن عائشة مع غيرها من الصحابة كانوا أولاً محرمين بالحج. وأجاب الحافظ وغيره بأن هذا محمول على أول الأمر إذ خرجوا من المدينة لا يرون إلا الحج لما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج، ورواية الباب على آخر الأمر إذ بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام، وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج، وجمع القاري بينهما بأن قول عائشة لا نذكر إلا الحج أي ما كان قصدنا الأصلي
..............................................................................................
ــ
من هذا السفر إلا الحج بأحد أنواعه من القران والتمتع والإفراد فمنا من أفرد ومنَّا من قرن ومنَّا من تمتع - انتهى. وأما ما وقع عند مسلم وغيره من رواية ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة، فقال الزرقاني: أي أدخلناها على الحج بعد أن أهللنا به ابتداء، وهو إخبار عن حالها، وحال من كان مثلها في الإهلال بعمرة لا عن فعل جميع الناس، فلا ينافي قولها:((فمنَّا من أهل بعمرة ومنَّا من أهل بالحج، ومنَّا من أهل بحج وعمرة)) وفيه أن عائشة لم تكن ممن أهل بالحج ابتداءً، وقد تظافرت الروايات الواردة في هذا الباب على أنها كانت معتمرة ابتداءً، ولما شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها لم تطف أمرها برفض عمرتها، فانتقلت إلى الإفراد أو أدخلت عليها الحج وصارت قارنة. وقال الباجي: قولها ((فأهللنا بعمرة)) يحتمل أن تريد بذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تريد من كان معها أو طائفة أشارت إليهم، ولا يصح أن تريد جماعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنها قد ذكرت أن منهم من أهل بعمرة ومنهم من جمع بين العمرة والحج ومنهم من أهل بحج - انتهى. واعلم أنه اختلفت الروايات في إحرام عائشة في نفسها اختلافًا كثيرًا، ولذلك اختلف أهل العلم في إحرامها ابتداءً وانتهاءً هل أحرمت بالحج فقط فكانت مفردة، أو أحرمت بالعمرة فكانت متمتعة، وعلى الثاني هل فسخت العمرة وأهلت بالحج مفردًا أو قرنت العمرة مع الحج قال ابن القيم في الهدي (ج1: ص204) : قد تنازع العلماء في قصة عائشة هل كانت متمتعة أو مفردة فإذا كانت متمتعة، فهل رفضت عمرتها وانتقلت إلى الإفراد أو أدخلت عليها الحج وصارت قارنة، وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا، وإذا لم تكن واجبة فهل هي مجزية عن عمرة الإسلام أم لا؟ واختلف العلماء في مسألة مبنية على قصة عائشة، وهى أن المرأة إذا أحرمت بالعمرة فحاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف فهل ترفض الإحرام بالعمرة وتهل بالحج مفردًا أو تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة؟ فقال بالقول الأول فقهاء الكوفة منهم: أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وبالثاني فقهاء الحجاز منهم: الشافعي، ومالك رحمهما الله، وهو مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد رحمه الله وأتباعه، ثم ذكر ابن القيم دليل الكوفيين وبسط الكلام في الرد عليه هذا، وقد تصدى الشيخ محمد عابد السندي وغيره من الحنفية لتقوية مذهبهم، والجواب عن حجة فقهاء الحجاز لكنهم لم يأتوا بشيء غير تأويلات بعيدة وقال الأبي في الإكمال: اختلفت الروايات في إحرام عائشة ففي رواية عروة عنها: ((أهللنا بعمرة)) وفي رواية القاسم عنها: ((لبينا بالحج)) وفي روايته الأخرى عنها: ((لا نعرف إلا الحج)) وهذا كله صريح في أنها أهلت بالحج، وفي رواية الأسود عنها:((ملبين لا نذكر حجًا ولا عمرة)) واختلف العلماء في الكلام على حديث عائشة فقال إسماعيل القاضي: إنها كانت مهلة بالحج لأنها رواية الأكثر عن عمرة، والقاسم، والأسود، وغلطوا رواية عروة، ورجحوا ذلك أيضاً بأن عروة قال في رواية حماد: حدثني غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: دعي عمرتك. فقد بان أنه لم يسمع الحديث منها، ولا بيان فيه لأحد
..............................................................................................
ــ
ممن حدثه ذلك، قالوا وأيضاً: فإن رواية عمرة، والقاسم ساقت عمل عائشة في الحج من أوله إلى آخره، ولذا قال القاسم عن رواية عمرة: أتتك بالحديث على وجهه - انتهى. قلت: وقع عند البخاري من رواية هشام، وابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: وكنت ممن أهل بعمرة، وهي نص في كونها معتمرة ابتداء، وقد رد الحافظ على من ادعى كون رواية عروة غلطًا فرجح رواية القاسم ومن وافقه على رواية عروة، قال الحافظ: ادعى إسماعيل القاضي وغيره أن هذا غلط من عروة، وأن الصواب رواية الأسود والقاسم وعمر عنها أنها أهلت بالحج مفردًا، وتعقب بأن قول عروة عنها:((أهلت بعمرة)) صريح، وأما قول الأسود وغيره عنها:((لا نرى إلا الحج)) فليس صريحًا في إهلالها بحج مفرد، فالجمع بينهما ما تقدم (بأن المذكور في روايتهم ما كانوا يعهدون من ترك الاعتمار في أشهر الحج، فخرجوا لا يعرفون إلا الحج، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام) من غير تغليط عروة وهو أعلم الناس بحديثها، وقد وافقه جابر بن عبد الله الصحابي كما أخرجه مسلم عنه، وكذا رواه طاوس، ومجاهد عن عائشة، ثم قال الحافظ: ويحتمل في الجمع أيضاً أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردًا كما فعل غيرها من الصحابة وعلى هذا يتنزل حديث الأسود ومن تبعه. ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يفسخوا الحج إلى العمرة ففعلت عائشة ما صنعوا فصارت متمتعة، وعلى هذا يتنزل حديث عروة ، ثم لما دخلت مكة وهي حائض فلم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج - انتهى. قلت: في هذا الجمع نظر من وجوه، منها أن ألفاظ روايات عروة صريحة في أنها لم تهلل أولاً إلا بعمرة، فلفظ البخاري من رواية عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنَّا من أهل بحج - الحديث. وفيه: ((ولم أهلل إلا بعمرة فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنفض رأسي وأهل بالحج وأترك العمرة ففعلت ذلك - الحديث. فهذا نص في أنها لم تحرم أولاً إلا بعمرة، ومنها أنه يخالف هذا الجمع حديث جابر عند مسلم: قال أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آن يهل منَّا من لم يكن معه هدي - الحديث. وقد بسط ابن القيم الكلام في الرد على إسماعيل القاضي ومن وافقه وحقق أن عائشة كانت ممن أهل بعمرة ابتداء حيث قال: اختلف الناس فيما أحرمت به عائشة أولاً على قولين أحدهما: أنه عمرة مفردة، وهذا هو الصواب لما ذكرنا من الأحاديث، وفي الصحيح عنها: ((قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين (أي مقارنين) لهلال ذي الحجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، فلولا أني أهديت لأهلت بعمرة، قالت: وكان من القوم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بالحج، قالت: فكنت أنا ممن أهل بعمرة)) وذكرت الحديث. وقوله في الحديث ((دعي العمرة وأهلي بالحج)) قاله لها بسرف وهو صريح في أن إحرامها كان بعمرة، والقول الثاني: أنها أحرمت أولاً بالحج وكانت مفردة، قال ابن
وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج،
ــ
عبد البر: روى القاسم بن محمد والأسود بن يزيد وعمرة كلهم عن عائشة ما يدل على أنها كانت محرمة بحج لا عمرة، قال: وغلطوا عروة في قوله عنها: ((كنت ممن أهل بعمرة)) قال إسماعيل بن إسحاق: قد اجتمع هؤلاء يعني الأسود، والقاسم، وعمرة على الروايات التي ذكرنا فعلمنا بذلك أن الروايات التي رويت عن عروة غلط. قال ابن القيم: من العجب رد هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي لا مدفع لها ولا مطعن فيها ولا تحتمل تأويلاً البتة بلفظ مجمل ليس ظاهرًا في أنها كانت مفردة، فإن غاية ما احتج به من زعم أنها كانت مفردة قولها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنه الحج. فيا لله العجب أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج. بل خرج للحج متمتعًا كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنع أن يقول: خرجت لغسل الجنابة، وصدقت أم المؤمنين إذا كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة بأمره صلى الله عليه وسلم، وكلامها يصدق بعضه بعضًا. وأما قولها:((لبينا بالحج)) فقد قال جابر عنها في الصحيحين: أنها أهلت بعمرة. وكذلك قال طاوس عنها في صحيح مسلم، وكذلك قال مجاهد عنها، فلو تعارضت الروايات عنها فرواية الصحابة عنها أولى أن يأخذ بها من رواية التابعين. كيف ولا تعارض في ذلك البتة. فإن القائل:((فعلنا كذا)) يصدق ذلك منه بفعله وبفعل أصحابه. ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة، معناه تمتع أصحابه، فأضاف الفعل إليه لأمره به، فهلا قلتم في قول عائشة:((لبينا بالحج)) أن المراد به جنس الصحابة الذين لبوا بالحج، ويتعين قطعًا إن لم تكن هذه الرواية غلطًا أن تحمل على ذلك للأحاديث الصحيحة أنها كانت أحرمت بعمرة، وكيف ينسب عروة في ذلك إلى الغلط وهو أعلم الناس بحديثها، وكان يسمع منها مشافهة بلا واسطة، وأما قوله في رواية حماد بن زيد: حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: دعي عمرتك. فهذا إنما يحتج إلى تعليله ورده إذا خالف الروايات الثابتة عنها، فأما إذا وافقها وصدقها وشهد لها أنها أحرمت بعمرة فهذا يدل على أنه محفوظ، وأن الذي حدثه ضبطه وحفظه، هذا مع أن حماد بن زيد انفرد بهذه الرواية المعللة وهي قوله:((فحدثني غير واحد)) وخالفه جماعة فرووه متصلاً عن عروة عن عائشة، فلو قدر التعارض فالأكثرون أولى بالصواب فيا لله العجب! كيف يكون تغليظ أعلم الناس بحديثها وهو عروة في قوله عنها:((وكنت فيمن أهل بعمرة)) سائغًا بلفظ مجمل محتمل ويقضي به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياق القصة من وجوه متعددة، إلى آخر ما قال (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج) أي وحده، احتج به من قال: كان حجه صلى الله عليه وسلم مفردًا، وهم عامة الشافعية، والمالكية، وحمله المحققون منهم: كالقاضي عياض، والنووي، والحافظ وغيرهم على أن فيه بيان ابتداء الحال، ثم صار قارنًا، فإنه لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة، وحمله الحنفية، والحنابلة القائلون بكونه صلى الله عليه وسلم قارنًا ابتداءً، على أن عائشة سمعت تلبيته بالحج فقط، وللقارن أن يلبي بأيهما شاء، فيقول: تارة لبيك بحجة، وتارة لبيك عمرة، وتارة لبيك بحجة وعمرة، فحكت عائشة ما سمعت فلا يخالف
..............................................................................................
ــ
قولها: من حكى أنه لبى بهما جميعًا وكان قارنًا من الابتداء. وسيأتي بيان الاختلاف في صفة إحرامه صلى الله عليه وسلم، وفي أن حجه هل كان إفرادًا أو تمتعًا أو قرانًا، اعلم أن الحج على ثلاثة أنواع: الإفراد، والتمتع، والقران، ويخير مريد الإحرام بين هذه الأنواع الثلاثة، قال ابن قدامة: إن الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة: تمتع، وإفراد، وقران. وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، وكذا حكى النووي في شرح المهذب وشرح مسلم الإجماع على جواز الأنواع الثلاثة وتأويل ما ورد من النهي عن التمتع عن بعض الصحابة. وقال الولي العراقي في طرح التثريب: أجمعت الأمة على جواز تأدية نسكي الحج والعمرة بكل من هذه الأنواع الثلاثة الإفراد، والتمتع، والقران. قال الحافظ: والإفراد هو الإهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع وفي غير أشهره أيضاً عند مجيزيه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء - انتهى. ومعنى قوله:((عند مجيزيه)) أن الإحرام بالحج قبل أشهره مختلف فيه، قال ابن قدامة: لا ينبغي أن يحرم بالحج قبل أشهره، هذا هو الأولى. فإن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه لكونه إحرامًا به قبل وقته، فأشبه الإحرام به قبل ميقاته، ولأن في صحته اختلافًا، فإن أحرم به قبل أشهره صح، وإذا بقى على إحرامه إلى وقت الحج جاز، نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والثوري، وأبى حنيفة، وإسحاق، وقال عطاء وطاوس، ومجاهد، والشافعي: يجعله عمرة، لقول الله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} (2: 197) تقديره وقت الحج أشهر، أو أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ومتى ثبت أنه وقته لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات. ولنا قول الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (2: 189) فدل على أن جميع الأشهر ميقات - انتهى. وفيه أنه لو صح ذلك لجاز صيام رمضان في شهر آخر، فإن قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} لا يختلف عن تعيين شهر رمضان باسمه، فإن قوله:{مَّعْلُومَاتٌ} كتسميتها سواء. والتمتع أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامه. قال الحافظ: أما التمتع فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج، ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة، ويطلق التمتع في عرف السلف على القران أيضًا. قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (2: 196) أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قال: ومن التمتع أيضاً القران لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتع أيضاً: فسخ الحج إلى العمرة - انتهى. وقال ابن قدامة في المغني: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات وقدم مكة ففرغ منها وأقام بها وحج من عامه أنه متمتع. وقال أيضاً: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن من اعتمر في غير أشهر الحج عمرة وحل منها قبل أشهر الحج أنه لا يكون متمتعًا إلا قولين شاذين أحدهما عن طاوس أنه قال: إذا اعتمرت في غير أشهر الحج ثم أقمت حتى
..............................................................................................
ــ
الحج فأنت متمتع، والثاني عن الحسن أنه قال: من اعتمر بعد النحر فهي متعة. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدًا قال بواحد من هذين القولين - انتهى. قال الراغب: المتاع انتفاع ممتد الوقت، يقال: متعة الله بكذا، ومتعة النكاح هي أن الرجل كان يشارط المرأة بمال معلوم يعطيها إلى أجل معلوم، فإذا انقضى الأجل فارقها من غير طلاق، ومتعة الحج ضم العمرة إليه - انتهى. قال القاري: التمتع في اللغة بمعنى التلذذ والانتفاع بالشيء، قال: وإنما سمي متمتعًا لانتفاعه بالتقرب إلى الله تعالى بالعبادتين، أو لتمتعه بمحظورات الإحرام بعد التحلل من العمرة، أو لانتفاعه بسقوط العود إلى الميقات ولا يبعد أن يقال لتمتعه بالحياة حتى أدرك إحرام الحجة - انتهى. واختلف أصحاب المذاهب الأربعة في معنى التمتع المصطلح وشرائطه، من شاء الوقوف على ذلك فليرجع إلى كتب فروعهم ومناسكهم، كشرح اللباب لعلي القاري، وغنية الناسك من مناسك الحنفية، والمغني مع الشرح الكبير، ونيل المآرب، ونور الظلام من كتب الحنابلة، وشرح المنهاج المواهب من كتب الشافعية، والمنتقى للباجي، والدسوقي على الشرح الكبير للدردير والبداية لابن رشد من كتب المالكية. وأما القران فصورته: الإهلال بالحج والعمرة معًا وهذا متفق على جوازه، أو الإهلال بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه، وهذا مختلف فيه، وهو مصدر قرن من باب ((نصر)) وقيل: من باب ((ضرب)) وفعال يجيء مصدرًا من الثلاثي كلباس، وهو الجمع بين الشيئين، قال المحب الطبري: للقران ثلاث صور: الأولى: أن يهل بهما جميعًا، وعليه دل ظواهر الأحاديث. الثانية: أن يهل بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف، وعليه دل ما تقدم من حديث ابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وحفصة. الثالثة: عكسه، وفيه قولان للشافعي، أحدهما: لا يجوز، وبه قال مالك وهو الأصح، والثاني: يجوز، وبه قال أبو حنيفة. والأول أصح، ويؤيده ما روي عن علي أنه سأله أبو نضرة فقال قد أهللت بالحج فهل أستطيع أن أضيف إليها عمرة؟ قال لا ذاك لو كنت بدأت بالعمرة، وبأن أفعال العمرة استحقت بالإحرام بالحج، فلم يبق في إدخالها فائدة بخلاف العكس - انتهى. قلت اختلفوا في مصداق القران اصطلاحًا كالتمتع، فقالت الشافعية: هو أن يحرم بهما معًا، ولو أحرم بعمرة في أشهر الحج أو قبلها ثم يحج في أشهره قبل الشروع في الطواف كان قارنًا بخلاف ما إذا شرع في الطواف ولو بخطوة فإنه لا يصح إدخاله حينئذ لأخذه في أسباب التحلل، ولا يجوز عكسه وهو إدخال العمرة على الحج في الجديد إذ لا يستفيد به شيئًا آخر، كذا في شرح المنهاج. وقال الولي العراقي: لو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعي، أصحهما: لا يصح إحرامه بالعمرة، والثاني: يصح ويصير قارنًا بشرط أن يكون قبل الشروع في أسباب التحلل من الحج. وقيل: قبل الوقوف بعرفات، وقيل: قبل فعل فرض، وقيل: قبل فعل طواف القدوم أو غيره - انتهى. وقال أيضاً: اختلفوا في إدخال العمرة على الحج فجوزه أصحاب الرأي، وهو قول للشافعي لهذه الأحاديث يعني التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج أولاً ثم صار قارنًا بإدخال
..............................................................................................
ــ
العمرة عليه، قال: ومنعه آخرون وجعلوا هذا خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم لضرورة الاعتمار حينئذٍ في أشهر الحج - انتهى. ولا يخفى في دعوى الاختصاص. وقالت الحنابلة: القران هو أن يحرم بهما معًا أو يحرم بها ثم يدخل الحج عليها، ويشترط لصحة إدخال الحج عليها أن يكون ذلك قبل الشروع في طوافها، ولا يشترط للإدخال كون ذلك في أشهر الحج ولا كون ذلك قبل طوافها وسعيها لمن معه هدي فيصح ممن معه هدي ولو بعد سعيها، وإن أحرم بالحج ثم أحرم بها لم يصح إحرامه بها، كذا في نيل المآرب. وقال ابن قدامة: أما إدخال العمرة على الحج فغير جائز، فإن فعل لم يصح ولم يصر قارنًا، روى ذلك عن علي، وبه قال مالك، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وقال أبو حنيفة: يصح ويصير قارنًا لأنه أحد النسكين، فجاز على الآخر قياسًا على إدخال الحج على العمرة، ولنا ما روى الأثرم بإسناده فذكر أثر عليّ بنحو ما تقدم، وقال أيضاً: وكل متمتع خشي فوات الحج فإنه يحرم بالحج ويصير قارنًا، وكذلك المتمع الذي معه هدي، فإنه لا يحل من عمرته بل يهل بالحج معها فيصير قارنًا. ولو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف من غير خوف الفوات جاز وكان قارنًا بغير خلاف. وقد فعل ذلك ابن عمر. ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأما بعد الطواف فليس له ذلك ولا يصير قارنًا. وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: يصير قارنًا وحكي ذلك عن أبى حنيفة - انتهى. وأما عند الحنفية، فهو أي القران من أحرم بهما معًا أو أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة قبل أن يطوف لها أكثر الأشواط، أو أدخل العمرة على إحرام الحج قبل أن يطوف للقدوم ولو شوطًا ولا إساءة في القسمين الأولين وهو قارن مسيء في الثالث، قاله ابن نجيم، وارجع لمزيد التفصيل إلى ((غنية الناسك)) وأما عند المالكية، ففي البداية هو أن يهل بالنسكين معا أو يهل بالعمرة في أشهر الحج ثم يردف ذلك بالحج قبل أن يحل من العمرة، واختلف أصحاب مالك في الوقت الذي يكون ذلك له فيه، فقيل: ذلك له ما لم يشرع في الطواف ولو شوطًا واحدًا، وقيل ما لم يطف ويركع، ويكره بعد الطواف وقبل الركوع، فإن فعل لزمه، وقيل له ذلك ما بقي عليه شيء من عمل العمرة من طواف أو سعي، ما خلا أنهم اتفقوا على أنه إذا أهل بالحج ولم يبق عليه من أفعال العمرة إلا الحلاق فإنه ليس بقارن - انتهى. وقال الدردير: القران أن يحرم بهما معًا، أو يحرم بالعمرة ويردف الحج عليها بعد الإحرام قبل طوافها أو في طوافه قبل تمامه، وكره بعد الطواف قبل الركوع، ويصح في الركوع أيضاً لا بعده - انتهى باختصار. وقد ظهر بما قدمنا من اختلاف الأئمة في مصداق القران المصطلح أنه لا يصح إدخال العمرة على الحج عند مالك، وأحمد، والشافعي في أصح قوليه قلت: ويشكل هذا على المحققين من الشافعية، والمالكية: كالنووي، والحافظ، والقاضي عياض ومن تبعهم، فإنهم كما قدمنا أولوا الأحاديث التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا، بأنه لبى أولاً بالحج مفردًا ثم أدخل عليه العمرة وصار قارنًا، فإنه إذا لم يجز عند الشافعية والمالكية إدخال العمرة على الحج فكيف رجح هؤلاء في إحرامه صلى الله عليه وسلم أنه أحرم بالحج أولاً ثم أدخل
..............................................................................................
ــ
عليه العمرة وقد تقدم أنهم أجابوا عن ذلك بأنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لضرورة الاعتمار حينئذٍ في أشهر الحج، ولا يخفى ما فيه. واعلم أنهم بعد ما أجمعوا على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، اختلفوا في أفضلها قال ابن قدامة: اختلفوا في أفضلها، فاختار إمامنا: التمتع، ثم الإفراد، ثم القران، وروى المروذي عن أحمد: إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل، وذهب أصحاب الرأي إلى اختيار القران، وذهب مالك إلى اختيار الإفراد، وهو ظاهر مذهب الشافعي - انتهى مختصرًا. وقال ابن القيم بعد ذكر رواية المروذي عن أحمد: فمن أصحابه من جعل هذه رواية ثانية، ومنهم من جعل المسألة رواية واحدة، وأنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسق فالتمتع أفضل، وهذه طريقة شيخنا، وهي التي تليق بأصول أحمد - انتهى. قلت: والمرجح في فروع الحنابلة كون التمتع أفضل مطلقًا، وحكى النووي للإمام الشافعي ثلاثة أقوال ثم قال: والصحيح: تفضيل الإفراد، ثم التمتع، ثم القران، وهكذا في عامة فروع الشافعية، لكن أفضلية الإفراد عندهم مشروطة بأن يعتمر بعده في هذه السنة، وإلا فهما أفضل منه، كما صرح بذلك غير واحد من الشافعية في كتب فروعهم. قال النووي في مناسكه: القران أفضل من إفراد الحج بغير أن يعتمر بعده - انتهى. وقال الولي العراقي: ذهب القاضي حسين، والمتولي من الشافعية إلى ترجيح الإفراد على التمتع والقران ولو لم يعتمر في تلك السنة ولكن الأكثرون على أن شرط تفضيله عليهما أن يعتمر من سنته، فلو أخر العمرة عن تلك السنة فكل منهما أفضل منه للإتيان فيهما بالنسكين، وذكر النووي: أن ما قالاه شاذ ضعيف - انتهى. والمختار عند المالكية أن الإفراد أفضل مطلقًا، ثم القران، ثم التمتع. واشتراط الاعتمار في أفضلية الإفراد قول ضعيف، والمعتمد عندهم أن الإفراد أفضل ولو لم يعتمر بعده، وأما الحنفية فلهم قول واحد وهو أفضلية القران ثم التمتع ثم الإفراد. وقال المحب الطبري: قد اختلف الأئمة في أي الوجوه الثلاثة أفضل، ومنشأ اختلافهم ما تقدم من اختلاف الروايات في فعله صلى الله عليه وسلم، فقال مالك والشافعي: الإفراد أفضل، وقال أحمد، وإسحاق، وأهل الظاهر: التمتع أفضل، وقال أبو حنيفة: القران أفضل، وبه قال أهل التحقيق من المحدثين والأئمة والحفاظ وهو المختار. انتهى مختصرًا. وقال الولي العراقي: اختلف العلماء في أفضل وجوه الإحرام بحسب اختلافهم فيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع على أقوال أحدها: أن الأفضل الإفراد، وهو مذهب مالك، والشافعي، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وجابر، وعائشة، وأبى ثور، وحكاه النووي في شرح المهذب عنهم، وعن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، والأوزاعي، وداود. قال المالكية والشافعية: ثم الأفضل بعد الإفراد التمتع ثم القران. الثاني: أن التمتع أفضل، وهو قول أحمد بن حنبل. قال ابن قدامة في المغني: وممن روى عنه اختيار التمتع ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وعائشة، والحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وسالم، والقاسم، وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي، وحكاه الترمذي عنه وعن أحمد، وإسحاق وأهل الحديث. قال الحنابلة: ثم الأفضل
..............................................................................................
ــ
بعد التمتع الإفراد ثم القران، والثالث: أن القران أفضل، وهذا قول أبى حنيفة، وحكاه ابن المنذر عن سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، ثم قال: لا شك أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنًا - انتهى. وهو قول للشافعي، وقال به من أصحابنا المزني، وأبو إسحاق، المروذي، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري والمشهور عند الحنفية: أن الأفضل بعد القران التمتع ثم الإفراد، وعن أبى حنيفة: أن الإفراد أفضل من التمتع، الرابع: أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل، حكاه المروذي عن أحمد بن حنبل. قلت: واختاره من الحنفية القاضي ثناء الله الفاني فتى حيث قال في تفسيره ((المظهري)) : التحقيق أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، وأن القران أفضل من التمتع إن ساق الهدي، والتمتع أفضل إن لم يسق الهدي، وكل منهما أفضل من الإفراد - انتهى. الخامس: أن الأنواع الثلاثة سواء في الفضيلة، لا فضيلة لبعضها على بعض، حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء. قال الحافظ في الفتح: وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في صحيحه. السادس: أن التمتع والقران سواء في الفضل، وهما أفضل من الإفراد حكي عن أبى يوسف - انتهى. وقد ظهر من كلام الطبري، والولي العراقي أن منشأ اختلافهم في أفضل الوجوه الثلاثة ومناطه هو اختلافهم في إحرامه صلى الله عليه وسلم، وهكذا ذكر غير واحد من شراح الحديث ومحققي الفقهاء، وقيل بعكس ذلك بأن ترجيحهم في إحرامه وحجه صلى الله عليه وسلم مبني على ما تحقق عندهم من أفضليته، لكن الصواب أنه ليس بمطرد عندهم. قال النووي: أما حجة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا فيها هل كان مفردًا أو متمتعًا أو قارنًا؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة وكل رجحت نوعًا وادعت أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت كذلك، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان أولاً مفردًا ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج فصار قارنًا - انتهى. فهذا كما ترى قد صحح كونه صلى الله عليه وسلم قارنًا انتهاءً، وصحح في بيان المذاهب أفضلية الإفراد على غيره، وكذا اختار القاضي عياض، والحافظ وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم أفرد أولاً ثم أدخل العمرة عليه فصار قارنًا. واختار الخطابي في المعالم عكسه فقال بعد ذكر حديث حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال ((إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)) فثبت أنه كان هناك عمرة إلا أنه أدخل عليها الحج قبل أن يقضي شيئًا من عمل العمرة فصار في حكم القارن. وقال في الروض المربع من فقه الحنابلة: قال أحمد: لا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا والمتعة أحب إليّ. وقد اختلفت روايات الصحابة في حجه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع هل كان مفردًا أو قارنًا أو متمتعًا، وروي كل منها في الصحيحين وغيرهما، واختلف الناس في ذلك وفي إحرامه صلى الله عليه وسلم على أقوال، أحدها: أنه حج مفردًا لم يعتمر معه، حكي هذا عن الإمام الشافعي وغيره. قال القسطلاني في المواهب: والذي ذهب إليه الشافعي في جماعة أنه صلى الله عليه وسلم حج مفردًا، وحكاه الزرقاني في شرح المواهب عن الإمام مالك، وحكي عن الشافعي وغيره أن نسبة القران والتمتع إليه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتساع لكونه أمر بهما - انتهى. وبه جزم الخطابي
..............................................................................................
ــ
حيث قال: اختلفت الروايات فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم به محرمًا، والجواب عن ذلك أن كل راو أضاف إليه ما أمر به اتساعًا، ثم رجح أنه كان أفرد الحج. قال الحافظ في الفتح: هذا هو المشهور عند الشافعية والمالكية وقد بسط الشافعي القول فيه في اختلاف الحديث وغيره - انتهى. ومقتضى هذا القول أنه صلى الله عليه وسلم لبى بالحج وحده واستمر عليه. الثاني: أنه لبى بالعمرة وحدها واستمر عليها حتى فرغ منها ثم أحرم بعد ذلك بالحج فكان متمتعًا وكان حجه حج تمتع، قاله القاضي أبو يعلى وغيره. الثالث: أنه حج متمتعًا تمتعًا لم يحل فيه لأجل سوق الهدي ولم يكن قارنًا، حكاه ابن القيم عن صاحب المغني وغيره، ومقتضى هذا أنه أحرم بالعمرة وحدها واستمر عليها حتى حل يوم النحر. الرابع: أنه لبى بالحج وحده وحج مفردًا واعتمر بعده من التنعيم. قال ابن تيمية: وهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أهل الحديث - انتهى. وقال ابن القيم: الذين قالوا: إنه حج مفردًا، اعتمر عقيبه من التنعيم لا يعلم لهم عذر ألبته إلا أنهم سمعوا أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج، وأن عادة المفردين أن يعتمروا من التنعيم فتوهموا أنه فعل كذلك. الخامس: أنه لبى بالحج مفردًا ثم أدخل عليه العمرة وصار قارنًا فكان مفردًا ابتداءً وقارنًا انتهاءً، وبه جزم عامة محققي الشافعية وبعض المالكية، قال النووي في شرح المهذب: والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج أولاً مفردًا ثم أدخل عليه العمرة فصار قارنًا، وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصح لا يجوز لنا، وجاز للنبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة للحاجة - انتهى. واختاره القاضي عياض إذ قال: أما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه فأخذ بالأفضل فأحرم مفردًا للحج، تضافرت به الروايات الصحيحة، وأما رواية من روى أنه كان متمتعًا فمعناه أمر به، وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله لا عن ابتداء إحرامه، لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي وقيل له: قل عمرة في حجة - انتهى. قال الحافظ: وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديمًا ابن المنذر، ومهده المحب الطبرى (في القرى ص86 - 100) تمهيدًا بالغًا يطول ذكره، ومحصله أن كل من روي عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال، وكل من روي عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روي عنه القران أراد ما استقر عليه أمره. السادس: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم لم يتحلل منها إلى أن أدخل عليها الحج يوم التروية فصار قارنًا، حكاه الحافظ عن الطحاوي، وابن حبان، السابع: أنه أحرم إحرامًا مطلقًا لم يعين فيه نسكًا ثم عينه بعد، رجحه الشافعي في اختلاف الحديث، كما قال الحافظ في الفتح. وقال الولي العراقي: قال القاضي وقال بعض علمائنا: إنه أحرم إحرامًا مطلقًا منتظرًا ما يؤمر به من إفراد، أو تمتع، أو قران، ثم أمر بالحج، ثم أمر بالعمرة في وادي العقيق بقوله:((صل في هذا الوادي وقل: عمرة في حجة)) ثم قال القاضي في موضع آخر بعد ذلك: لا يصح قول من قال: أحرم النبي صلى الله عليه وسلم إحرامًا مبهمًا. لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة ترده وهي مصرحة بخلافه - انتهى. الثامن: أنه لبى بالحج والعمرة معًا وكان قارنًا من أول
..............................................................................................
ــ
الأمر، وحقق هذا القول ابن الهمام في شرح الهداية، وابن القيم في الهدي، وأجابا عن كل ما خالفه فعليك أن ترجع إليهما، وهذا القول هو الحق والصواب عندنا، قال ابن القيم: والصواب أنه أحرم بالحج والعمرة معًا من حيث أنشأ الإحرام ولم يحل حتى حل منهما جميعًا كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترت تواترًا يعلمه أهل الحديث - انتهى. وإليه مال ابن حزم الظاهري في كتابه ((حجة الوداع)) وتأول باقي الأحاديث إليه كما حكاه النووي، والولي العراقي، ثم إنه طاف طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا، وقد بسط ابن القيم الكلام في إثبات هذا القول أشد البسط وهذا القول هو الراجح المعول عليه عندنا قال الولي العراقي في شرح التقريب، والسيوطي في التنوير: قال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث أي المختلفة في إحرامه وحجته صلى الله عليه وسلم، فمن مجيد منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصر مختصر، وأوسعهم في ذلك نفسًا أبو جعفر الطحاوي الحنفي، فإنه تكلم في ذلك في زيادة على ألف ورقة وتكلم معه في ذلك أبو جعفر الطبري، ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة، ثم المهلب، والقاضي أبو عبد الله بن المرابط، والقاضي أبو الحسن بن القتار، والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم وأولى ما يقال في هذا على ما لخصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدل على جواز جميعها إذ لو أمر بواحد لكان غيره يظن أنه لا يجزئ فأضيف الجميع إليه وأخبر كل واحد بما أمر به وأباحه ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما لأمره به أو لتأويله عليه - انتهى. وقد سبق بهذا الجمع الخطابي كما تقدم وزاد، وقد يحتمل ذلك وجهًا آخر، وهو أن يكون بعضهم سمعه يقول: لبيك بحج، فحكى أنه أفردها، وخفي عليه قوله:((وعمرة)) فلم يحك إلا ما سمع وهو عائشة، ووعى غيره الزيادة فرواها وهو أنس حين قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك بحجة وعمرة، ولا تنكر الزيادات في الأخبار كما لا تنكر في الشهادات، وإنما كان يختلف ويتناقض لو كان الزائد نافيًا لقول صاحبه، وأما إذا كان مثبتًا له وزائدًا عليه فليس فيه تناقض ولا تدافع - انتهى. وجمع الحنفية كابن الهمام، وابن نجيم وغيرهما بين هذه الروايات بأن سبب رواية الإفراد سماع من رأى تلبيته بالحج وحده، ورواية التمتع سماع من سمعه يلي بالعمرة وحدها، ورواية القران سماع من سمعه يلبي بهما، وهذا لأنه لا مانع من إفراد ذكر نسك في التلبية وعدم ذكر شيء أصلاً وجمعه أخرى بنية القران - انتهى. وقال الأبي في الإكمال: اختلفت الرواة في صفة حجه صلى الله عليه وسلم وطعن بعض الملحدة بذلك في الوثوق بنقل الصحابة، قال لأن القضية واحدة واختلفوا في نقلها اختلافًا متضادًا وذلك يؤدي إلى الخلف في خبرهم وعدم الوثوق بنقلهم، وقد أكثر الناس من الكلام على هذه الأحاديث وأوسعهم في ذلك نفسًا الطحاوي، والمتحصل من جواباتهم ثلاثة الأول: أن الكذب إنما يدخل فيما طريقه النقل لا فيما طريقة النظر
فأما من أهل بعمرة فحل،
ــ
والاستدلال، وإنما استدلوا بما ظهر من فعله يعني أن التكاذب فيما طريقه النقل، ولم يقولوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم إني فعلت كذا، وإنما استدلوا على نيته وقصده بما ظهر من أفعاله، وهذا موضع تأويل يجوز فيه الغلط والخطأ، فإذا إنما وقع فيما طريقه النظر والاستدلال لا النقل. الثاني: يصح أن يكون أمر بعض أصحابه بالإفراد وبعضهم بالقران وبعضهم بالتمتع، ليدل على جواز الجميع فأضاف النقلة ذلك إلى فعله كما يقال: قطع الأمير اللص. والثالث: يصح أن يكون قارنًا إلا أنه فرق بين زمن إحرامه بالعمرة وبين زمانه بالحج فسمعت طائفة قوله الأول، وطائفة الثاني، وطائفة القولين، فروت كل واحدة بما سمعت انتهى مختصرًا. (فأما من أهل بعمرة فحل) لما وصل مكة وأتى بأعمالها وهي الطواف والسعي والحلق أو التقصير وهذا مجمع عليه في حق من لم يسق معه هديًا، أما من أحرم بعمرة وساق معه الهدي فقال مالك، والشافعي، وجماعة هو كذلك، قال النووي في مناسكه: المتمتع هو الذي يحرم بالعمرة من ميقات بلده ويفرغ منها ثم ينشئ الحج من مكة سمي متمتعًا لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بين الحج والعمرة فإنه يحل له جميع المحظورات إذا فرغ من العمرة سواء كان ساق هاديًا أو لم يسق - انتهى. وقال الأبي في الإكمال: إن المعتمر إذا فرغ من عمرته حل ثم ينشئ الحج من عامه وإن كان معه الهدي، فكذلك عند مالك، والشافعي قياسًا على من ليس معه هدي - انتهى. وقال أبو حنيفة، وأحمد وجماعة: لا يحل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر. قال صاحب الهداية في المتمتع الذي ساق الهدي: إذا دخل مكة طاف وسعى، وهذا للعمرة على ما بينا في متمتع لا يسوق الهدي إلا أنه لا يتحلل حتى يحرم بالحج يوم التورية، لقوله عليه السلام: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وتحللت منها. وهذا ينفي التحلل عند سوق الهدي - انتهى. قال الحافظ في الدراية: رواه مسلم في حديث جابر الطويل، وفي الصحيحين عن أنس:((لولا أن معي الهدى لأحللت)) - انتهى. وقال ابن قدامة في المغني (ج3: 391) : أما من معه هدي (أي المتمتع الذي ساق الهدي) فليس له أن يتحلل لكن يقيم على إحرامه ويدخل الحج على العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا، نص عليه أحمد وهو قول أبى حنيفة
…
وقال مالك، والشافعي: له التحلل ونحر هديه، ويستحب نحره عند المروة. ولنا حديث ابن عمر قال: تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم مكة قال للناس: من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل. وروت عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع - الحديث. وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا)) وعن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحر. متفق عليه. والأحاديث كثيرة أي في هذا المعنى. (وقال الحافظ: الأحاديث بذلك متضافرة) وذكر ابن قدامة روايتين أخريين لأحمد ثم قال: والرواية الأولى أولى لما
وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر. متفق عليه.
2570-
(7) وعن ابن عمر، قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، بدأ
ــ
فيها من الحديث الصحيح الصريح - انتهى. وفي الروض المربع: ثم إن كان متمتعًا لا هدي معه قصر من شعره وتحلل لأنه تمت عمرته، وإن كان معه هدي لم يقصر وحل إذا حج، فيدخل الحج على العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في باب قصة حجة الوداع، (وأما من أهل بالحج) أي مفردًا وأهدى، (أو جمع الحج والعمرة) قارنًا، (فلم يحلوا) بفتح الياء وضمها وكسر الحاء، يقال: حل المحرم، وأحل بمعنى واحد أي لم يخرجوا من الإحرام، (حتى كان يوم النحر) أي فحلوا، قال القاري: ففي يوم النحر برميهم جمرة العقبة والحلق حل لهم كل المحظورات إلا مباشرة النساء فحل لهم ذلك بطواف الركن - انتهى. وما ذكر في الحديث من أن من أهل بالحج مفردًا إنما حل يوم النحر، وهو محمول على من أهل بالحج وأهدى، وإلا فمن كان أهل بالحج ولم يهد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفسخه إلى العمرة. ففي رواية الأسود عن عائشة عند البخاري قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدمنا أي مكة تطوفنا بالبيت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدى - الحديث. قال الحافظ: قوله: ((أن يحل)) أي من الحج بعمل العمرة، وهو فسخ الحج - انتهى. وعلى هذا يحمل ما وقع في رواية عقيل عن الزهري في الصحيحين:((فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحج (أي وأهدى) فليتم حجه)) ، وإنما حملنا الحديث على ذلك لأن ظاهره مخالف لأحاديث فسخ الحج، وعلى هذا لا يحتاج إلى تغليظ الرواية وإسقاطها كما ذهب إليه ابن القيم فتأمل، وقال الشنقيطى في ((أضواء البيان)) : دعوى من ادعى أنه لم يحل بعمرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلا من أحرم بالعمرة وحدها، وأن من أحل بحج أو جمع الحج والعمرة لم يحل أحد منهم حتى كان يوم النحر، دعوى باطلة، لأن الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة بكل الوضوح والصراحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كل من لم يكن معه هدي أن يحل بعمرة سواء كان مفردًا أو قارنًا، ومستند من ادعى تلك الدعوى الباطلة هو ما أخرجه مسلم في صحيحه فذكر حديث عائشة الذي نحن في شرحه ثم قال: لأن الذين لم يحلوا من القارنين والمفردين في هذا الحديث ونحوه من الأحاديث يجب حملهم على أن معهم الهدي لأجل الروايات الصحيحة المصرحة بذلك وبأن من لم يكن معه هدي فسخوا حجهم في عمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، وأبو داود، والبيهقي (ج5: ص109، 110)
2570-
قوله: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه الوداع بالعمرة إلى الحج) أي استمتع بالعمرة منضمة إلى الحج وانتفع بها، قال القاري: قوله: ((إلى الحج)) حال من ((العمرة)) أي تمتع بها منضمة إلى الحج (بدأ) أي ابتدأ النسك
فأهل بالعمرة ثم بالحج.
ــ
(فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج) بيان لقوله: تمتع، وظاهره أنه أدخل الحج على العمرة، وقال السندي: إن التمتع عند الصحابة كان شاملاً للقران أيضًا، وإطلاقه على ما يقابل القران اصطلاح حادث، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، فالوجه أن يراد بالتمتع ها هنا في شأنه صلى الله عليه وسلم القران توفيقًا بين الأحاديث، والمعنى: انتفع بالعمرة إلى أن حج مع الجمع بينهما في الإحرام، ومعنى قوله: بدأ بالعمرة أنه قدم العمرة ذكرًا في التلبية فقال: لبيك عمرة وحجًا - انتهى. وقال القاضي قوله: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلخ هو محمول على التمتع اللغوي وهو القران آخرًا، ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولاً بالحج مفردًا ثم أحرم بالعمرة فصار قارنًا في آخر أمره. والقارن: هو متمتع من حيث اللغة ومن حيث المعنى، لأنه ترفه باتحاد الميقات والإحرام والفعل، ويتعين هذا التأويل هنا للجمع بين الأحاديث في ذلك، قلت: الحديث مشكل على من ذهب إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا أولاً وآخرًا ولم يكن متمتعًا ولا قارنًا، فقال المهلب لدفع هذا الإشكال أن قوله:((تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم)) إلخ معناه أمر بذلك لأنه كان ينكر على أنس قوله: إنه قرن ويقول: إنه كان مفردًا، وأما قوله:((بدأ فأهل بالعمرة)) فمعناه أمرهم بالتمتع وهو أن يهلوا بالعمرة أولاً ويقدموها قبل الحج، قال: ولا بد من هذا التأويل لدفع التناقض عن ابن عمر وقال ابن المنير: إن حمل قوله: ((تمتع)) على معنى ((أمر)) من أبعد التأويلات، والاستشهاد عليه بقوله:((رجم)) وإنما أمر بالرجم من أوهن الاستشهادات، لأن الرجم وظيفة الإمام والذي يتولاه إنما يتولاه نيابة عنه، وأما أعمال الحج من إفراد وقران وتمتع فإنه وظيفة كل أحد عن نفسه، ثم أجاز تأويلاً آخر وهو: أن الراوي عهد أن الناس لا يفعلون إلا كفعله لا سيما مع قوله: ((خذوا عني مناسككم)) فلما تحقق أن الناس تمتعوا ظن أنه صلى الله عليه وسلم تمتع فأطلق ذلك، قال الحافظ: ولا يتعين هذا أيضاً بل يحتمل أن يكون معنى قوله: ((تمتع)) محمولاً على مدلوله اللغوي وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها وغيره. قال النووي: إن هذا هو المتعين. قال: وقوله: ((بالعمرة إلى الحج)) أي بإدخال العمرة على الحج - انتهى. والحديث مشكل أيضًا على من قال إنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا في أول الأمر ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارنًا. قال الحافظ: وإنما المشكل هنا قوله: فبدأ بالعمرة ثم أهل بالحج. لأن الجمع بين الأحاديث الكثيرة في هذا الباب استقر كما تقدم على أنه بدأ أولاً بالحج ثم أدخل عليه العمرة وهذا بالعكس، وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال، أي لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال: لبيك بعمرة وحجة معًا. وهذا مطابق لحديث أنس المتقدم، لكن قد أنكر ابن عمر ذلك على أنس فيحتمل أن يحمل إنكار ابن عمر عليه كونه أطلق أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما أي في ابتداء الأمر، ويعين هذا التأويل قوله في نفس الحديث:((وتمتع الناس)) إلخ. فإن الذين تمتعوا إنما بدأوا بالحج، ولكن فسخوا حجهم إلى العمرة حتى حلوا بعد ذلك بمكة ثم حجوا من عامهم - انتهى. وقال القاضي: قوله: ((بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم)) إلخ. محمول على التلبية في أثناء الإحرام وليس المراد أنه أحرم في أول أمره بعمرة ثم أحرم بحج، لأنه يفضي إلى مخالفة الأحاديث