الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ) أَيْ: عَلِمًا يَقِينًا (أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيَّ عليه السلام (خَارِجٌ. أَيْ: ظَاهِرٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ)، أَيْ: مِنْ نَسْلِ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ أَبُو الْعَرَبِ، بَلْ كُنْتُ أَظُنُّهُ أَنَّهُ مِنْ مَعْشَرِ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام مِنْهُمْ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ وَبَلِيَّةٌ غَامِضَةٌ، فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا وَالْحَقُّ أَحَقَّ أَنْ يُتَّبَعَ. (وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ) : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: أَصِلُ (إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى خِدْمَتِهِ وَدَوْلَتِهِ وَحَضْرَةِ رُؤْيَتِهِ (لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ) أَيْ: دَوْلَةَ مُلَاقَاتِهِ وَسَعَادَةَ مُتَابَعَتِهِ، (وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ) أَيْ: وَلَوْ صِرْتُ فِي مَقَامِهِ، وَوَصَلْتُ إِلَى مَوْضِعِ قِيَامِهِ (لَغَسَلْتُ) أَيْ: وَجْهِي (عَنْ قَدَمَيْهِ) أَيْ: غَسْلًا صَادِرًا عَنْ مَاءِ أَقْدَامِهِ، لِمَا أَرَى لَهُ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ وَإِقْدَامِهِ، أَوِ التَّقْدِيرُ غَسَلْتُ الْغُبَارَ وَالْوَسَخَ عَنْ قَدَمَيْهِ فَضْلًا عَنْ تَقْبِيلِ يَدَيْهِ، (وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ) . بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّثْنِيَةِ الْمُنْبِئَةِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ صِدْقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا شَحَّ بِالْمُلْكِ وَرَغِبَ فِي الرِّيَاسَةِ، فَآثَرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ لَوَفَّقَهُ، كَمَا وَفَّقَ النَّجَاشِيَّ، وَمَا زَالَتْ عَنْهُ الرِّيَاسَةُ. وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ: اخْتُلِفَ فِي زَمَانِهِ، وَالْأَرْجَحُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْكُفْرِ، فَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ تَبُوكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي مُسْلِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَذَبَ، بَلْ هُوَ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ. قُلْتُ: لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَوْتِهِ بِالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا رُجِّحَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ.
(ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُ) . أَيْ: فَعَظَّمَهُ، وَبَالَغَ فِي مُحَافَظَتِهِ فَصَارَ سَبَبًا لِبَقَاءِ الْمُلْكِ فِي ذُرِّيَّتِهِ، بِخِلَافِ كِسْرَى حَيْثُ شَقَّهُ وَمَزَّقَهُ، فَمَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ، وَفَرَّقَ وَلَدَهُ، وَأَخْرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُلْكَهُ. قَالَ سَيْفُ الدِّينِ:(أَرْسَلَنِي مَلِكُ الْعَرَبِ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ فِي شَفَاعَةٍ، فَقَبِلَهَا وَعَرَضَ عَلَيَّ الْإِقَامَةَ فَأَبَيْتُ، فَقَالَ: لَأُتْحِفَنَّكَ بِتُحْفَةٍ سَنِيَّةٍ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُنْدُوقِهِ مِقْلَمَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا قَدْ زَالَ أَكْثَرُ حُرُوفِهِ، فَقَالَ: هَذَا كِتَابُ نَبِيِّكُمْ لِجَدِّي قَيْصَرَ مَا زِلْنَا نَتَوَارَثُهُ إِلَى الْآنَ، وَقَدْ أَوْصَانَا بِأَنَّهُ مَا دَامَ عِنْدَنَا لَا يَزُولُ الْمُلْكُ مِنَّا، فَنَحْنُ نَحْفَظُهُ لِيَدُومَ الْمُلْكُ لَنَا) ذَكَرَهُ أَكْمَلُ الدِّينِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ الْحَدِيثِ) : وَهُوَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ (فِي بَابِ الْكِتَابَةِ إِلَى الْكُفَّارِ) .
[بَابٌ فِي الْمِعْرَاجِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5862 -
(عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ [عَنْ مَالِكِ] بْنِ صَعْصَعَةَ رضي الله عنه، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: (بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ - وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ - مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ) يَعْنِي مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ " فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ) - وَفِي رِوَايَةٍ: " ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً لِلَّهِ ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ، أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ: الْبُرَاقُ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ: قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامِ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا لَهُ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَهَذَا عِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفَتَحَ، فَلَمَّا دَخَلْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ. ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ، فَقَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا دَخَلْتُ، فَإِذَا هَارُونُ. قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي؛ ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرَئِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا: قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: هَذَا سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، قُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنَى عَشْرًا. فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ. قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ، نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
[6]
- بَابٌ فِي الْمِعْرَاجِ
الْعُرُوجُ: هُوَ الذَّهَابُ فِي صُعُودٍ. قَالَ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [المعارج: 4] وَالْمِعْرَاجُ بِالْكَسْرِ شِبْهُ السُّلَّمِ مِفْعَالٌ مِنَ الْعُرُوجِ بِمَعْنَى الصُّعُودِ، فَكَأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ آلَةٌ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِسْرَاءِ، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي رِسَالَتِي الْمُسَمَّاةِ بِالْمِدْرَاجِ لِلْمِعْرَاجِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لِصُعُودِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ، وَالْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمُعْظَمُ السَّلَفِ، وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ، فَمَنْ طَالَعَهَا وَبَحَثَ عَنْهَا، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ ظَاهِرِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي حَمْلِهَا عَلَيْهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَقِيلَ: ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ غَلَطٌ يُوَافِقُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: كَانَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أُسْرِيَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ فَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكَّةَ، وَأَشْبَهُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَانَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ: وَهُوَ نَائِمٌ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، فَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَجْعَلُهَا رُؤْيَا نَوْمٍ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ حَالَةَ أَوَّلِ وُصُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَائِمًا فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي الْمَعَالِمِ: وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى ذَلِكَ. قُلْتُ: وَمِنَ الْقَلِيلِ مَنْ قَالَ بِتَعْدَادِ الْإِسْرَاءِ نَوْمًا وَيَقَظَةً وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ رَوَيْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60](ثُمَّ) : قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَيْءٌ أُرِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَقَظَةِ رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَنْكَرَتْهُ قُرَيْشٌ وَارْتَدَّتْ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ أَسْلَمُوا حِينَ جَمَعُوهُ، وَإِنَّمَا يُنْكَرُ إِذَا كَانَتْ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا لَا يُنْكَرُ مِنْهَا مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْمِعْرَاجَ مَرَّتَانِ: مَرَّةً بِالنَّوْمِ وَأُخْرَى بِالْيَقَظَةِ. قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: رُؤْيَا أَرَاهُ اللَّهُ قَبْلَ الْوَحْيِ بِدَلِيلِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ بَعْدَ الْوَحْيِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ تَحْقِيقًا لِرُؤْيَاهُ، كَمَا أَنَّهُ رَأَى فَتْحَ مَكَّةَ فِي الْمَنَامِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ كَانَ تَحْقِيقُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعَنْ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ، أَنَّ الْأَرْوَاحَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَنْوَارِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبْدَانِ بِمَنْزِلَةِ قُرْصِ الشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ، وَكَمَا أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ يَصِلُ إِلَيْهِ نُورُ الشَّمْسِ تَتَبَدَّلُ ظُلُمَاتُهُ بِالْأَضْوَاءِ، فَكَذَلِكَ كَلُّ عُضْوٍ وَصَلَ إِلَيْهِ نُورُ الرُّوحِ انْقَلَبَ حَالُهُ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ.
وَقَالُوا: الْأَرْوَاحُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: الْأَرْوَاحُ الْمُكَدَّرَةُ بِالصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَهِيَ أَرْوَاحُ الْعَوَامِّ غَلَبَتْهُ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةُ لَا تَقْبَلُ الْعُرُوجَ، وَالثَّانِي: الْأَرْوَاحُ الَّتِي لَهَا كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِاكْتِسَابِ الْعُلُومِ، وَهَذِهِ أَرْوَاحُ الْعُلَمَاءِ، وَالثَّالِثُ: الْأَرْوَاحُ الَّتِي لَهَا كَمَالُ الْقُوَّةِ الْمُدَبِّرَةِ لِلْبَدَنِ بِاكْتِسَابِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَهَذِهِ أَرْوَاحُ الْمُرْتَاضِينَ إِذَا كَبُرَ وَأَقْوَى أَبْدَانُهُمْ بِالِارْتِيَاضِ وَالْمُجَاهَدَةِ، وَالرَّابِعُ: الْأَرْوَاحُ الْحَاصِلَةُ لَهَا كَمَالُ الْقُوَّتَيْنِ، وَهَذِهِ غَايَةُ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَهِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ، فَلَمَّا ازْدَادَ قُوَّةُ أَرْوَاحِهِمُ ازْدَادَ ارْتِفَاعُ أَبْدَانِهِمْ عَنِ الْأَرْضِ، وَبِهَذَا لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام قَوِيَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ عُرِجَ بِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَكْمَلُهُمْ قُوَّةً نَبِيُّنَا، فَعُرِجَ بِهِ إِلَى قَابِ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5862 -
(عَنْ قَتَادَةَ)، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) أَيْ: خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ) : أَنْصَارِيٌّ مُزَنِيٌّ مَدَنِيٌّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَهُوَ قَلِيلُ الْحَدِيثِ (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ) أَيِ: الصَّحَابَةَ: وَمِنْهُمْ أَنَسٌ (عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ) : بِالْإِضَافَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ أَيْ: لَيْلَةٍ أُسْرِيَ بِهِ فِيهَا. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: إِنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى الْمَاضِي، وَفِي نُسْخَةِ رِوَايَتِي مَجْرُورَةٌ مُنَوَّنَةٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ بِنَاءُ لَيْلَةٍ وَإِعْرَابُهَا، وَأُسْرِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] وَالْإِسْرَاءُ: مِنَ السُّرَى، وَهُوَ السَّيْرُ فِي اللَّيْلِ. يُقَالُ: سَرَى وَأَسْرَى بِمَعْنًى، وَقِيلَ: أَسْرَى سَارَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَسَرَى مِنْ آخِرِهِ. قِيلَ: وَهُوَ أَقْرَبُ فَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَذِكْرُ اللَّيْلِ لِلتَّجْرِيدِ أَوْ لِلتَّأْكِيدِ. وَفِي الْآيَةِ بِالتَّنْكِيرِ لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّعْظِيمِ. (بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ) : قَالَ الْقَاضِي، قِيلَ هُوَ الْحِجْرُ سُمِّيَ حِجْرًا لِأَنَّهُ حَجَرَ عَنْهُ بِحِيطَانِهِ، وَحَطِيمًا لِأَنَّهُ حُطِمَ جِدَارُهُ عَنْ مُسَاوَاةِ الْكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ (وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ) : فَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم حَكَى لَهُمْ قِصَّةَ الْمِعْرَاجِ مَرَّاتٍ، فَعَبَّرَ بِالْحَطِيمِ تَارَةً، وَبِالْحِجْرِ أُخْرَى. وَقِيلَ: الْحَطِيمُ غَيْرُ الْحِجْرِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْمَقَامِ إِلَى الْبَابِ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ وَالْحِجْرِ، وَالرَّاوِي شَكَّ فِي أَنَّهُ جُمِعَ فِي الْحَطِيمِ أَوْ فِي الْحِجْرِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: الْحَطِيمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْبَابِ إِلَى الْمَقَامِ حَيْثُ يَنْحَطِمُ النَّاسُ لِلدُّعَاءِ، وَقِيلَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَحَالَفُونَ هُنَالِكَ، وَيَنْحَطِمُونَ بِالْإِيمَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْأَوَّلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُضْطَجِعًا) : قَيْدٌ لِلرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّوْمَ وَالْيَقَظَةَ (إِذْ أَتَانِي آتٍ) أَيْ: جَاءَنِي مَلَكٌ (فَشَقَّ) أَيْ: قَطَعَ (مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى
هَذِهِ) يَعْنِي) : تَفْسِيرٌ مِنْ مَالِكٍ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ هَذَا (مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: نَقْرَةِ نَحْرِهِ الَّتِي بَيْنَ التَّرْقُوَتَيْنِ (إِلَى شِعْرَتِهِ) . بِكَسْرِ الشِّينِ أَيْ عَانَتِهِ، وَقِيلَ مَنْبِتُ شَعْرِهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي) : قَالَ شَارِحٌ: وَهَذَا الشَّقُّ غَيْرُ مَا كَانَ فِي زَمَنِ الصِّبَا إِذْ هُوَ لِإِخْرَاجِ مَادَّةِ الْهَوَى مِنْ قَلْبِهِ، وَهَذَا لِإِدْخَالِ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قَلْبِهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّخْلِيَةِ وَالتَّحْلِيَةِ وَمَقَامِ الْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ وَنَفْيِ السَّوِيِّ وَإِثْبَاتِ الْمَوْلَى، كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُعْجِزَةٌ فَإِنَّ مِنَ الْمُحَالِ الْعَادِيِّ أَنْ يَعِيشَ مَنْ يَنْشَقُّ بَطْنُهُ وَيُسْتَخْرَجُ قَلْبُهُ، وَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلُوهَا عَلَى الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ شَقِّ النَّحْرِ وَاسْتِخْرَاجِ الْقَلْبِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَإِنَّ السَّبِيلَ فِي ذَلِكَ التَّسْلِيمُ دُونَ التَّعَرُّضِ بِصَرْفِهِ مِنْ وَجْهٍ إِلَى وَجْهٍ بِمَنْقُولٍ مُتَكَلَّفٍ دُعَاءً لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، هَرَبًا مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُحَالٌ، وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ لَا نَرَى الْعُدُولَ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ فِي خَبَرِ الصَّادِقِ عَنِ الْأَمْرِ لِعَدَمِ الْمُحَالِ بِهِ عَلَى الْقُدْرَةِ. (ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتُكْسَرُ وَسِينُهُ مُهْمَلَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَمُعْجَمَةٌ (مِنْ ذَهَبٍ) : لَعَلَّ الِاسْتِعْمَالَ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَوِ الْقَضِيَّةُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ عليه الصلاة والسلام (مَمْلُوءَةٍ) : عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ بِالْهَمْزِ وَيُشَدَّدُ (إِيمَانًا) : تَمْيِيزٌ. قَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّهُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ إِذْ تُمَثَّلُ لَهُ الْمَعَانِي كَمَا تُمَثَّلُ لَهُ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ الدَّارِجَةُ بِالصُّوَرِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْسَادٌ لَطِيفَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مُمَثَّلٌ لَهُ الْأَرْوَاحُ بِأَجْسَادِهِمُ الْفَانِيَةِ، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ، نَعَمْ لَوْ قِيلَ بِبَقَاءِ أَجْسَادِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا أَرْوَاحُهُمْ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ وَبِتَمَثُّلِهَا فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، لَكَانَ تَوْجِيهًا وَجِيهًا وَتَنْبِيهًا نَبِيهًا، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَا يَبْعُدُ عَنْ قُدْرَةِ الْقَاهِرِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَعْنَى جُعِلَ الْإِيمَانُ فِي الطَّسْتِ جُعِلَ شَيْءٌ فِيهِ يَحْصُلُ بِهِ الْإِيمَانُ، فَيَكُونُ مَجَازًا، وَقَدْ قَالَ الشَّارِحُ: الْأَوَّلُ لَا مَانِعَ مِنْ إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ أَقُولُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَعَانِيَ قَدْ تَتَجَسَّمُ كَمَا حُقِّقَ فِي وَزْنِ الْأَعْمَالِ وَذَبْحِ كَبْشِ الْمَوْتِ وَنَحْوِهِمَا. (فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ) : مَاضٍ مَجْهُولٌ مِنَ الْحَشْوِ أَيْ: مُلِئَ مِنْ حُبِّ رَبِّي (ثُمَّ أُعِيدَ) . أَيِ: الْقَلْبُ إِلَى مَوْضِعِهِ الْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ: (ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ) أَيِ: الْجَوْفُ مُطْلَقًا أَوْ مَحَلُّ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ بَيْتُ الرَّبِّ (بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ مُلِئَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً) أَيْ: إِيقَانًا وَإِحْسَانًا فَهُوَ تَكْمِيلٌ وَتَذْيِيلٌ (ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ) : هِيَ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَالتَّاءُ فِيهَا لِلْوَحْدَةِ، فَالْمَعْنَى بِمَرْكُوبٍ مُتَوَسِّطٍ. (دُونَ الْبَغْلِ) : أَصْغَرُ مِنْهُ (وَفَوْقَ الْحِمَارِ) أَيْ: أَكْبَرُ مِنْهُ (أَبْيَضَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الصِّفَةِ (يُقَالُ لَهُ الْبُرَاقُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، سُمِّيَ بِهِ لِبَرِيقِ لَوْنِهِ، أَوْ لِسُرْعَةِ سَيْرِهِ كَبَرْقِ السَّحَابِ وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ يُؤَكِّدُ الثَّانِيَ قَوْلُهُ:(يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ)، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَيْ: يَضَعُ قَدَمَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ وَغَايَةِ نَظَرِهِ قِيلَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ كَانَ مُعَدًّا لِرُكُوبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ بُرَاقٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَرَاتِبَ الْأَصْفِيَاءِ، فَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا: هُوَ اسْمٌ لِلدَّابَّةِ الَّتِي رَكِبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. قَالَ الزُّبَيْدِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْعَيْنِ، وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ: هِيَ دَابَّةٌ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام يَرْكَبُونَهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُمْ حَسِبُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَرَبَطَهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ أَيْ: رَبَطَتِ الْبُرَاقَ. قُلْتُ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَقْدِيرِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُرَاقِ الْجِنْسُ فِي الثَّانِي: قَالَ: وَأَظْهَرُ مِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَوْلُ جِبْرِيلَ لِلْبُرَاقِ: فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. قُلْتُ: هُوَ مَعَ ظُهُورِهِ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالِ الْمَانِعِ مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ، إِذْ مُحْتَمَلٌ أَنَّهُ رَكِبَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ أَوْ جِبْرِيلُ قَبْلَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، أَوِ التَّقْدِيرُ: فَمَا رَكِبَ مِثْلَكَ أَوْ جِنْسَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ فَلَا مَعْنَى لِتَنَفُّرِكَ عَنْهُ. (فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: رَكِبْتُ عَلَيْهِ بِمَعُونَةِ الْمَلَكِ أَوْ بِإِعَانَةِ الْمَلَكِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى صُعُوبَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي وَجْهُهُ، (فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بَابَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا) ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتَمَرَّ عَلَى الْبُرَاقِ حَتَّى عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ، وَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ.
الْمِعْرَاجَ كَانَ فِي لَيْلَةٍ غَيْرَ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَمَّا الْمِعْرَاجُ فَعَلَى غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْبُرَاقِ، بَلْ رُقِيَ فِي الْمِعْرَاجِ وَهُوَ السُّلَّمُ، كَمَا وَقَعَ بِهِ مُصَرَّحًا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا اقْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي وَإِجْمَالٌ لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ رَبَطَ الْبُرَاقَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُ عَلَى الْبُرَاقِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ إِسْرَاؤُهُ إِلَى السَّمَاءِ بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي هُوَ السُّلَّمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَكَأَنَّ الرَّاوِي طَوَى الرِّوَايَةَ، فَاخْتَلَّ بِهِ أَمْرُ الدِّرَايَةِ، ثُمَّ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الْعُرُوجِ إِلَى السَّمَاءِ إِظْهَارُ الْحَقِّ لِلْمُعَانِدِينَ، لِأَنَّهُ لَوْ عُرِجَ بِهِ عَنْ مَكَّةَ إِلَى السَّمَاءِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إِلَى إِيضَاحِ الْحَقِّ لِلْمُعَانِدِينَ، كَمَا وَقَعَ فِي الْأَخْبَارِ بِصِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا صَادَفَهُ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الْعِيرِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِيَازَةِ فَضِيلَةِ الرَّحِيلِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ هِجْرَةِ غَالِبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ بَابَ السَّمَاءِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مِصْعَدُ الْمَلَائِكَةِ يُقَابِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأُسْرِيَ إِلَيْهِ لِيَحْصُلَ الْعُرُوجُ مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ تَعْوِيجٍ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ.
(فَاسْتَفْتَحَ) أَيْ: طَلَبَ جِبْرِيلُ فَتْحَ بَابِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا (قِيلَ: مَنْ هَذَا) ؟ أَيِ: الْمُسْتَفْتِحُ (قَالَ: جِبْرِيلُ) : بِتَقْدِيرِ هُوَ أَوْ أَنَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِيهِ أَنَّ لِلسَّمَاءِ أَبْوَابًا حَقِيقَةً وَحَفَظَةً مُوَكَّلِينَ بِهَا، وَفِيهِ إِثْبَاتُ الِاسْتِئْذَانِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ أَنَا زَيْدٌ مَثَلًا يَعْنِي: لَا يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ أَنَا، كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ إِذْ قَدْ وَرَدَ بِهِ النَّهْيُ (قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ) ؟ أَيْ: أَنْتَ نَعْرِفُكَ وَمَنْ مَعَكَ حَتَّى تَسْتَفْتِحَ (قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ) الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَحَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَطُلِبَ وَأُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالْعُرُوجِ أَوْ بِالْوَحْيِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ أَيْ بُعِثَ إِلَيْهِ لِلْإِسْرَاءِ وَصُعُودِ السَّمَاءِ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ أَصْلِ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَى الْمَلَائِكَةِ إِلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ أَيْ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالْعُرُوجِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَبُعِثَ نَبِيًّا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ أَمْرَ نُبُوَّتِهِ كَانَ مَشْهُورًا فِي الْمَلَكُوتِ لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى خَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَحَرَسِهَا، وَأَوْفَقُ لِلِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِئْذَانِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ مَعَهُ وَتَحْتَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَنَظَائِرِهَا أَسْرَارٌ يَتَفَطَّنُ لَهَا مَنْ فُتِحَتْ بَصِيرَتُهُ وَاشْتَعَلَتْ قَرِيحَتُهُ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ مَأْخَذَهَا وُقُوفُهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَبْوَابِ عَلَى دَأْبِ آدَابِ أَرْبَابِ الْأَلْبَابِ، ثُمَّ السُّؤَالُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَكَذَا الْجَوَابُ. بِمَرْحَبًا مَرْحَبًا بِذَلِكَ الْجَنَابِ، الْمُشْعِرِ بِالتَّنَزُّلِ الرَّحْمَانِيِّ، وَالِاسْتِقْبَالِ الصَّمَدَانِيِّ، وَالْإِقْبَالِ الْفَرْدَانِيِّ، الْمُشِيرِ إِلَى مَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الْمُعَبِّرِ عَنِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ ( «مَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا» ) الْمُومِئُ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] الْمُصَرِّحِ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ فِي مَقَامِ مُرِيدِ الْمَزِيدِ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، ثُمَّ الْوَارِدُ عَلَى لِسَانِهِ بِلِسَانِ الْجَمْعِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، ثُمَّ عَرَضَ عُلُوَّ مَقَامِهِ، وَحُصُولَ مَرَامِهِ عَلَى آبَائِهِ الْكِرَامِ، وَإِخْوَانِهِ الْعِظَامِ فِي تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الْفِخَامِ، فَيَا لَهَا مِنْ سَاعَةِ سَعَادَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ فَوْقَهَا زِيَادَةٌ! وَقِيلَ: كَانَ سُؤَالُهُمْ لِلِاسْتِعْجَابِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ لِلِاسْتِبْشَارِ بِعُرُوجِهِ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ مِنَ الْبَيِّنِ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ لَا يَتَرَقَّى إِلَى أَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ، وَيَأْمُرَ مَلَائِكَتَهُ بِإِصْعَادِهِ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يَصْعَدْ بِمَنْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ، وَلَا يُسْتَفْتَحْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ.
(قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (نَعَمْ) أَيْ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِالتَّقْرِيبِ لَدَيْهِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ (قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ) أَيْ: أَتَى اللَّهُ بِالنَّبِيِّ مَرْحَبًا أَيْ: مَوْضِعًا وَاسِعًا، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَمَرْحَبًا مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى جَاءَ أَهْلًا وَسَهْلًا لِقَوْلِهِ:(فَنِعْمَ الْمَجِيءُ) أَيْ: مَجِيئُهُ (جَاءَ) ، فِعْلٌ مَاضٍ وَقَعَ اسْتِئْنَافَ بَيَانٍ زَمَانًا أَوْ حَالًا وَالْمَجِيءُ فَاعِلُ نِعْمَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ أَيْ: جَاءَ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ مَجِيئُهُ، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ نِعْمَ الْمَجِيءُ الَّذِي جَاءَهُ، فَحُذِفَ الْمَوْصُولُ وَاكْتُفِيَ بِالصِّلَةِ أَوْ نِعْمَ الْمَجِيءُ مَجِيءٌ جَاءَ فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَاكْتُفِيَ بِالصِّفَةِ. (فَفُتِحَ) أَيْ: بَابُ السَّمَاءِ (فَلَمَّا خَلَصْتُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: وَصَلْتُ إِلَيْهَا وَدَخَلْتُ فِيهَا (فَإِذَا فِيهَا آدَمٌ،
فَقَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (هَذَا أَبُوكَ) أَيْ: جَدُّكَ أَيْ آدَمُ (فَسَلِّمْ عَلَيْهِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ عَابِرًا عَلَيْهِ وَكَانَ فِي حُكْمِ الْقَائِمِ، وَكَانُوا فِي حُكْمِ الْقُعُودِ، وَالْقَائِمُ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَاعِدِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ، وَكَيْفَ لَا، وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْلَى مَرْتَبَةً وَأَقْوَى حَالًا وَأَتَمَّ عُرُوجًا، (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ)، أَيْ: رَدًّا جَمِيلًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ حَقِيقَةً. (ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) : قِيلَ: وَبِهَا اقْتَصَرَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، لِأَنَّ الصَّلَاحَ صِفَةٌ تَشْمَلُ جَمِيعَ خَصَائِلِ الْخَيْرِ وَشَمَائِلِ الْكَرَمِ، وَلِذَا قِيلَ: الصَّالِحُ مَنْ يَقُومُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَلِذَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّالِحَ لِهَذَا الْمَقَامِ الْعَالِي، وَالصُّعُودِ الْمُتَعَالِي (ثُمَّ صَعِدَ بِي) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: طَلَعَ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلُ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ (حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ) : وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ مَسَافَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، (فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ) : فِي تَكْرَارِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَبْوَابِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ بُسِطَ لَهُ الزَّمَانُ وَطُوِيَ لَهُ الْمَكَانُ، وَاتَّسَعَ لَهُ اللِّسَانُ، وَانْتَشَرَ لَهُ الشَّأْنُ فِي ذَلِكَ الْآنِ بِعَوْنِ الرَّحْمَنِ. (فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مُحْتَمِلَةٌ أَنَّ تَكُونَ مِنْ أَصْلِ الْحَدِيثِ، وَأَنْ تَكُونَ مُدْرَجَةً مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، هَذَا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: الْمَرْئِيُّ كَأَنَّ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَشَكِّلَةٌ بِصُوَرِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، إِلَّا عِيسَى فَإِنَّهُ مَرْئِيٌّ بِشَخْصِهِ، وَسَبَقَهُ التُّورِبِشْتِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَرُؤْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَيْثُ أُبْهِمَ يُحْمَلُ عَلَى رُؤْيَةِ رُوحَانِيَّتِهِمُ الْمُمَثَّلَةِ بِصُوَرِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا غَيْرَ عِيسَى فَإِنَّ رُؤْيَتَهُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا. قُلْتُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَمُوتُونَ كَسَائِرِ الْأَحْيَاءِ، بَلْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ دَارِ الْفَنَاءِ إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْأَنْبَاءُ، وَأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
(قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (هَذَا يَحْيَى) : قَدَّمَهُ لِسَبْقِهِ فِي الْوُجُودِ (وَهَذَا عِيسَى) : خَتَمَ بِهِ لِأَنَّهُ أَتَمُّ فِي الشُّهُودِ وَخَاتِمَةُ أَرْبَابِ الْفَضْلِ وَالْجُودِ. (السَّلَامُ عَلَيْهِمَا) . أَيْ: جُمْلَةً أَوْ عَلَى حِدَةٍ (فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا)، أَيِ: السَّلَامَ عَلَيَّ بِأَحْسَنِ رَدٍّ (ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ) : لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وَلِمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ. (وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الِاسْتِعْلَاءُ إِلَّا بِالِاسْتِئْذَانِ الْمَلَكِيِّ وَالْفَتْحِ الْإِلَهِيِّ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ لَهُمْ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَحَالٌ مَفْهُومٌ، لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ) أَيْ: رَدًّا حَسَنًا (ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ. قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ) : وَهَذَا التَّكْرَارُ، وَالْبَيَانُ عَلَى وَجْهِ التَّكْثِيرِ يُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ:
أَعِدْ ذِكْرَ نُعْمَانَ لَنَا إِنَّ ذِكْرَهُ هُوَ الْمِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) : قَالَ عِيَاضٌ هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ أَهْلِ التَّارِيخِ: إِنَّ إِدْرِيسَ كَانَ مِنْ آبَائِهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ إِدْرِيسَ ذَلِكَ تَلَطُّفًا وَتَأَدُّبًا، وَهُوَ أَخٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ أَبًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِخْوَةٌ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. (ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ بَابُ السَّمَاءِ إِلَّا لِمَنْ يَكُونُ مَسْبُوقًا بِنَعْتِ الْعَلَاءِ وَوَصْفِ الْوَلَاءِ، وَأَمَّا الْأَعْدَاءُ فَلَا تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. ( «فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ: هَذَا هَارُونُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ» ) ، فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مُنِحَ لَهُ بِفَتْحِ بَابٍ مَا مُنِعَ مِنْ بَابٍ آخَرَ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ حِجَابٌ، بَلْ يُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ:
عَلَى بَابِكَ الْأَعْلَى مَدَدْتُ يَدَ الرَّجَا وَمَنْ جَاءَ هَذَا الْبَابَ لَا يَخْتَشِي الرَّدَى ( «فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ، مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ» ) أَيْ: مُوسَى أَوْ مَقَامِي (بَكَى)، أَيْ: مُوسَى تَأَسُّفًا عَلَى أُمَّتِهِ وَشَفَقَةً عَلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ، فَإِنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي الطَّاعَةِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ حَقَّ الْمُتَابَعَةِ مَعَ طُولِ مُدَّتِهِ وَامْتِدَادِ أَيَّامِ دَعْوَتِهِ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ انْتِفَاعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَعَ قِلَّةِ عُمُرِهِ وَقِصَرِ زَمَانِهِ، وَهَذَا يُظْهِرُ وَجْهَ قَوْلِهِ:( «قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أَمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي» ) ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ اسْتِقْصَارَ شَأْنِهِ، فَإِنَّ الْغُلَامَ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْقَوِيُّ الطَّرِيُّ الشَّابُّ، وَهَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ التُّورِبِشْتِيِّ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْغِبْطَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَهْلِ الْفِطْنَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّمَنِّي؛ فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي أَمْرِ الْمَحَلِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يَكُنْ بُكَاءُ مُوسَى عليه السلام حَسَدًا مَعَاذَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْحَسَدَ فِي ذَلِكَ الْعَالَمِ مَنْزُوعٌ مِنْ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ مِمَّنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، بَلْ كَانَ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَفْعُ الدَّرَجَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَنْقِيصِ أُجُورِهِمُ الْمَلْزُومِ لِنَقْصِ أَجْرِهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِثْلَ أَجْرِ كُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: غُلَامٌ فَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْقِيصِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظِيمِ كَرَمِهِ، إِذْ أَعْطَى لِمَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ السِّنِّ مَا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا قَبْلَهُ مِمَّنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ مُوسَى عليه السلام أَشَارَ إِلَى مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مِنِ اسْتِمْرَارِ الْقُوَّةِ فِي الْكُهُولَةِ إِلَى أَنْ دَخَلَ فِي أَوَّلِ الشَّيْخُوخَةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى بَدَنِهِ هِرَمٌ، وَلَا اعْتَرَى قُوَّتَهُ نَقْصٌ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهِ غُلَامًا أَنَّهُ حِينَ مُرُورِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَانَ فِي مُدَّةِ عُمُرِهِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَعْمَارِهِمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ مُرُورُ الْأَزْمِنَةِ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الْبَرْزَخِ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ غُلَامًا لِمَا حَصَلَ لَهُ الْمَرْتَبَةُ الْعَلِيَّةُ فِي قَلِيلٍ مِنْ مُدَّةِ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَإِنَّ الْمِعْرَاجَ عَلَى مَا سَبَقَ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِزَمَانٍ قَلِيلٍ إِذْ أَقْصَى مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ عُمُرُ الْغُلَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَبْلَهُ لَيْسَ مِنَ الْعُمُرِ التَّمَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ.
(ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ) : فِي إِطْبَاقِ كَلِمَتِهِمْ وَاتِّفَاقِ جُمْلَتِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَدْحِ الْمُطْلَقِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَلْسِنَةَ الْخَلْقِ أَقْلَامُ الْحَقِّ، وَلَيْسَ هُنَا فِي الْأُصُولِ لَفْظُ: فَفُتِحَ، فَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ لَفْظِ الرَّاوِي، أَوِ اكْتِفَاءٌ بِمَا سَبَقَ، وَدَلَالَةٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ) أَيْ: جَدُّكَ الْأَقْرَبُ (إِبْرَاهِيمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ) ، وَكَانَ نَبِيُّنَا عليه السلام كَانَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ التَّامِّ، وَمُشَاهَدَةِ الْمَرَامِ غَافِلًا عَنِ الْأَنَامِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سبحانه وتعالى بِقَوْلِهِ:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] حَتَّى احْتَاجَ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَقَامِ إِلَى تَعْلِيمِ جِبْرِيلَ بِالسَّلَامِ. (ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) .
قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ: اسْتَشْكَلَ رُؤْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ مَعَ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ مُسْتَقِرَّةٌ فِي قُبُورِهِمْ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَشَكَّلَتْ بِصُوَرِ أَجْسَادِهِمْ، أَوْ أُحْضِرَتْ أَجْسَادُهُمْ لِمُلَاقَاتِهِ أَيْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ تَشْرِيفًا لَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ اخْتِصَاصِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّمَاءِ الَّتِي لَقِيَهُ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الدَّرَجَاتِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: اخْتِصَاصُ آدَمَ بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَوَّلُ الْآبَاءِ، فَكَانَ فِي الْأَوْلَى أَوْلَى، وَعِيسَى بِالثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَنْبِيَاءِ عَهْدًا مِنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَيَلِيهِ يُوسُفُ لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ يُدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَتِهِ، وَإِدْرِيسُ فِي الرَّابِعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] وَالرَّابِعَةُ مِنَ السَّبْعِ وَسَطٌ مُعْتَدِلٌ، وَهَارُونُ فِي الْخَامِسَةِ لِقُرْبِهِ مِنْ أَخِيهِ، وَمُوسَى أَرْفَعُ مِنْهُ لِفَضْلِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِبْرَاهِيمُ فَوْقَهُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ نَبِيِّنَا. أَقُولُ: بَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِمَا يُنَاسِبُهُمْ مِنَ الْمَقَامِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُلِّ سَمَاءٍ إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الْمَشَاهِيرِ الْأَعْلَامِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِهِمْ عَنْ بَقِيَّةِ الْكِرَامِ.
(ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) : وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ، وَبَعْضِ النُّسَخِ: رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ الْآتِي: ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَيَّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْأَكْثَرُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ التَّاءِ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَعْدَهُ حَرْفُ الْجَرِّ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ: رُفِعَتْ لِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ التَّاءِ أَيْ: رُفِعَتِ السِّدْرَةُ لِي بِاللَّامِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِي، وَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الْمُرَادَ رَفَعُهُ إِلَيْهَا أَيِ: ارْتَقَى بِهِ وَأُظْهِرَتْ لَهُ، وَالرَّفْعُ إِلَى الشَّيْءِ يُطْلَقُ عَلَى التَّقَرُّبِ مِنْهُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرَّفْعُ تَقْرِيبُكَ الشَّيْءَ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] أَيْ: مُقَرَّبَةٍ لَهُمْ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى اسْتُبِينَتْ لَهُ بِنَعْرَتِهَا كُلَّ الِاسْتِبَانَةِ، حَتَّى اطَّلَعَ عَلَيْهَا كُلَّ الِاطِّلَاعِ بِمَثَابَةِ الشَّيْءِ الْمُقَرَّبِ إِلَيْهِ، وَفِي مَعْنَاهُ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَرُفِعَ لِي بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: سُمِّيَتْ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى لِأَنَّ عِلْمَ الْمَلَائِكَةِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَلَمْ يُجَاوِزْهَا أَحَدٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا وَمَا يَصْعَدُ مِنْ تَحْتِهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تبارك وتعالى. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَإِضَافَتُهَا إِلَى الْمُنْتَهَى لِأَنَّهَا مَكَانٌ يَنْتَهِي دُونَهُ أَعْمَالُ الْعِبَادِ وَعُلُومُ الْخَلَائِقِ، وَلَا تَجَاوُزَ لِلْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ مِنْهَا إِلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَأَصْلُ سَاقِهَا فِي السَّادِسَةِ.
(فَإِذَا نَبِقُهَا) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُسْكَنُ أَيْ ثَمَرُهَا مِنْ كِبَرِهِ الدَّالِّ عَلَى كِبَرِهَا (مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قُلَّةٍ بِالضَّمِّ وَهِيَ إِنَاءٌ لِلْعَرَبِ كَالْجَرَّةِ الْكَبِيرَةِ، وَهَجَرُ اسْمُ بَلَدٍ يَنْصَرِفُ وَلَا يَنْصَرِفُ، وَلَمَّا كَانَتِ الثَّمَرَةُ فِي قِشْرِهَا كَالْمَطْعُومِ فِي ظَرْفِهِ ضُرِبَ مَثَلُ ثَمَرَتِهَا بِأَكْبَرِ مَا كَانُوا يَتَعَارَفُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنَ الظُّرُوفِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: هَجَرٌ مُحَرَّكَةً بَلَدُ بِالْيَمَنِ مُذَكَّرٌ مَصْرُوفٌ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَيُمْنَعُ، وَقَرْيَةٌ كَانَتْ قُرْبَ الْمَدِينَةِ يُنْسَبُ إِلَيْهَا الْقِلَالُ وَيُنْسَبُ إِلَى هَجَرَ الْيَمَنِ. (وَإِذَا وَرَقُهَا) أَيْ: أَوْرَاقُهَا فِي الْكِبَرِ (مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ) ، بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَاللَّامِ جَمْعُ الْفِيلِ، مِثْلُ الدِّيَكَةِ جَمْعُ الدِّيكِ، وَالْآذَانُ بِالْمَدِّ جَمْعُ الْأُذُنِ.
(قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (هَذَا) أَيْ: هَذَا الْمَقَامُ أَوْ هَذَا الشَّجَرُ (سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ) أَيْ: ظَاهِرَةٌ. وَقَالَ شَارِحٌ: إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ أَيْ: فَإِذَا أَنَا بِأَرْبَعَةِ أَنْهَارٍ (نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ قُلْتُ: مَا هَذَانِ) أَيِ: النَّوْعَانِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19](يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ)، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْكَوْثَرُ وَلِلْآخَرِ نَهْرُ الرَّحْمَةِ، كَمَا فِي خَبَرٍ، وَإِنَّمَا قَالَ بَاطِنَانِ لِخَفَاءِ أَمْرِهِمَا فَلَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَى وَصْفِهِمَا، أَوْ لِأَنَّهُمَا مَخْفِيَّانِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، فَلَا يُرَيَانِ حَتَّى يَصُبَّا فِي الْجَنَّةِ، (وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ)، قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فِي الْأَرْضِ لِخُرُوجِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ مِنْ أَصْلِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا مَا عُرِفَا بَيْنَ النَّاسِ، وَيَكُونُ مَاؤُهُمَا مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ السِّدْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ كَيْفِيَّتُهُ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ فِي الِاسْمِ بِأَنْ شَبَّهَهُمَا بِنَهْرَيِ الْجَنَّةِ فِي الْهَضْمِ وَالْعُذُوبَةِ، أَوْ مِنْ بَابِ تَوَافُقِ الْأَسْمَاءِ بِأَنْ يَكُونَ نَهْرَيِ الْجَنَّةِ مُوَافِقَيْنِ لِاسْمَيْ نَهْرَيِ الدُّنْيَا. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَاطِنَانِ هُوَ السَّلْسَبِيلُ وَالْكَوْثَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النِّيلَ وَالْفُرَاتَ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِهَا، ثُمَّ يَسِيرَانِ حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يَخْرُجَانِ مِنَ الْأَرْضِ وَيَسِيرَانِ فِيهَا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُهُ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
(ثُمَّ رُفِعَ لِي) أَيْ: قُرِّبَ وَأُظْهِرَ لِأَجْلِي (الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ) ، وَهُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ حِيَالَ الْكَعْبَةِ وَحُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ (ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ)، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّبَنَ لَمَّا كَانَ ذَا خُلُوصٍ وَبَيَاضٍ، وَأَوَّلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَرْبِيَةُ الْمَوْلُودِ صُوَرٌ بِهِ فِي الْعَالَمِ الْمُقَدَّسِ مِثْلَ الْهِدَايَةِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهِ الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ. أَوَّلُهَا انْقِيَادُ الشَّرْعِ، وَآخِرُهَا الْوُصُولُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. (فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ) : أَنَّثَ مَرْجِعَ اللَّبَنِ مَعَ أَنَّهُ مُذَكَّرٌ مُرَاعَاةً لِلْخَبَرِ (أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ)، أَيْ: عَلَيْهَا أَوْ كَذَلِكَ (ثُمَّ) : يَعْنِي بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى مَقَامِ: (دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)(فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ) : وَفِي الْحَدِيثِ الْآتِي: عَلَى أُمَّتِي وَلَا مُنَافَاةَ. (خَمْسِينَ صَلَاةً) : بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَقَوْلُهُ:(كُلَّ يَوْمٍ)، أَيْ: وَلَيْلَةٍ ظَرْفٌ (فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى)، أَيْ: بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ، (فَقَالَ) أَيْ: مُوسَى (بِمَا أُمِرْتَ) : مِنَ الْعِبَادَةِ (قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً) أَيْ: أَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ كَانَتْ كُلُّ صَلَاةٍ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ عَلَيَّ صَلَاةٌ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ (كُلَّ يَوْمٍ) . يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهُ بِالنَّهَارِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ لِلظُّهُورِ وَالِاسْتِغْنَاءِ.
(قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ) : قَيَّدَ بِالْأُمَّةِ لِأَنَّ قُوَّةَ الْأَنْبِيَاءِ وَعِصْمَتَهُمْ تَمْنَعُهُمْ عَنِ الْمُخَالَفَةِ، وَتُعِينُهُمْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الطَّاعَةِ، وَلَوْ عَلَى أَقْصَى غَايَةِ الْمَشَقَّةِ وَالطَّاقَةِ، وَالْمَعْنَى لَا تَقْدِرُ أُمَّتُكَ عَادَةً أَوْ سُهُولَةً لِضَعْفِهِمْ أَوْ كَسَلِهِمْ. (خَمْسِينَ صَلَاةً) أَيْ: أَدَاءَهَا (كُلَّ يَوْمٍ)، ثُمَّ بَيَّنَ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِمْ بِقَوْلِهِ:(وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ) أَيْ: زَاوَلْتُ وَمَارَسْتُ الْأَقْوِيَاءَ مِنَ النَّاسِ (قَبْلَكَ)، يَعْنِي: وَلَقِيتُ الشِّدَّةَ فِيمَا أَدَّتْ مِنْهُمْ، (وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ: بِالْخُصُوصِ (أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ) أَيْ: وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ أُمَّتُكَ؟ (فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ)
فَاسْأَلْهُ) : أَمْرٌ مِنْ سَأَلَ مَهْمُوزًا أَوْ مُبْدَلًا أَوْ مَنْقُولًا نُسْخَتَانِ مَقْبُولَتَانِ وَقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ أَيْ: فَاطْلُبِ (التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ) أَيْ: إِلَى رَبِّي (فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا) : وَهُوَ خُمُسُ الْأَصْلِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ وَضَعَ عَنْهُ خَمْسًا، وَكَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا ثُمَّ صَارَ عَشْرًا، أَوْ عَبَّرَ عَنِ الْخَمْسِ بِالْعَشَرِ اقْتِصَارًا (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ)، أَيْ: مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى (فَرَجَعْتُ) أَيْ: ثَانِيًا (فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ) أَيْ: ثَالِثًا (فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ مِثْلَهُ. فَرَجَعْتُ) أَيْ: رَابِعًا (فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ) أَيْ: خَامِسًا (فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ) أَيْ: وَلَيْلَةٍ، وَلَعَلَّ الِاكْتِفَاءَ فِيهِ لِلتَّغْلِيبِ حَيْثُ أَكْثَرُ الصَّلَوَاتِ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّ اللَّيْلَ تَابِعٌ لِمَا قَبْلَهُ كَمَا فِي لَيْلَةِ عَرَفَةَ وَلَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ، (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ) أَيْ: أَكْثَرَهُمْ (لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ) أَيْ: مُوَاظَبَتَهَا وَمُدَاوَمَتَهَا وَمُحَافَظَتَهَا (كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ) أَيْ: وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا مَا دُونَ ذَلِكَ (فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ)، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مُرَاجَعَةُ اللَّهِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ إِنَّمَا جَازَتْ مِنْ رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُمَا عَرَفَا أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ غَيْرُ وَاجِبٍ قَطْعًا لِمَا صَدَرَتْ مِنْهُمَا الْمُرَاجَعَةُ، فَصُدُورُ الْمُرَاجِعَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ قَطْعًا، لِأَنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا قَطْعًا لَا يَقْبَلُ التَّخْفِيفَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَأَقُولُ: مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى سُؤَالِ التَّحْفِيفِ قَطْعًا، فَالصَّحِيحُ مَا قِيلَ أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ فَرَضَ خَمْسِينَ، ثُمَّ رَحِمَ عِبَادَهُ وَنَسَخَهَا بِخَمْسٍ كَآيَةِ الرَّضَاعِ عِنْدَ بَعْضٍ، وَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عَلَى قَوْلٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عْلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، كَمَا قَالَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ. ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ.
(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (سَأَلْتُ رَبِّي) أَيِ: التَّخْفِيفَ (حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ) أَيْ: مِنْ كَثْرَتِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، فَهُمَا لُغَتَانِ، أَوِ الثَّانِيَةُ تَخْفِيفٌ لِلْأَوْلَى بِالنَّقْلِ وَالْحَذْفِ، وَالْمَعْنَى فَلَا أَرْجِعُ لِطَلَبِ التَّخْفِيفِ، وَإِنْ كَانَ الظَّنُّ فِي الْأُمَّةِ أَنْ لَا يَسْتَطِيعُوا دَوَامَ الْمُحَافِظَةِ، (وَلَكِنِّي أَرْضَى) أَيْ: بِمَا قَضَى رَبِّي وَقَسَمَ (وَأُسَلِّمُ) أَيْ: أَمْرِي وَأَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَأَنْقَادُ بِمَا حَكَمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: حَقٌّ، لَكِنْ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ كَلَامَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ مَعْنًى فَمَا وَجْهُهُ هَا هُنَا؟ قُلْتُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ هُنَا حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ فَلَا أَرْجِعُ، فَإِنِّي إِذَا رَجَعْتُ كُنْتُ غَيْرَ رَاضٍ وَلَا مُسَلِّمٍ، وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ غَيْرُ نَافِيَةٍ لِلرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، وَإِلَّا لَمَا رَضِيَ بِهَا مُوسَى وَنَبِيُّنَا عَلَيْهِمَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَكْمَلُ التَّسْلِيمِ، وَتَوْضِيحُهُ؛ أَنَّ سُؤَالَ الْعَافِيَةِ وَدَفْعِ الْبَلَاءِ وَطَلَبَ الرِّزْقِ وَدُعَاءَ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ كَمَا صَدَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لَا يُنَافِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ أَبَدًا، وَلَا التَّسْلِيمَ لِمَا فِي الْأَزَلِ أَبَدًا.
(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا جَاوَزْتُ)، أَيْ: مُوسَى وَتَرَكْتُ الْمُرَاجَعَةَ (نَادَى مُنَادٍ) أَيْ: حَاكِيًا كَلَامَ رَبِّي (أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي) أَيْ: أَحْكَمْتُهَا وَأَنْفَدْتُهَا أَوَّلًا. (وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي) . أَيْ: ثَانِيًا وَسَيَأْتِي لِهَذَا تَتِمَّةٌ مَعْرِفَتُهَا مُهِمَّةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
5863 -
وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَقَعُ حَافِرُهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ) . قَالَ: (ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرَئِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرَئِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ) وَسَاقَ مِثْلَ مَعْنَاهُ قَالَ: (فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ) . وَقَالَ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ: فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ، إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ) . وَلَمْ يَذْكُرْ بُكَاءَ مُوسَى، وَقَالَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ:(فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، إِذَا بِهَا كَالْقِلَالِ، فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشَّى تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، وَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ ; فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنِّي بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ قَالَ: (فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ) . قَالَ: (فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى، حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ لَهُ شَيْئًا، فَإِنَّ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) . قَالَ: (فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَقُلْتُ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5863 -
(وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ قَبْلَ النُّونِ الْأُولَى، تَابِعِيٌّ مِنْ أَعْلَامِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَثِقَاتِهِمْ، اشْتُهِرَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَصَحِبَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ. (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(أَتَيْتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ)، أَيْ وَسُلْطَانِيٌّ لِقَوْلِهِ:(فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَقَعُ حَافِرُهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) ، أَيْ نَظَرِهِ (فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ) ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَكَسْرِ الدَّالِ، وَيُرْوَى بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمَفْتُوحَةِ (فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَيُفْتَحُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَحُكِيَ فَتْحُهَا (الَّتِي يَرْبُطُ) : بِالتَّذْكِيرِ وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُضَمُّ، فَفِي الْقَامُوسِ: رَبَطَهُ يَرْبِطُهُ وَيَرْبُطُهُ شَدَّهُ، وَفِي الصِّحَاحِ: رَبَطْتُ الشَّيْءَ أَرْبِطُهُ وَأَرْبُطُهُ أَيْضًا عَنِ الْأَخْفَشِ انْتَهَى. فَعُلِمَ أَنَّ الضَّمَّ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَلِهَذَا أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى الْكَسْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال: 11] ثُمَّ قَوْلُهُ: (بِهَا) : بِضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْحَلْقَةُ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ، كَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ أَعَادَهُ عَلَى مَعْنَى الْحَلْقَةِ، وَهُوَ الشَّيْءُ أَيِ الَّذِي يَرْبِطُ بِهِ، وَالْمَعْنَى بِالشَّيْءِ الَّذِي يَرْبِطُ بِهِ (الْأَنْبِيَاءُ) . أَيْ بُرَاقَهُمْ، أَوْ هَذَا الْبُرَاقَ عَلَى خِلَافٍ تَقَدَّمَ، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمَرْوِيُّ يَرْبُطُ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى اتِّحَادِ الْبُرَاقِ.
(قَالَ: (ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ) أَيِ: الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَهَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْإِسْرَاءِ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَإِنَّمَا خِلَافُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى السَّمَاءِ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ تَبَعًا لِكَلَامِ الْحُكَمَاءِ اللِّئَامِ، (فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ) أَيْ: تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي اقْتَدَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَصَارَ فِيهَا إِمَامَ الْأَصْفِيَاءِ (ثُمَّ خَرَجْتُ) أَيْ: مِنَ الْمَسْجِدِ (فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ) وَلَعَلَّ تَرْكَ الْعَسَلِ مِنِ اقْتِصَارِ الرَّاوِي (فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ)، أَيْ لِمَا سَبَقَ (فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ) ، أَيِ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَهُوَ:{الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] كَمَا قَالَ تَعَالَى. وَأَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: ( «كُلُّ مَوْلُودٍ يُوَلَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» ) انْتِقَالًا مِمَّا يُفْطَرُ بِهِ الْمَوْلُودُ، وَيُغَذَّى مِنَ اللَّبَنِ الْمَعْهُودِ. (ثُمَّ عَرَجَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَتَبِعَهُ السُّيُوطِيُّ فَالْفَاعِلُ جِبْرِيلُ أَوِ الرَّبُّ الْجَلِيلُ لِقَوْلِهِ:(بِنَا) أَيْ: بِي وَبِجِبْرِيلَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:(بِنَا) بِنَاءً عَلَى التَّعْظِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: صَعِدَ بِنَا (إِلَى السَّمَاءِ وَسَاقَ) أَيْ: وَذَكَرَ ثَابِتٌ الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسٍ (مِثْلَ مَعْنَاهُ) . أَيْ نَحْوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ.
(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عليه السلام أَوْ ثَابِتٌ أَوْ أَنَسٌ مَرْفُوعًا (فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي) أَيْ: قَالَ لِي بَعْدَ رَدِّ سَلَامِي: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. (وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ غَيْرَ مُبَيَّنٍ، (وَقَالَ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ:(فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ إِذَا هُوَ) : بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى بَدَلِ
الِاشْتِمَالِ (قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ)، قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: نِصْفَ الْحُسْنِ. أَقُولُ: وَهُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى نِصْفَ جِنْسِ الْحُسْنِ مُطْلَقًا، أَوْ نِصْفَ حُسْنِ جَمِيعِ أَهْلِ زَمَانِهِ. وَقِيلَ بَعْضُهُ لِأَنَّ الشَّطْرَ كَمَا يُرَادُ بِهِ نِصْفُ الشَّيْءِ قَدْ يُرَادُ بِهِ بَعْضُهُ مُطْلَقًا. أَقُولُ: لَكِنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ مَقَامُ الْمَدْحِ وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضٌ زَائِدٌ عَلَى حُسْنِ غَيْرِهِ، وَهُوَ إِمَّا مُطْلَقٌ فَيُحْمَلُ عَلَى زِيَادَةِ الْحُسْنِ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَلَاحَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِئَلَّا يَشْكَلَ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا مُقَيَّدٌ بِنِسْبَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَكَانَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ أَغْرَبَ فِي الْمَبْنَى حَيْثُ عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْجِهَةُ أَيْضًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] أَيْ إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَمَسْحَةٍ مِنْهُ، كَمَا قَالَ: عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةُ مُلْكٍ وَمَسْحَةُ جَمَالٍ. أَيْ: أَثَرٌ ظَاهِرٌ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْمَدْحِ اهـ. وَغَرَابَتُهُ مِمَّا لَا تَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى، هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ مِنْ مَشَايِخِنَا الْمُعْتَبَرِينَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَحْسَنَ مِنْ يُوسُفَ عليه السلام إِذْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ صُورَتَهُ كَانَ يَقَعُ مِنْ ضَوْئِهَا عَلَى جُدْرَانِ مَا يَصِيرُ كَالْمِرْآةِ يَحْكِي مَا يُقَابِلُهُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ صُورَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَتَرَ عَنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ الْجَمَالِ الْبَاهِرِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَرَزَ لَهُمْ لَمْ يُطِيقُوا النَّظَرَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَأَمَّا جَمَالُ يُوسُفَ عليه السلام فَلَمْ يُسْتَرْ مِنْهُ شَيْءٌ اهـ.
وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ زِيَادَةَ الْحُسْنِ الصُّورِيِّ لِيُوسُفَ عليه الصلاة والسلام، كَمَا أَنَّ زِيَادَةَ الْحُسْنِ الْمَعْنَوِيِّ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي أَصْلِ الْحُسْنِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: الْمَعْنَى أُعْطِيَ شَطْرَ حُسْنِي (فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ) . وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيْ: ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (بُكَاءَ مُوسَى، وَقَالَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ) أَيْ: زِيَادَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ (فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا) : بِكَسْرِ النُّونِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ مُطَابِقًا لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِهِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ مَرْفُوعٌ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ وَقَوْلُهُ:(ظَهْرَهُ) : مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِكِلْتَا النُّسْخَتَيْنِ وَقَوْلُهُ: (إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ)، مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْنَدِ (وَإِذَا هُوَ) أَيِ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ (يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ)، أَيْ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ أَيْ: يَدْخُلُونَ فِيهِ ذَاهِبِينَ غَيْرَ عَائِدِينَ إِلَيْهِ أَبَدًا لِكَثْرَتِهِمْ (ثُمَّ ذَهَبَ بِي) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ لِلْمَفْعُولِ أَيِ انْطَلَقَ بِي (إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى) ، هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُصُولِ السِّدْرَةُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَفِي الرِّوَايَاتِ بَعْدَ هَذَا سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، (فَإِذَا أَوْرَاقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، فَلَمَّا غَشِيَهَا) أَيِ: السِّدْرَةَ، وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: جَاءَهَا وَنَزَلَ عَلَيْهَا (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) : بَيَانِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ أَوْ تَعْلِيلِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ (مَا غَشَّى) أَيْ: غَشِيَهَا إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم: 54] فَقِيلَ: أَنْوَارُ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ فَرَاشُ الذَّهَبِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَعَلَّهُ مِثْلَ مَا يَغْشَى الْأَنْوَارَ الَّتِي تَنْبَعِثُ مِنْهَا، وَيَتَسَاقَطُ عَلَى مَوَاقِعِهَا بِالْفَرَاشِ، وَجَعَلَهَا مِنَ الذَّهَبِ لِصِفَاتِهَا وَإِضَاءَتِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ أَلْوَانٌ لَا يَدْرِي مَا هِيَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (تَغَيَّرَتْ) أَيِ: السِّدْرَةُ عَنْ حَالَتِهَا الْأُولَى إِلَى مَرْتَبَتِهَا الْأَعْلَى وَهُوَ جَوَابُ لَمَّا. (فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ) أَيْ: مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَسُكَّانِ أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ (يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ يَصِفُهَا (مِنْ حُسْنِهَا) : تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ: مِنْ كَمَالِ جَمَالِهَا وَعَظَمَةِ جَلَالِهَا (وَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى) : فِي إِبْهَامِ الْمُوصَلَةِ أَوِ الْمَوْصُوفَةِ إِيمَاءً إِلَى تَعْظِيمِ الْمُوحِي، وَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يُحْكَى وَلَا يُرْوَى، (فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى) أَيْ: مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ (فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً) : وَزِيدَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَإِنِّي بَلَوْتُ) أَيْ: جَرَّبْتُ (بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ) أَيْ: أَخْبَرْتُهُمْ وَامْتَحَنَتْهُمْ.
(قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ! خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي) أَيْ: عَنْهُمْ وَعَدَلَ إِلَى عَلَى لِتَضْمِينِ التَّهْوِينِ (فَحَطَّ عَنِّي) أَيْ: فَوَضَعَ عَنْ جِهَتِي وَلِأَجْلِي عَنْ أُمَّتِي (خَمْسًا) أَيْ: خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَلَعَلَّ التَّقْدِيرَ خَمْسًا فَخَمْسًا، فَيُوَافِقُ رِوَايَةَ عَشْرًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ رِوَايَةَ عَشْرًا اقْتِصَارٌ مِنْ رِوَايَةِ خَمْسًا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ) أَيِ: الْمِقْدَارُ الْبَاقِي أَيْضًا (فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ) . قَالَ: (فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى) : قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ بَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي نَاجَيْتُهُ أَوَّلًا فَنَاجَيْتُهُ ثَانِيًا، وَبَيْنَ مَوْضِعِ مُلَاقَاةِ مُوسَى أَوَّلًا (حَتَّى قَالَ) أَيْ: سبحانه وتعالى: (يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ) أَيْ: مُحَتَّمَةٌ (كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِيهِ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ كَقَوْلِهِ:
هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتَهَا تَتَحَمَّلُ (لِكُلِّ صَلَاةٍ) أَيْ: حَقِيقَةً وَاخْتِيَارًا (عَشْرًا) أَيْ: ثَوَابُ صَلَوَاتِ أَيْ: حُكْمًا وَاعْتِبَارًا (فَذَلِكَ) أَيْ فَمَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ (خَمْسُونَ صَلَاةً)، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِبَيَانِ قَضِيَّةٍ أُخْرَى وَعَطِيَّةٍ أُخْرَى مُتَضَمِّنَةٍ لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُنْدَرِجَةِ فِي الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ حَيْثُ قَالَ:(مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ) أَيْ: عَزَمَ عَلَى فِعْلِهَا (فَلَمْ يَعْمَلْهَا) : لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عُذْرٍ عُرْفِيٍّ (كُتِبَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: كُتِبَ لَهُ هَمُّ الْحَسَنَةِ وَالتَّأْنِيثُ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْحَسَنَةِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ (لَهُ) أَيْ: لِعَامِلِهَا (حَسَنَةً)، النَّصْبُ أَيْ ثَوَابُ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كُتِبَتْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَفْعُولِ وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: بِحَسَنَةٍ. وَحَسَنَةً: وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ أَيْ: كُتِبَتِ الْحَسَنَةُ كِتَابَةً وَاحِدَةً، وَكَذَا عَشْرًا وَكَذَا شَيْئًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: حَسَنَةٌ وَعَشْرٌ مَرْفُوعَانِ وَهُوَ غَلَطٌ مِنَ النَّاسِخِ. أَقُولُ: لَعَلَّهُ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الدِّرَايَةِ فَلَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كُتِبَتْ لَهُ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُجْمَلَةٌ، وَقَوْلُهُ: حَسَنَةٌ بِتَقْدِيرِ هِيَ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ
مُفَصِّلَةٌ (فَإِنْ عَمِلَهَا) أَيْ: بَعْدَمَا هَمَّ بِهَا وَاهْتَمَّ بِشَأْنِهَا (كُتِبَتْ) أَيْ: تِلْكَ الْحَسَنَةُ الْمَهْمُومَةُ وَالْمَعْمُولَةُ (لَهُ عَشْرًا) أَيْ: ثَوَابُ عَشْرِ حَسَنَاتٍ لِانْضِمَامِ قَصْدِ الْقَلْبِ إِلَى مُبَاشَرَةِ عَمَلِ الْقَالَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَهَذَا أَقَلُّ التَّضَاعُفِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ (وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ) أَيْ: وَلَمْ يُصَمِّمْ عَلَى فِعْلِهَا (فَلَمْ يَعْمَلْهَا) أَيْ: فَتَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ أَوْ لِسَبَبٍ مُبَاحٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَرَكَهَا لِلَّهِ (لَمْ تُكْتَبْ) أَيْ: تِلْكَ السَّيِّئَةُ الْمَوْصُوفَةُ (لَهُ شَيْئًا) . أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى عَمَلِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً، وَإِنْ تَرَكَهَا لِغَرَضٍ فَاسِدٍ، فَتُكْتَبُ لَهُ سَيِّئَةً عَلَى مَا بَيَّنَهُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي الْإِحْيَاءِ، وَصَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، (فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (سَيِّئَةً وَاحِدَةً) . لِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَا تَتَضَاعَفُ بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مَثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا عَدْلٌ كَمَا أَنَّ التَّضَاعُفَ فَضْلٌ.
(قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (فَقُلْتُ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي) أَيْ: وَرَاجَعَتْهُ فِي أَمْرِ أُمَّتِي (حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5864 -
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فُرِجَ عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٌ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي. فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، إِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شَمَالِهِ بَكَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينَيْهِ ضَحِكَ. وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ) قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ» ) وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسٌ: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرْضُ اللَّهِ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي حَتَّى انْتُهِيَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5864 -
(وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ) ، أَيِ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي فُنُونِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ، سَمِعَ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: قَتَادَةُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، (عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ) أَيِ: الْغِفَارِيِّ مِنْ أَعْلَامِ الصَّحَابَةِ وَزُهَّادِهِمْ وَالْمُهَاجِرِينَ، أَسْلَمْ قَدِيمًا بِمَكَّةَ، وَيُقَالُ: كَانَ خَامِسًا فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَتَعَبَّدُ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ. (يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فُرِجَ) : بِضَمِّ فَاءٍ وَتَخْفِيفِ رَاءٍ وَتَشْدِيدٍ مِنَ الْفَرَجِ وَالتَّفْرِيجُ بِمَعْنَى الشَّقِّ وَالْكَشْفِ أَيْ: أُزِيلَ (عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى أَنَسٌ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ، أَوْ فِي الْحِجْرِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: فُرِجَ عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي؟ قُلْنَا: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِعْرَاجَانِ: أَحَدُهُمَا حَالَ الْيَقَظَةِ عَلَى مَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالثَّانِي فِي النَّوْمِ، وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ بِبَيْتِي بَيْتِ أَمِّ هَانِئٍ إِذْ رُوِيَ أَيْضًا الْإِسْرَاءُ مِنْهُ، فَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَارَةً لِأَنَّهُ سَاكِنُهُ، وَإِلَيْهَا أُخْرَى لِأَنَّهَا صَاحِبَتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَامَ عِنْدَ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ، وَبَيْتُهَا عِنْدَ شِعْبَ أَبِي طَالِبٍ، فَفُرِجَ سَقْفُ بَيْتِهَا، وَأَضَافَ الْبَيْتَ إِلَى نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ يَسْكُنُهُ، فَنَزَلَ فِيهِ الْمَلَكُ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مُضْطَجِعًا وَبِهِ أَثَرُ النُّعَاسِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنَ الْحَطِيمِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْكَبَهُ الْبُرَاقَ ثُمَّ قَوْلُهُ:(وَأَنَا بِمَكَّةَ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْقَضِيَّةَ مَكِّيَّةٌ لَا مَدَنِيَّةٌ (فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي) ، أَيْ شَقَّهُ (ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ.
بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٌ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ) أَيْ: صَبَّ مَا فِي الطَّسْتِ (فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ) ، أَيْ غَطَّى صَدْرِي وَلَأَمَ شَقَّهُ، (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا جِئْتُ) أَيْ: وَصَلْتُ (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مُحَمَّدٌ! فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا)، أَيْ طَلَعْنَاهَا (إِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ) : جَمْعُ سَوَادٍ كَأَزْمِنَةٍ جَمْعُ زَمَانٍ بِمَعْنَى الشَّخْصِ، لِأَنَّهُ يُرَى أَنَّهُ أَسْوَدٌ مِنْ بَعِيدٍ أَيْ: أَشْخَاصٌ مِنْ أَوْلَادِهِ (وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ إِذَا) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ. فَإِذَا (نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ جَانِبَ أَيَمْنِهِ (ضَحِكَ)، أَيْ لِمَا يَرَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سُرُورِهِ وَيُمْنِهِ (وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى) أَيْ: لِمَا يُشَاهِدُ مِمَّا يُشْعِرُ بِشُرُورِهِ وَشُؤْمِهِ (فَقَالَ) أَيْ: بَعْدَ السَّلَامِ وَرَدِّهِ (مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟) قِيلَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ مَرْحَبًا، وَرِوَايَةُ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَهِيَ الْمُعْتَمَدَةُ، فَتُحْمَلُ هَذِهِ عَلَيْهَا إِذْ لَيْسَ فِي هَذِهِ أَدَاةُ تَمْثِيلٍ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ كَذَا فِي السُّؤَالِ إِنَّمَا هُوَ الْأَسْوِدَةُ، وَأُعِيدَ ذِكْرُ آدَمَ فِي الْجَوَابِ لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ مَقْصُودَ الْخِطَابِ، فَصَحَّ كَلَامُ الرَّاوِي (قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (هَذَا آدَمُ وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَعَنْ شِمَالِهِ (نَسَمُ بَنِيهِ) ، بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ جَمْعُ نَسَمَةٍ، وَهِيَ الرُّوحُ أَوِ النَّفْسُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّسَمِ وَهُوَ النَّفْسُ، وَمِنْهُ نَسِيمُ الصِّبَا أَيْ: أَرْوَاحُ أَوْلَادِهِ السَّابِقِينَ، أَوْ مَعَ شُمُولِ اللَّاحِقِينَ، وَذَكَرَ الْبَنِينَ لِلتَّغْلِيبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26](فَأَهْلُ الْيَمِينِ) أَيِ: الْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ، (مِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ جَمِيعِ الْأَسْوِدَةُ (أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فِإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ. وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ (بَكَى) .
قَالَ الْقَاضِي: قَدْ جَاءَ أَنَّ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ مَحْبُوسَةٌ فِي سِجِّينٍ وَأَرْوَاحَ الْأَبْرَارِ مُنَعَّمَةٌ فِي عِلِّيِّينَ، فَكَيْفَ تَكُونُ مُجْتَمِعَةً فِي السَّمَاءِ؟ وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا تُعْرَضُ عَلَى آدَمَ أَوْقَاتًا، فَصَادَفَ وَقْتُ عَرْضِهَا مُرُورَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِأَنَّ الْجَنَّةَ كَانَتْ فِي جِهَةِ يَمِينِ آدَمَ، وَالنَّارَ فِي جِهَةِ شِمَالِهِ، وَكَانَ يُكْشَفُ لَهُ عَنْهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّسَمَ الْمَرْئِيَّةَ هِيَ الَّتِي لَمْ تَدْخُلِ الْأَجْسَادَ بَعْدُ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْأَجْسَادِ، وَمُسْتَقَرُّهَا عَنْ يَمِينِ آدَمَ وَشِمَالِهِ، وَقَدْ أُعْلِمَ بِمَا سَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ فَقَوْلُهُ: نَسَمُ بَنِيهِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَتَّى عَرَجَ بِي) : ضَبْطٌ لِلْفَاعِلِ، وَقِيلَ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ (إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ) : وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ هَكَذَا ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ (فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ. فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ) . أَيْ مِثْلَ مَقُولِ الْخَازِنِ السَّابِقِ.
(قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَبُو ذَرٍّ مَرْفُوعًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ (أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام (وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ) ، وَالظَّاهِرُ وُجُودُ هَارُونَ، وَيَحْيَى، وَيُوسُفَ، وَيُحْتَمَلُ إِسْقَاطُهُمْ مِنَ الرِّوَايَةِ. (وَلَمْ يُثْبِتْ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْإِثْبَاتِ أَيْ: لَمْ يُبَيِّنْ أَبُو ذَرٍّ أَوِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا) ، هَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ (وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ) . هَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ، وَالثَّابِتُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ غَيْرُهَا، وَهُوَ أَنَّهُ فِي السَّابِعَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: بِتَعَدُّدِ الْمِعْرَاجِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِلَّا فَالْأَرْجَحُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ فِيهَا: إِنَّهُ رَآهُ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَهُوَ فِي السَّابِعَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَلِأَنَّهُ قَالَ هُنَا: إِنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، فَرِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَ أَرْجَحُ.
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) أَيِ: الزُّهْرِيُّ (فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَذَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، رَوَى عَنْ أَبِي حَبَّةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ، ثُمَّ أَبُوهُ أَيْضًا مِنَ الصَّحَابَةِ حَيْثُ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَبُوهُ أَنْصَارِيٌّ، وُلِدَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ عَشْرٍ بِنَجْرَانَ، وَكَانَ أَبُوهُ عَامِلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَجْرَانَ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ فَقِيهًا، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ. قُتِلَ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَفِي الْمَصَابِيحِ بِالْيَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ هُنَا، وَفِي ضَبْطِهِ وَاسْمِهِ اخْتِلَافٌ. قِيلَ: حَيَّةُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ، وَقِيلَ بِالنُّونِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، فَقِيلَ: عَامِرٌ، وَقِيلَ مَالِكٌ، وَقِيلَ ثَابِتٌ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ثَابِتُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ الْبَدْرِيُّ، وَفِي كُنْيَتِهِ وَاسْمِهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَذَكَرَهُ بِكُنْيَتِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَحَبَّةُ بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ الْأَكْثَرُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ. (كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ) أَيْ: عَلَوْتُ (لِمُسْتَوًى) : بِفَتْحِ الْوَاوِ مُنَوَّنًا وَهُوَ الْمُسْتَقَرُّ وَمَوْضِعُ الِاسْتِعْلَاءِ، مِنِ اسْتَوَى الشَّيْءَ اسْتَعْلَاهُ، وَثُبُوتُ الْيَاءِ بَعْدَ الْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صِيغَةُ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعِلَّةِ أَيْ: عَلَوْتُ لِاسْتِعْلَاءِ مُسْتَوًى، أَوْ لِرُؤْيَتِهِ أَوْ لِمُطَالَعَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَصْدَرِ، أَيْ: ظَهَرْتُ ظُهُورَ الْمُسْتَوِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى إِلَى. قَالَ تَعَالَى:{أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] أَيْ إِلَيْهَا. وَقِيلَ بِمَعْنَى (عَلَى)(أَسْمَعُ فِيهِ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ (صَرِيفَ الْأَقْلَامِ) . أَيْ صَوْتَهَا عِنْدَ الْكِتَابَةِ، قِيلَ: هُوَ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَرَيَانِهَا بِالْمَقَادِيرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْبَكْرَةُ عِنْدَ الِاسْتِعْلَاءِ يُقَالُ: صَرَفَتِ الْبَكْرَةُ تَصْرِفُ صَرِيفًا، وَالْمَعْنَى أَنِّي أَقَمْتُ مَقَامًا بَلَغْتُ فِيهِ مِنْ رِفْعَةِ الْمَحَلِّ إِلَى حَيْثُ اطَّلَعْتُ عَلَى الْكَوَائِنِ، وَظَهَرَ لِي مَا يُرَادُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ فِي خَلْقِهِ، وَهَذَا وَاللَّهِ هُوَ الْمُنْتَهَى الَّذِي لَا تَقَدُّمَ فِيهِ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُسْتَوَى بِفَتْحِ الْوَاوِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ الْمِصْعَدُ، وَقِيلَ الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي، وَصَرِيفُ الْأَقْلَامِ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ صَوْتُ مَا يَكْتُبُهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَقْضِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ، وَمَا يَنْسَخُونَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُكْتَبَ وَيُرْفَعَ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هَذَا حُجَّةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِصِحَّةِ كِتَابَةِ الْوَحْيِ، وَالْمَقَادِيرِ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِالْأَقْلَامِ الَّتِي هُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْآيَاتُ، لَكِنَّ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ، وَصُورَتَهُ هُنَا لَا يَعْلَمُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا يَتَأَوَّلُ هَذَا وَيُحِيلُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَّا ضَعِيفُ النَّظَرِ وَالْإِيمَانِ، إِذْ جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَدَلَائِلُ الْعُقُولِ لَا تُحِيلُهُ.
(وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسٌ) : عَطَفَ عَلَى فَأَخْبَرَنِي، فَهُوَ مِنْ مَقُولِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي) : وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ فَفَرَضَ عَلَيَّ (خَمْسِينَ صَلَاةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ)، أَيْ آخِذًا بِهِ وَقَاصِدًا لِعَمَلِهِ (حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَقَوْلُهُ: (لَكَ) أَيْ: لِأَجْلِكَ (عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) أَيْ: فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ (فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ) أَيْ: هَذَا الْحِمْلَ الثَّقِيلَ (فَرَاجَعَنِي) : بِمَعْنَى رَجَّعَنِي أَيْ رَدَّنِي مُوسَى يَعْنِي صَارَ سَبَبًا لِرُجُوعِي إِلَى رَبِّي (فَوَضَعَ) أَيِ: اللَّهُ (شَطْرَهَا) ، أَيْ بَعْضَ الْخَمْسِينَ، وَهُوَ الْخُمْسُ الَّذِي هُوَ الْعُشْرُ، أَوِ الْعُشْرُ الَّذِي هُوَ الْخُمْسُ عَلَى خِلَافِ تَقَدَّمَ (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا. فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ) أَيِ: ارْجِعْ إِلَيْهِ لِلْمُرَاجَعَةِ (فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ) أَيْ: ذَلِكَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فَرَجَعْتُ) أَيْ: إِلَى مَكَانِي الْأَوَّلِ (فَرَاجَعْتُ) ، أَيْ فَرَادَدْتُ الْكَلَامَ، وَطَالَبْتُ الْمَرَامَ مُبَالِغًا فِي الْمَقَامِ، فَإِنَّ الْمُفَاعَلَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُبَالَغَةِ فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ، (فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى مُوسَى (فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ) أَيْ: مَا قُدِّرَ هُنَالِكَ (فَرَاجَعْتُهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَرَاجَعْتُ أَيْ رَبِّي (فَقَالَ) أَيْ: فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَالْمَعْنَى فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ الْمُرَاجَعَاتِ (هِيَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: هُنَّ (خَمْسٌ) أَيْ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْأَدَاءِ (وَهِيَ خَمْسُونَ)، أَيْ صَلَاةً فِي الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ (لَا يُبَدِّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ أَنِّي سَاوَيْتُ بَيْنَ الْخَمْسِ وَالْخَمْسِينَ فِي الثَّوَابِ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُبَدَّلٍ، أَوْ جَعَلْتُ الْخَمْسِينَ خَمْسًا، وَلَا تَبْدِيلَ فِيهِ قَالَ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُهُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى. قُلْتُ لَا يُنَافِيهِ، بَلْ يُنَاسِبُهُ إِذَا حُمِلَ عَلَى مَا قَبْلَ وُجُودِ الْعِلْمِ بِعَدَمِ التَّبْدِيلِ. (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي) أَيْ: حِينَ قَالَ لِي لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَانِعِ، (ثُمَّ انْطُلِقَ بِي حَتَّى انْتُهِيَ بِي) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِيهِمَا، وَالْمَعْنَى ثُمَّ ذَهَبَ بِي حَتَّى وَصَلَ بِي (إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ غَشِيَهَا (أَلْوَانٌ) أَيْ: مِنَ الْأَنْوَارِ أَوْ أَصْنَافٍ مِنْ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ غَيْرِهَا (لَا أَدْرِي) أَيِ: الْآنَ أَوْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِتَوَجُّهِ نَظَرِهِ إِلَى الْمُكَوَّنِ دُونَ الْمَكَانِ (مَا هِيَ) أَيْ: حَقِيقَةُ مَا هِيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ (ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ جُنْبُذَةٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْبَاءِ، وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الشَّيْءِ وَاسْتَدَارَ كَالْقُبَّةِ، وَقَوْلُ الْعَامَّةِ إِنَّ الْجُنْبَذَةَ بِفَتْحِ الْبَاءِ مُعَرَّبٌ كُنْبَذَةٍ (وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ) . وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّهُ يَفُوحُ رِيحُ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5865 -
ــ
5865 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ( «قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ» )، قَالَ شَارِحٌ: وَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فِي السَّادِسَةِ، وَالصَّوَابُ فِي السَّابِعَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ مِنَ الرُّوَاةِ اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّ إِضَافَةَ السَّهْوِ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ عِلْمَ الْخَلَائِقِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي السَّادِسَةِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ. قَالَ الْقَاضِي: كَوْنُهَا فِي السَّابِعَةِ هُوَ الْأَصَحُّ، وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهُ الْمَعْنَى وَتَسْمِيَتُهَا بِالْمُنْتَهَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا فِي السَّادِسَةِ وَمُعْظَمُهَا فِي السَّابِعَةِ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهَا فِي نِهَايَةٍ مِنَ الْعِظَمِ، وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ: السِّدْرَةُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ قَدْ أَظَلَّتِ السَّمَاوَاتِ وَالْجَنَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ مُقْتَضَى خُرُوجِ النَّهْرَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ مِنْ أَصِلِ الْمُنْتَهَى أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ سَلِمَ لَهُ هَذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. (إِلَيْهَا) أَيْ: إِلَى السِّدْرَةِ (يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ) أَيْ: مَا يُصْعَدُ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَرْوَاحِ الْكَائِنَةِ فِي الْجُمَّةِ السُّفْلَى (فَيُقْبَضُ مِنْهَا) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقَابِضِ وَاتِّحَادُهُ فِيهِمَا (وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ مِنْ فَوْقِهَا) أَيْ: مِنَ الْوَحْيِ وَالْأَحْكَامِ النَّازِلَةِ مِنَ الْجِهَةِ الْعُلْيَا (فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ) أَيْ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مَا يَغْشَى (فَرَاشٌ) أَيْ: هُوَ فَرَاشٌ (مِنْ ذَهَبٍ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ غَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] فِي إِرَادَةِ الْإِبْهَامِ وَالتَّهْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ، قَوْلُهُ هُنَا: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، بَيَانٌ لَهُ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ مَا يُغْشَى أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، وَمِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَاطَ بِهَا وَيُسْتَقْصَى، لِأَنَّ نَفْسَ السِّدْرَةِ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْمُنْتَهَى، فَكَيْفَ يَكُونُ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِمَا فَوْقَهَا مِمَّا يُغْشَى، وَهُوَ لَا يُنَافِي ذِكْرَ بَعْضِ مَا رَأَى وَرُؤِيَ، وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ وَالْأَقْوَالِ. فَقِيلَ: يَغْشَاهَا جَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (رَأَيْتُ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مَلَكًا قَائِمًا يُسَبِّحُ) وَقِيلَ: فِرَقٌ مِنَ الطَّيْرِ الْخُضْرِ وَهِيَ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ: لَا أَدْرِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لَا تُشْبِهُ الْأَعْيَانَ الْمَشْهُودَةَ الْمُسْتَحْقَرَةَ فِي النُّفُوسِ الْمَوْجُودَةِ، فَيُنْعَتُ لَهُمْ بِذِكْرِ نَظَائِرِهَا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْفَرَاشَ بِالْفَتْحِ طَيْرٌ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] وَقَدْ قَالَ شَارِحٌ: الْفَرَاشُ مَا تَرَاهُ كَصِغَارِ الْبَقِّ يَتَهَافَتُ وَيَتَسَاقَطُ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَرَاشِ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَيْضًا مِمَّا غَشِيَهَا اهـ وَتَبَيَّنَ الْبَوْنُ الْبَيِّنُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] حَيْثُ إِنَّهُ وَقَعَ الْإِبْهَامُ هُنَا لِتَعْظِيمَهُ، وَالْعَجْزِ عَنْ إِحَاطَتِهِ، وَفِي قَضِيَّةِ فِرْعَوْنَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْلُومِيَّتِهِ وَحَقَارَتِهِ.
(قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَوْ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَالْحَالِ (ثَلَاثًا) أَيْ: لَهَا عَلَى مَا عَدَاهَا مَزِيَّةٌ كَامِلَةٌ (أُعْطِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ) أَيْ: فَرْضِيَّتَهَا (وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) ، أَيْ إِجَابَةَ دَعَوَاتِهَا، فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا بِظَاهِرِهِ يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «بَيْنَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ أَيْ صَوْتًا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ. قُلْتُ: لَا.»
مُنَافَاةَ، فَإِنَّ الْإِعْطَاءَ كَانَ فِي السَّمَاءِ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ بِقَرِينَةِ إِعْطَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَقَامِ الْأَعْلَى، وَنُزُولِ الْمَلَكِ الْمُعَظَّمِ لِتَعْظِيمِ مَا أَعْطَى، وَبِشَارَةِ مَا خُصَّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، نَعَمْ يُشْكِلُ هَذَا بِكَوْنِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةً، وَقَضِيَّةُ الْمِعْرَاجِ بِالِاتِّفَاقِ مَكِّيَّةٌ، فَيُدْفَعُ بِاسْتِثْنَاءِ الْخَوَاتِيمِ مِنَ السُّورَةِ، فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ أَكْثَرِهَا، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمَلَكِ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى إِيجَاءَهَا بِلَا وَاسِطَةِ جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ السُّورَةَ بِكَامِلِهَا مَدَنِيَّةٌ، فَقَدْ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ أُعْطِيَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتُجِيبَ لَهُ فِيمَا لُقِّنَ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] إِلَى قَوْلِهِ: {أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] وَلِمَنْ يَقُومُ بِحَقِّهَا مِنَ السَّائِلَيْنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي كَلَامِهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْإِعْطَاءَ بَعْدَ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِجَابَةُ وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِالطَّلَبِ، وَالسُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ وَالْمِعْرَاجُ فِي مَكَّةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا مِنْ قَبِيلِ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وَالنُّزُولُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ قَبِيلِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى - عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3 - 5] اهـ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ وَقَعَ تَكْرَارُ الْوَحْيِ فِيهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، وَبِهَذَا يَتِمُّ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ نَزَلَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193 - 194] وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالْإِعْطَاءِ اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ مِمَّا اشْتَمَلَ الْإِتْيَانُ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي نُزُولَهَا بَعْدَ الْإِسْرَاءِ إِلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أُوثِرَ الْإِعْطَاءُ لِمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِكَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ:( «أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي» ) وَكَانَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مَعَ اللَّهِ تَعَالَى مَقَامَاتٌ يَغْبِطُهُمَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. أَحَدُهُمَا فِي الدُّنْيَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَثَانِيهِمَا فِي الْعُقْبَى وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَلَا اهْتَمَّ فِيهِمَا إِلَّا بِشَأْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ. (وَغُفِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ) . بِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ أَوْ هُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيِ الْكَبَائِرُ الْمُهْلِكَاتُ الَّتِي تُقْحِمُ صَاحِبَهَا النَّارَ إِنْ لَّمْ يَتَجَاوَزْ عَنْهُ الْمَلِكُ الْغَفَّارُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وُعِدَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْكَامِلَةَ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ الشَّامِلَةَ، وَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرَ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ الْمَشِيئَةِ فِي الْحَدِيثِ لِظُهُورِ الْقَضِيَّةِ فِي حُكْمِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، هَذَا وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمُرَادُ بِغُفْرَانِهِ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا تُعَذَّبُ أُمَّتُهُ أَصْلًا، إِذْ قَدْ عُلِمَ مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَبْقَى خُصُوصِيَّةٌ لِأُمَّتِهِ، وَلَا مَزِيَّةٌ لِمِلَّتِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ غَالِبُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهَا أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5866 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي. فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ.
فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ لِي قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ! هَذَا مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي
ــ
5866 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي) أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْصَرْتُ نَفْسِيَ الْأَنْفَسَ أَوْ عَلِمْتُ ذَاتِيَ الْأَقْدَسَ (فِي الْحِجْرِ) أَيْ: قَائِمًا (وَقُرَيْشٌ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ قُرَيْشٍ (تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ عَنْ سَيْرِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالضَّبْطَيْنِ (فَسَأَلَتْنِي) أَيْ: قُرَيْشٌ (عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا) ، مِنَ الْإِثْبَاتِ أَيْ لَمْ أَحْفَظْهَا، وَلَمْ أَضْبُطْهَا لِاشْتِغَالِي بِأُمُورٍ أَهَمَّ مِنْهَا (فَكُرِبْتُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ أُحْزِنْتُ (كَرْبًا) : كَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَالْمَعْنَى حُزْنًا شَدِيدًا، وَيُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ:(مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ) أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الْكَرْبِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْكَرْبُ الْحُزْنُ يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ كَالْكُرْبَةِ وَكَرَبَهُ الْغَمُّ فَهُوَ مَكْرُوبٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ. كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَفِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: كُرْبَةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِثْلَهُ يَعُودُ عَلَى مَعْنَى الْكُرْبَةِ وَهُوَ الْغَمُّ أَوِ الْهَمُّ أَوِ الشَّيْءُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكُرْبَةُ بِالضَّمِّ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ النَّفْسَ لِشِدَّتِهِ (فَرَفَعَهُ اللَّهُ) أَيْ: بَيْتَ الْمَقْدِسِ (لِي) أَيْ: لِأَجْلِي (أَنْظُرُ إِلَيْهِ) ، حَالٌ، وَالْمَعْنَى.
رُفِعَ الْحِجَابُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَأُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ مُسْتَأْنِفًا مُبَيِّنًا. (مَا يَسْأَلُونِي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتُخَفَّفُ (عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ) ، أَيْ أَخْبَرْتُهُمْ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُسْتَحْضِرَةِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ مَا سَأَلُونِي بِصِيغَةِ الْمَاضِيَةِ (وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) أَيْ: مَعَ جَمْعٍ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالسِّبَاقُ وَاللَّحَاقُ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ غَيْرُ رُؤْيَةِ السَّمَاءِ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ قِيلَ: رُؤْيَتُهُ إِيَّاهُمْ فِي السَّمَاءِ مَحْمُولَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ أَرْوَاحِهِمْ إِلَّا عِيسَى، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ رُفِعَ بِجَسَدِهِ، وَقَدْ قِيلَ فِي إِدْرِيسَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَلَّوْا مَعَهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيُحْتَمَلُ الْأَرْوَاحُ، وَيُحْتَمَلُ الْأَجْسَادُ بِأَرْوَاحِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ صَلَاتَهُ لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ قَبْلَ الْعُرُوجِ. قُلْتُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَهُمْ، ثُمَّ أَجْسَادُهُمْ كَأَرْوَاحِهِمْ لَطِيفَةٌ غَيْرَ كَثِيفَةٍ، فَلَا مَانِعَ لِظُهُورِهِمْ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِقُدْرَةِ ذِي الْجَلَالِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ تَشَكُّلَ الْأَنْبِيَاءِ وَتَصَوُّرَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَجْسَادِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ قَوْلُهُ: (فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي) : فَإِنَّ حَقِيقَةَ الصَّلَاةِ وَهِيَ الْإِتِيَانُ بِالْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْأَشْبَاحِ لَا لِلْأَرْوَاحِ، لَا سِيَّمَا وَكَالتَّصْرِيحِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ قَوْلُهُ:(فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ) أَيْ: نَوْعٌ وَسَطٌ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ خَفِيفُ اللَّحْمِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (جَعْدٌ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: جُعُودَةُ الْجِسْمِ، وَهُوَ اجْتِمَاعُهُ. وَالثَّانِي: جُعُودَةُ الشَّعْرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ هَاهُنَا لِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ رَجِلُ الشَّعْرِ كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِي أَيْضًا لِأَنَّهُ يُقَالُ: شَعْرٌ رَجِلٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْجُعُودَةِ، (كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ)، وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ (وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا حَالَةُ حُضُورِ الرَّبِّ، وَكَمَالِ الْقُرْبِ فِي الْحَالَاتِ، وَأَنْوَاعِ الِانْتِقَالَاتِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ اللَّذَّاتِ عِنْدَ عُشَّاقِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، (أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ) ، نِسْبَةً إِلَى ثَقِيفٍ قَبِيلَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا أَخًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، كَمَا فِي بَعْضِ حَوَاشِي الْمَصَابِيحِ، فَإِنَّهُ هُذَلِيٌّ (وَإِذَا بِإِبْرَاهِيمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ) : أَخْبَارٌ مُتَعَاقِبَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَعْنَى أَكْثَرُ النَّاسِ شَبَهًا بِإِبْرَاهِيمَ (صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ) : هَذَا مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ مَنْ بَعْدَهُ أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: صَاحِبُكُمْ نَفْسَهُ وَذَاتَهُ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] ثُمَّ رُؤْيَتُهُ إِيَّاهُمْ يُصَلُّونَ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَثْنَاءِ الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ الْمَعْبَدُ الْأَعْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ الْفَاءُ التَّعْقِيبِيَّةُ فِي قَوْلِهِ:(فَحَانَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ: دَخَلَ وَقْتَهَا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَا صَلَاةُ التَّحِيَّةِ، أَوْ يُرَادُ بِهَا صَلَاةُ الْمِعْرَاجِ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ (فَأَمَمْتُهُمْ)، أَيْ صِرْتُ لَهُمْ إِمَامًا وَكُنْتُ لَهُمْ إِمَامًا. فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ رَأَى مُوسَى عليه السلام يُصَلِّي وَأَمَّ صلى الله عليه وسلم الْأَنْبِيَاءَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَوَجَدَهُمْ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ فِي السَّمَاوَاتِ؟ فَالْجَوَابُ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَآهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَوَجَدَهُمْ فِيهَا، وَأَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمْ وَصَلَاتُهُ مَعَهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِ وَرُجُوعِهِ عَنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى اهـ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ حَيْثُ لَا يُخَالِفُهُ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ، مَعَ أَنَّ الْأُمُورَ الْخَارِقَةَ لِلْعَادَةِ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ خَارِجَةٌ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِلسَّيِّدِ عَبْدِ الْقَادِرِ رحمه الله: إِنَّ قَضِيبَ الْبَانِ مَا يُصَلِّي، فَقَالَ: لَا تَقُولُوا فَإِنَّ رَأْسَهُ دَائِمًا عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ سَاجِدٌ، وَتَشَكُّلَهُ بِصُوَرِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ طَبَقَةِ الصُّوفِيَّةِ، فَكَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عليهم السلام كَانُوا يُصَلُّونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَيَسْتَزِيدُونَ فِي سُرُورِهِمْ بِنُورِهِمْ وَظُهُورِهِمْ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ إِسْرَاءُ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ اسْتَقْبَلُوهُ، وَاجْتَمَعُوا مَعَهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي هُوَ مَقَرُّ الْأَصْفِيَاءِ، وَاقْتَدَوْا بِالْإِمَامِ الْحَيِّ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ رِجَالِ الطَّيِّ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا بِطَرِيقِ الْمُشَايَعَةِ وَآدَابِ الْمُتَابَعَةِ إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَتَوَقَّفَ كُلٌّ فِيمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمَقَامَاتِ، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ وَخَصَّ كُلًّا بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَهُمْ أَظْهَرُ، وَالتَّرْحِيبُ وَالتَّعْظِيمُ لَدَيْهِ مَعَ سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ وَالْكُرُوبِيِّينَ إِلَى أَنْ تَجَاوَزَ عَنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَانْتَهَى إِلَى مَقَامِ {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى - فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى - مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 9 - 11] .