المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب مناقب عمر رضي الله عنه] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[بَابُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[بَابُ صِفَةِ النَّارِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[بَابُ خَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌[بَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[كِتَابِ الْفَضَائِلِ] [

- ‌بَابُ فَضَائِلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ]

- ‌[بَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتِهِ]

- ‌[بَابٌ فِي أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[بَابُ الْمَبْعَثِ وَبَدْءِ الْوَحْيِ]

- ‌[بَابُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْمِعْرَاجِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْمُعْجِزَاتِ]

- ‌[بَابُ الْكَرَامَاتِ]

- ‌[بَابٌ هِجْرَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَفَاتُهُ]

- ‌[بَابٌ]

- ‌[كِتَابُ الْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ] [

- ‌بَابُ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ وَذِكْرِ الْقَبَائِلِ]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عُثْمَانَ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ الْعَشَرَةِ رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن]

- ‌[بَابُ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ]

- ‌[تَسْمِيَةُ مَنْ سُمِّيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَذِكْرِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ]

- ‌[بَابُ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ]

الفصل: ‌[باب مناقب عمر رضي الله عنه]

فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ جَبَّارًا مُتَسَلِّطًا مُتَعَدِّيًا عَنِ الْحَدِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَضُرُّهُ أَبَدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا أَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ الْمُدَّعِي مِنَ الْمُؤَدِّي (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ وَهُوَ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (قَدِ انْقَطَعَ الْوَحْيُ) أَيْ: فَلَا نَصِلُ إِلَى التَّيْقِينِ، فَلَابُدَّ لَنَا مِنْ الِاجْتِهَادِ الْمُبِينِ (وَتَمَّ الدِّينُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَتَمَّ الدِّينُ أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3](أَيَنْقُصُ) أَيِ: الدِّينُ وَهُوَ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَازِمٌ أَوْ مُتَعَدٍّ (وَأَنَا حَيٌّ) . جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ عَلَى طِبْقِ قَوْلِهِمْ جَاءَ زَيْدٌ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

وَفِي (الرِّيَاضِ)، ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ هَذَا اللَّفْظُ، وَمَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَنَقَلَ الْحَلَبِيُّ فِي حَاشِيَةِ الشِّفَاءِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ بِعَيْنِ الرِّضَا مِنَ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُرَادِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَزَلْ مُؤْمِنًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَرْضِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ بِحَالِهِ غَيْرَ مَغْضُوبٍ فِيهَا عَلَيْهِ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ وَيَصِيرُ مِنْ خُلَاصَةِ الْأَبْرَارِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَاسْتَوَى الصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي قَالَهَا الْأَشْعَرِيُّ فِي حَقِّ الصِّدِّيقِ لَمْ تُحْفَظْ عَنْهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِي حَالِ كُفْرٍ بِاللَّهِ اه. وَهُوَ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ مَشَايِخِنَا وَمِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَنَقَلَ ابْنُ ظُفَرَ بَلْ فِي أَنْبَاءِ نُجَبَاءِ الْأَنْبَاءِ، أَنَّ الْقَاضِي أَبَا الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الزَّبِيدِيَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى:(مَعَالِي الْعَرْشِ إِلَى عَوَالِي الْفَرْشِ) أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَعَيْشُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي لَمْ أَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ، وَقَدْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، وَأَنَّ أَبَا قُحَافَةَ أَخَذَ بِيَدِي وَانْطَلَقَ بِي إِلَى مَخْدَعٍ فِيهِ الْأَصْنَامُ فَقَالَ: هَذِهِ آلِهَتُكَ الشُّمُّ الْعُلَى، فَاسْجُدْ لَهَا وَخَلَّانِي وَمَضَى، فَدَنَوْتُ مِنَ الصَّنَمِ فَقُلْتُ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي فَلَمْ يُجِبْنِي، فَقُلْتُ: إِنِّي عَارٍ فَاكْسُنِي فَلَمْ يُجِبْنِي، فَأَخَذْتُ صَخْرَةً فَقُلْتُ: إِنِّي مُلْقٍ عَلَيْكَ هَذِهِ الصَّخْرَةَ فَإِنْ كُنْتَ إِلَهًا فَامْنَعْ نَفْسَكَ فَلَمْ يُجِبْنِي، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ الصَّخْرَةَ فَخَرَّ لِوَجْهِهِ وَأَقْبَلَ أَبِي فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بُنَيَّ فَقُلْتُ: هُوَ الَّذِي تَرَى، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى أُمِّي فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: دَعْهُ فَهُوَ الَّذِي نَاجَانِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَقُلْتُ: يَا أُمَّهُ! مَا الَّذِي نَاجَاكِ بِهِ؟ قَالَتْ: لَيْلَةَ أَصَابَنِي الْمَخَاضُ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي أَحَدٌ، فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَقُولُ: يَا أَمَةَ اللَّهِ عَلَى التَّحْقِيقِ أَبْشِرِي بِالْوَلَدِ الْعَتِيقِ، اسْمُهُ فِي السَّمَاءِ الصِّدِّيقُ لِمُحَمَّدٍ صَاحِبٌ وَرَفِيقٌ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمَّا انْقَضَى كَلَامُ أَبِي بَكْرٍ نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام وَقَالَ: صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ اه. وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْكُفْرِ لَمَا صَدَقَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ مَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:( «لَوِ اتَّخَذْتُ أَحَدًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» ) هُوَ أَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ مَا سَبَقَ مُشَابِهًا لِمَا وَقَعَ مِنَ الْخَلِيلِ فِي ضَرْبِ الصَّنَمِ وَمُخَالَفَةِ الْأَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 3892

[بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ رضي الله عنه]

[4]

بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ رضي الله عنه الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

6035 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

[4]

بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ رضي الله عنه الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

6035 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ) : بَيَانٌ لِمَا بِمَعْنَى (مِنْ) أَيْ فِي الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكُمْ (مُحَدَّثُونَ) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: نَاسٌ مُلْهَمُونَ كَمَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ وَهْبٍ. (فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ) أَيْ: وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا (فَإِنَّهُ عُمَرُ) . أَيْ وَإِنْ يَكُ أَكْثَرُ فَهُوَ حِينَئِذٍ أَوْلَى وَأَظْهَرُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمُحَدَّثُ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الرَّجُلُ الصَّادِقُ الظَّنِّ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ.

ص: 3892

شَيْءٌ مِنْ قِبَلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَيَكُونُ كَالَّذِي حَدَّثَ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَهُوَ عُمَرُ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْقَوْلَ مَوْرِدَ التَّرَدُّدِ، فَإِنَّ أُمَّتَهُ أَفْضَلُ الْأُمَمِ وَإِنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونُوا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرَ عَدَدًا وَأَعْلَى رُتْبَةً، وَإِنَّمَا وَرَدَ مَوْرِدَ التَّأْكِيدِ وَالْقَطْعِ بِهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي الْفَهْمِ مَحَلُّهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: إِنْ يَكُنْ لِي صَدِيقٌ فَإِنَّهُ فُلَانٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ اخْتِصَاصَهُ بِالْكَمَالِ فِي صَدَاقَتِهِ لَا نَفْيَ الْأَصْدِقَاءِ اه. وَتَوْضِيحُهُ أَنَّكَ لَا تُرِيدُ بِذَلِكَ الشَّكَّ فِي صَدَاقَتِهِ وَالتَّرَدُّدَ فِي أَنَّهُ هَلْ لَكَ صَدِيقٌ بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَنَّ الصَّدَاقَةَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ لَا تَتَخَطَّاهُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهِمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ نَبِيٌّ وَكُتُبُهُمْ طَرَأَ عَلَيْهَا التَّبْدِيلُ، وَاحْتُمِلَ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا تَحْتَاجُ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَى ذَلِكَ لِاسْتِغْنَائِهَا بِالْقُرْآنِ الْمَأْمُونِ تَبْدِيلُهُ وَتَحْرِيفُهُ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الشَّرْطُ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْأَجِيرِ: إِنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ فَوَفِّنِي حَقِّي وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُخَيَّلُ فِي كَلَامِهِ أَنَّ تَفْرِيطَكَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْحَقِّ فِعْلُ مَنْ لَهُ شَكٌّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ مَعَ وُضُوحِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحَدَّثِ الْمُلْهَمِ الْمُبَالَغِ فِيهِ الَّذِي انْتَهَى إِلَى دَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْإِلْهَامِ، فَالْمَعْنَى لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ أَنْبِيَاءُ يُلْهَمُونَ مِنْ قِبَلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَإِنَّ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ عُمَرُ جَعَلَهُ لِانْقِطَاعِ قَرِينِهِ وَتَفَوُّقِهِ عَلَى أَقْرَانِهِ فِي هَذَا، كَأَنَّهُ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ نَبِيٌّ أَمْ لَا. فَاسْتَعْمَلَ (إِنْ) وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي: لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَوْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، بِمَنْزِلَةِ إِنْ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، كَمَا فِي قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخِفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ.

وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ مُسْتَدْرِكًا عَلَى مُسْلِمٍ فِي كَوْنِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي (الْمَنَاقِبِ) أَيْضًا. قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ عَنْهُ الْجَوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ثُمَّ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ: ( «قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عَائِشَةَ، فَفِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مُسَامَحَةٌ لَا تَخْفَى، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِيرَكُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَهُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ذَكَرَهُ فِي الرِّيَاضِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَرَّجَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَهُوَ عُمَرُ» ) وَمَعْنَى مُحَدَّثُونَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مُلْهَمُونَ الصَّوَابَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِأَنْ تُحَدِّثَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَا بِوَحْيٍ، بَلْ بِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ حَدِيثٍ وَتِلْكَ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ.

ص: 3893

6036 -

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: «اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ قُمْنَ فَبَادَرْنَ الْحِجَابَ، فَدَخَلَ عُمَرُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ، فَقَالَ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ) قَالَ عُمَرُ؟ يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ! أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ؟ أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: زَادَ الْبَرْقَانِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَضْحَكَكَ.

ــ

6036 -

(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ) ، أَيْ جَمَاعَةٌ مِنَ النِّسَاءِ (مِنْ قُرَيْشٍ)، قَالَ الْقَسْطَلَانِيُّ: هُنَّ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَغَيْرُهُنَّ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَيْ: نِسْوَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُنَّ مَعَهُنَّ غَيْرُهُنَّ لَكِنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ: (يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ) ، تُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ أَيْ يَسْتَكْثِرْنَهُ فِي الْكَلَامِ، وَلَا يُرَاعِينَ مَقَامَ الِاحْتِشَامِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ، أَيْ: يَطْلُبْنَ مِنْهُ النَّفَقَاتِ الْكَثِيرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ (عَالِيَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: أَوْ بِالرَّفْعِ عَلَى الْوَصْفِ اه. وَفِي رِوَايَةٍ: رَافِعَاتٍ (أَصْوَاتُهُنَّ)، بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عُلُوَّ أَصْوَاتِهِنَّ إِنَّمَا كَانَ لِاجْتِمَاعِهِنَّ فِي الصَّوْتِ، لَا أَنَّ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ أَعْلَى مِنْ صَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم. أَقُولُ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَفْعَ أَصْوَاتِهِنَّ كَانَ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُرَدَّ الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] الْآيَةَ. بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِنَّ مِنَ الْخَفْضِ وَرَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ فِي كَلَامِهِنَّ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم اعْتِمَادًا عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم. (فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ) :

ص: 3893

وَالْحَالُ أَنَّهُ مِنَ الْأَجَانِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكْثَرِهِنَّ، لَاسِيَّمَا وَهُوَ غَيُورٌ غَضُوبٌ غَالِبٌ عَلَيْهِ الصِّفَةُ الْجَلَالِيَّةُ (قُمْنَ) أَيْ: مِنْ مَكَانِهِنَّ (فَبَادَرْنَ بِالْحِجَابِ) ، أَيْ سَارَعْنَ إِلَى حِجَابِهِنَّ عَلَى مُقْتَضَى آدَابِهِنَّ (فَدَخَلَ عُمَرُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ)، أَيْ يَتَبَسَّمُ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ عُمَرَ مَعَ غَلَبَةِ قَهْرِهِ وَشِدَّةِ سَطْوَتِهِ كَانَ مُظْهِرًا لِبَسْطِهِ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيْ أَدَامَ اللَّهُ فَرَجَكَ الْمُوجِبَ لِبُرُوزِ سِنِّكَ وَظُهُورِ نُورِكَ، لَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَظُهُورِ أَمْرٍ عَجِيبٍ، فَأَطْلِعْنِي عَلَيْهِ وَشَرِّفْنِي بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي)، أَيْ فِي حَالَةٍ غَرِيبَةٍ وَمَقَالَةٍ عَجِيبَةٍ (فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ) أَيْ: بِالْإِذْنِ (ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ) . أَيْ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانِهِنَّ وَإِخْفَاءِ حَالِهِنَّ وَشَأْنِهِنَّ خَوْفًا مِنْكَ وَهَيْبَةً لَكَ (قَالَ عُمَرُ) أَيْ: خِطَابًا لَهُنَّ (يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ! أَتَهَبْنَنِي) : بِفَتْحِ الْهَاءِ، يُقَالُ: هِبْتُ الرَّجُلَ بِكَسْرِ الْهَاءِ إِذَا وَقَّرْتُهُ وَعَظَّمْتُهُ مِنَ الْهَيْبَةِ أَيْ أَتُوَقِّرْنَنِي (وَلَا تَهَبْنَ) أَيْ: وَلَا تُعَظِّمْنَ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ)، هَذَا غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى مَجْمُوعِ قَوْلِ عُمَرَ بَلْ إِلَى قَوْلِهِ: أَتُوَقِّرْنَنِي فَقَطْ، وَإِلَّا فَيَشْكُلُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَلَا يَعْبُدُ أَنْ يَكُونَ نَعَمْ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا وَمُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِهِ:(أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ)، أَيْ أَنْتَ كَثِيرُ الْفَظِّ أَيْ سَيِّءُ الْكَلَامِ وَكَثِيرُ الْغِلَظِ أَيْ: شَدِيدُ الْقَلْبِ بِخِلَافِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ حَسَنُ الْخُلُقِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَقَالَ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا:(خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يُرِدْنَ بِذَلِكَ إِثْبَاتَ مَزِيدِ الْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ لَعُمَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا مُوَاسِيًا رَقِيقَ الْقَلْبِ فِي الْغَايَةِ، بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي فَظَاظَةِ عُمَرَ وَغِلَظِهِ مُطْلَقًا اه.

وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ فِيكَ زِيَادَةَ فَظَاظَةٍ وَغِلْظَةٍ بِالْقِيَاسِ إِلَى غَيْرِكَ لَا بِالْقِيَاسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ رَفِيقًا حَلِيمًا جِدًّا، لَكِنْ يُشْكِلُ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي بَابِ التَّبَسُّمِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ فَقُلْنَ: إِنَّكَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنْ يُجْعَلَ مِنْ بَابِ الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ، وَالشِّتَاءُ أَبْرَدُ مِنَ الصَّيْفِ، فَيَرْجِعُ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي حَالِهِ عَلَى أَعْلَى مَرْتَبَةِ كَمَالِهِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(إِيهٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالْهَاءِ مُنَوَّنًا وَقَدْ يُتْرَكُ تَنْوِينُهُ أَيْ حَدِّثْ حَدِيثًا وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى جَوَابِهِنَّ (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ) وَفِي رِوَايَةٍ يَا «عُمَرُ» وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فِعْلٍ يُطْلَبُ بِهِ الزِّيَادَةُ أَيِ اسْتَزِدْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصَلُّبِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ( «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا» ) أَيْ: ذَاهِبًا طَرِيقًا وَاسِعًا (قَطُّ إِلَّا سَلَكَ غَيْرَ فَجِّكَ) . فَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِعُمَرَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِصْمَةِ إِذْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَتِهِ الْمُوجِبَةِ لِغَفْلَتِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِيهٍ اسْمٌ سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِذَا اسْتَزَدْتَهُ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ عَمَلٍ. إِيهٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ، فَإِنْ وَصَّلْتَ نَوَّنْتَ، وَقُلْتَ: إِيهٍ حَدِيثًا، وَإِذَا أَسْكَتَّهُ وَكَفَفْتَهُ. قُلْتَ: إِيهًا عَنَّا وَمِنْ حَقِّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ إِيهًا أَيْ كُفَّ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ مَجْرُورًا مُنَوَّنًا وَالصَّوَابُ إِيهًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي (جَامِعِهِ)، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي رِوَايَتِهِ ذِكْرٌ. أَقُولُ: إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَطَابَقَتِ الدِّرَايَةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَصْحِيحِ مَعْنَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْطِئَةِ فِي مَبْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتُوَقِّرْنَنِي وَلَا تُوَقِّرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) : هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ هِبْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَقَّرْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ، يُقَالُ: هَبِ النَّاسَ يَهَابُوكَ أَيْ وَقِّرْهُمْ يُوَقِّرُوكَ اه. كَلَامُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَوْقِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ تَجِبُ الِاسْتِزَادَةُ مِنْهُ، فَكَأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(إِيهٍ) اسْتِزَادَةٌ مِنْهُ فِي طَلَبِ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِ جَانِبِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ:(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) إِلَخْ. فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِرْضَاءٍ لَيْسَ بَعْدَهُ اسْتِرْضَاءٌ إِحْمَادًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لِفِعَالِهِ كُلِّهَا، لَا سِيَّمَا هَذِهِ الْفِعْلَةِ.

ص: 3894

قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ فِي قَوْلِهِ: مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا، تَنْبِيهٌ عَلَى صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ وَاسْتِمْرَارِ حَالِهِ عَلَى الْجِدِّ الصِّرْفِ، وَالْحَقِّ الْمَحْضِ، حَتَّى كَانَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَالسَّيْفِ الصَّارِمِ وَالْحُسَامِ الْقَاطِعِ، إِنْ أَمْضَاهُ مَضَى، وَإِنْ كَفَّهُ كَفَّ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الشَّيْطَانِ سُلْطَانٌ إِلَّا مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ هُوَ كَالْوَازِعِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، فَلِهَذَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَنْحَرِفُ عَنِ الْفَجِّ الَّذِي سَلَكَهُ. وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً مُهْدَاةً إِلَى الْعَالَمِينَ، مَأْمُورًا بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُذْنِبِينَ، مَعْنِيًّا بِالصَّفْحِ عَنِ الْجَاهِلِينَ لَمْ يَكُنْ لِيُوَاجِهَهُمْ فِيمَا لَا يُحْمَدُ مِنْ فِعْلٍ مَكْرُوهٍ أَوْ سُوءِ أَدَبٍ بِالْفَظَاظَةِ وَالْغَلَاظَةِ وَالزَّجْرِ الْبَلِيغِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الصَّفْحُ وَالْعَفْوُ مَعَ تِلْكَ الْخِلَالِ. فَلِهَذَا تَسَامَحَ هُوَ فِيهَا وَاسْتَحْسَنَ إِشْعَارَهُنَّ الْهَيْبَةَ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه.

قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ مَتَى رَآهُ سَالِكًا فَجًّا هَرَبَ لِرَهْبَتِهِ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَفَارَقَ ذَلِكَ الْفَجَّ لِشِدَّةِ بِأْسِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ضَرَبَ مَثَلًا بِالشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ وَأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه فَارَقَ سَبِيلَ الشَّيْطَانِ، وَسَلَكَ طَرِيقَ السَّدَادِ، وَخَالَفَ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَلَفْظُهُمَا: فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَ عُمَرَ انْقَمَعْنَ وَسَكَنَّ أَيْ: ذَلَلْنَ وَارْتَدَعْنَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، الْحَدِيثَ. مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَوَابِهِنَّ. (وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ (زَادَ الْبَرْقَانِيُّ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تُكْسَرُ مَنْسُوبٌ إِلَى بَرْقَانَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى خُوَارِزْمَ (بَعْدَ قَوْلِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَضْحَكَكَ) . اهـ. فَكَأَنَّهُ حَذَفَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ نِسْيَانًا أَوِ اخْتِصَارًا لِظُهُورِهِ، أَوْ هَذَا مِنْ زِيَادَةِ بَعْضِ الثِّقَاتِ أَوْ مِنْ إِدْرَاجِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ كَمَا أَشَرْنَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ.

ص: 3895

6037 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ( «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَمِعْتُ خَشَفَةً، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا بِلَالٌ. وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ) فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعَلَيْكَ أَغَارُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6037 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ) أَيْ: لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، أَوْ فِي عَالَمِ الْكَشْفِ، أَوْ حَالَةَ الرُّؤْيَا (فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ) : بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ تَصْغِيرُ رَمْصَاءَ، وَهِيَ امْرَأَةٌ فِي عَيْنِهَا رَمَصٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ مَا جَمُدَ مِنَ الْوَسَخِ فِي الْمُوقِ وَهُوَ هُنَا اسْمُ أُمِّ أَنَسٍ أَوْ لَقَبُهَا (امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ)، بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَجُوِّزَ رَفْعُهَا وَكَذَا نَصْبُهَا (وَسَمِعْتُ خَشَفَةً) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَالْفَاءِ أَيْ حَرَكَةً وَزْنًا وَمَعْنًى، وَفِي نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ أَيْ صَوْتًا، فَفِي الْمَشَارِقِ الْخَشْفَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ هُوَ الصَّوْتُ لَيْسَ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الصَّوْتُ الْوَاحِدُ وَبِتَحْرِيكِ الشِّينِ الْحَرَكَةُ، وَفِي (النِّهَايَةِ) الْخَشَفَةُ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ الْحَرَكَةُ اهـ. وَالْمُرَادُ هُنَا صَوْتُ النَّعْلِ النَّاشِئِ مِنْ حَرَكَةِ الْمَاشِي (فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا) ؟ أَيِ الْمُتَحَرِّكُ أَوْ صَاحِبُ الْحَرَكَةِ (قَالَ) أَيْ: قَائِلٌ مِنْ جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ (هَذَا بِلَالٌ، وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَالْمَدِّ أَيْ: مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهِ (جَارِيَةٌ)، أَيْ مَمْلُوكَةٌ أَوْ حَوْرَاءُ (فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا) ؟ أَيِ الْقَصْرُ وَمَا فِيهِ وَفِي حَوَالَيْهِ (فَقَالُوا) : وَفِي نُسْخَةٍ: قَالُوا أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ سُكَّانِ الْقَصْرِ (لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ) أَيِ: الْقَصْرَ (فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ) أَيْ: نَظَرًا مُفَصَّلًا أَوْ إِلَى بَاطِنِهِ كَمَا رَأَيْتُ ظَاهِرَهُ (فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ) . أَيْ شِدَّتَهَا وَحِدَّتَهَا وَفِي الْقَامُوسِ يُقَالُ: غَارَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهِيَ عَلَيْهِ تَغَارُ غَيْرَةً بِالْفَتْحِ (قَالَ عُمَرُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَأَنْتَ مُبْتَدَأٌ، وَبِأَبِي خَبَرُهُ أَيْ: أَنْتَ مُفَدًّى بِأَبِي وَأُمِّي كَذَلِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِأَبِي وَأُمِّي أَيْ أَنْتَ مُفَدًّى بِهِمَا، وَالْمَعْنَى جَعَلَهُمَا اللَّهُ فِدَاءَكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعَلَيْكَ) أَيْ: عَلَى فِعْلِكَ أَوْ دُخُولِكَ (أَغَارُ) ؟ مُتَكَلِّمٌ مِنَ الْغَيْرَةِ، وَقِيلَ فِي الْكَلَامِ قَلْبٌ، وَالْأَصْلُ أَعَلَيْهَا أَغَارُ مِنْكَ؟ وَزَادَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَهَلْ رَفَعَنِي اللَّهُ إِلَّا بِكَ، وَهَلْ هَدَانِي اللَّهُ إِلَّا بِكَ؟ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ، وَأَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ بُرَيْدَةَ وَعَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا:( «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِشَابٍّ مِنْ قُرَيْشٍ، فَظَنَنْتُ أَنِّي أَنَا هُوَ. قُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالُوا: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَوْلَا مَا عَلِمْتُ مِنْ غَيْرَتِكَ لَدَخَلْتُ» ) . وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ( «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشَفَةً بَيْنَ يَدَيَّ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الْخَشَفَةُ؟ فَقِيلَ: الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ» ) . وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّيَالِسِيُّ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ:( «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشَفَةً فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالُوا: هَذَا بِلَالٌ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشَفَةً فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ؟ قَالُوا: هَذِهِ الْغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ» ) .

ص: 3895

قَالَ فِي (الرِّيَاضِ) : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « (أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ قَصْرًا مَنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَدْخُلَهُ إِلَّا عِلْمِي بِغَيْرَتِكَ) . قَالَ: عَلَيْكَ أَغَارُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي عَلَيْكَ أَغَارُ!» أَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» ) . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ. قُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَةَ عُمَرَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَرُ وَنَحْنُ جَمِيعٌ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعَلَيْكَ أَغَارُ؟» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ؟ «لَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِلَالًا فَقَالَ: (يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ إِلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، دَخَلْتُ الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، فَأَتَيْتُ عَلَى قَصْرٍ مُرَبَّعٍ مُشْرِفٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ. قُلْتُ: أَنَا عَرَبِيٌّ. لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: أَنَا قُرَيْشِيٌّ. لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) . قَالَ: (أَنَا مُحَمَّدٌ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِبِلَالٍ) . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إِلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ أَنَّ لِلَّهَ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: (بِهِمَا) » .

ص: 3896

6038 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ) . قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الدِّينَ) » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6038 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ)، بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ قَمِيصٍ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْقُمُصِ (مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ) ، بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ جَمَعُ الثَّدْيِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ وَالتَّخْفِيفِ، فَهُوَ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ (وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ) ، أَيْ قُمُصٌ أَقْصَرُ مِنْهُ أَوْ أَطْوَلُ مِنْهُ، أَوْ أَعَمُّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ دُونَ ذَلِكَ بِمَعْنَى: غَيْرُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] . وَفِي (فَتْحِ الْبَارِي) : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ دُونَهُ مِنْ جِهَةِ السُّفْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَيَكُونُ أَطْوَلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ دُونَهُ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ فَيَكُونُ أَقْصَرَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي رِوَايَةِ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَمِيصُهُ إِلَى سُرَّتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَمِيصُهُ إِلَى رُكْبَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَمِيصُهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ. قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ الرِّيَاضِ: وَمِنْهَا مَا هُوَ أَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ (وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ (وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ) أَيْ: عَظِيمٌ (يَجُرُّهُ) . أَيْ يَسْحَبُهُ فِي الْأَرْضِ لِطُولِهِ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنَ الْحَاضِرِينَ (فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ؟ أَيْ فَمَا عَبَّرْتَ جَرَّ الْقَمِيصِ لِعُمَرَ (قَالَ: الدِّينَ) . بِالنَّصْبِ أَيْ أَوَّلْتُهُ الدِّينَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيِ الْمُؤَوَّلُ بِهِ هُوَ الدِّينُ، وَالْمَعْنَى يُقَامُ الدِّينُ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ مَعَ طُولِ زَمَانِ إِمَارَتِهِ، وَبَقَاءِ أَثَرِ فُتُوحَاتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ، أَوْ لِأَنَّ الدِّينَ يُشِيدُ الْإِنْسَانَ وَيَحْفَظُهُ وَيَقِيهِ الْمُخَالَفَاتِ كَوِقَايَةِ الثَّوْبِ وَشُمُولِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقَمِيصُ الدِّينُ، وَجَرُّهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ آثَارِهِ الْجَمِيلَةِ وَسُنَّتِهِ الْحَسَنَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ اللَّبَنِ بِالْعِلْمِ فَلِكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا، وَفِي أَنَّهُمَا سَبَبَا الصَّلَاحِ، فَاللَّبَنُ غِذَاءُ الْإِنْسَانِ وَسَبَبُ صَلَاحِهِمْ وَقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ، وَالْعِلْمُ سَبَبُ الصَّلَاحِ وَغِذَاءٌ لِلْأَرْوَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ.

ص: 3896

6039 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الْعِلْمَ) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6039 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ» ) : وَفِي رِوَايَةٍ: إِذْ رَأَيْتُ قَدَحًا أُتِيتُ بِهِ فِيهِ لَبَنٌ (فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَقَدْ يُفْتَحُ (لَأَرَى الرِّيَّ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ أَثَرَ اللَّبَنِ مِنَ الْمَاءِ (يَخْرُجُ) أَيْ: يَظْهَرُ وَفِي رِوَايَةٍ يَجْرِي (فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي) أَيْ: سُؤْرِي الْكَثِيرَ الْخَالِصَ (عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) . فَلَا يُنَافِي أَنَّ سُؤْرَهُ حَصَلَ لِلصِّدِّيقِ أَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ قَلِيلًا جِدًّا، وَلَا أَنَّ سُؤْرَهُ لِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَيْضًا وَصَلَ فَإِنَّهُ لَهُمَا لَمْ يَكُنْ صَافِيًا (قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ) ؟ أَيِ اللَّبَنَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الْعِلْمَ) . بِالنَّصْبِ وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُوَ عِلْمُ الدِّينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 3896

قَالَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَعَالَمِ الْأَرْوَاحِ عَالَمٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ عَالَمُ الْمِثَالِ، وَهُوَ عَالَمٌ نُورَانِيٌّ شَبِيهٌ بِالْجُسْمَانِيِّ، وَالنَّوْمُ سَبَبٌ لِسَيْرِ الرُّوحِ الْمُنَوَّرِ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ، وَرُؤْيَةِ مَا فِيهِ مِنَ الصُّوَرِ غَيْرِ الْجَسَدَانِيَّةِ، وَالْعِلْمُ مُصَوَّرٌ بِصُوَرِ اللَّبَنِ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ اللَّبَنَ أَوَّلُ غِذَاءِ الْبَدَنِ وَسَبَبُ صَلَاحِهِ، وَالْعِلْمَ أَوَّلُ غِذَاءِ الرُّوحِ وَسَبَبُ صَلَاحِهِ. وَقِيلَ: التَّجَلِّي الْعِلْمِيُّ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي أَرْبَعِ صُوَرٍ: الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ، تَنَاوَلَتْهَا آيَةٌ فِيهَا ذُكِرَتْ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، فَمَنْ شَرِبَ الْمَاءَ يُعْطَى الْعِلْمَ اللَّدُنِّيَّ، وَمَنْ شَرِبَ اللَّبَنَ يُعْطَى الْعِلْمَ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ يُعْطَى الْعِلْمَ بِالْكَمَالِ، وَمَنْ شَرِبَ الْعَسَلَ يُعْطَى الْعِلْمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ الْأَنْهَارَ الْأَرْبَعَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ، وَيُطَابِقُهُ تَخْصِيصُ اللَّبَنِ بِعُمَرَ رضي الله عنه فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الرِّيُّ فِي الْعِلْمِ ; فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِوُجُودِهِ لِأَنَّ الِاسْتِعْدَادَ مُتَنَاهٍ وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا لَمْ يُقْبَلْ فَيَحْصُلُ الرِّيُّ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مَعَهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِعَدَمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] فَالْأَمْرُ بِطَلَبِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ بِلَا ذِكْرِ النِّهَايَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي، وَلِذَا قِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي زِيَادَةٍ فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ، وَإِنَّ التَّوَقُّفَ لَيْسَ فِي طَوْرِ الْإِنْسَانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ:( «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ الْعِلْمِ وَطَالَبُ الدُّنْيَا» ) . وَمِنْهُ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السَّامِيَ أَنَّهُ قَالَ:

شَرِبْتُ الْحُبَّ كَأْسًا بَعْدَ كَأْسٍ

فَمَا نَفِدَ الشَّرَابُ وَلَا رَوِيتُ.

وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا حَصَلَ بِقَدْرِ الِاسْتِعْدَادِ الْقَابِلِ أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتِعْدَادًا لِعِلْمٍ آخَرَ فَيَحْصُلُ لَهُ عَطَشٌ آخَرُ، وَعَنْ هَذَا قِيلَ: طَالِبُ الْعِلْمِ كَشَارِبِ الْبَحْرِ، كَمَا كُلَّمَا ازْدَادَ شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا. وَعَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبِدَايَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النِّهَايَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَلِهَذَا بَلَغَ عِلْمُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ جُمِعَ عِلْمُ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ، وَوُضِعَ عِلْمُ عُمَرَ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ، وَلَقَدْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ ذَهَبَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ.

ص: 3897

6040 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ؟ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ، ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ» ) .

ــ

6040 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ» ) أَيْ: بِئْرٍ لَمْ تُطْوَ وَضِدُّهَا الْمَطْوِيَّةُ بِالْحِجَارَةِ وَالْآجُرِّ (عَلَيْهَا) أَيْ: فَوْقَهَا (دَلْوٌ) أَيْ: وَدَلْوٌ مُعَلَّقَةٌ عَلَيْهَا (فَنَزَعْتُ) أَيْ: جَذَبْتُ مِمَّا فِيهَا (مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ)، أَيْ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ (ثُمَّ أَخَذَهَا) أَيِ: الدَّلْوَ (ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ) : بِضَمِّ الْقَافِ (فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا) : بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الدَّلْوُ وَفِيهَا مَاءٌ، أَوِ الْمَلْأَى أَوْ دُونَ الْمَلْأَى كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (أَوْ ذَنُوبَيْنِ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ ذَنُوبَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (أَوْ) بِمَعْنَى (بَلْ) فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَخْطِئَةِ الرَّاوِي وَلَا إِلَى شَكِّهِ وَتَرَدُّدِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِكْرِهِمَا إِشَارَةً إِلَى قِلَّتِهِ مَعَ عَدَمِ النَّظَرِ عَنْ تَحَقُّقِ عَدَدِهِ. (وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ)، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ دُعَائِيَّةٌ وَقَعَتِ اعْتِرَاضِيَّةً مُبَيِّنَةً أَنَّ الضَّعْفَ الَّذِي وُجِدَ فِي نَزْعِهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ تَغَيُّرُ الزَّمَانِ وَقِلَّةُ الْأَعْوَانِ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَيْهِ بِنَقِيضِهِ (ثُمَّ اسْتَحَالَتْ) أَيِ: انْقَلَبَتِ الدَّلْوُ الَّتِي كَانَتْ ذَنُوبًا (غَرْبًا) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ دَلْوًا عَظِيمَةً عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَزَادَ ابْنُ الْمَلَكِ: الَّتِي تُتَّخَذُ مِنْ جِلْدِ ثَوْرٍ، (فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ رَجُلًا قَوِيًّا (مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ) : بِكَسْرِ الزَّايِ (نَزْعَ عُمَرَ) أَيْ: جَبْذَهُ وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ)، بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ حَتَّى أَرْوَوْا إِبِلَهُمْ فَأَبْرَكُوهَا وَضَرَبُوا لَهَا عَطَنًا وَهُوَ مَبْرَكُ الْإِبِلِ حَوْلَ الْمَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّ الْقَلِيبَ إِشَارَةٌ إِلَى الدِّينِ الَّذِي هُوَ مَنْبَعُ مَا بِهِ تَحْيَا النُّفُوسُ وَيَتِمُّ أَمْرُ الْمَعَاشِ، وَنَزْعُ الْمَاءِ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَنْتَهِي مِنَ الرَّسُولِ عليه السلام إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَمِنْهُ إِلَى عُمَرَ، وَنَزْعُ أَبِي بَكْرٍ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَرِ مُدَّةِ خِلَافَتِهِ، وَأَنَّ

ص: 3897

الْأَمْرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِيَدِهِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى عُمَرَ، وَكَانَ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَضَعْفُهُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ فِي أَيَّامِهِ مِنَ الْإِضْرَابِ وَالِارْتِدَادِ وَاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ، أَوْ إِلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ لِينِ الْجَانِبِ وَقِلَّةِ السِّيَاسَةِ وَالْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ضَعْفَهُ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ ذَكَرَهُ صلى الله عليه وسلم لِيُعْلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مَوْضُوعٌ وَمَغْفُورٌ عَنْهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي مَنْصِبِهِ، وَمَصِيرُ الدَّلْوِ فِي نَوْبَةِ عُمَرَ غَرْبًا، وَهُوَ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَسْتَقِي بِهِ الْبَعِيرُ إِشَارَةً إِلَى مَا كَانَ فِي أَيَّامِهِ مِنْ تَعْظِيمِ الدِّينِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَتَوَسُّعِ خِطَطِهِ وَقُوَّتِهِ، وَجِدُّهُ فِي النَّزْعِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا اجْتَهَدَ فِي إِعْلَاءِ أَمْرِ الدِّينِ، وَإِفْشَائِهِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا اجْتِهَادًا بِمَا لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَالْعَبْقَرِيُّ: الْقَوِيُّ، وَقِيلَ: الْعَبْقَرُ اسْمُ وَادٍ يَزْعُمُ الْعَرَبُ أَنَّ الْجِنَّ تَسْكُنُهُ فَنَسَبُوا إِلَيْهِ كُلَّ مَنْ تَعَجَّبُوا مِنْهُ أَمْرًا كَقُوَّةٍ وَغَيْرِهَا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَا وَجَدُوا مِنْهُ خَارِجًا عَنْ وُسْعِ الْإِنْسَانِ، فَحَسِبُوا أَنَّهُ جِيءَ مِنَ الْعَبْقَرِ، ثُمَّ قَالُوهُ لِكُلِّ شَيْءٍ نَفِيسٍ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: فِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ لَيْسَ بِهِ حَطٌّ لِمَنْزِلَتِهِ، وَلَا إِثْبَاتُ فَضِيلَةٍ لِعُمَرَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ مُدَّةِ وِلَايَتِهِمَا، وَكَثْرَةِ انْتِفَاعِ النَّاسِ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ لِطُولِهَا وَلِاتِّسَاعِ الْإِسْلَامِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ وَحُصُولِ الْأَمْوَالِ وَالْغَنَائِمِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ، فَلَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ وَلَا إِشَارَةٌ إِلَى ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُزَيِّنُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ. وَقَدْ جَاءَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّهَا كَلِمَةٌ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَهَا افْعَلْ كَذَا وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ. وَفِي قَوْلِهِ: فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ إِشَارَةٌ إِلَى نِيَابَةِ أَبِي بَكْرٍ وَخِلَافَتِهِ بَعْدَهُ، وَرَاحَتِهِ صلى الله عليه وسلم بِوَفَاتِهِ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَمَشَاقِّهَا. وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَمَعَ أَهْلَ الرِّدَّةِ وَجَمَعَ شَمْلَ الْمُسْلِمِينَ وَابْتَدَأَ الْفُتُوحَ وَمَهَّدَ الْأُمُورَ، وَتَمَّتْ ثَمَرَاتُ ذَلِكَ وَتَكَامَلَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه.

ص: 3898

6041 -

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: (ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَحَالَتْ فِي يَدِهِ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ، حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6041 -

(وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ يَدِ أَبِي بَكْرٍ، فَاسْتَحَالَتْ فِي يَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ) أَيْ: فَلَمْ أُبْصِرْ أَوْ فَلَمْ أَعْرِفْ (عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ يَعْمَلُ عَمَلَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يُرْوَى بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَبِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ، وَأَنْكَرَ الْخَلِيلُ التَّشْدِيدَ وَمَعْنَاهُ لَمْ أَرَ شَيْئًا يَعْمَلُ عَمَلَهُ وَيَقْطَعُ قَطْعَهُ، وَأَصْلُ الْفَرْيِ بِالْإِسْكَانِ الْقَطْعُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: تَرَكْتُهُ يَفْرِي الْفَرْيَ إِذَا عَمِلَ الْعَمَلَ فَأَجَادَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . الْمَفْهُومُ مِنَ الرِّيَاضِ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى لِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ لَهُمَا، وَلِأَحْمَدَ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ:(يَفْرِي فَرْيَهُ) . (حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ وَضَرَبُوا بِعَطَنٍ) . وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: رَأَيْتُ أَنِّي أَنْزِعُ عَلَى حَوْضٍ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الدَّلْوَ مِنْ يَدِي فَنَزَعَ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، فَأَمَّا ابْنُ الْخَطَّابِ فَأَخَذَهَا حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ وَالْحَوْضُ يَتَفَجَّرُ. أَخْرَجَاهُ وَأَحْمَدُ. وَلِلْحَدِيثِ مُنَاسَبَةٌ لِبَابِ مَنَاقِبِ الشَّيْخَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ مَدْحٍ لِعُمَرَ خَصَّهُ الْمُصَنِّفُ بِبَابِ مَنَاقِبِهِ.

ص: 3898

الْفَصْلُ الثَّانِي

6042 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

6042 -

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ» )، أَيْ: أَظْهَرَهُ وَوَضَعَهُ (عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمَّنَ جَعَلَ مَعْنَى أَجْرَى فَعَدَّاهُ بِعَلَى، وَفِيهِ مَعْنَى ظُهُورِ الْحَقِّ وَاسْتِعْلَائِهِ عَلَى لِسَانِهِ، وَفِي مَوْضِعِ الْجَعْلِ مَوْضِعَ أَجْرَى إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ خُلُقًا ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: وَصَحَّحَهُ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَقَلْبِهِ، يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْحَقَّ عَلَى قَلْبِ عُمَرَ وَلِسَانِهِ أَخْرَجَهُمَا الْبَغَوِيُّ فِي (الْفَضَائِلِ) .

ص: 3898

6043 -

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ بِهِ» ) .

ــ

6043 -

(وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: « (إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ) أَيْ: عُمَرُ (بِهِ) » . أَيْ بِالْحَقِّ أَوِ التَّقْدِيرُ يَقُولُ الْحَقَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْوَضْعِ وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالُ عَيَانٍ.

ص: 3899

6044 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

ــ

6044 -

(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه)، أَيْ مَوْقُوفًا (قَالَ: مَا كُنَّا) أَيْ: أَهْلُ الْبَيْتِ أَوْ مَعْشَرُ الصَّحَابَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: وَنَحْنُ مُتَوَافِرُونَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (نُبْعِدُ) : مِنَ الْإِبْعَادِ بِمَعْنَى الِاسْتِبْعَادِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا كُنَّا نَعُدُّ بَعِيدًا (أَنَّ السَّكِينَةَ) أَيْ: مَا بِهِ تَسْكُنُ النَّفْسُ وَتَمِيلُ إِلَيْهِ وَيَطْمَئِنُّ فِي الْقَلْبِ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ (تَنْطِقُ) أَيْ: تَجْرِي (عَلَى لِسَانِ عُمَرَ) . أَيْ مِنْ قَلْبِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا رَأَيْتُ عُمَرَ قَطُّ إِلَّا وَكَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيْ: لَمْ يَكُنْ نُبْعِدُ أَنَّهُ يَنْطِقُ بِمَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تَسْكُنَ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، وَتَطْمَئِنَّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ غَيْبِيٌّ أُلْقِيَ عَلَى لِسَانِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالسَّكِينَةِ الْمَلَكَ الَّذِي يُلْهِمُهُ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَفِي النِّهَايَةِ قِيلَ: أَرَادَ بِهَا السَّكِينَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّهَا حَيَوَانٌ لَهُ وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ مُجْتَمِعٌ، وَسَائِرُهَا خَلْقٌ رَقِيقٌ كَالرِّيحِ وَالْهَوَاءِ، وَقِيلَ: هِيَ صُورَةٌ كَالْهِرَّةِ كَانَتْ مَعَهُمْ فِي جُيُوشِهِمْ، فَإِذَا ظَهَرَتِ انْهَزَمَ أَعْدَاؤُهُمْ، وَقِيلَ: هِيَ مَا كَانُوا يَسْكُنُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْطَاهَا مُوسَى عليه السلام، وَالْأَشْبَهُ بِحَدِيثِ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَلَا يَخْفَى بَعْدُ إِرَادَةُ الْقَوْلَيْنِ هُنَا. فَالْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ التُّورِبِشْتِيُّ أَوَّلًا، وَهُوَ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى مَعْنَاهُ جَمِيعُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظِ السَّكِينَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] وَقَوْلِهِ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] وَنَحْوِ ذَلِكَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

ص: 3899

6045 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « (اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) فَأَصْبَحَ عُمَرُ، فَغَدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ، ثُمَّ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ظَاهِرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

6045 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ (قَالَ: (اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ)، أَيْ: قَوِّهِ وَانْصُرْهُ (بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) ، أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ بَلْ لِلْإِضْرَابِ (فَأَصْبَحَ عُمَرُ) أَيْ: دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ بَعْدَ دُعَائِهِ عليه السلام قَبْلَهُ، (فَغَدَا) أَيْ: أَقْبَلَ غَادِيًا أَيْ ذَاهِبًا فِي أَوَّلِ نَهَارِهِ (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ إِمَّا خَبَرٌ أَيْ غَدَا مُقْبِلًا عَلَى النَّبِيِّ أَوْ ضَمَّنَ غَدَا مَعْنَى أَقْبَلَ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25] اهـ. فَعَلَى الْأَوَّلِ غَدَا مِنَ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ وَعَلَى الثَّانِي يَتَعَلَّقُ عَلَى بِغَدَا (فَأَسْلَمَ ثُمَّ صَلَّى) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: صَلَّى الْمُؤْمِنُونَ (فِي الْمَسْجِدِ ظَاهِرًا) . أَيْ عِيَانًا غَيْرَ خَفِيٍّ، أَوْ غَالِبًا غَيْرَ مُخَوَّفٍ.

رَوَى الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: مَنْ قَتَلَ مُحَمَّدًا فَلَهُ عَلَيَّ مِائَةُ نَاقَةٍ وَأَلْفُ أُوقِيَّةٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: الضَّمَانُ صَحِيحٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ، فَخَرَجَ عُمَرُ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ مُحَمَّدًا لِأَقْتُلَهُ. قَالَ: فَكَيْفَ تَأْمَنُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ؟ قَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ قَدْ صَبَوْتَ. قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا إِنَّ أُخْتَكَ وَخَتَنَكَ قَدْ صَبَوَا مَعَ مُحَمَّدٍ، فَتَوَجَّهَ عُمَرُ إِلَى مَنْزِلِ أُخْتِهِ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ سُورَةَ طه، فَوَقَفَ يَسْتَمِعُ ثُمَّ قَرَعَ الْبَابَ فَأَخْفَوْهَا فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ؟ فَأَظْهَرَتِ الْإِسْلَامَ فَبَقِيَ عُمَرُ حَزِينًا كَئِيبًا، فَبَاتُوا كَذَلِكَ

ص: 3899

إِلَى أَنْ قَامَتِ الْأُخْتُ وَزَوْجُهَا يَقْرَآنِ: {طه - مَا أَنْزَلْنَا} [طه: 1 - 2] فَلَمَّا سَمِعَ قَالَ: نَاوِلْنِي الْكِتَابَ حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ، فَلَمَّا قَرَأَهُ إِلَى قَوْلِهِ:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا أَهْلٌ أَنْ لَا يُعْبَدَ سِوَاهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَبَاتَ سَاهِرَ الْعَيْنِ يُنَادِي فِي كُلِّ سَاعَةٍ: وَاشَوْقَاهُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَصْبَحَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ فَقَالَ: يَا عُمَرُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاتَ اللَّيْلَةَ سَاهِرًا يُنَاجِي اللَّهَ عز وجل أَنْ يُعِزَّ الْإِسْلَامَ بِكَ أَوْ بِأَبِي جَهْلٍ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ قَدْ سَبَقَتْ فِيكَ، فَخَرَجَ مُقَلِّدًا سَيْفَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَنْزِلٍ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:( «يَا عُمَرُ أَسْلِمْ أَوْ لَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ بِكَ مَا أَنْزَلَ بِوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ» ) فَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُ عُمَرَ وَوَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: اللَّاتُ وَالْعُزَّى تُعْبَدُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَفِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَاللَّهُ يُعْبَدُ سِرًّا، وَاللَّهِ لَا يُعْبَدُ اللَّهُ سِرًّا بَعْدَ يَوْمِنَا هَذَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَسْلَمَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثُمَّ صَلَّى إِلَخْ وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي سَنَدِهِ أَبُو عَمْرِو بْنِ النَّضْرِ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ اهـ. وَزِيَادَةُ ثُمَّ صَلَّى إِلَخْ رَوَاهَا مُحْيِي السُّنَّةِ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) : مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا السَّنَدِ ذَكَرَهُ مَيْرَكُ. وَقَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ فِي (مُخْتَصَرِ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ) لِلسَّخَاوِيِّ: حَدِيثُ: ( «اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» ) . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي (جَامِعِهِ) وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ مَرْفُوعًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي (مُسْتَدْرَكِهِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:( «اللَّهُمَّ أَيِّدِ الدِّينَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» ) وَفِي لَفْظٍ: أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ:«اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً» . وَقَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. قُلْتُ: وَأَمَّا مَا يَدُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِأَحَدِ الْعُمَرَيْنِ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ أَصْلًا. اهـ كَلَامُهُ.

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ، حَدِيثُ:(اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ) إِلَخْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ:( «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَاصَّةً» ) . وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ النَّارَنْجِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ: اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ دِينُ الْإِسْلَامِ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِزَّ عُمَرَ بِالدِّينِ أَوْ أَبَا جَهْلٍ. أَقُولُ: لَيْسَ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ مَحْذُورٌ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] أَيْ قَوَّيْنَا الرَّسُولَيْنِ وَمَا أَتَيَا مِنَ الدِّينِ بِهِ، أَوْ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ) عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِ الْقَلْبِ فِي الْكَلَامِ كَمَا فِي: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ. وَلِذَا وَرَدَ أَيْضًا: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ» . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَطَابَقَتِ الدِّرَايَةَ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْطِئَةِ، ثُمَّ لَا شَكَّ فِي حُصُولِ إِعْزَازِ الدِّينِ بِهِ رضي الله عنه أَوَّلًا: مِنْ إِخْفَائِهِ إِلَى إِعْلَانِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] وَهُوَ كَمَالُ الْأَرْبَعِينَ إِيمَاءً إِلَى ذَلِكَ. وَآخِرًا مِنْ فُتُوحَاتِ الْبِلَادِ وَكَثْرَةِ إِيمَانِ الْعِبَادِ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ غِلْظَتِهِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] إِشْعَارًا إِلَيْهِ، بَلْ وَمَا تَمَّ أَمْرُ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ وَجِهَادِهِ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، وَمَا فُتِحَ بَابُ النِّزَاعِ وَالْمُخَالَفَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ وَبَعْدَ غَيْبَتِهِ، وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:(لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) . وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَالزُّهْرِيُّ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِإِسْلَامِ عُمَرَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ.

وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَدَوِيٌّ قُرَشِيٌّ يُكَنَّى أَبَا حَفْصٍ، أَسْلَمَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَبْلَ سَنَةِ خَمْسٍ بَعْدَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَيُقَالُ: بِهِ تَمَّتِ الْأَرْبَعُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيتَ الْفَارُوقَ؟ فَقَالَ: أَسْلَمَ حَمْزَةُ قَبْلِي بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلْإِسْلَامِ فَقُلْتُ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، فَمَا فِي الْأَرْضِ نَسَمَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَسَمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ أَيْنَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ أُخْتِي: هُوَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ عِنْدَ بَنِي الْأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا، فَأَتَيْتُ الدَّارَ فَإِذَا حَمْزَةُ فِي أَصْحَابِهِ جُلُوسٌ فِي الدَّارِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْتِ فَضَرَبْتُ الْبَابَ فَاسْتَجْمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ لَهُمْ حَمْزَةُ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثِيَابِي ثُمَّ نَثَرَنِي نَثْرَةً فَمَا مَلَكْتُ أَنْ وَقَعْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ يَا عُمَرُ) فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ

ص: 3900

مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَكَبَّرَ أَهْلُ الدَّارِ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ إِنْ مِتْنَا وَإِنْ حَيِينَا؟ قَالَ: (بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ إِنْ مِتُّمْ وَإِنْ حَيِيتُمْ) . فَقُلْتُ: فَفِيمَ الِاخْتِفَاءُ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَتَخْرُجَنَّ، فَأَخْرَجْنَاهُ صلى الله عليه وسلم فِي صَفَّيْنِ، حَمْزَةُ فِي أَحَدِهِمَا وَأَنَا فِي الْآخَرِ وَلِي كَدِيدٌ كَكَدِيدِ الطَّحِينِ، حَتَّى دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، فَنَظَرَتْ إِلَيَّ قُرَيْشٌ وَإِلَى حَمْزَةَ فَأَصَابَهُمْ كَآبَةٌ لَمْ تُصِبْهُمْ مِثْلُهَا، فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ الْفَارُوقَ، فَرَّقَ اللَّهُ بِي بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ اهـ.

وَذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ مُنَافِقًا خَاصَمَ يَهُودِيًّا، وَدَعَاهُ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَعَاهُ الْمُنَافِقُ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا احْتَكَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَكَمَ لِلْيَهُودِيِّ فَلَمْ يَرْضَ الْمُنَافِقُ وَقَالَ: نَتَحَاكَمُ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ لِعُمَرَ: قَضَى لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَكَمَ فَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ وَخَاصَمَ إِلَيْكَ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُنَافِقِ أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: مَكَانَكُمَا حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمَا، فَدَخَلَ فَأَخَذَ سَيْفَهُ ثُمَّ خَرَجَ، فَضَرَبَ بِهِ عُنُقَ الْمُنَافِقِ حَتَّى بَرَدَ وَقَالَ: هَكَذَا أَقْضِي لِمَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَنَزَلَتْ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] قِيلَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَجْتَرِئَ عُمَرُ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ» ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تِلْكَ الْآيَةَ، فَهُدِرَ دَمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَبَرِئَ عُمَرُ عَنْ قَتْلِهِ ظُلْمًا، فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: إِنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَسُمِّيَ الْفَارُوقُ وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَدَ أَيْضًا بِلَفْظِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ نَفْسِهِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّلَائِلِ) ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَمِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ السَّعْدِيِّ أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي (مُعْجَمِهِ) ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَبَّابٍ أَخْرَجَهُمَا ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، وَمِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ وَمُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ، أَخْرَجَهُمَا ابْنُ سَعْدٍ فِي (الطَّبَقَاتِ) ، وَوَرَدَ بِلَفْظِ عَائِشَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي (الْأَوْسَطِ) ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَمِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَمِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ: إِنَّهُ دَعَا بِالْأَوَّلِ أَوَّلًا، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَنْ يُسْلِمَ خَصَّ عُمَرَ بِدُعَائِهِ، فَأُجِيبَ فِيهِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ بِلَفْظِ: بِأَحَبِّ الْعُمَرَيْنِ، وَلَا أَصَلَ لَهُ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ بَعْدَ الْفَحْصِ الْبَالِغِ اهـ كَلَامُ السُّيُوطِيِّ رحمه الله.

ص: 3901

6046 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَا إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، فَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:( «مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَجُلٍ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

6046 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ ذَلِكَ) ، أَيْ إِذْ قُلْتَ ذَلِكَ الْكَلَامَ وَعَظَّمْتَنِي مِنْ بَيْنِ الْأَنَامِ فَأُجَازِيكَ بِمِثْلِ هَذَا الْمَرَامِ مِنَ التَّبْشِيرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، (فَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:( «مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَجُلٍ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ» ) . وَهُوَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى أَيَّامِ خِلَافَتِهِ، أَوْ مُقَيَّدٌ بِبَعْدِ أَبِي بَكْرٍ، أَوِ الْمُرَادُ فِي بَابِ الْعَدَالَةِ أَوْ فِي طَرِيقِ السِّيَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي السُّنَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَقَعَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ كَأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: يَا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَخْ. وَنَحْوُهُ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْكَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] اهـ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الِانْحِصَارِ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ نِعْمَةً مِنَ الْأَغْيَارِ، لَا سِيَّمَا فِي نَظَرِ الْأَبْرَارِ وَمُشَاهَدَةِ الْأَخْيَارِ كَمَا قِيلَ:

لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارَا

(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . قِيلَ؟ نُقِلَ فِي (الْمِيزَانِ) عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَضْعِيفُهُ، وَأَقُولُ: يُقَوِّيهِ مَا فِي (الْجَامِعِ) مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: «مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَجُلٍ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي (مُسْتَدْرَكِهِ) ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَرْفُوعًا، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَغَوِيُّ فِي (الْفَضَائِلِ)، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَقَالَ:«خَطَبَ عُمَرُ ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ) » وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم لِلْإِجْمَاعِ، وَبَعْدَ أَبِي بَكْرٍ لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 3901

6047 -

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ( «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

6047 -

(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم: ( «لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : بِزِيَادَةِ حَسَنٌ فِي نُسْخَةٍ مِنَ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا عَنْهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) ، وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عِصْمَةَ بْنِ مَالِكٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ لَبُعِثْتَ يَا عُمَرُ» .

ص: 3902

6048 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِلَّا فَلَا) فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ! إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتِ الدُّفَّ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

ــ

6048 -

(وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ) أَيْ: أَزْمِنَةِ غَزَوَاتِهِ (فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْهُ) أَيِ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي نُسْخَةٍ جَاءَتْ (جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا) أَيْ: مَنْصُورًا وَفِي رِوَايَةٍ: سَالِمًا (أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ) أَيْ: قُدَّامَكَ وَفِي حُضُورِكَ (بِالدُّفِّ) : بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَهُوَ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، وَرُوِيَ الْفَتْحُ أَيْضًا هُوَ مَا يُطَبَّلُ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الدُّفُّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَمَّا مَا فِيهِ الْجَلَاجِلُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا اتِّفَاقًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ الَّذِي فِيهِ قُرْبَةٌ وَاجِبٌ وَالسُّرُورُ بِمَقْدِمِهِ صلى الله عليه وسلم قُرْبَةٌ، سِيَّمَا مِنَ الْغَزْوِ الَّذِي فِيهِ تَهْلِكُ الْأَنْفُسُ، وَعَلَى أَنَّ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ مُبَاحٌ وَفِي قَوْلِهِ:(وَأَتَغَنَّى) : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَمَاعَ صَوْتِ الْمَرْأَةِ بِالْغِنَاءِ مُبَاحٌ إِذَا خَلَا عَنِ الْفِتْنَةِ. (فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلَّا فَلَا) . فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ الدُّفِّ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالنَّذْرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا وَرَدَ فِيهِ الْإِذْنُ مِنَ الشَّارِعِ كَضَرْبِهِ فِي إِعْلَانِ النِّكَاحِ، فَمَا اسْتَعْمَلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِ الْيَمَنِ مِنْ ضَرْبِ الدُّفِّ حَالَ الذِّكْرِ، فَمِنْ أَقْبَحِ الْقَبِيحِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ وَنَاصِرُ نَبِيِّهِ. (فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ) ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا) : بِهَمْزِ وَصْلٍ مَكْسُورٍ وَسُكُونِ سِينٍ أَيْ أَلْيَتِهَا بِأَنْ رَفَعَتْهَا وَوَضَعَتْهُ تَحْتَهَا. (ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهَا) ، أَيْ عَلَى اسْتِهَا لِتَسْتُرَهُ عَنْ عُمَرَ هَيْبَةً، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الدُّفِّ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ) يُرِيدُ بِهِ تِلْكَ الْمَرْأَةَ السَّوْدَاءَ لِأَنَّهَا شَيْطَانُ الْإِنْسِ وَتَفْعَلُ فِعْلَ الشَّيْطَانِ، أَوِ الْمُرَادُ شَيْطَانُهَا الَّذِي يَحْمِلُهَا عَلَى فِعْلِهَا الْمَكْرُوهِ، وَهُوَ زِيَادَةُ الضَّرْبِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ اللَّهْوِ عَلَى مَا حَصَلَ بِهِ إِظْهَارُ الْفَرَحِ، (إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (وَهِيَ تَضْرِبُ) : حَالٌ (فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتِ الدُّفَّ) . أَيْ تَحْتَ اسْتِهَا، ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا مَكَّنَهَا صلى الله عليه وسلم مِنْ ضَرْبِ الدُّفِّ بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّهَا نَذَرَتْ فَدَلَّ نَذْرُهَا عَلَى أَنَّهَا عَدَّتِ انْصِرَافَهُ عَلَى حَالِ السَّلَامَةِ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهَا، فَانْقَلَبَ الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ صَنْعَةِ اللَّهْوِ إِلَى صَنْعَةِ الْحَقِّ، وَمِنَ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْمُسْتَحَبِّ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ بِهِ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِأَدْنَى ضَرْبٍ، ثُمَّ عَادَ الْأَمْرُ فِي الزِّيَادَةِ إِلَى حَدِّ الْمَكْرُوهِ، وَلَمْ يَرَ أَنْ يَمْنَعَهَا لِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَهَا صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْجِعُ إِلَى حَدِّ التَّحْرِيمِ، فَلِذَا سَكَتَ عَنْهَا وَحَمِدَ انْتِهَاءَهَا عَمَّا كَانَتْ فِيهِ بِمَجِيءِ عُمَرَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَنْعًا لَا يَرْجِعُ إِلَى حَدِّ التَّحْرِيمِ.

ص: 3902

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَرَّرَ إِمْسَاكَهَا عَنْ ضَرْبِ الدُّفِّ هَاهُنَا بِمَجِيءِ عُمَرَ، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ، وَلَمْ يُقَرِّرِ انْتِهَاءَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه الْجَارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا تُدَفِّفَانِ أَيَّامَ مِنًى؟ قُلْتُ: مَنَعَ أَبَا بَكْرٍ بِقَوْلِهِ: دَعْهُمَا، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ هُنَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَمِنْ حَالَةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِمْرَارَ، وَمِنْ حَالَةٍ لَا تَقْتَضِيهِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَنْعُ الصِّدِّيقِ لَهُمَا عَنْ فِعْلِهِمَا بِحُضُورِ الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ لَا يَخْلُو أَنَّهُ مِنْ قُصُورِ آدَابِ الْبَشَرِيَّةِ، فَلِذَا مَا قَرَّرَ لَهُ ذَلِكَ وَبَيَّنَ لَهُ سَبَبَ اسْتِمْرَارِ فِعْلِهِمَا هُنَالِكَ، وَأَمَّا هُنَا فَلَوْ دَخَلَ عُمَرُ وَرَآهَا عَلَى حَالِهَا بِحَضْرَةِ سَمَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهَا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حُسْنِ آدَابِهِ، لَكِنْ لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ مَأْتَاهُ سَبَبًا لِانْتِهَائِهَا عَنْ فِعْلِهَا الْمَكْرُوهِ بِحَسَبِ أَصْلِهِ، وَلَوْ صَارَ مَنْدُوبًا بِمُوجَبِ نَذْرِهَا، وَاسْتَحْسَنَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَرَّرَ امْتِنَاعَهَا وَقَرَّرَ مَنْعَهُ بِالْقُوَّةِ الْإِلَهِيَّةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْإِرَادَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ انْتِهَاءَهَا عَمَّا كَانَتْ فِيهِ بِمَجِيءِ عُمَرَ، فَسَكَتَ لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ فَضْلَ عُمَرَ وَيَقُولُ مَا قَالَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مَدْخُولَةٌ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَبْقَى مَعْلُولَةً. نَعَمْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ انْتِهَاءُ مُدَّةِ ضَرْبِ الدُّفِّ عَلَى طَرِيقِ الْعُرْفِ بِابْتِدَاءِ مَأْتَى عُمَرَ فِي مَجْلِسِ الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا أَظْهَرُ وَأَوْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ ظَهَرَ لِي وَجْهٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه مَا كَانَ يُحِبُّ مَا صُورَتُهُ تُشْبِهُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ مِنْ وَجْهِ حَقٍّ، وَيُؤَيِّدُ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ:«أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ حَمِدْتُ اللَّهَ بِمَحَامِدِهِ فَقَالَ عليه السلام: (إِنَّ رَبَّكَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمَدْحَ، هَاتِ مَا امْتَدَحْتَ بِهِ رَبَّكَ) قَالَ: فَجَعَلْتُ أُنْشِدُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ قَالَ: فَاسْتَنْصَتَنِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَصَفَ لَنَا أَبُو سَلَمَةَ كَيْفَ اسْتَنْصَتَهُ قَالَ: كَمَا يَصْنَعُ بِالْهِرِّ، فَدَخَلَ الرَّجُلُ فَتَكَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَ، ثُمَّ أَخَذْتُ أُنْشِدُهُ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدُ فَاسْتَنْصَتَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ ذَا الَّذِي تَسْتَنْصِتُنِي لَهُ؟ فَقَالَ: (هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ، هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) » أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَطْلَقَ عَلَى هَذَا بَاطِلًا وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ حَقًّا لِأَنَّهُ حَمْدٌ وَمَدْحٌ لِلَّهِ إِلَّا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَاطِلِ إِذِ الشِّعْرُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:«أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَرِيرَةٍ طَبَخْتُهَا لَهُ، فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَهَا: كُلِي، فَأَبَتْ. فَقُلْتُ: لَتَأْكُلِنَّ أَوْ لَأُلَطِّخَنَّ وَجْهَكِ. فَأَبَتْ، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ فِي الْحَرِيرَةِ وَطَلَيْتُ بِهَا وَجْهَهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ فَخِذَهُ لَهَا وَقَالَ لِسَوْدَةَ: (الْطَخِي وَجْهَهَا) فَلَطَخَتْ وَجْهِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا، فَمَرَّ عُمَرُ فَنَادَى: يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ! فَظَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فَقَالَ: (قُومَا فَاغْسِلَا وُجُوهَكُمَا) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا زِلْتُ أَهَابُ عُمَرَ لِهَيْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ» . رَوَاهُ ابْنُ غَيْلَانَ مِنْ حَدِيثِ الْهَاشِمِيِّ، وَخَرَّجَهُ الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

ص: 3903

6049 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ صِبْيَانٍ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا، فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ! تَعَالَيْ فَانْظُرِي) فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ لَحْيَيَّ عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا. مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى رَأْسِهِ. فَقَالَ لِي: (أَمَا شَبِعْتِ؟ أَمَا شَبِعْتِ؟) فَجَعَلْتُ أَقُولُ: لَا، لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي عِنْدَهُ، إِذْ طَلَعَ عُمَرُ فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ) . قَالَتْ: فَرَجَعْتُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

ــ

6049 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، فَسَمِعْنَا لَغَطًا) : بِفَتْحِ لَامٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ: صَوْتًا شَدِيدًا لَا يُفْهَمُ (وَصَوْتَ صِبْيَانٍ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ جَارِيَةٌ أَوِ امْرَأَةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْحَبَشِ (تَزْفِنُ) : بِسُكُونِ الزَّايِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَيُضَمُّ أَيْ: تَرْقُصُ (وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا)، أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَفَرَّجُونَ عَلَيْهَا (فَقَالَ:(يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ تَقَدَّمِي (فَانْظُرِي) : وَهُوَ أَمْرُ مُخَاطَبَةٍ مِنَ التَّعَالِي، وَأَصْلُهُ أَنْ يَقُولَ مَنْ كَانَ فِي عُلُوٍّ لِمَنْ كَانَ فِي سُفْلٍ فَاتُّسِعَ فِيهِ بِالتَّعْمِيمِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا وَقُرِئَ بِضَمِّ لَامِ تَعَالَوْا فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ تَعَالَيُوا، فَنُقِلَ ضَمَّةُ الْيَاءِ إِلَى مَا قَبْلَهَا بَعْدَ سَلْبِ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ كَسْرُ اللَّامِ فِي تَعَالَيْ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ زَمَانِنَا، خُصُوصًا أَهْلَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَأَمَّا إِعْلَالُ فَتْحِ اللَّامِ فِي الْجَمْعِ وَالْمُخَاطَبَةِ، فَبِنَاءً عَلَى الْقَلْبِ وَالْحَذْفِ. (فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ لَحْيَيَّ) : بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ تَثْنِيَةُ لَحْيٍ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَنْبَتُ الْأَسْنَانِ (عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ رَأَسِ الْكَتِفِ وَالْعَضُدِ (فَجَعَلْتُ) أَيْ: شَرَعْتُ (أَنْظُرُ إِلَيْهَا) أَيْ: إِلَى الْحَبَشِيَّةِ.

ص: 3903

(مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ) : ظَرْفٌ لِأَنْظُرُ حُذِفَ مِنْهُ فِي، أَيْ فِيمَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ (إِلَى رَأْسِهِ. فَقَالَ لِي) أَيْ: بَعْدَ سَاعَةٍ أَوْ فَكَانَ يَقُولُ لِي: (أَمَا شَبِعْتِ؟ أَمَا شَبِعْتِ) ؟ أَيْ مُكَرِّرًا (فَجَعَلْتُ أَقُولُ: لَا) ، أَيْ لَا لَا لَا، لِعَدَمِ الشَّبَعِ حِرْصًا عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا، بَلْ كَانَ قَصْدِي مِنْ قَوْلِي لَا (لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي) أَيْ: نِهَايَةَ مَرْتَبَتِي وَغَايَةَ مَحَبَّتِي (عِنْدَهُ) إِذْ طَلَعَ عُمَرُ) أَيْ: ظَهَرَ (فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا)، بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: تَفَرَّقَ النَّظَّارَةُ الَّتِي كَانُوا حَوْلَ الْحَبَشِيَّةِ الرَّاقِصَةِ عَنْهَا لِمَهَابَةِ عُمَرَ وَالْخَوْفِ مِنْ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( «إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» ) : وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ) . قَالَتْ: أَيْ: عَائِشَةُ (فَرَجَعْتُ) . أَيْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيْتِي وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَةِ خُلُقِهِ عليه الصلاة والسلام وَغَلَبَةِ صِفَةِ الْجَمَالِ عَلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى غَلَبَةِ الْجَلَالِ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) .

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ السَّمَّانِ فِي الْمُوَافَقَةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَيَّ فَقَالَتْ: إِنِّي أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا إِذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَأَنْقُرَنَّ عَلَى رَأْسِهِ بِالدُّفِّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ: (قُولِي لَهَا فَلْتَفِ بِمَا حَلَفَتْ) ، فَقَامَتْ بِالدُّفِّ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَقَرَتْ نَقْرَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَاسْتَفْتَحَ عُمَرُ فَسَقَطَ الدُّفُّ مِنْ يَدِهَا، وَأَسْرَعَتْ إِلَى خِدْرِ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: سَمِعْتُ عُمَرَ فَهِبْتُهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَفِرُّ مِنْ حِسِّ عُمَرَ) » .

ص: 3904

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

6050 -

عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] . وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ يَحْتَجِبْنَ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] ، فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

6050 -

(عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَمَا أَلْطَفَهَا حَيْثُ رَاعَى فِيهَا الْأَدَبَ الْحَسَنَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَافَقَنِي رَبِّي مَعَ أَنَّ الْآيَاتِ إِنَّمَا نَزَلَتْ مُوَافِقَةً لِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّهُ رضي الله عنه أَشَارَ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنَّ فِعْلَهُ حَادِثٌ لَاحِقٌ، وَقَضَاءَ رَبِّهِ قَدِيمٌ سَابِقٌ. (فِي ثَلَاثٍ) : لَكِنْ فِي الرِّيَاضِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو حَاتِمٍ. قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ الثَّلَاثِ مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ الْمُوَافَقَةُ فِي أَشْيَاءَ، مِنْ مَشْهُورِهَا قِصَّةُ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقِصَّةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُمَا فِي الصَّحِيحِ. وَأَكْثَرُ مَا وَقَفْنَا مِنْهَا بِالتَّعْيِينِ خَمْسَةَ عَشَرَ. قَالَ صَاحِبُ الرِّيَاضِ: مِنْهَا تِسْعٌ لَفْظِيَّاتٌ، وَأَرْبَعٌ مَعْنَوِيَّاتٌ، وَاثْنَتَانِ فِي التَّوْرِيَةِ، فَإِنْ أَرَدْتَ تَفْصِيلَهَا فَرَاجِعْهَا. ( «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» ) ؟ أَيْ لَكَانَ حَسَنًا أَوْ لَوْ لِلتَّمَنِّي، وَالْمُرَادُ أَنْ يُجْعَلَ مُصَلًّى لِصَلَاةِ الطَّوَافِ بِأَنْ يَكُونَ فِيمَا حَوْلَهُ أَفْضَلَ (فَنَزَلَتْ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَقِيلَ لِلْإِيجَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْمَدَنِيِّ وَالشَّامِيِّ مِنَ السَّبْعَةِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ: وَاتَّخَذَ النَّاسُ مَقَامَهُ الْمَوْسُومَ بِهِ يَعْنِي الْكَعْبَةَ قِبْلَةً يُصَلُّونَ إِلَيْهَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْحُكْمِ الْمُقَرَّرِ، فَكَأَنَّهُ أُمِرَ

ص: 3904

بِهِ وَامْتَثَلَ؛ فَأَخْبَرَ، وَالْمُرَادُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الْحَجَرُ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمِهِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ فِيهِ حِينَ قَامَ عَلَيْهِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْحَجِّ، أَوْ رَفَعَ بِنَاءَ الْبَيْتِ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ وَهُوَ مَوْضِعُهُ الْيَوْمَ، رُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام أَخَذَ بِيَدِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ: هَذَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ فَقَالَ: لَمْ أُومَرُ بِذَلِكَ فَلَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ حَتَّى نَزَلَتْ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ بِرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ: أَنَّهُ عليه السلام لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ، وَقَرَأَ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَلِلشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ قَوْلَانِ اهـ. وَهُمَا وَاجِبَتَانِ عَقِبَ كُلِّ طَوَافٍ عِنْدَنَا. (وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِكَ الْبَرُّ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ الْبَارُّ وَهُوَ الصَّالِحُ (وَالْفَاجِرُ)، أَيِ الْفَاسِقُ (فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ) أَيْ: عَنِ الْأَجَانِبِ مُطْلَقًا (فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ) : وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ آكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْسًا فِي قَعْبٍ، فَمَرَّ عُمَرُ فَدَعَاهُ فَأَكَلَ فَأَصَابَتْ أُصْبُعُهُ أُصْبُعِي فَقَالَ: حِسَّ أَوْ آهِ لَوْ أَطَاعَ فِيكُنَّ مَا رَأَتْكُنَّ عَيْنٌ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَقَوْلُهُ: حِسَّ بِكَسْرِ السِّينِ وَالتَّشْدِيدِ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْإِنْسَانُ إِذَا أَصَابَهُ مَا أَحْرَقَهُ كَالْجَمْرَةِ وَالضَّرْبَةِ وَنَحْوِهِمَا. ( «وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ» )، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ فَغِرْتُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ، فَسَقَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَرْبَةً فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، الْحَدِيثَ. فَنَزَلَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] . (فَقُلْتُ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ} [التحريم: 5] : بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ: يُعْطِيهِ بَدَلًا عَنْكُنَّ {أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ» .

ص: 3905

6051 -

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6051 -

(وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ) . بَدَلُ تَفْصِيلٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى مُسْلِمٍ عَلَى مَا فِي الرِّيَاضِ، وَأَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَأَبُو الْفَرَجِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي أَرْبَعٍ؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ عَلَى نِسَائِكَ حِجَابًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وَقُلْتُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَتَنْتَهِيَنَّ أَوْ لَيُبْدِلَنَّهُ اللَّهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] قُلْتُ: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فَنَزَلَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم «تَزِيدُ فِي الْقُرْآنِ يَا عُمَرُ» ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَا وَقَالَ: إِنَّهَا تَمَامُ الْآيَةِ. أَخْرَجَهَا السَّجَاوَنْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَاتِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَمْلَى كَذَلِكَ قَالَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُوحَى إِلَيْهِ فَأَنَا كَذَلِكَ، فَارْتَدَّ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَاجَعَ إِسْلَامَهُ وَاسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ.

ص: 3905

6052 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: فُضِّلَ النَّاسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِأَرْبَعٍ: بِذِكْرِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] وَبِذِكْرِهِ الْحِجَابَ، أَمَرَ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَقَالَتْ لَهُ زَيْنَبُ: وَإِنَّكَ عَلَيْنَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وَبِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ) . وَبِرَأْيِهِ فِي أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه كَانَ أَوَّلَ نَاسٍ بَايَعَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

6052 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ)، أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ: فُضِّلَ النَّاسَ) : بِضَمِّ فَاءٍ وَتَشْدِيدِ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ وَنَصْبِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ مُقَدَّمٌ عَلَى نَائِبِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه)، أَيْ: فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِاخْتِصَاصِهِ (بِأَرْبَعٍ)، أَيْ: مِنَ الْخِصَالِ (بِذِكْرِ الْأُسَارَى)، أَيْ: بِذِكْرِهِ إِيَّاهُمْ أَوْ بِذِكْرِهِمْ عِنْدَهُ (يَوْمَ بَدْرٍ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ)، اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَوْلَا كِتَابٌ} [الأنفال: 68]، أَيْ: مَكْتُوبٌ أَوْ حُكْمٌ {مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] أَيْ: إِثْبَاتُهُ فِي اللَّوْحِ، أَوْ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ الْمُخْطِئَ فِي اجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ مَغْفُورٌ لَهُمْ {لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] أَيْ: لَأَصَابَكُمْ {فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] أَيْ: مِنَ الْفِدَاءِ عِوَضًا عَنِ الْأَعْدَاءِ {عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] أَيْ: فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْأُخْرَى، وَكَانَ أَخْذُهُمُ الْفِدْيَةَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْكُفَّارِ خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْهُمْ أَنْسَبُ لِيَتَقَوَّى الْمُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَرْبَابِ الْجَمَالِ، أَوْ بَلْ يَنْبَغِي قَتْلُهُمْ، فَإِنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَرُؤَسَاؤُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْجَلَالِ، وَلَمَّا كَانَ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَمَالِهِ مَائِلًا إِلَى الْجَمَالِ اخْتَارَ قَوْلَ الصِّدِّيقِ فِي الْحَالِ، وَكَانَ مُطَابِقًا لِمَا فِي أَزَلِ الْآزَالِ مِنْ حُسْنِ الْمَآلِ، وَتَفْصِيلُهُ عَلَى مَا فِي الرِّيَاضِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ:«لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَنُو الْعَمِّ وَبَنُو الْعَشِيرَةِ وَالْإِخْوَانِ غَيْرَ أَنَّا نَأْخُذُ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، فَيَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا. قَالَ: (فَمَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهُمْ، فَنُقَرِّبُهُمْ وَنَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ: فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ. قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بِكَيْتُ وَإِلَّا تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا. فَقَالَ: لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنَ الشَّجَرَةِ وَالشَّجَرَةُ قَرِيبَةٌ حِينَئِذٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67] » أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعَنِ الْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ. وَفِي طَرِيقٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ عُمَرَ فَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ يُصِيبُنَا بَلَاءٌ) أَخْرَجَهُ الْوَاحِدِيُّ مُسْنَدًا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَفِي بَعْضِهَا: لَقَدْ كَادَ يُصِيبُنَا بِخِلَافِكَ شَرٌّ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَفِي رِوَايَةٍ:«لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ نَارٌ لَمَا نَجَا مِنْهَا إِلَّا عُمَرُ» . وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْكُمُ بِاجْتِهَادِهِ. (وَبِذِكْرِهِ الْحِجَابَ) ، وَالضَّمِيرُ لِعُمَرَ (أَمَرَ نِسَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَقَالَتْ لَهُ زَيْنَبُ) أَيْ: بِنْتُ جَحْشٍ، وَهِيَ بِنْتُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَإِنَّكَ عَلَيْنَا) أَيْ: تَحْكُمُ أَوْ تَغَارُ (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِنَا) ؟ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ} [الأحزاب: 53] بِالْهَمْزِ وَنَقْلِهِ، أَيِ اطْلُبُوهُنَّ حَالَ كَوْنِهِنَّ {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] أَيْ: سِتَارَةٍ (وَبِدَعْوَةِ النَّبِيِّ)، أَيْ: وَبِإِجَابَةِ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّهِ بِقَوْلِهِ: (اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ) أَيْ: أَعِزَّهُ (بِعُمَرَ. وَبِرَأْيِهِ فِي أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه) أَيْ وَبِاجْتِهَادِهِ فِي شَأْنِ أَبِي بَكْرٍ حَالَ خِلَافَتِهِ (كَانَ أَوَّلَ نَاسٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَوَّلَ النَّاسِ (بَايَعَهُ) . أَيْ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ غَيْرُهُ تَابَعَهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 3906

6053 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «ذَاكَ الرَّجُلُ أَرْفَعُ أُمَّتِي دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ» ) . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

6053 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ذَاكَ الرَّجُلُ أَرْفَعُ أُمَّتِي دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ) . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُرَى) : بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: مَا كُنَّا نَظُنُّ (ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ) . أَيْ: مَاتَ عُمَرُ وَفِيهِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ تَغَيُّرٌ فِي آخِرِ عُمْرِهِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ذَاكَ الرَّجُلُ إِشَارَةٌ إِلَى مُبْهَمٍ، وَالْقَصْدُ فِيهِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَتَحَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَنَالَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ، وَإِنَّمَا يُنَالُ بِتَوَخِّي الْعَمَلَ وَتَحَرِّي الْأَصْوَبَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْمَبَرَّاتِ، وَلَمْ تُشَاهَدْ هَذِهِ الْخِلَالُ فِي أَحَدٍ كَمَا شُوهِدَ مِنْهُ رضي الله عنه مِنْ أَوَّلِ حَالِهِ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَبِهَذَا الْقِيَاسِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ لَا غَيْرُهُ، وَنَحْوُهُ إِخْفَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَيُؤَيِّدُ التَّقْرِيرَ الْأَوَّلَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتْلُوهُ اهـ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الرَّجُلِ عُمَرَ مَظْنُونٌ فِيهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الِانْعِقَادُ وَحَصَلَ بِهِ الِاعْتِمَادُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ أَهْلِ زَمَانِهِ حَالَ خِلَافَتِهِ، فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، لَكِنْ فِيهِ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ لَيْسَ مُبْهَمًا، بَلْ هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ:«خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ أَكْثَرُ خُطْبَتِهِ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ عَنِ الدَّجَّالِ وَحَذَّرَنَا مِنْهُ، وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ آدَمَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ:«وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَيَقْتُلَهَا فَيَنْشُرَهَا بِالْمِنْشَارِ حَتَّى يُلْقَى شِقَّتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا فَإِنَّمَا أَبْعَثُهُ الْآنَ، ثُمَّ لَمْ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ فَيَقُولُ لَهُ الْخَبِيثُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَأَنْتَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَنْتَ الدَّجَّالُ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَشَدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنَ الْيَوْمِ» ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّنَافِسِيُّ: فَحَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ حَدِيثًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ذَاكَ الرَّجُلُ أَرْفَعُ أُمَّتِي دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ) قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ اهـ. سِيَاقُ ابْنِ مَاجَهْ فَانْظُرْ وَتَأَمَّلْ سِيَاقَ الْمُصَنِّفِ الْحَدِيثَ وَاخْتِصَارَهُ، حَتَّى لَمْ يُفْهَمِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ، ذَكَرَهُ مَيْرَكُ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا إِلَخْ. مَعْنَاهُ أَنَّا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي يُقْتَلُ عَلَى يَدِ الدَّجَّالِ هُوَ عُمَرُ حَتَّى مَاتَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُهُ، لَكِنْ يُشْكِلُ أَفْضَلِيَّةُ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَيُدْفَعُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي زَمَانِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْجَزَرِيِّ فِي بَابِ الْعَلَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمَقْتُولَ عَلَى يَدِ الدَّجَّالِ هُوَ الْخَضِرُ عليه السلام فَلَا إِشْكَالَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ كَمَا هُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

ص: 3907

6054 -

وَعَنْ أَسْلَمَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلَنِي ابْنُ عُمَرَ بَعْضَ شَأْنِهِ - يَعْنِي عُمَرَ - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حِينِ قُبِضَ كَانَ أَجَدَّ وَأَجْوَدَ حَتَّى انْتَهَى مِنْ عُمَرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

6054 -

(وَعَنْ أَسْلَمَ) : هُوَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كُنْيَتُهُ أَبُو خَالِدٍ كَانَ حَبَشِيًّا، وَقِيلَ: مِنْ سَبْيِ الْيَمَنِ اشْتَرَاهُ عُمَرُ بِمَكَّةَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، سَمِعَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ، بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ لِيُقِيمَ الْحَجَّ بِالنَّاسِ، رَوَى عَنْهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ، مَاتَ فِي وِلَايَةِ مَرْوَانَ، وَلَهُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. (قَالَ: سَأَلَنِي ابْنُ عُمَرَ بَعْضَ شَأْنِهِ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: عَنْ بَعْضِ شَأْنِهِ (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ بِالْمُضْمَرِ (عُمَرَ) ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بَعْضُ شَأْنِهِ الْمَخْفِيِّ عَنِ النَّاسِ مِنْ عَادَتِهِ الْكَائِنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِخْلَاصِ، (فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. أَيْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْخِلَالِ، وَتَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ ابْتِدَاءِ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَاتِ وَثَبَاتِهِ عَلَيْهَا (حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ) أَيْ: مَاتَ، وَضَبْطُ حِينَ بِالْفَتْحِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ (كَانَ) أَيْ: ذَلِكَ الْأَحَدُ (أَجَدَّ) أَيْ: أَجْهَدَ فِي الدِّينِ (وَأَجْوَدَ) أَيْ: أَحْسَنَ فِي طَلَبِ الْيَقِينِ (حَتَّى انْتَهَى) أَيْ: إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ (مِنْ عُمَرَ) . تَنَازَعَ فِيهِ أَجَدَّ وَأَجْوَدَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ أَيْ: فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ لِيَخْرُجَ أَبُو بَكْرٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 3907

6055 -

وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ جَعَلَ يَأْلَمُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَأَنَّهُ يُجَزِّعُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا كُلُّ ذَلِكَ؟ ، لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ، فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ، وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّهُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ، قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ. وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي، فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَمِنْ أَجْلِ أَصْحَابِكَ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

6055 -

(وَعَنِ الْمِسْوَرِ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (ابْنِ مَخْرَمَةَ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَفَتْحِ رَاءٍ، هُوَ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وُلِدَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، وَقَدِمَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ ثَمَانِي سِنِينَ وَسَمِعَ مِنْهُ وَحَفِظَ عَنْهُ، وَكَانَ فَقِيهًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَتَقَدَّمَتْ بَقِيَّةُ تَرْجَمَتِهِ. (قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ (جَعَلَ) أَيْ: طَفِقَ عُمَرُ (يَأْلَمُ) أَيْ: يُظْهِرُ أَثَرَ أَلَمِهِ بِالْأَنِينِ وَنَحْوِهِ (فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَأَنَّهُ) أَيِ: ابْنَ عَبَّاسٍ (يُجَزِّعُهُ) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ يَنْسِبُهُ إِلَى الْجَزَعِ وَيَلُومُهُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُ مَا يُسَلِّيهِ بِمَا يُزِيلُ عَنْهُ الْجَزَعَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] أَيْ أُزِيلَ عَنْهُمُ الْفَزَعُ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَائِلِ وَمَقُولِهِ:(يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَلَا كُلُّ ذَلِكَ) ؟ بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، وَالْمَعْنَى لَا تُبَالِغُ فِيمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْجَزَعِ. قَالَ مَيْرَكُ وَفِي نُسْخَةٍ: لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ كَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ، وَالَّذِي فِي الْأَصْلِ رِوَايَةُ الْكُشْمِهَنِيِّ، وَلِبَعْضِهِمْ: وَلَا كَانَ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ دُعَاءٌ أَيْ لَا يَكُونُ مَا تَخَافُهُ، أَوْ لَا يَكُونُ الْمَوْتُ بِتِلْكَ الطَّعْنَةِ (لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ)، أَيْ لِقَوْلِهِ:(لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ) . (ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقَكَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، أَيْ حَيْثُ جَعَلَكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ثُمَّ صَحِبْتَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: أَيَّامَ خِلَافَتِكَ (فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ)، أَيْ بِإِظْهَارِ الْعَدَالَةِ وَإِتْقَانِ السِّيَاسَةِ (وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ) أَيْ: فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ (لَتُفَارِقَنَّهُمْ) : وَفِي نُسْخَةٍ لَفَارَقْتَهُمْ (وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ)، أَيْ وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَنْكَ رَاضٍ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنْهُ فَأَنْتَ مُبَشَّرٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] وَالْمَوْتُ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَكُونُ سَبَبًا لِلِقَاءِ الْمَوْلَى فِي الْمَقَامِ الْأَعْلَى. (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ (أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ نُونٍ أَيْ: مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ (مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ) أَيْ: تَفَضَّلَ عَلَيَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ بَلْ بِجَذْبَةٍ مِنْهُ، فَلَا أُنْكِرُ كَرَمَهُ، بَلْ أَشْكُرُهُ وَأَحْمَدُهُ. (وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ، إِنَّمَا ذَلِكَ مَنٌّ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهِ عَلِيَّ) . أَيْ حَيْثُ وَفَّقَنِي عَلَى تَقْدِيمِهِ وَمُسَاعَدَتِهِ فِي تَقْوِيمِهِ، وَلَعَلَّ إِعْرَاضَهُ عَنْ رِضَا النَّاسِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ عَلَى رِضَا اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وَلِلْإِيمَاءِ أَنَّ رِضَاهُمْ أَيْضًا مِنْ أَثَرِ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ (وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي)، أَيْ فَزَعِي الْمُتَوَهَّمِ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِ مَوْتِي (فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَمِنْ أَجْلِ أَصْحَابِكَ) : عَطْفٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، أَيْ مِنْ جِهَةِ أَنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ وُقُوعِ الْفِتَنِ بَيْنَكُمْ لَمَّا كَانَ كَالْبَابِ يَسُدُّ الْمِحَنَ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ أَخَافُ أَيْضًا عَلَى نَفْسِي، وَلَا آمَنُ مِنْ عَذَابِ رَبِّي، لِأَنَّهُ (وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الْأَرْضِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ مَا يَمْلَؤُهَا (ذَهَبًا) : حَتَّى يَطْلُعَ وَيَسِيلَ (لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ) . أَيِ اللَّهَ أَوْ عَذَابَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ الَّذِي وَقَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ خَشْيَةِ التَّقْصِيرِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ مِنَ الْفِتْنَةِ بِمَدْحِهِمْ، كَذَا فِي " فَتْحِ الْبَارِي ".

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ رضي الله عنه رَجَّحَ جَانِبَ الْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ لِمَا أُشْعِرَ مِنْ فِتَنٍ تَقَعُ بَعْدَهُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزِعَ جَزَعًا عَلَيْهِمْ وَتَرَحُّمًا لَهُمْ، وَمِنَ اسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ عِيسَى عليه السلام:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] وَكَانَ جَانِبُ الْخَوْفِ عَلَيْهِ غَالِبًا، فَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَانْكِسَارًا، وَلِذَلِكَ نَسَبَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْفَضِيلَةِ إِلَى مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْضَالِهِ، وَفِي " الِاسْتِيعَابِ ": إِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ احْتُضِرَ قَالَ وَرَأَسُهُ فِي حِجْرِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: ظَلُومٌ لِنَفْسِي غَيْرَ أَنِّيَ مُسْلِمٌ أُصَلِّي صَلَاتِي كُلَّهَا وَأَصُومُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَدُفِنَ يَوْمَ الْأَحَدِ عَاشِرَ مُحَرَّمٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي عُمُرِهِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَبَاقِي الْعَشَرَةِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 3908

وَفِي " الرِّيَاضِ ": مِنْ جُمْلَةِ كَرَامَاتِهِ وَمُكَاشَفَاتِهِ ; مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ وَنَادَى: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى خُطْبَتِهِ فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ تَرَكَ خُطْبَتَهُ وَنَادَى: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ يَنْبَسِطُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَجْعَلُ لِلنَّاسِ عَلَيْكَ مَقَالًا؛ بَيْنَمَا أَنْتَ فِي خُطْبَتِكَ إِذْ نَادَيْتَ يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا مَلَكْتُ ذَلِكَ حِينَ رَأَيْتُ سَارِيَةَ وَأَصْحَابَهُ يُقَاتِلُونَ عِنْدَ جَبَلٍ يُؤْتَوْنَ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، فَلَمْ أَمْلِكْ أَنْ قُلْتُ: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ لِيَلْحَقُوا بِالْجَبَلِ، فَلَمْ يَمْضِ أَيَّامٌ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ سَارِيَةَ بِكِتَابِهِ أَنَّ الْقَوْمَ لَقُونَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَاتَلْنَاهُمْ مِنْ حِينِ صَلَّيْنَا الصُّبْحَ إِلَى أَنْ حَضَرَتِ الْجُمُعَةُ وَدَرَّ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَسَمِعْنَا صَوْتَ مُنَادٍ يُنَادِي: الْجَبَلَ مَرَّتَيْنِ، فَلَحِقْنَا بِالْجَبَلِ فَلَمْ نَزَلْ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّنَا حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَيُرْوَى: أَنَّ مِصْرَ لَمَّا فُتِحَتْ أَتَى أَهْلُهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا النِّيلَ يَحْتَاجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ مِنْ أَحْسَنِ الْجَوَارِي فَنُلْقِيهَا فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجْرِي وَتَخْرُبُ الْبِلَادُ وَتَقْحَطُ، فَبَعَثَ عَمْرٌو إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِالْخَبَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ: الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ بِطَاقَةً فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى نِيلِ مِصْرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ كُنْتَ تَجْرِي بِأَمْرِ اللَّهِ فَاجْرِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَهَا فِي النِّيلِ، فَجَرَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَزَادَ عَلَى كُلِّ سَنَةٍ سِتَّةَ أَذْرُعٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا أُلْقِيَ كِتَابُهُ جَرَى وَلَمْ يَعُدْ يَقِفُ، خَرَّجَهَا الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ.

قُلْتُ: الْأَوَّلُ: أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَاللَّالَكَائِيُّ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَالثَّانِي: أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ بِسَنَدِهِ إِلَى قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ جَدَّتِهِ.

وَلَمَّا دَخَلَ مُسْلِمٌ الْخَوْلَانِيُّ الْمَدِينَةَ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي الْيَمَنِ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَأَبَى، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَمَرَ بِتَأْجِيجِ نَارٍ عَظِيمَةٍ وَأَلْقَى فِيهَا أَبُو مُسْلِمٍ فَلَمْ يَضُرَّهُ، فَأَمَرَ بِنَفْيِهِ مِنْ بِلَادِهِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ قَالَ عُمَرُ: هَذَا صَاحِبُكُمُ الَّذِي زَعَمَ الْأَسْوَدُ الْكَذَّابُ أَنَّهُ يُحْرِقُهُ فَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ وَلَا عُمَرُ سَمِعُوا قَضِيَّتَهُ وَلَا رَأَوْهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ. وَقَالَ: أَلَسْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَيُّوبَ؟ قَالَ: بَلَى، فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِي فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شَبِيهًا بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام.

وَرُوِيَ أَنَّهُ عَسَّ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَأَتَى امْرَأَةً وَهِيَ تَقُولُ لِابْنَتِهَا: قُومِي وَامَرَئِي اللَّبَنَ. فَقَالَتْ: لَا تَفْعَلِينَ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ. قَالَتْ: وَمِنْ أَيْنَ يَدْرِي؟ فَقَالَتْ: فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ فَإِنَّ رَبَّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْرِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ قَالَ لِابْنِهِ عَاصِمٍ: اذْهَبْ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ هُنَاكَ صَبِيَّةً فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْغُولَةً، فَتَزَوَّجْ بِهَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَكَ مِنْهَا نَسَمَةً مُبَارَكَةً، فَتَزَوَّجَ عَاصِمٌ تِلْكَ الْبُنَيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُمَّ عَاصِمٍ بِنْتَ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ. خَرَّجَهُمَا فِي " الْفَضَائِلِ ".

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَبْصَرَ أَعْرَابِيًّا نَازِلًا مِنْ جَبَلٍ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مُصَابٌ بِوَلَدِهِ قَدْ نَظَمَ فِيهِ سَبْعَةَ أَبْيَاتٍ لَوْ أَشَاءُ لَأَسْمَعْتُكُمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَعْرَابِيُّ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَعْلَى هَذَا الْجَبَلِ. قَالَ: وَمَا صَنَعْتَ فِيهِ؟ قَالَ: أَوْدَعْتُهُ وَدِيعَةً لِي. قَالَ: وَمَا وَدِيعَتُكَ؟ قَالَ: بُنَيٌّ لِي هَلَكَ فَدَفَنْتُهُ فِيهِ. قَالَ: فَأَسْمِعْنَا مِنْ مَرْثِيَّتِكَ فِيهِ. قَالَ: مَا يُدْرِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَاللَّهِ مَا تَفَوَّهْتُ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَدَّثْتُ بِهِ نَفْسِي ثُمَّ أَنْشَدَ:

يَا غَائِبًا مَا يَؤُوبُ مِنْ سَفَرٍ

عَاجَلَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ عَلَى صِغَرِهِ

يَا قُرَّةَ الْعَيْنِ كُنْتَ لِي أُنُسًا

فِي طُولِ لَيْلِي نَعَمْ وَفِي قِصَرِهِ

مَا تَقَعُ الْعَيْنُ حَيْثُمَا وَقَعَتْ

فِي الْحَيِّ إِلَّا مِنْ عَلَى أَثَرِهِ

شَرِبْتَ كَأْسًا أَبُوكَ شَارِبُهَا

لَا بُدَّ مِنْهُ لَهُ عَلَى كِبَرِهِ

بِشُرْبِهَا وَالْأَنَامُ كُلُّهُمُ

مَنْ كَانَ فِي بَدْوِهِ وَفِي حَضَرِهِ

فَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا شَرِيكَ لَهُ

فِي حُكْمِهِ كَانَ ذَا وَفِي قَدَرِهِ

قَدَّرَ مَوْتًا عَلَى الْعِبَادِ فَمَا

يَقْدِرُ خَلْقٌ يَزِيدُ فِي عُمُرِهِ

قَالَ: فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقْتَ يَا أَعْرَابِيُّ.

ص: 3909