الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5653 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَحَدَّثُ - وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ -: «إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ. فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ ". فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ! وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5653 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَحَدَّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ: إِنَّ رَجُلًا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْحِكَايَةِ، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَتَحَدَّثُ، وَالْجُمْلَةُ بَيْنَهُمَا حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولُ يَتَحَدَّثُ عَلَى حِكَايَةِ مَا يَلْفِظُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ رَجُلًا (مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ) أَيْ: بِنَاءً عَلَى مَا تَعَوَّدَهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِتَنَزُّهِهِ بِهِ فِي الْعُقْبَى (فَقَالَ) أَيْ رَبُّهُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَيُقَالُ لَهُ:( «أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟» ) أَيْ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّنَعُّمِ (قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَبَذَرَ) الْفَاءُ فَصِيحَةٌ أَيْ: فَأُذِنَ لَهُ فِيهِ فَبَذَرَ أَيْ رَمَى الْبَذْرَ فِي أَرْضِ الْجَنَّةِ (فَبَادَرَ الطَّرْفَ) - بِسُكُونِ الرَّاءِ - تَحْرِيكُ الْجُفُونِ فِي النَّظَرِ أَيْ فَسَابَقَهُ (نَبَاتُهُ) وَالْمَعْنَى: فَحَصَلَ نَبَاتُهُ فِي الْحَالِ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ) أَيْ مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ لِلْحَصَادِ مِنْ جَانِبِ الْعِبَادِ، فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ (فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ حِينَئِذٍ (دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ) أَيْ خُذْ مَا تَمَنَّيْتَهُ قَالَهُ، فِي سَبِيلِ التَّوْبِيخِ تَهْجِينًا لِمَا الْتَمَسَهُ، وَمِنْ ثَمَّ رُتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:(فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ) أَيْ كَثِيرٌ حَتَّى فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ يُوجَدُ فِي تَعَارُفِ النَّاسِ مِثْلُ هَذَا التَّوْبِيخِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ كُلَّ إِنَاءٍ يَرْشَحُ بِمَا فِيهِ، وَأَنَّ النَّاسَ يَمُوتُونَ كَمَا يَعِيشُونَ، وَيُحْشُرُونَ كَمَا يَمُوتُونَ، أَظْهَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْمَعْنَى فِي لِبَاسِ هَذَا الْمَبْنَى. ( «فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لَا نَجِدُهُ» ) أَيْ هَذَا الرَّجُلُ (إِلَّا قُرَشِيًّا) أَيْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ (أَوْ أَنْصَارِيًّا) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَـ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ (فَإِنَّهُمْ) أَيْ مَجْمُوعُ الْقَبِيلَتَيْنِ (أَصْحَابُ زَرْعٍ) أَيْ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْأَنْصَارُ أَكْثَرَ زَرْعًا (فَأَمَّا) بِالْفَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَأَمَّا (نَحْنُ) أَيْ مَعَاشِرَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ (فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ الزَّرْعِ) أَيْ فَلَا نَشْتَهِي مِثْلَ ذَلِكَ (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ مِنْ فَطَانَةِ الْبَدَوِيِّ، أَوْ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخَبْتِيِّ وَجَوَابِهِ الْبَدِيعِيِّ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5654 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَلَا يَمُوتُ أَهْلُ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
5654 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَلَا يَمُوتُ أَهْلُ الْجَنَّةِ» ) أَيْ فَلَا يَنَامُونَ، وَهَذَا جَوَابٌ بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ، وَهُوَ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَأَظْهَرُ فِي اطْمِئْنَانِ الْإِيمَانِ مِنَ الْجَوَابِ الْإِجْمَالِيِّ بِأَنْ قَالَ: لَا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
[بَابُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى]
بَابُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5655 -
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا» ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا " ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
[6]
- بَابُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى
مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5655 -
(عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْبَجَلِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكُمْ) أَيْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ (سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ) أَيْ سَتُبْصِرُونَهُ فَقَوْلُهُ: (عِيَانًا) بِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَوْ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ إِمَّا مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَيْ مُعَايِنِينَ - بِكَسْرِ الْيَاءِ، أَوْ مُعَايَنًا - بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْمُعَايَنَةُ رَفْعُ الْحِجَابِ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ، فَفِي الْقَامُوسِ: لَقِيَهُ عِيَانًا أَيْ مُعَايَنَةٌ لَمْ يَشُكَّ فِي رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: عِيَانًا أَيْ جَهَارًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَيْنِ الْمَحْسُوسَةِ بِالْعَيْنِ الظَّاهِرَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَاطِبَةً أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُمْكِنَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ عَقْلًا، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْآخِرَةِ أَيْ نَقْلًا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ الْكَافِرِينَ، وَزَعَمَتْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَبَعْضِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّ رُؤْيَتَهُ مُسْتَحِيلَةٌ عَقْلًا، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خَطَأٌ صَرِيحٌ وَجَهْلٌ قَبِيحٌ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَوَاهَا نَحْوُ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِيهَا مَشْهُورَةٌ، وَاعْتِرَاضَاتُ الْمُبْتَدِعَةِ عَلَيْهَا لَهَا أَجْوِبَةٌ مَسْطُورَةٌ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهَا تَقَعُ فِي الدُّنْيَا.
وَحَكَى الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ رحمه الله تَعَالَى فِي رِسَالَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ، عَنِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فَوْرَكٍ أَنَّهُ حَكَى فِيهَا قَوْلَيْنِ لِلْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رحمه الله أَحَدُهُمَا: وُقُوعُهَا، وَالثَّانِي: لَا تَقَعُ، ثُمَّ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الرُّؤْيَةَ قُوَّةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْأَشِعَّةُ وَلَا مُقَابَلَةُ الْمَرْئِيِّ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ فِي رُؤْيَةِ بَعْضِنَا بَعْضًا بِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاتِّفَاقِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ، وَقَدْ قَرَّرَ أَئِمَّتُنَا الْمُتَكَلِّمُونَ ذَلِكَ بِالدَّلَائِلِ الْجَلِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتُ جِهَةٍ لَهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، بَلْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ لَا فِي جِهَةٍ كَمَا يَعْلَمُونَهُ لَا فِي جِهَةٍ. قُلْتُ: كَمَا يَرَانَا هُوَ لَا فِي جِهَةٍ وَلَا مُقَابَلَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ الْغَائِبُ بِالشَّاهِدِ، لَا سِيَّمَا الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ؛ وَلِذَا قِيلَ: لَا يُقَاسُ الْمُلُوكُ بِالْحَدَّادِينَ.
(وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ عَنْ جَرِيرٍ (قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا) أَيْ جَالِسِينَ ( «عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» ) قَالَ الْأَكْمَلُ: أَيِ الْبَدْرِ الْكَامِلِ، وَسُمِّيَ لَيْلَةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَدْرًا لِمُبَادَرَتِهِ الشَّمْسَ بِالطُّلُوعِ، ( «فَقَالَ:" إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ» ) أَيِ: الْمَحْسُوسَ الْمُشَاهَدَ الْمَرْئِيَّ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وَقَالَ أَوْ ذَكَرَ عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ الْحَالِ (لَا تُضَامُونَ) بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، مِنَ الضَّيْمِ وَهُوَ الظُّلْمُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَيْ لَا يُظْلَمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالتَّكْذِيبِ وَالْإِنْكَارِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، مِنَ التَّضَامُنِ بِمَعْنَى التَّزَاحُمِ، وَفِي أُخْرَى بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ الْمُضَامَّةِ، وَهِيَ الْمُزَاحَمَةُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَحَاصِلُ مَعْنَى الْكُلِّ: لَا تَشُكُّونَ (فِي رُؤْيَتِهِ) أَيْ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: قَدْ يُخَيَّلُ إِلَى بَعْضِ السَّامِعِينَ أَنَّ الْكَافَ فِي قَوْلِهِ: " كَمَا تَرَوْنَ " كَافُ التَّشْبِيهِ لِلْمَرْئِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ كَافُ التَّشْبِيهِ لِلرُّؤْيَةِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّائِي، وَمَعْنَاهُ: تَرَوْنَ رَبَّكُمْ رُؤْيَةً يَنْزَاحُ مَعَهَا الشَّكُّ، كَرُؤْيَتِكُمُ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تَرْتَابُونَ فِيهِ وَلَا تَمْتَرُونَ. قَالَ: وَلَا تُضَامُونَ، رُوِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنَ الضَّيْمِ: الظُّلْمُ، الْمَعْنَى أَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ جَمِيعُكُمْ لَا
يَظْلِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي رُؤْيَتِهِ، فَيَرَاهُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، وَبِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنَ الِانْضِمَامِ بِمَعْنَى الِازْدِحَامِ أَيْ لَا يَزْدَحِمُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي رُؤْيَتِهِ، وَلَا يُضَمُّ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْ ضِيقٍ، كَمَا يَجْرِي عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مَثَلًا دُونَ رُؤْيَةِ الْقَمَرِ، فَإِنَّهُ يَرَاهُ كُلٌّ مِنْكُمْ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ مُنْفَرِدًا بِهِ، ( «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا» ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَا تَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ ( «عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ أَوْ عَدَمِ الْمَغْلُوبِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: تَرْتِيبُ قَوْلِهِ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ عَلَى قَوْلِهِ: سَتَرَوْنَ بِالْفَاءِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوَاظِبَ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَالْمُحَافِظَ عَلَيْهَا خَلِيقٌ بِأَنْ يَرَى رَبَّهُ، وَقَوْلُهُ: لَا تُغْلَبُوا مَعْنَاهُ لَا تَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ بِالِاشْتِغَالِ عَنْ صَلَاتَيِ الصُّبُحِ وَالْعَصْرِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالْحَثِّ لِمَا فِي الصُّبُحِ مِنْ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى الِاسْتِرَاحَةِ وَالنَّوْمِ، وَفِي الْعَصْرِ مِنْ قِيَامِ الْأَسْوَاقِ وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْمُعَامَلَاتِ، فَمَنْ يَلْحَقُهُ فَتْرَةٌ فِي الصَّلَاتَيْنِ مَعَ مَا لَهُمَا مِنْ قُوَّةِ الْمَانِعِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا تَلْحَقَهُ فِي غَيْرِهِمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِشْهَادًا أَوْ جَرِيرٌ اعْتِقَادًا وَسَبِّحْ، بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] أَيْ وَصَلِّ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْكُلِّ بِالْجُزْءِ، وَهُوَ التَّسْبِيحُ الْمُرَادُ بِهِ الثَّنَاءُ فِي الِافْتِتَاحِ الْمَقْرُونِ بِحَمْدِ الرَّبِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ:{وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} [طه: 130] أَيْ سَاعَاتِهِ وَهُوَ الْعِشَاءَانِ فَسَبِّحْ {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130] أَيْ طَرَفَيْهِ وَهُوَ وَسَطُهُ يَعْنِي الظُّهْرَ {لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ أَيْ عَلَى رَجَاءِ أَنْ تَكُونَ رَاضِيًا أَوْ مَرْضِيًّا أَوْ جَمْعًا مُثْبَتًا، أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنِ الشَّرِيكِ وَنَحْوِهِ مِنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ وَالزَّوَالِ وَالْحُدُوثِ وَالِانْتِقَالِ، وَالْمُرَادُ بِحَمْدِهِ ثَنَاءُ الْكَمَالِ بِنَعْتِ الْجَمَالِ وَوَصْفِ الْجَلَالِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْهُ، لَكِنْ بِغَيْرِ قِرَاءَةِ الْآيَةِ.
5656 -
(وَعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: " فَيُرْفَعُ الْحِجَابُ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ " ثُمَّ تَلَا:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] » رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5656 -
(وَعَنْ صُهَيْبٍ) مُصَغَّرًا (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ» ) أَيْ أَتُرِيدُونَ (شَيْئًا أَزِيدُكُمْ) أَيْ عَلَى عَطَايَاكُمْ، ( «فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدَخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا» ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَيُخَفَّفُ، أَيْ وَأَلَمْ تَخَلِّصْنَا (مِنَ النَّارِ؟) أَيْ مِنْ دُخُولِهَا وَخُلُودِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: تَقْرِيرٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ أَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ؟ وَقَوْلُهُ: (فَيُرْفَعُ الْحِجَابُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَرَفْعُ الْحِجَابِ رَفْعٌ لِلتَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: هَذَا هُوَ الْمَزِيدُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحِجَابِ، فَإِنَّهُ مَحْبُوبٌ غَيْرُ مَحْجُوبٍ، إِذِ الْمَحْجُوبُ مَغْلُوبٌ، فَالْمَعْنَى: فَيُرْفَعُ الْحِجَابُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:( «فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ» ) ، أَيْ ذَاتِهِ الْمُنَزَّهَةِ عَنِ الصُّورَةِ وَالْجِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، ( «فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ، ثُمَّ تَلَا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} [يونس: 26] » ) أَيِ الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ أَجَادُوهُ مَقْرُونًا بِالْإِخْلَاصِ (الْحُسْنَى) أَيِ الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ (وَزِيَادَةٌ) . أَيِ النَّظَرُ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَتَنْكِيرُهَا لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ زِيَادَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهَا، وَلَا يُكْتَنَهُ كُنْهُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَإِذَا كَانَ مُفَسِّرُ التَّنْزِيلِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ، فَمَنْ تَعَدَّاهُ فَقَدْ تَعَدَّى طَوْرَهُ. أَقُولُ: أَرَادَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي عُدُولِهِ عَنْهُ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَكَذَا مَنْ تَبِعَهُ كَالْبَيْضَاوِيِّ حَيْثُ عَبَّرَ بِالْقِيلِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْجَمِيلِ الثَّابِتِ مِمَّنْ نَزَلَ عَلَيْهِ التَّنْزِيلُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
5657 -
عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً " ثُمَّ قَرَأَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22] » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5657 -
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً» ) أَيْ أَقَلُّهُمْ مَرْتَبَةً ( «لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جِنَانِهِ» ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ بَسَاتِينِهِ (وَأَزْوَاجِهِ) أَيْ نِسَائِهِ وَحُورِهِ (وَنَعِيمِهِ) أَيْ مَا يَتَنَعَّمُ بِهِ (وَخَدَمِهِ) أَيْ مِنَ الْوِلْدَانِ (وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ) أَيْ حَالَ كَوْنِ جِنَانِهِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا كَائِنَةً فِي مَسَافَةِ أَلْفِ سَنَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مُلْكَهُ مِقْدَارُ تِلْكَ الْمَسَافَةِ. قِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ النَّاظِرِ يَمْلِكُ فِي الْجَنَّةِ مَا يَكُونُ مِقْدَارُهُ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكِيَّةَ فِي الْجَنَّةِ خِلَافَ مَا فِي الدُّنْيَا. وَفِي التَّرْكِيبِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ؛ إِذْ جُعِلَ الِاسْمُ وَهُوَ قَوْلُهُ: " لَمَنْ يَنْظُرُ " خَبَرًا، أَوِ الْخَبَرُ وَهُوَ " أَدْنَى مَنْزِلَةً " اسْمًا؛ اعْتِنَاءً بِشَأْنِ الْمُقَدَّمِ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بَيَانُ ثَوَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَسَعَتِهَا، وَأَنَّ أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ يَكُونُ مُلْكُهُ كَذَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] خَبَرًا (وَأَكْرَمَهُمْ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَدْنَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَجْمُوعِ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، أَيْ وَأَكْثَرَهُمْ كَرَامَةً (عَلَى اللَّهِ) وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً وَأَقْرَبُهُمْ رُتْبَةً عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ (مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ) أَيْ ذَاتِهِ (غُدْوَةً) بِضَمِّ الْغَيْنِ (وَعَشِيَّةً) أَيْ صَبَاحًا وَمَسَاءً؛ وَلِهَذَا وَصَّى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاتَيْ طَرَفَيِ النَّهَارِ كَمَا مَرَّ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِمَا أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ دَوَامًا عَلَى أَنَّ الْغُدْوَةَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّهَارِ وَالْعَشِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّيْلِ مَجَازًا بِذِكْرِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، أَوْ بِذِكْرِ أَوَّلِ الشَّيْءِ وَإِرَادَةِ تَمَامِهِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّظَرُ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ لَمَا انْتَفَعُوا بِسَائِرِ النَّعِيمِ وَقَدْ خُلِقَتْ لَهُمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا «أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَ عَلَى الْجَبَّارِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَقَدْ جَلَسَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ الَّذِي هُوَ مَجْلِسُهُ عَلَى مَنَابِرِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ - بِالْأَعْمَالِ - فَلَا تَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ قَطُّ كَمَا تَقَرُّ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا أَعْظَمَ مِنْهُ وَلَا أَحْسَنَ مِنْهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى رِجَالِهِمْ وَقُرَّةِ أَعْيُنِهِمْ نَاعِمِينَ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْغَدِ» ".
(ثُمَّ قَرَأَ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] أَيْ نَاعِمَةٌ غَضَّةٌ حَسَنَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوهِ الذَّوَاتُ، أَوْ خُصَّتْ لِشَرَفِهَا وَلِظُهُورِ أَثَرِ النِّعْمَةِ عَلَيْهَا {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَدَّمَ صِلَةَ " نَاظِرَةٍ " إِمَّا لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ وَهِيَ نَاضِرَةٌ بَاسِرَةٌ فَاقِرَةٌ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّاظِرَ يَسْتَغْرِقُ عِنْدَ رَفْعِ الْحِجَابِ بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ هَذَا وَالْعَارِفُونَ فِي الدُّنْيَا رُبَّمَا اسْتَغْرَقُوا فِي بِحَارِ الْحُبِّ بِحَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْكَوْنِ؟ وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ، «فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ» . (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ، وَرَوَى هَنَّادٌ فِي الزُّهْدِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا:«إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا لَرَجُلٌ لَهُ دَارٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا غُرَفُهَا وَأَبْوَابُهَا.»
5658 -
وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ مُخْلِيًا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
قَالَ: " بَلَى ". قَالَ: قُلْتُ: وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: " يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ لَيْلَةَ بَدْرٍ مُخْلِيًا بِهِ؟ " قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَإِنَّمَا هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
5658 -
(وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ) مُصَغَّرًا ( «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكُلُّنَا» ) أَيْ أَجَمِيعُنَا مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ (يَرَى رَبَّهُ) أَيْ يُبْصِرُونَهُ، وَالْإِفْرَادُ مَنْ يَرَى بِاعْتِبَارِ لَفْظِ " كُلٍّ " (مُخْلِيًا بِهِ) . بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ فَخَاءٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ مَكْسُورَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُخَفَّفَةٍ أَيْ خَالِيًا بِرَبِّهِ بِحَيْثُ لَا يُزَاحِمُهُ شَيْءٌ فِي الرُّؤْيَةِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ؟ وَقِيلَ: بِفَتْحِ
مِيمٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، وَأَصْلُهُ مَخْلُوِيٌّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ رحمه الله وَاقْتَصَرَ ابْنُ الْمَلَكِ عَلَى الثَّانِي، وَالْمَعْنَى: مُنْفَرِدًا بِهِ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: خَلَوْتُ بِهِ وَمَعَهُ وَإِلَيْهِ اخْتَلَيْتُ بِهِ، إِذَا انْفَرَدْتَ بِهِ، أَيْ كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ:" «لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» ". (قَالَ: " بَلَى) أَيْ نَعَمْ كُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ (قَالَ) أَيْ أَبُو رَزِينٍ (قُلْتُ) وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ (وَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟) أَيْ مَا عَلَامَةُ رُؤْيَةِ كُلِّنَا رَبَّهُ بِحَيْثُ لَا يُزَاحِمُهُ شَيْءٌ، وَالْمَعْنَى مَثِّلْ لَنَا ذَلِكَ (فِي خَلْقِهِ) ؟ أَيْ مَخْلُوقَاتِهِ نَظِيرًا لِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي الدُّنْيَا أُنْمُوذَجًا لِجَمِيعِ مَا فِي الْعُقْبَى. ( «قَالَ:" يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مُخْلِيًا بِهِ؟ " قَالَ: بَلَى» ) أَيْ قُلْتُ: بَلَى (قَالَ: " فَإِنَّمَا هُوَ) أَيِ الْقَمَرُ ( «خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ» ) أَيْ وَيَرَاهُ كُلُّنَا (وَاللَّهُ أَجَلُّ) أَيْ أَكْمَلُ مَرْتَبَةً (وَأَعْظَمُ) أَيْ أَفْضَلُ مَنْقَبَةً وَأَعْلَى قُدْرَةً؛ لِأَنَّهُ وَاجِدُ الْوُجُودِ، فَهُوَ أَوْلَى فِي نَظَرِ الْعَقْلِ بِالشُّهُودِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَاسَ الْقَائِلُ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا فِي الْمُتَعَارَفِ، فَإِنَّ الْجَمَّ الْغَفِيرَ إِذَا رَأَوْا شَيْئًا يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّؤْيَةِ، لَا سِيَّمَا شَيْئًا لَهُ نَوْعُ خَفَاءٍ، فَيَهِيمُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ بِالِازْدِحَامِ، فَمِنْ رَاءٍ يَرَى رُؤْيَةً كَامِلَةً وَرَاءٍ دُونَهَا، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مُخْلِيًا إِثْبَاتُ كَمَالِهَا، وَلِذَا طَابَقَ الْجَوَابَ بِالتَّشْبِيهِ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا بِالْهِلَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5659 -
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5659 -
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟» أَيْ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ (قَالَ: " نُورٌ) أَيْ هُوَ نُورٌ عَظِيمٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ نُورُ الْأَنْوَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] أَيْ مُنَوِّرُهَا وَمُظْهِرُ أَنْوَارِ مَا فِيهِمَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ النُّورُ، وَهُوَ الَّذِي ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ، وَمُظْهِرٌ لِغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ (أَنَّى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، أَيْ كَيْفَ (أَرَاهُ) أَيْ أُبْصِرُهُ، فَإِنَّ كَمَالَ النُّورِ يَمْنَعُ الْإِدْرَاكَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ نُورَانِيٌّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ لِلنِّسْبَةِ لِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ لِلْمُبَالَغَةِ كَالرَّبَّانِيِّ، وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ: أَرَاهُ بِمَعْنَى أَظُنُّهُ مِنَ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الرَّأْيِ، فَلَوْ قُرِئَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ لَكَانَ أَظْهَرَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أُبْصِرُهُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مَا رَآهُ فِي الدُّنْيَا، وَسَيَرَاهُ فِي الْأُخْرَى، أَوْ مُرَادُهُ أَبْصَرْتُهُ، وَالْعُدُولُ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، فَكَأَنَّهُ يَسْتَحْضِرُهُ وَيَتَلَذَّذُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اخْتُلِفَ فِي رُؤْيَتِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، فَيَكُونُ اسْتِفْهَامًا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَرُوِيَ بِكَسْرِ النُّونِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لِلْمُثْبِتِينَ، وَيَكُونُ حِكَايَةً عَنِ الْمَاضِي بِالْحَالِ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ: نُورَانِيٌّ أَرَاهُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ. يَعْنِي عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَابِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَرَادَ لَيْسَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ الْمُسْتَفِيدِ لِلنَّفْيِ، بَلْ لِلتَّقْرِيرِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْإِيجَابِ أَيْ نُورٌ حَيْثُ أَرَاهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: " رَأَيْتُ نُورًا أَنَّى " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، هَكَذَا رَوَاهُ جَمِيعُ الرُّوَاةِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَمَعْنَاهُ حِجَابُهُ نُورٌ، فَكَيْفَ أَرَاهُ؟ قَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ أَنَّ النُّورَ مَنَعَنِي مِنَ الرُّؤْيَةِ كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ، فَإِنَّ كَمَالَ النُّورِ يَمْنَعُ الْإِدْرَاكَ، وَرُوِيَ " نُورَانِيٌّ " مَنْسُوبٌ إِلَى النُّورِ، وَمَا جَاءَ مِنْ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنُّورِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفاتحة: 35 - 33691] وَفِي الْأَحَادِيثِ مَعْنَاهُ ذُو نُورٍ أَوْ مُنَوِّرُهُمَا، وَقِيلَ هَادِي أَهْلِهِمَا، وَقِيلَ مُنَوِّرُ قُلُوبَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5660 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما « {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 11 - 13] قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] قَالَ: وَيْحَكَ! ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، وَقَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ.»
ــ
5660 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 11 - 13] قَالَ أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ: ( «رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ» ) . قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ أَيْ مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ مَا رَآهُ بِبَصَرِهِ مِنْ صُورَةِ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام، أَيْ مَا قَالَ فُؤَادُهُ لَمَّا رَآهُ لَمْ أَعْرِفْكَ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَكَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ، يَعْنِي: أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَعَرَفَهَ بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ مَا رَآهُ حَقٌّ، وَقِيلَ: الْمَرْئِيُّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَآهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ، وَقِيلَ بِقَلْبِهِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَ هُوَ مَذْهَبُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ دُونَ عَيْنِهِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ رحمهم الله: هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ عز وجل لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَإِبْرَاهِيمُ التَّمِيمِيُّ: رَآهُ بِقَلْبِهِ، وَعَلَى هَذَا رَأَى بِقَلْبِهِ رَبَّهُ رُؤْيَةً صَحِيحَةً، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ بَصَرَهُ فِي فُؤَادِهِ، أَوْ خَلَقَ لِفُؤَادِهِ بَصَرًا حَتَّى رَأَى رَبَّهُ رُؤْيَةً صَحِيحَةً كَمَا يَرَى بِالْعَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَوَجْهٌ مُسْتَحْسَنٌ يُمْكِنُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَاتِ الْأَقْوَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ. ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ رَأَى بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالرَّبِيعِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْفُؤَادَ رَأَى شَيْئًا فَصَدَقَ فِيهِ، وَ " مَا رَأَى " فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ أَيْ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَرْئِيَّهُ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ هَلْ رَأَى نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؟ فَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى بِعَيْنِهِ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَكَعْبٍ وَالْحَسَنِ، كَانَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَحَكَى أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، أَنَّهُ رَآهُ، وَوَقَفَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا. وَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ، وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَةٌ، وَاخْتَلَفُوا أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ كَلَّمَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَمْ لَا؟ فَحُكِيَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَقَوْمٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَنَّهُ كَلَّمَهُ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الدُّنُوَّ وَالتَّدَلِّيَ مُنْقَسِمٌ مَا بَيْنَ جِبْرِيلَ وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ دُنُوٌّ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ عليه الصلاة والسلام، وَالدُّنُوُّ وَالتَّدَلِّي عَلَى هَذَا مُتَأَوَّلٌ لَيْسَ عَلَى وَجْهٍ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ: الدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ لَا حَدَّ لَهُ، وَمِنَ الْعِبَادِ بِالْحُدُودِ، فَدُنُوُّهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ رَبِّهِ عز وجل قُرْبُهُ مِنْهُ، وَظُهُورُ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ لَدَيْهِ، وَإِشْرَاقُ أَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِطْلَاعُهُ عَلَى أَسْرَارِ مَلَكُوتِهِ وَغَيْبِهِ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ إِظْهَارُ ذَلِكَ لَهُ وَإِيصَالُ عَظِيمِ بِرِّهِ وَفَضْلِهِ إِلَيْهِ، وَقَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى عَلَى هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ لُطْفِ الْمَحَلِّ وَإِيضَاحِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِشْرَافِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنَ اللَّهِ إِجَابَةُ الرَّغْبَةِ وَإِنَابَةُ الرُّتْبَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ:" «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا» " هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ رحمه الله. وَقَدْ أَوْرَدْتُ بَعْضَ الْفَوَائِدِ مِنْ هَذِهِ الرِّيَاضِ فِي رِسَالَتَيْنِ الْمِدْرَاجِ لِلْمِعْرَاجِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ: (رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ) أَيْ بِفُؤَادِهِ؛ لِئَلَّا يُخَالِفَ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: أَيْ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْإِطْلَاقِ الْمُلَائِمِ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ السُّؤَالِ، وَإِلَّا فَرُؤْيَةُ الْفُؤَادِ غَيْرُ مُنْكَرَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْكَمَالِ، وَلَا يَعْتَرِي عَلَيْهَا اعْتِرَاضٌ نَقْلًا وَلَا عَقْلًا فِي كُلِّ حَالٍ. (قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] قَالَ - أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ -: (وَيْحَكَ!) كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الشَّفَقَةِ وَحَالَ خَوْفِ الْمَزْلَقَةِ (ذَاكَ) أَيِ الْإِدْرَاكُ الْكُلِّيُّ (إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ) أَيِ الْخَالِصِ (الَّذِي هُوَ نُورُهُ) أَيِ الذَّاتِيُّ، وَهَذَا الْجَوَابُ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ أَرَادَ الرُّؤْيَةَ بِالْفُؤَادِ، وَفَهِمَ عِكْرِمَةُ خِلَافَ ذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ رُؤْيَتَهُ بِالْعَيْنِ " هِيَ فِي الْآخِرَةِ بِالتَّجَلِّي الْخَاصِّ الْكَامِلِ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، لَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَرَاتِبِهِمْ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَعَدَلَا كِلَاهُمَا عَنِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَهُوَ الْإِحَاطَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ يَعْنِي دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحِيطُ بِهِ وَبِحَقِيقَةِ ذَاتِهِ حَاسَّةُ الْأَبْصَارِ، وَهَذَا إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ وَظَهَرَ بِصِفَةِ الْجَلَالِ، وَأَمَّا إِذَا تَجَلَّى مِمَّا يَسَعُهُ نِطَاقُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْجَمَالِ فَلَا اسْتِبْعَادَ إِذَنْ، انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: فَهِمَ عِكْرِمَةُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ بِمُسَاعَدَةِ فُؤَادِهِ، فَذَلِكَ تَمَسُّكٌ بِالْآيَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بِالْفُؤَادِ جَلِيَّةً كَالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ لَمْ يَتَّجِهِ السُّؤَالُ بِالْآيَةِ، إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْإِدْرَاكِ الَّذِي يَكُونُ كَالْإِدْرَاكِ الْبَصَرِيِّ فِي الْجَلَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ ذِكْرَ الْبَصَرِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْإِدْرَاكِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُؤَالَ عِكْرِمَةَ كَانَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ - كَمَا هُوَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ - لَا عَلَى قَوْلِهِ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، كَمَا هُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَحِينَئِذٍ لَا إِشْكَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَعْنَى جَوَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، اضْمَحَلَّ الْإِدْرَاكُ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَجَلَّى عَلَى قَدْرِ مَا يَفِي بِإِدْرَاكِهِ الْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ، فَإِنَّهُ يُدْرَكُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ:
(وَقَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، أَوْ مُرَّةً بِفُؤَادِهِ وَمَرَّةً بِعَيْنِهِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ مَرَّتَيْنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَرِيحُ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ رُؤْيَةُ رَبِّهِ بِعَيْنِ الْبَصَرِ. وَأَمَّا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً، لَكُنَّا لَا نَتَمَسَّكُ إِلَّا بِالْأَقْوَى. مِنْهَا «حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى عليه الصلاة والسلام، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» - قُلْتُ: لَيْسَ فِي كَلَامِهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةُ الْبَصِيرَةِ مِنْ خَصَائِصِهِ أَيْضًا، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ لَا يَكُونَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُصِفَتِ الْخُلَّةُ وَنُعِتَ الْكَلَامُ، مَعَ أَنَّهُمَا ثَابِتَانِ لَهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَبْرِ الْأُمَّةِ، وَالْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ فِي الْمُعْضِلَاتِ، وَقَدْ رَاجَعَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ رَبَّهُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَآهُ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَذَا سُؤَالُ عِكْرِمَةَ نَاشِئًا عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] هَلِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى جِبْرِيلَ أَوْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَآهُ أَيْ بِفُؤَادِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: وَلَا يَقْدَحُ فِي هَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها لِأَنَّهَا لَمْ تُخْبِرْ أَنَّهَا سَمِعَتْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَرَى رَبِّي. قَلْتُ: وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ رَبِّي مُطْلَقًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِعَيْنِ الْبَصَرِ. قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ مَا ذَكَرَتْ مُتَأَوِّلَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} [الشورى: 51] الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قُلْتُ: هَاتَانِ الْآيَتَانِ سَنَدَانِ لِمَنْعِهِمَا عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَيْضًا مُتَأَوِّلٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ. قَالَ: وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى إِثْبَاتِهَا، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَيُؤْخَذُ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا يُتَلَقَّى بِالسَّمَاعِ وَلَا يَسْتَجِيرُ أَحَدٌ أَنْ يَظُنَّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالظَّنِّ وَالِاجْتِهَادِ. قُلْتُ: الرُّؤْيَةُ بِبَصَرِ الْعَيْنِ غَيْرُ مُصَرَّحَةٍ عَنْهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْآيَةِ التَّسْلِيمُ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ نَشَأَ مِنْ بَابِ اجْتِهَادِهِ وَأَخْذِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ. قَالَ: وَقَدْ قَالَ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ حِينَ ذَكَرَ اخْتِلَافَ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: عَائِشَةُ مَا عِنْدَنَا بِأَعْلَمَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُلْتُ: هَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُنَاقَشَةِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً تَامَّةً، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْفَرِدَةً فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ يُوَافِقُهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعَارُضِ وَتَسَاقُطِ التَّنَاقُضِ يَثْبُتُ كَلَامُهَا وَيَتَحَقَّقُ مَرَامُهَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَثْبَتَ شَيْئًا نَفَاهُ غَيْرُهُ، وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. قُلْتُ: هَذَا إِذَا كَانَ الْإِثْبَاتُ مُسْتَنِدًا إِلَى حَسَنٍ، وَإِلَّا فَمِنْ آدَابِ الْبَحْثِ أَنَّ كَلَامَ الْمَانِعِ مُعْتَبَرٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ سَنَدِ الْمَنْعِ، حَتَّى يَأْتِيَ الْخَصْمُ بِبُرْهَانٍ جَلِيٍّ، إِذِ الْأَصْلُ هُوَ الْعَدَمُ، فَالْوُجُودُ يَحْتَاجُ إِلَى تَحَقُّقٍ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍ مِنَ النَّقْلِ أَوِ الْعَقْلِ. هَذَا آخِرُ كَلَامِ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ.
وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْرِيرِ، فَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: الْحَاصِلُ أَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَإِثْبَاتُ هَذَا لَيْسَ إِلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِيهِ. قُلْتُ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْزَمَ بِهِ أَيْضًا؛ لِعَدَمِ ثُبُوتِ السَّمَاعِ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ لَا يَكُونَ طَرِيقُهُ قَطْعًا وَفَصْلًا، وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ فِيهِ خِلَافٌ لِلْأَقَلِّ أَوْ لِلْأَكْثَرِ، فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَنْفِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَذَكَرَتْهُ. قُلْتُ: وَكَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُثْبِتِ الرُّؤْيَةَ بِحَدِيثٍ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ لَذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. لَوْ ثَبَتَ النَّقْلُ صَرِيحًا عَنْهُ مِنْ إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ بِعَيْنِ الْبَصَرِ، وَقَدْ عُلِمَ أَيْضًا مِمَّا سَبَقَ أَنْ عَائِشَةَ مَانِعَةٌ لِلرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا ذَكَرَتْهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّمَا هِيَ سَنَدُ مَنْعِهَا لِلتَّقْوِيَةِ وَلَيْسَتْ مُسْتَدِلَّةً حَتَّى يُقَالَ فِي حَقِّهَا مَا قَالَ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَتْ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْآيَاتِ، أَمَّا احْتِجَاجُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْإِحَاطَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُحَاطُ بِهِ، فَإِذَا وَرَدَ النَّصُّ بِنَفْيِ الْإِحَاطَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الرُّؤْيَةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ. قُلْتُ: سَبَقَ سُؤَالُ عِكْرِمَةَ مُطَابِقًا لِمَا فَهِمَتْ عَائِشَةُ مِنَ الْآيَةِ. وَكَذَا تَقْرِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْمَعْنَى، وَجَوَابُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَبْنَى، وَإِنْ كَانَ هَذَا جَوَابًا حَسَنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ: وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} [الشورى: 51] الْآيَةَ. فَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الرُّؤْيَةِ وُجُودُ الْكَلَامِ حَالَ الرُّؤْيَةِ، فَيَجُوزُ وُجُودُ الرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى أُخِذَ مِنْ سِيَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى - فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 9 - 10] حَيْثُ اسْتَدَلَّ الْخَصْمُ بِهِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ كَمَالِ الْقُرْبِ وَالْوَحْيِ الْخَاصِّ الْمُرَادِ بِهِ الْكَلَامُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَدَفَعْتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51] أَيْ بِالْإِلْقَاءِ بِالْقَلْبِ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَيْ أَوْ تَكْلِيمًا ظَاهِرًا يُدْرِكُهُ سَمْعُ الْقَالَبِ، لَكِنْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: اعْلَمْ أَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ، وَجَعَلَ بَصَرَهُ فِي فُؤَادِهِ، أَوْ رَآهُ بِبَصَرِهِ وَجَعَلَ فُؤَادَهُ فِي بَصَرِهِ، وَكَيْفَ لَا، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ الرُّؤْيَةُ بِالْإِرَاءَةِ لَا بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ، فَإِذَا حَصَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ مِنْ طَرِيقِ الْبَصَرِ كَانَ رُؤْيَةً بِالْإِرَاءَةِ، وَإِنْ حَصَّلَ مِنْ طَرِيقِ الْقَلْبِ كَانَ مَعْرِفَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمَ بِخَلْقٍ مُدْرِكٍ لِلْعُلُومِ فِي الْبَصَرِ، كَمَا قَدَّرَ أَنْ يُحَصِّلَهُ بِخَلْقٍ مُدْرِكٍ لِلْعُلُومِ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَاخْتِلَافُ الْوُقُوعِ مِمَّا يُنْبِئُ عَنِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْجَوَازِ. انْتَهَى. وَهُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَنِهَايَةُ التَّدْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّعَرُّفِ: وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا بِالْإِبْصَارِ، وَلَا بِالْقَلْبِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِيقَانِ؛ لِأَنَّهُ غَايَةُ الْإِكْرَامِ وَأَفْضَلُ النِّعَمِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَفْضَلِ الْمَكَانِ، وَأَحْرَى أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَى الْبَاقِيَ فِي الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَلَوْ رَأَوْهُ فِي الدُّنْيَا لَكَانَ الْإِيمَانُ بِهِ ضَرُورَةً، وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّهَا تَكُونُ فِي الدُّنْيَا، فَوَجَبَ الِانْتِهَاءُ إِلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ: إِنَّهُ لَمْ يَرَهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَصَرِهِ، وَاحْتَجُّوا بِخَبَرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا عليه الصلاة والسلام رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، مِنْهُمْ: الْجُنَيْدُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَآهُ وَأَنَّهُ خُصَّ بَيْنَ الْخَلَائِقِ بِالرُّؤْيَةِ، وَاحْتَجُّوا بِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَسْمَاءَ وَأَنَسٍ، مِنْهُمْ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَآهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِبَصَرِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] هَذَا وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قَوْمًا مِنَ الصُّوفِيَّةِ ادَّعَوُا الرُّؤْيَةَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ أَطْبَقَ الْمَشَايِخُ عَلَى تَضْلِيلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَصَنَّفُوا فِي ذَلِكَ كُتُبًا مِنْهُمْ: أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ لَهُ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ كِتَابٌ وَرَسَائِلُ، وَكَذَا لِلْجُنَيْدِ فِي تَكْذِيبِ مَنِ ادَّعَاهُ رَسَائِلُ وَكَلَامٌ كَثِيرٌ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ.
5661 -
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: «لَقِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كَعْبًا بِعَرَفَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَكَبَّرَ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى، فَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ، وَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ قَالَ مَسْرُوقٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ تَكَلَّمْتَ بِشَيْءٍ.
قَفَّ لَهُ شَعَرِي، قُلْتُ: رُوَيْدًا، ثُمَّ قَرَأْتُ:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] فَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ بِكَ؟ إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ. مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ أَوْ يَعْلَمُ الْخَمْسَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ، لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَمَرَّةً فِي أَجْيَادٍ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَرَوَى الشَّيْخَانِ مَعَ زِيَادَةٍ وَاخْتِلَافٍ، وَفِي رِوَايَتِهِمَا: قَالَ: «قُلْتُ: لِعَائِشَةَ:
فَأَيْنَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى - فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 - 9] قَالَتْ: ذَاكَ جِبْرِيلُ عليه السلام، كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ، فَسَدَّ الْأُفُقَ.»
ــ
5661 -
(وَعَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ قَالَ:(قَالَ: لَقِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا بِعَرَفَةَ، فَسَأَلَهُ) أَيْ كَعْبًا (عَنْ شَيْءٍ، فَكَبَّرَ) أَيْ كَعْبٌ (حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً مُرْتَفِعًا بِهَا صَوْتُهُ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ صَدًى، كَأَنَّهُ اسْتَعْظَمَ مَا سَأَلَ عَنْهُ، فَكَبَّرَ لِذَلِكَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ السُّؤَالَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَقَفَّ لِذَلِكَ شَعَرُهَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ كَلَامُ كَعْبٍ الْآتِي مِنْ إِثْبَاتِهِ الرُّؤْيَةَ فِي الْجُمْلَةِ يَأْبَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنْ يَكُونَ نَحْوَ مَا صَدَرَ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي الْمَبْنَى، فَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ التَّكْبِيرُ عَلَى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَالتَّشَوُّقِ إِلَى ذَلِكَ الْمَرَامِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابَ الْكَلَامِ. (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ) أَيْ فَيَجِبُ تَعْظِيمُنَا وَتَكْلِيمُنَا وَتَفْهِيمُنَا (فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى) . عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ، فَبَعْثٌ لَهُ عَلَى التَّسْكِينِ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْظِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْجَوَابِ، يَعْنِي نَحْنُ أَهْلُ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، فَلَا نَسْأَلُ عَمَّا يُسْتَبْعَدُ هَذَا الِاسْتِبْعَادَ، وَلِذَلِكَ فَكَّرَ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ. . . إِلَى آخِرِهِ. أَقُولُ: هَذَا لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ؛ إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى ثُبُوتِ غَيْظٍ لَهُ، وَلَا عَلَى تَحَقُّقِ فِكْرٍ فِيهِ، مَعَ أَنَّ تَيَقُّنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَتَحَصَّلُ بِفِكْرِ سَاعَةٍ مَعَ اعْتِقَادِ مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ عَلَى خِلَافِهَا. (فَكَلَّمَ) أَيِ اللَّهُ تَعَالَى (مُوسَى مَرَّتَيْنِ)، أَيْ فِي الْمِيقَاتَيْنِ (وَرَآهُ مُحَمَّدٌ) عليه السلام أَيْ فِي الْمِعْرَاجِ (مَرَّتَيْنِ) . كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ كَعْبٍ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رَآهُ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى جِبْرِيلَ، بِخِلَافِ قَوْلِ عَائِشَةَ، لَكِنْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ بِرُؤْيَةِ الْبَصِيرَةِ أَوِ الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ؛ وَلِذَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(قَالَ مَسْرُوقٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَسَمِعَ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا. (فَقُلْتُ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ) ؟ أَيْ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالْفُؤَادِ.
(فَقَالَتْ) اسْتِعْظَامًا لِهَذَا السُّؤَالِ ( «لَقَدْ تَكَلَّمْتَ بِشَيْءٍ» ) وَفِي نُسْخَةٍ: كَلَّمْتَ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي بِشَيْءٍ (قَفَّ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ قَامَ مِنَ الْفَزَعِ (لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْكَلَامِ (شَعَرِي) أَيْ شَعَرُ بَدَنِي جَمِيعًا، وَهَذَا لِمَا حَصَلَ عِنْدَهَا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَهَيْبَتِهِ وَاعْتَقَدَتْهُ مِنْ تَنْزِيهِهِ وَاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ (قُلْتُ: رُوَيْدًا) ، أَيِ ارْفُقِي وَأَمْهِلِي، وَالْمَقْصُودُ تَسْكِينُهَا وَالْمُلَاءَمَةُ فِي تَلْيِينِهَا حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَعَهَا. (ثُمَّ قَرَأْتُ:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] : ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يُنَاسِبُ مُدَّعَى مَسْرُوقٍ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا الْمُعَيِّنَةُ لِمَا رَأَى فِيمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] ، فَهُوَ نَقِيضُ مَطْلُوبِهِ؛ وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ قَرَأَتُ الْآيَاتِ الَّتِي خَاتِمَتُهَا هَذِهِ الْآيَةُ، كَمَا تَشْهَدُ لَهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى. أَعْنِي قَوْلَهُ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ: ثُمَّ دَنَا. أَقُولُ: مَعَ بُعْدِهِ لَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَفْظُ رَأَى، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْكُبْرَى الْآيَةَ الْعُظْمَى عَلَى عَظَمَةِ شَأْنِهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى تَعْظِيمِ جَنَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصَدَ بِهَا الرُّؤْيَةَ الْبَصَرِيَّةَ أَوِ الْفُؤَادِيَّةَ. (فَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ بِكَ) ؟ أَيِ الْآيَةُ يَعْنِي فَهْمُهَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ أَخْطَأْتَ فِيمَا فَهِمْتَ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَذَهَبْتَ إِلَيْهِ، فَإِسْنَادُ الْإِذْهَابِ إِلَى الْآيَةِ مَجَازٌ، انْتَهَى. أَوْ أَيْنَ تَذْهَبُ بِكَ الْآيَةُ الْكُبْرَى (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ الْآيَةُ الْكُبْرَى (جِبْرِيلُ) . فَذُكِرَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْآيَةُ الْكُبْرَى وَمَا سَيَأْتِي عَنْهَا أَنَّ لَهُ سِتَّمِائَةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهَا:( «مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ» ) وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا تَنْفِي رُؤْيَتَهُ تَعَالَى مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْفُؤَادِ أَوْ بِالْبَصَرِ، ( «أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ» ) أَيْ بِإِظْهَارِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] وَهُوَ يَعُمُّ الْكِتْمَانَ عَنِ الْجَمِيعِ أَوْ عَنِ الْبَعْضِ، فَيَرُدُّ الِاعْتِقَادَ الْفَاسِدَ لِلشِّيعَةِ فِي اخْتِصَاصِ أَهْلِ الْبَيْتِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّنِيعَةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ لَهُ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِنَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ لَبَيَّنَهُ وَأَظْهَرُهُ لِلْحَاجَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] أَوْ يَعْلَمُ الْخَمْسَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] أَيْ إِلَى آخِرِ (مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ) وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ بِإِيرَادِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُبَالَغَةَ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْفِرْيَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ فِي جَزَاءِ الْكُلِّ مِنَ الشَّرْطِيَّاتِ ( «فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ» ) ، بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيِ الْكَذِبَ الَّذِي هُوَ بِلَا مِرْيَةٍ (وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ)، أَيْ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ ( «لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَمَرَّةً فِي أَجْيَادٍ» ) بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ، مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ مِنْ شِعَابِهَا ( «لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
(وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ مَعَ زِيَادَةٍ وَاخْتِلَافٍ)، أَقُولُ: فَكَانَ الْأَوْلَى إِيرَادُ رِوَايَتِهِمَا، فَهُوَ تَعْرِيضٌ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، (وَفِي رِوَايَتِهِمَا. قَالَ) أَيْ مَسْرُوقٌ، قُلْتُ: لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ:
( «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى» ) يَعْنِي فَإِنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادَرَ أَنَّ ضَمِيرَ " دَنَا " إِلَى اللَّهِ وَضَمِيرَ " فَتَدَلَّى " إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بِالْعَكْسِ كَمَا سَبَقَ، وَكَذَا ضَمِيرُ " فَكَانَ " إِلَى أَحَدِهِمَا، وَقَدْ قَالَ بَعْدَهُ:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 10] وَبِمَا قَرَّرْنَا يَتِمُّ اسْتِشْكَالُ مَسْرُوقٍ. (قَالَتْ: ذَاكَ) أَيْ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي الْكُلِّ (جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام ، أَيْ لَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لِبَيَانِ دَفْعِ مَا عَسَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام دَائِمًا، فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ ذِكْرِ رُؤْيَتِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ؟ فَقَالَتْ: (كَانَ) أَيْ جِبْرِيلُ (يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ) أَيْ مُتَشَكِّلًا بِشَكْلِهِ، وَغَالِبًا بِصُورَةِ دَحْيَةَ (وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ) أَيْ فِي أَجْيَادٍ ( «فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ» ) ، أَيِ الْأَصْلِيَّةِ (فَسَدَّ الْأُفُقَ) ، أَيْ عَلَى نَحْوِ مَا رَآهُ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ فِي صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، هَذَا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخَذَ بِقَوْلِ كَعْبٍ، وَاخْتَارَهُ أَنَّهُ رَآهُ مَرَّتَيْنِ عَلَى احْتِمَالِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ بِعَيْنِ الْبَصَرِ أَوِ الْبَصِيرَةِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا بِهَذِهِ وَالْأُخْرَى بِأُخْرَى، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ مَرَّتَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا نَفْيُ عَائِشَةَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَوْ يُقَيَّدَ بِنَفْيِ الْبَصَرِ وَجَوَازِ رُؤْيَتِهِ بِالْفُؤَادِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَفْيِ عَائِشَةَ بِأَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهَا عَلَى رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَإِثْبَاتُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، لَا مُجَرَّدِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَالِمًا بِهِ تَعَالَى عَلَى الدَّوَامِ، وَأَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ خُلِقَتْ لَهُ فِي قَلْبِهِ، كَمَا تُخْلَقُ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لِغَيْرِهِ، وَالرُّؤْيَةُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مَخْصُوصٌ عَقْلًا، وَلَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِخَلْقِهَا فِي الْعَيْنِ.
5662 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وَفِي قَوْلِهِ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] وَفِي قَوْلِهِ: {رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] قَالَ فِيهَا كُلِّهَا: رَأَى جِبْرِيلَ عليه السلام لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ، قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.»
وَلَهُ وَلِلْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] قَالَ: رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ، سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ.
ــ
5662 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: (فَكَانَ) أَيِ الْقُرْبُ الْمَعْنَوِيُّ مِنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ أَوِ الصُّورِيُّ، أَوْ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {قَابَ قَوْسَيْنِ} [النجم: 9] أَيْ قَدْرُهُمَا وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ قُرْبِهِمَا أَوْ أَدْنَى أَيْ بَلْ أَقْرَبُ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَقَامِ الْمَزِيدِ لِحَالِ الْمُرِيدِ:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَفِي قَوْلِهِ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] أَيْ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَبْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي مَرْجِعِ ضَمِيرِ " أَوْحَى " فِي الْمَعْنَى. (وَفِي قَوْلِهِ:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] قَالَ أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (فِيهَا) أَيْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ (كُلِّهَا: رَأَى) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ) . يَعْنِي الضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى جِبْرِيلَ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مُطَابِقٌ وَمُوَافِقٌ لِمَا فَهِمَتْ عَائِشَةُ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ) أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] قَالَ: أَعَادَهُ تَأْكِيدًا (رَأَى النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (جِبْرِيلَ فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ)، فَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ بِسَاطٍ، وَقِيلَ: فِرَاشٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الرَّفْرَفَ جَمْعًا وَاحِدُهُ رَفْرَفَةٌ، وَجَمْعُ الرَّفْرَفِ رَفَارِفُ. قُلْتُ: الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ثِيَابٌ خُضْرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} [الرحمن: 76] أَوْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَسَطَ أَجْنِحَتَهُ فَصَارَتْ شِبْهَ الرَّفْرَفِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: رَفْرَفَ الطَّائِرُ بِجَنَاحَيْهِ بَسَطَهُمَا عِنْدَ السُّقُوطِ عَلَى شَيْءٍ تَحُومُ عَلَيْهِ لِتَقَعَ فَوْقَهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: رَفَّ الطَّائِرُ بَسَطَ جَنَاحَيْهِ، كَرَفْرَفَ. وَالثُّلَاثِيُّ مُسْتَعْمَلٌ، وَالرَّفُّ شِبْهُ الطَّاقِ كَالرَّفْرَفِ جَمْعُهُ رُفُوفٌ، وَالثَّوْبُ النَّاعِمُ، وَالرُّفُوفُ ثِيَابٌ يُتَّخَذُ مِنْهَا الْمَجَالِسُ وَتُبْسَطُ، وَالرَّقِيقُ مِنْ ثِيَابِ الدِّيبَاجِ. (قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) .
(وَلَهُ) أَيْ لِلتِّرْمِذِيِّ (وَلِلْبُخَارِيِّ) أَيْ أَيْضًا، وَقَدَّمَ التِّرْمِذِيَّ لِتَقَدُّمِ مَرْجِعِهِ (فِي قَوْلِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَالَ الْآتِي:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18](قَالَ) أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (رَأَى رَفْرَفًا) أَيْ ذَا رَفْرَفٍ (أَخْضَرَ، سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ) ، وَهُوَ جِبْرِيلُ كَمَا سَبَقَ عَنْهُ أَيْضًا، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا قَرَّرْنَاهُ وَفِي تَحْرِيرِ الْكَلَامِ قَدَّرْنَاهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
5663 -
وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] فَقِيلَ: قَوْمٌ يَقُولُونَ: إِلَى ثَوَابِهِ. فَقَالَ مَالِكٌ: كَذَبُوا، فَأَيْنَ هُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قَالَ مَالِكٌ: النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْيُنِهِمْ، وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيِّرِ اللَّهُ الْكَفَّارَ بِالْحِجَابِ فَقَالَ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) .
ــ
5663 -
(وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ)، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ (عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] فَقِيلَ: قَوْمٌ) أَيِ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ (يَقُولُونَ) أَيْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ (إِلَى ثَوَابِهِ) أَيْ نَاظِرَةٌ إِلَى ثَوَابِ رَبِّهَا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى مُفْرَدِ الْآلَاءِ بِمَعْنَى النَّعْمَاءِ، وَأُرِيدَ هُنَا الْجِنْسُ أَيْ مُنْتَظِرَةٌ نِعْمَةَ رَبِّهَا. (فَقَالَ مَالِكٌ: كَذَبُوا) أَيْ عَلَى اللَّهِ فِي مَعْنَى كَلَامِهِ، فَأَيْنَ هُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا أَيْ حَقًّا إِنَّهُمْ أَيِ الْكُفَّارُ {عَنْ رَبِّهِمْ} [المطففين: 15] : قُدِّمَ عَنْ مُتَعَلِّقَةً لِلِاهْتِمَامِ أَوْ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلِاخْتِصَاصِ أَوْ لِمُرَاعَاةِ الْفَاصِلَةِ يَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ وَقْتَ الْجَزَاءِ {لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] أَيْ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَالْحِجَابُ أَشَدُّ الْعَذَابِ، كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ زِيَادَةٌ عَلَى كُلِّ مَثُوبَةٍ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وَالْمَعْنَى: فَأَيْنَ ذَلِكَ الْقَوْمُ حَيْثُ وَقَعُوا فِي بُعْدٍ وَغَفْلَةٍ عَنْ مَفْهُومِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مَحْجُوبِينَ، بَلْ يَكُونُونَ إِلَى مَقَامِ النَّظَرِ مَطْلُوبِينَ، وَيَصِيرُونَ مِنْ كَمَالِهِمْ فِي مَرْتَبَةِ الْحُبِّ مَحْبُوبِينَ. (قَالَ مَالِكٌ: النَّاسُ) أَيِ الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّ فِي الْحَقِيقَةِ هُمُ النَّاسُ وَسَائِرُ النَّاسِ كَالنِّسْنَاسِ (يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْيُنِهِمْ) ، وَقَدْ سَبَقَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: النَّاسُ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ اللَّهَ، ثُمَّ الْكُفَّارُ يَصِيرُونَ مَحْجُوبِينَ لِزِيَادَةِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالرُّؤْيَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ حَاصِلَةٌ بِلَا شُبْهَةٍ. (وَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيِّرِ اللَّهُ الْكَفَّارَ بِالْحِجَابِ، فَقَالَ:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] رَوَاهُ أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ.