الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقُرَشِيُّ، يُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ وَأَبَا تُرَابٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الذُّكُورِ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سِنِّهِ يَوْمَئِذٍ فَقِيلَ: كَانَ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانِي سِنِينَ، وَقِيلَ عَشْرُ سِنِينَ، شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا غَيْرَ تَبُوكَ، فَإِنَّهُ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ وَفِيهَا قَالَ لَهُ:" «أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى» ". كَانَ آدَمَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ عَظِيمَ الْعَيْنَيْنِ أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ مِنَ الطُّولِ ذَا بَطْنٍ، كَثِيرَ الشَّعْرِ عَرِيضَ اللِّحْيَةِ أَصْلَعَ أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، اسْتُخْلِفَ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَضَرَبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ الْمُرَادِيُّ بِالْكُوفَةِ صَبِيحَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنْ ضَرْبَتِهِ، وَغَسَّلَهُ ابْنَاهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَسَنُ وَدُفِنَ سَحَرًا، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ، وَقِيلَ سَبْعُونَ وَقِيلَ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، رَوَى عَنْهُ بَنُوهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَمُحَمَّدٌ وَخَلَائِقُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ كَانَ مُقْتَضَى مَا سَبَقَ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ أَنْ يَذْكُرَ هُنَا بَابًا فِي مَنَاقِبِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَعَلَّهُ اكْتَفَى بِمَا يَذْكُرُونَ فِي ضِمْنِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي حَقِّ الْأَرْبَعَةِ بِخُصُوصِهِمْ فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الثَّانِي.
[بَابُ مَنَاقِبِ الْعَشَرَةِ رضي الله عنهم]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
6108 -
عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: مَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
[9]
بَابُ مَنَاقِبِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ رضي الله عنهم
أَرَادَ بِذِكْرِهِمْ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، أَوْ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَحَادِيثَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي النِّقَابَةِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
6108 -
(عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه)، أَيْ: مَوْقُوفًا (قَالَ)، أَيْ: قُرْبَ مَوْتِهِ يَوْمَ الشُّورَى (مَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ)، أَيْ: أَمْرِ الْخِلَافَةِ (مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ) : وَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ (الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ) . أَيْ: فِي كَمَالِ الرِّضَا بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ بِلَا شُبْهَةٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِالرِّضَا الرِّضَا الْمَخْصُوصُ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْخِلَافَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَّلَ الْأَحَقِّيَّةَ بِقَوْلِهِ: وَرَسُولُ اللَّهِ عَنْهُمْ رَاضٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ رَاضِيًا عَنِ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ، فَيُحْمَلُ رِضَاهُ عَنْهُمْ عَلَى الزِّيَادَةِ لِكَوْنِهِمْ مِنَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ، وَكُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ. (فَسَمَّى عَلِيًّا)، أَيْ: فَعَدَّهُ (وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ) . أَيْ: فَهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَسَيَأْتِي تَرْجَمَةُ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ ذِكْرِ كُلٍّ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اقْتِصَارَ عُمَرَ عَلَى السِّتَّةِ مِنَ الْعَشَرَةِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَهُوَ ابْنُ عَمِّ عُمَرَ، فَلَمْ يُسَمِّهِ عُمَرُ فِيهِمْ مُبَالَغَةً فِي التَّبْرِيءِ، وَقَدْ صَرَّحَ مِنْ رِوَايَةِ الْمَدَائِنِيِّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ عُمَرَ عَدَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ فِيمَنْ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
وَفِي الرِّيَاضِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَخْلِفْ. قَالَ: مَا أَرَى أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ: وَيَشْهَدُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ، فَإِنْ أَصَابَ الْأَمْرُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَفُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ وَرَجَعُوا اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ، فَخَلَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِلْآخَرَيْنِ: أَيُّكُمَا يَتَبَرَّأُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَنْظُرَنَّ إِلَى أَفْضَلِهِمْ فِي نَفْسِهِ، وَلَيَحْرِصَنَّ عَلَى صَلَاحِ الْأُمَّةِ. قَالَ: فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ، وَاللَّهُ عَلَيَّ أَلَّا آلُوَ عَلَى أَفْضَلِكُمْ. قَالَا: نَعَمْ، فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ فَقَالَ: إِنَّ لَكَ مِنَ الْقَدَمِ وَالْإِسْلَامِ وَالْقَرَابَةِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَاللَّهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عَلَيْكَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ، ثُمَّ خَلَا بِعُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ لِعُثْمَانَ: ارْفَعْ يَدَكَ فَبَايَعَهُ ثُمَّ بَايَعَهُ عَلِيٌّ، ثُمَّ وَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ مَنَاهِجِ أَهْلِ الْإِصَابَةِ فِي مَحَبَّةِ الصَّحَابَةِ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَمَّا قَالَ لِعَلِيٍّ وَعُثْمَانَ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ؟ قَالَا: نَعَمْ. قَالَ لِعَلِيٍّ: أُبَايِعُكَ عَلَى سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاجْتِهَادِ رَأْيِي، فَخَافَ أَنْ يَتَرَخَّصَ مِنَ الْمُبَاحِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ مَنْ أَلِفَ ذَلِكَ التَّشَدُّدَ مِنْ سِيرَةِ الشَّيْخَيْنِ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. فَقَالَ: نَعَمْ، فَبَايَعَهُ فَسَارَ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُدَّةً، ثُمَّ تَرَخَّصَ فِي مُبَاحَاتٍ، وَلَمْ يَتَحَمَّلُوهَا حَتَّى أَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو الْخَيْرِ الْقَزْوِينِيُّ الْحَاكِمِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ كُلَّمَا دَعَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الشُّورَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَذَكَرَ مَنَاقِبَهُ، وَقَالَ: إِنَّكَ لَهَا أَهْلٌ فَإِنْ أَخْطَأْتُكَ فَمَنْ؟ يَقُولُ: إِنْ أَخْطَأْتَنِي فَعُثْمَانُ اهـ.
وَالْحِكْمَةُ فِي تَرْتِيبِ الْأَرْبَعَةِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَشَرَّفَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَقَدْ أَجَابَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعَبَّاسَ مَعَ جَلَالَتِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْزِلَتِهِ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي الشُّورَى؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لَمَّا جَعَلَهَا فِي أَهْلِ السَّبْقِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْبَدْرِيِّينَ، وَالْعَبَّاسُ لَمْ يَكُنْ مُهَاجِرًا وَلَا سَابِقًا وَلَا بَدْرِيًّا، وَسَيَأْتِي أَنَّ عُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَسَعِيدًا فِي حُكْمِ أَهْلِ بَدْرٍ حَيْثُ أُعْطِيَ لَهُمْ مِنْ سَهْمِهَا وَأَجْرِهَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَةَ تَثْبُتُ إِمَّا بِعَقْدِهَا مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ لِمَنْ عُقِدَتْ لَهُ مِنْ أَهْلِهَا كَأَبِي بَكْرٍ وَإِمَّا بِنَصٍّ مِنَ الْإِمَامِ عَلَى اسْتِخْلَافِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا كَعُمَرَ، وَيَجُوزُ نَصْبُ الْمَفْضُولِ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى إِمَامَةِ بَعْضٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ وُجُودِ أَفْضَلَ مِنْهُ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ الْخِلَافَةَ بَيْنَ سِتَّةٍ مِنْهُمْ: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَهُمَا أَفْضَلُ زَمَانِهِمَا بَعْدَ عُمَرَ، فَلَوْ تَعَيَّنَ الْأَفْضَلُ لَعَيَّنَ عُمَرُ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيًّا، فَدَلَّ عَدَمُ تَعْيِينِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ نَصْبُ غَيْرِهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا، إِذًا غَيْرُ الْأَفْضَلِ قَدْ يَكُونُ أَقْدَرَ مِنْهُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الدِّينِ، وَأَعْرَفَ بِتَدْبِيرِ الْمُلْكِ، وَأَوْفَقَ لِانْتِظَامِ حَالِ الرَّعِيَّةِ، وَأَوْثَقَ فِي انْدِفَاعِ الْفِتْنَةِ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْعِصْمَةِ فِي الْإِمَامِ وَكَوْنُهُ هَاشِمِيًّا وَظُهُورُ مُعْجِزَةٍ عَلَى يَدَيْهِ يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُهُ فَمِنْ خُرَافَاتِ الشِّيعَةِ وَجَهَالَاتِهِمْ، وَتَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لَهُمْ عَلَى ضَلَالَاتِهِمْ مِنْ بُطْلَانِ خِلَافَةِ غَيْرِ عَلَيٍّ مَعَ انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ.
6109 -
وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6109 -
(وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: بَجَلِيٌّ، أَدْرَكَ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمَ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُبَايِعَهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ تُوُفِّيَ، يُعَدُّ فِي تَابِعِي الْكُوفَةِ، رَوَى عَنِ الْعَشَرَةِ إِلَّا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ سِوَاهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّابِعِينَ مَنْ رَوَى عَنْ تِسْعَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَّا هُوَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، شَهِدَ النَّهْرَوَانَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَطَالَ عُمْرُهُ حَتَّى جَاوَزَ الْمِائَةَ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ. (قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ فَعْلَاءُ مِنَ الشَّلَلِ وَهُوَ نَقْصٌ فِي الْكَفِّ وَبُطْلَانُ الْعَمَلِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْقَطْعُ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ (وَقَى) : اسْتِئْنَافُ بَيَانِ عِلَّةٍ (بِهَا)، أَيْ: حَفِظَ بِهَا (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ) . أَيْ: جَعَلَ يَدَهُ وِقَايَةً لَهُ يَوْمَئِذٍ فَحَصَلَ لَهَا مَا حَصَلَ بِسَبَبِهِ مِنْ طَعْنَةٍ وَقَعَتْ عَلَيْهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيَّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا غَيْرَ بَدْرٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَعَثَهُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ يَتَعَرَّفَانِ خَبَرَ الْعِيرِ الَّتِي كَانَتْ لِقُرَيْشٍ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَعَادَا يَوْمَ اللِّقَاءِ بِبَدْرٍ، وَجُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ جِرَاحَةً قِيلَ: كَانَتْ فِيهِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ، وَكَانَ آدَمَ كَثِيرَ الشَّعْرِ حَسَنَ الْوَجْهِ، قُتِلَ فِي وَقْعَةِ يَوْمِ الْجَمَلِ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَصْرَةِ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً.
6110 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " يَوْمَ الْأَحْزَابِ. قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6110 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَأْتِينِي ") : عَلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ مَحْذُوفَةُ الْجَوَابِ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَجِيئُنِي (بِخَبَرِ الْقَوْمِ) ؟ أَيْ: قَوْمِ الْكُفَّارِ (يَوْمَ الْأَحْزَابِ) : وَهُوَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ (قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا ")، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا أَيْ: نَاصِرًا مُخْلِصًا (" وَحَوَارِيَّ ") : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَفِي نُسْخَةٍ وَحَوَارِيِّي (" الزُّبَيْرُ ") . وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ضَبَطَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَضَبَطَ أَكْثَرُهُمْ بِكَسْرِهَا اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَخِيرَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ يَاءُ الْإِضَافَةِ مَفْتُوحَةً عَلَى وَفْقِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} [الأعراف: 196] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يَاءُ الْإِضَافَةِ سَاكِنَةً تُحْذَفُ وَصْلًا وَتَثْبُتُ وَقْفًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ فَقَطْ كَمَا رُوِيَ عَنِ السُّوسِيِّ فِي " أَنَّ وَلِيِّ اللَّهُ " بِكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ، أَوِ الْمَكْسُورَةِ بِلَا يَاءِ الْإِضَافَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَرْسُومًا بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ كَمَا وَجَدْنَاهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَمِنْهَا نُسْخَةُ الْجَزَرِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ نَقْلِ النَّوَوِيِّ، وَالْمُوَافِقُ لِلرَّسْمِ الْقُرْآنِيِّ، ثُمَّ تَوْجِيهُهُ الْمُشَدَّدَةَ بِلَا يَاءٍ بَعْدَهَا هُوَ أَنَّهُ جَاءَ الْحَوَارِيُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ. وَقَدْ قُرِئَ:" قَالَ الْحَوَارِيُونَ " بِالتَّخْفِيفِ شَاذًّا، فَالثَّانِيَةُ يَاءُ إِضَافَةٍ وَهِيَ قَدْ تَكُونُ مَفْتُوحَةً، وَقَدْ تَكُونُ سَاكِنَةً وَتُكْسَرُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، هَذَا وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّاصِرُ وَحَوَارِيُّ عِيسَى عليه السلام أَنْصَارُهُ، سُمُّوا بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْسِلُونَ الثِّيَابَ فَيُحَوِّرُونَهَا أَيْ: يُبَيِّضُونَهَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ، وَأُمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، فَعَذَّبَهُ عَمُّهُ بِالدُّخَانِ لِيَتْرُكَ الْإِسْلَامَ، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَّ السَّيْفَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، كَانَ أَبْيَضَ طَوِيلًا يَمِيلُ إِلَى الْخِفَّةِ فِي اللَّحْمِ، قَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ بِسَفَوَانَ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْفَاءِ مِنْ أَرْضِ الْبَصْرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِوَادِي السِّبَاعِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ بِهَا، وَرَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ وَغَيْرُهُمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَفِي الْجَامِعِ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَلِيٍّ.
وَفِي الرِّيَاضِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ بِزِيَادَةٍ، وَلَفْظُهُ:«نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَهُمُ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِزِيَادَةٍ وَلَفْظُهُ «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ حَوَارِيَّ وَابْنُ عَمَّتِي» .
6111 -
وَعَنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قَالَ؟ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَأْتِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ؟ فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَوَيْهِ فَقَالَ: " فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6111 -
(وَعَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَأْتِي بَنِي قُرَيْظَةَ ")، أَيْ: مَنْ يَذْهَبُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ سُكَّانِ حَوَالِي الْمَدِينَةِ (" فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ "؟ فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَوَيْهِ)، أَيْ: فِي الْفِدَاءِ (فَقَالَ: " فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ") بِفَتْحِ الْفَاءِ وَقَدْ يُكْسَرُ، وَفِي هَذِهِ التَّفْدِيَةِ تَعْظِيمٌ لِقَدْرِهِ وَاعْتِدَادٌ بِعَمَلِهِ وَاعْتِبَارٌ بِأَمْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُفَدِّي إِلَّا مَنْ يُعَظِّمُهُ فَيَبْذُلُ نَفْسَهُ أَوْ أَعَزَّ أَهْلِهِ لَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فِي الْحَدِيثِ فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا؛ إِطْلَاقُ هَذَا اللَّفْظِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفْدَى مِنَ الْمَكَارِهِ مَنْ يَلْحَقُهُ، فَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِدَاءِ التَّعْظِيمَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ لِمَنْ يَنْقُلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِغَيْرِهِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْهُ قَالَ: جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُ كَانَ لِسَعْدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَعَهُمَا لَهُمَا، وَاشْتُهِرَ فِي سَعْدٍ لِكَثْرَةِ تَرْدِيدِ الْقَوْلِ لَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَوَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي أُحُدٍ وَفِي قُرَيْظَةَ. وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَوْصَى الزُّبَيْرُ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ صَبِيحَةَ الْجَمَلِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَا مِنْ عُضْوٍ إِلَّا وَقَدْ جُرِحَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى الْوَجْهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُحَدِّثُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَمْ أُفَارِقْهُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
6112 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: " يَا سَعْدُ، ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6112 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ أَبَوَيْهِ)، أَيْ: فِي الْفِدَاءِ (لِأَحَدٍ)، أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ (إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: " يَا سَعْدُ، ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ") : قِيلَ. الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ تَقْيِيدَهُ بِيَوْمِ أُحُدٍ اهـ. وَالظَّاهِرُ الْإِطْلَاقُ الْمُقَيَّدُ بِنَفْيِ السَّمَاعِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى تَفْدِيَةِ الزُّبَيْرِ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُكَنَّى أَبَا إِسْحَاقَ، وَاسْمُ أَبِي وَقَّاصٍ مَالِكُ بْنُ وُهَيْبٍ الزُّهْرِيُّ الْقُرَشِيُّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَالَ: كُنْتُ ثَالِثَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ مَشْهُورًا بِذَلِكَ تُخَافُ دَعْوَتُهُ وَتُرْجَى لِاشْتِهَارِ إِجَابَتِهَا عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهِ:«اللَّهُمَّ سَدِّدْ سَهْمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ» " وَجَمَعَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِلزُّبَيْرِ أَبَوَيْهِ فَقَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: " فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي " وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا، وَكَانَ آدَمَ أَشْعَرَ الْجَسَدِ مَاتَ فِي قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ عَلَى رِقَابِ الرِّجَالِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ وَالِي الْمَدِينَةِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَلَهُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ آخِرُ الْعَشَرَةِ مَوْتًا، وَوَلَّاهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ الْكُوفَةَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6113 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6113 -
(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ) : التَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ وَقَوْلُهُ: (رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) صِفَةٌ لَهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ " رَمَى " صِفَةُ " أَوَّلُ " أَيْ: أَوَّلُ عَرَبِيٍّ رَمَى، وَاللَّامُ فِي الْعَرَبِ لِلْجِنْسِ الْمَحْمُولِ عَلَى الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَتَمَامُهُ، عَلَى مَا فِي الرِّيَاضِ:«وَلَقَدْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، وَهَذَا السَّمُرُ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «بَيْنَا سَعْدٌ فِي إِبِلِهِ فَجَاءَ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الرَّاكِبِ، فَقَالَ لَهُ: نَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَتَرَكْتَ بَنِيكَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ، فَضَرَبَ سَعْدٌ صَدْرَهُ وَقَالَ: اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْجَفِيَّ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ؟ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَانَ آخِرُ الْعَشَرَةِ مَوْتًا، وَقَالَ الْفَضَائِلِيُّ: بَلْ كَانَ آخِرَ الْمُهَاجِرِينَ وَفَاةً.
6114 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقْدِمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً فَقَالَ: " لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي " إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلَاحٍ فَقَالَ: " مَنْ هَذَا؟ " قَالَ: أَنَا سَعْدٌ قَالَ: " مَا جَاءَ بِكَ؟ " قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَامَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6114 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَهِرَ) كَفَرِحَ أَيْ: لَمْ يَنَمْ وَفِي رِوَايَةٍ أَرِقَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقْدِمَهُ)، أَيْ: وَقْتَ قُدُومِهِ (الْمَدِينَةَ لَيْلَةً) : وَفِي رِوَايَةٍ: ذَاتَ لَيْلَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: مَقْدِمَهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لَيْسَ بِظَرْفٍ لِعَمَلِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَنَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ وَهُوَ الْوَقْتُ أَوِ الزَّمَانُ وَلَيْلَةً بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْمُقَدَّرِ أَيْ: سَهِرَ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي وَقْتَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ مِنْ بَعْضِ الْغَزَوَاتِ. (فَقَالَ لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا) : وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ أَصْحَابِي (" يَحْرُسُنِي ") . بِضَمِّ الرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ اللَّيْلَةَ أَيْ: يَحْفَظُنِي بَقِيَّةَ اللَّيْلَةِ لِأَنَامَ مُسْتَرِيحَ الْخَاطِرِ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ (إِذْ سَمِعْنَا) : وَفِي رِوَايَةٍ: فَسَمِعْنَا (صَوْتَ سِلَاحٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفِي رِوَايَةٍ خَشْخَشَةَ السِّلَاحِ (فَقَالَ: " مَنْ هَذَا " قَالَ: أَنَا سَعْدٌ. قَالَ: " مَا جَاءَ بِكَ " قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ)، وَفِي رِوَايَةٍ: أَحْرُسُكَ (فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ نَامَ) . وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الرِّيَاضِ: أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ.
6115 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6115 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لِكُلِّ أُمَّةٍ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ (أَمِينٌ)، أَيْ: ثِقَةٌ وَمُعْتَمَدٌ وَمَرَضِيٌّ (" وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ (" أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ") . بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالْأَمَانَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ لِغَلَبَتِهَا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ لِكَوْنِهَا غَالِبَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِرِ صِفَاتِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو حُذَيْفَةَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا تُوُفِّيَ وَخَالِدٌ عَلَى الشَّامِ وَالِيًا، وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَعَزَلَ خَالِدًا، فَكَتَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْكِتَابَ مِنْ خَالِدٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى انْقَضَتِ الْحَرْبُ، وَكَتَبَ خَالِدٌ الْأَمَانَ لِأَهْلِ دِمَشْقَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْأَمِيرُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ. ثُمَّ لَمَّا عَلِمَ خَالِدٌ بِذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ جَاءَكَ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوِلَايَةِ فَلَمْ تُعْلِمْنِي وَتُصَلِّي خَلْفِي وَالسُّلْطَانُ سُلْطَانُكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ مَا كُنْتُ لِأُعْلِمَكَ حَتَّى تَعْلَمَهُ مِنْ غَيْرِي، وَمَا كُنْتُ لِأَكْسِرَ عَلَيْكَ حَرْبَكَ حَتَّى يَنْقَضِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَقَدْ كُنْتُ أُعْلِمُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا سُلْطَانُ الدُّنْيَا أُرِيدُ، وَلَا لِلدُّنْيَا أَعْمَلُ، وَإِنَّ مَا تَرَى سَيَصِيرُ إِلَى زَوَالٍ وَانْقِطَاعٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ أَخَوَانِ وَقُوَّامٌ بِأَمْرِ اللَّهِ عز وجل وَمَا يَضُرُّ الرَّجُلَ أَنْ يَلِيَ عَلَيْهِ أَخُوهُ فِي دِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَالِيَ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ أَدْنَاهُمَا إِلَى الْفِتْنَةِ وَأَوْقَعَهُمَا فِي الْحِطَّةِ لِمَا تَعَرَّضَ مِنَ الْهَلَكَةِ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ عز وجل وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، فَدَفَعَ أَبُو عُبَيْدَةَ عِنْدَ ذَلِكَ الْكِتَابَ إِلَى خَالِدٍ، وَتُوُفِّيَ رضي الله عنه بِالْأُرْدُنِّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ كُورَةٌ بِأَعْلَى الشَّامِ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَمِينًا وَأَمِينِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» وَعَنْ حُذَيْفَةَ: «جَاءَ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْعَثْ مَعَنَا أَمِينَكَ، فَقَالَ: " سَأَبْعَثُ مَعَكُمْ أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ " فَتَشَرَّفَتْ لَهَا النَّاسُ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ» . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: «لَمَّا جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ أَرَادَا أَنْ يُلَاعِنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تُلَاعِنْهُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا وَلَاعَنَّاهُ لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا أَبَدًا. قَالَ: فَأَتَيَاهُ فَقَالَا: لَا نُلَاعِنُكَ، وَلَكِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ؛ فَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " سَأَبْعَثُ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ " قَالَ: فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ " فَلَمَّا قَفَّى قَالَ: " هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ، مَكَانَ قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ، وَمِنْ كَلَامِهِ: بَادِرُوا السَّيِّئَاتِ الْقَدِيمَاتِ بِالْحَسَنَاتِ الْحَادِثَاتِ، وَإِلَّا رُبَّ مُبَيِّضٍ لِثِيَابِهِ مُدَنِّسٍ لِدِينِهِ، وَإِلَّا رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ الْفِهْرِيُّ الْقُرَشِيُّ، أَسْلَمَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبَتَ مَعَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَنَزَعَ الْحَلْقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ دَخَلَتَا فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ حَبْقِ الْمِغْفَرِ فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، كَانَ طُوَالًا مَعْرُوقَ الْوَجْهِ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ بِالْأُرْدُنِّ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَدُفِنَ بِبَنْيَانَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، يَلْتَقِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
6116 -
وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَسُئِلَتْ: مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْلِفًا لَوِ اسْتَخْلَفَهُ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ. فَقَالَ: ثُمَّ مَنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: عُمَرُ. قِيلَ: مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
6116 -
(وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَاسْمُ أَبِي مُلَيْكَةَ زُهَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ الْقُرَشِيُّ الْأَحْوَلُ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ سِوَاهُ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ.
(قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَسُئِلَتْ)، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهَا سُئِلَتْ: (مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْلِفًا)، أَيْ: جَاعِلًا خَلِيفَةً لَهُ (لَوِ اسْتَخْلَفَهُ) ؟ أَيْ: صَرِيحًا عَلَى الْفَرْضِ (قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ. فَقِيلَ: ثُمَّ مَنْ) ؟ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيِ الَّذِي (بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: عُمَرُ. قِيلَ: مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ أَبُو عُبَيْدَةَ) . فَفِيهِ أَنَّ اعْتِقَادَ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ كَانَ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
6117 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ» . وَزَادَ بَعْضُهُمْ: وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلِيًّا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
6117 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى حِرَاءٍ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ مُنْصَرِفًا وَقَدْ لَا يَنْصَرِفُ (هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " اهْدَأْ ") : بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ أَيِ: اسْكُنْ (" فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ ") : يُرِيدُ بِهِ الْجِنْسَ ; لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ بَعْدَ الصِّدِّيقِ كُلُّهُمْ شُهَدَاءُ، ثُمَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ إِخْبَارُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ، فَقَتْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مَشْهُورٌ، وَقُتِلَ الزُّبَيْرُ بِوَادِي السِّبَاعِ بِقُرْبِ الْبَصْرَةِ مُنْصَرِفًا تَارِكًا لِلْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ طَلْحَةُ اعْتَزَلَ النَّاسَ تَارِكًا لِلْقِتَالِ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ، وَفِيهِ بَيَانُ فَضِيلَةِ هَؤُلَاءِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ التَّمْيِيزِ فِي الْحِجَارَةِ وَجَوَازُ التَّزْكِيَةِ اهـ. وَأَغْرَبَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ حَيْثُ قَالَ فِي كَوْنِ مَنْ صَابَهُ سَهْمٌ مَقْتُولًا ظُلْمًا تَأَمَّلْ.
(وَزَادَ بَعْضُهُمْ)، أَيْ: فِي الْحَدِيثِ قَوْلَهُ: (وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ)، أَيْ: ذَلِكَ الْبَعْضُ (عَلِيًّا) فَقَوْلُهُ: زَادَ فِيهِ مُسَامَحَةٌ إِذْ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ وَمُبَادَلَةٌ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَنَّ سَعْدًا مَاتَ فِي قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَتَوَجُّهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَكُونَ بِالتَّغْلِيبِ، أَوْ كَمَا قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: كَانَ مَوْتُهُ بِمَرَضٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُورِثُ حُكْمَ الشَّهَادَةِ اهـ. وَمَعَ هَذَا فِيهِ نَوْعُ تَغْلِيبٍ كَمَا لَا يَخْفَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِرَاءٍ فَتَحَرَّكَ فَقَالَ: " اثْبُتْ حِرَاءُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ " قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ " قَالَ: قِيلَ: فَمَنِ الْعَاشِرُ؟ قَالَ: " أَنَا» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي الرِّيَاضِ: أَنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى فِرَاشِهِ فَتُوَجَّهُ شَهَادَتُهُ أَنَّهُ شَهِيدٌ حُكْمِيٌّ كَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ حَيْثُ مَاتَا عَلَى فِرَاشِهِمَا أَيْضًا، وَأُدْخِلُوا فِي صِفَةِ الصِّدِّيقِيَّةِ وَلَا بُعْدَ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] .
الْفَصْلُ الثَّانِي
6118 -
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
6118 -
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيَّ الْقُرَشِيَّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَثَبَتَ يَوْمَ أُحُدٍ وَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَأَتَمَّ مَا فَاتَهُ، كَانَ طَوِيلًا رَقِيقَ الْبَشَرَةِ أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِالْحُمْرَةِ ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ أَقْنَى، أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ بِعِشْرِينَ جِرَاحَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَأَصَابَهُ بَعْضُهَا فِي رِجْلِهِ فَعَرَجَ، وُلِدَ بَعْدَ الْفِيلِ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَفِي الرِّيَاضِ: كَانَ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِيلَ عَبْدُ الْكَعْبَةِ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْبَارُّ؛ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ» ) . الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ هُوَ الْمَذْكُورُ عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُشْعِرُ إِلَيْهِ ذِكْرُ اسْمِ الرَّاوِي بَيْنَ الْأَسْمَاءِ، وَإِلَّا كَانَ مُقْتَضَى التَّوَاضُعِ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي آخِرِهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي تَرْتِيبِ الْبَقِيَّةِ مِنَ الْعَشَرَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
6119 -
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ.
ــ
6119 -
(وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ -) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالضِّيَاءُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ)، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ أَبَا الْأَعْوَرِ الْعَدَوِيَّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ طَلْحَةَ يَطْلُبَانِ خَبَرَ عِيرِ قُرَيْشٍ، وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَهْمٍ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ أُخْتُ عُمَرَ تَحْتَهُ، وَبِسَبَبِهَا كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ، كَانَ آدَمَ طُوَالًا أَشْعُرَ، مَاتَ بِالْعَقِيقِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَلَهُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ حَدِيثًا يَدُلُّ عَلَى مَنَاقِبِهِ مُنْفَرِدًا اكْتِفَاءً بِمَا سَبَقَ عَنْهُ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ، وَفِي الرِّيَاضِ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ابْنِ عَمِّ أَبِيهِ، كَانَ أَبُوهُ زَيْدٌ يَطْلُبُ دِينَ الْحَنِيفِيَّةِ دِينَ إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ، وَكَانَ لَا يَذْبَحُ لِلْأَنْصَابِ وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا الدَّمَ، وَخَرَجَ يَطْلُبُ الدِّينَ هُوَ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَتَنَصَّرَ وَرَقَةُ وَأَبَى هُوَ التَّنَصُّرَ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِنَّكَ تَطْلُبُ دِينًا مَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ زَيْدٌ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو يَطْلُبَانِ الدِّينَ حَتَّى مَرَّا بِالشَّامِ، فَأَمَّا وَرَقَةُ فَتَنَصَّرَ، وَأَمَّا زَيْدٌ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الدِّينَ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى الْمَوْصِلَ، فَإِذَا هُوَ بِرَاهِبٍ. قَالَ: مَا تَطْلُبُ؟ قَالَ: الدِّينَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا. فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ سَيَظْهَرُ لِأَرْضِكَ فَأَقْبَلَ وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا، مَهْمَا يُجَشِّمُنِي - أَيْ يُحَمِّلُنِي وَيُكَلِّفُنِي - فَإِنِّي جَاشِمٌ عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ: وَمَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَأْكُلَانِ مِنْ سُفْرَةٍ لَهُمَا، فَدَعَوَاهُ إِلَى الْغَدَاءِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. قَالَ: فَمَا رُؤِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ يَأْكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ حَتَّى بُعِثَ. قَالَ: فَأَتَاهُ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ زَيْدًا كَانَ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ وَبَلَغَكَ؛ اسْتَغْفِرْ لَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَقَالَ: إِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً» أَخْرَجَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَعَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ وَيَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا وَأَنَا أَكْفِيكَ مُؤْنَتَهَا، فَيَأْخُذَهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مُؤْنَتَهَا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] نَزَلَتْ فِي ثَلَاثَةِ فَهُمْ كَانُوا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ عز وجل: زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَسَلْمَانَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا نَبِيٍّ. أَخْرَجَهُ الْوَاحِدِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ.
6120 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ، مُرْسَلًا وَفِيهِ:" وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ ".
ــ
6120 -
(وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَرْحَمُ أُمَّتِي ")، أَيْ: أَكْثَرُهُمْ رَحْمَةً (" بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشُدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ)، أَيْ: أَقْوَاهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (" عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَفْرَضُهُمْ ")، أَيْ: أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا بِالْفَرَائِضِ (زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ)، أَيِ: الْأَنْصَارِيُّ كَاتِبُ النَّبِيِّ، وَكَانَ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ أَحَدَ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّةِ الْقَائِمَ بِالْفَرَائِضِ، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَكَتَبَهُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَنَقَلَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَلَهُ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً. (" وَأَقْرَؤُهُمْ ")، أَيْ: أَعْلَمُهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (" أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ")، أَيِ: الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيَ، وَهُوَ أَحَدُ السِّتَّةِ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَنَّاهُ أَبَا الْمُنْذِرِ، وَعُمَرُ أَبَا الطُّفَيْلِ، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ سَيِّدَ الْأَنْصَارِ، وَعُمَرُ سَيِّدَ الْمُؤْمِنِينَ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (" وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ") : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْحَرَامِ وَالْحَلَالِ (" مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ") ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، وَهُوَ أَحَدُ السَّبْعِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا الْعَقَبَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَبَعَثَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَمُعَلِّمًا، رَوَى عَنْهُ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، وَأَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَاسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى الشَّامِ بَعْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، فَمَاتَ فِي عَامِهِ ذَاكَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسٍ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَلَهُ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. (" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ ")، أَيْ: مُبَالِغٌ فِي الْأَمَانَةِ (" وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ") . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ زُهْدِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي الرِّيَاضِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الشَّامِ تَلَقَّاهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ وَعُظَمَاءُ الْأَرْضِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيْنَ أَخِي؟ قَالُوا: مَنْ؟ قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالُوا: يَأْتِيكَ الْآنَ، فَلَمَّا أَتَاهُ نَزَلَ فَاعْتَنَقَهُ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَلَمْ يَرَ فِي بَيْتِهِ إِلَّا سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَرَحْلَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَا اتَّخَذْتَ مَا اتَّخَذَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا يُبَلِّغُنِي الْمَقِيلَ. أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الصَّفْوَةِ وَالْفَضَائِلِيُّ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَأْتِيكَ الْآنَ: فَجَاءَ عَلَى نَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ بِحَبْلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى مَنْزِلِكَ. قَالَ: فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا قَالَ: أَيْنَ مَتَاعُكَ مَا أَرَى إِلَّا لِبْدًا وَصَحْفَةً وَسَيْفًا وَأَنْتَ أَمِيرٌ؟ أَعِنْدَكَ طَعَامٌ؟ فَقَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى جَوْبَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا كِسْرَاتٍ، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: غَرَّتْنَا الدُّنْيَا كُلَّنَا غَيْرَكَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .
(وَرُوِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: الْحَدِيثُ (عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا)، أَيْ: بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ (وَفِيهِ)، أَيْ: فِي هَذَا الْمَرْوِيِّ (" وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ ") . أَيْ: أَعْلَمُهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ قَالَهُ شَارِحٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الْخُصُومَةِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى الْقَضَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ قَوْلُهُ: أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ، لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَقْضَى مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُمَا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ، وَإِنْ ثَبَتَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ وَاحِدٍ أَقْضَى مِنْ جَمَاعَةٍ كَوْنُهُ أَقْضَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، يَعْنِي لِاحْتِمَالِ التَّسَاوِي مَعَ بَعْضِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ وَاحِدٍ أَقْضَى أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ أَعْلَمَ كَوْنُهُ أَفْضَلَ يَعْنِي لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ أَكْثَرَ فَضِيلَةً كَوْنُهُ أَكْثَرَ مَثُوبَةً، كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمَدَارَ عِنْدَنَا عَلَى الظَّاهِرِ، إِذْ لَا نَطَّلِعُ نَحْنُ عَلَى السَّرَائِرِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» وَأَمَّا حَدِيثُ: «مَا فَضَلَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِفَضْلِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ» فَقَدْ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ بِلَفْظِ: «مَا فَضَلَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ بِكَثْرَةِ صَلَاةٍ وَلَا بِكَثْرَةِ صَوْمٍ» ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ مَرْفُوعًا، وَهُوَ عِنْدَ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ قَوْلِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، نَعَمْ لَوْ لُوحِظَ اعْتِبَارُ الْأَسْبَقِيَّةِ فِي أَكْثَرِيَّةِ الثَّوَابِ الْأُخْرَوِيَّةِ مَعَ الْمُشَارَكَةِ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ إِلَى صَوْبِ الصَّوَابِ، فَقَدْ قَالُوا: الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبْقِ هُوَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنْ شَارَكَهُ عَلِيٌّ وَخَدِيجَةُ وَزَيْدٌ، إِذْ إِيمَانُ الصَّغِيرِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَوْلَى لَا سِيَّمَا وَهُمْ مِنَ الْأَتْبَاعِ لَيْسَ لَهُ شَأْنٌ عِنْدَ الْأَعْدَاءِ، وَلِهَذَا قَوِيَ الْإِيمَانُ بِحَمْزَةَ وَعَزَّ بِإِسْلَامِ عُمَرَ، كَمَا قَالَ عز وجل:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ
مُتَعَارِضَةٌ وَالْأَدِلَّةَ مُتَنَاقِضَةٌ، فَالْعِبْرَةُ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَبِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمَعَ هَذَا فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ لَا يَقِينِيَّةٌ خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَ، وَقَدْ صَرَّحَ شَيْخُ الشُّيُوخِ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي عَلَمِ الْهُدَى: فَإِنْ قَبِلْتَ النُّصْحَ فَأَمْسِكْ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْرِهِمْ، وَاجْعَلْ مَحَبَّتَكَ لِلْكُلِّ عَلَى السَّوَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرَجِّحَ مَحَبَّةَ أَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ، وَأَمْسِكْ عَنِ التَّفْضِيلِ وَالْغُلُوِّ، وَإِنْ خَامَرَ بَاطِنَكَ فَضْلُ أَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ فَاجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْرَارِكَ، فَلَا يَلْزَمُكَ إِظْهَارُهُ، وَلَا يَلْزَمُكَ أَنْ تُحِبَّ أَحَدَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، أَوْ تَعْتَقِدَ فَضْلَهُ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، بَلْ يَلْزَمُكَ مَحَبَّةُ الْجَمِيعِ وَالِاعْتِرَافُ بِفَضْلِ الْجَمِيعِ، وَيَكْفِيكَ فِي الْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ أَنْ تَعْتَقِدَ صِحَّةَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، ثُمَّ تَعْلَمَ أَنَّ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ كَانَا عَلَى الْقِتَالِ وَالْخِصَامِ، وَكَانَ الطَّائِفَتَانِ يَسُبُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَمَا حَكَمَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِكُفْرِ الْآخَرِينَ، إِنَّمَا كَانَتْ ذُنُوبًا لَهُمْ فَلَا تُكَفِّرْ أَحَدًا بِمَا تَرَى مِنْهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالسَّبِّ، وَاعْتَقِدْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا اجْتَهَدَ فِي الْخِلَافَةِ وَأَصَابَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ إِذْ ذَاكَ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ اجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ وَأَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهَا مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَاللَّهُ تَعَالَى يَنْفَعُنَا بِمَحَبَّتِهِمْ وَيَحْشُرُنَا فِي زُمْرَتِهِمْ.
6121 -
وَعَنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ دِرْعَانِ، فَنَهَضَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَعَدَ طَلْحَةُ تَحْتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " أَوْجَبَ طَلْحَةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6121 -
(وَعَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دِرْعَانِ يَوْمَ أُحُدٍ)، أَيْ: مُبَالَغَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] وَقَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فَإِنَّهَا تَشْمَلُ الدِّرْعَ، وَإِنْ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَقْوَى أَفْرَادِهَا حَيْثُ قَالَ:«أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» (فَنَهَضَ)، أَيْ: فَقَامَ مُنْتَبِهًا أَوْ مُتَوَجِّهًا (إِلَى الصَّخْرَةِ)، أَيِ: الَّتِي كَانَتْ هُنَاكَ لِيَسْتَوِيَ عَلَيْهَا، وَيَنْظُرَ إِلَى الْكُفَّارِ وَيُشْرِفَ عَلَى الْأَبْرَارِ وَيَظْهَرَ لِلْفُرَّارِ وَالْكُرَّارِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَذَهَبَ لِيَنْهَضَ عَلَى صَخْرَةٍ (فَلَمْ يَسْتَطِعْ) أَيْ لِثِقَلِ دِرْعَيْهِ (فَقَعَدَ طَلْحَةُ تَحْتَهُ)، أَيْ: وَجَعَلَ نَفْسَهُ تَحْتَهُ، وَبِهَذَا رَفَعَ قَدْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَبَرَكَ طَلْحَةُ تَحْتَهُ (حَتَّى اسْتَوَى) . أَيِ النَّبِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ فَصَعِدَ (عَلَى الصَّخْرَةِ فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" أَوْجَبَ طَلْحَةُ ") . أَيِ الْجَنَّةَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ بِعَمَلِهِ هَذَا أَوْ بِمَا فَعَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِنَّهُ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَفَدَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعَلَهَا وِقَايَةً لَهُ حَتَّى طُعِنَ بِبَدَنِهِ، وَجُرِحَ جَمِيعُ جَسَدِهِ حَتَّى شُلَّتْ يَدُهُ وَجُرِحَ بِبِضْعٍ وَثَمَانِينَ جِرَاحَةً (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
6122 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ". وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6122 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ) : اسْتِئْنَافٌ أَوْ حَالٌ ( «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ» )، أَيْ: نَذْرَهُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوْتُ أَيْ مَاتَ وَإِنْ كَانَ حَيًّا (فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: النَّحْبُ النَّذْرُ كَأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ يَصْدُقَ أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ فَوَفَّى بِهِ، وَقِيلَ الْمَوْتُ كَأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ تُقَاتِلَ حَتَّى تَمُوتَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: النَّذْرُ وَالنَّحْبُ الْمُدَّةُ وَالْوَقْتُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: قَضَى فُلَانٌ نَحْبَهُ إِذَا مَاتَ، وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23] فَعَلَى النَّذْرِ أَيْ نَذْرَهُ فِيمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّدْقِ فِي مَوَاطِنِ الْقِتَالِ، وَالنُّصْرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمَوْتِ أَيْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَاهَدُوا اللَّهَ أَنْ يَبْذُلُوا نُفُوسَهُمْ فِي سَبِيلِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ طَلْحَةَ مِمَّنْ وَفَّى بِنَفْسِهِ أَوْ مِمَّنْ ذَاقَ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِهِ، إِنْ كَانَ حَيًّا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
(وَفِي رِوَايَةٍ: " مَنْ سَرَّهُ لَا)، أَيْ: أَحَبَّهُ وَأَعْجَبَهُ وَأَفْرَحَهُ (" أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) : وَكَانَ طَلْحَةُ قَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وِقَايَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَقُولُ: عُقِرْتُ يَوْمَئِذٍ فِي سَائِرِ جَسَدِي حَتَّى عُقِرْتُ فِي ذَكَرِي، وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم إِذَا ذَكَرُوا يَوْمَ أُحُدٍ قَالُوا ذَاكَ يَوْمٌ كَانَ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ. وَأَقُولُ: الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِيمَاءً إِلَى حُصُولِ الشَّهَادَةِ فِي مَآلِهِ الدَّالَّةِ عَلَى حُسْنِ خَاتِمَتِهِ وَكَمَالِهِ، وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ: قَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَفْصٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ مُغْنِيًا بِهِ التَّعْبِيرُ بِالْحَالِ عَنِ الْمَآلِ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَاهُ جَلِيٌّ مِنْ حَيْثُ فَحْوَاهُ، إِذِ الْمَوْتُ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَيْبُوبَةِ عَنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَقَدْ كَانَ هَذَا حَالَهُ مِنَ الِانْجِذَابِ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ إِحْكَامِ الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ كَمَالِ التَّقْوَى وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْخُرُوجِ مِنَ الِارْتِهَانِ بِنَظَرِ الْخَلْقِ، وَامْتِطَاءِ صَهْوَةِ الْإِخْلَاصِ، وَكَمَالِ الشُّغْلِ بِاللَّهِ عز وجل بِتَنَاوُبِ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ وَصِدْقِ الْعَزِيمَةِ فِي الْعُزْلَةِ، وَاغْتِنَامِ الْوِحْدَةِ وَالْفِرَارِ عَنْ مُسَاكَنَةِ الْأُنْسِ بِالْجُلَسَاءِ وَالْإِخْوَانِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَوَافَقَهُ الْحَاكِمُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِلَفْظِ: مَنْ أَحَبَّ بَدَلَ مَنْ سَرَّهُ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ:«طَلْحَةُ شَهِيدٌ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ: طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ. وَفِي الرِّيَاضِ، «عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: " طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ. «وَعَنْ طَلْحَةَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا لِأَعْرَابِيٍّ جَاهِلٍ: سَلْهُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ مَنْ هُوَ، وَكَانُوا لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَى مُسَاءَلَتِهِ يُوَقِّرُونَهُ وَيَهَابُونَهُ، فَسَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنِّي اطَّلَعْتُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَعَلَيَّ ثِيَابٌ خُضْرٌ، فَلَمَّا رَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ؟ " قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ أَخْرَجَهُ» التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي الرِّيَاضِ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَلَدَهُ، وَهُوَ السَّجَّادُ سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ عِبَادَتِهِ، وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَّوْهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّوْهُ أَبَا الْقَاسِمِ، فَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ سَمَّاهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّاهُ أَبَا سُلَيْمَانَ وَقَالَ: (لَا أَجْمَعُ بَيْنَ اسْمِي وَكُنْيَتِي) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ بِهِ قَتِيلًا فَقَالَ: هَذَا السَّجَّادُ قَتَلَهُ بِرُّهُ بِأَبِيهِ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
6123 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعَتْ أُذُنِي مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ يَقُولُ: " طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ جَارَايَ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
6123 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنِي) : بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ (مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: مِنْ فَمِهِ، وَقَوْلُهُ أُذُنِي لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى طَرِيقِ رَأَيْتُ بِعَيْنِي (يَقُولُ) : وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ يَقُولُ ( «طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ جَارَايَ فِي الْجَنَّةِ» ) وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ قُرْبِهِمَا لَهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ.
6124 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَئِذٍ، يَعْنِي: يَوْمَ أُحُدٍ: " اللَّهُمَّ اشْدُدْ رَمْيَتَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".
ــ
6124 -
(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَئِذٍ - يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ) : هَذَا تَفْسِيرُ مَنْ رَوَى بَعْدَ سَعْدٍ (" اللَّهُمَّ اشْدُدْ ") : بِضَمِّ الدَّالِ الْأُولَى أَيْ قَوِّ (" رَمْيَتَهُ ") بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ رَمْيَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ سَدِّدْ سَهْمَهُ (" وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ ". رَوَاهُ)، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .
6125 -
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ إِذَا دَعَاكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6125 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ سَعْدٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ) أَيِ الدُّعَاءَ (" لِسَعْدٍ ")، أَيِ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ التِّرْمِذِيِّ (إِذَا دَعَاكَ) أَيْ كُلَّمَا دَعَاكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْحَدِيثَ.
6126 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ «مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَاهُ وَأُمَّهُ إِلَّا لِسَعْدٍ، قَالَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي " وَقَالَ لَهُ: " ارْمِ أَيُّهَا الْغُلَامُ الْحَزَوَّرُ ".» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6126 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَاهُ وَأُمَّهُ)، أَيْ: فِي التَّفْدِيَةِ وَفِي رِوَايَةٍ: أَبَوَيْهِ (لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدٍ)، أَيْ: يَوْمَ أُحُدٍ أَوْ بِنَاءً عَلَى سَمَاعِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ (قَالَ لَهُ)، أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ (يَوْمَ أُحُدٍ: " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ") : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَقَدْ يُكْسَرُ (وَقَالَ لَهُ)، أَيْ: أَيْضًا (" ارْمِ أَيُّهَا الْغُلَامُ ")، أَيِ: الشَّابُّ الْقَوِيُّ (" الْحَزَوَّرُ ") . بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِ الزَّايِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، وَلَدُ الْأَسَدِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ الَّذِي قَارَبَ الْبُلُوغَ وَالْجَمْعُ الْحَزَاوِرَةُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هَذَا أَصْلُ مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الشَّابُّ؛ لِأَنَّ سَعْدًا جَاوَزَ الْبُلُوغَ يَوْمَئِذٍ اهـ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَارَبَ بُلُوغَ كَمَالِ الرُّجُولِيَّةِ فِي الشَّجَاعَةِ. فَفِي الْقَامُوسِ: الْحَزَوَّرُ كَعَمَلَّسٍ الْغُلَامُ الْقَوِيُّ وَالرَّجُلُ الْقَوِيُّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَلَفْظُهُ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفَدِّي أَحَدًا بِأَبَوَيْهِ، الْحَدِيثَ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَلَفْظُهُ:«مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْدَى رَجُلًا غَيْرَ سَعْدٍ، فَإِنَّهُ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» أَخْرَجَهُ الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ، وَعَنْهُ قَالَ:«جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَالَ: فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ، فَأَصَبْتُ جَبِينَهُ فَسَقَطَ وَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ» . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ: جَمَعَ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ:«نَثَلَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ: " ارْمِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي الرِّيَاضِ: إِنَّ سَعْدًا كَانَ مِمَّنْ لَزِمَ بَيْتَهُ فِي الْفِتْنَةِ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ لَا يُخْبِرُوهُ مِنْ أَخْبَارِ النَّاسِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى الْإِمَامِ. «وَعَنْ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَهُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّةَ مِنْ مَرَضٍ أَشْفَى فِيهِ فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خِفْتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا» ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْوَصِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، وَفِيهِ:«أَنَّ صَدَقَتَكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ، وَأَنَّ نَفَقَتَكَ عَلَى عِيَالِكَ صَدَقَةٌ، وَأَنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُكَ مِنْ مَالِكِ صَدَقَةٌ» . أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
6127 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: كَانَ سَعْدٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَتْ أُمُّ النَّبِيِّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" هَذَا خَالِي ". وَفِي " الْمَصَابِيحِ ": " فَلْيُكْرِمَنَّ " بَدَلَ " فَلْيُرِنِي ".
ــ
6127 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَقْبَلَ سَعْدٌ)، أَيْ: إِلَى الْمَجْلِسِ الْأَسْعَدِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا خَالِي ")، أَيْ: مِنْ قَوْمِ أُمِّي (فَلْيُرِنِي) : بِضَمِّ يَاءٍ وَكَسْرِ رَاءٍ أَيْ فَلْيُبَصِّرْنِي (" امْرُؤٌ ")، أَيْ: كُلُّ امْرِئٍ بِمَعْنَى شَخْصٍ (" خَالَهُ ") . أَيْ لِيُظْهِرَ، أَيْ لَيْسَ لِأَحَدٍ خَالٌ مِثْلُ خَالِي (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَقَالَ؟ غَرِيبٌ (وَقَالَ)، أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (وَكَانَ سَعْدٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ) بِضَمِّ الزَّايِ حَيٌّ مِنْ قُرَيْشٍ (وَكَانَتْ أُمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ زُهْرَةَ) وَزُهْرَةُ اسْمُ امْرَأَةِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ (فَلِذَلِكَ)، أَيْ: لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْكَوْنَيْنِ (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا خَالِي، وَفِي الْمَصَابِيحِ " فَلْيُكْرِمَنَّ ") : أَمْرٌ غَائِبٌ مِنَ الْإِكْرَامِ مُؤَكَّدٌ (بَدَلَ " فَلْيُرِنِي ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ تَصْحِيفٌ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ تَحْرِيفٌ، فَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ بِهَذَا لِمَزِيدِ التَّمْيِيزِ وَكَمَالِ التَّعْيِينِ، فَهُوَ كَالْإِكْرَامِ لَهُ أَيْ أَنَا أُكْرِمُ خَالِي هَذَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَتَّبِعْ كُلٌّ سُنَّتِي، فَلْيُكْرِمَنَّ كُلُّ أَحَدٍ خَالَهُ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْكِتَابِ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَالْجَامِعِ تَقْدِيرُهُ: أَنَا أُمَيِّزُ خَالِي كَمَالَ تَمْيِيزٍ وَتَعْيِينٍ لِأُبَاهِيَ بِهِ النَّاسَ، فَلْيُرِنِي كُلُّ امْرِئٍ خَالَهُ مِثْلَ خَالِي وَنَحْوُهُ فِي التَّمْيِيزِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ
…
إِذَا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ الْمَجَامِعُ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
6128 -
عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ:«سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْحُبْلَةَ وَوَرَقَ السَّمُرِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي، وَكَانُوا وَشَوْا بِهِ إِلَى عُمَرَ، وَقَالُوا: لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
6128 -
(عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، سَبَقَ مَعْنَاهُ مَعَ تَحْقِيقِ مَبْنَاهُ وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ (وَرَأَيْتُنَا)، أَيْ: جَمْعًا مِنَ الصَّحَابَةِ (نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْحُبْلَةَ) : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ثَمَرُ السَّمُرِ يُشْبِهُ اللُّوبِيَا - قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ - وَقِيلَ ثَمَرُ الْعِضَاهِ (وَوَرَقُ السَّمُرِ) ، بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ، شَجَرٌ مَعْرُوفٌ وَاحِدَتُهَا سَمُرَةٌ، وَبِهَا سُمُّوا كَذَا فِي الْقَامُوسِ. (وَإِنْ) : مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ (كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ) : وَاللَّامُ لَامُ الْفَارِقَةِ، وَالْمَعْنَى يَخْرُجُ مِنْهُ (كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ)، أَيْ: مِنَ الْبَعْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ نَجْوَاهُمْ يَخْرُجُ بَعْرًا لِيُبْسِهِ وَعَدَمِ الْغِذَاءِ الْمَأْلُوفِ (مَا لَهُ خِلْطٌ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَا يَخْتَلِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لِجَفَافِهِ وَيُبْسِهِ (ثُمَّ أَصْبَحَتْ)، أَيْ: صَارَتْ (بَنُو أَسَدٍ)، أَيْ: قَبِيلَتُهُمْ (تُعَزِّرُنِي) : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ تُوَبِّخُنِي (عَلَى الْإِسْلَامِ) أَيْ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا عِمَادُ الْإِسْلَامِ، أَوْ عَلَى عُمْدَةِ شَرَائِعِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدِّبُونِي وَيُعَلِّمُونِي الصَّلَاةَ وَيُعَيِّرُونِي بِأَنِّي لَا أُحْسِنُهَا (لَقَدْ خِبْتُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ خَسِرْتُ (إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ أَيْ إِذَا لَمْ أُحْسِنِ الصَّلَاةَ، وَأَفْتَقِرُ إِلَى تَعْلِيمِ بَنِي أَسَدٍ إِيَّايَ (وَضَلَّ عَمَلِي) أَيْ جَمِيعُ طَاعَاتِي وَمُجَاهَدَاتِي وَمُسَابَقَتِي فِي الْإِسْلَامِ وَصِدْقُ قَدَمِي فِي الدِّينِ (وَكَانُوا)، أَيْ: بَنُو أَسَدٍ حِينَ وَلَّاهُ عُمَرُ الْعِرَاقَ (وَشَوْا) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ نَمَوْا وَسَعَوْا (بِهِ)، أَيْ: بِعَيْبِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ (إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه) أَيْ بِالرِّسَالَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ (وَقَالُوا: لَا يُحْسِنُ)، أَيْ: سَعْدٌ (الصَّلَاةَ)، أَيْ: أَرْكَانَهَا أَوْ شَرَائِطَهَا أَوْ سُنَنَهَا وَمُرَاعَاةَ أَحْوَالِهَا، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ التَّعْزِيرُ الْإِعَانَةُ وَالتَّوْقِيرُ وَالنُّصْرَةُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] قَالَ: وَأَصْلُ التَّعْزِيرِ الْمَنْعُ وَالرَّدُّ وَكَانَ مِنْ نُصْرَتِهِ قَدْ رَدَدْتُ عَنْهُ أَعْدَاءَهُ وَمَنَعْتُهُمْ مِنْ أَذَاهُ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلتَّأْدِيبِ، الَّذِي هُوَ دُونَ الْحَدِّ تَعْزِيرٌ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْجَانِيَ أَنْ يُعَاوِدَ الذَّنْبَ، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ سَعْدٍ: أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ أَيْ تُوقِفُنِي عَلَيْهِ وَقِيلَ تُوَبِّخُنِي عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْإِسْلَامِ كَمَا عُبِّرَ عَنْهَا بِالْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] إِيذَانًا بِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا: لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ. قَالَ سَعْدٌ: أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأُخَفِّفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ أَبَا إِسْحَاقَ، قَالَ: فَبَعَثَ رِجَالًا يَسْأَلُونَ عَنْهُ فِي مَسَاجِدِ الْكُوفَةِ، قَالَ: فَلَا يَأْتُونَ مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ الْكُوفَةِ إِلَّا أَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا وَقَالُوا مَعْرُوفًا، حَتَّى أَتَوْا مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ بَنِي عَبْسٍ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَعْدَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لَا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ وَلَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ. قَالَ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَطِلْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ إِذَا سُئِلَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطَّرِيقِ فَيَغْمِزُهُنَّ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَلَا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ، ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ، أَوْ ظَنِّي بِكَ أَبَا إِسْحَاقَ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْبَرْقَانِيُّ عَلَى شَرْطِهِ بِنَحْوِهِمَا. وَقَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ الرَّاوِي عَنْ جَابِرٍ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ يَتَعَرَّضُ لِلْإِمَاءِ فِي السِّكَكِ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ: كَيْفَ أَنْتَ يَا أَبَا سَعْدَةَ؟ قَالَ: كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، وَعِنْدَهُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَأَطِلْ عُمْرَهُ ثُمَّ ذَكَرَ مَا بَعْدَهُ.
6129 -
وَعَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُنِي وَأَنَا ثَالِثُ الْإِسْلَامِ، وَمَا أَسْلَمَ أَحَدٌ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثَالِثُ الْإِسْلَامِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6129 -
(وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُنِي وَأَنَا ثَالِثُ الْإِسْلَامِ) وَالْآخَرَانِ أَبُو بَكْرٍ وَخَدِيجَةُ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيمَانَ عَلِيٍّ مُتَأَخِّرٌ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْبُلَغَاءِ أَوْ فِي الْأَجَانِبِ (وَمَا أَسْلَمَ أَحَدٌ)، أَيْ: مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلِي (إِلَّا فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ لَبِثْتُ (سَبْعَةَ أَيَّامٍ)، أَيْ: عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ أَسْلَمِ، وَالْمَعْنَى مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ:(وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ) . بِضَمِّ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَعْنَى ثُلُثِ الْإِسْلَامِ يَعْنِي أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ حِينَ أَسْلَمَ. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِ عَمَّارٍ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ» ، بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ سَعْدٍ عَلَى الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ لِيَخْرُجَ الْأَعْبُدُ الْمَذْكُورُونَ وَعَلَيٌّ، أَوْ لَمْ يَكُنِ اطَّلَعَ عَلَى أُولَئِكَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَأَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَقَالَ: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ قَبْلِي وَقَالَ سِتَّةَ أَيَّامٍ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا ثُلُثُ الْإِسْلَامِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي رِوَايَةِ الْفَضَائِلِيِّ: إِنَّ الِاثْنَيْنِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ.
6130 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِنِسَائِهِ: " إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يَهُمُّنِي مِنْ بَعْدِي، وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلَّا الصَّابِرُونَ الصِّدِّيقُونَ " قَالَتْ عَائِشَةُ: يَعْنِي الْمُتَصَدِّقِينَ، ثُمَّ قَالَتْ لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ ابْنُ عَوْفٍ تَصَدَّقَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَدِيقَةٍ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6130 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ) : وَفِي الرِّيَاضِ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِنِسَائِهِ: " إِنَّ أَمْرَكُنَّ ")، أَيْ: شَأْنَكُنَّ (" مِمَّا يَهُمُّنِي ") . بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَكَسْرٍ أَيْ مِمَّا يُوقِعُنِي فِي الْهَمِّ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا يَهُمُّنِي (" مِنْ بَعْدِي ")، أَيْ: مِنْ بَعْدِ وَفَاتِي حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْ لَهُنَّ مِيرَاثًا وَهُنَّ قَدْ آثَرْنَ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا حِينَ خُيِّرْنَ (وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ)، أَيْ: عَلَى بَلَاءِ مُؤْنَتِكُنَّ (إِلَّا الصَّابِرُونَ)، أَيْ: عَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ مِنِ اخْتِيَارِ الْقِلَّةِ وَإِعْطَاءِ الزِّيَادَةِ (" وَالصِّدِّيقُونَ ")، أَيْ: كَثِيرُوُ الصِّدْقِ فِي الْبَذْلِ وَالسَّخَاوَةِ (قَالَتْ عَائِشَةُ يَعْنِي)، أَيْ: يُرِيدُ بِهِمُ (الْمُتَصَدِّقِينَ، ثُمَّ قَالَتْ عَائِشَةُ لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ)، أَيِ: ابْنِ عَوْفٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَبُو سَلَمَةَ رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ الْقُرَشِيِّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْمَدِينَةِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَأَعْلَامِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ، وَهُوَ كَثِيرُ الْحَدِيثِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُمْ، رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَصْلِ الْحَدِيثِ (سَقَى اللَّهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ) . وَهِيَ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ سُمِّيَتْ لِسَلَاسَةِ انْحِدَارِهَا فِي الْحَلْقِ، وَسُهُولَةِ مَسَاغِهَا الْبَاطِنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا - عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 17 - 18] يُقَالُ: شَرَابٌ سَلْسَلٌ وَسَلْسَالٌ وَسَلْسَبِيلٌ، وَقَدْ زِيدَتِ الْبَاءُ فِي التَّرْكِيبِ حَتَّى صَارَتِ الْكَلِمَةُ خُمَاسِيَّةً، وَدَلَّتْ عَلَى غَايَةِ السَّلَاسَةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى سَلَّ سَبِيلًا إِلَيْهَا، (وَكَانَ ابْنُ عَوْفٍ) : مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي حَالٌ مِنْ عَائِشَةَ وَالْعَامِلُ قَالَتْ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ بَيَانًا لِتَصْدِيقِهِ وَتِبْيَانًا لِقَوْلِهَا يَعْنِي الْمُتَصَدِّقِينَ (قَدْ تَصَدَّقَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَدِيقَةٍ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا)، أَيْ: مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي رِوَايَةٍ: وَقَدْ رَصَدَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ بِيعَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَوْصَى بِحَدِيقَةٍ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِيعَتْ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: تَصَدَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَطْرِ مَالِهِ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ رَاحِلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ عَامَّةُ مَالِهِ مِنَ التِّجَارَةِ، أَخْرَجَهُ فِي الصَّفْوَةِ. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: أَوْصَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَخْرَجَهُ الْفَضَائِلِيُّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرِضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَصَحَّ فَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ بِيَدِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَهُ عَلَيَّ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَامَ عُثْمَانُ وَذَهَبَ مَعَ النَّاسِ فَقِيلَ لَهُ:
يَا أَبَا عَمْرٍو لَسْتَ غَنِيًّا؟ ! قَالَ: هَذِهِ وَصْلَةٌ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْ مَالٍ حَلَالٍ، فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ، وَكَتَبَ جَرِيدَةً بِتَفْرِيقِ جَمِيعِ الْمَالِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ حَتَّى كَتَبَ أَنَّ قَمِيصَهُ الَّذِي عَلَى بَدَنِهِ لِفُلَانٍ وَعِمَامَتَهُ لِفُلَانٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ إِلَّا كَتَبَهُ لِلْفُقَرَاءِ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَبَطَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَقْرِئْ مِنِّي عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَامَ وَاقْبَلْ مِنْهُ الْجَرِيدَةَ ثُمَّ رُدَّهَا عَلَيْهِ وَقُلْ لَهُ قَدْ قَبِلَ اللَّهُ صَدَقَتَكَ وَهُوَ وَكِيلُ اللَّهِ وَوَكِيلُ رَسُولِهِ، فَلْيَصْنَعْ فِي مَالِهِ مَا شَاءَ وَلِيَتَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ قَبْلَ يَوْمٍ، وَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» . أَخْرَجَهُ الْمُلَّا فِي سِيرَتِهِ. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَعْتَقَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الصَّفْوَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تُوُفِّيَ وَكَانَ فِيمَا خَلَّفَهُ ذَهَبٌ قُطِّعَ بِالْفُئُوسِ حَتَّى مَجَلَتْ أَيْدِيِ الرِّجَالِ مِنْهُ، وَتَرَكَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ ثَمَانُونَ أَلْفًا أَخْرَجَهُ فِي الصَّفْوَةِ. وَعَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: صَالَحْنَا امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ مِنْ ثُلُثِ الثُّمُنِ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ رُبْعِ الثُّمُنِ أَخْرَجَهُ أَبُو عَمْرٍو. قَالَ الطَّائِيُّ: قُسِّمَ مِيرَاثُهُ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، مَبْلَغُ نَصِيبِ كَلِّ امْرَأَةٍ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
6131 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَزْوَاجِهِ: " إِنَّ الَّذِي يَحْثُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي هُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
6131 -
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : وَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَزْوَاجِهِ " إِنَّ الَّذِي يَحْثُو)، أَيْ: يَجُودُ وَيَنْثُرُ (" عَلَيْكُنَّ ")، أَيْ: مَا تُنْفِقْنَ (" بَعْدِي ")، أَيْ: بَعْدَ مَوْتِي (" هُوَ الصَّادِقُ)، أَيِ: الصَّادِقُ الْإِيمَانِ (" الْبَارُّ ") بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ صَاحِبُ الْإِحْسَانِ (" اللَّهُمَّ اسْقِ) : بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَقَطْعِهَا (عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ) . وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مَا صَدَرَ مِنَ الْحَثْيِ كَأَنَّهُ صَنَعَ الصَّنِيعَةَ فَشَكَرَهُ وَدَعَا لَهُ، وَمِنْ هُنَا دَعَتِ الصِّدِّيقَةُ لَهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ حِينَ تَصَدَّقَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحَدِيقَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا ذَكَرَ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ هُنَا أَيْضًا مِنْ كَلَامِهَا رضي الله عنها.
6132 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا أَمِينًا، فَقَالَ: " لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ " فَاسْتَشْرَفَ لَهَا النَّاسُ، قَالَ: فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ ابْنَ الْجَرَّاحِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6132 -
(وَعَنْ حُذَيْفَةَ)، أَيِ: ابْنِ الْيَمَانِ صَاحِبِ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ) : بِفَتْحِ نُونٍ فَسُكُونِ جِيمٍ مَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ، فُتِحَ سَنَةَ عَشْرٍ سُمِّي بِنَجْرَانَ بْنِ زَيْدَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَمَوْضِعٌ بِحَوْرَانَ قُرْبَ دِمَشْقَ، وَمَوْضِعُهُ بَيْنَ الْكُوفَةِ. وَوَاسِطَةُ الْكُلُّ مِنَ الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْ) ، أَيْ: أَرْسِلْ (إِلَيْنَا رَجُلًا أَمِينًا)، أَيْ: لِيَكُونَ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا أَوْ مُعَلِّمًا لَنَا (فَقَالَ: " لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ ") . بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: قَدِمْتُ خَيْرَ مَقْدَمٍ أَيْ: أَمِينًا صَادِقَ الْأَمْنِ وَثَابِتَهُ وَمُسْتَحِقًّا أَنْ يُقَالَ لَهُ الْأَمِينُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَوْكِيدٌ، وَلِذَا أَضَافَهُ نَحْوُ: إِنَّ زَيْدًا لَعَالِمٌ حَقُّ عَالِمٍ وَجِدُّ عَالِمٍ أَيْ عَالِمٌ حَقًّا وَجِدًّا، يَعْنِي عَالِمٌ يُبَالِغُ فِي الْعِلْمِ جِدًّا وَلَا يَتْرُكُ مِنَ الْجِدِّ الْمُسْتَطَاعِ مِنْهُ شَيْئًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] أَيْ جِهَادٌ فِيهِ حَقًّا خَالِصًا لِوَجْهِهِ، فَعُكِسَ وَأُضِيفَ الْحَقُّ إِلَى الْجِهَادِ مُبَالَغَةً. (فَاسْتَشْرَفَ)، أَيْ: طَمِعَ (لَهَا)، أَيْ: لِلْإِمَارَةِ وَتَوَقَّعَهَا (النَّاسُ) أَيْ حِرْصًا بِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِ صِفَةِ الْأَمَانَةِ لَا عَلَى الْوِلَايَةِ مَنْ حَيْثُ هِيَ (قَالَ)، أَيْ: حُذَيْفَةُ (فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاجِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6133 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ نُؤَمِّرُ بَعْدَكَ؟ قَالَ: إِنْ تُؤَمِّرُوا أَبَا بَكْرٍ تَجِدُوهُ أَمِينًا زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عُمَرَ تَجِدُوهُ قَوِيًّا أَمِينًا لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عَلِيًّا - وَلَا أَرَاكُمْ فَاعِلِينَ - تَجِدُوهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا يَأْخُذُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
6133 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ نُؤَمِّرُ) : بِضَمِّ نُونٍ وَفَتَحِ هَمْزَةٍ وَكَسْرِ مِيمٍ مُشَدَّدَةٍ فَرَاءٍ أَيْ مَنْ نَجْعَلُهُ أَمِيرًا عَلَيْنَا (بَعْدَكَ) أَيْ بَعْدَ مَوْتِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ بَدَلَ النُّونِ أَيْ مَنْ تَجْعَلُهُ أَمِيرًا عَلَيْنَا بَعْدَكَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ:(قَالَ: " إِنْ تُؤَمِّرُوا أَبَا بَكْرٍ تَجِدُوهُ أَمِينًا ")، أَيْ: دِينًا لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْأَمَانَةِ وَعَلَى وَجْهِ الْعَدَالَةِ (" زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْآخِرَةِ ") ، فِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِيَتِمَّ الْإِخْلَاصُ.