الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6193 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا فَاطِمَةَ عَامَ الْفَتْحِ فَنَاجَاهَا، فَبَكَتْ، ثُمَّ حَدَّثَهَا فَضَحِكَتْ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهَا عَنْ بُكَائِهَا وَضَحِكِهَا. قَالَتْ: أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَمُوتُ فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَضَحِكْتُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6193 -
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا فَاطِمَةَ عَامَ الْفَتْحِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَهْمٌ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ أَرْبَابِ السِّيَرِ وُقُوعُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ عَامَ الْفَتْحِ، بَلْ كَانَ هَذَا فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَوْ حَالَ مَرْضِ مَوْتِهِ عليه السلام (فَنَاجَاهَا) ، أَيْ كَلَّمَهَا بِالسِّرِّ (فَبَكَتْ، ثُمَّ حَدَّثَهَا)، أَيْ: خُفْيَةً أَيْضًا (فَضَحِكَتْ)، وَتَقَدَّمَ أَنَّ عَائِشَةَ سَأَلَتْهَا فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ تُجِبْهَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِ أَجَابَتْهَا نَحْوَ مَا ذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بِقَوْلِهَا:(فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهَا عَنْ بُكَائِهَا وَضَحِكِهَا) . أَيْ عَنْ سَبَبِهِمَا (فَقَالَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَتْ: (أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَمُوتُ)، أَيْ: قَرِيبًا (فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَضَحِكْتُ) . وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا قَالَ لَهَا أَيْضًا مِنْ أَنَّكِ أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِي عَلَى مَا سَبَقَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِهَذَا الْبَابِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ بَابَ مَنَاقِبِ أَهْلِ الْبَيْتِ، لَكِنَّ ذِكْرَهُ مُسْتَطْرَدًا لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ؛ ذُكِرَتْ فِيهِ فَاطِمَةُ مَعَ ذِكْرِ خَدِيجَةَ وَمَرْيَمَ، وَهُوَ فَنٌّ مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ. اهـ. فَيَكُونُ تَفْصِيلًا لِبَعْضِ مَا سَبَقَ مُجْمَلًا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ تَلْمِيحًا إِلَى مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مَرْيَمَ تَكُونُ زَوْجَةَ نَبِيِّنَا فِي الْجَنَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ:«فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
6194 -
عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: «مَا أُشْكِلَ عَلَيْنَا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحَيِحٌ غَرِيبٌ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
6194 -
(عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: مَا أَشْكَلَ)، أَيْ: مَا اشْتَبَهَ، وَفِي نُسْخَةٍ مَا اشْتَكَلَ أَيْ مَا أَغْلَقَ (عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : بِالنَّصْبِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِنَ الْمَجْرُورِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ (حَدِيثٌ قَطُّ)، أَيْ: مَعْنَى حَدِيثٍ أَوْ فَقْدُ حَدِيثٍ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةٍ مُهِمَّةٍ (فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ)، أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ (عِلْمًا) . أَيْ نَوْعَ عِلْمٍ بِأَنْ يُوجَدَ الْحَدِيثُ عِنْدَهَا تَصْرِيحًا أَوْ تَأْوِيلًا لِأَنْ يُؤْخَذَ الْحُكْمُ مِنْهُ تَلْوِيحًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) . وَأَمَّا حَدِيثُ: «خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ، يَعْنِي عَائِشَةَ» فَقَالَ الْحَافِظُ بْنُ حَجْرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَا أَعْرِفُ لَهُ إِسْنَادًا وَلَا رِوَايَةً فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، إِلَّا فِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ خَرَّجَهُ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ: أَنَّهُ سَأَلَ الْمِزِّيَّ وَالذَّهَبِيَّ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفَاهُ، وَقَالَ السَّخَاوِيُّ: ذَكَرَهُ فِي الْفِرْدَوْسِ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ وَبِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَفْظُهُ:«خُذُوا ثُلُثَ دِينِكُمْ مِنْ بَيْتِ الْحُمَيْرَاءِ» ، وَبَيَّضَ لَهُ صَاحِبُ مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ وَلَمْ يُخْرِجْ لَهُ إِسْنَادًا. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.
6195 -
وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْصَحَ مِنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ. غَرِيبٌ.
ــ
6195 -
(وَعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ)، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عِيسَى التَّيْمِيَّ الْقُرَشِيَّ، سَمِعَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ (قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْصَحَ مِنْ عَائِشَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) .
[بَابُ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ]
[12]
بَابُ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
6196 -
ــ
[12]
بَابُ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
6196 -
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) ، أَيِ ابْنِ الْخَطَّابِ الْقُرَشِيِّ الْعَدَوِيِّ، أَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ بِمَكَّةَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَشَهِدَ مَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ وَالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ شَدِيدَ التَّحَرِّي وَالِاحْتِيَاطِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالَتْ بِهِ الدُّنْيَا وَمَالَ إِلَيْهَا مَا خَلَا عُمَرَ وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ. قَالَ نَافِعٌ: مَا مَاتَ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى أَعْتَقَ أَلْفَ إِنْسَانٍ أَوْ زَادَ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُ الْحُجَّاجَ فِي الْمَوَاقِفِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِيهَا، وَكَانَ يَعِزُّ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَخَطَبَ الْحَجَّاجُ يَوْمًا وَأَخَّرَ صَلَاةَ الْفَجْرِ أَوِ الْعَصْرِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ الشَّمْسَ لَا تَنْتَظِرُكَ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُصَيِّرَكَ الَّذِي فِي عَيْنَيْكَ قَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّكَ سَفِيهٌ مُسَلَّطٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخْفَى قَوْلَهُ ذَلِكَ عَنِ الْحَجَّاجِ وَلَمْ يُسْمِعْهُ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ رَجُلًا فَسَمَّ زُجَّ رُمْحِهِ وَزَاحَمَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَوَضَعَ الزُّجَّ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ. وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ قَبْلَ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ، وَمَوْتُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي الْحِلِّ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْحَجَّاجِ، وَدُفِنَ بِذِي طُوًى فِي مَقْبَرَةِ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ) : بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّشْبِيهِ لِلْمُلَاحَظَةِ فِي التَّعْبِيرِ (فِي يَدِي) : وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّثْنِيَةِ (سَرَقَةً) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ قِطْعَةً (مِنْ حَرِيرٍ)، أَيْ كَائِنَةً مِنْهُ (لَا أَهْوِي) : بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ لَا أَقْصِدُ (بِهَا إِلَى مَكَانٍ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا طَارَتْ بِي إِلَيْهِ) ، أَيْ تُبَلِّغُنِي إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مِثْلَ جَنَاحِ الطَّائِرِ وَالْبَاءِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: لَا أُرِيدُ الْمَيْلَ بِهَا إِلَى مَكَانٍ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا كَانَتْ مَطِيرَةً بِي وَمُبَلِّغَةً إِيَّايَ إِلَى تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، فَكَأَنَّهَا لِي مِثْلَ جَنَاحِ الطَّيْرِ لِلطَّائِرِ (فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " إِنَّ أَخَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ، أَوْ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ ") . قَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ: تَأَوَّلَ هَذَا عَلَى أَنَّ السَّرَقَةَ كَانَتْ ذَاتَ يَدِهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَبَيَاضُ السَّرَقَةِ مُنْبِئٌ عَنْ خُلُوصِهِ مِنَ الْهَوَى وَصَفَائِهِ عَنْ كَدَرِ النَّفْسِ اهـ. وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْمَصَابِيحِ سَرَقَةً مِنْ حَرِيرٍ بَيْضَاءَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: أَرَى عَبْدَ اللَّهِ رَجُلًا صَالِحًا، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
6197 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلًّا وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَابْنُ أُمِّ عَبْدٍ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، لَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ إِذَا خَلَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6197 -
(وَعَنْ حُذَيْفَةَ) : سَيَأْتِي تَرْجَمَتُهُ (قَالَ: إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلَّا) : بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ طَرِيقَةً (وَسَمْتًا)، أَيْ: سِيرَةً (وَهَدْيًا)، أَيْ: هِدَايَةً وَدَلَالَةً (بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مُتَعَلِّقٌ بِأَشْبَهَ (لَابْنُ أُمِّ عَبْدٍ) : بِفَتْحِ لَامِ التَّأْكِيدِ الدَّاخِلَةِ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ تُكَنَّى أُمُّ عَبْدٍ. قَالَ الْقَاضِي: الدَّالُ قَرِيبٌ مِنَ الْهَدْيِ، وَالْمُرَادُ بِهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ صَاحِبِهِ مِنْ ظَوَاهِرِ أَحْوَالِهِ وَحُسْنِ مَقَالِهِ، وَبِالسَّمْتِ الْقَصْدُ فِي الْأُمُورِ، وَبِالْهَدْيِ حُسْنُ السِّيرَةِ وَسُلُوكُ الطَّرِيقَةِ الْمُرْضِيَةِ، وَقَالَ شَارِحٌ: السَّمْتُ يُسْتَعَارُ لِهَيْئَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ (مِنْ حِينِ يَخْرُجُ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَشْبَهَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَكْثَرِيَّةَ الشَّبَهِ فِيمَا ذَكَرَ مُسْتَمِرَّةً عَلَيْهِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ (مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ) ، أَيْ إِلَى بَيْتِهِ وَهَذَا بِحَسْبِ الظَّاهِرِ الَّذِي كُنَّا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ (لَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ)، أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِ عِنْدَ أَهْلِهِ (إِذَا خَلَا)، أَيْ: مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَحَدٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا نَدْرِي جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ يُرِيدُ أَنَّا نَشْهَدُ لَهُ بِمَا يَسْتَبِينُ لَنَا مِنْ ظَاهِرِ أَمْرِهِ، وَلَا نَدْرِي مَا بَطَنَ مِنْهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
6198 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ، فَمَكَثْنَا حِينًا مَا نَرَى إِلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا نُرَى مِنْ دُخُولِهِ وَدُخُولِ أُمِّهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6198 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) سَيَأْتِي مَنْقَبَتُهُ (قَالَ قَدِمْتُ) أَيِ الْمَدِينَةَ (أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ فَمَكَثْنَا) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا أَيْ فَلَبِثْنَا (حِينًا) أَيْ زَمَانًا كَثِيرًا (مَا نُرَى) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ أَيْ مَا نَظُنُّ (إِلَّا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا نَرَى) بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ لِمَا نُبْصِرُ (مِنْ دُخُولِهِ وَدُخُولِ أُمِّهِ) أَيْ مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِهِمَا (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ مَا نُرَى حَالٌ مِنْ فَاعِلِ مَكَثْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ الْهُذَلِيِّ كَانَ إِسْلَامُهُ قَدِيمًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَارَ الْأَرْقَمِ وَقَبْلَ عُمَرَ بِزَمَانٍ، وَقِيلَ كَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ سِوَاكَهُ وَنَعْلَهُ وَطُهُورَهُ فِي السَّفَرِ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَشَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ وَقَالَ:«رَضِيْتُ لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ وَسَخِطْتُ لَهَا مَا سَخِطَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ» ، وَكَانَ خَفِيفَ اللَّحْمِ قَصِيرًا شَدِيدَ الْأَدْمَةِ نَحِيفًا يَكَادُ طَوَالُ الرِّجَالِ يُوَازِي جَالِسًا، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْكُوفَةِ وَبَيْتَ مَالِهَا لِعُمْرَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ ثُمَّ صَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَلَهُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. اهـ. وَهُوَ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَفْقَهُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
6199 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6199 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اسْتَقْرِءُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ) أَيِ اطْلُبُوا الْقُرْآنَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهُمْ حَفَظَةُ الصَّحَابَةِ (مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) بِزِيَادَةِ (مِنْ) لِمَزِيدِ الْبَيَانِ فِي الْبَيَانِ (وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ) فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا: هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ تَفَرَّغُوا لِأَخْذِ الْقُرْآنِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم مُشَافَهَةً، وَغَيْرُهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، أَوْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ تَفَرَّغُوا لِأَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُمْ أَوْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ الْإِعْلَامَ بِمَا يَكُونُ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَقَدُّمِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّهُمْ أَقْرَأُ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَالِمُ بْنُ مَعْقِلٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، كَانَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ مِنْ إِصْطَخْرَ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الْمَوَالِي وَمِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِهِمْ، شَهِدَ بَدْرًا وَرَوَى عَنْهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا أُبَيٌّ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ؟ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
6200 -
ــ
6200 -
(وَعَنْ عَلْقَمَةَ) : تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ، فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ (ثُمَّ قُلْتُ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ) ، أَيْ: سَهِّلْ (لِي جَلِيسًا صَالِحًا)، أَيْ: عَالِمًا عَامِلًا أَوْ قَائِمًا بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ (فَأَتَيْتُ قَوْمًا، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا شَيْخٌ)، أَيْ: كَبِيرٌ أَوْ عَظِيمٌ (قَدْ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي) ، رَوَى أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَجُرُّ الْأَهْلَ إِلَى الْأَهْلِ (قُلْتُ)، أَيْ: لِلْقَوْمِ (مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَبُو الدَّرْدَاءِ قُلْتُ)، أَيْ: لَهُ (إِنِّي دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ)، أَيْ: يُسَهِّلَ (لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَيَسَّرَكَ لِي، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِيُطَابِقَ السُّؤَالَ، أَوْ تَقْدِيرُ السُّؤَالِ مِنْ أَيْنَ أَنْتَ لِيُطَابِقَهُ الْجَوَابُ، وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ عِنْدَكُمْ إِلَخْ. فَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: صَوَابُهُ مِنْ أَيْنَ أَنْتَ، لِقَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَعَلَّ لَفْظَةَ:" أَيْنَ " سَقَطَتْ مِنَ الْقَلَمِ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، أَوْ صُحِّفَ أَيْنَ بِأَنْتَ، وَمِنَ الْجَارَّةِ بِمَنِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ. اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْطِئَةُ جَمَاعَةٍ.
مِنَ الرُّوَاةِ الثِّقَاتِ فِي الْحِفْظِ وَالتَّيَقُّظِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجَوَابَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ مَعْرِفَةٍ مَا أَوْ مَعْرِفَةِ بَلَدِهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُجِيبَ مُقَصِّرٌ أَوْ مُقْتَصِرٌ، أَوْ يَكُونُ رَجُلٌ أَوْ عَلْقَمَةُ مَحْذُوفًا، أَوْ تَقْدِيرُهُ: فَقُلْتُ فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَيَنْشَأُ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِئَلَّا يُنْسَبَ أَحَدٌ مِنَ الْأَكَابِرِ إِلَى الْخَطَأِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الضَّرُورَةِ، فَنِسْبَتُهُ إِلَى التَّابِعِيِّ أَوْلَى مِنَ الصَّحَابِيِّ خُصُوصًا السَّائِلَ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِلسَّائِلِ سُؤَالُكَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْجَوَابِ، بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ثُمَّ رَأَيْتُ نَظِيرَ هَذَا الْإِشْكَالِ فِي بَابِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي، فَأَجَابُوا بِأَنَّ السُّؤَالَ مُتَضَمِّنٌ لِقَوْلِهِ: أَيْنَ تُرِيدُ وَمَنْ تُرِيدُ، فَتَدَبَّرْ ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ كَذَا فِي الْحُمَيْدِيِّ.
(قَالَ)، أَيْ: أَبُو الدَّرْدَاءِ (أَوَ لَيْسَ عِنْدَكُمُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالْوِسَادَةِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ: الْمِخَدَّةُ (وَالْمَطْهَرَةِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْمَطْهَرَةُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ إِنَاءٌ يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَفِي الْخُلَاصَةِ فَتْحُ الْمِيمِ فِي الْمَطْهَرَةِ أَعْلَى، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ الْعِبَارَةُ اللَّطِيفَةُ. قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَيُلَازِمُهُ فِي الْحَالَاتِ كُلِّهَا، فَيُصَاحِبُهُ فِي الْمَجَالِسِ، وَيَأْخُذُ نَعْلَهُ وَيَضَعُهَا إِذَا جَلَسَ وَحِينَ نَهَضَ وَيَكُونُ مَعَهُ فِي الْخَلْوَاتِ فَيُسَوِّي مَضْجَعَهُ وَيَضَعُ وِسَادَتَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، وَيُهَيِّئُ لَهُ طَهُورَهُ وَيَحْمِلَ مَعَهُ الْمَطْهَرَةَ إِذَا قَامَ إِلَى الْوُضُوءِ. اهـ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لِشِدَّةِ مُلَازَمَتِهِ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْأُمُورِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ مَا يَسْتَغْنِي طَالِبُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِمَا ذُكِرَ فِي آدَابِ الْمُتَعَلِّمِينَ مِنْ أَنَّ الطَّالِبَ أَوَّلًا يُحِيطُ بِعِلْمِ عُلَمَاءِ بَلَدِهِ، ثُمَّ يَرْتَحِلُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبُلْدَانِ فِي طَلَبِ زِيَادَةِ الْبَيَانِ مِنَ الْأَعْيَانِ. (وَفِيكُمْ)، أَيْ: وَأَلَيْسَ فِيكُمُ (الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ)، أَيْ: أَنْقَذَهُ وَخَلَّصَهُ (مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ) ؟ أَيْ بِنَاءً عَلَى لِسَانِهِ مِمَّا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ دُعَائِهِ (يَعْنِي) : أَيْ يُرِيدُ أَبُو الدَّرْدَاءِ (عَمَّارًا) ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الرُّوَاةِ (أَوَ لَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ)، أَيْ: صَاحِبُ سِرِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ)، أَيْ: ذَلِكَ السِّرَّ (غَيْرُهُ) ؟ أَيْ غَيْرُ حُذَيْفَةَ قِيلَ: مِنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ أَسْرَارُ الْمُنَافِقِينَ وَأَنْسَابُهُمْ، أَسَرَّ بِهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَ هَذَا (يَعْنِي حُذَيْفَةَ) .
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْعَبْسِيُّ، مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ وَحَلِيفُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ يَاسِرًا وَالِدَ عَمَّارٍ قَدِمَ مَكَّةَ مَعَ أَخَوَيْنِ لَهُ يُقَالُ لَهُمَا الْحَارِثُ وَمَالِكٌ فِي طَلَبِ أَخٍ لَهُمْ رَابِعٌ، فَرَجَعَ الْحَارِثُ وَمَالِكٌ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَقَامَ يَاسِرٌ بِمَكَّةَ، فَحَالَفَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، فَزَوَّجَهُ أَمَةً لَهُ يُقَالُ لَهَا: سُمَيَّةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمَّارًا فَأَعْتَقَهُ أَبُو حُذَيْفَةَ، فَعَمَّارٌ مَوْلًى وَأَبُوهُ حَلِيفٌ، أَسْلَمَ عَمَّارٌ قَدِيمًا، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ عُذِّبُوا بِمَكَّةَ لِيَرْجِعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَحْرَقَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالنَّارِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بِهِ فَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ:«يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى عَمَّارٍ كَمَا كُنْتِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» .
وَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الطَّيِّبُ الْمُطَيَّبُ، قُتِلَ بِصِفِّينَ، وَكَانَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةً مِنْهُمْ: عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم وَأَمَّا حُذَيْفَةُ؟ فَهُوَ ابْنُ الْيَمَانِ وَاسْمُ الْيَمَانِ حُثَيْلٌ بِالتَّصْغِيرِ، وَالِيمَانُ لَقَبُهُ، وَكُنْيَتُهُ حُذَيْفَةُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، رَوَى عَنْهُ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مَاتَ بِالْمَدَائِنِ وَبِهَا قَبْرُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.
6201 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُرِيْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ امْرَأَةَ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَمِعْتُ خَشْخَشَةً أَمَامِي فَإِذَا بِلَالٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
6201 -
(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أُرِيْتُ الْجَنَّةَ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (" فَرَأَيْتُ امْرَأَةَ أَبِي طَلْحَةَ ") وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ تَزَوَّجَهَا مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ أَبُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَنَسًا، ثُمَّ قُتِلَ عَنْهَا مُشْرِكًا وَأَسْلَمَتْ، فَخَطَبَهَا أَبُو طَلْحَةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَأَبَتْ وَدَعَتْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَزَوَّجُكَ وَلَا آخُذُ مِنْكَ صَدَاقًا لِإِسْلَامِكَ،
فَتَزَوَّجَهَا أَبُو طَلْحَةَ، رَوَى عَنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. (" وَسَمِعْتُ خَشْخَشَةً ") : بِالْخَاءَيْنِ وَالشِّينَيْنِ الْمُعْجَمَاتِ أَيْ صَوْتًا يَحْدُثُ مَنْ تَحَرُّكِ الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ وَاصْطِكَاكِهَا كَالسِّلَاحِ وَالنَّعْلِ وَالثَّوْبِ (" أَمَامِي ")، أَيْ: قُدَّامِي تَقَدَّمَ الْخَادِمُ عَلَى الْمَخْدُومِ (" فَإِذَا بِلَالٌ ") ، وَهُوَ ابْنُ رَبَاحٍ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ بِمَكَّةَ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَسَكَنَ الشَّامَ آخِرًا وَلَا عَقِبَ لَهُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ: مَاتَ بِحَلَبَ وَدُفِنَ بِبَابِ الْأَرْبَعِينَ، وَكَانَ مِمَّنْ عَذَّبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمِمَّنْ كَانَ يُعَذِّبُهُ وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ قَتَلَهُ بِلَالٌ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ جَابِرٌ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلَالًا. اهـ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ «أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ. فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخْذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَيَّرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَأَتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ عز وجل وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانِ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ» كَذَا فِي الرِّيَاضِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.
6202 -
ــ
6202 -
(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) : أَحَدُ الْعَشَرَةِ (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ) ، أَيْ أَشْخَاصٍ (فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ)، أَيْ: مِنْ أَكَابِرِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اطْرُدْ)، أَيْ: أَبْعِدْ عَنْ حَضْرَتِكَ (هَؤُلَاءِ)، أَيِ: الْمَوَالِيَ وَالْفُقَرَاءَ (لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا) . أَيْ لَا يَكُونُ لَهُمْ جَرَاءَةٌ عَلَيْنَا فِي مُخَاطَبَتِهِمْ بِنَا إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ نُؤْمِنَ بِكَ وَنَدْخُلَ عَلَيْكَ (قَالَ)، أَيْ: سَعْدٌ (وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ) . بِالتَّصْغِيرِ (وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا)، بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَجُوِّزَ تَخْفِيفُهَا أَيْ لَا أَتَذَكَّرُهُمَا. قَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ: وَرَجُلَانِ خَبَّابٌ وَعَمَّارٌ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا لِمَصْلَحَةٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَقِيلَ: لِلنِّسْيَانِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ، وَإِنَّمَا لَحِقَهُ سِبَاءٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَاشْتَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَعْتَقَتْهُ، أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَارَ الْأَرْقَمِ، وَهُوَ مِمَّنْ عُذِّبَ فِي اللَّهِ عَلَى إِسْلَامِهِ فَصَبَرَ، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ) ، أَيْ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى طَرْدِهِمْ طَمَعًا فِي إِسْلَامِ الْأَكَابِرِ الْمُتَفَرِّعِ عَلَيْهِ إِسْلَامُ الْكُلِّ بَعْدَهُمْ (فَحَدَّثَ نَفْسَهُ) ، أَيْ لِلتَّآلُفِ بِهِمْ أَنْ يَطْرُدَهُمْ صُورَةً بِأَنْ لَا يَأْتُوهُ حَالَ وُجُودِ الْأَكَابِرِ عِنْدَهُ، أَوْ يَقُومُوا عَنْهُ إِذَا هُمْ جَلَسُوا عِنْدَهُ مُرَاعَاةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلَاءِ جَلَسْنَا إِلَيْكَ وَحَدَّثْنَاكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ " قَالُوا: فَأَقِمْهُمْ عَنَّا إِذَا جِئْنَا. قَالَ: " نَعَمْ " طَمَعًا فِي إِيمَانِهِمْ. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى)، أَيْ: عِتَابًا لِسَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ} [الأنعام: 52] : بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالدَّالِ بَعْدَهُ أَلِفٌ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ، وَفِي قِرَاءَةٍ بِضَمٍّ وَسُكُونٍ وَفَتْحِ وَاوٍ وَالْعَشِيِّ: أُرِيدَ بِهِمَا طَرَفَا النَّهَارِ أَوِ الْمَلَوَانِ {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ يُرِيدُونَ بِعِبَادَتِهِمْ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
6203 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: " يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُعْطِيْتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6203 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: " يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُعْطِيْتَ مِزْمَارًا ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ صَوْتًا حَسَنًا وَلَحْنًا طَيِّبًا (" مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ")، أَيْ: مِنْ أَلْحَانِهِ، وَالْأَوَّلُ مُقْحَمٌ، وَاسْتُعِيرَ الْمِزْمَارُ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ الْآلَةُ لِلصَّوْتِ الْحَسَنِ وَالنَّغْمَةِ الطَّيِّبَةِ. قَالَ الْقَاضِي، أَيْ: أُعْطِيْتَ حُسْنَ صَوْتٍ يُشْبِهُ بَعْضَ الْحُسْنِ الَّذِي كَانَ لِصَوْتِ دَاوُدَ، وَالْمُرَادُ بِآلِ دَاوُدَ نَفْسُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ آلُهَ مَشْهُورًا بِحُسْنِ الصَّوْتِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيُّ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَدِمَ مَعَ أَهْلِ السَّفِينَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ، وَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْبَصْرَةَ سَنَةَ عِشْرِينَ فَافْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَهْوَازَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عَلَى الْبَصْرَةِ إِلَى صَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا، فَانْتَقَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَقَامَ بِهَا وَكَانَ وَالِيًا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ، ثُمَّ انْتَقَلَ أَبُو مُوسَى إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ التَّحْكِيمِ، فَلَمْ يَنْزِلْ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
6204 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةٌ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. قِيلَ لِأَنَسٍ: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6204 -
(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَمَعَ الْقُرْآنَ)، أَيْ: قَرَأَهُ كُلَّهُ ذَكَرَهُ شَارِحٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَفِظَهُ أَجْمَعَ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: فِي زَمَانِهِ (أَرْبَعَةٌ)، أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ، أَرَادَ أَنَسٌ بِالْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةً مِنْ رَهْطِهِ وَهُمُ الْخَزْرَجِيُّونَ، إِذْ رُوِيَ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَيْضًا جَمَعُوا الْقُرْآنَ. (أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ)، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ (وَأَبُو زَيْدٍ قِيلَ لِأَنَسٍ مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ أَيْ: أَحَدُ أَعْمَامِي، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، هُوَ الَّذِي جَمَعَ الْقُرْآنَ حِفْظًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: سَعِيدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقِيلَ: قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ. اهـ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِ: اسْتَقْرِءُوا الْقُرْآنَ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْقُرْآنِ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا اسْتَظْهَرُوا الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ، هَذَا وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ فِي تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ، وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَجْمَعْهُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ الَّذِينَ عَلَّمَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ، فَالْمُرَادُ نَفْيُ عِلْمِهِ لَا نَفْيَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ: حَفِظَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ مِنْهُمُ الْمَازِرِيُّ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةَ سَبْعُونَ مِمَّنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَكَانَتِ الْيَمَامَةُ قَرِيبًا مِنْ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ جَامِعِيهِ يَوْمَئِذٍ، فَكَيْفَ الظَّنُّ. بِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ مِمَّنْ حَضَرَهَا وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْهَا، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَؤُلَاءِ، الْأَرْبَعَةَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَنَحْوُهُمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا مَعَ كَثْرَةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَكَيْفَ يُظَنُّ هَذَا بِهِمْ، وَنَحْنُ نَرَى أَهْلَ عَصْرِنَا يَحْفَظُهُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ أُلُوفٌ. وَثَانِيهُمَا: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ لَمْ يُقْدَحْ فِي تَوَاتُرِهِ، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّوَاتُرِ أَنْ يَنْقُلَ جَمِيعُهُمْ جَمِيعَهُ، بَلْ إِذَا نَقَلَ كُلَّ جُزْءٍ عَدَدُ التَّوَاتُرِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ مُتَوَاتِرَةً بِلَا شَكٍّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمُرَادُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةٌ مِنْ رَهْطِ أَنَسٍ، وَهُمُ الْخَزْرَجِيُّونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَرْبَعَةً مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْسِهِمْ وَخَزْرَجِهِمْ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَكَانَ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ مُنَاوَأَةٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَلَعَلَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُفَاخَرَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: افْتَخَرَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فَقَالَتِ الْأَوْسُ: مِنَّا غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ حَنْظَلَةُ بْنُ الْكَاتِبِ، وَمِنَّا مَنْ حَمَتْهُ الدُّبُرُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِنَّا مَنِ اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ. وَقَالَتِ الْحَزْرَجُ: مِنَّا أَرْبَعَةٌ قَرَأُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْرَأْهُ غَيْرُهُمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. فَقَوْلُهُ: لَمْ يَقْرَأْهُ غَيْرُهُمْ أَيْ لَمْ يَقْرَأْ كُلَّهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6205 -
وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: «هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مَنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ: قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةٌ، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ ". وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6205 -
(وَعَنْ خَبَّابِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى (بْنِ الْأَرَتِّ) : بِفَتْحِ هَمْزٍ وَرَاءٍ وَتَشْدِيدِ فَوْقِيَّةٍ (قَالَ: هَاجَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى)، أَيْ: رِضَاهُ (فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ)، أَيْ: ثَبَتَ أَجْرُنَا الدُّنْيَوِيُّ وَالْأُخْرَوِيُّ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ (فَمِنَّا مَنْ مَضَى)، أَيْ: مَاتَ (لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ)، أَيِ: الدُّنْيَوِيِّ (شَيْئًا) ، أَيْ مِنَ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا تَنَاوَلَهَا مَنْ أَدْرَكَ زَمَنَ الْفُتُوحِ، فَيَكُونُ أَجْرُهُ كَامِلًا، فَالْمُرَادُ بِالْأَجْرِ ثَمَرَتُهُ فَلَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى أَجْرِ الْآخِرَةِ. (مِنْهُمْ: مُصْعَبٌ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بْنُ عُمَيْرٍ) ، بِالتَّصْغِيرِ (قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ)، أَيِ: اسْتُشْهِدَ (فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ (إِلَّا نَمِرَةٌ)، بِفَتْحِ نُونٍ فَكَسْرِ مِيمٍ أَيْ: كِسَاءٌ غَلِيظٌ فِيهِ خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ (فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ)، أَيْ: بِهَا (خَرَجَتْ رِجْلَاهُ) ، أَيْ ظَهَرَتَا (وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ)، أَيْ: بِهَا (خَرَجَ رَأْسُهُ)، أَيِ انْكَشَفَ فَتَحَيَّرْنَا فِي أَمْرِهِ (فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ ") ، أَيْ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ (" وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ ") : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالْخَاءِ وَهُوَ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ (وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ) : بِهَمْزٍ مَفْتُوحٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ وَفَتْحِ نُونٍ أَيْ نَضِجَتْ (لَهُ ثَمَرَتُهُ) : وَأَدْرَكَتْ وَطَابَتْ وَبَلَغَتْ أَوْ أَنَّ الْجُذَاذَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ بَعْضِ الْمُرَادِ وَالْيَنْعُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ إِدْرَاكُ الثِّمَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] وَفِي النِّهَايَةِ أَيْنَعَ الثَّمَرُ يُونِعُ وَيَنْعُ يَيْنَعُ فَهُوَ مُونِعٌ وَيَانِعٌ إِذَا أَدْرَكَ وَنَضِجَ وَأَيْنَعَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا (فَهُوَ)، أَيْ: مِنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ (يَهْدِبُهَا) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِّ وَيُضَمُّ عَلَى مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ تَثْلِيثُهَا أَيْ يَجْتَنِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ الْفِقْرَةُ قَرِينَةٌ لِقَوْلِهِ: فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعَجَّلْ شَيْءٌ مِنْ ثَوَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عُجِّلَ بَعْضُ ثَوَابِهِ، وَقَوْلُهُ: يَهْدِبُهَا عَلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِمْرَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ اسْتِحْضَارًا لَهُ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ، وَفِي الْحَدِيثِ:«مَا مِنْ غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُصِيبُونَ الْغَنِيمَةَ إِلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَبْقَى لَهُمُ الثُّلُثُ» ، وَفِيهِ بَيَانُ فَضِيلَةِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَنْقُصْ لَهُ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ شَيْءٌ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُصْعَبُ قُرَشِيٌّ عَبْدَرِيٌّ مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ، هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي أَوَّلِ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُصْعَبًا بَعْدَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنْعَمِ النَّاسِ عَيْشًا وَأَلْيَنِهِمْ لِبَاسًا، فَلَمَّا أَسْلَمَ زَهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ بَايَعَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكَانَ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فِي دُورِهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيُسْلِمُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ فِيهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ أَنْ يَجْمَعَ بِهِمْ فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ السَبْعِينَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ قَلِيلًا، وَفِيهِ نَزَلَ:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ دُخُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَارَ الْأَرْقَمِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6206 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6206 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " اهْتَزَّ الْعَرْشُ ") : بِتَشْدِيدِ الزَّايِ أَيْ تَحَرَّكَ (" لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ") .
(وَفِي رِوَايَةٍ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» ) . وَالْمَعْنَى اهْتَزَّ اهْتِشَاشًا وَسُرُورًا بِتَقَلُّبِهِ مِنَ الدَّارِ الْفَانِيَةِ إِلَى الدَّارِ الْبَاقِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَرْوَاحَ السُّعَدَاءِ وَالشُّهَدَاءِ مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ هُنَاكَ، وَقِيلَ: اهْتَزَّ اسْتِعْظَامًا لِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَقِيلَ: اهْتَزَّ وَفَرِحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ بِقُدُومِ رُوحِهِ، فَأَقَامَ الْعَرْشُ مَقَامَ حَامِلِيهِ، وَقِيلَ: مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ اهْتِزَازُهُ إِعْلَامًا لِلْمَلَائِكَةِ بِوُقُوعِ أَمْرٍ عَظِيمٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَ طَائِفَةٌ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَاهْتِزَازُ الْعَرْشِ تَحَرُّكُهُ فَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِ سَعْدٍ، وَجَعَلَ اللَّهُ فِي الْعَرْشِ تَمْيِيزًا وَلَا مَانِعَ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يُنْكَرُ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَرْشَ جِسْمٌ مِنَ الْأَجْسَامِ يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ اهْتِزَازُ أَهِلِ الْعَرْشِ وَهُمْ حَمَلَتُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَالْمُرَادُ بِالِاهْتِزَازِ الِاسْتِبْشَارُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ فُلَانٌ يَهْتَزُّ لِلْمَكَارِمِ، لَا يُرِيدُونَ اضْطِرَابَ جِسْمِهِ وَحَرَكَتِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ ارْتِيَاحَهُ إِلَيْهَا وَإِقْبَالَهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ وَفَاتِهِ، وَالْعَرَبُ تَنْسُبُ الشَّيْءَ الْمُعَظَّمَ إِلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُونَ: أَظْلَمَتْ بِمَوْتِ فُلَانٍ الْأَرْضُ، وَقَامَتْ لَهُ الْقِيَامَةُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ اهْتِزَازُ سَرِيرِ الْجِنَازَةِ وَهُوَ النَّعْشُ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ تَرُدُّهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا أَوَّلُوا هَذَا التَّأْوِيلَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَشْهَلِيُّ الْأَوْسِيُّ، أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارُهُمْ أَوَّلُ دَارٍ أَسْلَمَتْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيِّدُ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا مُطَاعًا شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ، وَهُوَ مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِهِمْ وَخِيَارِهِمْ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، وَرُمِيَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي أَكْحَلِهِ، فَلَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ شَهْرٍ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ:«اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - عَنْ جَابِرٍ.
6207 -
وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: «أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُلَّةُ حَرِيرٍ فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمَسُّونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَلْيَنُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6207 -
(وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: أُهْدِيَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُلَّةُ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَمَسُّونَهَا)، أَيْ: يَلْمَسُّونَهَا وَيَمْسَحُونَهَا (وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ لِينِهَا)، أَيْ: نُعُومَتِهَا وَرِقَّتِهَا (قَالَ: " أَتَعْجَبُونَ مَنْ لِينِ هَذِهِ ") ؟ أَيِ: الْحُلَّةِ (" لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَلْيَنُ ") . أَيِ: الْمَنَادِيلُ الَّتِي يَمْسَحُ بِهَا سَعْدُ يَدَهُ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَرْفَعَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ لَا يُقَاوِمُ أَوُضَعَ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ الْمَنَادِيلُ جَمْعُ مِنْدِيلٍ، وَهُوَ هَذَا الَّذِي يُحْمَلُ فِي الْيَدِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّدْلِ وَهُوَ الْعَقْلُ، لِأَنَّهُ يُنْقَلُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النَّدْلِ وَهُوَ الْوَسَخُ لِأَنَّهُ يُنَدَّلُ بِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمَنَادِيلِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عِلْيَةِ الثِّيَابِ، بَلْ هِيَ تُبْذَلُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَرَافِقِ فَيُمْسَحُ بِهَا الْأَيْدِي، وَيُنْفَضُ بِهَا الْغُبَارُ عَنِ الْبَدَنِ، وَتُغَطَّى مَا يُهْدَى فِي الْأَطْبَاقِ، وَتُتَّخَذُ لِفَافًا لِلثِّيَابِ، فَصَارَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ الْخَادِمِ، وَسَبِيلُ سَائِرِ الثِّيَابِ سَبِيلَ الْمَخْدُومِ، فَإِذَا كَانَ أَدْنَاهَا هَكَذَا فَمَا ظَنُّكَ بِأَعْلَاهَا؟ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
6208 -
ــ
6208 -
(وَعَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ) : وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ (أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدُهْ ")، بِفَتْحَتَيْنِ وَضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: أَوْلَادَهُ (" وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ ") أَيْ: مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَالْبَرَكَةُ زِيَادَةُ النَّمَاءِ فِي إِفَادَةِ النَّعْمَاءِ (قَالَ أَنَسٌ: فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ) ، أَيْ: غَايَةُ الْكَثْرَةِ وَنِهَايَةُ الْبَرَكَةِ عَلَى وَفْقِ الْبُغْيَةِ (وَإِنَّ وَلَدِي)، أَيْ: بِلَا وَاسِطَةٍ (وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ) : بِضَمِّ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: يَزِيدُونَ فِي الْعَدَدِ (عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ) . أَيْ: فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنَ الْحَدِيثِ، رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: رُزِقْتُ مِنْ صُلْبِي سِوَى وَلَدِ
وَلَدِي مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، أَيْ: ذُكُورٌ إِلَّا بِنْتَيْنِ عَلَى مَا قِيلَ، وَإِنَّ أَرْضِي لَتُثْمِرُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: أَنَسُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ الْخَزْرَجِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو حَمْزَةَ، قَدِمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَانْتَقَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ لِيُفَقِّهَ النَّاسَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ مِائَةٌ وَثَلَاثُ سِنِينَ، وَقِيلَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ أَصَحُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ لَهُ مِائَةُ وَلَدٍ، وَقِيلَ ثَمَانُونَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ ذَكَرًا وَاثْنَتَانِ أُنْثَى، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ اهـ. فَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِظَاهِرِهِ يُخَالِفُ هَذَا النَّقْلَ، وَكَذَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى مَجْمُوعِ أَوْلَادِهِ، وَأَوْلَادِهِمْ يَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْمِائَةِ لَا أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْعِبَادِ وَالْمُرَادِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يُفَضِّلُ الْغِنَى عَلَى الْفَقْرِ، وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ قَدْ بَارَكَ فِيهِ، وَمَنْ بَارَكَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فِتْنَةٌ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبِهِ ضَرَرٌ وَلَا تَقْصِيرٌ فِي أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ أَنَّهُ إِذَا دُعِيَ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا يَنْبَغِي أَنْ يَضُمَّ إِلَى دُعَائِهِ طَلَبَ الْبَرَكَةِ فِيهِ وَالصِّيَانَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ دَفَنَ مِنْ أَوْلَادِهِ قَبْلَ مَقْدَمِ الْحَجَّاجِ مِائَةً وَعِشْرِينَ. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِأَوْلَادِهِ الْمَعْنَى الْأَعَمَّ الشَّامِلَ لِلصُّلْبِ وَغَيْرِهِ، وَإِلَّا لَذَكَرَ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ أَيْضًا إِذِ الْمَقَامُ يَقْتَضِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
6209 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ «مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6209 -
(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) : صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَحَدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 38] لِمَزِيدِ التَّعْمِيمِ وَالْإِحَاطَةِ. اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، إِذِ الْحَدِيثُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ مَا تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَتَكُونُ الْأَرْضُ دَاخِلَةً فِي مَفْهُومِ الدَّابَّةِ، فَذِكْرُهَا يُفِيدُ التَّأْكِيدَ. وَنَظِيرُهُ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُهُ بِأُذُنِي بِخِلَافِ لَفْظِ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْعُمُومِ الْقَابِلِ لِلتَّقْيِيدِ، فَقَوْلُهُ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ صِفَةٌ احْتِرَازِيَّةٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِأَحَدٍ هُوَ حَيٌّ الْآنَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ:(إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) . وَقَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ (عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) صِفَةٌ مُخَصَّصَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حِينَ التَّكَلُّمِ حَيٌّ. اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ إِلَى آخِرِ الْعَشَرَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، فَإِنَّ سَعْدًا قَالَ: مَا سَمِعْتُ، وَنَفْيُ سَمَاعِهِ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْبِشَارَةِ لِلْغَيْرِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ فَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ. اهـ. وَيُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ بِأَنَّ الْحَدِيثَ اسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم " قَالَ لِجَمَاعَةٍ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَيَبْعُدُ أَنْ لَا يَطَّلِعَ سَعْدٌ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَنْفِيَ سَمَاعَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ كَرَاهَةَ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُبَشَّرِينَ ; لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ عَاشَ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يُتَّخَذْ بَعْدَهُ مِنَ الْعَشَرَةِ غَيْرُ سَعْدٍ وَسَعِيدٍ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِحَيٍّ يَمْشِي أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. اهـ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْغُمُوضِ عَلَى حُصُولِ الْمُدَّعِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَعْدًا لَمْ يَذْكُرْ نَفْسَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَبْشِيرَهُ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا سَمِعَهُ بِنَفْسِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ صَدْرُ الْحَدِيثِ، لَكِنْ يَبْقَى الْكَلَامُ فِي وُجُودِ سَعِيدٍ حَيًّا، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِهِ أَيْضًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ (يَمْشِي) أَنَّهُ وَقَعَ بِشَارَتُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ حِينَ كَانَ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسِيرُ بِخِلَافِ بِشَارَاتِ غَيْرِهِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
6210 -
ــ
6210 -
(وَعَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ) : بِضَمِّ عَيْنٍ وَتَخْفِيفِ مُوَحَّدَةٍ بَصْرِيٌّ مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ تَابِعِي الْبَصْرَةِ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ الْخُشُوعِ) :
أَيِ السُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَالْحُضُورِ (فَقَالُوا)، أَيْ: بَعْضُ الْحَاضِرِينَ (هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرَهَا (تَجَوَّزَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيِ: اخْتَصَرَ (فِيهِمَا) ، عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَخَفَّفَهُمَا، فَفِي النِّهَايَةِ: فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي أَيْ: أُخَفِّفُهَا وَأُقَلِّلُهَا. (ثُمَّ خَرَجَ وَتَبِعْتُهُ، فَقُلْتُ)، أَيْ: لَهُ (إِنَّكَ حِينَ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ قَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ: " وَاللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا إِنْكَارٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَطَعُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَلَغَهُمْ خَبَرُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ سَلَامٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَسْمَعْ هُوَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلْ أَنَّهُ كَرِهَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ تَوَاضُعًا وَإِيثَارًا لِلْخُمُولِ وَكَرَاهَةً لِلشُّهْرَةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (فَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ) ؟ وَهُوَ بِلَا لَامٍ إِلَى إِنْكَارِهِ إِيَّاهُمْ يَعْنِي أَنِّي أُحَدِّثُكَ سَبَبَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ، وَهُوَ هَذَا (إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا) : إِلَخْ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى النَّصِّ بِقَطْعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنِّي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا نَصَّ عَلَى غَيْرِي، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِمْ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْنِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِمَّنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَحِبَهُ أَنْ يَقُولَ بِمَا لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: وَأَنَا أَيْضًا أَقُولُ: رَأَيْتُ رُؤْيَا (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: فِي زَمَانِهِ (فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ) : بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ (كَأَنِّي فِي رَوْضَةٍ، ذَكَرَ)، أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ (مِنْ سَعَتِهَا) : بِفَتْحِ أَوَّلَيْهَا (وَخُضْرَتِهَا، وَسَطَهَا) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ " ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرًا مُقَدَّمًا لِمُبْتَدَأٍ مُؤَخَّرٍ هُوَ قَوْلُهُ: (عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَسْفَلُهُ) ، أَيْ: أَسْفَلَ الْعَمُودِ (فِي الْأَرْضِ، وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ) : وَالْجُمْلَتَانِ صِفَتَانِ لِعَمُودٍ (فِي أَعْلَاهُ) ، أَيِ: الْعَمُودِ (عُرْوَةٌ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: حَلْقَةٌ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْعُرْوَةُ مِنَ الدَّلْوِ وَالْكُوزِ الْمَقْبَضُ فَاسْتُعِيرَتْ لِمَا يُوَثَّقُ وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ (فَقِيلَ لِي: ارْقَهْ) ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْهَاءِ لِلسَّكْتِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ ضَمِيرٌ، فَفِي الْقَامُوسِ: رَقِيَ كَرَضِيَ وَصَعِدَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ رَقِيَ يَرْقَى إِذَا صَعِدَ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْعَمُودِ (فَقُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُ) ، أَيِ: الرُّقِيَّ وَالصُّعُودَ (فَأَتَانِي مِنْصَفٌ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الصَّادِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَعَلَيْهِ النُّسَخُ الْمُعْتَمَدَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ الْخَادِمُ مِنْ نَصَفَ نِصَافَةً إِذَا خَدَمَ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا: هُوَ الْوَصِيفُ الصَّغِيرُ الْمُدْرِكُ لِلْخِدْمَةِ (فَرَفَعَ) ، أَيِ: الْمُصَنِّفُ (ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي، فَرَقِيتُ) : بِكَسْرِ الْقَافِ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَحُكِيَ بِفَتْحِهَا. أَقُولُ: وَفِيهِ نَظَرٌ إِذْ رَقَى يَرْقِي كَرَمَى يَرْمِي مِنَ الرُّقْيَةِ، وَلَا مَعْنَى لَهَا هَا هُنَا بَلِ الْمُرَادُ فَصَعِدْتُ (حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَاهُ) أَيْ: أَعْلَى الْعَمُودِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِي أَعْلَاهَا أَيْ: أَعْلَى الْعُرْوَةِ (فَأَخَذْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ أَخَذْتُ (بِالْعُرْوَةِ، فَقِيلَ) ، أَيْ: لِيَ (اسْتَمْسِكْ) ، أَيْ: بَالِغْ فِي الْمَسْكِ بِمَعْنَى الْأَخْذِ (فَاسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي) ، أَيْ: أَنَّ الِاسْتِيقَاظَ كَانَ حَالَ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ، فَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا بَقِيَتْ فِي يَدِهِ حَالَ يَقَظَتِهِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا امْتَنَعَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ يَظْهَرُ خِلَافُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ أَثَرَهَا بَقِيَ فِي يَدِي بَعْدَ الِاسْتِيقَاظِ كَأَنْ يُصْبِحَ فَيَرَى يَدَهُ مَقْبُوضَةً، (فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " تِلْكَ الرَّوْضَةُ الْإِسْلَامُ، وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ ") ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ (" الْوُثْقَى ") ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوُثْقَى مِنَ الْحَبْلِ الْوَثِيقُ الْمُحْكَمُ الْمَأْمُونُ انْقِطَاعُهَا (" فَأَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تَمُوتَ ") . اهـ. كَلَامُهُ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ قَيْسُ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) . وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ بِأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6211 -
ــ
6211 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ (خَطِيبَ الْأَنْصَارِ)، أَيْ فَصِيحَهُمْ أَيْ: فِي النَّثْرِ كَمَا يُقَالُ: الشَّاعِرُ فِي النَّظْمِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ خَزْرَجِيٌّ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ خَطِيبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَطِيبَ الْأَنْصَارِ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ سَنَةَ اثْنَتِيْ عَشْرَةَ، وَرَوَى عَنْهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ. (فَلَمَّا نَزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) . وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2](جَلَسَ ثَابِتٌ فِي بَيْتِهِ وَاحْتَبَسَ)، أَيْ: نَفْسَهُ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ) : اسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ، وَأُجِيبَ: بِأَنَّ مَا نَزَلَ فِي قِصَّةِ ثَابِتٍ مُجَرَّدُ رَفْعِ الصَّوْتِ لَا أَوَّلُ السُّورَةِ، وَهُوَ:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ} [الحجرات: 1](قَالَ)، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ حَيْثُ كَانَ رَئِيسَهُمْ (" مَا شَأْنُ ثَابِتٍ ")، أَيْ: حَيْثُ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ مَعَنَا (" أَيَشْتَكِي ") أَيْ: مَرَضًا أَوْ وَجَعًا، فَكَأَنَّهُ تَحَيَّرَ فِي الْجَوَابِ وَلَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الصَّوَابِ (فَأَتَاهُ)، أَيْ: ثَابِتًا (سَعْدٌ فَذَكَرَ)، أَيْ: سَعْدٌ (لَهُ)، أَيْ: لِثَابِتٍ (قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: فِي تَفَقُّدِهِ (فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) أَيِ: الْمُتَقَدِّمَةُ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: بِحَسْبِ الْجِبِلَّةِ (فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَفْعُ الصَّوْتِ يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا يَقْتَضِي قِلَّةَ الْأَدَبِ (فَذَكَرَ ذَلِكَ)، أَيْ: تَعْلِيلَ ثَابِتٍ (سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ") . أَيْ: حَيْثُ بَالَغَ فِي الْأَدَبِ، حَتَّى لَمْ يَجُوزْ رَفْعُ الصَّوْتِ الْجِبِلِيِّ أَيْضًا، وَوَقَعَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ أَنَّهُ قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ شَهِيدًا، وَقَدْ نَقَلَ الْكَوْرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ قِتَالِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ تَحَنَّطَ وَلَبِسَ الْكَفَنَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فِي كَفَنِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَالنَّسَائِيُّ.
6212 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] . قَالُوا: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ ثُمَّ قَالَ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6212 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا)، أَيْ: جَالِسِينَ (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْمِيمِ وَيُسَكَّنُ (فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ آخَرِينَ عَطْفًا عَلَى الْأُمِّيِّينَ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى بَعَثَهُ فِي الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ عَلَى عَهْدِهِ، وَفِي آخَرِينَ مِنَ الْأُمِّيِّينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ بَعْدُ وَسَيَلْحَقُونَ بِهِمْ، وَهُمْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم (قَالُوا: مَنْ هَؤُلَاءِ)، أَيْ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ)، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ) ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ (قَالَ)، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ)، أَيْ: عَلَى كَتِفِهِ ثُمَّ قَالَ: (" لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ: جَمَعَ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ سَلْمَانُ وَحْدَهُ إِرَادَةً لِلْجِنْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْعَجَمُ كُلُّهُمْ لِوُقُوعِهِ مُقَابِلًا لِلْأُمِّيِّينَ، وَهُمُ الْعَرَبُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ أَهْلُ فَارِسَ. " وَلَوْ " هَا هُنَا بِمَعْنَى " إِنْ " لِمُجَرَّدِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ يَكُنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ فَارِسَ مِنْ رَامَهُرْمُزَ، وَيُقَالُ بِهَا كَانَ أَصْلُهُ مِنْ أَصْفَهَانَ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: حَيٌّ. سَافَرَ يَطْلُبُ الدِّينَ فَدَانَ أَوَّلًا بِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ وَصَبَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَشَقَّاتٍ مُتَتَالِيَةٍ، فَأَخْذَهُ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ فَبَاعُوهُ مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ إِنَّهُ كُوتِبَ فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي.
كِتَابَتِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ تَدَاوَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ سَيِّدًا، حَتَّى أَفْضَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَسْلَمَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ:«سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ اشْتَاقَتْ إِلَيْهِمُ الْجَنَّةُ، وَكَانَ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ قِيلَ: عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِعَطَائِهِ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ وَفَضَائِلُهُ غَزِيرَةٌ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَدَحَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَمَاتَ بِالْمَدَائِنِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، رَوَى عَنْهُ أَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَفِي الْجَامِعِ «لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَلَفْظُهُ «لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ» .
6213 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمَا الْمُؤْمِنِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
6213 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ حِبِّبْ عُبَيْدَكَ ") : بِالتَّصْغِيرِ لِلشَّفَقَةِ (" هَذَا ")، أَيِ: الْمُشَارَ إِلَيْهِ (يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ) : تَفْسِيرٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مُدْرَجٌ فِيهِ مُعْتَرِضَةٌ (" وَأُمَّهُ ") : عَطْفٌ عَلَى عُبَيْدِكَ (" إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ ") : مُتَعَلِّقٌ بِحِبِّبْ (" وَحِبِّبْ إِلَيْهِمْ ") : وَفِي نُسْخَةٍ إِلَيْهِمَا (" الْمُؤْمِنِينَ ") . قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مِنَ الْمِشْكَاةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِأَصْلِ السَّمَاعِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَكْثَرُ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ مِنْهُ، وَتَوْجِيهُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَهْلِهِمَا وَأَوْلَادِهِمَا وَالْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِمَا لِيَكُونَ أَشْمَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ نُزِّلَا مَنْزِلَةَ الْجَمَاعَةِ تَعْظِيمًا لَهُمَا كَمَا يُنَزَّلُ الْوَاحِدُ أَيْضًا مَنْزِلَةَ جَمْعٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
6214 -
ــ
6214 -
(وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو: بِالْوَاوِ وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْعَوْذِ بِمَعْنَى اللَّوْذِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَدَنِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَحَدِيثُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ)، أَيِ: ابْنَ حَرْبٍ (أَتَى)، أَيْ: مَرَّ (عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ)، أَيْ: وَعَلَى بِلَالٍ مَعَ جَمْعٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْإِتْيَانُ كَانَ لِأَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ كَافِرٌ فِي الْهُدْنَةِ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ (فَقَالُوا)، أَيْ: سَلْمَانُ وَأَصْحَابُهُ (مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ) : يَعْنُونَ أَبَا سُفْيَانَ (مَأْخَذَهَا)، بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: حَقَّهَا وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَهِيَ أَصْلُ السَّيِّدِ مَآخِذَهَا بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَكَسْرِ خَاءٍ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ رُوعِيَ فِيهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ لِسُيُوفٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَا " نَافِيَةٌ، وَأَمَّا مَأْخَذُهَا فَقِيلَ مَفْعُولٌ بِهِ، وَقِيلَ مَفْعُولٌ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَالْكَلَامُ إِخْبَارٌ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِاسْتِبْطَاءِ يَعْنِي: لَمْ تَسْتَوْفِ السُّيُوفُ حَقَّهَا مِنْ حَقِّهِ، وَاسْتَعَارَ الْأَخْذَ لِلسَّيْفِ تَشْبِيهًا لَهُ. بِمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ يَلْزَمُهُ وَيُطَالِبُهُ، وَالْغَرِيمُ يَمْتَنِعُ عَنْ إِيفَاءِ حَقِّهِ وَيُمَاطِلُهُ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ)، أَيْ: لَهُمْ (أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ)، أَيْ: لِكَبِيرِهِمْ (وَسَيِّدِهِمْ) ؟ أَيْ: رَئِيسِهِمْ (فَأَتَى)، أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ)، أَيْ: بِخَبَرِهِمْ وَخَبَرِهِ (قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ ")، لَعَلَّ هَا هُنَا لِلْإِشْفَاقِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الشعراء: 3] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَعَلِّي " لَا أَعِيشُ بَعْدَ عَامِي هَذَا ". (" لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ ") : حَيْثُ إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُحِبُّونَ مَحْبُوبُونَ لِلَّهِ تَعَالَى: (" لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ ") . أَيْ: حَيْثُ رَاعَيْتَ جَانِبَ الْكَافِرِ بِرَبِّهِ (فَأَتَاهُمْ)، أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (قَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ) : بِالْهَاءِ السَّاكِنَةِ (أَغْضَبْتَكُمْ) . أَيْ؟ فَاعْفُوَا عَنِّي، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَأَغْضَبْتُكُمْ؟ (قَالُوا: لَا)، أَيْ: لَا حَرَجَ عَلَيْكَ أَوْ لَا غَضَبَ لَنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكَ (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ) : جُمْلَةٌ دِعَائِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجِبُ أَنْ يُوقَفَ عَلَى " لَا " وَلَوْ زَادُوا كَمَا فِي جَوَابِ الزَّيْدِيِّ عَنْ سُؤَالِ الْمَأْمُونِ: لَا وَجَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ لِحُسْنِ مَوْقِعِهِ، وَقَوْلُهُ (يَا أَخِي) : الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: يَا أَخَانَا، وَلَعَلَّهُ حِكَايَةُ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى التَّصْغِيرِ وَهُوَ تَصْغِيرُ تَحْبِيبٍ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا. اهـ.
وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالتَّصْغِيرِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِهَا، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِي يَا بُنَيَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، هَذَا وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ التَّمِيمِيِّ، يُكَنَّى أَبَا يَحْيَى، كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ فِيمَا بَيْنَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، فَأَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَسَبَتْهُ وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ، فَنَشَأَ بِالرُّومِ، فَابْتَاعَهُ مِنْهُمْ كَلْبٌ، ثُمَّ قَدِمَتْ بِهِ مَكَّةَ فَاشْتَرَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ فَأَعْتَقَهُ فَأَقَامَ مَعَهُ إِلَى أَنْ هَلَكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا كَبِرَ فِي الرُّومِ وَعَقَلَ هَرَبَ مِنْهُمْ وَقَدِمَ مَكَّةَ، فَحَالَفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ، وَأَسْلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِدَارِ الْأَرْقَمِ بَعْدَ بِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ نَزَلَ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207] رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَأَمَّا أَبُو سُفْيَانَ فَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي مَنْقَبَتِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
6215 -
وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6215 -
(وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " آيَةُ الْإِيمَانِ ")، أَيْ: عَلَامَةُ كَمَالِهِ (" حُبُّ الْأَنْصَارِ ")، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَادُ حُبُّ جَمِيعِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِلدِّينِ، فَمَنْ أَبْغَضَ بَعْضَهُمْ لِمَعْنًى يَسَوِّغُ الْبُغْضُ بِهِ فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ وَهُوَ تَقْرِيرٌ حَسَنٌ (" وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ ") . وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ وَإِشْعَارًا بِالْعِلَّةِ فِي حُبِّهِمْ وَبُغْضِهِمْ، وَهُوَ جَمْعُ نَاصِرٍ أَوْ نَصِيرٍ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ أَنْصَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا يُعْرَفُونَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِأَبْنَاءِ قَيْلَةَ وَهِيَ الْأُمُّ الَّتِي تَجْمَعُ الْقَبِيلَتَيْنِ، فَسَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ، فَصَارَ عَلَمًا لَهُمْ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِمَدْحِهِمْ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَمَوَالِيهِمْ، وَإِنَّمَا فَازُوا بِهَذِهِ الْمَنْقَبَةِ لِأَجْلِ إِيوَائِهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَنَصْرَتِهِ حَيْثُ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، وَجَعَلُوهُ مُسْتَقَرًّا وَمُتَوَطَّنًا لَهُمْ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ وَاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، كَمَا جَعَلُوا الْمَدِينَةَ كَذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِمُعَادَاةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْحَسَدِ وَهُوَ يَجُرُّ إِلَى الْبُغْضِ، فَلِذَا جَاءَ التَّرْهِيبُ عَنْ بُغْضِهِمْ وَالتَّرْغِيبُ فِي حُبِّهِمْ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ إِيمَانِهِ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَذَلِكَ مِنْ عَلَامَةِ نِفَاقِهِ وَنُقْصَانِ إِيقَانِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ - عَنْهُ لَكِنَّ لَفْظَهُ:«حُبُّ الْأَنْصَارِ آيَةُ الْإِيمَانِ وَبُغْضُ الْأَنْصَارِ آيَةُ النِّفَاقِ» .
6216 -
وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يَبْغَضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6216 -
(وَعَنِ الْبَرَاءِ) أَيِ: ابْنِ عَازِبٍ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ ") أَيْ: كَامِلٌ (" وَلَا يَبْغَضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ ") أَيْ حَقِيقِيٌّ أَوْ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ الْفَاسِقُ الشَّبِيهُ بِالْمُنَافِقِ (" فَمَنْ أَحَبَّهُمْ ")، أَيْ: لِلَّهِ (" أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ ")، أَيْ: بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِمْ (" أَبْغَضَهُ اللَّهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6217 -
ــ
6217 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّ نَاسًا) أَيْ: جَمْعًا (مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) أَيْ: أَعْطَاهُ (فَيْئًا)، أَيْ: غَنِيمَةً (مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ) : وَهِيَ قَبِيلَةٌ شَهِيرَةٌ (مَا أَفَاءَ)، أَيْ: شَيْئًا أَفَاءَهُ عَلَيْهِ (فَطَفِقَ)، أَيْ: فَأَخَذَ وَشَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ) : حِينَ مَرْجِعِهِ مِنَ الطَّائِفِ (يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ) وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ أَبُو سُفْيَانَ وَالِدُ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ إِعْطَاؤُهُ تَأَلُّفًا لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَلِذَا كَانَ يُعْطِي الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَقَلَّ مِنَ الْمِائَةِ (فَقَالُوا)، أَيْ: نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُرَاعِي بَعْضَ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ (يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا)، أَيْ: شَيْئًا كَثِيرًا (وَيَدَعُنَا)، أَيْ: يَتْرُكُنَا فِي إِعْطَاءِ الْكَثِيرِ (وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ) : بِضَمِّ الطَّاءِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ سُيُوفَنَا نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ تَنْقِطُ (مِنْ دِمَائِهِمْ) أَيْ: مِنْ دِمَاءِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِمُحَارَبَتِنَا إِيَّاهُمْ.
حَتَّى يُسْلِمُوا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُمْ يَغْفِرُ اللَّهُ تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْعِتَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وَقَوْلُهُمْ: وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: عَرَضَتِ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ. اهـ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَسُيُوفُنَا بِاعْتِبَارِ مَا عَلَيْهَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَهُوَ إِشْعَارٌ بِقُرْبِ قَتْلِهِمْ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَوْلَى بِزِيَادَةِ الْبِرِّ، فَالْجُمْلَةُ حَالٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ الْإِشْكَالِ (فَحُدِّثَ) : بِضَمِّ حَاءٍ وَتَشْدِيدِ دَالٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ: فَأُوحِيَ (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَقَالَتِهِمْ) أَيْ: بِقَوْلِ ذَلِكَ الْبَعْضِ مِنَ الْأَنْصَارِ (فَأَرْسَلَ)، أَيِ: الرَّسُولُ رَسُولًا (إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ)، أَيِ: الرَّسُولُ أَوْ أَمَرَ بِجَمْعِهِمْ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ)، أَيْ: خَيْمَةٍ (مَنْ أَدَمٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: جِلْدٍ (وَلَمْ يَدْعُ) : بِسُكُونِ الدَّالِ وَضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: لَمْ يَطْلُبْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ أَيْ: لَمْ يَتْرُكْ مَعَهُمْ (أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " مَا حَدِيثٌ ")، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ خَبَرٌ عَظِيمٌ؟ (" بَلَغَنِي عَنْكُمْ " فَقَالَ فُقَهَاؤُهُمْ)، أَيْ: عُلَمَاؤُهُمْ أَوْ عُقَلَاؤُهُمْ (أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا)، أَيْ: أَصْحَابُ عُقُولِنَا وَفُهُومِنَا (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا)، أَيْ: مِنْ هَذَا الْبَابِ (وَأَمَّا أُنَاسٌ) : بِضَمِّ الْهَمْزِ لُغَةٌ فِي نَاسٍ أَيْ: جَمَاعَةٌ (مِنَّا حَدِيثَةٌ)، أَيْ: جَدِيدَةٌ (أَسْنَانُهُمْ) : جَمْعُ السِّنِّ بِمَعْنَى الْعُمْرِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمُ الشُّبَّانُ (قَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَدَعُ الْأَنْصَارَ) ، أَيْ: يَتْرُكُهُمْ (وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي أُعْطِي ")، أَيْ: مِنْ هَذَا الْمَالِ (" رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ ")، أَيْ: أَطْلُبُ أُلْفَتَهُمْ بِالْإِسْلَامِ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ لَا لِكَوْنِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ لِغَرَضٍ آخَرَ مِنَ الْأَحْوَالِ (" أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ ")، أَيْ: غَيْرُكُمْ مِنَ الْمُتَأَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ (" بِالْأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ ") بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: مَنَازِلِكُمْ فِي الْمَدِينَةِ (" بِرَسُولِ اللَّهِ ") وَفِي نُسْخَةٍ صلى الله عليه وسلم (قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا) . فِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَا فُهِمَ مِنْ بَلَى، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الذَّوْقِ وَالْحَالِ:
رَضِينَا قِسْمَةَ الْجَبَّارِ فِينَا
…
لَنَا عِلْمٌ وَلِلْأَعْدَاءِ مَالُ
فَإِنَّ الْمَالَ يَفْنَى عَنْ قَرِيبٍ
…
وَإِنَّ الْعِلْمَ يَبْقَى لَا يَزَالُ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6218 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6218 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ» ") فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِانْتِقَالَ عَلَى النَّسَبِ الْوِلَادِيِّ، لِأَنَّهُ حَرَامٌ مَعَ أَنَّ نَسَبَهُ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ الْأَنْسَابِ وَأَكْرَمُهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النَّسَبَ الْبِلَادِيَّ، وَمَعْنَاهُ لَوْلَا الْهِجْرَةُ مِنَ الدِّينِ وَنِسْبَتُهَا دِينِيَّةٌ لَا يَسَعُنِي تَرْكُهَا لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ كَنْتُ مَأْمُورًا بِهَا لَانْتَسَبْتُ إِلَى دَارِكُمْ، وَلَانْتَقَلْتُ عَنْ هَذَا الِاسْمِ إِلَيْكُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْكَلَامِ إِكْرَامَ الْأَنْصَارِ، وَالتَّعْرِيضَ بِأَنْ لَا رُتْبَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْلَى مِنَ النُّصْرَةِ، وَبَيَانُ أَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنَ الْكَرَامَةِ مَبْلَغًا لَوْلَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَعَدَّ نَفْسَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ لِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَلْخِيصُهُ: لَوْلَا فَضْلِي عَلَى الْأَنْصَارِ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ لَكُنْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَهَذَا تَوَاضُعٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَحَثٌّ لِلنَّاسِ عَلَى إِكْرَامِهِمْ وَاحْتِرَامِهِمْ، لَكِنْ لَا يَبْلُغُونَ دَرَجَةَ الْمُهَاجِرِينَ السَّابِقِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقُطِّعُوا عَنْ أَقَارِبِهِمْ وَأَحَبَابِهِمْ، وَحُرِمُوا أَوْطَانَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ - وَهُمْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَا نَالُوا ذَلِكَ بِآلَةٍ - لِأَجْلِ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِعْلَاءً لِدِينِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْأَنْصَارُ وَإِنِ اتَّصَفُوا بِصِفَةِ النُّصْرَةِ وَالْإِيثَارِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِيوَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ مُقِيمُونَ فِي مَوَاطِنِهِمْ سَاكِنُونَ مَعَ أَقَارِبِهِمْ وَأَحْبَابِهِمْ، وَحَسْبُكَ شَاهِدًا فِي فَضْلِ الْمُهَاجِرِينَ قَوْلُهُ هَذَا، لِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى جَلَالَةِ رُتْبَةِ الْهِجْرَةِ فَلَا يَتْرُكُهَا نَبِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ لِأَنْصَارِيٍّ (" وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا ")، أَيْ: طَرِيقًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا (" وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ وَادِيًا ")، أَيْ: سَبِيلًا آخَرَ (" أَوْ شِعْبًا ") : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي إِذْ مَآلُهُمَا وَاحِدٌ (" لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَهَا ") : أَيْ فِي شِعْبِ جَمَاعَةِ الْأَنْصَارِ، وَتَرَكْتُ سُلُوكَ وَادِي سَائِرِ النَّاسِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ أَنَّ أَرْضَ الْحِجَازِ كَثِيرَةُ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، فَإِذَا ضَاقَ الطَّرِيقُ عَنِ الْجَمِيعِ فَسَلَكَ رَئِيسٌ شِعْبًا اتَّبَعَهُ قَوْمُهُ حَتَّى يُفْضُوا إِلَى الْجَادَّةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَادِيَ الرَّأْيَ وَالْمَذْهَبَ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي وَادٍ وَأَنَا فِي وَادٍ، قِيلَ: أَرَادَ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ حُسْنَ مُوَافَقَتِهِ إِيَّاهُمْ وَتَرْجِيحَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ، لَمَّا شَاهَدَ مِنْهُمْ حُسْنَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَحُسْنَ الْجِوَارِ، وَمَا أَرَادَ بِذَلِكَ وُجُوبَ مُتَابَعَتِهِ إِيَّاهُمْ فَإِنَّ مُتَابَعَتَهُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمَتْبُوعُ الْمُطَاعُ لَا التَّابِعُ الْمُطِيعُ (" الْأَنْصَارُ شِعَارٌ ") : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَيُفْتَحُ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي شَعْرَ الْبَدَنِ (وَالنَّاسُ دِثَارٌ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي فَوْقَ الشِّعَارِ، شَبَّهَ الْأَنْصَارَ بِالشِّعَارِ لِرُسُوخِ صَدَاقَتِهِمْ وَخُلُوصِ مَوَدَّتِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيَّ مَرْتَبَةً وَأُولَاهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً (" إِنَّكُمْ ") : الْتِفَاتٌ إِلَيْهِمْ مُتَضَمِّنٌ لِلتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ (" سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً ") : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيِ: اسْتِئْثَارًا يَسْتَأْثِرُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاؤُكُمْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَغَانِمِ وَالْفَيْءِ وَنَحْوِهِمَا، وَيُفَضِّلُ عَلَيْكُمْ غَيْرَهُ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ هُوَ أَدْنَاكُمْ (" فَاصْبِرُوا ")، أَيْ: عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِئْثَارِ (" حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ")، أَيْ: حِينَئِذٍ يَحْصُلُ جَرُّ خَاطِرِكُمُ الْمُتَعَطِّشِ إِلَى لِقَائِي يَسْقِيكُمْ شَرْبَةً لَا تَظْمَأُونَ بَعْدَهَا أَبَدًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
6219 -
ــ
6219 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ)، أَيْ: فَتْحِ مَكَّةَ (فَقَالَ: " مَنْ دَخَلَ دَارِ أَبِي سُفْاَانَ فَهُوَ آمِنٌ ")، أَيْ: ذُو أَمْنٍ وَالْأَمْنُ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَقِيلَ، أَيْ: مَأْمُونٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، قَالَ الْعَبَّاسُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا. قَالَ: " نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارِ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ". قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ الْأُمَوِيُّ الْقُرَشِيُّ وَالِدُ مُعَاوِيَةَ، وُلِدَ قَبْلَ الْفِيلِ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ انْتَهَى إِلَيْهِ رَايَةُ الرُّؤَسَاءِ فِي قُرَيْشٍ، أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فِيمَنْ أَعْطَاهُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَفُقِئَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ الطَّائِفِ، فَلَمْ يَزَلْ أَعْوَرَ إِلَى يَوْمِ الْيَرْمُوكِ فَأَصَابَ عَيْنَهُ الْأُخْرَى حَجَرٌ فَعَمِيَتْ، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ بِالْمَدِينَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ. (" وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ ")، أَيْ: آلَةُ الْحَرْبِ (" فَهُوَ آمِنٌ " فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ)، أَيْ: بَعْضُهُمْ (" أَمَّا الرَّجُلُ)، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ)، أَيْ: شِدَّةُ رَحْمَةٍ (بِعَشِيرَتِهِ)، أَيْ: قَبِيلَتِهِ (وَرَغْبَةٌ)، أَيْ: مَحَبَّةٌ (فِي قَرْيَتِهِ)، أَيْ: فِي أَهْلِ بَلْدَتِهِ، أَوْ بِالسُّكُونِ فِي قَرْيَتِهِ (وَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) . أَيْ: بِمَا قَالُوا: (قَالَ: " قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ أَخَذَتْهُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " فَقْدًا أَخَذَتْهُ (" رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، كَلَّا ") : رَدْعٌ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمْتُمْ مِنْ إِقَامَتِي بِمَكَّةَ، لِأَنَّ هِجْرَتِي إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَالِصَةً لِلَّهِ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ:(" إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)، أَيْ: كَوْنِي عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا أَعُودَ إِلَى دَارٍ تَرَكْتُهَا لِلَّهِ، وَأَنْ لَا أَرْغَبَ فِي بَلْدَةٍ هَاجَرْتُ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ (" هَاجَرْتُ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ)، أَيْ: إِلَى ثَوَابِهِ أَوْ مَأْمُورِهِ (" وَإِلَيْكُمْ ")، أَيْ: وَإِلَى دِيَارِكُمْ لِمَيْلِكُمْ إِلَيَّ وَإِلَى الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْكُمْ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9] وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْهِجْرَةِ كَانَ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ التَّهَاجُرَ كَانَ مِنْ دَارِ قَوْمِي إِلَى دَارِكُمْ (" الْمَحْيَا ")، أَيْ: مَحْيَايَ (" مَحْيَاكُمْ. وَالْمَمَاتُ ")، أَيْ: مَمَاتِي (" مَمَاتُكُمْ ") . وَالْمَعْنَى مَا حَيِيتُ أَحْيَ فِي بِلَادِكُمْ كَمَا تَحْيُونَ فِيهِ، وَإِذَا تُوُفِّيْتُ تُوُفِّيْتُ فِي بِلَادِكُمْ كَمَا تُتَوَفَّوْنَ لَا أُفَارِقُكُمْ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا. (قَالُوا)، أَيِ: الْأَنْصَارُ (وَاللَّهِ مَا قُلْنَا)، أَيْ: مَا قُلْنَاهُ (إِلَّا ضِنًّا) : بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: شُحًّا وَبُخْلًا (بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) . أَيْ: مِنْ شَرَفِ الْجِوَارِ وَالصُّحْبَةِ، وَاسْمُ اللَّهِ لِلتَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُونَ مَا قُلْنَا ذَلِكَ إِلَّا ضِنَّةً بِمَا آتَانَا اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَفُوتَنَا فَيَنَالَهُ غَيْرُنَا، وَشُحًّا بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ بَلْدَتِنَا إِلَى بَلْدَتِهِ. انْتَهَى.
وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُمْ عَنَوْا أَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْأَقَارِبِ وَالْأَوْطَانِ، فَخَشِينَا أَنْ تَمِيلَ عَنَّا إِلَيْهِمْ، فَحَرَّكْنَاكَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَجَرَّبْنَاكَ لِيَتَبَيَّنَ لَنَا الْمَرَامُ، فَلَا يُرَدُّ. كَيْفَ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] عَلَى مَا أَوْرَدَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله. (قَالَ: " فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ ")، أَيْ: فِي إِخْبَارِكُمْ عَنْ أَخْبَارِكُمْ (وَيَعْذِرَانِكُمْ) . بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُضَمُّ أَيْ يَقْبَلَانِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنِ اعْتِذَارِكُمْ فِيمَا قُلْتُمْ مِنْ دَعْوَى الضِّنَةِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْبُخْلِ بِالْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَعَدَمِ الرِّضَا بِمُفَارَقَتِهِمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
6220 -
وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صِبْيَانًا وَنِسَاءً مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ يَعْنِي الْأَنْصَارَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6220 -
(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صِبْيَانًا وَنِسَاءً مُقْبِلِينَ)، أَيْ: رَاجِعِينَ (مِنْ عُرْسٍ) وَهُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ مَا فِي الْقَامُوسِ الْعُرْسُ الْإِقَامَةُ فِي الْفَرَحِ وَيُضَمُّ وَبِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، وَالْوَلِيمَةُ طَعَامُ الْعُرْسِ، أَوْ كُلُّ طَعَامٍ صُنِعَ لِدَعْوَةٍ وَغَيْرِهَا. (فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: عَنْ طَرِيقِهِمْ أَوْ إِلَى لَقْيِهِمْ (فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَنْتُمْ ") : فِيهِ الْتِفَاتٌ، وَالتَّقْدِيرُ اللَّهُمَّ أَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقِي فِيمَا أَقُولُ فِي حَقِّ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ:(" أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ ") : كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، وَفِي الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ وَتَغْلِيبٌ لِلصِّبْيَانِ عَلَى النِّسَاءِ أَوْ لِلْغَائِبِينَ عَلَى الْحَاضِرِينَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الرَّاوِي (يَعْنِي: الْأَنْصَارَ) ، أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ طَائِفَةُ الْأَنْصَارِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6221 -
وَعَنْهُ قَالَ «مَرَّ أَبُو بَكْرٍ وَالْعَبَّاسُ بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ وَهُمْ يَبْكُونَ فَقَالَا مَا يُبْكِيكُمْ فَقَالُوا ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَّا فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَصَّبَ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَلَمْ يَصْعَدْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي.
وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6221 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: مَرَّ أَبُو بَكْرٍ)، أَيِ: الصِّدِّيقُ (وَالنَّاسُ بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ وَهُمْ)، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ (يَبْكُونَ)، أَيْ: فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمْ؟ قَالُوا: ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) : يَعْنُونَ نَخَافُ فَوْتَهُ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ مَوْتَهُ (فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا) : رُوِيَ أَنَّهُ الْعَبَّاسُ (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ)، أَيْ: بِمَا ذُكِرَ مِنْ بُكَائِهِمْ وَسَبَبِ عَنَائِهِمْ (فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَصَّبَ) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ أَيْ: رَبَطَ وَشَدَّ (عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ) أَيْ: عَلَى هَيْئَةِ عِصَابَةٍ لِدَفْعِ وَجَعِ رَأْسِهِ مِنَ الشِّدَّةِ (فَصَعِدَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: طَلَعَ (الْمِنْبَرَ وَلَمْ يَصْعَدْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَحَمِدَ اللَّهَ)، أَيْ: شَكَرَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ. (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) . أَيْ: بِالْوَجْهِ الْأَتَمِّ (ثُمَّ قَالَ: " أُوصِيكُمْ ")، أَيْ: أَيُّهَا النَّاسُ أَوِ الْمُهَاجِرُونَ (" بِالْأَنْصَارِ)، أَيْ: بِرِعَايَتِهِمْ وَحِمَايَتِهِمْ (" فَإِنَّهُمْ كَرِشِي ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: بِطَانَتِي (" وَعَيْبَتِي ") . بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ
وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ: وَخَاصَّتِي. كَذَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْكَرِشُ بِالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ لِكُلِّ مُجْتَرٍّ بِمَنْزِلَةِ الْمَعِدَةِ لِلْإِنْسَانِ مُؤَنَّثَةٌ، وَعِيَالُ الرَّجُلِ وَصِغَارُ وَلَدِهِ وَالْجَمَاعَةُ. وَفِي النِّهَايَةِ: أَرَادَ أَنَّهُمْ بِطَانَتُهُ وَمَوْضِعُ سِرِّهِ وَأَمَانَتِهِ، أَوْ أَرَادَ الْجَمَاعَةَ أَيْ: جَمَاعَتِي وَأَصْحَابِي، وَفِي الْمِصْبَاحِ أَيْ: أَنَّهُمْ فِي الْمَحَبَّةِ وَالرَّأْفَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى مَحَبَّةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْكَرِشُ لِكُلِّ مُجْتَرٍّ بِمَنْزِلَةِ الْمَعِدَةِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الْكَرِشَ فِي كَلَامِهِمْ مَوْضِعَ الْبَطْنِ، وَالْبَطْنُ مُسْتَوْدَعُ مَكْتُومِ السِّرِّ، وَالْعَيْبَةُ مُسْتَوْدَعُ مَكْنُونِ الْمَتَاعِ، وَالْأَوَّلُ أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَالثَّانِي أَمْرٌ ظَاهِرٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِمَا إِرَادَةَ اخْتِصَاصِهِمْ بِهِ فِي أُمُورِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: عَيْبَتِي أَيْ خَاصَّتِي، وَهُوَ مَوْضِعُ سِرِّي، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْقَلْبِ وَالصَّدْرِ بِالْعَيْبَةِ لِأَنَّهُمَا مُسْتَوْدَعُ السَّرَائِرِ، كَمَا أَنَّ الْعِيَابَ مُسْتَوْدَعُ الثِّيَابِ (" وَقَدْ قَضَوْا ")، أَيْ: أَدَّى الْأَنْصَارُ (" الَّذِي عَلَيْهِمْ ")، أَيْ: مِنَ الْوَفَاءِ بِمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْمُبَالَغَةِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، فَإِنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُمُ الْجَنَّةُ، فَوَفَّوْا بِذَلِكَ. ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (" وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ ")، أَيْ: مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (" فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ ") أَيْ: إِنْ أَتَوْا بِعُذْرٍ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُمْ (" وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ ") . أَيْ: إِنْ عَجَزُوا عَنْ عُذْرٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
6222 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الْأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَلْيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6222 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ)، أَيْ: مِنْ حُجْرَتِهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مِشْيَتِهِ (حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ)، أَيْ: عَلَى مَا وَجَدَ مِنَ النِّعْمَةِ لَدَيْهِ (وَأَثْنَى عَلَيْهِ)، أَيْ: بِمَا أَلْهَمَهُ إِلَيْهِ (ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ ")، أَيْ: بَعْدَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ (" فَإِنَّ النَّاسَ ")، أَيْ: أَهْلَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ خُلَاصَةُ النَّاسِ (" يَكْثُرُونَ ") : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ (" وَيَقِلُّ الْأَنْصَارُ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لِأَنَّ الْأَنْصَارَ هُمُ الَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَصَرُوهُ فِي حَالِ الضَّعْفِ وَالْعُسْرَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ قَدِ انْقَضَى زَمَانُهُ لَا يَلْحَقُهُمُ اللَّاحِقُ وَلَا يُدْرِكُ شَأْوَهُمُ السَّابِقُ، فَكُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ وَاحِدٌ مَضَى مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ فَيَكْثُرُ غَيْرُهُمْ وَيَقِلُّونَ. (" حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ ")، أَيْ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمِلْحَ بِوَصْفِ الْقِلَّةِ سَبَبٌ لِكَمَالِ الطَّعَامِ فِي اللَّذَّةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ تُؤَيِّدُ مَا قَالَ الطِّيبِيُّ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَيِ: التَّقْلِيلُ قَائِمٌ فِي حَقِّ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَعَلَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَأَوْلَادَهُمْ كَثَرُوا وَتَبَسَّطُوا فِي الْبِلَادِ وَانْتَشَرُوا فِيهَا وَمَلَكُوهَا، بِخِلَافِ الْأَنْصَارِ. انْتَهَى. وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ فِي الْأَشْرَافِ وَالْعَلَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيَّةِ وَبَنِي خَالِدٍ وَأَمْثَالِهِمْ (" فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ ") : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ لَامٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: مَنْ تَوَلَّى مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُهَاجِرُونَ مَثَلًا (" شَيْئًا ") : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ مَصْدَرٍ أَيْ: قَلِيلًا مِنَ الْوِلَايَةِ، وَقَوْلُهُ:(" يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا ")، أَيْ: مُسِيئِينَ (" وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ ")، أَيْ: مُحْسِنِينَ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (" فَلْيَقْبَلْ ")، أَيِ: الْمُتَوَلِّي مِنْكُمْ (" مِنْ مُحْسِنِهِمْ ")، أَيْ: إِحْسَانَهُمْ (" وَلْيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ ")، أَيْ: إِسَاءَتِهُمْ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
6223 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
6223 -
(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» ") : وَهُمُ التَّابِعُونَ (" وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ") . وَفِي نُسْخَةٍ: وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، وَهُمُ الْأَتْبَاعُ، فَدَعَا لِأَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَبْنَاؤُهُمْ وَلَوْ بِوَسَائِطَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
6224 -
وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «- خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ وَفَى كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6224 -
(وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ ")، أَيْ: أَفْضَلُ قَبَائِلِهِمْ (" بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ ")، أَيْ: فَضْلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْخَبَرُ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى أَفْضَلَ، وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْفَضْلِ يَعْنِي الْخَيْرُ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْأَنْصَارِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُهُمْ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرُ قَبَائِلِهِمْ، وَكَانَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ تَسْكُنُ مَحَلَّةً فَسَمَّى تِلْكَ الْمَحَلَّةَ دَارَ بَنِي فُلَانٍ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَنُو فُلَانٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الدَّارِ، قَالُوا: تَفْضِيلُهُمْ عَلَى قَدْرِ سَبْقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَمَآثِرِهِمْ فِيهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَفْضِيلِ الْقَبَائِلِ وَالْأَشْخَاصِ مِنْ غَيْرِ مُجَازِفَةٍ وَلَا هَوًى، وَلَا يَكُونُ هَذَا غَيْبَةً. قَالَ الْقَاضِي: إِنْ أَرَادَ بِهَا ظَاهِرَهَا فَقَوْلُهُ: بَنُو النَّجَّارِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَيَكُونُ خَيْرِيَّتُهَا بِسَبَبِ خَيْرِيَّةِ أَهْلِهَا، وَمَا يُوجَدُ فِيهَا مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي الْجَامِعِ " خَيْرُ دِيَارِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ:" خَيْرُ دِيَارِ الْأَنْصَارِ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ ".
6225 -
ــ
6225 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا) : كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَالظَّاهِرُ إِيَّايَ فَكَأَنَّهُ مِنْ بَابِ اسْتِعَارَةِ الْمَرْفُوعِ لِلْمَنْصُوبِ (وَالزُّبَيْرَ) أَيِ: ابْنَ الْعَوَّامِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْعَشَرَةِ (وَالْمِقْدَادَ) . بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ حَالَفَ كِنْدَةَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِأَبِي الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيفَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَبْدًا فَتَبَنَّاهُ، وَكَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ. رَوَى عَنْهُ عَلِيٌّ وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُمَا، مَاتَ بِالْجَرْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، (دُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ. (وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَبَا مَرْثَدٍ بَدَلَ الْمِقْدَادِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ رَاءٍ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ كَنَّازُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَيُقَالُ ابْنُ حُصَيْنٍ الْغَنَوِيُّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، شَهِدَ بَدْرًا هُوَ وَابْنُهُ مَرْثَدٌ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، رَوَى عَنْ حَمْزَةَ، وَعَنْهُ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، كَانَتْ سَنَةَ اثْنَيْ عَشْرَةَ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: هُوَ وَابْنُهُ حَلِيفَا حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: شَهِدَ أَبُو مَرْثَدٍ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ الْحَاصِلُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ الْأَرْبَعَةَ إِلَّا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْمِقْدَادُ، وَفِي بَعْضِهَا أَبُو مَرْثَدٍ. وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُبَدَّلَ مُنَحًّى، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي رِوَايَةٍ هَذَا، وَفِي رِوَايَةٍ ذَاكَ، لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ قَدْ بُعِثُوا لِهَذَا الْأَمْرِ. انْتَهَى: وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُبَدَّلَ مُنَحًّى فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِذَا قَالَ بَدَلَ الْمِقْدَادِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ غَيْرَ مُنَحًّى عَنِ الْمُرَادِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ. وَفِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ: وَالْمِقْدَادَ بَدَلَ أَبِي مَرْثَدٍ، وَلَا مُنَافَاةَ، بَلْ بَعَثَ الْأَرْبَعَةَ: عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ وَأَبَا مَرْثَدٍ (فَقَالَ: " انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ") بِخَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ مَصْرُوفًا وَقَدْ لَا يُصْرَفُ. قَالَ الطِّيبِيُّ بِالْخَاءَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ هُوَ الصَّوَابُ، وَهِيَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: وَخَاخٌ يُصْرَفُ وَيُمْنَعُ (" فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً ")، أَيِ: امْرَأَةً اسْمُهَا سَارَةُ، وَقِيلَ أُمُّ سَارَةَ مَوْلَاةٌ لِقُرَيْشٍ (" مَعَهَا كِتَابٌ ")، أَيْ: مَكْتُوبٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ (" فَخُذُوهُ مِنْهَا " فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى)، أَيْ: تَتَسَابَقُ (بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ)، أَيْ: رَوْضَةِ خَاخٍ (فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ)، أَيِ: الْمَرْأَةِ (فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، قَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ لِمَزِيدِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ.
(فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ) : بِفَتْحِ لَامٍ فَضَمٍّ فَسُكُونٍ فَكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ نُونٍ أَيْ: لَتُظْهِرِنَّ (الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ فَفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْ: لَتَرْمِيِنَّ (الثِّيَابَ) : وَتَتَجَرَّدِنَّ عَنْهَا لِيَتَبَيَّنَ لَنَا الْأَمْرُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَرَفْعِ الثِّيَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْضًا. قَالَ مِيرَكُ: كَذَا جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ مَكْسُورَةً وَمَفْتُوحَةً. فَإِنْ قُلْتَ: الْقَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ تُحْذَفَ تِلْكَ الْيَاءُ، وَيُقَالَ: لَتُلْقِنَّ. قُلْتُ: الْقِيَاسُ ذَلِكَ، وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالْيَاءِ فَتَأْوِيلُ الْكَسْرِ أَنَّهَا لِمُشَاكَلَةِ لَتُخْرِجِنَّ، وَالْفَتْحُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ الْغَائِبِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَرَفْعِ الثِّيَابِ، كَذَا قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، فِي شَرْحِهِ: كَذَا فِيهِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَالْوَجْهُ حَذْفُهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا ثَبَتَتْ لِمُشَاكَلَةِ لَتُخْرِجِنَّ. قَالَ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ صَوَابَ الرِّوَايَةِ لَتُلْقِينَ الثِّيَابَ بِالنُّونِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا لَا شَكَّ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَخْرِيجِ تَكَلُّفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: وَيُرِيدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ فَضْلِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا بِلَفْظِ: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لِنُجَرِّدَنَّكِ. انْتَهَى.
(فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا)، وَهُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ جَمْعُ عَقِيصَةٍ وَهِيَ الشَّعْرُ الْمَضْفُورُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ (أَخْرَجَتْهُ مِنْ حُجْزَتِهَا) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَبِالزَّايِ أَيْ: مَعْقِدَ الْإِزَارِ لِأَنَّ عَقِيصَتَهَا طَوِيلَةٌ بِحَيْثُ تَصِلُ إِلَى حُجْزَتِهَا، فَرَبَطَتُهُ فِي عَقِيصَتِهَا وَغَرَزَتْهُ بِحُجْزَتِهَا (فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا فِيهِ)، أَيْ: فِي الْكِتَابِ (مِنْ حَاطِبِ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ (ابْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ هَذَا حِكَايَةَ الْمَكْتُوبِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وُضِعَ مَوْضِعَ قَوْلِهِ: إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ (مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ)، أَيْ: حَاطِبٌ أَوْ مَكْتُوبُهُ مَجَازًا (بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) . أَيْ: بِبَعْضِ شَأْنِهِ وَحَالِهِ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُرِيدُكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ)، أَيْ: لِحَاطِبٍ (" مَا هَذَا ") ؟ أَيِ: الْفِعْلُ الشَّنِيعُ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ)، أَيْ: فِي الْحُكْمِ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ يُبَيِّنُ عُذْرَهُ فِي فِعْلِهِ بِقَوْلِهِ:(إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ حَلِيفًا (فِي قُرَيْشٍ)، أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ (وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَانَ حَلِيفَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ (وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَةٌ)، أَيْ: ذَوُو قَرَابَةٍ أَيْ: أَقَارِبُ أَوْ قَرَابَةٌ مَعَ نَاسٍ (يَحْمُونَ)، أَيِ: الْأَقَارِبَ أَوِ النَّاسَ الَّذِينَ أُقَارِبُهُمْ يَحْفَظُونَ وَيُرَاعُونَ (بِهَا)، أَيْ: بِتِلْكَ الْقَرَابَةِ (أَمْوَالَهُمْ)، أَيْ: أَمْوَالَ الْمُهَاجِرِينَ (وَأَهْلَهُمْ بِمَكَّةَ) ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِيَحْمُونِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ التَّقْدِيرَ أَمْوَالُهُمْ وَأَهْلِيهِمُ الْكَائِنِينَ بِمَكَّةَ (فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ)، أَيِ: الْقُرْبُ (مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ)، أَيْ: فِي قُرَيْشٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذْ فَاتَنِي تَعْلِيلٌ وَقَعَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَفْعُولِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا)، أَيْ: صَنِيعَةً (يَحْمُونَ)، أَيْ: قُرَيْشٌ (بِهَا)، أَيْ: بِتِلْكَ الْيَدِ (قَرَابَتِي) أَيِ: الْكَائِنَةَ بِمَكَّةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: يَحْمُونَ صِفَةُ (يَدًا) ، وَأَرَادَ بِالْيَدِ يَدَ إِنْعَامٍ أَوْ قُدْرَةٍ (وَمَا فَعَلْتُ)، أَيْ: ذَلِكَ (كُفْرًا)، أَيْ: أَصْلِيًّا (وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي) أَيْ: حَادِثًا (وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ)، أَيْ: بِوُجُودِهِ (بَعْدَ الْإِسْلَامِ) . أَيْ: بَعْدَ حُصُولِهِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوْ تَعْمِيمٌ لِأَنْوَاعِ حُدُوثِ الْكُفْرِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: خِطَابًا لِلْأَصْحَابِ (إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ ") بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ: قَالَ الصِّدْقَ (فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي)، أَيْ: اتْرُكْنِي (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَضْرِبْ) : بِالْجَزْمِ أَيْ أَقْطَعْ (عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ) . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَعَ تَصْدِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاطِبٍ فِي مَعْذِرَتِهِ لِمَا كَانَ عِنْدَ عُمَرَ مِنْ قُوَّةٍ فِي الدِّينِ وَبُغْضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى النِّفَاقِ، وَظَنَّ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اسْتَأْذَنَ فِي قَتْلِهِ وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ مُنَافِقًا لِكَوْنِهِ أَبْطَنَ خِلَافَ مَا أَظْهَرَ، وَعُذْرُ حَاطِبٍ مَا ذَكَرَهُ فَإِنَّهُ صَنَعَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا وَلَا ضَرَرَ فِيهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّهُ ") ، أَيْ: حَاطِبًا (قَدْ شَهِدَ بَدْرًا) أَيْ: حَضَرَهُ (" وَمَا يُدْرِيكَ ")، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُعْلِمُكَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ (" لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ ") : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَقْبَلَ (" عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ") : وَنَظَرَ إِلَيْهِمْ نَظَرَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ (" فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ")، أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَفْعَالِ النَّافِلَةِ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً (" قَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ ") . أَيْ: ثَبَتَتْ أَوْ وَجَبَتْ بِمُوجِبِ إِيجَابِي مِنَ الْوَعْدِ الْوَاجِبِ وُقُوعَهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى التَّرَجِّي فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه لِأَنَّ وُقُوعَ هَذَا الْأَمْرِ مُحَقَّقٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُوثِرَ عَلَى التَّحْقِيقِ بَعْثًا لَهُ عَلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، فَلَا يَقْطَعُ الْأَمْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ ذِكْرَ لَعَلَّ لِئَلَّا يَتَّكِلَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا عَلَى ذَلِكَ وَيَنْقَطِعَ عَنِ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِظْهَارُ الْعِنَايَةِ لَا التَّرَخُّصِ لَهُمْ فِي كُلِّ فِعْلٍ، بَلِ الْحَدِيثُ الْآتِي عَنْ حَفْصَةَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ لَا فِي حَالِ الْقَطْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَفِي رِوَايَةٍ: " فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ") : وَهِيَ أَرْجَى مِمَّا قَبْلَهَا كَمَا لَا يَخْفَى، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَوْ تَوَجَّهَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ أَوْ غَيْرُهُ أُقِيمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِسْطَحٍ حَدَّ الْفِرْيَةِ، وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَوَازُ هَتْكِ أَسْتَارِ الْجَوَاسِيسِ وَقِرَاءَةِ كُتُبِهِمْ، وَفِيهِ هَتْكُ سِتْرِ الْمُفْسِدِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، أَوْ كَانَ فِي السِّتْرِ مَفْسَدَةٌ، وَمَا فَعَلَهُ حَاطِبٌ كَانَ كَبِيرَةً قَطْعًا ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِيذَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ: أَنَّهُ لَوِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً مُتَضَمِّنَةً لِأَذَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكَانَ كُفْرًا، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ أَذَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ إِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ أَذَى الْكُفَّارِ عَنْ قَرَابَتِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْإِبْلَاغُ، وَقَدْ صَدَّقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ نَعَمْ قَصُرَ فِي اجْتِهَادِهِ حَيْثُ أَخْفَى أَمْرَهُ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} [الممتحنة: 1]، أَيِ: الَّذِينَ أُعَادِيهِمْ وَعَدُوَّكُمْ، أَيِ: الَّذِينَ يُعَادُونَكُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ أَوْلِيَاءَ أَيْ: أَحِبَّاءَ وَمَا بَعْدَهُ: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ - إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ - لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 1 - 4] الْآيَةَ. وَإِنَّمَا عَمَّ الْخِطَابُ لَيَدْخُلَ فِيهِ أَمْثَالُ حَاطِبٍ، وَلِذَا قِيلَ فِيهِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6226 -
وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6226 -
(وَعَنْ رِفَاعَةَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (ابْنِ رَافِعٍ) يُكَنَّى أَبَا مُعَاذٍ الزُّرَقِيَّ الْأَنْصَارِيَّ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَسَائِرَ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، مَاتَ فِي أَوَّلِ وِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ عُبَيْدٌ وَمُعَاذٌ وَابْنُ أَخِيهِ يَحْيَى بْنُ خَلَّادٍ (قَالَ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ)، أَيْ: جِبْرِيلُ (مَا تَعُدُّونَ) بِضَمِّ عَيْنٍ وَتَشْدِيدِ دَالٍ أَيْ مَا تَعْتَبِرُونَ (أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ) وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لَهُ وَلِمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ تَحْسَبُونَهَا لِأَهْلِ بَدْرٍ (قَالَ مِنْ) أَيْ: هُمْ مِنْ (أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا) وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هُمْ أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ عِنْدَنَا حُكْمُ (مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ) أَيْ: هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْ مِنْهُمْ فَيَكُونُونَ أَفْضَلَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ أَفَاضِلِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِمَّنْ يَعُدُّونَ لِيُطَابِقَهُ الْجَوَابُ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَتَى بِ (مَا) بَدَلَ مَنْ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِ إِفَادَةِ التَّعْظِيمِ مِنَ الْعُدُولِ مِنْ مَنْ إِلَى مَا وَإِنَّمَا جَاءَ مَنْ فِي مَوَاضِعَ بِمَعْنَى مَنْ أَوْ أُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7](رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
6227 -
وَعَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ". قَالَ: فَلَمْ تَسْمَعِيهِ يَقُولُ: " {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] ". وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدُ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
6227 -
(وَعَنْ حَفْصَةَ) أَيْ بِنْتِ عُمَرَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ) بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ) أَيْ مَا مِنْكُمْ (إِلَّا وَارِدُهَا) أَيْ مَارٌّ بِهَا أَوْ حَاضِرُهَا وَكَانَتْ حَفْصَةُ ظَنَّتْ أَنَّ مَعْنَى وَارِدِهَا دَاخِلُهَا (قَالَ: فَلَمْ تَسْمَعِيهِ) أَيْ أَفَلَمْ تَسْمَعِي كَلَامَ اللَّهِ (يَقُولُ) أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) أَيْ مِنَ الدُّخُولِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: فَيُنَجِّي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ بِفَضْلِهِ عَنْهَا فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَيَتْرُكُ الْكَافِرِينَ فِيهَا بِعَدْلِهِ. انْتَهَى. وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الطِّيبِيِّ يَعْنِي: أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ دُخُولًا يُعَذَّبُ فِيهَا وَلَا نَجَاةَ لَهُ مِنْهَا. انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ سَابِقًا مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُرُودِ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى جَهَنَّمَ فَيَقَعُ فِيهَا أَهْلُهَا وَيَنْجُو الْآخَرُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. قُلْتُ: تَأَمَّلْنَا كَثِيرًا فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ أَرْجَحِيَّتِهِ وَلَا قَدْرًا يَسِيرًا، بَلْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ أَبْلَغُ وَأَتَمُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ جَوَازُ الْمُنَاظَرَةِ وَالِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْشَادِ وَهُوَ مَقْصُودُ حَفْصَةَ لَا أَنَّهَا أَرَادَتْ رَدَّ مَقَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: وَفِي تَسْمِيَتِهِ مُنَاظِرَةٌ وَاعْتِرَاضٌ وَجَوَابٌ لَا يَخْلُو عَنْ سُوءِ أَدَبٍ يُرْجَى مُسَامَحَتُهُ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهَا اسْتَشْكَلَتْ مَعْنَى الْحَدِيثِ حَيْثُ ظَاهِرُهُ عَلَى ظَنِّهَا غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْآيَةِ، فَسَأَلَتْ سُؤَالَ اسْتِرْشَادٍ لَا سُؤَالَ اعْتِرَاضٍ، كَمَا هُوَ طَرِيقُ أَرْبَابِ الْمُنَاظَرَةِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى أَيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ أَنْ يَسْأَلَ وَاحِدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] إِنَّمَا تُسَمَّى بِالْمُنَاظَرَةِ الْمُبَاحَثَةُ وَالْمُجَادَلَةُ بَيْنَ النُّظَرَاءِ وَالْأَمْثَالِ فِي الْمُعَاصَرَةِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا يَدْخُلُ النَّارَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ - أَحَدُ - الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا ") : بَيَانٌ لِأَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَوْ بَدَلٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَقَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ مُسْنَدِ حَفْصَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهِ مِنْ مُسْنَدِ أُمِّ مُبَشِّرٍ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ حَفْصَةَ يَقُولُ:" «لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدُ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا " فَقَالَتْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَانْتَهَرَتْهَا حَفْصَةُ فَقَالَتْ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: قَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] » هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ حَدِيثُ حَفْصَةَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ، بَلْ هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ مُبَشِّرٍ، نَعَمْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ - مِنْ طَرِيقِ أُمِّ مُبَشِّرٍ عَنْ حَفْصَةَ كَمَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ، وَكَذَا رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا مُحَصَّلُ مَا أَوْرَدَهُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَرْوِيٌّ عَنْ حَفْصَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَصَحَّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ.
6228 -
«وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
6228 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ) : قَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ (قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ ") : وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ السُّيُوطِيُّ: إِنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ ثُمَّ أَهْلُ أُحُدٍ ثُمَّ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6229 -
وَعَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَصْعَدِ الثَّنِيَّةَ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَهَا خَيْلُنَا خَيْلُ بَنِي الْخَزْرَجِ، ثُمَّ تَتَامَّ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، فَأَتَيْنَاهُ فَقُلْنَا تَعَالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ; لَأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنِ أَقْرَأَ عَلَيْكَ فِي بَابٍ بَعْدَ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ» .
ــ
6229 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ يَصْعَدِ الثَّنِيَّةَ ") : بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ حُرِّكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالثَّنِيَّةُ هِيَ الطَّرِيقُ الْعَالِي فِي الْجَبَلِ، وَقَوْلُهُ:(" ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ ") : بِالنَّصْبِ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَالْمُرَارُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَكْسِرُهَا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُهُ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا حَثَّهُمْ عَلَى صُعُودِهَا لِأَنَّهَا عَقَبَةٌ شَاقَّةٌ وَصَلُوا إِلَيْهَا لَيْلًا حِينَ أَرَادُوا مَكَّةَ سَنَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَرَغَّبَهُمْ فِي صُعُودِهَا بِقَوْلِهِ:(" فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُوضَعُ عَنْهُ (" مَا حُطَّ ")، أَيْ: مِثْلَ مَا وُضِعَ (" عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ")، أَيْ: لَوْ قَالُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا حِطَّةً (فَكَانَ) : بِالْفَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ وَكَانَ (أَوَّلَ مَنْ صَعِدَهَا خَيْلُنَا) : بِالرَّفْعِ وَأُبْدِلَ مِنْهُ (خَيْلُ بَنِي الْحَزْرَجِ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ خَيْلُنَا أَوَّلَ خَيْلِ مَنْ صَعِدَهَا (ثُمَّ تَتَامَّ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ تَفَاعَلَ مِنَ التَّمَامِ أَيْ تَتَابَعَ النَّاسُ وَجَاءُوا كُلُّهُمْ وَتَمُّوا. وَالْمَعْنَى صَعِدَ الثَّنِيَّةَ كُلُّهُمْ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ» ") : وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ رَئِيسُ الْمُنَافِقِينَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا حِمَارًا (فَأَتَيْنَا، فَقُلْنَا تَعَالَ)، أَيْ: إِلَى الْحَضْرَةِ الْعَلِيَّةِ (يَسْتَغْفِرْ) : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ، فَالتَّقْدِيرُ لِأَنْ يَسْتَغْفِرَ (لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي) ، أَيْ: مِنْ جَمَلٍ أَوْ خَيْلٍ (أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ) . وَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ مِنْهُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ - سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 5 - 6](رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ قَالَ)، أَيِ: النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ ") ، أَيِ: الْقُرْآنَ قِرَاءَةَ الْمُعَلِّمِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ تَعْلِيمًا لَهُ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَرْتَبَةٌ جَسِيمَةٌ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَتَعْظَّمَ ذِكْرُهُ مَيَّزَهُ عَنْ أَقْرَانِهِ بِإِقْرَاءِ حَبِيبِهِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ رَئِيسُ الْقُرَّاءِ (فِي بَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ) . مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ذَكَرَ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
6230 -
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ. وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ: مَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ) بَدَلَ (وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
6230 -
(عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ ") : بِصِيغَةِ الْمُثَنِّيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: الَّذِينَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَلَعَلَّهُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ (" مِنْ بَعْدِي ")، أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَوْتِي أَوْ مِنْ بَعْدِ الِاقْتِدَاءِ بِي (" مِنْ أَصْحَابِي ") . أَيْ مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِي (" أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ") ، بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِلَّذَيْنَ (" وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ ") ، أَيْ سِيرُوا بِسَيْرِهِ، وَكَانَ الِاقْتِدَاءُ أَعَمَّ مِنَ الِاهْتِدَاءِ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ، بِخِلَافِ الِاهْتِدَاءِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ (وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ") أَيْ بِوَصِيَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَوْلِهِ، وَلِذَا يَخْتَارُ إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ رِوَايَتَهُ وَقَوْلَهُ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِكَمَالِ فَقَاهَتِهِ وَنُصْحِ وَصِيَّتِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ عَهْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مَا يُعْهَدُ إِلَيْهِ فَيُوصِيهِمْ بِهِ، وَأَرَى أَشْبَهَ الْأَشْيَاءِ بِمَا يُرَادُ مِنْ عَهْدِهِ أَمْرَ الْخِلَافَةِ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ شَهِدَ بِصِحَّتِهَا وَأَشَارَ إِلَى اسْتِقَامَتِهَا مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا الدَّلِيلَ فَقَالَ: لَا نُؤَخِّرُ مَنْ قَدَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَا نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنِ ارْتَضَاهُ لِدِينِنَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الْمُنَاسَبَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ أَوَّلِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ، فَفِي أَوَّلِهِ: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعَدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَفِي آخِرِهِ: وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ
(وَفِي رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ: " «مَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ» ) : وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَسَرَّ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْخِلَافَةِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ الِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَوْصَلَهُ بِحَدِيثِ الْخِلَافَةِ فَقَالَ: لَوِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ فَعَصَيْتُمُوهُ عُذِّبْتُمْ، وَلَكِنْ مَا حَدَّثَكُمْ حُذَيْفَةُ فَصَدِّقُوهُ، وَحُذَيْفَةُ هُوَ الَّذِي يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي " وَلَمْ أَرَ فِي التَّعْرِيضِ بِالْخِلَافَةِ فِي سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْضَحَ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَلَا أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ:" «سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ» " رضي الله عنه ثُمَّ قَوْلُهُ: (بَدَلَ: " وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ") . الظَّاهِرُ بَدَلَ تَمَسَّكُوا فَإِنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . الرِّوَايَةُ الْأُولَى رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ وَهُوَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ رَوَاهَا التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، لَكِنْ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ:«كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " لَا أَدْرِي مَا بَقَائِي فِيكُمْ. فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي» " وَأَشَارَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ "«وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ» ". وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. أَقُولُ: وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ - وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: "«اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ - ثُمَّ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الْمِشْكَاةِ وَقَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالرُّويَانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ.
6231 -
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ لَأَمَّرْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
6231 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا ") : وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ (أَحَدًا) عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُهُ وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: جَاعِلُ أَحَدٍ أَمِيرًا يَعْنِي أَمِيرَ جَيْشٍ بِعَيْنِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَوْ كُنْتُ مُسْتَخْلِفًا (" مِنْ غَيْرِ مَشْوَرَةٍ ") ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَضَمٍّ وَالْوَجْهَانِ فِي الصِّحَاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَشُورَةٌ مَفْعُلَةٌ لَا مَفْعُولَةٌ يَعْنِي كَمَقُولَةٍ (" لَأَمَّرْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ: " «لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا عَلَى أُمَّتِي أَحَدًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْهُمْ، لَأَمَّرْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ» ". قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُئَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ مُجِيبَتُهُ أَرَادَ بِهِ تَأْمِيرَهُ عَلَى جَيْشٍ بِعَيْنِهِ أَوِ اسْتِخْلَافَهُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِمَكَانٍ وَلَهُ الْفَضَائِلُ الْجَمَّةُ وَالسَّوَابِقُ الْجَلَّةُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ، فَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
6232 -
وَعَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا فَيَسَّرَ لِي أَبَا هُرَيْرَةَ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا فَوُفِّقْتَ لِي. فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، جِئْتُ أَلْتَمِسُ الْخَيْرَ وَأَطْلُبُهُ. فَقَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ مُجَابُ الدَّعْوَةِ؟ وَابْنُ مَسْعُودٍ صَاحِبُ طَهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَعْلَيْهِ؟ وَحُذَيْفَةُ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَعَمَّارٌ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَسَلْمَانُ صَاحِبُ الْكِتَابَيْنِ؟ يَعْنِي: الْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6232 -
(وَعَنْ خَيْثَمَةَ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ (ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ)، بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ فَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ خَيْثَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعْفِيُّ، وَكَانَ خَيْثَمَةُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ سَمِعَ عَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُمَا، وَعَنْهُ الْأَعْمَشُ وَمَنْصُورٌ وَعُرْوَةُ بْنُ مُرَّةَ، وَوَرِثَ مِائَتَيْ أَلْفٍ فَأَنْفَرَهُمَا عَلَى الْعُلَمَاءِ. (قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ) ، أَيْ: يُسَهِّلَ (لِي جَلِيسًا صَالِحًا) . أَيْ مُجَالِسًا يَصْلُحُ أَنْ يُجْلَسَ مَعَهُ وَيُسْتَفَادَ مِنْ مُجَالَسَتِهِ (فَيَسَّرَ لِي أَبَا هُرَيْرَةَ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لِي جَلِيسًا صَالِحًا، فَوُفِّقْتَ لِي) . أَيْ جُعِلْتَ أَنْتَ مُوَافِقًا لِي وَاتَّفَقَ لِي
مُجَالَسَتُكُ. (فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، جِئْتُ أَلْتَمِسُ الْخَيْرَ)، أَيِ: الْعِلْمَ الْمَقْرُونَ بِالْعَمَلِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْحِكْمَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] قَدْ يُقَالُ: لَا خَيْرَ خَيْرٌ مِنْهُ أَوْ لَا خَيْرَ غَيْرُهُ. (وَأَطْلُبُهُ) . عَطْفُ تَفْسِيرٍ يُفِيدُ بَيَانَ الْمُبَالَغَةِ (فَقَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ)، أَيْ: فِي بَلَدِكُمْ (سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ) : وَهُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ (مُجَابُ الدَّعْوَةِ) ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَبَيَانُ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ (وَابْنُ مَسْعُودٍ صَاحِبُ طَهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْ مَا يَطَّهَّرُ بِهِ فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبَ مَطْهَرَتِهِ (وَنَعْلَيْهِ) ؟ وَكَذَا صَاحِبُ وِسَادَتِهِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ خِدْمَتِهِ وَقُرْبِهِ الْمُنْتِجَةِ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ. (وَحُذَيْفَةُ صَاحِبُ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَعَمَّارٌ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَسَلْمَانُ صَاحِبُ الْكِتَابَيْنِ يَعْنِي: الْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ) : فَإِنَّهُ آمَنَ بِالْإِنْجِيلِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَعَمِلَ بِهِ ثُمَّ آمَنَ بِالْقُرْآنِ أَيْضًا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِسَلْمَانِ الْخَيْرِ وَلَمْ يُعْرَفِ اسْمُ أَبِيهِ فَسُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَنَا ابْنُ الْإِسْلَامِ وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ بِعَمَلِ الْخُوصِ وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُ تَرْجَمَتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
6233 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
6233 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ") ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ (نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ")، بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ، كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ، وَكَانَ بَيْنَ الْعَقَبَتَيْنِ سَنَةٌ، شَهِدَ بَدْرًاوَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ (" نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ") ، بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ (" نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ")، وَسَبَقَ ذِكْرُهُمَا (" نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ") . بِفَتْحِ جِيمٍ فَضَمِّ مِيمٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا هُوَ وَأَبُوهُ عَمْرٌو، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مَعَ مُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ أَبَا جَهْلٍ، وَلَهُمَا ذِكْرٌ فِي بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو قَطَعَ رِجْلَ أَبِي جَهْلٍ وَصَرَعَهُ. قَالَ: وَضَرَبَ ابْنُهُ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ يَدَ مُعَاذٍ فَطَرَحَهَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ حَتَّى أَثْبَتَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ حِينَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْتَمِسَ أَبَا جَهْلٍ فِي الْقَتْلَى، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمَاتَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ (وَقَالَ)، أَيِ: التِّرْمِذِيُّ (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
6234 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ الْجَنَّةَ تَشْتَاقُ إِلَى ثَلَاثَةٍ عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَسَلْمَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6234 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْجَنَّةَ تَشْتَاقُ ")، أَيِ: اشْتِيَاقًا كَثِيرًا (" إِلَى ثَلَاثَةٍ ") ، أَيْ أَشْخَاصٍ (" عَلِيٍّ ") ، بِالْجَرِّ وَجُوِّزَ رَفْعُهُ (وَعَمَّارٍ، وَسَلْمَانَ ")، قَالَ الطِّيبِيُّ: سَبِيلُ اشْتِيَاقِ الْجَنَّةِ إِلَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ سَبِيلُ اهْتِزَازِ الْعَرْشِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ الِاخْتِصَاصِ أَنَّ عَلِيًّا وَعَمَّارًا وَقَعَا بَيْنَ طَائِفَةٍ غَرِيبَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ وَالتَّعَدِّي وَالْعِنَادِ، فَقَاتَلَا عَلَى طَرِيقِ السَّدَادِ حَتَّى قُتِلَا فِيمَنْ قُتِلَ مِنَ الْعِبَادِ، وَسَلْمَانُ وَقَعَ فِي الْغُرْبَةِ مُدَّةً كَثِيرَةً مِنَ الزَّمَنِ، وَابْتُلِيَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمِحَنِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
6235 -
وَعَنْ عَلِيٍّ، قَالَ:«اسْتَأْذَنَ عَمَّارٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " ائْذَنُوا لَهُ مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6235 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَأْذَنَ عَمَّارٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ ") : فِيهِ مُبَالَغَةٌ كَظِلٍّ ظَلِيلٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ -.
6236 -
وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا خُيِّرَ عَمَّارٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6236 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا خُيِّرَ عَمَّارٌ ") : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، أَيْ مَا جُعِلَ مُخَيَّرًا (" بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا ") . وَهُوَ أَصْلُ التِّرْمِذِيِّ أَيْ: أَصْلَحَهُمَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَهُوَ أَصْلُ الْمَصَابِيحِ أَشَدَّهُمَا بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أَصْعَبَهُمَا، فَقِيلَ: هَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى نَفْسِهِ، فَلَا يُنَافِي رِوَايَةَ:«مَا اخْتِيرَ عَمَّارُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا» فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ. وَفِي نُسْخَةٍ أَسَدَّهُمَا بِالسِّينِ الْمُهْمِلَةِ أَيْ أَصْوَبَهُمَا، وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ أَصْلَحَهُمَا وَأَصْوَبَهُمَا فِيمَا تَبَيَّنَ تَرْجِيحُهُ، وَإِلَّا فَاخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ -. وَفِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ:" أَرْشَدَهُمَا ". قَالَ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا:" «كَمْ مِنْ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» ".
6237 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا حُمِلَتْ جِنَازَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخَفَّ جِنَازَتَهُ، وَذَلِكَ لِحُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «فَقَالَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6237 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا حُمِلَتْ جِنَازَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ)، أَيْ: لَمَّا حَمَلَهَا النَّاسُ وَرَأَوْهَا خَفِيفَةً (قَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخَفَّ جِنَازَتَهُ) : مَا لِلتَّعَجُّبِ (وَذَلِكَ)، أَيِ: اسْتِخْفَافُهُ وَاسْتِحْقَارُهُ (لِحُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) أَيْ بِأَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ، فَنَسَبَهُ الْمُنَافِقُونَ إِلَى الْجَوْرِ وَالْعُدْوَانِ، وَقَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِالْإِصَابَةِ فِي حُكْمِهِ كَمَا سَبَقَ فِي مَحَلِّهِ. (فَبَلَغَ ذَلِكَ)، أَيْ: كَلَامُهُمُ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ» ") . أَيْ وَلِذَا كَانَتْ جِنَازَتُهُ خَفِيفَةً عَلَى النَّاسِ، وَأَيْضًا ثِقَلُ الْمَيِّتِ مُشْعِرٌ بِتَعَلُّقِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَخِفَّتُهُ إِلَى قُوَّةِ شَوْقِهِ لِلْمَوْلَى وَسُرْعَةِ طَيَرَانِ رُوحِهِ إِلَى الْمَقْصِدِ الْأَعْلَى. قَالَ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] " قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانُوا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ حَقَارَتَهُ وَازْدِرَاءَهُ، فَأَجَابَ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَلْزَمُ مِنْ تِلْكَ الْخِفَّةِ بِتَعْظِيمِ شَانِهِ وَتَفْخِيمِ أَمْرِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
6238 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6238 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو)، أَيِ ابْنِ الْعَاصِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ ") ، أَيْ عَلَى أَحَدٍ (" وَلَا أَقَلَّتْ ") : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ حَمَلَتْ وَرَفَعَتِ (" الْغَبْرَاءُ ") ، أَيِ الْأَرْضُ (" أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ ") . مَفْعُولُ أَقَلَّتْ وَصِفَةٌ لِلْأَحَدِ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّنَازُعِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَصْرِ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي صِدْقِهِ لَا أَنَّهُ أَصْدَقُ مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ أَبُو ذَرٍّ أَصْدَقُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَهُوَ صِدِّيقُ هَذِهِ الْأَمَةِ وَخَيْرُهَا بَعْدَ نَبِيِّهَا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ، كَذَا قَالُوا، وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ مُسْتَثْنًى شَرْعًا، وَأَمَّا الصِّدِّيقُ لِكَثْرَةِ تَصْدِيقِهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَصْدَقَ فِي قَوْلِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:" «أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ» " وَلَا بِدْعَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَفْضُولِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، أَوْ يَشْتَرِكُ هُوَ وَالْأَفْضَلُ فِي صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّسْوِيَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
6239 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ وَلَا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يَعْنِي فِي الزُّهْدِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6239 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ» ") : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَقِيلَ بِفَتْحَتَيْنِ وَهِيَ اللِّسَانُ، وَقِيلَ طَرَفُهُ، وَالْمَعْنَى مِنْ ذِي نُطْقٍ، وَقِيلَ لَهْجَةُ اللِّسَانِ مَا يَنْطِقُ بِهِ أَيْ مِنْ صَاحِبِ كَلَامٍ (" أَصْدَقَ ")، أَيْ: أَكْثَرَ صِدْقٍ (" وَلَا أَوْفَى ")، أَيْ: بِكَلَامِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْعَهْدِ (" مِنْ أَبِي ذَرٍّ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ زَائِدَةٌ، وَذِي لَهْجَةٍ مَعْمُولُ أَقَلَّتْ، وَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْعَامِلَانِ فَأُعْمِلَ الثَّانِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 5] لَوْ أُعْمِلَ الْأَوَّلُ لَنُصِبَ رَسُولُ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا أَصْدَقُ فِي الْحَدِيثِ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَحَدًا ذَا لَهْجَةٍ أَصْدَقَ. قُلْتُ: الْمَوْصُوفُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِعَيْنِهِ مَذْكُورٌ، لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَوْصُوفٍ آخَرَ فَالتَّقْدِيرُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَحَدًا ذَا لَهْجَةٍ أَصْدَقَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: لَوْ أُعْمِلُ الْأَوَّلُ لَنُصِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مُسَامَحَةٌ لَأَنَّ تَعَالَوْا غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ. بَلْ بِحَرْفِ الْجَرِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} [آل عمران: 64] فَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُتَعَلَّقَهُ مَحْذُوفٌ لِلِاكْتِفَاءِ بِظُهُورِهِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (" شِبْهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ") ، بِالْجَرِّ بَدَلٌ أَيْ شَبِيهِهِ، وَفِي الِاسْتِيعَابِ مِنَ الْحَدِيثِ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تَوَاضُعِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي ذَرٍّ انْتَهَى. فَالتَّشْبِيهُ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ التَّوَاضُعِ، فَقَوْلُ الرَّاوِي:(يَعْنِي فِي الزُّهْدِ) . مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اطِّلَاعِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَعَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاضِعًا وَزَاهِدًا، بَلِ الزُّهْدُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلتَّوَاضُعِ، ثُمَّ قَوْلُهُ يَعْنِي فِي الزُّهْدِ لَيْسَ فِي الْمَصَابِيحِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زَوَائِدِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
قَالَ مِيرَكُ: وَزَادَ فِيهِ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَفَتَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ؟ قَالَ: " نَعَمْ فَعَرَفُوهُ لَهُ ". انْتَهَى. وَهُوَ حَدِيثٌ رِجَالُهُ مَوْثُوقُونَ. وَفِي الْجَامِعِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:" «وَمَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ» " قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ قَوْلُهُ: أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ مُبَالَغَةٌ فِي صِدْقِهِ، لَا أَنَّهُ أَصْدَقُ مِنْ كُلٍّ عَلَى الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ عَامًّا قَدْ خُصَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَذْهَبُ إِلَى التَّوْرِيَةِ وَالْمَعَارِيضِ فِي الْكَلَامِ، فَلَا يُرْخِي عِنَانَ كَلَامِهِ، وَلَا يُوَاسِي مَعَ النَّاسِ وَلَا يُسَامِحُهُمْ، وَيُظْهِرُ الْحَقَّ الْبَحْتَ وَالصِّدْقَ الْمَحْضَ، وَمِنْ ثَمَّةَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا أَوْفَى أَيْ يُوفِي حَقَّ الْكَلَامِ إِيفَاءً لَا يُغَادِرُ شَيْئًا مِنْهُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُثْمَانَ فَأَذِنَ لَهُ وَبِيَدِهِ عَصَاهُ فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا كَعْبُ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَا تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَصِلُ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ، فَرَفَعَ أَبُو ذَرٍّ عَصَاهُ فَضَرَبَ كَعْبًا وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَا أُحِبُّ لَوْ أَنَّ لِي هَذَا الْجَبَلَ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ وَيُتَقَبَّلُ مَنِّي أَذَرَ خَلْفِي مِنْهُ سِتَّ أَوَاقِي» " أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ يَا عُثْمَانُ أَسَمِعْتَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: نَعَمْ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ عُثْمَانَ اسْتَقْدَمَهُ لِشَكْوَى مُعَاوِيَةَ مِنْهُ فَأَسْكَنَهُ الرَّبَذَةَ فَمَاتَ بِهَا. وَقَالَ عَلِيٌّ فِي حَقِّهِ: ذَاكَ رَجُلٌ وَعَى عِلْمًا عَجَزَ عَنْهُ النَّاسُ، ثُمَّ أُوكِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
6240 -
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ الْتَمِسُوا الْعِلْمَ عِنْدَ أَرْبَعَةٍ عِنْدَ عُوَيْمِرٍ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعِنْدَ سَلْمَانَ، وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ " «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنَّهُ عَاشِرُ عَشَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6240 -
(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ)، أَيْ: مُعَاذٌ (الْتَمِسُوا الْعِلْمَ)، أَيْ: عِلْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ عِلْمَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» " وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَيْضًا وَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ. (عِنْدَ أَرْبَعَةٍ)، أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ (عِنْدَ عُوَيْمِرٍ) : تَصْغِيرُ عَامِرٍ (أَبِي الدَّرْدَاءِ)، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عُوَيْمِرُ بْنُ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، وَاشْتُهِرَ بِكُنْيَتِهِ، وَالدَّرْدَاءُ ابْنَتُهُ، تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ قَلِيلًا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ فَقِيهًا عَالِمًا، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. (وَعِنْدَ سَلْمَانَ، وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَلَامٍ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ) ، صِفَةٌ كَاشِفَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ بِصِفَةٍ مُمَيِّزَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُ فِي اسْمِهِ غَيْرُهُ، بَلْ هُوَ مَدْحٌ لَهُ فِي التَّوْصِيَةِ بِالْتِمَاسِ الْعِلْمِ مِنْهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" إِنَّهُ ") ، أَيْ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ (" عَاشِرُ عَشَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ ") . أَيْ مِثْلُ عَاشِرِ عَشَرَةٍ، وَنَحْوُهُ أَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذْ لَيْسَ هُوَ مِنَ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهُوَ قَوْلُ الطِّيبِيِّ، أَوِ الْمَعْنَى يَدْخُلُ بَعْدَ تِسْعَةِ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْجَنَّةِ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ تَقَدُّمُهُ عَلَى بَعْضِ الْعَشَرَةِ، فَلَعَلَّهُ الْعَاشِرُ مِنَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنَ الْيَهُودِ، أَوْ مِمَّا عَدَا الْعَشَرَةَ الْمُبَشَّرَةَ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.
6241 -
ــ
6241 -
(وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالُوا)، أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اسْتَخْلَفْتَ) أَيْ إِنِ اسْتَخْلَفْتَ شَخْصًا فَمَنْ يَكُونُ؟ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ هَذِهِ لِلتَّمَنِّي أَيْ لَيْتَنَا أَوِ الِامْتِنَاعِيَةُ وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَكَانَ خَيْرًا اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ نَوْعُ اعْتِرَاضٍ (قَالَ:" إِنِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ ") ، أَيْ: أَحَدًا (" فَعَصَيْتُمُوهُ ")، أَيِ: اسْتِخْلَافِي أَوْ مُسْتَخْلَفِي (" عُذِّبْتُمْ ")، أَيْ عَذَابًا شَدِيدًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عُذِّبْتُمْ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَالْجَوَابُ فَعَصَيْتُمُوهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْلَافُ سَبَبًا لِلْعِصْيَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ الْمُسْتَعْقِبَ لِلْعِصْيَانِ سَبَبٌ لِلْعَذَابِ، وَقَوْلُهُ:(وَلَكِنْ مَا حَدَّثَكُمْ حُذَيْفَةُ فَصَدِّقُوهُ، وَمَا أَقْرَأَكُمْ عَبْدُ اللَّهِ)، أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (" فَاقْرَءُوهُ ") . مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْجَوَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُهِمُّكُمُ اسْتِخْلَافِي فَدَعُوهُ، وَلَكِنْ يُهِمُّكُمُ الْعَمَلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا، وَخَصَّ حُذَيْفَةَ لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُنْذِرَهُمْ مِنَ الْفِتْنَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُ كَانَ مُنْذِرَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ. اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ مَفْهُومِ مَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى مَا أَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ أَحَدًا وَلَكِنْ إِلَخْ. ثُمَّ وَجْهُ اخْتِصَاصِهِمَا بِهَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُمَا شَاهِدَانِ عَلَى صِحَّةِ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْخِلَافَةِ دُونَ الْعِبَارَةِ لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَى الثَّانِي شَيْءٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْذِيبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى لِلِاجْتِهَادِ مَجَالٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ شَرِيكٌ وَفِيهِ مَقَالٌ. قُلْتُ: وَخَرَّجَهُ ابْنُ السَّمَّانِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَلَفْظُهُ «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: " إِنِّي إِنِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ فَعَصَيْتُمْ خَلِيفَتِي نَزَلَ الْعَذَابُ بِكُمْ " قَالُوا: أَلَا نَسْتَخْلِفُ أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: " إِنْ تَسْتَخْلِفُوهُ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ ". قَالُوا: أَلَا نَسْتَخْلِفُ عُمَرَ؟ قَالَ: " إِنْ تَسْتَخْلِفُوهُ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ قَوِيًّا فِي بَدَنِهِ " قَالُوا: أَلَا نَسْتَخْلِفُ عَلِيًّا؟ قَالَ: " إِنْ تَسْتَخْلِفُوهُ تَجِدُوهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ» ".
6242 -
وَعَنْهُ قَالَ «مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ تُدْرِكُهُ الْفِتْنَةُ إِلَّا أَنَا أَخَافُهَا عَلَيْهِ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْلَمَةَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا تَضُرُّكَ الْفِتْنَةُ» رَوَاهُ.
ــ
6242 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ حُذَيْفَةَ (قَالَ: مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ تُدْرِكُهُ الْفِتْنَةُ)، أَيِ: الْبَلِيَّةُ الدُّنْيَوِيَّةُ. (إِلَّا أَنَا أَخَافُهَا عَلَيْهِ، إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ مِسْلَمَةَ) ، بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) ، أَيْ: مُخَاطِبًا لَهُ (" لَا تَضُرُّكَ الْفِتْنَةُ ") . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ حَارِثِيٌّ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا إِلَّا تَبُوكَ، رَوَى عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى يَدِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ بِالْمَدِينَةِ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. (رَوَاهُ) : هُنَا بَيَاضٌ فِي أَصْلِ الْمُصَنِّفِ وَكَتَبُوا فِيهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَسُكِتَ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ عَبْدُ الْعَظِيمِ.
6243 -
وَعَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِ الزُّبَيْرِ مِصْبَاحًا، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا أُرَى أَسْمَاءَ إِلَّا قَدْ نُفِسَتْ وَلَا تُسَمُّوهُ حَتَّى أُسَمِّيَهُ فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ بِيَدِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6243 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِ الزُّبَيْرِ)، أَيِ: ابْنِ الْعَوَّامِ (مِصْبَاحًا)، أَيْ: سِرَاجًا (قَالَ: " يَا عَائِشَةُ! مَا أُرَى ") : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ مَا أَظُنُّ (" أَسْمَاءَ ") : وَهِيَ أُخْتُ عَائِشَةَ زَوْجَةُ الزُّبَيْرِ (" إِلَّا قَدْ نُفِسَتْ ")، بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَقَدْ يُفْتَحُ النُّونُ أَيْ: وَلَدَتْ وَصَارَتْ ذَاتَ نِفَاسٍ (" وَلَا تُسَمُّوهُ ") : بِالْوَاوِ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَلَا تُسَمُّوهُ وَهُوَ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ تَغْلِيبًا لِلْحَاضِرِ عَلَى الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَوْلُودِ (" حَتَّى أُسَمِّيَهُ " فَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (بِيَدِهِ) . يُقَالُ: حَنَّكْتُ الصَّبِيَّ إِذَا مَضَغْتَ تَمْرًا أَوْ غَيْرَهُ، ثُمَّ دَلَّكْتَهُ بِحَنَكِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا وُلِدَ لِأَحَدٍ وَلَدٌ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ شَرِيفِ الْقَوْمِ أَنْ يُسَمِّيَ ذَلِكَ الْوَلَدَ وَيُحَنِّكَهُ بِتَمْرَةٍ أَوْ - عَسَلٍ، وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْحَلْوَاءِ تَبَرُّكًا بِبُزَاقِهِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ - أَسَدِيٌّ قُرَشِيٌّ، كَنَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكُنْيَةِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ أَوَّلَ سَنَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَذَّنَ أَبُو بَكْرٍ فِي أُذُنِهِ، وَلَدَتْهُ أُمُّهُ أَسْمَاءُ بِقُبَاءٍ وَأَتَتْ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهِ فَدَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ وَحَنَّكَهُ، وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ فِي جَوْفِهِ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَمْلَسَ لَا شَعْرَ لَهُ فِي وَجْهِهِ، كَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ شَهِيمًا ذَا أَنَفَةِ شَدِيدَ الْبَأْسِ، قَائِلًا بِالْحَقِّ، وَصُولًا لِلرَّحِمِ اجْتَمَعَ لَهُ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ، أَبُوهُ حَوَارِيُّ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، وَجَدُّهُ الصِّدِّيقُ، وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ عَمَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ بِمَكَّةَ، وَصَلَبَهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُخَاطَبُ بِالْخِلَافَةِ، فَاجْتَمَعَ عَلَى طَاعَتِهِ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مَا عَدَا الشَّامَ أَوْ بَعْضَهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ بِثَمَانِي حِجَجٍ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
6244 -
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ عَنِ «النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6244 -
(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ)، بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مَدَنِيٌّ صَحَابِيٌّ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: مَدَنِيٌّ، وَقِيلَ قُرَشِيٌّ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ لَا يَثْبُتُ فِي الصَّحَابَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ شَامِيٌّ، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ. (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ) الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِلَّا فَمُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ جَاهِمَةَ أَيْضًا مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ (" اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا ")، أَيْ: لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ (" مَهْدِيًّا ") ، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ (" وَاهْدِ بِهِ ")، أَيْ: بِمُعَاوِيَةَ النَّاسَ، فِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْهِدَايَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ. اعْلَمْ أَنَّ الْهِدَايَةَ إِمَّا مُجَرَّدُ الدَّلَالَةِ، أَوْ هِيَ الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْبُغْيَةِ. قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ: فَهَدَيْنَاهُمْ دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] وَالْهَدْيُ الَّذِي لِلْإِرْشَادِ بِمَعْنَى الْإِسْعَادِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى الْهِدَايَةِ فِي اللُّغَةِ الدَّلَالَةُ هَدَاهُ فِي الدِّينِ يَهْدِيهِ هِدَايَةً إِذَا دَلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ. وَالْهَدْيُ يُذْكَرُ لِحَقِيقَةِ الْإِرْشَادِ أَيْضًا، وَلِهَذَا جَازَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] .
قَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ حُمِلَ قَوْلُهُ هَادِيًا عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَانَ قَوْلُهُ مَهْدِيًّا تَكْمِيلًا لَهُ لِأَنَّهُ رَبٌّ هَادٍ وَلَا يَكُونُ مَهْدِيًّا، وَقَوْلُهُ: وَاهْدِ بِهِ تَتْمِيمًا لِأَنَّ الَّذِي فَازَ بِمَدْلُولِهِ فَوْزًا يَتْبَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَكَمَّلَ ثُمَّ تَمَّمَ، وَإِذَا ذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى الثَّانِي كَانَ مَهْدِيًّا تَأْكِيدًا، وَقَوْلُهُ: اهْدِ بِهِ تَكْمِيلًا يَعْنِي أَنَّهُ كَامِلٌ مُكَمِّلٌ، وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّ دُعَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَجَابٌ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ كَيْفَ يُرْتَابُ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ بَيَانٍ فِي مَعْنَى الْهِدَايَةِ فَعَلَيْهِ بِفُتُوحِ الْغَيْبِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا يَكْفِيهِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيٌّ أُمَوِيٌّ، وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ عُقْبَةَ، كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ مَسْلَمَةِ الْفَتْحِ، ثُمَّ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ كَتَبُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ لَمْ يَكْتُبْ لَهُ مِنَ الْوَحْيِ شَيْئًا إِنَّمَا كَانَ يَكْتُبُ لَهُ كُتُبَهُ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، تَوَلَّى الشَّامَ بَعْدَ أَخِيهِ يَزِيدَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا مُتَوَلِّيًا وَحَاكِمًا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَنَةً مِنْهَا فِي أَيَّامِ عُمَرَ أَرْبَعُ سِنِينَ أَوْ نَحْوُهَا، وَمُدَّةُ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَخِلَافَةُ عَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ، وَذَلِكَ تَمَامُ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتُوْثِقَ لَهُ الْأَمْرُ بِتَسْلِيمِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَيْهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَدَامَ لَهُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ فِي رَجَبٍ بِدِمَشْقَ، وَلَهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ إِصَابَتُهُ لَقْوَةً فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ بِذِي طُوًى، وَلَمْ أَرَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ شَيْئًا وَكَانَ عِنْدَهُ إِزَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِدَاؤُهُ وَقَمِيصُهُ، وَشَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ، فَقَالَ: كَفِّنُونِي فِي قَمِيصِهِ، وَأَدْرِجُونِي فِي رِدَائِهِ، وَأَزِّرُونِي بِإِزَارِهِ، وَاحْشُوا مِنْخَرِي وَشِدْقِي وَمَوَاضِعَ السُّجُودِ مِنِّي بِشَعْرِهِ وَظُفْرِهِ، وَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
6245 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ.
ــ
6245 -
(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَسْلَمَ النَّاسُ ") ، التَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ مَسْلَمَةُ الْفَتْحِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ (" وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ") . أَيْ قَبْلَ الْفَتْحِ بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ طَائِعًا رَاغِبًا مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا رَهْبَةً، وَآمَنَ عَمْرٌو رَغْبَةً، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَشُوبَهُ كَرَاهَةٌ، وَالْإِيمَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ رَغْبَةٍ وَطَوَاعِيَةٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا خَصَّهُ بِالْإِيمَانِ رَغْبَةً لِأَنَّهُ وَقَعَ إِسْلَامُهُ فِي قَلْبِهِ فِي الْحَبَشَةِ حِينَ اعْتَرَفَ النَّجَاشِيُّ بِنُبُوَّتِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَهُ أَحَدٌ إِلَيْهِ، فَجَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي الْحَالِ سَاعِيًا فَآمَنَ، فَأَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمُ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَالِغًا قَبْلَ إِسْلَامِهِ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِهْلَاكِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا آمَنَ أَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُزِيلَ عَنْ قَلْبِهِ أَثَرَ تِلْكَ الْوَحْشَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَتَّى يَأْمَنَ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يَيْئَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) .
6246 -
ــ
6246 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا ") ، أَيْ مُنْكَسِرَ الْبَالِ وَالْخَاطِرِ، يَعْنِي: مَهْمُومًا حَزِينًا مَغْمُومًا (قُلْتُ: اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا)، أَيْ: كَثِيرًا (وَدَيْنًا)، أَيْ: ثَقِيلًا فَاجْتَمَعَ أَسْبَابُ الْحُزْنِ، (قَالَ:«أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ» ") ، أَيْ: قَبْلَ أَبِيكَ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ بِخُصُوصِهِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الشُّهَدَاءِ الْمَاضِيَةِ حَيْثُ مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْهُمْ (إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] الْآيَةَ: مُقَيَّدٌ بِالدُّنْيَا لِقَوْلِهِ: (" وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا ") . بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ مُوَاجِهًا عِيَانًا فَفِي النِّهَايَةِ أَيْ مُوَاجَهَةً لَيْسَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَلَا رَسُولٌ. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: كَلَّمَ أَبَاكَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] لِأَنَّ التَّقْدِيرَ هُمْ أَحْيَاءٌ، فَكَيْفَ يَحْيَا الْحَيُّ؟ فَقَالَ الْمُظْهِرُ: قِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الرُّوحَ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، فَأَحْيَا ذَلِكَ الطَّيْرَ بِتِلْكَ الرُّوحِ، فَصَحَّ الْإِحْيَاءُ، أَوْ أَرَادَ بِالْإِحْيَاءِ زِيَادَةَ قُوَّةِ رُوحِهِ فَشَاهَدَ الْحَقَّ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: لَا تَهْتَمَّ بِشَأْنِ أَمْرِ دُنْيَاهُ مِنْ هَمِّ عِيَالِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْضِي عَنْهُ دَيْنَهُ بِبَرَكَةِ نَبِيِّهِ، وَيَلْطُفُ بِعِيَالِهِ، وَلَكِنْ أُبَشِّرُكَ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْقُرْبِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَا لَقِيَهُ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْمِنْحَةِ.
(" قَالَ: يَا عَبْدِي ") : الْخَاصُّ (" تَمَنَّ عَلَيَّ ")، أَيْ: مَا تُرِيدُ (" أُعْطِكَ ")، أَيْ: إِيَّاهُ مَعَ الْمَزِيدِ (" قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً ") . خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، أَيْ: أَحْيِنِي حَتَّى أَسْتَشْهِدَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى لِيَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ مَرْضَاةِ الْمَوْلَى (قَالَ الرَّبُّ تبارك وتعالى: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ ")، أَيِ: الْأَمْوَاتَ (" لَا يُرْجَعُونَ ")، أَيْ: إِلَى الدُّنْيَا بِحَيْثُ أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً يَعْمَلُونَ فِيهَا الطَّاعَاتِ، فَلَا يُنَافِي وُقُوعُ إِحْيَاءِ بَعْضِ الْأَمْوَاتِ لِعِيسَى وَغَيْرِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الشُّهَدَاءِ، وَمَعْنَاهُ لَا يَرْجِعُونَ بِالْتِمَاسِهِمْ وَتَمَنِّيهِمْ، فَلَا يُشْكِلُ بِشَهِيدِ الدَّجَّالِ أَيْضًا. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ أَيْ أَهْلَ أُحُدٍ أَوْ مُطْلَقَ الشُّهَدَاءِ، لِئَلَّا يُشْكِلَ بِقِصَّةِ عُزَيْرٍ (" فَنَزَلَتْ ")، أَيْ: فِي حَقِّهِ وَأَصْحَابِهِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَلَا تَحْسَبَنَّ بِالْخِطَابِ مَعَ فَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا أَيْ: لَا تَظُنَّ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ، وَفِي قِرَاءَةٍ بِالْغَيْبَةِ أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ (الَّذِينَ قُتِلُوا) : وَفِي رِوَايَةٍ: قُتِّلُوا بِالتَّشْدِيدِ أَيِ اسْتُشْهِدُوا {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 169 - 171] أَيْ لِلْمُجَاهِدِينَ {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 171](رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، أَيْ: وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
6247 -
وَعَنْهُ قَالَ: «اسْتَغْفَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6247 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه (قَالَ: «اسْتَغْفَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً» ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ:(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . حَيْثُ لَفْظُهُ: «اسْتَغْفَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْبَعِيرِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ» . وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقِصَّةُ الْبَعِيرِ سَبَقَتْ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ، مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ وَأَحَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الرِّوَايَةِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَقَدِمَ الشَّامَ وَمِصْرَ، وَكُفَّ بَصَرُهُ آخِرَ عُمُرِهِ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلٍ، وَأَمَّا أَبُوهُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ.
6248 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
ــ
6248 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كَمْ مِنْ أَشْعَثَ ")، أَيْ: مُتَفَرِّقِ شَعْرِ الرَّأْسِ (" أَغْبَرَ ")، أَيْ: مُغْبَرِّ الْبَدَنِ (" ذِي طِمْرَيْنِ ") : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ صَاحِبِ ثَوْبَيْنِ خَلَقَيْنِ (" لَا يُؤْبَهُ لَهُ ") ، بِضَمِّ يَاءٍ وَسُكُونِ وَاوٍ وَقَدْ يُهْمَزُ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ، فَفِي النِّهَايَةِ لَا يُبَالَى بِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ لِحَقَارَتِهِ، وَيُقَالُ وَمَا بَهَتَ لَهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا وَبِهَاءٍ بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ وَأَصْلُ الْوَاوِ الْهَمْزَةُ اهـ. وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّ الْهَمْزَةَ لُغَةٌ أُخْرَى. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَمْ خَبَرِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ مُبَيِّنٌ لَهَا وَخَبَرُهُ لَا يُؤْبَهُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ:(" لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ") ، أَيْ لَأَمْضَاهُ عَلَى الصِّدْقِ وَجَعَلَهُ بَارًّا فِي الْخَلْقِ (" مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ ") . وَهُوَ أَخُو أَنَسٍ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ. وَكَانَ مِنَ الْأَبْطَالِ الْأَشِدَّاءِ، قَتَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِائَةَ مُبَارِزٍ سِوَى مَنْ شَارَكَ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . وَكَذَا الضِّيَاءُ.
6249 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا إِنَّ عَيْبَتِيَ الَّتِي آوِي إِلَيْهَا أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّ كَرِشِيَ الْأَنْصَارُ فَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ وَاقْبَلُوا عَنْ مُحْسِنِهِمْ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
ــ
6249 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ (" إِنَّ عَيْبَتِي ")، أَيْ: خَاصَّتِي (" الَّتِي آوِي ")، أَيْ: أَمِيلُ وَأَرْجِعُ (" إِلَيْهَا أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّ كَرِشِي ")، أَيْ: بِطَانَتِي (" الْأَنْصَارُ فَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ وَاقْبَلُوا عَنْ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ (" مُحْسِنِهِمْ ") . وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الصِّنْفَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْأَنْصَارِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الحج: 19] يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَخِيرِ، وَالْأَوَّلُ يُفْهَمُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
6250 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ــ
6250 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ ")، أَيْ: جَمِيعَهُمْ أَوْ جِنْسَهُمْ (" أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .
6251 -
وَعَنْ أَنَسٍ، «عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَقْرِئْ قَوْمَكَ السَّلَامَ فَإِنَّهُمْ مَا عَلِمْتُ أَعِفَّةٌ صُبُرٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6251 -
(وَعَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ)، أَيْ: زَوْجِ أُمِّهِ (قَالَ: قَالَ لِي)، أَيْ: بِخُصُوصٍ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَقْرِئْ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ بِكَسْرِ هَمْزٍ وَفَتْحِ رَاءٍ أَيْ أَبْلِغْ (" قَوْمَكَ السَّلَامَ ")، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: أَقْرِئْ فُلَانًا السَّلَامَ وَاقْرَأْ عليه السلام، وَكَأَنَّهُ حِينَ يُبْلِغُهُ السَّلَامَ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ. وَفِي الْمُغْرِبِ: اقْرَأْ سَلَامِي عَلَى فُلَانٍ وَأَقْرِئْهُ سَلَامِي عَامِّيٌّ، وَفِي الْقَامُوسِ: قَرَأَ عليه السلام: أَبْلَغَهُ كَأَقْرَأَهُ، أَوْ لَا يُقَالُ: أَقْرَأَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّلَامُ مَكْتُوبًا. وَفِي الصِّحَاحِ: فُلَانٌ قَرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَأَقْرَأَكَ السَّلَامَ بِمَعْنًى وَأَقْرَأَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ مُقْرِئٌ، وَفِي الْمِصْبَاحِ: قَرَأْتُ عَلَى زَيْدٍ السَّلَامَ أَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ قِرَاءَةً، وَإِذَا أَمَرْتَ مِنْهُ. قُلْتَ: اقْرَأْ عليه السلام. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَتَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ خَطَأٌ، فَلَا يُقَالُ اقْرَأْهُ السَّلَامَ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى اتْلُ عَلَيْهِ. وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ أَنَّهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ رُبَاعِيًّا، فَيُقَالُ فُلَانٌ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ (" فَإِنَّهُمْ ")، أَيْ: قَوْمَكَ (" مَا عَلِمْتُ ") : مَا: مَوْصُولَةٌ أَيْ بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمْتُهُ فِيهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ (" أَعِفَّةٌ ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ جَمْعُ عَفِيفٍ وَهِيَ خَبَرُ إِنَّ وَمَا عَلِمْتُ مُعْتَرِضَةٌ (" صُبُرٌ ") . بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ صَابِرٍ كَبُزُلٍ وَبَازِلٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَتَشْدِيدِ مَفْتُوحَةٍ كَرُكَّعٍ جَمْعُ رَاكِعٍ. - قَالَ الطِّيبِيُّ:" مَا " مَوْصُولَةٌ وَالْخَبَرُ مَخْذُوفٌ أَيِ الَّذِي عَلِمْتُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ يَتَعَفَّوْنَ عَنِ السُّؤَالِ، وَيَتَحَمَّلُونَ الصَّبْرَ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَهُوَ مِثْلُ مَا فِي الْحَدِيثِ يَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ وَيَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ. وَقَالَ شَارِحٌ:" مَا " مَصْدَرِيَّةٌ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَتَعَفَّفُونَ وَيَتَحَمَّلُونَ مُدَّةَ عِلْمِي بِحَالِهِمْ، أَوْ فِي عِلْمِي بِحَالِهِمْ أَوْ مَوْصُولَةٌ أَيْ فِيمَا عَلِمْتُ مِنْهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
6252 -
وَعَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَشْكُو حَاطِبًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
6252 -
(وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ)، أَيِ: ابْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ (جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَشْكُو حَاطِبًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ) أَيْ: لِكَثْرَةِ مَا ظَلَمَنِي (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَبْتَ) أَيْ حَيْثُ جَزَمْتَ وَأَكَّدْتَ (" لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ ") أَيْ وَمَنْ حَضَرَهُمَا لَا يَدْخُلُ النَّارَ جَزْمًا أَوْ رَجَاءً، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِيمَائِهِ خِطَابُهُ فِي عِقَابِهِ بِقَوْلِهِ فِي كِتَابِهِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الْآيَةَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
6253 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا بِنَا، ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا، فَضَرَبَ عَلَى فَخِذِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنَ الْفُرْسِ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6253 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ)، أَيْ: قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا)، أَيْ: إِنْ تُعْرِضُوا وَتَنْصَرِفُوا وَتُدْبِرُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ وَنُصْرَةِ دِينِهِ (يَسْتَبْدِلْ) ، أَيِ اللَّهُ (قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) بَلْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْكُمْ (قَالُوا)، أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ، إِنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُوا بِنَا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَنَا) وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى ابْنِ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: الْخِطَابُ لِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ (فَضَرَبَ)، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ) : وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قُرْبِهِ (ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وَقَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنَ الْفُرْسِ ") : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ طَائِفَةِ الْعَجَمِ مُطْلَقًا، أَوْ مَنْ يَكُونُ لِسَانُهُ فَارِسِيًّا، أَوْ مَنْ بَلَدُهُ فَارِسُ، وَهُوَ إِقْلِيمٌ مِنْهُ شِيرَازُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
6254 -
وَعَنْهُ «قَالَ: ذُكِرَتِ الْأَعَاجِمُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَأَنَا بِهِمْ أَوْ بِبَعْضِهِمْ أَوْثَقُ مِنِّي بِكُمْ أَوْ بِبَعْضِكُمْ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6254 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: ذُكِرَتِ الْأَعَاجِمُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: بِالْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَأَنَا بِهِمْ أَوْ بِبَعْضِهِمْ ") : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَجْمُوعُهُمْ فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ:(أَوْ بَعْضِهِمْ أَوْثَقُ ")، أَيْ: أَرْجَى فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى طَلَبِ الدِّينِ (" مِنِّي بِكُمْ أَوْ بِبَعْضِكُمْ ") . قِيلَ: فِيهِ تَفْضِيلُ الْأَعَاجِمِ. أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ - فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 198 - 199] وَمِنْ قَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44] وَمِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، هَذَا وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَنَا: مُبْتَدَأٌ، وَأَوْثَقُ خَبَرُهُ، وَمِنِّي صِلَةُ أَوْثَقَ، وَالْبَاءُ فِي بِهِمْ مَفْعُولُهُ وَأَوْ عَطْفٌ عَلَى بِهِمْ، وَالْبَاءُ فِي بِكُمْ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْثَقُ وَأَوْفَى، أَوْ بَعْضُكُمْ عَطْفٌ عَلَى بِكُمْ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ أَيْضًا بِأَوْثَقَ إِذْ هُوَ فِي قُوَّةِ الْوُثُوقِ وَزِيَادَةٌ، فَكَأَنَّهُ فِعْلَانِ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَفْعُولَيْنِ أَوْ بِآخَرَ دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، وَالْمَعْنَى وُثُوقِي وَاعْتِمَادِي بِهِمْ أَوْ بِبَعْضِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ وُثُوقِي بِكُمْ أَوْ بِبَعْضِكُمْ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى الِانْسِحَابِ، وَالثَّانِي مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَالْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ بِكُمْ أَوْ بِبَعْضِكُمْ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ دَعَوْا إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَقَاعَدُوا عَنْهُ، فَهُوَ كَالتَّأْنِيبِ وَالتَّعْيِيرِ عَلَيْهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] فَإِنَّهُ جَاءَ عَقِيبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} [محمد: 38] يَعْنِي أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الْمُشَاهِدُونَ بَعْدَ مُمَارَسَتِكُمُ الْأَحْوَالَ وَعِلْمِكُمْ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ تُدْعَوْنَ إِلَيْهِ فَتَثَّبَّطُونَ عَنْهُ وَتَتَوَلَّوْنَ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ تَوَلِّيكُمْ يَسْتَبْدِلِ اللَّهُ قَوْمًا غَيْرَكُمْ بَذَّالِينَ لِأَرْوَاحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ فِي الشُّحِّ الْمُبَالَغِ فَهُوَ تَعْرِيضٌ وَبَعْثٌ لَهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّفْضِيلُ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّفْضِيلُ مُطْلَقًا، فَهُوَ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّفْضِيلُ الْمُطْلَقُ فَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَا بِدْعَ أَنْ يُوجَدَ فِي الْمَفْضُولِ زِيَادَةُ فَضِيلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ فَضَائِلِ الْفَاضِلِ، فَجِنْسُ الْعَرَبِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْعَجَمِ بِلَا شُبْهَةٍ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْعِبَادِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
6255 -
عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ سَبْعَةَ نُجَبَاءَ رُقَبَاءَ وَأُعْطِيْتُ أَنَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ. قُلْنَا: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: أَنَا وَابْنَايَ، وَجَعْفَرٌ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَبِلَالٌ، وَسَلْمَانُ، وَعَمَّارٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْمِقْدَادُ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
6255 -
(عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ سَبْعَةَ نُجَبَاءَ رُقَبَاءَ» ") ، بِإِضَافَةِ سَبْعَةَ وَهُمَا عَلَى وَزْنِ فُعَلَاءَ جَمْعٌ وَالنَّجِيبُ هُوَ الْكَرِيمُ الْمُخْتَارُ وَالرَّقِيبُ الْحَافِظُ عَلَى الِاقْتِدَارِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمَوْجُودُونَ فِي زَمَنِ كُلِّ نَبِيٍّ لِقَوْلِهِ:(" وَأُعْطِيتُ أَنَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ ") . أَيْ نَجِيبًا وَرَقِيبًا بِطَرِيقِ الضَّعْفِ تَفَضُّلًا (" قُلْنَا: مَنْ هُمْ؟ أَيِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ قَالَ: " أَنَا ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: فَاعِلُ ضَمِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ضَمِيرُ عَلِيٍّ رضي الله عنه يَعْنِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى أَيْ مَقُولَةُ أَنَا (" وَابْنَايَ ") ، أَيِ الْحَسَنَانِ (" وَجَعْفَرٌ ") أَيْ أَخُو عَلِيٍّ (" وَحَمْزَةُ ")، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كُنْيَتُهُ أَبُو عُمَارَةَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْهُمَا ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ، وَهُوَ أَسَدُ اللَّهِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْمَبْعَثِ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ إِسْلَامُ حَمْزَةَ بَعْدَ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَارَ الْأَرْقَمِ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، فَأَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِإِسْلَامِهِ وَشَهِدَ بَدْرًا. وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَتَلَهُ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا يَصِحُّ هَذَا عِنْدِي، لِأَنَّهُ رَضِيعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنْ تَكُونَ ثُوَيْبَةُ أَرْضَعَتْهُمَا فِي زَمَانَيْنِ، وَقِيلَ كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ بِسَنَتَيْنِ، رَوَى عَنْهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ اهـ. (" وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَبِلَالٌ، وَسَلْمَانُ، وَعَمَّارٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ وَالْمِقْدَادُ ") . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَرَاجِمُهُمْ وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
6256 -
وَعَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ كَلَامٌ فَأَغْلَظْتُ لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَانْطَلَقَ عَمَّارٌ يَشْكُونِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ خَالِدٌ وَهُوَ يَشْكُو إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَجَعَلَ يُغْلِظُ لَهُ وَلَا يَزِيدُهُ إِلَّا غِلْظَةً وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَبَكَى عَمَّارٌ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرَاهُ! فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأَسَهُ وَقَالَ: «مَنْ عَادَى عَمَّارًا عَادَاهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَ عَمَّارًا أَبْغَضَهُ اللَّهُ» . قَالَ خَالِدٌ: فَخَرَجْتُ فَمَا كَانَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رِضَا عَمَّارٍ فَلَقِيتُهُ بِمَا رَضِيَ فَرَضِيَ.
ــ
6256 -
(وَعَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مَخْزُومِيٌّ وَأُمُّهُ لُبَابَةُ الصُّغْرَى أُخْتُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَحَدَ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيْفَ اللَّهِ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ خَالَتِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَجُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ. (قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ كَلَامٌ) أَيْ مُكَالَمَةٌ فِي مُعَامَلَةٍ (فَأَغْلَظْتُ لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَانْطَلَقَ عَمَّارٌ يَشْكُونِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ خَالِدٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا كَلَامُ الرَّاوِي عَنْ خَالِدٍ، وَقَالَ: مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ، قَالَ خَالِدٌ: فَخَرَجْتُ. وَقَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ خَالِدٍ عَلَى الِالْتِفَاتِ. (وَهُوَ)، أَيْ: عَمَّارٌ (يَشْكُوهُ)، أَيْ: خَالِدًا (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ)، أَيِ: الرَّاوِي (فَجَعَلَ)، أَيْ: خَالِدٌ (يُغْلِظُ لَهُ)، أَيْ: لِعَمَّارٍ (فِي الْكَلَامِ وَلَا يَزِيدُهُ)، أَيْ: خَالِدٌ عَمَّارًا (إِلَّا غِلْظَةً)، أَيْ: شِدَّةً فِي الْغَضَبِ (وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ) ، تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ (فَبَكَى عَمَّارٌ)، أَيْ: مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ وَكَثْرَةِ غَضَبِهِ وَرَأَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَافِضٌ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ مُتَفَكِّرٌ فِي أَمْرِهِ فَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ (وَقَالَ)، أَيْ: عَمَّارٌ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرَاهُ) ؟ أَيْ أَلَا تَعْلَمُ خَالِدًا فِيمَا يَقُولُ فِي حَقِّي مِنَ الْغِلْظَةِ؟ (فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَأَسَهُ وَقَالَ: " مَنْ عَادَى عَمَّارًا)، أَيْ: بِلِسَانِهِ (" عَادَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ عَمَّارًا ")، أَيْ: بِقَلْبِهِ (" أَبْغَضَهُ اللَّهُ ". قَالَ خَالِدٌ: فَخَرَجْتُ)، أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ تَسْكِينًا لِلْقَضِيَّةِ، أَوْ عَلَى قَصْدِ إِرْضَاءِ عَمَّارٍ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(فَمَا كَانَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رِضَى عَمَّارٍ) . أَيْ بَعْدَمَا خَرَجْتُ (فَلَقِيتُهُ)، أَيْ: فَوَاجَهْتُهُ (بِمَا رَضِيَ) أَيْ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالِاسْتِحْلَالِ وَالِاعْتِنَاقِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الرِّضَا (فَرَضِيَ)، أَيْ: عَمَّارٌ عَنِّي رضي الله عنهما.
6257 -
وَعَنْ أَبِي عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «خَالِدٌ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ عز وجل وَنِعْمَ فَتَى الْعَشِيرَةِ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
ــ
6257 -
(وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ)، أَيِ: ابْنِ الْجَرَّاحِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " خَالِدٌ سَيْفٌ ")، أَيْ: كَسَيْفٍ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْكَافِرِينَ، أَوْ ذُو سَيْفٍ (" مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ عز وجل ") ، أَيْ حَيْثُ يُقَاتِلُ مُقَاتَلَةً شَدِيدَةً فِي سَبِيلِهِ مَعَ أَعْدَاءِ دِينِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] جَعَلَ بِالِادِّعَاءِ جِنْسَ السُّيُوفِ نَوْعَيْنِ مُتَعَارَفٌ وَغَيْرُهُ وَخَالِدٌ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْهِ اهـ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ سَلَامَةُ قَلْبِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوِ الْمُضَافُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: إِلَّا مَالَ وَابْنَ مَنْ أَتَى اللَّهَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، أَوِ التَّقْدِيرُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ أَحَدًا إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. (" وَنِعْمَ فَتَى الْعَشِيرَةِ ") . أَيْ فِي بَنِي مَخْزُومٍ وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ أَيْ هُوَ (رَوَاهُمَا)، أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (أَحْمَدُ) . وَفِي الْجَامِعِ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ» ". وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفُ اللَّهِ وَسَيْفُ رَسُولِهِ، وَحَمْزَةُ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَمِينُ اللَّهِ وَأَمِينُ رَسُولِهِ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مِنْ أَصْفِيَاءِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ تُجَّارِ الرَّحْمَنِ عز وجل.
6258 -
وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أَمَرَ بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِّهِمْ لَنَا؟ قَالَ: عَلِيٌّ مِنْهُمْ، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْمِقْدَادُ، وَسَلْمَانُ، أَمَرَنِي بِحُبِّهِمْ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
6258 -
(وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أَمَرَنِي بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ ")، أَيْ: عَلَى الْخُصُوصِ (وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ)، أَيْ: سبحانه وتعالى (يُحِبُّهُمْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِّهِمْ لَنَا) أَيْ حَتَّى نَحْنُ نُحِبُّهُمْ أَيْضًا تَبَعًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (قَالَ: " عَلِيٌّ مِنْهُمْ ") : وَفِي نُسْخَةِ الْجَامِعِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ (" يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا ") . أَيْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ أَفْضَلَهُمْ أَوْ يُحِبُّهُ قَدْرَ ثَلَاثَتِهِمْ (" وَأَبُو ذَرٍّ وَالْمِقْدَادُ، وَسَلْمَانُ، أَمَرَنِي بِحُبِّهِمْ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ) . هَذَا فَذْلَكَةٌ مُفِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَا سَبَقَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) . وَلَفَظُ الْجَامِعِ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي بِحُبِّ أَرْبَعَةٍ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ عَلِيٌّ مِنْهُمْ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْمِقْدَادُ، وَسَلْمَانُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ - وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.
6259 -
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: " أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلَالًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6259 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا) ، أَيْ خَيْرُنَا وَأَفْضَلُنَا (وَأَعْتَقَ)، أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (سَيِّدَنَا، يَعْنِي)، أَيْ: يُرِيدُ عُمَرُ بُقُولِهِ سَيِّدَنَا الثَّانِي (بِلَالًا) . وَإِنَّمَا قَالَهُ تَوَاضُعًا، فَإِنَّ عُمَرَ أَفْضَلُ مِنْهُ إِجْمَاعًا. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: يَعْنِي أَنَّ بِلَالًا مِنَ السَّادَةِ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّيِّدُ الْأَوَّلُ حَقِيقَةً، وَالثَّانِي قَالَهُ عُمَرُ تَوَاضُعًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذِ السِّيَادَةُ لَا تُثْبِتُ الْأَفْضَلِيَّةَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ؟ مَا رَأَيْتُ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنَّهُ رَأَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَالَ: ابْنُ عُمَرَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَسْوَدُ فِي زَمَانِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
6260 -
وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ: أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِنَفْسِكَ فَأَمْسِكْنِي، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِلَّهِ فَدَعْنِي وَعَمَلَ اللَّهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6260 -
(وَعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَحْمَسِيٌّ بَجَلِيٌّ، أَدْرَكَ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمَ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُبَايِعَهُ، فَوَجَدَهُ تُوُفِّيَ، يُعَدُّ فِي تَابِعِي الْكُوفَةِ، رَوَى عَنِ الْعَشَرَةِ إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ سِوَاهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّابِعِينَ مَنْ رَوَى عَنْ تِسْعَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَّا هُوَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، شَهِدَ النَّهْرَوَانَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَطَالَ عُمُرُهُ حَتَّى جَاوَزَ الْمِائَةَ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ (أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ)، أَيْ: حِينَ أَرَادَ التَّوَجُّهَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَدَمِ صَبْرِهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ بِغَيْرِ حُضُورِهِ صلى الله عليه وسلم وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ فِيهِ، وَلَا عَلَى تَرْكِهِ فِي زَمَنِ غَيْرِهِ، وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ صَارَ سَيِّدَ الْأَبْدَالِ وَمَحَلُّهُمْ غَالِبًا هُوَ الشَّامُ. (وَمَنَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه)، أَيْ: عَنِ الرَّوَاحِ بِإِلْزَامٍ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ مَعَ اخْتِيَارِ الْأَذَانِ (إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِنَفْسِكَ)، أَيْ: لِرِضَاهَا وَوَفْقِ مُدَّعَاهَا (فَأَمْسِكْنِي) ، أَيْ فَاحْكُمْ عَلَيَّ بِالْقُعُودِ (وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِلَّهِ فَدَعْنِي)، أَيْ: فَاتْرُكْنِي (وَعَمَلَ اللَّهِ) . أَيِ الْعَمَلَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ لِلَّهِ، أَوِ الْأَمْرَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ رَحِيلِ بِلَالٍ، ثُمَّ رُجُوعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ وَآذَانُهُ بِهَا، وَارْتِجَاجُ الْمَدِينَةِ بِهِ، فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهِيَ بَيِّنَةُ الْوَضْعِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الذَّيْلِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
6261 -
ــ
6261 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ) . أَيْ فَقِيرٌ أَصَابَهُ الْجُهْدُ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَالْحَاجَةُ أَوِ الْجُوعُ فَأَرْسَلَ) ، أَيِ: النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام (إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ)، أَيْ: مِنَ الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ (فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي)، أَيْ: مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ (إِلَّا مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ) . أَيْ وَهَكَذَا حَتَّى أَرْسَلَهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ (وَقُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ) ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْحَالِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ خَيْبَرَ وَغَيْرَهَا، وَيَحْصُلَ الْغَنَائِمَ وَالْأَمْوَالَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ يُضِيفُهُ ") ؟ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ، فَمَنْ مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ:(" يَرْحَمْهُ اللَّهُ " فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ) ، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ، زَوْجُ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَسَبَقَ ذِكْرُهُ. (فَقَالَ: أَنَا) ، أَيْ: أُضِيفُهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَانْطَلَقْ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ)، أَيْ: مَنْزِلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ) ؟ أَيْ مِنَ الطَّعَامِ (قَالَتْ: لَا، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ أَيْ: إِلَّا قُوتَ الصِّغَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ يَجُوعُونَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِجَاعَةُ الصِّبْيَانِ وَإِضَاعَتُهُمْ وَإِطْعَامُ الضِّيفَانِ وَإِطَاعَتُهُمْ. (قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ) ، أَيْ: سَكِّنِيهِمْ مِنْ عَلَّلَهُ بِشَيْءٍ أَيْ أَلْهَاهُ (وَنَوِّمِيهِمْ) ، أَيْ رَقِّدِيهِمْ، وَكَأَنَّهُ قَصَدَ أَنَّهُمْ إِنْ يَرَوْا أَكْلَ الضَّيْفِ فَيَشْتَهُوا كَمَا هُوَ عَادَةُ الْأَوْلَادِ (فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَرِيهِ)، أَيْ: فَأَحْضِرِيهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَجُوزًا، وَالْقَضِيَّةُ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَأَظْهِرِيهِ (أَنَّا)، أَيْ: جَمِيعَنَا (نَأْكُلُ) ، أَيْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ، فَإِنَّ الضَّيْفَ إِذَا رَأَى أَنَّ أَحَدًا امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ رُبَّمَا تَشَوَّشَ خَاطِرُهُ (فَإِذَا أَهْوَى)، أَيْ: قَصَدَ الضَّيْفُ وَمَدَّ (بِيَدِهِ لِيَأْكُلَ، فَقَوْمِي إِلَى السِّرَاجِ كَيْ تُصْلِحِيهِ)، أَيْ: لِإِصْلَاحِهِ فَكَيْ تَعْلِيلِيَّةٌ (فَأَطْفِئِيهِ) ، أَيْ لِيَقَعَ الظَّلَامُ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَى امْتِنَاعِنَا مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ (فَفَعَلَتْ، فَقَعَدُوا) ، أَيْ ثَلَاثَتِهِمْ (وَأَكَلَ الضَّيْفُ، وَبَاتَا طَاوِيَيْنِ) ، أَيْ جَائِعَيْنِ (فَلَمَّا أَصْبَحَ)، أَيِ: الضَّيْفُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ هَاهُنَا تَامَّةٌ وَقَوْلُهُ (غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : جَوَابُ لَمَّا وَضَمَّنَ فِيهِ مَعْنًى.
الْإِقْبَالِ أَيْ: لَمَّا دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَادِيًا اهـ. وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَالْمَعْنَى ذَهَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَدْوَةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: بِنُورِ الْكَشْفِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ (" لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ) : وَالْمَعْنَى رَضِيَ (" مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةٍ ") . أَيْ أَبِي طَلْحَةَ وَامْرَأَتِهِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ مِثْلَهُ) بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ مِثْلَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ (وَلَمْ يُسَمِّ أَبَا طَلْحَةَ) أَيْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (وَفِي آخِرِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ، أَيْ: أَضْيَافَهُمْ أَوْ غَيْرَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: عَلَى حُظُوظِهَا وَلَوْ كَانَ، أَيْ: وَقَعَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ أَيْ حَاجَةٌ وَمَجَاعَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَوْ بِمَعْنَى الْفَرْضِ أَيْ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَفْرُوضَةً خَصَاصَتُهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
6262 -
وَعَنْهُ قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلًا فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ هَذَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَأَقُولُ: فُلَانٌ. فَيَقُولُ: نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا، وَيَقُولُ: مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ: فُلَانٌ. فَيَقُولُ: بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى مَرَّ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَقَالَ: نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
6262 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلًا فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ)، أَيْ عَلَيْنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ هَذَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَأَقُولُ: فُلَانٌ) ، أَيْ: أُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ وَوَصْفِهِ (فَيَقُولُ: " نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا " وَيَقُولُ) ، أَيْ: فِي مَارٍّ غَيْرِهِ (" مَنْ هَذَا " فَأَقُولُ: فُلَانٌ. فَيَقُولُ: " بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا ") : وَهَذَا مِنْ بَابِ مَا رَوَى أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا: «اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرُهُ النَّاسُ» . (حَتَّى مَرَّ) ، أَيِ: اسْتَمَرَّ هَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ حَتَّى مَرَّ (خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ: " مَنْ هَذَا " فَأَقُولُ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) : وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي خَيْمَةٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ خَارِجُهَا، وَإِلَّا فَمِثْلُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ رضي الله عنه (فَقَالَ: " نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ ") ، أَيْ: هَذَا (خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ) : أَوِ التَّقْدِيرُ نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، وَالْجُمْلَةُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مُبَيِّنَةٌ لِسَبَبِ الْمَدْحِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
6263 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «قَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَتْبَاعٌ وَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا فَدَعَا بِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6263 -
(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! لِكُلِّ نَبِيٍّ أَتْبَاعٌ وَإِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاكَ)، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ أَيْ بَالَغْنَا فِي اتِّبَاعِكَ (فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ أَتْبَاعَنَا مِنَّا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ تَسْتَدْعِي مَحْذُوفًا أَيْ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَتْبَاعٌ، وَنَحْنُ أَتْبَاعُكَ لِأَنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ أَتْبَاعُنَا مِنَّا أَيْ مُتَّصِلِينَ بِنَا مُقْتَفِينَ أَثَارَنَا بِإِحْسَانٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] وَقَالَ غَيْرُهُ: أَتْبَاعُ الْأَنْصَارِ حُلَفَاؤُهُمْ وَالْمَوَالِي، وَالْمَعْنَى ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُقَالَ لَهُمُ الْأَنْصَارُ حَتَّى يَتَنَاوَلَهُمُ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (فَدَعَا)، أَيِ: النَّبِيُّ عليه السلام بِهِ. أَيْ فَجَعَلَ أَتْبَاعَهُمْ مِنْهُمْ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
6264 -
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَعَزَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: وَقَالَ أَنَسٌ: قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ سَبْعُونَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
6264 -
(وَعَنْ قَتَادَةَ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ مَشْهُورٌ سَبَقَ ذِكْرُهُ (قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا)، أَيْ: مَا نَعْرِفُ قَبِيلَةً وَقَوْمًا (مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ)، أَيْ: مِنْ قَبَائِلِهِمْ (أَكْثَرَ شَهِيدًا) : صِفَةُ حَيًّا بَعْدَ صِفَةٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ (أَعَزَّ، أَيْ: شَهِيدًا (يَوْمَ