المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووفاته] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[بَابُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[بَابُ صِفَةِ النَّارِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[بَابُ خَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌[بَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[كِتَابِ الْفَضَائِلِ] [

- ‌بَابُ فَضَائِلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ]

- ‌[بَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتِهِ]

- ‌[بَابٌ فِي أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[بَابُ الْمَبْعَثِ وَبَدْءِ الْوَحْيِ]

- ‌[بَابُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْمِعْرَاجِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْمُعْجِزَاتِ]

- ‌[بَابُ الْكَرَامَاتِ]

- ‌[بَابٌ هِجْرَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَفَاتُهُ]

- ‌[بَابٌ]

- ‌[كِتَابُ الْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ] [

- ‌بَابُ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ وَذِكْرِ الْقَبَائِلِ]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عُثْمَانَ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ الْعَشَرَةِ رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن]

- ‌[بَابُ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ]

- ‌[تَسْمِيَةُ مَنْ سُمِّيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَذِكْرِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ]

- ‌[بَابُ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ]

الفصل: ‌[باب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووفاته]

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: بِالثَّنَاءِ الْجَزِيلِ وَالدُّعَاءِ الْجَمِيلِ (حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا)، أَيْ: دَخَلُوا فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ (عَرَجُوا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: صَعَدُوا إِلَى السَّمَاءِ (وَهَبَطَ)، أَيْ: نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ (مِثْلُهُمْ)، أَيْ: مِنْ عَدَدِ الْمَلَائِكَةِ فِي لَيْلَتِهِمْ (فَصَنَعُوا مِثْلَ ذَلِكَ)، أَيْ: مِنْ ضَرْبِ الْأَجْنِحَةِ وَكَثْرَةِ التَّصْلِيَةِ (حَتَّى إِذَا انْشَقَّتْ عَنْهُ الْأَرْضُ)، أَيْ: عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ (خَرَجَ، أَيْ: ظَهَرَ (فِي سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَزُفُّونَهُ) . بِضَمِّ الزَّايِ وَيُكْسَرُ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: يَهْدُونَ الْمَحْبُوبَ إِلَى الْحَبِيبِ أَوِ الْمُحِبَّ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَالْأَوَّلُ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ أَكْثَرُ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ اللُّغَةِ أَظْهَرُ، فَإِنَّ يَزُفُّونَ بِالضَّمِّ مَنْ زَفَفْتُ الْعَرُوسَ إِلَى زَوْجِهَا إِذَا أَهْدَيْتُهَا إِلَيْهِ، وَيَزِفُّونَ بِالْكَسْرِ مَنْ زَفَّ الْبَعِيرُ أَوِ الظَّلِيمُ، وَهُوَ الذَّكَرُ مِنَ النَّعَامِ إِذَا أَسْرَعَ فَفِيهِ حَذْفٌ وَإِيصَالٌ أَيْ: يُسْرِعُونَ بِهِ إِلَيْهِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحَدِيثِ ضَمُّ الْيَاءِ وَكَسْرُ الزَّايِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ حَيْثُ قَالَ: زَفَّ الْعَرُوسَ إِلَى زَوْجِهَا مِنْ بَابِ كَتَبَ كَأَزَفَّهَا، وَالظَّلِيمُ وَغَيْرُهُ يَزِفُّ مِنْ بَابِ ضَرَبَ أَسْرَعَ كَأَزَفَّ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

ص: 3843

[بَابٌ هِجْرَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَفَاتُهُ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5956 -

عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِآنِنَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ، فَرَحَهُمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَاءَ فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

[9]

بَابٌ هِجْرَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَفَاتُهُ بِالتَّنْوِينِ مَرْفُوعًا. وَفِي نُسْخَةٍ بِالسُّكُونِ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى هَذَا بَابٌ فِي بَيَانِ هِجْرَةِ أَصْحَابِهِ مِنْ مَكَّةَ وَبَيَانِ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي نُسْخَةٍ: بَابُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

5956 -

(عَنِ الْبَرَاءِ)، أَيِ: ابْنِ عَازِبٍ (قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصْعَبُ) : اسْمُ مَفْعُولٍ (ابْنُ عُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِآنِنَا)، أَيْ: يُعَلِّمَانِنَا الْقُرْآنَ (ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ)، أَيِ: ابْنُ يَاسِرٍ (وَبِلَالٌ)، أَيِ: ابْنُ رَبَاحٍ (وَسَعْدٌ)، أَيِ: ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ (ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ)، أَيْ: رَجُلًا (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: مَعَ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ (فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ)، أَيْ: فِي الدُّنْيَا (فَرَحَهُمْ بِهِ)، أَيْ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِمَجِيئِهِ عليه السلام إِلَى الْمَدِينَةِ (حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ) : جَمْعُ وَلِيدَةٍ وَهِيَ الْجَارِيَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالذَّكَرُ وَلِيدٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْأَمَةِ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً. وَقَالَ الشَّارِحُ: الْوَلِيدَةُ الصَّبِيَّةُ وَالْأَمَةُ وَيُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ: (وَالصِّبْيَانَ) : جَمْعُ الصَّبِيِّ (يَقُولُونَ)، أَيْ: مِنْ كَمَالِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ (هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَاءَ) : وَحَصَلَ بِهِ الرَّجَاءُ وَالنَّجَاءُ (قَالَ الْبَرَاءُ فَمَا جَاءَ) أَيِ: النَّبِيُّ عليه السلام (حَتَّى قَرَأْتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أَيْ: تَعَلَّمْتُهَا فَفِيهِ ذِكْرُ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ وَإِرَادَةُ السَّبَبِ وَهُوَ التَّعَلُّمُ (فِي سُوَرٍ)، أَيْ: فِي جُمْلَةِ سُوَرٍ أَوْ مَعَ سُوَرٍ (مِثْلِهَا)، أَيْ: مِثْلِ سُورَةِ سَبِّحْ فِي الْمِقْدَارِ (مِنَ الْمُفَصَّلِ. أَيْ: مِنْ أَوْسَاطِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى: 1] نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15] نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ مَكِّيَّةً إِلَّا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15] زَكَاةُ الْفِطْرِ وَصَلَاةُ الْعِيدِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ إِلَّا التَّرْغِيبُ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُرَادِ، فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 3843

5957 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: ( «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ) . فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ قَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَعَجِبْنَا لَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا! ! فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5957 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ)، أَيْ: فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي أُخْرَى كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ لَيَالٍ (فَقَالَ: إِنَّ عَبْدًا) ، أَيْ: عَظِيمًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (خَيَّرَهُ اللَّهُ)، أَيْ: جَعَلَهُ مُخَيَّرًا (بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ)، أَيْ: يُعْطِيَهُ (مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا) : بِفَتْحِ الزَّايِ، أَيْ: بَهْجَتِهَا وَحُسْنِهَا وَزِينَتِهَا (مَا شَاءَ) : مَفْعُولٌ مُؤَخَّرٌ عَنْ مُبَيِّنِهِ، وَالْمَعْنَى مِقْدَارُ مَا أَرَادَ مِنْ طُولِ الْعُمُرِ وَالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّمَتُّعِ بِهَا (وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ)، أَيِ: اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا أَعَدَّ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَلَذَّةِ اللِّقَاءِ مِنَ الْوَجْهِ الْكَرِيمِ، (فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ)، أَيْ: لِأَنَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ)، أَيْ: لِكَمَالِ فَهْمِهِ وَإِدْرَاكِهِ حَيْثُ عَرَفَ مُفَارَقَتَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ الْمَرَضِ، أَوْ لِأَنَّ اخْتِيَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَتَرْكَ زَهْرَةِ الدُّنْيَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ مَرَاتِبِ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَقَامَ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ، فَانْتَقَلَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ اخْتِيَارُ الْمَوْتِ وَاللِّقَاءِ وَتَرْكُ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ (قَالَ) : اسْتِئْنَافًا (فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا)، أَيْ: مَعَهُمْ لَوْ كَانَ يَنْفَعُ الْفِدَاءُ.

قَالَ الرَّاوِي: (فَعَجِبْنَا لَهُ)، أَيْ: لِأَبِي بَكْرٍ حَيْثُ يَفْدِيهِ وَلَا هُنَاكَ بَاعِثٌ يَقْتَضِيهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ مَا فَهِمَهُ مِنَ الْإِشَارَةِ لِتَقَيُّدِهِمْ بِظَاهِرِ الْعِبَارَةِ. (فَقَالَ النَّاسُ)، أَيْ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (انْظُرُوا)، أَيْ: نَظَرَ تَعَجُّبٍ (إِلَى هَذَا الشَّيْخِ)، أَيْ: مَعَ كِبَرِهِ الْمُقْتَضِي لِوَقَارِهِ، وَرِيَادَةِ عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ (يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَبْدٍ)، أَيْ: مُنَكَّرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ (خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ)، أَيِ: الشَّيْخُ (يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا) ! ! أَيْ: وَمِثْلُ هَذَا مَا يُقَالُ إِلَّا لِعَظِيمٍ يُرِيدُ الِانْتِقَالَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْعُقْبَى، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ:(فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرَ) ، بِالنَّصْبِ وَهُوَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَلَهُ وَجْهٌ، وَالْمَعْنَى فَظَهَرَ لَنَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْعَبْدَ الْمُخَيَّرَ (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا) . أَيْ: أَكْثَرَ عِلْمًا مِنَّا حَيْثُ عَلِمَ أَوَّلًا أَنَّ الْمُخَيَّرَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا أَيْ: وَقَدْ كَانَ أَعْلَمَنَا بِالْقَضِيَّةِ لَكِنَّا مَا فَهِمْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3844

5958 -

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ، كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: (إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَنَا فِي مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّى أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا» ) . وَزَادَ بَعْضُهُمْ: ( «فَتَقْتَتِلُوا، فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5958 -

(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) ، جُهَنِيٌّ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ) : جَمْعُ قَتِيلٍ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الشُّهَدَاءُ (بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ)، أَيْ: مِنْ دَفْنِهِمْ، فَقِيلَ: صَلَّى عَلَيْهِمْ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ، فَهُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ أَوْ خُصُوصِيَّتِهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءُ (كَالْمُوَدِّعِ لِلْأِحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ) ، قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيِ: اسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَاسْتِغْفَارُهُ لَهُمْ كَالْوَدَاعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَبِخُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَأَمَّا الْأَمْوَاتُ فَبِانْقِطَاعِ دُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ لَهُمْ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَذَلِكَ قُرْبَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: (إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ) ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ فَيُهَيِّءُ لَهُمُ الرِّشَاءَ وَالدِّلَاءَ وَيَسْقِي لَهُمْ، وَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَتَبَعٍ بِمَعْنَى تَابِعٍ، يُرِيدُ أَنَّهُ شَفِيعٌ لَهُمْ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُهُمْ، وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُهُمْ عَلَى الْمَشْفُوعِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:( «مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهِمَا الْجَنَّةَ» ) فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ يَا مُوَفَّقَةُ) قَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: ( «فَأَنَا فَرَطٌ لِأُمَّتِي لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي» ) . (وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ)، أَيْ: مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِكُمْ إِذْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، أَوْ أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَمُثْنٍ عَلَيْكُمْ (وَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ)، أَيْ: مَكَانَ وَعْدِكُمْ لِلشَّفَاعَةِ الْخَاصَّةِ بِكُمْ فِي يَوْمِ الْجَمْعِ (الْحَوْضُ)، أَيْ: وُرُودُهُ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَيَّزُ الْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ.

ص: 3844

وَالْمُنَافِقُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، فَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ لِأُمَّةِ الْإِجَابَةِ (وَإِنِّي لَأَنْظُرُ)، أَيِ: الْآنَ (إِلَيْهِ)، أَيْ: إِلَى الْحَوْضِ (وَأَنَا فِي مَقَامِي هَذَا)، أَيْ: فَوْقَ الْمِنْبَرِ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكَأَنَّهُ كُشِفَ لَهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ)، أَيْ: سَتُفْتَحُ لِأُمَّتِي خَزَائِنُ الْأَرْضِ بِفَتْحِ بِلَادِهَا وَإِيمَانِ عِبَادِهَا، (وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ)، أَيْ: عَلَى مَجْمُوعِكُمْ (أَنْ تُشْرِكُوا بِعْدِي) ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنْ بَعْضٍ (وَلَكِنِّي قَدْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ تَرْغَبُوا (فِيهَا) . رَغْبَةَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ، وَتَمِيلُوا إِلَيْهَا كُلَّ الْمَيْلِ، فَإِنَّ الْمُنَافَسَةَ لَا تُنَاسِبُ النِّعَمَ الْفَانِيَةَ، بَلْ تَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الْبَاقِيَةِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ (وَزَادَ بَعْضُهُمْ)، أَيْ: بَعْضُ الرُّوَاةِ عَلَى مَا سَبَقَ قَوْلُهُ: (فَتَقْتَتِلُوا)، أَيْ: يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا لِلْمُلْكِ وَالْمَالِ (فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) . أَيْ: فِي الْمَالِ بِأَسْوَأِ الْحَالِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ أُمَّتَهُ تَمْلِكُ خَزَائِنَ الْأَرْضِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ. وَأَنَّهُمْ لَا يَرْتَدُّونَ، وَقَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ يَتَنَافَسُونَ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3845

5959 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوِفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَإِنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ وَأَنَا مُسْنِدَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَتَنَاوَلْتُهُ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ، فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) ، ثُمَّ نَصَبَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: (فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى) . حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5959 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ)، أَيْ: خَاصَّةً (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي)، أَيْ: لَا فِي غَيْبَتِي (وَفِي يَوْمِي)، أَيْ: نَوْبَتِي لِأَكُونَ مُتَشَرِّفَةً بِخِدْمَتِهِ. وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: كَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ صُدَاعٍ عَرَضَ لَهُ، وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، ثُمَّ اشْتَدَّ بِهِ، وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَأَذِنَّ لَهُ، وَكَانَ مُدَّةُ مَرَضِهِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضُحًى مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ، فَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَقِيلَ: لِاثْنَتَىْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، (وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فِيهِمَا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قَوْلِي وَقُرْبَتِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تُوُفِّيَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِهَا، وَمَا يُحَاذِي سَحْرَهَا مِنْهُ، إِذِ السَّحْرُ الرِّئَةُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: السَّحْرُ مَا لَصَقَ بِالْحُلْقُومِ مِنْ أَعْلَى الْبَطْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: النَّحْرُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنْ أَعْلَى الصَّدْرِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: السَّحْرُ هُوَ الصَّدْرُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الرِّئَةُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّحْرِ مَوْضِعُهُ اه. وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: بَيْنَ حَاقِنِي وَذَاقِنِي أَيْ: كَانَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَنَكِهَا وَصَدْرِهَا، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا لِلْحَاكِمِ وَابْنِ سَعْدٍ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ رَأْسَهُ الْكَرِيمَ كَانَ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - ; لِأَنَّ كُلَّ طَرِيقٍ مِنْهَا لَا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ كَذَا قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا يُجْمَعُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ قَبْلَ الْوَفَاةِ. ( «وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ» ) . قَالُوا: الصَّوَابُ بِفَتْحِ أَنَّ عَطْفًا عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَدْخُلُ تَحْتَ نِعَمِ اللَّهِ بِخِلَافِهِ إِذَا كُسِرَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَطْفًا عَلَى أَنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ، فَيَكُونُ مُجَرَّدَ إِخْبَارٍ، وَأَقُولُ: لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالْكَسْرِ لَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، ثُمَّ الرِّيقُ بِالْكَسْرِ مَاءُ الْفَمِ، وَلَمَّا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ سَبَبٍ قَالَتْ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ (دَخَلَ عَلَيَّ)، أَيْ: عِنْدِي (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) : وَالْمُرَادُ بِهِ أَخُوهَا (وَبِيَدِهِ)، أَيْ: بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (سِوَاكٌ)، أَيْ: غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِمَا سَيَأْتِي (وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ، بِالْإِضَافَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَنْوِينِ مُسْنِدَةٍ، وَنَصْبِ الرَّسُولِ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ يُقَالُ: سَنَدَ إِلَيْهِ اسْتَنَدَ وَأَسْنَدْتُهُ أَنَا كَذَا فِي الْقَامُوسِ (فَرَأَيْتُهُ)، أَيِ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (يَنْظُرُ إِلَيْهِ)، أَيْ: إِلَى السِّوَاكِ أَوْ إِلَى صَاحِبِهِ (وَعَرَفْتُ)، أَيْ: وَالْحَالُ أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ فِي الْمَاضِي مِنْ طَبْعِهِ (أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ)، أَيْ: مُطْلَقًا أَوْ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْفَمِ خُصُوصًا (فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ)، أَيْ: مِنْهُ (فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ)، أَيْ: نَعَمْ

ص: 3845

فَأَنْ مُفَسِّرَةٌ (فَتَنَاوَلْتُهُ)، أَيْ: أَخَذْتُهُ مِنْهُ وَنَاوَلْتُهُ إِلَيْهِ فَاسْتَعْمَلَهُ (فَاشْتَدَّ)، أَيِ: السِّوَاكُ (عَلَيْهِ)، أَيْ: لِأَنَّهُ شَدِيدٌ (وَقُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقُلْتُ: (أُلَيِّنُهُ لَكَ) ؟ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ (فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ)، أَيْ: لَيَّنْتُ السِّوَاكَ بِرِيقِي، وَأَعْطَيْتُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (فَأَمَرَّهُ عَلَى أَسْنَانِهِ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَاضٍ مِنَ الْإِمْرَارِ، وَالْمَعْنَى فَاجْتَمَعَ الرِّيقَانِ فِي حَلْقِي، وَكَذَا فِي حَلْقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى رِضَاهُ عَنْهَا حَتَّى عِنْدَ انْقِطَاعِ حَيَاتِهِ (وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ)، أَيْ: ظَرْفٌ (فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ) ، وَإِيرَادُهَا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ إِشْعَارٌ بِنِهَايَةِ حَرَارَتِهِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى إِظْهَارِ عَجْزِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ. قِيلَ: وَسَبَبُهُ أَنَّهُ كَانَ يُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ، ثُمَّ يَفِيقُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي فِعْلُ ذَلِكَ لِكُلِّ مَرِيضٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فُعِلَ بِهِ ; لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ تَخْفِيفِ الْكَرْبِ كَالتَّجْرِيعِ، بَلْ يَجِبُ التَّجْرِيعُ إِذَا اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْمَرِيضِ إِلَيْهِ.

(وَيَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، أَيِ: الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي قَهَرَ الْعِبَادَ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ (إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) : بِفَتَحَاتٍ جَمْعُ سَكْرَةٍ أَيْ: شَدَائِدَ وَمَشَقَّاتٍ عَظِيمَاتٍ مِنْ حَرَارَاتٍ وَمَرَرَاتٍ طَبِيعِيَّاتٍ، حَتَّى لِلْأَنْبِيَاءِ، وَأَرْبَابِ الْكَمَالَاتِ، فَاسْتَعِدُّوا لِتِلْكَ الْحَالَاتِ، وَاطْلُبُوا مِنَ اللَّهِ تَهْوِينَهُ لِلْأَمْوَاتِ. وَفِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْمَوْتِ أَيْ: مَشْعُولٌ أَوْ مُتَلَبِّسٌ، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ وَهُوَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ:( «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى مُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ» ) أَوْ قَالَ: (عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ) . وَالْمُرَادُ بِمُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ شَدَائِدُهُ وَمَكْرُوهَاتُهُ، وَمَا يَحْصُلُ لِلْعَقْلِ مِنَ التَّغْطِيَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلسُّكْرِ، فَهُوَ بِمَعْنَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَالشَّكُّ إِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظِ، ثُمَّ فِي تِلْكَ السَّكَرَاتِ زِيَادَةُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ. (ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ)، أَيْ: رَفَعَهَا بِطَرِيقِ الدُّعَاءِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِيمَاءِ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ (فَجَعَلَ يَقُولُ)، أَيْ: مُكَرِّرًا (فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى) . مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيِ اجْعَلْنِي فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَهُمْ هُنَا الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ اسْمٌ جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ كَالصَّدِيقِ وَالْخَلِيطِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] وَالرَّفِيقُ الْمُرَافِقُ فِي الطَّرِيقِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ اجْعَلْنِي فِي مَكَانِ رَفِيقِ الْأَعْلَى، وَأَرَادَ بِالْمَكَانِ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الْمَخْصُوصَ بِهِ، فَالْمَعْنَى اجْعَلْنِي سَاكِنًا فِيهِ قَائِمًا بِهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى الْجَنَّةُ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ غُلُوٍّ وَقِيلَ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى مِنَ الرِّفْقِ وَالرَّأْفَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَفِيقٌ بِعِبَادِهِ، وَاخْتَارَ لَفْظَةَ (فِي) لِلدَّلَالَةِ عَلَى زِيَادَةِ الْقُرْبِ الْمُشْعِرِ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي حَضْرَةِ الرَّبِّ وَالْفَنَاءِ فِي مَقَامِ بَقَاءِ الْحُبِّ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ الْمُفِيدِ لِتَأْكِيدِ التَّأْبِيدِ، وَقَدْ غَفَلَ الْأَزْهَرِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْأَظْهَرِ، وَالْمَعْنَى الْأَنْوَرِ، وَغَلَطَ قَائِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَأَمَّلْهُ وَتَدَبَّرْ. ثُمَّ رَأَيْتُ التُّورِبِشْتِيُّ قَالَ: قَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، تَعَالَى. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: غَلَطَ قَائِلُ هَذَا، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ لَمْ يُوجِبْ إِطْلَاقَ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ يُوجِبْ أَنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ سَتِّيرٌ إِطْلَاقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِيضَاحَ مَعْنًى لَمْ يَكُنْ يَقَعُ فِي الْأَفْهَامِ إِلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ. قَالَ الْفَاضِلُ الطِّيبِيُّ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَمَا الْمَانِعُ؟ وَلَيْسَ هَذَا نَحْوَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ لِأَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ. وَقَوْلُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ: إِنَّهُ اخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْبُ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ، تَعَالَى، فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ لَقِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ» . وَحَدِيثُ جَعْفَرٍ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ اشْتَاقَ إِلَى لِقَائِكَ» . الْحَدِيثَ. وَلِأَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْبُغْيَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 27 - 28] وَفِي إِدْخَالِ فِي عَلَى الرِّيقِ إِيذَانٌ بِغَايَةِ الْقُرْبِ، وَشِدَّةِ تَمَكُّنِهِ فِيهِ، وَحُلُولِ رِضْوَانِهِ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:{رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28] قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ عَائِشَةَ الْآتِيَةُ: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، ثُمَّ الْمَعْنَى كَانَ هَذَا حَالَهُ وَمَقَالَهُ (حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ) . أَيْ: عَنْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ، أَوْ عَنِ الطَّرِيقَيْنِ إِيمَاءً إِلَى الْإِغْمَاضِ عَنِ الْكَوْنَيْنِ، وَالْمَيْلِ إِلَى الْمَكُونِ الَّذِي لِقَاؤُهُ قُرَّةُ الْعَيْنَيْنِ، وَلِذَا كَانَ سَيِّدَ الثَّقَلَيْنِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 3846

5960 -

وَعَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) . وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5960 -

(وَعَنْهَا)، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: مَرَضَ الْمَوْتِ (إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) . أَيْ: بَيْنَ بَقَائِهِ مُدَّةً أُخْرَى فِي الدُّنْيَا، وَبَيْنَ تَوَجُّهِهِ إِلَى عَالَمِ الْعُقْبَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا يَخْتَارُ مَا عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ)، أَيْ: فِي مَرَضِهِ (الَّذِي قُبِضَ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ)، بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ مُهْمَلَةٍ أَيْ: غِلَظُ الصَّوْتِ وَخُشُونَتُهُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ شَيْءٌ يَغُوصُ فِي الْحَلْقِ فَيُغَيَّرُ لَهُ الصَّوْتُ فَيَغْلُظُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا سُعْلَةٌ. فَفِي الْقَامُوسِ: السُّعَالُ وَالسُّعْلَةُ بِضَمِّهِمَا، وَهِيَ حَرَكَةٌ تَدْفَعُ بِهَا الطَّبِيعَةُ أَذًى عَنِ الرِّئَةِ وَالْأَعْضَاءِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِهَا (فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ)، أَيِ: الرَّفِيقُ الْأَعْلَى مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَيْ:{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] يَعْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، فَالْجَمْعُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْأَوْلَى حَشَرَنَا اللَّهُ مَعَهُمْ فِي الْعُقْبَى (فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ) أَيْ: بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الْأُخْرَى مِنْ لِقَاءِ الْمَوْلَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3847

5961 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبَ آبَاهْ فَقَالَ لَهَا: (لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ) . فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ! أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ! مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهُ! إِلَى جِبْرَئِيلَ نَنْعَاهُ. فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا أَنَسُ! أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ» ؟ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5961 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لِمَا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَضَمِّ قَافٍ أَيِ: اشْتَدَّ مَرَضُهُ (جَعَلَ، أَيْ: طَفِقَ (يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: يَتَغَشَّى بِلَا ضَمِيرٍ وَبِلَا لَفْظِ الْكَرْبِ وَقَالَ شَارِحٌ لَهُ، أَيْ: يَتَغَطَّى وَيَتَسَتَّرُ بِالثَّبَاتِ، وَقِيلَ أَيْ: يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ، وَهُوَ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ. أَقُولُ: وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: (قَالَتْ فَاطِمَةُ)، أَيْ: بِنْتُهُ رضي الله عنها (وَاكَرْبَ أَبَاهْ) ! بِسُكُونِ الْهَاءِ لِلسَّكْتِ وَالْأَلِفُ قَبْلَهُ لِلنُّدْبَةِ وَسِيلَةٌ لِمَدِّ الصَّوْتِ فِي الْكَلِمَةِ الْمُفِيدَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فَقَالَ: (لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ) . يَعْنِي أَنَّ الْكَرْبَ كَانَ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْأَلَمِ وَصُعُوبَةِ الْوَجَعِ، وَبَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْكَرْبَ كَانَ بِسَبَبِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَبَعْدَ الْيَوْمِ تَنْقَطِعُ تِلْكَ الْعَلَائِقُ الصُّورِيَّةُ، وَلَا كَرْبَ فِي التَّعَلُّقَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدٌ الْوَفَاةَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. أَيْ: هُوَ الْمَوْتُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. (فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ) ! قَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُهُ يَا أَبِي أُبْدِلَتِ التَّاءُ مِنَ الْيَاءِ ; لِأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ، وَالْأَلِفُ لِلنُّدْبَةِ لِمَدِّ الصَّوْتِ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَلَا بُدَّ لِلنُّدْبَةِ مِنْ إِحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ يَاءً أَوْ وَاوًا، لِأَنَّ النُّدْبَةَ لِإِظْهَارِ التَّوَجُّعِ وَمَدُّ الصَّوْتِ وَإِلْحَاقُ الْأَلْفِ فِي آخِرِهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النِّدَاءِ، وَزِيَادَةُ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ إِرَادَةُ بَيَانِ الْأَلِفِ لِأَنَّهَا خَفِيَّةٌ وَتُحْذَفُ فِي الْوَصْلِ. (أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ)، أَيْ: إِلَى الْعُقْبَى، فَاخْتَارَهَا عَلَى الدُّنْيَا وَهُوَ بِضَمِّ هَاءِ الضَّمِيرِ وَيُسَكَّنُ فِي الْوَقْفِ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، لَكِنْ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي قَوْلِهِ:(يَا أَبَتَاهُ! مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ) ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لِلضَّمِيرِ بِخِلَافِ قَوْلِهَا (يَا أَبَتَاهُ! إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ) . فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ، ثُمَّ قَوْلُهَا: مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الْجَنَّةِ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَخَفْضِ الْجَنَّةِ. قَالَ الْجَزَرِيُّ: بِفَتْحِ مِيمِ مَنْ عَلَى أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَيُحْتَمَلُ كَسْرُهَا عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ أَيْ: مَوْضِعُ قَرَارِهِ مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ فِي الْبُخَارِيِّ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَقَعَ مَنْ مَوْصُولَةً. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَقَعَتْ جَارَّةً، وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِأَنَّهُ مِنْ وَادِي قَوْلِهِمْ: وَامَنْ حَفَرَ بِئْرَ زَمْزَمَاهُ اهـ.

وَقَوْلُهُ: نَنْعَاهُ أَيْ: نُظْهِرُ خَبَرَ مَوْتِهِ إِلَيْهِ مِنَ النَّعْيِ كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَفِي الْأَزْهَارِ أَيْ: نَبْكِي إِلَيْهِ، وَقِيلَ نُعَزِّيهِ، وَقِيلَ نُخْبِرُهُ. أَقُولُ: وَأَوْسَطُهَا أَعْلَاهَا. (فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا أَنَسُ! أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ)، أَيْ: أَهَانَتْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الصَّحَابَةُ (أَنْ تَحْثُوا) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: تَكُبُّوَا (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم،)، أَيْ: فَوْقَهُ (التُّرَابَ) ؟ وَمِمَّا يُنْسَبُ إِلَيْهَا فِي تَعْزِيَتِهَا

مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ

أَنْ لَا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا

صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا

(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 3847

الْفَصْلُ الثَّانِي

5962 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ لَعِبَتِ الْحَبَشَةُ بِحِرَابِهِمْ فَرَحًا بِقُدُومِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ قَالَ: مَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ أَحْسَنَ وَلَا أَضْوَأَ مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أقْبَحَ وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا عَنِ التُّرَابِ وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ، حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

5962 -

(عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ لَعِبَتِ الْحَبَشَةُ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: رَقَصَتْ (بِحِرَابِهِمْ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ حَرْبَةٍ، وَهِيَ رُمْحٌ قَصِيرٌ، وَقِيلَ بِخَنَاجِرِهِمْ (فَرَحًا لِقُدُومِهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

(وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ)، أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: مَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ كَانَ أَحْسَنَ)، أَيْ: أَزْهَرَ فِي الْخَاطِرِ (وَلَا أَضْوَأَ)، أَيْ: فِي نُورِ الظَّاهِرِ (مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم،) أَيْ: فَإِنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْوِصَالِ لِلْمُشْتَاقِينَ إِلَى ذَلِكَ الْحَمَّالِ (وَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا أَقْبَحَ)، أَيْ: أَسْوَأَ أَوْ أَحْزَنَ فِي الْقَلْبِ (وَلَا أَظْلَمَ)، أَيْ: فِي عَيْنِ الْقَالَبِ (مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم . لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْفِرَاقِ عَلَى الْعُشَّاقِ.

(وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ)، أَيْ: أَنَسٌ (كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا، أَيْ: أَشْرَقَ مِنَ الْمَدِينَةِ (كُلُّ شَيْءٍ) : بِالرَّفْعِ، فَإِنَّ أَضَاءَ لَازِمٌ، وَقَدْ يَتَعَدَّى وَمِنْ بَيَانٌ تَقَدَّمَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِضَاءَةَ كَانَتْ مَحْسُوسَةً (فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ) : فَإِنَّ نُورَهُ شَمْسُ الْعَالَمِ الصُّورِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَتَخْصِيصُ الْمَدِينَةِ لِكَوْنِهَا أَقْرَبَ، وَلِنِسْبَةِ رُؤْيَةِ الرَّاوِي أَنْسَبُ (وَمَا نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا عَنِ التُّرَابِ) : مِنَ النَّفْضِ، وَهُوَ تَحْرِيكُ الشَّيْءِ لِيَزُولَ مَا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْغُبَارِ وَنَحْوِهَا، (وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ)، أَيْ: مَشْغُولُونَ بَعْدَ جُمْلَةٍ حَالِيَّةٍ (حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا) . أَيْ: تَغَيَّرَتْ حَالُنَا بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَظُهُورِ أَنْوَاعِ الظُّلْمَةِ عَلَيْنَا وَلَمْ نَجِدْ قُلُوبَنَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَارِ الصَّفَا وَالرِّقَّةِ وَالْأُلْفَةِ فِيمَا بَيْنَنَا لِانْقِطَاعِ مَادَّةِ الْوَحْيِ، وَفُقْدَانِ بِرْكَةِ صُحْبَتِهِ وَأَثَرِ إِكْسِيرِ حُضُورِ حَضْرَتِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: زِيدَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الصَّفَا وَالْأُلْفَةِ مَادَّةِ الْوَحْيِ، وَفُقْدَانِ مَا كَانَ يَمُدُّهُمْ مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّأْيِيدِ وَالتَّعْلِيمِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوهَا عَلَى مَا كَانَتْ مِنَ الصِّدْقِ.

ص: 3848

5963 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا. قَالَ: ( «مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ» ) . ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ الْفِرَاشِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

5963 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ) . أَيْ: فِي مَوْضِعٍ يُدْفَنُ فِيهِ، فَقِيلَ: يُدْفَنُ فِي مَسْجِدِهِ، وَقِيلَ: بِالْبَقِيعِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقِيلَ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ: عِنْدَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَوْ فِي نَفْسِ الدَّفْنِ، وَالْمَعْنَى هَلْ يُدْفَنُ كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ؟ قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُدْفَنُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: أَيْنَ؟ قَالَ: فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَبَضَ اللَّهُ فِيهِ رُوحَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ إِلَّا فِي مَكَانٍ طَيِّبٍ، فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ اه. وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا رُوِي عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا) ، أَيْ: مَا نَسِيتُهُ كَمَا فِي شَمَائِلِ التِّرْمِذِيِّ. قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِشَيْئًا أَوِ اسْتِئْنَافًا (قَالَ)، أَيْ:؟ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ) أَيِ: النَّبِيُّ أَوْ يُرِيدُ اللَّهُ (أَنْ يُدْفَنَ)، أَيْ: ذَلِكَ النَّبِيُّ (فِيهِ) . أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ (ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ) . أَيِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُحَوَّلْ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ، لِيَكُونَ شَرَفَ الْمَكَانِ الْمَكِينِ وَيَتَشَرَّفَ بِهِ أَهْلُ التَّمْكِينِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . أَيْ: وَقَالَ غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَلِيكِيُّ يُضَعَّفُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ قَالَ نَاسٌ: يُدْفَنُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يُدْفَنُ بِالْبَقِيعِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا فِي الْمَكَانِ الَّذِي تُوُفِّيَ فَحَفَرَ فِيهِ» ) . ذَكَرَهُ مِيرَكُ عَنْ تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ.

ص: 3848

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

ص: 3849

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5964 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: (إِنَّهُ لَنْ يُقَبَضَ نَبِيٌّ حَتَّى يُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ) . قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ، وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِدِي غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَشْخَصَ بَصَرُهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى) . قُلْتُ: إِذَنْ لَا يَخْتَارُنَا. قَالَتْ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ لَنْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

5964 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، وَهُوَ صَحِيحٌ)، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ (إِنَّهُ)، أَيِ: الشَّأْنُ (لَنْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ)، أَيْ: لَنْ يَمُوتَ (حَتَّى يُرَى) : مَجْهُولٌ مِنَ الْإِرَاءَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ مَعْلُومٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ أَيْ: يُبْصِرُ أَوْ يَعْرِفُ (مَقْعَدَهُ)، أَيِ: الْخَاصَّ بِهِ (مِنَ الْجَنَّةِ)، أَيْ: مِنْ مَنَازِلِهَا الْعَالِيَةِ (ثُمَّ يُخَيَّرَ) : بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ أَيْ: يُجْعَلَ مُخَيَّرًا بَيْنَ قُعُودِهِ فِي الدُّنْيَا، وَبَيْنَ وُصُولِهِ إِلَى مَقْعَدِهِ فِي الْعُقْبَى. (قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا نَزَلَ) ، أَيِ: الْمَوْتُ يَعْنِي عَلَامَاتُهُ (بِهِ)، أَيْ: بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي) : حَالٌ وَجَوَابُ لَمَّا قَوْلُهَا (غُشِيَ عَلَيْهِ)، أَيْ: أُغْمِي (ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَشْخَصَ)، أَيْ: رَفَعَ بَصَرَهُ (إِلَى السَّقْفِ)، أَيْ: فَإِنَّهُ جِهَةُ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى (ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى) . أَيْ: أَخْتَارُ أَوْ أَسْأَلُكَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى (قُلْتُ: إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ وَفِي نُسْخَةٍ إِذَنْ (لَا يَخْتَارُنَا) . بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ (قَالَتْ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ)، أَيْ: هَذَا (هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّهُ لَنْ يُقْبَضَ) : وَفِي نُسْخَةٍ لَمْ يُقْبَضْ (نَبِيٌّ قَطُّ) : وَهُوَ يُؤَيِّدُ النُّسْخَةَ لَكِنْ أَرَادَ بِهِ أَبَدًا (حَتَّى يُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ) . قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى) . قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَأَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسْتَرْضِعٌ عِنْدَ حَلِيمَةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَرَوَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ مَنْ قَالَ:(بَلَى) يَوْمَ قَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172](مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3849

5965 -

وَعَنْهَا، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: (يَا عَائِشَةُ! مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، وَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5965 -

(وَعَنْهَا)، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: (يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ)، أَيْ: مَا أَبْرَحُ (أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ)، أَيِ: الْمَسْمُومِ (الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، وَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ فِي أَوَانِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ، فَالضَّمُّ لِأَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَالْفَتْحُ عَلَى الْبِنَاءِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَبْنَى. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي يَوْمِ وِلَادَتِهِ، وَلَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ، وَالْمَعْنَى وَهَذَا زَمَانُ صَادَفْتُ (فِيهِ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ بَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ، وَهُوَ عِرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ، فَإِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ (مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ) . أَيْ: مِنْ أَثَرِهِ بِتَأْثِيرِهِ سُبْحَانَهُ، وَالسُّمُّ مُثَلَّثَةُ السِّينِ وَالضَّمُّ أَشْهَرُ وَالْفَتْحُ أَكْثَرُ، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: الْأَبْهَرُ عِرْقٌ فِي الظَّهْرِ، وَهُمَا أَبْهَرَانِ. وَقِيلَ: هُمَا الْأَكْحَلَانِ اللَّذَانِ فِي الذِّرَاعَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ الْقَلْبَ، فَإِذَا انْقَطَعَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ حَيَاةٌ، وَقِيلَ: الْأَبْهَرُ عِرْقٌ مَنْشَؤُهُ مِنَ الرَّأْسِ، وَيَمْتَدُّ إِلَى الْقَدَمِ، وَلَهُ شَرَايِينُ تَتَّصِلُ بِأَكْثَرِ الْأَطْرَافِ وَالْبَدَنِ، فَالَّذِي فِي الرَّأْسِ مِنْهُ يُسَمَّى النَّامَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَسْكَتَ اللَّهُ نَامَّتَهُ أَيْ: أَمَاتَهُ، وَيَمْتَدُّ إِلَى الْحَلْقِ، فَيُسَمَّى الْوَرِيدُ، وَيَمْتَدُّ إِلَى الصَّدْرِ فَيُسَمَّى الْأَبْهَرُ، وَيَمْتَدُّ إِلَى السَّاقِ فَيُسَمَّى الصَّافِنُ، وَالْهَمْزَةُ فِي الْأَبْهَرِ زَائِدَةٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَا زَالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَادِّنِي كُلَّ عَامٍ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ قَطَعَ أَبْهَرِي. قَالَ الْهَرَوِيُّ: الْأُكْلَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَقَالَ: لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا إِلَّا لُقْمَةً وَاحِدَةً اه. وَتُعَادِّنِي بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: تُعَاوِدُنِي وَقَطَعَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي مُضَافًا إِلَيْهِ.

ص: 3849

5966 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) . فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالِاخْتِلَافَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (قُومُوا عَنِّي» ) قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيئَةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ.

وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى. قُلْتُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ فَقَالَ: ( «ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا» ) . فَتَنَازَعُوا وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ. فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ؟ ! أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ، فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ. فَقَالَ:( «دَعُونِي، ذَرُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» ) . فَأَمَرَهُمْ بِثَلَاثٍ: فَقَالَ: ( «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» ) . وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أَوْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا، قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

5966 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم : بِصِيَغةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: حَضَرُهُ الْمَوْتُ، وَفِيهِ تَجَوُّزٌ فَإِنَّهُ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ يَوْمُ الْخَمِيسِ إِلَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لَمَّا حَضَرَهُ هَمُّ الْمَوْتِ (وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ)، أَيْ: كَثِيرَةٌ (وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) : جُمْلَتَانِ حَالِيَّتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ لَمَّا وَجَوَابِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (هَلُمُّوا)، أَيْ: تَعَالَوْا وَاحْضُرُوا (أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا) : بِالْجَزْمِ جَوَابًا وَقَوْلُهُ (لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) . صِفَةٌ لِكِتَابًا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَمِنْ تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ، وَمَعْصُومٌ مِنْ تَرْكِ بَيَانِ مَا أُمِرَ بِبَيَانِهِ وَتَبْلِيغِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ تَبْلِيغَهُ، وَلَيْسَ هُوَ مَعْصُومًا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ الْعَارِضَةِ لِلْأَجْسَامِ مِمَّا لَا نَقْصَ فِيهِ بِمَنْزِلَتِهِ، وَلَا فَسَادَ لِمَا تَمَهَّدَ مِنْ شَرِيعَتِهِ، وَقَدْ سُحِرَ عليه السلام حَتَّى صَارَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي هَذَا الْحَالِ كَلَامٌ فِي الْأَحْكَامِ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ، فَإِذَا عَلِمْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَرَادَ كِتَابَتَهُ فَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى الْخِلَافَةِ فِي إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ لِئَلَّا يَقَعَ نِزَاعٌ. قُلْتُ: هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا إِذِ التَّنْصِيصُ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوِ الْعَبَّاسِ أَوْ عَلِيٍّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كِتَابَةٍ، بَلْ كَانَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ كَافِيًا، وَلِلْمَقْصُودِ وَافِيًا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَشَارَ إِلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ بِنِيَابَةِ الْإِمَامَةِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ:( «يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ» ) نَعَمْ، لَوْ قِيلَ إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ الْخِلَافَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ خَلْفَ وَفَاتِهِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ وَظُهُورِ عِيسَى عليه السلام لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَنَبِيهٌ، وَلَكِنْ أَرَادَ اللَّهُ الْأَمْرَ مَسْتُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَقِيلَ: أَرَادَ كِتَابًا يُبَيِّنُ فِيهِ مُهِمَّاتِ الْأَحْكَامِ مُلَخَّصَةً لِيَرْتَفِعَ النِّزَاعُ وَيَحْصُلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. قُلْتُ: لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ نِزَاعٌ لِيَرْتَفِعَ وَلَا خِلَافٌ لِيَنْدَفِعَ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الزَّمَانِ مِمَّا سَيَقَعُ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَقَدْ أَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ:( «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» ) وَبِقَوْلِهِ: ( «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ) وَبِقَوْلِهِ: ( «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» ) وَبِقَوْلِهِ ( «وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونُ» ) . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً كَيْفَ تَصِيرُ مُلَخَّصَةً مَنْصُوصَةً فِي سَاعَةٍ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا اخْتِلَافُ الْأُمَّةِ. نَعَمْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ قَصْدُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا يُبَيِّنُ فِيهِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الَّتِي قَدْ تُوجَدُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْآتِيَةِ مِمَّا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ، وَلَا بِمَحْفُوظٍ فِي السُّنَّةِ لَا يَبْعُدُ مِنْ طَرِيقِ الرَّأْفَةِ وَسَبِيلِ الرَّحْمَةِ عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْعَامَّةِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا يُبَيِّنُ فِيهِ طَرِيقَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، وَيُفَصِّلُ فِيهِ أَحْوَالَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَةِ.

(فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ) : أَرَادَ بِمَا ذَكَرَهُ التَّخْفِيفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ شِدَّةِ الْوَجَعِ وَقَوْلُهُ: (وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ) . أَيْ: كَافِيكُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] وَهُوَ خِطَابٌ لِمَنْ نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ وَرَدٌّ عَلَيْهِ لَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّهُ رضي الله عنه لَهُ مُوَافَقَاتٌ وُفِّقَ بِهَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَتَرْتَفِعُ الْمُخَالَفَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ سُكُوتُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَصَرْفُ عِنَانِهِ عَنْ أَمْرِ الْكِتَابَةِ، هَذَا وَقَدْ عَرَفَ عُمَرُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ حَزْمًا مِنْهُ. بَلْ رِعَايَةً لِمَصَالِحِهِمْ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ إِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ غَيْرَ حَازِمٍ يُرَاجِعُونَهُ فِيهِ، وَكَانَ يَتْرُكُهُ بِرَأْيِهِمْ. (فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ)، أَيْ: مَنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَقَارِبِهِ (وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا)، أَيِ: الدَّوَاةَ وَالْقَلَمَ (يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ: يُمْلِ عَلَيْكُمْ مَا أَرَادَ كِتَابَتَهُ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ) . أَيْ: مِنَ الْمَنْعِ لِشِدَّةِ الْوَجَعِ (فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الصَّوْتُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ مَبْنَاهُ، وَلَا يَتَبَيَّنُ مَعْنَاهُ (وَالِاخْتِلَافَ)، أَيِ: الْمُوجِبَ لِلنِّزَاعِ وَالْخِلَافِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (قُومُوا عَنِّي)، أَيْ: فَإِنِّي تَرَكْتُ قَصْدَ الْكِتَابَةِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

ص: 3850

قَالَ النَّوَوِيُّ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَمَّ بِالْكِتَابِ حِينَ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَرْكُهُ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ وَنُسِخَ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه: حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ فِقْهِهِ وَفَضَائِلِهِ وَدَقَائِقِ نَظَرِهِ وَفَهْمِهِ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكْتُبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمُورًا رُبَّمَا عَجَزُوا عَنْهَا، وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا مَنْصُوصَةً لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَأَشَارَ قَوْلُهُ: حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] .

(قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ)، أَيِ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الْهُزَلِيُّ، وَلَدُ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ. (فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيئَةَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ، وَقَدْ يُسَهَّلُ فَتُشَدَّدُ الْيَاءُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَيِ الْمُصِيبَةَ (كُلَّ الرَّزِيئَةِ)، أَيْ: تَمَامَهَا وَكَمَالَهَا (مَا حَالَ)، أَيِ: الْحَالُ الَّذِي وَقَعَ حَائِلًا وَصَارَ مَانِعًا (بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ) . مُتَعَلِّقٌ بِحَالَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَالَ إِلَى خِلَافِ مَا قَالَ عُمَرُ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فَتَدَبَّرْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: إِنَّمَا قَصَدَ عُمَرُ رضي الله عنه بِذَلِكَ التَّخْفِيفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ غَلَبَ الْوَجَعُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ مَا لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ لَمْ يَتْرُكْهُ لِاخْتِلَافِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] كَمَا لَمْ يَتْرُكِ التَّبْلِيغَ لِمُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُ، وَكَمَا أَمَرَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَعْنِي بِمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ: وَقَدْ حَكَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ اسْتِخْلَافَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى عِلْمِهِ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ، كَمَا هَمَّ بِالْكِتَابَةِ فِي أَوَّلِ مَرَضِهِ حِينَ قَالَ: وَارَأْسَاهْ! ثُمَّ تَرَكَ الْكِتَابَةَ وَقَالَ: ( «يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ» ) وَذَلِكَ بِسَبَبِ اسْتِخْلَافِهِ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ: أَيْضًا: وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ بَيَانَ أَحْكَامِ الدِّينِ وَرَفْعَ الْخِلَافِ فِيهَا فَقَدْ عَلِمَ عُمَرُ حُصُولَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا تَقَعُ وَاقِعَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُهَا نَصًّا أَوْ دَلَالَةً، وَفِي تَكَلُّفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ مَعَ شِدَّةِ وَجَعِهِ كِتَابَهُ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ، فَرَأَى الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ، وَلَا يَنْسَدُّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَإِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ ; فَرَأَى عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّ الصَّوَابَ تَرْكُ الْكِتَابَةِ تَخْفِيفًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفَضِيلَةً لِلْمُجْتَهِدِينَ، وَفِي تَرْكِهِ صلى الله عليه وسلم الْإِنْكَارَ عَلَى عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِصْوَابِ رَأْيِهِ، وَكَانَ عُمَرُ أَفْقَهَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُوَافِقِيهِ.

(وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَحْوَلِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خَالُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ تَابِعِيٌّ مِنْ أَثْبَاتِ الْحِجَازِيِّينَ وَأَئِمَّتِهِمْ سَمِعَ طَاوُسًا وَأَبَا سَلَمَةَ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَشُعْبَةُ. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ؟ يَوْمُ الْخَمِيسِ) : مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ عَكْسُهُ وَقَوْلُهُ: (وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ) ؟ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَالشِّدَّةِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ - مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1 - 2] وَ {الْقَارِعَةُ - مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1 - 2](ثُمَّ بَكَى)، أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (حَتَّى بَلَغَ دَمْعُهُ الْحَصَى) ، أَيْ حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ بِلَا إِحْصَاءٍ، وَوَصَلَتْ إِلَى مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَصَى، ثُمَّ بُكَاؤُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِتَذَكُّرِ وَفَاتِهِ، وَفُقْدَانِ حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِتَجَدُّدِ الْحُزْنِ عَلَيْهِ، أَوْ لِفَوَاتِ مَا فَاتَ فِي مُعْتَقَدِهِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي كَانَ يَحْصُلُ لَوْ كَانَ كُتِبَ ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمَقَامِ وَالْأَنْسَبُ فِيمَا أَرَادَهُ مِنَ الْمَرَامِ. (قُلْتُ:؟ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ) ؟ قَالَ مِيرَكُ: قَائِلُهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الرَّاوِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ قَائِلَهُ سُلَيْمَانُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ (قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ) ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.

ص: 3851

فَقَالَ: (ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا) : بِالْجَزْمِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوءَةِ فَعَلَى هَذَا يَشْكُلُ جَزْمُ قَوْلِهِ: (لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا) . وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِنْ كُتِبَ لَكُمْ وَعَمِلْتُمْ بِهِ لَا تَضِلُّوا أَيْ: لَا تَصِيرُوا ضَالِّينَ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنْ لَا تَضِلُّوا وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا، أَوْ مَخَافَةَ أَنْ لَا تَضِلُّوا (فَتَنَازَعُوا)، أَيْ: أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَأْيِهِمْ (وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ) : قِيلَ: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعِلْمِ بِلَفْظِ: وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ. (فَقَالُوا)، أَيْ: بَعْضُهُمْ (مَا شَأْنُهُ) ؟ أَيْ حَالُهُ صلى الله عليه وسلم (أَهَجَرَ) ؟ بِفَتَحَاتٍ أَيِ: اخْتَلَفَ كَلَامُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَرَضِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: هَلْ تَغَيَّرَ كَلَامُهُ وَاخْتَلَطَ لِأَجْلِ مَا بِهِ مِنَ الْمَرَضِ، وَلَا يُجْعَلُ إِخْبَارًا فَيَكُونُ مِنَ الْفُحْشِ وَالْهَذَيَانِ، وَالْقَائِلُ عُمَرُ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ. قَالَ الْخَطَابِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ تَوَهَّمَ الْغَلَطَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ ظَنَّ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا غَلَبَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَجَعِ وَقُرْبِ الْوَفَاةِ، مَعَ مَا غَشِيَهُ مِنَ الْكَرْبِ خَافَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِمَّا يَقُولُهُ الْمَرِيضُ مِمَّا لَا عَزِيمَةَ لَهُ فِيهِ، فَيَجِدُ الْمُنَافِقُونَ بِذَلِكَ سَبِيلًا إِلَى الْكَلَامِ فِي الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُهُ يُرَاجِعُونَهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ قَبْلَ أَنْ يَجْزِمَ فِيهَا بِتَحَتُّمٍ، كَمَا رَاجَعُوهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْخِلَافِ وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَأَمَّا إِذَا أَمَرَ بِالشَّيْءِ أَمْرَ عَزِيمَةٍ، فَلَا يُرَاجِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - رَفَعَ دَرَجَتَهُ فَوْقَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لَمْ يُنَزِّهْهُ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَالْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ وَقَدَّسَهَا فِي الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي مِثْلِ هَذَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَقِيقَتَهُ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَشِبْهِهِ رَاجَعَهُ عُمَرُ رضي الله عنه.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَهَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: أَهَجَرَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى هَجَرَ بِغَيْرِ هَمْزٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ مَعْنَى هَجَرَ هَذَى، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا مِنْ قَائِلِهِ اسْتِفْهَامًا لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ: لَا تَكْتُبُوا أَيْ: لَا تَتْرُكُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَجْعَلُوهُ كَأَمْرِ مَنْ هَجَرَ فِي كَلَامِهِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَهْجُرُ، وَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى كَانَتْ خَطَأً مِنْ قَائِلِهَا لِأَنَّهُ قَالَهَا بِغَيْرِ ثَبْتٍ لِمَا أَصَابَهُ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ لِعَظْمِ مَا شَاهَدَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَفَاتِهِ. وَخَوْفِ الْفِتَنِ وَالضَّلَالِ بَعْدَ حَيَاتِهِ. أَقُولُ: لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ لَزِمَ حَمْلُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (اسْتَفْهِمُوهُ) . بِكَسْرِ الْهَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا، وَهَذَا فَتْحُ الْبَارِي قَوْلُهُ: أَهَجَرَ؟ بِهَمْزَةٍ عِنْدَ جَمِيعِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ قَالُوا: هَجَرَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَالُوا: هَجَرَ هَجَرَ.

قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى أَهَجَرَ أَفَحَشَ، يُقَالُ: هَجَرَ الرَّجُلُ إِذَا هَذَى، وَأَهَجَرَ إِذَا فَحَشَ وَتَعَسَّفَ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ سُكُونَ الْهَاءِ وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا إِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَلَخَصَّهُ الْقُرْطُبِيُّ تَلْخِيصًا حَسَنًا، ثُمَّ لَخَّصْتُهُ مِنْ كَلَامِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: هَجَرَ الرَّاجِحُ فِيهِ إِثْبَاتُ الْهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَبِفَتَحَاتٍ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَقَعُ مِنْ كَلَامِ الْمَرِيضِ مِمَّا لَا يَنْتَظِمُ، وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ وَوُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مُسْتَحِيلٌ ; لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنِّي لَا أَقُولُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا إِلَّا حَقًّا» ) . وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا مَالَ مَنْ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ يَتَوَقَّفُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ أَسْبَابِ الْكِتَابَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَتَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ، أَتَظُنُّ أَنَّهُ بِتَغَيُّرِهِ يَقُولُ الْهَذَيَانَ فِي مَرَضِهِ امْتَثِلْ أَمْرَهُ وَأَحْضِرْ مَا طَلَبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَنْ شَكٍّ عَرَضَ لَهُ، وَلَكِنْ يَبْعُدُ أَنْ لَا يُنْكِرَهُ الْبَاقُونَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ أَنْكَرُوهُ لَنُقِلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ قَالَ ذَلِكَ مِنْ دَهْشَتِهِ وَحَيْرَتِهِ، كَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْقَائِلِ ذَلِكَ أَرَادَ اشْتِدَادَ وَجَعِهِ، فَأَطْلَقَ اللَّازِمَ، وَأَرَادَ الْمَلْزُومَ لِأَنَّ الْهَذَيَانَ الَّذِي يَقَعُ مِنَ الْمَرِيضِ يَنْشَأُ عَنْ شِدَّةِ مَرَضِهِ وَاشْتِدَادِ وَجَعِهِ. وَقِيلَ، قَالَ: لِإِرَادَةِ سُكُوتِ الَّذِينَ لَغَطُوا وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ وَيُفْضِي فِي الْعَادَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَهَجَرَ فِعْلًا مَاضِيًا مِنَ الْهَجْرِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيِ الْحَيَاةَ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَاضِي مُبَالَغَةً لِمَا رَأَى مِنْ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَيَظْهَرُ تَرْجِيحُ ثَالِثِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ، وَيَكُونُ قَائِلُ ذَلِكَ بَعْضَ مَنْ قَرُبَ دُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ اه. وَأَقُولُ: هَذَا بَعِيدٌ مِنَ الْمَرَامِ وَمَقَامِ الْكِرَامِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مَعَ الْأَصْحَابِ الْفِخَامِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَلَا يَسْكُتُونَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ زَجْرٍ وَلَوْ بِالْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ.

ص: 3852

(فَذَهَبُوا)، أَيْ: فَشَرَعَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ (يَرُدُّونَ عَلَيْهِ)، أَيْ: هَذَا الرَّأْيَ صَرِيحًا بِخِلَافِ قَوْلِ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ تَلْوِيحًا (فَقَالَ: (دَعُونِي) ، أَيِ اتْرُكُونِي (ذَرُونِي) ، بِمَعْنَاهُ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى دَعُونِي مِنَ النِّزَاعِ وَاللَّغَطِ الَّذِي شَرَعْتُمْ فِيهِ (فَالَّذِي أَنَا فِيهِ)، أَيْ: مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ، تَعَالَى، وَالتَّأَهُّبِ لِلِقَائِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ (خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) . أَيْ أَفْضَلُ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَاللَّغَطِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ( «اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ» ) . وَالِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَثَانِيهَا: فِي صِفَاتِهِ وَإِنْكَارُهَا بِدْعَةٌ. وَثَالِثُهَا: فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمُحْتَمِلَةِ وُجُوهًا، فَهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ، تَعَالَى، رَحْمَةً وَكَرَامَةً لِلْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ لِلصَّحَابَةِ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَ قَوْلِهِ: (ائْتُونِي أَكْتُبْ) فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَوَامِرَ يُقَارِنُهَا قَرَائِنُ تَنْقُلُهَا مِنَ النَّدْبِ إِلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ أَصْلُهَا النَّدْبُ، وَمِنَ الْوُجُوبِ إِلَى النَّدْبِ عِنْدَ مَنْ قَالَ أَصْلُهَا الْوُجُوبُ، فَلَعَلَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْقَرَائِنِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، بَلْ جَعَلَهُ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، فَاخْتَلَفَ اخْتِيَارُهُمْ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِهِمْ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَأَدَّى اجْتِهَادُ عُمَرَ رضي الله عنه إِلَى الِامْتِنَاعِ، وَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ جَازِمٍ، وَكَانَ هَذَا قَرِينَةً فِي إِرَادَةِ عَدَمِ الْوُجُوبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَأَمَرَهُمْ بِثَلَاثٍ)، أَيْ: خِصَالٍ (فَقَالَ) : تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) ، مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ)، أَيْ: أَكْرِمُوا الْوَافِدِينَ عَلَيْكُمْ وَالْوَاصِلِينَ إِلَيْكُمْ مِنْ حَوَالَيْكُمْ، وَأَعْطُوهُمُ الْجَائِزَةَ وَالْعَطِيَّةَ فِيمَا لَدَيْكُمْ (بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) . أَيْ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً وَالتَّمْيِيزُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِإِكْرَامِ الْوُفُودِ وَضِيَافَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ، وَتَرْغِيبًا لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ وَقَالُوا: سَوَاءً كَانَ الْوَفْدُ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا ; لِأَنَّ الْكَافِرَ إِنَّمَا يَفِدُ غَالِبًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِنَا وَمَصَالِحِهِ. (وَسَكَتَ)، أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ (عَنِ الثَّالِثَةِ)، أَيْ: نِسْيَانًا مِنْهُ أَوِ اقْتِصَارًا (أَوْ قَالَهَا) أَيْ ذَكَرَهَا (فَنَسِيتُهَا) . وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ (قَالَ سُفْيَانُ) . الظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ (هَذَا)، أَيْ: قَوْلُهُ سَكَتَ (مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ) . أَيِ الْأَحْوَالِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: السَّاكِتُ هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّاسِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ مُهَلَّبٌ: وَالثَّالِثَةُ تَجْهِيزُ جَيْشِ أُسَامَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ( «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» )(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3853

5967 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رضي الله عنهما بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْ إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ. فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: إِنِّي لَا أَبْكِي أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

5967 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رضي الله عنهما) ، بِصِيغَتَيِ التَّثْنِيَةِ لِجَلَالَتِهِمَا أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ مَقُولِ أَنَسٍ، وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِيَعُمَّ أَنَسًا (بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ) : هِيَ أُمُّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، كَانَتْ مَوْلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَزَوَّجَهَا زَيْدًا وَاسْمُهَا بَرَكَةُ وَهِيَ حَاضِنَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِثَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَتْ تَسْقِي الْمَاءَ، وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ عُمَرَ بِعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَمَّا زَيْدٌ فَمَلَكَتْهُ خَدِيجَةُ الْكُبْرَى، فَاسْتَوْهَبَهُ صلى الله عليه وسلم فَوَهَبَتْهُ لَهُ، فَأَعْتَقَهُ صلى الله عليه وسلم كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ أُمَّ أَيْمَنَ فِي أَسْمَائِهِ. (نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهَا)، اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ نَنْطَلِقُ إِلَيْهَا؟ فَأُجِيبَ: نَزُورُهَا لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِذَلِكَ، فَهُوَ أَفْخَمُ بَلَاغَةً مِنْ أَنْ لَوْ قِيلَ: نَزُورُهَا حَسَبَ مَا اقْتَضَاهُ تَعْظِيمُ الْمَزُورِ. (فَلَمَّا انْتَهَيْنَا)، أَيْ: أَنَا وَالشَّيْخَانِ هُوَ كَذَا بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِي نُسَخِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، فَلَمَّا انْتَهَيَا بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ أَيْ: وَصَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ (إِلَيْهَا بَكَتْ. فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: إِنِّي لَا أَبْكِي أَنِّي لَا أَعْلَمُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ لِقَوْلِهِ لَا أَبْكِي وَالْمَعْنَى لَا أَبْكِي لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ (أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ وَظُهُورُهُ بَاهِرٌ (وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ)، أَيْ: لِأَنَّ (الْوَحْيَ)، أَيْ: بِالْأَحْكَامِ الْإِلَهِيَّةِ السَّمَاوِيَّةِ (قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: فَحَمَلَتْهُمَا (عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا) . وَالْبُكَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَنْقَطِعُ إِلَى آخِرِ الدُّنْيَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3853

5968 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ، عَاصِبًا رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ، حَتَّى أَهْوَى نَحْوَ الْمِنْبَرِ، فَاسْتَوَى عَلَيْهِ وَاتَّبَعْنَاهُ، قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى الْحَوْضِ مِنْ مَقَامِي هَذَا) ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ عَبْدًا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ) قَالَ: فَلَمْ يَفْطِنْ لَهَا أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ، فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: بَلْ نَفْدِيكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: ثُمَّ هَبَطَ فَمَا قَامَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ» رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

ــ

5968 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ) : حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عَلَيْنَا (عَاصِبًا رَأْسَهُ) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَاعِلِ خَرَجَ أَيْ: رَابِطًا رَأَسَهُ (بِخِرْقَةٍ)، أَيْ: عِصَابَةٍ (حَتَّى) : غَايَةٌ لِخَرَجَ أَيْ: إِلَى أَنْ (أَهْوَى)، أَيْ: قَصَدَ (نَحْوَ الْمِنْبَرِ، أَيْ: إِلَى جِهَتِهِ (فَاسْتَوَى عَلَيْهِ وَأَتْبَعْنَاهُ) : بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَإِسْكَانِ تَاءٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزِةِ وَصْلٍ وَتَشْدِيدِ تَاءٍ أَيْ: لَحِقْنَاهُ وَتَبِعْنَاهُ بِأَنْ قَعَدْنَا تَحْتَ الْمِنْبَرِ قَرِيبًا لَدَيْهِ، وَمُتَوَجَّهًا إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ)، أَيْ: بَعْدَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى الْحَوْضِ)، أَيِ: الْكَوْثَرِ (مِنْ مَقَامِي هَذَا) . لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ: (وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَتَحَقَّقَ شَأْنُهُ. (ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ عَبْدًا)، أَيْ: عَظِيمًا وَعِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا كَرِيمًا (عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا)، أَيِ: الْفَانِيَةُ (فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ) ، أَيْ وَنِعْمَتَهَا الْبَاقِيَةَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَوْ خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ قَدَحَيْنِ أَحَدُهُمَا خَزَفٌ بَاقٍ وَالْآخَرُ ذَهَبٌ، فَإِنِ اخْتَارَ الْخَزَفَ الْبَاقِي عَلَى الذَّهَبِ الْفَانِي فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّ الْآخَرَ ذَهَبٌ بَاقٍ وَالدُّنْيَا خَزَفٌ فَانٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ:{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17](فَلَمْ يَفْطَنْ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَيُضَمُّ مِنْ بَابَيْ فَرِحَ وَنَصَرَ عَلَى مَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ: فَطِنَ بِهِ وَإِلَيْهِ، وَلَهُ كَفَرِحَ وَنَصَرَ وَكَرُمَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كَسْرِ الطَّاءِ سَهْوٌ فَلَمْ نَشَأْ مِنْ قِلَّةِ فَطَانَةِ الْكَاتِبِ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَتَفَطَّنْ (لَهَا)، أَيْ: لِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْ لِلْوَفَاءِ وَلَمْ يَفْهَمْهَا (أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ) ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَيُنْصَبُ أَيْ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ عَرَفَهَا (فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ) ، أَيْ سَالَتْ دُمُوعُ أَبِي بَكْرٍ (فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: بَلْ نَفْدِيكَ بِأَبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا [يَا رَسُولَ اللَّهِ] ، أَيْ عَبِيدِنَا وَإِمَائِنَا وَغَيْرِهِمَا لَوْ كَانَ جَازَ الْفِدَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْ بِجَمِيعِهَا (قَالَ) أَيْ أَبُو سَعِيدٍ (ثُمَّ هَبَطَ)، أَيْ: نَزَلَ (عَنِ الْمِنْبَرِ فَمَا قَامَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ) . أَيْ إِلَى الْآنَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى هِيَ الْجَارَّةُ، وَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ الْقِيَامَةُ يَعْنِي فَمَا قَامَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ

) .

ص: 3854

5969 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [الفاتحة: 1 - 29394] دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ قَالَ: (نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي) فَبَكَتْ قَالَ: (لَا تَبْكِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي) فَضَحِكَتْ، فَرَآهَا بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَ: يَا فَاطِمَةُ رَأَيْنَاكِ بَكَيْتِ ثُمَّ ضَحِكْتِ. قَالَتْ: إِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ لِي: لَا تَبْكِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي فَضَحِكْتُ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَالْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ) » . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

ــ

5969 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، أَيْ: إِلَى آخِرِ السُّورَةِ الْمُشِيرَةِ إِلَى حُصُولِ الْكَمَالِ الْمُسْتَعْقِبِ لِلزَّوَالِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِذَا صَحَّتْ نُصْرَتُكَ فَاشْتَغِلْ بِخِدْمَتِكَ مِنْ تَنْزِيهِ رَبِّكَ وَشُكْرِ نِعْمَتِكَ، فَقَدْ تَمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثَتِكَ (دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ)، أَيْ: طَلَبَهَا (قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ (نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي)، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُؤَنَّثِ أَيْ: أُخْبِرْتُ بِأَنِّي أَمُوتُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ضُمِّنَ نُعِيَ مَعْنَى الْإِنْهَاءِ وَعُدِيِّ بِإِلَى، أَيْ: أُنْهِيَ إِلَيَّ نَعْيُ نَفْسِي كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدُ إِلَيْكَ فُلَانًا يُقَالُ: نَعَى الْمَيِّتُ يَنْعَاهُ إِذَا أَذَاعَ مَوْتَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ قَوْلَهُ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3] عَلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1 - 2] فَهُوَ أَمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ حَامِدًا لَهُ عَلَى مَا أَوْلَى مِنَ النِّعَمِ بِصِفَاتِ الْإِكْرَامِ، وَهِيَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِيمَا كُلِّفَ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَبِالْإِقْبَالِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى وَالتَّأَهُّبِ لِلْمَسِيرِ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْعُلْيَا، وَاللُّحُوقِ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، (فَبَكَتْ) . أَيْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها حُزْنًا عَلَى قُرْبِ فِرَاقِهِ (قَالَ:(لَا تَبْكِي، فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي) فَضَحِكَتْ) . أَيْ: فَرَحَا بِسُرْعَةِ وِصَالِهِ.

ص: 3854

(فَرَآهَا بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم : يُرَادُ بِهَا عَائِشَةُ رضي الله عنها وَجَمَعَهَا فِي قَوْلِهِ: (فَقُلْنَ) : تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا. ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَبْعُدُ مُشَارَكَةُ غَيْرِهَا مَعَهَا فِيمَا رَأَتْهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْلِهِ: فَقُلْنَ (يَا فَاطِمَةُ! رَأَيْنَاكِ بِكَيْتِ ثُمَّ ضَحِكْتِ) . وَلَعَلَّهُنَّ كُنَّ فِي مَكَانٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهَا. أَوْ تَسَارَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، حَيْثُ امْتَنَعَتْ عَنِ الْجَوَابِ حِينَئِذٍ، ثُمَّ أَخَّرَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ عليه السلام (فَقَالَتْ) : وَالنُّسْخَةُ الصَّحِيحَةُ. قَالَتْ: ( «إِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: لَا تَبْكِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي فَضَحِكْتُ» ) . قَالَ الْأَكْمَلُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَاشَتْ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ، شَهْرَيْنِ، وَقِيلَ: سَبْعِينَ يَوْمًا.

(وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ) : عَطْفٌ عَلَى جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَتَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ (هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً)، أَيْ: أَرْحَمُ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ صُدُورًا (وَالْإِيمَانُ يَمَانٍ) ، أَيْ يَمَنِيٌّ، وَالْأَلِفُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ النِّسْبَةِ، قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بُدِئَ مِنْ مَكَّةَ، وَهِيَ تِهَامَةُ وَتِهَامَةُ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، وَلِذَا يُقَالُ: الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ بِتَبُوكَ، وَمَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمَنِ، فَأَشَارَ إِلَى نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْأَنْصَارُ لِأَنَّهُمْ يَمَانِيُّونَ فِي الْأَصْلِ، فَنُسِبَ الْإِيمَانُ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَنْصَارَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ الْيَمَنِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ نُسِبَ الْإِيمَانُ إِلَيْهِمْ إِشْعَارًا بِكَمَالِهِ فِيهِمْ ; لِأَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ وَقَوِيَ قِيَامُهُ بِهِ نُسِبَ ذَلِكَ الشَّيْءُ إِلَيْهِ لَا أَنَّ فِي ذَلِكَ نَفْيًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «الْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ» ) ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُوَحِّدُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لَا كُلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَانِ. (وَالْحِكْمَةُ) : وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إِتْقَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقِيلَ: الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ. قَالَ تَعَالَى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحِكْمَةُ كُلُّ كَلِمَةٍ صَالِحَةٍ تَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمَهَالِكِ (يَمَانِيَّةٌ) . بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ الْأَلِفُ فِيهِ عِوَضٌ، وَحَكَى الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ أَنَّ التَّشْدِيدَ لُغَةٌ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:(الْإِيمَانُ يَمَانٍ) . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَنَسٍ: الْحِكْمَةُ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفًا، وَتَرْفَعُ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَدِيٍّ وَابْنِ لَالٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْحِكْمَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي الْعُزْلَةِ وَوَاحِدٌ فِي الصَّمْتِ.

ص: 3855

5970 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: «وَارَأْسَاهْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ) فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلَيَاهْ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعْرِسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ - أَوْ أَرَدْتُ - أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ وَأَعْهَدُ، أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ، أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

5970 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ)، أَيْ: لِشِدَّةِ صُدَاعٍ بِهَا (وَارَأْسَاهْ!) : نَدَبَتْ رَأْسَهَا وَأَشَارَتْ إِلَى الْمَوْتِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ذَاكِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُهُ الْمَرَضُ مِنَ الْمَوْتِ (لَوْ كَانَ)، أَيْ: إِنْ حَصَلَ ذَاكَ أَيِ مَوْتُكِ (وَأَنَا حَيٌّ)، أَيْ: وَالْحَالُ أَنِّي حَيٌّ (فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ)، أَيْ: لِمَحْوِ سَيِّئَاتِكَ (وَأَدْعُو لَكِ) . أَيْ لِرَفْعِ دَرَجَاتِكِ (فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلَيَاهْ) ! الثُّكْلُ بِالضَّمِّ وَيُحَرَّكُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ وَفُقْدَانُ الْحَبِيبِ أَوِ الْوَلَدِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الثُّكْلُ كَقُفْلٍ فَقْدُ الْمَوْتِ، أَوْ مَنْ يَعِزُّ عَلَى الْفَاقِدِ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ بِمُرَادِهِ هُنَا، بَلْ هُوَ كَلَامٌ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. (وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ)، أَيْ: أَحْسَبُكَ (تُحِبُّ مَوْتِي، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ)، أَيْ: لَوْ حَصَلَ مَوْتِي فِي يَوْمٍ (لَظَلِلْتَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ صِرْتَ فِي ذَلِكَ النَّهَارِ (آخِرَ يَوْمِكَ مُعْرِسًا) : بِضَمِّ مِيمٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ وَفِي

ص: 3855

نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ عَرِيسًا (بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ) . وَالْمَعْنَى إِنْ فَقَدْتَنِي وَعِشْتَ بَعْدِي تَفَرَّغْتَ لِغَيْرِي وَنَسِيتَنِي سَرِيعًا. يُقَالُ: عَرَّسَ وَأَعْرَسَ إِذَا بَنَى عَلَى زَوْجَتِهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ جِمَاعٍ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي النِّهَايَةِ: التَّعْرِيسُ نُزُولُ آخِرِ اللَّيْلِ، يُقَالُ: مِنْهُ عَرَّسَ وَأَعْرَسَ وَأَعْرَسَ الرَّجُلُ، فَهُوَ مُعَرِّسٌ بَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَلَا يُقَالُ عَرَّسَ وَفِي الْقَامُوسِ: أَعْرَسَ اتَّخَذَ عَرُوسًا وَبِأَهْلِهِ بَنَى عَلَيْهَا، وَالْقَوْمُ نَزَلُوا فِي آخِرِ اللَّيْلِ لِلِاسْتِرَاحَةِ كَعَرَّسُوا وَهَذَا أَكْثَرُ.

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ!) بَلْ لِلْإِضْرَابِ أَيْ: دَعِي مَا تَجِدِينَ مِنْ وَجَعِ رَأْسِكِ وَاشْتَغِلِي بِي، فَإِنَّهُ أَهَمُّ مِنْ أَمْرِكِ، وَفِي تَوَافُقِ مِحْنَتِهِمَا إِيمَاءٌ إِلَى كَمَالِ مَحَبَّتِهِمَا عَلَى وَفْقِ خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ بَدَنِ الْمَجْنُونِ الْعَامِرِيِّ وَقْتَ افْتِصَادِ لَيْلَى (لَقَدْ هَمَمْتُ)، أَيْ: قَصَدْتُ (أَوْ أَرَدْتُ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ)، أَيْ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ (وَأَعْهَدُ) ، أَيْ أُوصِي أَبَا بَكْرٍ بِالْخِلَافَةِ بَعْدِي وَأَجْعَلُهُ وَلِيَّ عَهْدِي (أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ) ، أَيْ لِئَلَّا يَقُولَ الْقَائِلُونَ، أَوْ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ: لَمْ يَعْهَدْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْخِلَافَةَ الْكُبْرَى، وَبِهَا اقْتَصَرَ عَلَى الْخِلَافَةِ الصُّغْرَى، وَهِيَ الْإِمَامَةُ مَعَ أَنَّ فِيهَا الْإِشَارَةَ إِلَى إِقَامَةِ تِلْكَ الْأَمَانَةِ (أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ) ، أَيِ الْخِلَافَةَ لِغَيْرِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، فَأَوْ لِلتَّفْرِيعِ لَا لِلشَّكِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا أَحَقُّ مِنْهُ بِالْخِلَافَةِ، أَوْ يَتَمَنَّى أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ غَيْرَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ يَقُولَ مَفْعُولٌ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَجْعَلُ أَبَا بَكْرٍ وَلِيَّ عَهْدِي كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولَ إِلَخْ. وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلِّلَ مَذْكُورٌ وَهُوَ أَعْهَدُ، وَلَعَلَّهُ مَحْذُوفٌ فِي أَصْلِ الطِّيبِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(ثُمَّ قُلْتُ)، أَيْ: فِي الْخَاطِرِ وَفِي الظَّاهِرِ (يَأْبَى اللَّهُ)، أَيْ: إِلَّا خِلَافَتَهُ (وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ)، أَيْ غَيْرَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ (أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ) ، أَيْ أَيْضًا لِاسْتِخْلَافِي إِيَّاهُ فِي الْإِمَامَةِ الصُّغْرَى، فَإِنَّهَا أَمَارَةُ الْإِمَارَةِ الْكُبْرَى، كَمَا فَهِمَ بَعْضُ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ قَالَ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ: اخْتَارَهُ صلى الله عليه وسلم لِأَمْرِ دِينِنَا أَفَلَا نَخْتَارُهُ لِأَمْرِ دُنْيَانَا ; فَهُنَا بُرْهَانٌ جَلِيٌّ، وَتِبْيَانٌ عَلِيٌّ عِنْدَ كُلِّ وَلِيٍّ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ:(وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) . إِشَارَةٌ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ حَقِّيَةَ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرُهُمْ، فَفِيهِ إِثْبَاتُ مُخَالَفَتِهِمْ لِجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْمَلَكُ، أَيْ: تَرَكْتُ الْإِيصَاءَ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ، تَعَالَى، يَأْبَى كَوْنَ غَيْرِهِ خَلِيفَةً، وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ غَيْرَهُ، وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ وَإِخْبَارٌ بِمَا سَيَقَعُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

) .

ص: 3856

5971 -

وَعَنْهَا: قَالَتْ: «رَجَعَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ جَنَازَةٍ مِنَ الْبَقِيعِ فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا، وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهْ! قَالَ: " بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ! وَارَأْسَاهْ! قَالَ: (وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي، فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ؟) قُلْتُ: لَكَأَنِيِّ بِكَ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَرَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَعَرَّسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بُدِئَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ» رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

ــ

5971 -

(وَعَنْهَا)، أَيْ: عَائِشَةَ (قَالَتْ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ جِنَازَةٍ)، أَيْ: مِنْ أَجْلِ جِنَازَةٍ فَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ (مِنَ الْبَقِيعِ) : مُتَعَلِّقٌ بِرَجَعَ (فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا)، بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: فَصَادَفَنِي وَالْحَالُ أَنِّي أُحِسُّ وَجَعَ رَأْسٍ بِي (وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهْ! قَالَ: (بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ! وَارَأْسَاهْ) . قَالَ: (وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا (فَغَسَلْتُكِ) : بِالتَّخْفِيفِ (وَكَفَّنْتُكِ) : بِالتَّشْدِيدِ (وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ) ؟ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَوْتَهَا فِي حَيَاتِهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهَا بَعْدَ مَمَاتِهِ (قُلْتُ: لَكَأَنِيِّ بِكَ)، أَيْ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي مُلْتَبِسَةٌ بِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِي جَوَابِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَالْمَذْكُورُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا. الْمَعْنَى: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَبْصُرُ بِكَ وَالْحَالُ كَيْتَ وَكَيْتَ (لَوْ فَعَلْتُ بِكِ ذَلِكَ)، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْغُسْلِ وَغَيْرِهِ (لَرَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي)، أَيْ: مَكَانِي (فَعَرَّسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ) ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، فَفِي الصِّحَاحِ: أَعْرَسَ الرَّجُلُ بِأَهْلِهِ إِذَا بَنَى بِهَا، وَلَا تَقُلْ عَرَّسَ وَالْعَامَّةُ تَقُولُهُ اه. وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى اللُّغَوِيِّينَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّعْرِيسِ هُنَا النُّزُولُ لِلِاسْتِرَاحَةِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، أَوْ مُطْلَقًا عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ، وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْجِمَاعِ، أَوْ يُجْعَلُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ. (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: لِمَا يَدُلُّ عِبَارَتُهَا عَلَى كَمَالِ غَيْرَتِهَا حَتَّى بَعْدَ وَفَاتِهَا (ثُمَّ بُدِئَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ شُرِعَ (فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .

ص: 3856

5972 -

وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: بَلَى حَدِّثْنَا عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم! قَالَ: «لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرَئِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ تَكْرِيمًا لَكَ، وَتَشْرِيفًا لَكَ، خَاصَّةً لَكَ يَسْأَلُكَ عَمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ، يَقُولُ: كَيْفَ تَجِدُكَ، قَالَ: أَجِدُنِي يَا جِبْرَئِيلُ! مَغْمُومًا، وَأَجِدُنِي يَا جِبْرَئِيلُ! مَكْرُوبًا) . ثُمَّ جَاءَهُ الْيَوْمُ الثَّانِي، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا رَدَّ أَوَّلَ يَوْمٍ، ثُمَّ جَاءَهُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ يَوْمٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ كَمَا رَدَّ عَلَيْهِ، وَجَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ مَلَكٍ، كُلُّ مَلَكٍ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ مَلَكٍ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَلَكُ الْمَوْتِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ. مَا اسْتَأْذَنَ عَلَى آدَمِيٍّ قَبْلَكَ، وَلَا يَسْتَأْذِنُ عَلَى آدَمِيٍّ بَعْدَكَ. فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ، فَإِنْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْبِضَ رُوحَكَ قَبَضْتُ، وَإِنْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَتْرُكَهُ تَرَكْتُهُ فَقَالَ: وَتَفْعَلُ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: نَعَمْ، بِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأُمِرْتُ أَنْ أُطِيعَكَ، قَالَ: فَنَطَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرَئِيلَ عليه السلام فَقَالَ جِبْرَئِيلُ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدِ اشْتَاقَ إِلَى لِقَائِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَلَكِ الْمَوْتِ: (امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ) فَقَبَضَ رُوحَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ سَمِعُوا صَوْتًا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَاتَّقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّمَا الْمُصَابُ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ هُوَ الْخَضِرُ عليه السلام» - رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .

ــ

5972 -

(وَعَنْ جَعْفَرٍ)، أَيِ: الصَّادِقِ (ابْنِ مُحَمَّدٍ) : الْبَاقِرِ (عَنْ أَبِيهِ)، أَيْ: مُحَمَّدٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ)، أَيْ: أَبِي مُحَمَّدٍ (عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ) ، بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِأَبِيهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ (فَقَالَ)، أَيْ: عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رضي الله عنهم (أَلَا أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ)، أَيِ: الرَّجُلُ (بَلَى حَدِّثْنَا عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ)، أَيْ: عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مُرْسَلًا فَإِنَّهُ مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ (لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ)، أَيْ: لِلْعِيَادَةِ وَالرِّسَالَةِ (فَقَالَ: (يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ تَكْرِيمًا لَكَ وَتَشْرِيفًا لَكَ)، أَيْ: تَعْظِيمًا (خَاصَّةً لَكَ)، أَيْ: فِي قَوْلِهِ (يَسْأَلُكَ)، أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ (عَمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ)، أَيْ: فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُرِيدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (وَيَقُولُ: كَيْفَ تَجِدُكَ) ؟ أَيْ مِنَ الْأَحْوَالِ (قَالَ: (أَجِدُنِي يَا جِبْرِيلُ مَغْمُومًا)، أَيْ: مَهْمُومًا (وَأَجِدُنِي يَا جِبْرِيلُ مَكْرُوبًا)، أَيْ: مَحْزُونًا وَإِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَقُولُ فِي كُلِّ حَالٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، (ثُمَّ جَاءَهُ الْيَوْمَ الثَّانِي) ، أَيْ جِبْرِيلُ (فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ) ، أَيْ مَا سَبَقَ مِنَ السُّؤَالِ (فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا رَدَّ أَوَّلَ يَوْمٍ) ، أَيْ مِنْ بَيَانِ الْحَالِ (ثُمَّ جَاءَهُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ يَوْمٍ) ، أَيْ أَسْبَقَهُ حَقِيقَةً أَوْ إِضَافَةً (وَرَدَّ عَلَيْهِ كَمَا رَدَّ عَلَيْهِ) ، أَيْ فِيمَا تَقَدَّمَ (وَجَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ)، أَيْ: فِي هَذَا الْيَوْمِ أَوْ يَوْمًا آخَرَ (يُقَالُ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ مَلَكٍ) ، أَيْ حَاكِمٍ (كُلُّ مَلَكٍ عَلَى أَلْفِ مِائَةِ مَلَكٍ) ، أَيْ أَمِيرٍ (فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ) ، أَيْ بِالدُّخُولِ (فَسَأَلَهُ) ، أَيْ جِبْرِيلَ (عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ)، أَيْ: فَقَالَ أَوْ بَعْدَ تَأَمُّلٍ قَالَ (جِبْرِيلُ: هَذَا مَلَكُ الْمَوْتِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ) . أَيْ بِالدُّخُولِ (مَا اسْتَأْذَنَ عَلَى آدَمِيِّ قَبْلَكَ)، أَيْ: مِنَ الْأَنْبِيَاءِ (وَلَا يَسْتَأْذِنُ عَلَى آدَمِيٍّ بَعْدَكَ)، أَيْ: مِنَ الْأَوْلِيَاءِ بِالْأَوْلَى (فَقَالَ)، أَيْ: لِجِبْرِيلَ (ائْذَنْ لَهُ) فَأَذِنَ لَهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ) ، أَيْ فَرَدَّ عَلَيْهِ (ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ) ، أَيْ: حَتَّى أَعْرِضَ الْأَمْرَ عَلَيْكَ (فَإِنْ أَمَرْتَنِي، أَنْ أَقْبِضَ رُوحَكَ قَبَضْتُ، وَإِنْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَتْرُكَهُ تَرَكْتُهُ) : وَالرُّوحُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَرْكِ الضَّمِيرَيْنِ (فَقَالَ: وَتَفْعَلُ) ، أَيْ: أَوَتَفْعَلُ مَأْمُورِي (يَا مَلَكَ الْمَوْتِ) . قَالَ: نَعَمْ، بِذَلِكَ) ، أَيْ: بِتَخْيِيرِكَ (أُمِرْتُ وَأُمِرْتُ أَنْ أُطِيعَكَ) ، أَيْ فِيمَا اخْتَرْتَ بِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ قَوْلُهُ: وَأُمِرَتْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِذَلِكَ أُمِرْتُ أَيْ: بِقَبْضِ رُوحِكَ مِنَ الْعَطْفِ الْمُخَصَّصِ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. (قَالَ)، أَيْ: عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ عليه السلام)، أَيْ كَالْمُسْتَشِيرِ إِلَيْهِ (فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدِ اشْتَاقَ إِلَى لِقَائِكَ) ، أَيْ: وَإِلَّا لَمَا أَرْسَلَ إِلَى مُوجِبِ عَنَائِكَ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَلَكِ الْمَوْتِ: (امْضِ) : بِكَسْرِ هَمْزِ الْوَصْلِ وَالضَّادِ أَيِ: انْفُذْ (لِمَا أُمِرْتَ بِهِ) . وَلَا تَتَوَقَّفْ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِلَى هَاهُنَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا آخِرُ مَوْطِئِي الْأَرْضَ إِنَّمَا كُنْتَ حَاجَتِي فِي الدُّنْيَا فَقَبَضَ رُوحَهُ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. (فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ)، أَيْ: مِنْ كُلِّ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ (سَمِعُوا صَوْتًا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ: السَّلَامُ.

ص: 3857

عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، إِنَّ فِي اللَّهِ) ، أَيْ: فِي كِتَابِهِ (عَزَاءً) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ تَسْلِيَةً (مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ) : إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة: 155 - 156] أَوْ فِي ثَوَابِهِ عِوَضًا مِنْ كُلِّ مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ لَمْ يَتَعَزَّ بِعَزَاءِ اللَّهِ. قِيلَ: أَرَادَ بِالتَّعَزِّي فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّسَلِّيَ وَالتَّصَبُّرَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَأَنْ يَقُولَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ فِي قَوْلِهِ: فِي اللَّهِ أَيْ إِنَّ فِي لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى تَسَلِّيًا وَتَصَبُّرًا مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَأَنْ يُرَادَ إِنَّ فِي اللَّهِ تَسْلِيَةً عَلَى التَّجْرِيدِ أَيِ اللَّهُ مُعِزٌّ وَمُسَلٍّ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافٍ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقَرِينَتَانِ يَعْنِي قَوْلَهُ:(وَخَلَفًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: عِوَضًا (مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا) : بِفَتْحِ الدَّالِ وَالرَّاءِ أَيْ: تَدَارُكًا (مِنْ كُلِّ فَائِتٍ) ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ، شِعْرٌ:

لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا فَارَقْتَهُ خَلَفٌ

وَلَيْسَ لِلَّهِ إِنْ فَارَقْتَ مِنْ عِوَضِ

(فَبِاللَّهِ)، أَيْ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَبِعَوْنِهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ (فَاتَّقُوا)، أَيِ: الْجَزَعَ وَالْفَزَعَ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُوَافِقًا لِمَا فِي الْحِصْنِ الْحَصِينِ: فَثِقُوا بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ الْمَضْمُومَةِ أَيْ: فَاعْتَمِدُوا بِهِ إِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] . (وَإِيَّاهُ فَارْجُوا) ، أَيْ لَا تَرْجُوا سِوَاهُ فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ مِنْ عِنْدِهِ فَارْجُوا الثَّوَابَ. (فَإِنَّمَا الْمُصَابُ)، أَيْ: فِي الْحَقِيقَةِ (مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ) . بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: مَنْ مُنِعَ الْمَثُوبَةَ بِسَبَبِ قِلَّةِ الصَّبْرِ فِي قَضِيَّةِ الْمُصِيبَةِ، وَالصَّبْرُ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِاللَّهِ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، وَبِاللَّهِ حَالٌ قُدِّمَتْ عَلَى عَامِلِهَا اخْتِصَاصًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] أَيْ إِذَا كَانَ اللَّهُ مُعَزِّيًا وَخَلَفًا وَدَرَكًا، فَخُصُّوهُ بِالتَّقْوَى مُسْتَعِينِينَ بِهِ، وَالْفَاءُ فِي فَاتَّقُوا وَرَدَتْ لِتَأْكِيدِ الرَّبْطِ، كَذَا فِي قَوْلِهِ: فَارْجِعُوا، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ لَيْسَ لِإِرَادَةِ التَّخْصِيصِ، بَلْ لِتَتَعَادَلَ بِهِ الْقَرِينَةُ فِي اقْتِرَانِ الْفَاءِ. قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِرَادَةِ الِاخْتِصَاصِ الْمُفِيدِ لِلْإِخْلَاصِ، وَحُصُولِ التَّعَادُلِ بَيْنَ اقْتِرَانِ التَّمَاثُلِ.

(فَقَالَ عَلِيٌّ)، أَيْ: زَيْنُ الْعَابِدِينَ، أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا) ؟ أَيْ صَاحِبُ الصَّوْتِ (هَذَا هُوَ الْخَضِرُ عليه السلام) . بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ، وَقِيلَ بِكَسْرٍ وَسُكُونٍ، وَفِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ: يَجُوزُ إِسْكَانُ الضَّادِ مَعَ فَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ عليه السلام حَيٌّ مَوْجُودٌ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ) . أَيِ الْحَدِيثَ بِكَامِلِهِ (فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ صَدْرَ الْحَدِيثِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ (الْوَفَاءِ) وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي الْحِصْنِ وَلَفْظُهُ: وَلَمَّا تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم عَزَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ مُلْكٍ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا وَإِيَّاهُ فَارْجُوا فَإِنَّمَا الْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ جَابِرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَدَخَلَ رَجُلٌ أَشْهَبُ اللِّحْيَةِ جَسِيمٌ صَبِيحٌ، فَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ فَبَكَى، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الصَّحَابَةِ فَقَالَ: إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، فَإِلَى اللَّهِ فَأَنِيبُوا وَإِلَيْهِ فَارْغَبُوا، وَنَظَرُهُ إِلَيْكُمْ فِي الْبَلَاءِ فَانْظُرُوا، فَإِنَّمَا الْمُصَابُ مَنْ لَمْ يُجْبَرْ وَانْصَرَفَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ: هَذَا الْخَضِرُ عليه السلام رَوَاهُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَاهِي الْإِسْنَادِ أَيْ ضَعِيفٌ بِخُصُوصِ هَذَا السَّنَدِ، لَكِنْ إِذَا انْضَمَّ إِلَى غَيْرِهِ يَتَقَوَّى وَيَتَرَقَّى إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ، فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الْخُضَرِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْمِشْكَاةِ مِنْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَوْضُوعٌ، رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ، عَنْ يَزِيدَ الْأَصَمِّ، عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَابْنُ مُحْرِزٍ مَتْرُوكٌ كَمَا فِي مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ اه. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مِنْ كَوْنِ أَحَدِ الرُّوَاةِ مَتْرُوكًا كَوْنَ الْحَدِيثِ مَوْضُوعًا، لَا سِيَّمَا إِذَا جَاءَ

ص: 3858