الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذَا غَايَةُ الْقُرْبِ وَنِهَايَةُ الْحُبِّ، ثُمَّ بِمُقْتَضَى الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَمْعِ، وَالتَّدَلِّي بَعْدَ التَّرَقِّي، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْبِدَايَةِ بَعْدَ الْعُرُوجِ إِلَى النِّهَايَةِ لِلْحِكَمِ الصَّمَدَانِيَّةِ، وَلِلْقِسَمِ الْفَرْدَانِيَّةِ رَجَعَ عَنْ حَالِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالدَّوْلَةِ الْخَاتَمِيَّةِ، وَاجْتَمَعَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ثَانِيًا، وَنَزَلُوا مَعَهُ مُتَقَدِّمِينَ أَوْ مُتَأَخِّرِينَ، وَتَبَايُنًا إِلَى أَنِ اجْتَمَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى آخِرًا، وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ فَآخَرُ.
ثُمَّ قَوْلُهُ: (فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ صُعُودِهِ وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَ شُهُودِهِ (قَالَ لِي قَائِلٌ) : هُوَ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ مَلَكٍ جَلِيلٍ (يَا مُحَمَّدُ! هَذَا خَازِنُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ) ، أَيْ تَعْظِيمًا لِجَلَالِ الْمَلِكِ الْقَهَّارِ أَوْ تَوَاضُعًا كَمَا هُوَ دَأْبُ الْأَبْرَارِ، (فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ)، أَيْ عَلَى قَصْدِ السَّلَامِ عَلَيْهِ (فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ) . أَيْ لِمَا عَرَفَ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَقَامِ وَآدَابِ الْكِرَامِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا بَدَأَ بِالسَّلَامِ لِيُزِيلَ مَا اسْتَشْعَرَهُ مِنَ الْخَوْفِ مِنْهُ، بِخِلَافِ سَلَامِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ابْتِدَاءً كَمَا سَبَقَ. قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ تَوَاضُعًا لَهُ وَتَكْرِيمًا لَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ قَائِمًا وَهُمْ قُعُودٌ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي آدَمَ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مَارًّا وَهُمْ وُقُوفٌ، وَهُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ، أَوْ لِأَنَّهُ حَيٌّ وَإِنَّهُمْ فِي صُورَةِ الْأَمْوَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالَاتِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) أَيْ: فَلَا تَسْتَغْرِبْ مِنْ قَوْلِهِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5867 -
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(لَمَّا كَذَّبَنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5867 -
(عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَمَّا كَذَّبَنِي) أَيْ: نَسَبَنِي إِلَى الْكَذِبِ (قُرَيْشٌ) أَيْ: فِيمَا ذَكَرْتُ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَطَلَبُوا مِنْ عَلَامَاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا فِي طَرِيقِهِ مِنَ الْإِنْسِ (قُمْتُ فِي الْحِجْرِ) أَيْ: فِي مَوْضِعِ بُدِئَ بِيَ الصُّعُودُ أَوَّلًا لِيَنْجَلِيَ لِيَ الشُّهُودُ ثَانِيًا (فَجَلَّى اللَّهُ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ التَّجْلِيَةِ أَيْ: فَأَظْهَرَ (لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ)، أَيْ: وَطَرِيقَهُ الْأَقْدَسَ (فَطَفِقْتُ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ قَبْلَ الْقَافِ أَيْ: فَشَرَعْتُ (أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ) أَيْ: عَلَامَاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَدَلَالَاتِهِ مِمَّا يَكُونُ مِنْ شَوَاهِدِ حَالَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَلَائِلِ مُعْجِزَاتِهِ (وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ) أَيْ: كَأَنَّ نَظَرِي وَاقِعٌ عَلَيْهِ، وَجَسَدِي حَاضِرٌ لَدَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
[بَابٌ فِي الْمُعْجِزَاتِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5868 -
ــ
[7]
بَابٌ فِي الْمُعْجِزَاتِ
الْمُعْجِزَةُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقُدْرَةِ، وَفِي التَّحْقِيقِ: الْمُعْجِزُ فَاعِلُ الْعَجْزِ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَسُمِّيَتْ دَلَالَاتُ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَعْلَامِ الرُّسُلِ مُعْجِزَةَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِمْ بِمِثْلِهَا، وَالْهَاءُ فِيهَا إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ كَآيَةٍ وَعَلَامَةٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5868 -
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِّيقَ رضي الله عنه ، بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي أَصَحِّ النُّسَخِ بِنَاءً عَلَى نِهَايَةِ خُصُوصِيَّتِهِ، وَغَايَةِ مَزِيَّتِهِ، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنَسٍ كَالسَّيِّدِ وَالْغُلَامِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ الْأُسْتَاذُ، وَإِلَيْهِ الْإِسْنَادُ، مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ التَّرْضِيَةَ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ. وَفِي نُسْخَةٍ رضي الله عنهما جَمْعًا بَيْنَهُمَا لِأَدَاءِ حُقُوقِهِمَا،
وَأَصْلِ اسْتِحْقَاقِهِمَا، (قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا) أَيْ: كَأَنَّهَا فَوْقَ رُءُوسِنَا (وَنَحْنُ) أَيْ: أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فِي الْغَارِ)، اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] أَيْ غَارُ ثَوْرٍ لِلِاخْتِفَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى قَصْدِ الْهِجْرَةِ إِلَى الدَّارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْغَارُ نَقْبٌ فِي أَعْلَى ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ بِمِنَى مَكَّةَ عَلَى مَسِيرَةِ سَاعَةٍ أَيْ: سَاعَةٍ نُجُومِيَّةٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا مُدَّةٌ قَلِيلَةٌ. قِيلَ: طَلَعَ الْمُشْرِكُونَ فَوْقَ الْغَارِ فِي طَلَبِ سَيِّدِ الْأَبْرَارِ، فَأَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: إِنْ تُصَبِ الْيَوْمَ ذَهَبَ دِينُ اللَّهِ. وَقَالَ أَيْضًا مِنْ كَمَالِ الِاضْطِرَابِ خَوْفًا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَابِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ عَنْهُ، (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمِهِ) أَيْ: مَوْضِعِهَا (أَبْصَرَنَا)، أَيْ لِتَقَابُلِنَا (قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) ؟ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وَنِسْبَةُ الْإِخْرَاجِ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ سَبَبًا لِخُرُوجِهِ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اللَّهُمَّ اعْمِ أَبْصَارَهُمْ) فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ حَوْلَ الْغَارِ وَلَا يَفْطُنُونَ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْهُ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقِصَّةَ بِانْضِمَامِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ قَضِيَّةُ الْحَمَامَةِ وَالْعَنْكَبُوتِ حَيْثُ أَظْهَرَهَا اللَّهُ فِي عُيُونِهِمْ عَلَى بَابِ الْغَارِ تَصِيرُ مُعْجِزَةً، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: اللَّهُ ثَالِثُهُمَا جَاعِلُهُمَا ثَلَاثَةً بِضَمِّ نَفْسِهِ تَعَالَى إِلَيْهِمَا فِي الْمَعِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ:{لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46] ؟ قُلْتُ: بَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:(مَعَكُمَا) نَاصِرُكُمَا وَحَافِظُكُمَا مِنْ مَضَرَّةِ فِرْعَوْنَ وَمَعْنَى قَوْلِ: اللَّهُ ثَالِثُهُمَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَاعِلُهُمَا ثَلَاثَةً، فَيَكُونُ سُبْحَانَهُ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشْتَرِكٌ فِيمَا لَهُ، وَعَلَيْهِ مِنَ النُّصْرَةِ وَالْخِذْلَانِ.
فَإِنْ قُلْتَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ: اللَّهُ ثَالِثُهُمَا. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: ثَالِثُهُمَا اللَّهُ؟ قُلْتُ: يُفِيدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُمَا مُخْتَصَّانِ بِأَنَّ اللَّهَ ثَالِثُهُمَا، وَلَيْسَ بِثَالِثِ غَيْرِهِمَا، وَفِي عَكْسِهِ يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ثَالِثُهُمَا لَا غَيْرُهُ، وَكَمْ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ؟ وَقَالَ أَكْمَلُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: اسْتُشْكِلَ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: ثَالِثُهُمَا إِطْلَاقُ الثَّالِثِ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ كَلَامٌ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ زَيْغٌ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] إِطْلَاقُ الثَّالِثِ عَلَيْهِ كُفْرٌ، وَكَفَرَ الْقَائِلُونَ بِهِ فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ إِضَافَةُ الثَّالِثِ إِلَى عَدَدٍ أَنْقَصَ مِنْهُ بِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَهُوَ مَصِيرُ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي الْآيَةِ إِضَافَتُهُ إِلَى عَدَدٍ مِثْلِهِ وَذَلِكَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. قُلْتُ: وَكَذَا زَالَ الْإِشْكَالُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] حَيْثُ لَمْ يَقُلْ ثَالِثُهُمْ وَخَامِسُهُمْ، ثُمَّ رَفَعَ وَهْمُ الْمَعِيَّةِ الْكَائِنَةِ بِالْحُجَّةِ السِّيحَانِيَّةِ وَالْبَيِّنَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ، حَيْثُ عَمَّمَ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ:{وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] الْآيَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5869 -
«وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ! حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَمِنَ الْغَدِ، حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ.
وَخَلَا الطَّرِيقُ لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ، لَهَا ظِلٌّ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا الشَّمْسُ، فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا، وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَانًا بِيَدَيَّ يَنَامُ عَلَيْهِ، وَبَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً، وَقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَنْفُضُ مَا حَوْلَكَ، فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ، قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: أَفَتَحْلِبُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخَذَ شَاةً فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْتَوَى فِيهَا، يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ، فَأَتَيْتُ الْنَبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فَوَافَقْتُهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ، فَصَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ:(أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟) قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا مَالَتِ الشَّمْسُ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، فَقُلْتُ: أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [الفاتحة: 40 - 29676] فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا فِي جَلَدٍ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: إِنِّي أَرَاكُمَا دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَجَا، فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: كُفِيتُمْ، مَا هَاهُنَا، فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.»
ــ
5869 -
(وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) ، صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ! حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ) : مِنْ سَرَى لُغَةٌ فِي أَسْرَى بِمَعْنَى السَّيْرِ فِي اللَّيْلِ أَيْ: حِينَ سَافَرْتَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْغَارِ ( [مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم] قَالَ: أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا) أَيْ: جَمِيعَهَا (وَمِنَ الْغَدِ)، أَيْ: وَبَعْضِهِ وَهُوَ نِصْفُهُ كَمَا يُفِيدُ قَوْلُهُ: (حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ)، أَيْ: بَلَغَتِ الشَّمْسُ وَسْطَ السَّمَاءِ، فَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: قَامَتِ الشَّمْسُ وَقْتَ الزَّوَالِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَامَتْ بِهِ دَابَّتُهُ، أَيْ: وَقَفَتْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا بَلَغَتْ وَسْطَ السَّمَاءِ أَبْطَأَتْ حَرَكَةَ الظِّلِّ.
إِلَى أَنْ تَزُولَ، فَيَحْسَبُ النَّاظِرُ أَنَّهَا قَدْ وَقَفَتْ وَهِيَ سَائِرَةٌ، لَكِنْ سَيْرًا لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ سَرِيعٌ كَمَا يَظْهَرُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، فَيُقَالُ لِذَلِكَ الْوُقُوفِ الْمُشَاهَدِ: قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ (وَخَلَا الطَّرِيقُ) أَيْ: صَارَ خَالِيًا عَنْ مُرُورِ الْفَرِيقِ (لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ) ، تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوْ بَيَانٌ (فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ)، أَيْ أُظْهِرَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْهُ رَفْعُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ إِذَاعَتُهُ وَإِظْهَارُهُ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ خَاصٌّ بِمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَسُمِّيَ الْحَدِيثُ بِهِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ الرِّفْعَةِ بِسَبَبِهِ أَيْ: لِتِلْكَ الصَّخْرَةِ (ظِلٌّ) أَيْ: عَظِيمٌ مِنْ صِفَتِهِ (إِنَّهُ لَمْ تَأْتِ) : بِالتَّأْنِيثِ وَيُذَكَّرُ أَيْ: لَمْ تَحْكُمْ عَلَيْهِ (الشَّمْسُ) ، أَيْ بِشُعَاعِهَا حِينَئِذٍ (فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا)، أَيْ عِنْدَ الصَّخْرَةِ (وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَانًا بِيَدَيَّ) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ إِشْعَارًا بِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ فِي الْخِدْمَةِ (يَنَامُ عَلَيْهِ) ، اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَوْ صِفَةٌ لِمَكَانًا (وَبَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً)، أَيْ: وَفَرَشْتُ عَلَى الْمَكَانِ جِلْدًا بِشَعْرِهِ (وَقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَنَا أَنْفُضُ مَا حَوْلَكَ)، بِضَمِّ الْفَاءِ أَيْ: أَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَأَتَفَحَّصُ عَنِ الْعَدُوِّ، وَأَرَى هَلْ هُنَاكَ مُؤْذٍ مِنْ عَدُوٍّ وَغَيْرِهِ؟ مِنَ النَّفْضِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ النَّظَافَةِ مِنْ نَحْوِ الْغُبَارِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: أَحْرُسُكَ وَأَطُوفُ هَلْ أَرَى طَلَبًا؟ يُقَالُ: نَفَّضْتُ الْمَكَانَ إِذَا نَظَرْتُ جَمِيعَ مَا فِيهِ، وَالنَّفْضَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِهَا وَالنَّفِيضَةُ قَوْمٌ يُبْعَثُونَ مُتَجَسِّسِينَ هَلْ يَرَوْنَ عَدُوًّا أَوْ خَوْفًا؟ (فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ) ، بِالْجَرِّ صِفَةُ رَاعٍ، وَمَعْنَاهُ جَاءَ مِنْ قِبَلِنَا وَمِنْ جِهَةِ قُدَّامِنَا. (قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ) ؟ بِضَمِّ اللَّامِ وَيَجُوزُ كَسْرُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمَعْنَى أَفَتَحْلُبُهَا لِي؟ (قَالَ: نَعَمْ. فَأَخَذَ شَاةً فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ) ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ أَيْ: فِي قَدَحٍ مِنْ خَشَبٍ مُقَعَّرٍ (كُثْبَةً) : بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ فَمُوَحَّدَةٍ أَيْ: قَدْرَ حَلْبَتِهِ (مِنْ لَبَنٍ)، وَقِيلَ: مِلْءُ الْقَدَحِ مِنَ اللَّبَنِ، فَقَوْلُهُ: مِنْ لَبَنٍ عَلَى قَصْدِ التَّجْرِيدِ أَوْ لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ (وَمَعِي إِدَاوَةٌ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ أَيْ: ظَرْفُ مَاءٍ مُطَهِّرَةٍ أَوْ سِقَايَةٍ (حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: خَاصَّةً أَوْ خَالِصَةً فِي النِّيَّةِ وَقَصْدَ الطَّوِيَّةِ (يَرْتَوِي فِيهَا)، قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: رَوِيتُ مِنَ الْمَاءِ بِالْكَسْرِ وَارْتَوَيْتُ وَتَرَوَّيْتُ كُلُّهَا بِمَعْنًى. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يَرْتَوِي مِنْهَا لَا فِيهَا. قُلْتُ: فِي الْقَامُوسِ: إِنَّ فِي تَأْتِي بِمَعْنَى (مِنْ)، أَوِ التَّقْدِيرُ يَرْتَوِي مِنَ الْمَاءِ فِيهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَى يَرْتَوِي فِيهَا جَعَلَ الْقَدَحَ آلَةً لِلرِّيِّ وَالسَّقْيِ، وَمِنْهُ الرِّوَايَةُ الْإِبِلُ الَّتِي يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ اهـ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ، ثُمَّ قَوْلُهُ:(يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ) ، مُسْتَأْنَفَانِ لِلْبَيَانِ، وَالْجُمْلَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ: وَمَعِي إِلَخْ، حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَحَلَبَ، وَقَوْلِهِ:(فَأَتَيْتُ الْنَبِيَّ صلى الله عليه وسلم) ، أَيْ بِاللَّبَنِ
(فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ)، أَيْ أُنَبِّهُهُ مِنَ النَّوْمِ لِاسْتِغْرَاقِهِ فِيهِ (فَوَافَقْتُهُ) : بِتَقَدُّمِ الْفَاءِ عَلَى الْقَافِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحِّحَةِ أَيْ: تَأْنِيثٌ بِهِ (حَتَّى اسْتَيْقَظَ) : وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ أَيْ: فَوَافَقْتُهُ فِي النَّوْمِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى فَوَافَقْتُهُ فِي اخْتِيَارِهِ النَّوْمَ، لِأَنَّ الْإِيقَاظَ نَوْعُ مُخَالَفَةٍ لَهُ. قَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ حِينَ اسْتَيْقَظَ أَيْ: وَافَقَ إِتْيَانِي وَقْتَ اسْتِيقَاظِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَوَافَقْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ. وَقَالَ شَارِحٌ: رُوِيَ بِتَقْدِيمِ الْقَافِ عَلَى الْفَاءِ مِنَ الْوُقُوفِ، وَالْمَعْنَى صَبَرْتُ عَلَيْهِ، وَتَوَقَّفْتُ فِي الْمَجِيءِ إِلَيْهِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ (فَصَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ) أَيْ: بَعْضِهِ (عَلَى اللَّبَنِ) أَيْ: تَبْرِيدًا (حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ) : كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَتِهِ (فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ) أَيْ: طَابَ خَاطِرِي (ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ) ؟ مِنْ أَنَى يَأْنِي إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الشَّيْءِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الرَّحِيلِ؟ كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، وَالْأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى أَلَمْ يَأْتِ وَقْتَ التَّحْوِيلِ لِلرَّحِيلِ؟ وَهُوَ السَّيْرُ الْجَمِيلُ إِلَى مَوْضِعِ النَّخِيلِ، فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ
تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16](قُلْتُ: بَلَى. قَالَ) أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا مَالَتِ الشَّمْسُ) أَيْ: مِنْ وَسَطِ السَّمَاءِ، وَحَصَلَ بَرْدُ الْهَوَاءِ (وَاتَّبَعَنَا) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ أَيْ: وَقَدْ لَحِقَنَا (سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ) : بِضَمِّ السِّينِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ الْكِنَانِيُّ، كَانَ يَنْزِلُ قُدَيْدًا، وَيُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا (فَقُلْتُ: أُتِينَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أَتَانَا الْعَدُوُّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ) أَيْ: سَاخَتْ قَوَائِمُهَا كَمَا تَسُوخُ فِي الرَّمْلِ (إِلَى بَطْنِهَا فِي جَلَدٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: صُلْبٌ مِنَ الْأَرْضِ (فَقَالَ: إِنِّي أَرَاكُمَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ مِنَ الرَّأْيِ (دَعَوْتُمَا عَلَيَّ)، أَيْ بِالْمَضَرَّةِ (فَادْعُوَا لِي) ؟ أَيْ بِالْمَنْفَعَةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ (فَاللَّهُ لَكُمَا) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. قَالَ شَارِحٌ: هُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ أَيْ: فَاللَّهُ كَفِيلٌ عَلَيَّ لَكُمَا أَنْ لَا أَهُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِغَدْرِكُمَا، أَوْ فَاللَّهُ مُسْتَجِيبٌ وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ:(أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ)، مُتَعَلِّقٌ بِادْعُوَا أَيْ: لِأَنْ أَرُدَّ أَوْ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: أَسْأَلُ اللَّهَ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّالِبَ أَيْ: طَلَبَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ طَلَبُوكُمَا. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: الْجَارُّ مَحْذُوفٌ. وَتَقْدِيرُهُ: بِأَنْ أَرُدَّ. وَقَوْلُهُ: فَاللَّهُ لَكُمَا حَشْوٌ بَيْنَهُمَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فَاللَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَلَكُمَا خَبَرُهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ أَرُدَّ خَبَرٌ ثَانٍ لِلْمُبْتَدَأِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَاهُ فَادْعُوَا لِي كَيْ لَا يَرْتَطِمَ فَرَسِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ طَلَبَكُمَا وَلَا أَتْبَعْكُمَا بَعْدُ، ثُمَّ دَعَا لَهُمَا بِقَوْلِهِ: فَاللَّهُ لَكُمَا أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى حَافِظُكُمَا وَنَاصِرُكُمَا حَتَّى تَبْلُغَا بِالسَّلَامَةِ إِلَى مَقْصِدِكُمَا، أَيْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ادْعُوَا لِي حَتَّى أَنْصَرِفَ عَنْكُمَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِكُمَا عَنِّي وَحَبَسَنِي عَنِ الْبُلُوغِ إِلَيْكُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي (فَاللَّهُ) تَقْتَضِي مَا يَتَرَتَّبُ بَعْدَهَا عَلَيْهِ، فَالتَّقْدِيرُ ادْعُوَا لِي بِأَنْ أَتَخَلَّصَ مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَإِنَّكُمَا إِنْ فَعَلْتُمَا فَاللَّهُ أَشْهَدُ لِأَجْلِكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّقْدِيرَ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَاللَّهِ عَلَى الْقَسَمِ أَيْ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَكُمَا عَلَى أَنْ أَرُدَّ الطَّلَبَ عَنْكُمَا.
(فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَجَا)، أَيْ: فَتَخَلَّصَ مِنَ الْعَنَاءِ كَمَا رَجَا (فَجَعَلَ) أَيْ: فَشَرَعَ فِي الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ (لَا يَلْقَى أَحَدًا) أَيْ: مِنْ وَرَائِهِمَا (إِلَّا قَالَ: كُفِيتُمْ) ، بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ: لَقَدْ كُفِيتُمْ أَيْ، اسْتَغْنَيْتُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْجَانِبِ، لِأَنِّي كَفَيْتُكُمْ ذَلِكَ (مَا هَاهُنَا) أَيْ: لَيْسَ هَاهُنَا (أَحَدٌ) : فَمَا: نَافِيَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، مَا هَاهُنَا بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ كُفِيتُمُ الَّذِي هَاهُنَا اهـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ كَمَا لَا يَخْفَى، كَقَوْلِهِ:(فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ) . أَيْ بِهَذَا الْمَعْنَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الظَّاهِرَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْفَضِيلَةُ الْبَاهِرَةُ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه مِنْ وُجُوهٍ، وَفِيهِ خِدْمَةُ التَّابِعِ لِلْمَتْبُوعِ، وَاسْتِصْحَابُ الرِّكْوَةِ وَنَحْوِهَا فِي السَّفَرِ لِلطَّهَارَةِ وَالشُّرْبِ، وَفِيهِ فَضْلُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنُ عَاقِبَتِهِ.
5870 -
«وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ:
فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدَ، إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ:(أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ آنِفًا ; أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزْعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ) . قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا إِسْلَامِي مِنْ قَبْلِ أَنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونَنِي، فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ:(أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ؟) قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا فَقَالَ:(أَرَأَيْتَ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟) قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، فَانْتَقَصُوهُ، قَالَ: هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ!» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5870 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) : بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَمِنْ أَوْلَادِ يُوسُفَ عليه السلام، وَكَانَ أَوَّلًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَأَعْلَمِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ، (فَعَلِمَ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالدَّالِ أَيْ: بِقُدُومِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ (وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ ابْنَ سَلَامٍ (فِي أَرْضٍ) أَيْ: فِي بُسْتَانٍ (يَخْتَرِفُ) أَيْ: يَجْتَنِي مِنَ الْفَوَاكِهِ (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: فَجَاءَهُ (فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ) أَيْ: ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ (لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ) أَيْ: أَوْ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ أَوْ مِنْ كِتَابِهِ لِئَلَّا يُشْكِلَ بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَعْلَمُهَا إِمَّا مُجْمَلًا أَوْ مُفَصَّلًا، وَلِهَذَا صَارَ جَوَابُهَا مُعْجِزَةً لَهُ، وَعِلْمَ يَقِينٍ بِنُبُوَّتِهِ عِنْدَهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَحَقَّقَ عِنْدَهُ.
مُعْجِزَاتٌ أُخَرُ مُنْضَمَّةٌ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ)، أَيْ عَلَامَاتِهَا (وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا يَنْزِعُ) : بِكَسْرِ الزَّايِ يُقَالُ: نَزَعَ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ إِذَا أَشْبَهَهُ ذِكْرُهُ. فِي الْغَرِيبَيْنِ: فَالْمَعْنَى وَمَا يُشْبِهُهُ (الْوَلَدَ) : بِالنَّصْبِ (إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ) ؟ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ قَوْمُهَا، أَوْ أَصْلُ الشَّبَهِ، أَوِ الْحُكْمُ غَالِبِيٌّ عَادِيٌّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ الْوَلَدِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ مَا قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا سَبَبُ نُزُوعِ الْوَلَدِ وَمَيْلِهِ إِلَى أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ ; فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَنِ الْمَصْدَرِيَّةَ مِنَ الْمُضَارِعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَحْضَرَ الْوَغَى اهـ. وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَ شَارِحٌ مَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ يَجْذِبُ الْوَلَدَ إِلَى أَبِيهِ فِي الشَّبَهِ؟ (قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ) : قَالَهُ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ (آنِفًا)، بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ أَيْ: هَذِهِ السَّاعَةُ (أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ) أَيْ: تَجْمَعُهُمْ (مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ) أَيِ: الْمُسَمَّى بِنُزُلًا الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَا حَضَرَ وَهُوَ مُقَدِّمَةُ بَقِيَّةِ النَّعْمَةِ (فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ) أَيْ: طَرَفُهَا، وَهِيَ أَطْيَبُ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَبِدِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ الْحُوتُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرْضُ، وَإِذَا جَعَلَ الْأَرْضَ طُعْمَةً لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَالْحُوتُ كَالْإِدَامِ لَهُمْ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذِهِ الطُّعْمَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ (وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ) أَيْ: عَلَا وَغَلَبَ (مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ) ، بِالنَّصْبِ أَيْ جَذَبَ الرَّجُلُ مَاؤُهُ الْوَلَدَ إِلَى شَبَهِهِ وَيُرْفَعُ، (وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ) ، أَيْ جَذَبَتِ الْمَرْأَةُ (الْوَلَدَ) . وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ الْوَلَدِ وَإِلَيْهِ يُنْظَرُ مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ، يَعْنِي: إِذَا غَلَبَ مَاءُ الرَّجُلِ أَشْبَهَهُ الْوَلَدُ، وَإِذَا غَلَبَ مَاءُ الْمَرْأَةِ أَشْبَهَهَا الْوَلَدُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا التَّأْنِيثِ فِي نَزَعَتْ بِتَأْوِيلِ السِّمَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ قَوْلُهُ: نَزَعَتْ أَيْ: جَذَبَتِ الْمَرْأَةُ بِالْوَلَدِ إِلَى مُشَابَهَتِهَا بِسَبَبِ غَلَبَةِ مَائِهَا، أَوْ جَذَبَتْ مَاءَهَا فَأُكْسِبَ التَّأْنِيثُ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ اهـ. وَأَمَّا نِسْبَةُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَبِاعْتِبَارِ مُسَابَقَةِ مَاءِ الرَّجُلِ وَعَكْسِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ.
(قَالَ) أَيِ: ابْنُ سَلَامٍ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ) . ثُمَّ اسْتَأْنَفَ (وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ)، بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ هَاءٍ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ جَمْعُ بَهُوتٍ مِنْ بِنَاءِ الْمُبَالِغَةِ فِي الْبُهْتَانِ كَصَبُورٍ وَصُبُرٍ ثُمَّ سُكِّنَ تَخْفِيفًا (وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي مِنْ قَبْلِ أَنْ تَسْأَلَهُمْ) أَيْ: عَنِّي (يَبْهَتُونِّي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: يَبْهَتُونَنِي كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ أَيْ: يَنْسِبُونِي إِلَى الْبُهْتَانِ، وَيَجْعَلُونِي مَبْهُوتًا حَيْرَانَ وَلَمْ يَكُنْ إِسْلَامِي عَلَيْهِمْ حُجَّةً وَاضِحَةَ الْبُرْهَانِ، (فَجَاءَتِ الْيَهُودُ) أَيْ: بِإِحْضَارِهِمْ أَوِ اتِّفَاقًا فِي مَأْتَاهُمْ، وَابْنُ سَلَامٍ فِي اخْتِفَاءٍ عَنْهُمْ. (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ) ؟ أَيْ فِيمَا بَيْنَكُمْ أَوْ فِي زَعْمِكُمْ وَمُعْتَقَدِكُمْ، (قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا) ، أَيْ فِي الْحَسَبِ مِنَ الْحِلْمِ وَالصَّلَاحِ (وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا) ، أَيْ فِي النَّسَبِ، أَوْ فِي سَائِرِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. (قَالَ: أَرَأَيْتُمْ) أَيْ: أَخْبَرُونِي (إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ) ؟ أَيْ: فَهَلْ تُسْلِمُونَ (قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ) . أَيْ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُتَصَوَّرَ هَذَا مِنْهُ. (فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: شَرُّنَا) أَيْ: هُوَ شَرُّنَا (وَابْنُ شَرِّنَا، فَانْتَقَصُوهُ)، مِنَ النَّقْصِ وَهُوَ الْعَيْبُ (قَالَ: هَذَا) أَيْ: هَذَا الِانْتِقَاصُ (هُوَ الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ) أَيْ: أَحْذَرُهُ وَحَمَلْتُكَ عَلَى سُؤَالِهِمْ تَصْدِيقًا لِحَالِهِمْ، وَشَهَادَةً عَلَى مَقَالِهِمْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5871 -
ــ
5871 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاوَرَ) أَيْ: أَهْلَ الْمَدِينَةِ لِلِامْتِحَانِ (حِينَ بَلَغَنَا إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ) ، أَيْ بِالْعِيرِ مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ (وَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ)، أَيْ: وَقَدْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ رَئِيسُ الْأَنْصَارِ وَقَالَ مَا قَالَ مِمَّا سَيَأْتِي وَإِنَّمَا خُصَّ بِالْقِيَامِ، لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِشَارَةِ اخْتِبَارُ الْأَنْصَارِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ لِلْقِتَالِ وَطَلَبِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ قَصْدِهِ، فَلَمَّا عَرَضَ لَهُ الْخُرُوجُ لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَهُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا. فَأَجَابُوا أَحْسَنَ جَوَابٍ بِالْمُوَافَقَةِ التَّامَّةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَفِي غَيْرِهَا، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى اسْتِشَارَةِ الْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْخِبْرَةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّامِ فِيهَا تِجَارَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ رَاكِبًا مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، فَأَعْجَبَ الْمُسْلِمِينَ تَلَقِّي الْعِيرِ لِكَثْرَةِ الْخَيْرِ وَقِلَّةِ الْقَوْمِ، فَلَمَّا خَرَجُوا بَلَغَ مَكَّةَ خَبَرُ خُرُوجِهِمْ، فَنَادَى أَبُو جَهْلٍ فَوْقَ الْكَعْبَةِ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ النَّجَاءَ، فَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ بِجَمِيعِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْعِيرَ أَخَذَتْ طَرِيقَ السَّاحِلِ وَنَجَتْ، فَارْجِعْ إِلَى مَكَّةَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ! فَمَضَى بِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْعِيرَ قَدْ مَضَتْ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَهَذَا أَبُو جَهْلٍ قَدْ أَقْبَلَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا) : بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ نُدْخِلَ الدَّوَابَّ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَدَلَالَةِ الْمَرَامِ (الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا)، قَالَ الْقَاضِي: الْإِخَاضَةُ الْإِدْخَالُ فِي الْمَاءِ، وَالْكِنَايَةُ لِلْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهَا بِقَرِينَةِ الْحَالِ، (وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا) : قَالَ الْقَاضِي: ضَرْبُ الْأَكْبَادِ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْلِيفِ الدَّابَّةِ لِلسَّيْرِ بِأَبْلَغِ مِمَّا يُمْكِنُ، فَالْمَعْنَى لَوْ أَمَرْتَنَا بِالسَّيْرِ الْبَلِيغِ وَالسَّفَرِ السَّرِيعِ (إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ) أَيْ: مَثَلًا مِنَ الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرَانِ. قَالَ شَارِحٌ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ كَسْرَ الْغَيْنِ وَكَسْرَ الْبَاءِ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: صَوَابُهُ كَسْرُ الْبَاءِ، وَكَذَا قَيَّدَ شُيُوخُ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الْبُخَارِيِّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّاءَ سَاكِنَةٌ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنِ الْأَصِيلِيِّ بِإِسْكَانِهَا وَفَتْحِهَا، وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَالْغِمَادِ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى ضَمِّهَا وَاللُّغَةُ عَلَى كَسْرِهَا. قُلْتُ: رِوَايَةُ الْمُحَدِّثِينَ أَرْجَحُ وَلِلِاعْتِمَادِ أَصَحُّ. قَالَ: وَهُوَ مَوْضِعٌ بِأَقْصَى هَجَرَ، وَاخْتَارَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَوْضِعٌ مِنْ وَرَاءِ مَكَّةَ بِخَمْسِ لَيَالٍ بِنَاحِيَةِ السَّاحِلِ، وَقِيلَ: بَلَدٌ مِنَ الْيَمَنِ ثُمَّ قَوْلُهُ: (لَفَعَلْنَا) . جَوَابُ (لَوْ) وَلَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنْ (ضَرَبْنَا أَكْبَادَهَا إِلَيْهِ) لِلْإِيجَازِ أَوْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ صَعْبٍ كَالسَّيْرِ فِي بَحْرٍ، وَالسَّفَرِ فِي بَرٍّ لَوْ أَمَرْتَنَا بِفِعْلِهِ لَفَعَلْنَا.
(قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (فَنَدَبَ) أَيْ: فَدَعَا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ) ، أَيِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ النَّاسُ (فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا)، وَهُوَ مَشْهَدٌ مَعْرُوفٌ وَيَأْتِي بَيَانُهُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: لِأَصْحَابِهِ (هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٌ) . أَيْ مَقْتَلُ فُلَانٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهَذَا مَهْلِكُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَطْرَحُ فُلَانٍ، حَتَّى عَدَّ سَبْعِينَ مِنْهُمْ، (وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا) . إِشَارَةً إِلَى خُصُوصِ تِلْكَ الْقِطَعِ مِنَ الْأَرْضِ لِزِيَادَةِ تَوْضِيحِ الْمُعْجِزَةِ (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (فَمَا مَاطَ) أَيْ: مَا زَالَ وَبَعُدَ وَتَجَاوَزَ (أَحَدُهُمْ) أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5872 -
ــ
5872 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (فِي قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ) : الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَةِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَا حَضَرَ بَدْرًا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ.
وَهُوَ قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ) : بِضَمِّ الشِّينِ أَيْ أَطْلُبُكَ وَأَسْأَلُكَ (عَهْدَكَ) أَيْ: أَمَانَتَكَ (وَوَعْدَكَ)، أَيْ: إِنْجَازَهُ (اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ) أَيْ: عَدَمَ الْعِبَادَةِ، أَوْ عَدَمَ الْإِسْلَامِ، أَوْ هَلَاكَ الْمُؤْمِنِينَ (لَا تُعْبَدْ) : بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ (بَعْدَ الْيَوْمِ) : لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا خُلْفَ فِي وَعْدِهِ، بَلْ وَلَا فِي وَعِيدِهِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُلْفُ! فِي خَبَرِهِ، فَالْخَوْفُ إِنَّمَا هُوَ لِاحْتِمَالِ اسْتِثْنَاءٍ مُقَدَّرٍ، أَوْ قَيْدٍ مُقَرَّرٍ، أَوْ وَقْتٍ مُحَرَّرٍ، وَهَذَا مُجْمَلُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْكَلَامِ؟ فَقَدْ قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ، يُقَالُ: نَشَدْتُ فُلَانًا أَنْشُدُهُ نَشْدًا إِذَا قُلْتَ لَهُ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ، أَيْ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ السُّؤَالِ، وَالْعَهْدُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْأَمَانِ، يُرِيدُ أَسْأَلُكَ أَمَانَكَ وَإِنْجَازَ وَعْدِكَ الَّذِي وَعَدْتَنِيهِ بِالنَّصْرِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعِدَهُ وَعْدًا فَيُخْلِفَهُ، فَمَا وَجْهُ هَذَا السُّؤَالِ؟ قُلْنَا: الْأَصْلُ الَّذِي لَا يُفَارِقُ هَذَا الْحُكْمَ، هُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عَلِمَ الدَّاعِي حُصُولَ الْمَطْلُوبِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ يَقْتَضِي الْخَشْيَةَ مِنْهُ، وَلَا تُرْفَعُ الْخَشْيَةُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام بِمَا أُوتُوا وَوُعِدُوا مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ ; فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ مِنْ مَانِعٍ يَنْشَأُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ أُمَّتِهِ، فَيُحْبَسُ عَنْهُمُ النَّصْرُ الْمَوْعُودُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ وُعِدَ بِالنَّصْرِ وَلَمْ يُعَيَّنْ لَهُ الْوَقْتُ، وَكَانَ عَلَى وَجَلٍ مِنْ تَأَخُّرِ الْوَقْتِ فَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيُنْجِزَ لَهُ الْوَعْدَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا أَظْهَرَ مِنَ الضَّرَاعَةِ فَقِيلَ: الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ مُبَالَغَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السُّؤَالِ مَعَ عَظِيمِ ثِقَتِهِ بِرَبِّهِ وَكَمَالِ عِلْمِهِ، كَانَ بِهِ تَشْجِيعٌ لِلصَّحَابَةِ وَتَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ دُعَاءَهُ لَا مَحَالَةَ مُسْتَجَابٌ، لَا سِيَّمَا إِذَا بَالَغَ فِيهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ، أَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمُقَاتَلَةِ ; فَيَنْبَغِي لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَدْعُوَ بِالنُّصْرَةِ لِيَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ الْمُشَارِكَةِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى أَصْحَابَهُ أَنَّهُمْ تَوَجَّهُوا إِلَى الْخَلْقِ رَجَعَ بِنَفْسِهِ إِلَى الذَّاتِ الْمُطْلَقِ وَرَاجَعَ رَبَّهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَحْضَرَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ (فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ) أَيْ: يَكْفِيكَ مَا دَعَوْتَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ) ، أَيْ بَالَغْتَ فِي السُّؤَالِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلْحَالِ (فَخَرَجَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مِنْ قُبَّتِهِ وَهُوَ يَثِبُ) : بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ الْمُخَفَّفَةِ قَبْلَ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْوُثُوبِ أَيْ: يُسْرِعُ فَرَحًا وَنَشَاطًا (فِي الدِّرْعِ) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ فِي دِرْعِهِ لِلْمُحَافَظَةِ وَعَلَى نِيَّةِ الْمُقَاتَلَةِ (وَهُوَ يَقُولُ) أَيْ: يَقْرَأُ مَا نَزَلْ عَلَيْهِ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر: 45] أَيْ: جَمْعُ الْكُفَّارِ (وَيُوَلُّونَ) أَيْ: وَيُدْبِرُونَ (الدُّبُرَ) : بِضَمَّتَيْنِ أَيِ: الظَّهْرُ. وَقَالَ شَارِحٌ: بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِهَا، ثُمَّ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْهَزِيمَةُ كِنَايَةً عَنِ الْمَغْلُوبِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: سَيُغْلَبُ الْجَمْعُ بَلِ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى مُرَاعَاةً لِلتَّأْسِيسِ كَمَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.
5873 -
وَعَنْهُ، «أَنَّ الْنَبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ:(هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5873 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ الْنَبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: بَدْرٌ مَاءٌ مَعْرُوفٌ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعِ مَرَاحِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ بِئْرٌ كَانَتْ لِرَجُلٍ يُسَمَّى بَدْرًا، وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. (هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى جِبْرِيلَ (أَدَاةُ الْحَرْبِ) . أَيْ آلَتُهُ، وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَظْهَرَهُ لِأَنَسٍ حَتَّى أَبْصَرَهُ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ هَذَا، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَوْضُوعٌ لِلْمَحْسُوسِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ وَجْهُ إِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْمُعْجِزَاتِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5874 -
ــ
5874 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه (قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ) أَيْ: أَنْصَارِيٌّ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ) أَيْ: يُسْرِعُ وَيَعْدُو (فِي إِثْرِ رَجُلٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا أَيْ: فِي عَقِبِ رَجُلٍ (مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ)، أَيْ: وَاقِعٌ قُدَّامَهُ (إِذْ سَمِعَ) أَيِ: الْمُسْلِمُ، فَالْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آخِرُهُ (ضَرْبَةً) أَيْ: صَوْتَ ضَرْبَةٍ (بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ)، أَيْ فَوْقَ الْمُشْرِكِ (وَصَوْتُ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ بِمَعْنَى أَعْزِمْ (حَيْزُومُ) . أَيْ: يَا حَيْزُومُ، وَهُوَ اسْمُ فَرَسِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهِمَا بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ وَبِكَسْرِ الدَّالِ مِنَ الْإِقْدَامِ. قَالُوا: هِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ لِلْفَرَسِ. أَقُولُ: فَكَأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِقْدَامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ فَهْمُ الْكَلَامِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَرَسِ الْمَلَكِ، فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ النِّدَاءُ بِاسْمِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ بِضَمِّ الدَّالِ وَبِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَضْمُومَةٍ مِنَ التَّقَدُّمِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُهَا.
وَحَيْزُومُ: اسْمُ فَرَسِ الْمَلَكِ، وَهُوَ مُنَادَى بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَقَالَ شَارِحٌ: سُمِّيَ بِأَقْوَى مَا يَكُونُ مِنَ الْأَعْضَاءِ مِنْهُ، وَشَدَّ مَا يَسْتَظْهِرُ بِهِ الْفَارِسُ فِي رُكُوبِهِ مِنْهُ، وَهُوَ وَسَطُ الصَّدْرِ، وَمَا يُضَمُّ عَلَيْهِ الْحِزَامُ. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَيْعُولُ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ مَادَّةِ الْحَزْمِ وَهُوَ شِدَّةُ الِاحْتِيَاطِ فِي الْأَمْرِ. (إِذْ نَظَرَ) أَيِ: الْمُسْلِمُ (إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ خَرَّ مُسْتَلْقِيًا)، أَيْ سَقَطَ عَلَى قَفَاهُ (فَإِذَا هُوَ) أَيِ: الْمُشْرِكُ (قَدْ خُطِمَ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْخَطْمِ، وَهُوَ الْأَثَرُ عَلَى الْأَنْفِ، فَقَوْلُهُ:(أَنْفُهُ) ، لِلتَّأْكِيدِ أَوْ إِيمَاءً إِلَى التَّجْرِيدِ، وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ أَيْ: كُسِرَ فَهُوَ أَثَرُهُ اهـ. وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ رِوَايَةَ الْمَصَابِيحِ بِالْحَاءِ بِالْمُهْمَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ جُرِحَ أَنْفُهُ (وَشُقَّ وَجْهُهُ) أَيْ: قُطِعَ، طُولًا (كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ)، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: صَارَ مَوْضِعُ الضَّرْبِ كُلُّهُ أَخْضَرَ أَوْ أَسْوَدَ، فَإِنَّ الْخُضْرَةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى السَّوَادِ كَعَكْسِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَمِنْ قَبِيلِ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى:{مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64](فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَدَقْتَ) ، فِيهِ أَنَّ هَذَا الْكَشْفَ كَرَامَةٌ لِلصَّحَابِيِّ، وَكَرَامَةُ الِاتِّبَاعِ بِمَنْزِلَةِ مُعْجِزَةِ الْمَتْبُوعِ، لَا سِيَّمَا وَوُقُوعُهُ فِي حَضْرَتِهِ وَحُصُولِهِ لِأَجْلِ بَرَكَتِهِ، أَوْ يُقَالُ: أَخْبَرَ الصَّحَابِيُّ وَهُوَ ثِقَةٌ بِنَقْلٍ صَحِيحٍ عَمَّا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ الْمَلَكِ لِلْمُعَاوَنَةِ، وَقَدْ صَدَّقَهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَيُصْبِحُ عَدُّهُ مِنَ الْمُعْجِزَةِ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ:(ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ) . تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَدَدَ كَانَ مِنَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا، وَهَذَا مِنَ الثَّالِثَةِ خَاصَّةً، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَلَكِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَا بَعْدَهُ. وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ أَعْرَبَ وَقَالَ: ذَلِكَ مَفْعُولُ صَدَقْتَ. وَقَالَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: جَمْعُ ضَرْبَةٍ إِلَخْ. (فَقَتَلُوا) أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا فَضَمِيرُهُمَا رَاجِعٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5875 -
ــ
5875 -
( «وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ شِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ» ) ، الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّوْزِيعِ بِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى جَانِبٍ مِنْهُ، وَإِلَّا لَكَانُوا أَرْبَعَةً (عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، يُقَاتِلَانِ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ) : الْكَافُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ كَوْنِهِ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ قِتَالًا مِثْلَ أَشَدِّ قِتَالِ رِجَالِ الْإِنْسِ (مَا رَأَيْتُهُمَا قَبِلُ وَلَا بَعْدُ)، أَيْ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَوْلُهُ:(يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ) . مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي أَدْرَجَهُ بَيَانًا، وَلَعَلَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5876 -
ــ
5876 -
(وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا) : قَالَ شَارِحٌ: الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشْرَةِ مِنَ الرِّجَالِ لَيْسَتْ فِيهِمُ امْرَأَةٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: الرَّهْطُ وَيُحَرَّكُ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ إِلَى عِشْرَةٍ، أَوْ مَا دُونَ الْعَشْرَةِ، أَوْ مَا فِيهِمُ امْرَأَةٌ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. (إِلَى أَبِي رَافِعٍ)، قَالَ الْقَاضِي: كُنْيَتُهُ أَبُو الْحُقَيْقِ الْيَهُودِيُّ أَعْدَى عَدُوِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَبَذَ عَهْدَهُ وَتَعَرَّضَ لَهُ بِالْهِجَاءِ، وَتَحَصَّنَ عَنْهُ بِحِصْنٍ كَانَ لَهُ، فَبَعَثَهُمْ إِلَيْهِمْ لِيَقْتُلُوهُ، (فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (بَيْتَهُ لَيْلًا وَهُوَ نَائِمٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ) أَيْ: فِي صِفَةِ قَتْلِهِ (فَوَضَعْتُ السَّيْفُ فِي بَطْنِهِ، حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ)، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَدَّاهُ بِفِي لِيَدُلَّ عَلَى شِدَّةِ التَّمَكُّنِ، وَأَخَذَ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ فَعَرَفْتُ أَنِّي قَتَلْتُهُ (فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الْأَبْوَابَ) ، وَلَعَلَّهُ بَعْدَ فَتْحِهَا أَوَّلًا رَدَّهَا حِفْظًا لِمَا رَوَاهُ، أَوْ طَلَعَ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، (حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي) أَيْ: عَلَى ظَنِّ أَنِّي وَصَلْتُ الْأَرْضَ (فَوَقَعْتُ) ، أَيْ سَقَطْتُ مِنَ الدَّرَجَةِ (فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ)، بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ أَيْ: مُضِيئَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي كَانَ سَبَبَ وُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ أَنَّ ضَوْءَ الْقَمَرِ وَقَعَ فِي الدَّرَجِ، وَدَخَلَ فِيهِ فَحَسِبَ أَنَّ الدَّرَجَ مُسَاوٍ لِلْأَرْضِ فَوَقَعَ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ (فَانْكَسَرَتْ سَاقِي، فَعَصَبْتُهَا) : بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَيُشَدَّدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ أَيْ: شَدَدْتُهَا (بِعِمَامَةٍ) ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ (فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي)، أَيْ مِنَ الرَّهْطِ الْوَاقِفِينَ أَسْفَلَ الْقَلْعَةِ (فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: مَعَ أَصْحَابِي (فَحَدَّثْتُهُ) ، أَيْ بِمَا جَرَى لِي وَعَلَيَّ (فَقَالَ ابْسُطْ رِجْلَكَ) ، أَيْ مُدَّهَا (فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا، فَكَأَنَّمَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ) . أَيْ كَأَنَّهَا لَمْ تَتَوَجَّعْ أَبَدًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5877 -
ــ
5877 -
(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّا) أَيْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَصْحَابِ (كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ)، أَيِ: الْأَرْضَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْأَعْدَاءِ (فَعَرَضَتْ) أَيْ: ظَهَرَتْ فِي عَرْضِ الْأَرْضِ مُعَارِضًا لِمَقْصَدِنَا (كُدْيَةٌ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ الدَّالِ أَيْ: قِطْعَةٌ (شَدِيدَةٌ)، أَيْ صُلْبَةٌ لَا يَعْمَلُ فِيهَا الْفَأْسُ (فَجَاءُوا الْنَبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَقَالَ: أَنَا نَازِلٌ) . أَيْ فِي الْخَنْدَقِ (ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ) أَيْ: مَرْبُوطٌ (بِحَجَرٍ) أَيْ: مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ (وَلَبِثَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا) ، بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ مَأْكُولًا وَمَشْرُوبًا، وَهُوَ فَعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ الذَّوْقِ يَقَعُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالِاسْمُ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ سَبَبِ رَبْطِ الْحَجَرِ، (فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمِعْوَلَ) ، بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْوَاوِ بِالْفَارِسِيِّ كَلْنَدْ قَالَهُ شَارِحٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمِعْوَلُ كَمِنْبَرٍ الْحَدِيدَةُ يُنْقَرُ بِهَا الْجِبَالُ (فَضَرَبَ فَعَادَ) أَيِ: انْقَلَبَ الْحَجَرُ وَصَارَ (كَثِيبًا) أَيْ: رَمْلًا (أَهْيَلَ)، أَيْ سَائِلًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل: 14] قَالَ الْقَاضِي: وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكُدْيَةَ الَّتِي عَجَزُوا عَنْ رَضِّهَا صَارَتْ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُتَلٌ مِنَ الرَّمْلِ مَصْبُوبٍ سَيَّالٍ، (فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي) أَيِ: انْقَلَبْتُ وَانْصَرَفْتُ إِلَى بَيْتِهَا (فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ) ؟ أَيْ مِنَ الْمَأْكُولِ (فَإِنِّي رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَمْصًا) : بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَسَكَتَ عَنْهُ الطِّيبِيُّ أَيْ: جُوعًا، وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْبَطْنَ يَضْمُرُ بِهِ، وَفِي الْمَشَارِقِ لِعِيَاضٍ: رَأَيْتُ بِهِ خَمَصًا بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ ضُمُورًا فِي بَطْنِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَيُعَبَّرُ بِالْخَمْصِ عَنِ الْجُوعِ أَيْضًا. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ قَوْلُهُ: خَمَصَا بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ وَقَدْ يُسَكَّنُ وَمُهْمَلَةٍ اهـ.
الْمُرَادُ بِهِ أَثَرُ الْجُوعِ وَعَلَامَتُهُ مِنْ ضُمُورِ الْبَطْنِ أَوْ صَفَارِ الْوَجْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ طُولِ مُكْثِهِمْ، وَشِدَّةِ كَدِّهِمْ عَلَى غَيْرِ ذَوْقٍ مِنْ غَايَةِ ذَوْقِهِمْ وَنِهَايَةِ شَوْقِهِمْ (شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ) أَيِ: الْمَرْأَةُ (جِرَابًا) : بِكَسْرِ الْجِيمِ (فِيهِ صَاعٌ) أَيْ: قَدْرُ صَاعٍ (مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بَهْمَةٌ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ هَاءٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الضَّأْنِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَالشَّاةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بُهَيْمَةٌ، وَهِيَ أَصْلُ الْمَصَابِيحِ. قَالَ شَارِحٌ لَهُ: هِيَ تَصْغِيرُ بَهْمَةٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَلَدُ الضَّأْنِ، وَقِيلَ: وَلَدُ الشَّاةِ أَوَّلَ مَا تَضَعُهُ أُمُّهُ، وَقِيلَ: السَّخْلَةُ وَهِيَ وَلَدُ الْمَعَزِ (دَاجِنٌ) أَيْ: سَمِينَةٌ قَالَهُ صَاحِبُ الْمَوَاهِبِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ مَا أَلِفَ الْبَيْتَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ: دَجَنَ بِالْمَكَانِ دُجُونًا أَقَامَ وَالْحَمَامُ وَالشَّاةُ وَغَيْرُهُمَا أَلِفَتْ وَهِيَ دَاجِنٌ (فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتْ) أَيِ: الْمَرْأَةُ (الشَّعِيرَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ لِقِيَامِ كُلٍّ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِخِدْمَةٍ تَلِيقُ بِهِ مَعَ تَحْقِيقِ الْمُسَارَعَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ وَيُقَالُ: مَعْنَاهُ أَمَرْتُهَا أَوْ غَيْرَهَا بِالطَّحْنِ، (حَتَّى جَعَلْنَا) أَيْ: بِالِاتِّفَاقِ (اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ)، أَيِ: الْقِدْرُ مِنَ الْحَجَرِ، وَقِيلَ هِيَ الْقِدْرُ مُطْلَقًا، وَأَصْلُهَا الْمُتَّخَذُ مِنَ الْحَجَرِ، (ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَارَرْتُهُ)، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ الْمُسَارَّةِ بِالْحَاجَةِ فِي حَضْرَةِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ أَنْ يُنَاجِيَ اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا مَحَلُّ النَّهْيِ تَوَهُّمُ ضَرَرٍ لِلْجَمَاعَةِ. (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا) : بِالتَّصْغِيرِ هُنَا لِلتَّحْقِيرِ فِي جَنْبِ عَظَمَةِ الضَّيْفِ الْكَبِيرِ (وَطَحَنَتْ) : بِالْوَجْهَيْنِ (صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا قَدْرٌ يَسِيرٌ وَأَصْحَابُكَ كَثِيرٌ (فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ) ، وَهُوَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنَ الرِّجَالِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ إِلَى الْمَعْنَى الثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ (فَصَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا صَنَعَ سُورًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونِ وَاوٍ أَيْ طَعَامًا. وَفِي الْقَامُوسِ: السُّورُ الضِّيَافَةُ فَارِسِيَّةٌ شَرَّفَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَحَيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ (هَلًا) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَاللَّامُ مُنَوَّنَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَالْبَاءُ فِي (بِكُمْ) . لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: أَسْرِعُوا بِأَنْفُسِكُمْ إِلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: السُّورُ بِضَمِّ السِّينِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَقِيلَ الطَّعَامُ مُطْلَقًا، وَهِيَ لَفْظَةٌ فَارِسِيَّةٌ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَحَادِيثٌ صَحِيحَةٌ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَكَلَّمَ بِالْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، وَأَمَّا (حَيَّ هَلًا) فَهُوَ بِتَنْوِينِ هَلًا، وَقِيلَ بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى وَزْنِ عَلَا، وَيُقَالُ: حَيَّ هَلَا، وَمَعْنَاهُ عَلَيْكُمْ بِكَذَا وَأَدْعُوكُمْ بِكَذَا. وَفِي الْقَامُوسِ بَسْطٌ لِهَذَا الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى، وَلَكِنِ اقْتَصَرْنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُوعَ مَعَنَا وَالتَّعَطُّشَ لِمَا هُنَا.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تُنْزِلُنَّ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ (بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزُنَّ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ (عَجِينَتُكُمْ حَتَّى أَجِيءَ) أَيْ: إِلَى بَيْتِكُمْ (وَجَاءَ فَأَخْرَجْتُ لَهُ) أَيْ: أَنَا وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْوَاحِدَةِ (عَجِينًا) . أَيْ: قِطْعَةً مِنَ الْعَجِينِ (فَبَصَقَ فِيهِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِالصَّادِّ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالسِّينِ وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ اهـ. وَالْمَعْنَى رَمَى بِالْبُزَاقِ فِيهِ (وَبَارَكَ)، أَيْ: دَعَا بِالْبَرَكَةِ فِيهِ (ثُمَّ عَمَدَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: قَصَدَ (إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ) أَيْ: فِيهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعِي) : بِهَمْزِ وَصْلٍ مَضْمُومٍ وَكَسْرِ عَيْنٍ أَمْرُ مُخَاطَبَةٍ مِنْ دَعَا يَدْعُو أَيِ: اطْلُبِي (خَابِزَةً) : قَالَ النَّوَوِيُّ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ ادْعِي عَلَى خِطَابِ الْمُؤَنَّثِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الظَّاهِرُ، وَلِهَذَا قَالَ:(فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ) : يَعْنِي لِرِوَايَتِهِ كَسْرَ الْكَافِ، وَفِي بَعْضِهَا ادْعُوا بِالْوَاوِ أَيِ: اطْلُبُوا وَفِي بَعْضِهَا ادْعُ (وَاقْدَحِي) : بِفَتْحِ الدَّالِ أَيِ: اغْرِفِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ. قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ يُقَالُ: قَدَحَتِ الْمَرَقَ أَيْ: غَرَفَتْهُ، وَمِنْهُ الْمَقْدَحُ وَهُوَ الْمِغْرَفَةُ سَلَكَ بِالْخِطَابِ مَسْلَكَ التَّلْوِينِ فَخَاطَبَ بِهِ رَبَّةَ الْبَيْتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ فِي نُسْخَتِهِ فَلْتَخْبِزْ مَعِي بِالْإِضَافَةِ.
إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا هُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، فَحَمَلَهُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ أَنَّ مَعِي لَمْ تَرِدْ فِي رِوَايَةٍ، وَإِذَا ذَهَبَ إِلَى ادْعِي فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ لَمْ يَكُنْ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ فِي شَيْءٍ اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ إِذْ مُرَادُ الشَّيْخِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَاطَبَهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: لَا تُنْزِلُنَّ وَلَا تَخْبِزُنَّ، ثُمَّ قَالَ: ادْعِي فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، ثُمَّ قَالَ: وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تُنْزِلُوهَا) : بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ عَلَى طَرِيقِ الْأَوَّلِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، فَأَيُّ تَلْوِينٍ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا؟ مَعَ أَنَّ فِي الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا بِالْأَمْرِ الْخَاصِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا رَبَّةُ الْبَيْتِ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الْمَقَامِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ وَالتَّحْرِيرِ تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ أَوْ مَعِي فِي تَلْوِينِ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ. (قَالَ جَابِرٌ: وَهُمْ) أَيْ: عَدَدُ أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم (أَلْفٌ) أَيْ: أَلْفُ رَجُلٍ أَكَّالٍ فِي جُوعِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالٍ (فَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ (حَتَّى تَرَكُوهُ) أَيْ: مُنْفَصِلًا (وَانْحَرَفُوا)، أَيْ: وَانْصَرَفُوا (وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لِتَغِطُّ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: لَتَفُورَ وَتَغْلِيَ وَيُسْمَعُ غَلَيَانُهَا (كَمَا هِيَ)، أَيْ: مُمْتَلِئَةٌ عَلَى هَيْئَةِ الْأُولَى، فَخَبَرُ هِيَ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى تَغْلِي غَلَيَانًا مِثْلَ غَلَيَانِ هِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا: كَافَّةٌ وَهِيَ مُصَحِّحَةٌ لِدُخُولِ الْكَافِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: كَمَا هِيَ قَبْلَ ذَلِكَ، (وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ) . أَيْ: كَمَا هُوَ فِي الصَّحْفَةِ كَأَنَّهُ مَا نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ تَكْثِيرِ طَعَامِ الْقَلِيلِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ وَتَكْثِيرِهِ، وَتَسْبِيحِ الطَّعَامِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ حَتَّى صَارَ مَجْمُوعُهَا بِمَنْزِلَةِ التَّوَاتُرِ، وَحَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِهِ، وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ أَعْلَامًا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فِي كُتُبِهِمْ كَالْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ، وَصَاحِبِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا هُوَ مَشْهُورٌ وَأَحْسَنُهَا كِتَابُ الْبَيْهَقِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْنَا بِإِكْرَامِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5878 -
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ حِينَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ فَجَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ:(بُؤْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ! تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5878 -
(وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ) : صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ) أَيِ: ابْنِ يَاسِرٍ (حِينَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ) : حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ (فَجَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ) أَيْ: رَأْسَ عَمَّارٍ عَنِ الْغُبَارِ تَرَحُّمًا عَلَيْهِ مِنَ الْأَغْيَارِ (وَيَقُولُ: بُؤْسَ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ هَمْزٍ، وَقَالَ وَبِفَتْحِ السِّينِ مُضَافًا إِلَى (ابْنِ سُمَيَّةَ) وَهِيَ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أُمُّ عَمَّارٍ، وَهِيَ قَدْ أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ، وَعُذِّبَتْ لِتَرْجِعَ عَنْ دِينِهَا، فَلَمْ تَرْجِعْ، وَطَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ فَمَاتَتْ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَتْ أُمُّهُ ابْنَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ الْمَخْزُومِيِّ، زَوَّجَهَا يَاسِرًا، وَكَانَ حَلِيفَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ عَمَّارًا، فَأَعْتَقَهُ أَبُو حُذَيْفَةَ. أَيْ: يَا شِدَّةَ عَمَّارٍ احْضَرِي، فَهَذَا أَوَانُكِ، وَاتَّسَعَ فِي حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَإِنَّمَا يُحْذَفُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ. وَرُوِيَ: بُؤْسُ بِالرَّفْعِ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْ: عَلَيْكَ بُؤْسٌ أَوْ يُصِيبُكَ بُؤْسٌ، وَعَلَى هَذَا ابْنُ سُمَيَّةَ مُنَادًى مُضَافٌ أَيْ: يَا ابْنَ سُمَيَّةَ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْمَعْنَى: يَا شِدَّةَ مَا يَلْقَاهُ ابْنُ سُمَيَّةَ مِنَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ نَادَى بُؤْسَهُ وَأَرَادَ نِدَاءَهُ، وَلِذَا خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ:(تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) . أَيِ: الْجَمَاعَةُ الْخَارِجَةُ عَلَى إِمَامِ الْوَقْتِ وَخَلِيفَةِ الزَّمَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَرَحَّمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الشِّدَّةِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا عَمَّارٌ مِنْ قِبَلِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ يُرِيدُ بِهِ مُعَاوِيَةَ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ صِفِّينَ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اعْلَمْ أَنَّ عَمَّارًا قَتَلَهُ مُعَاوِيَةُ وَفِئَتَهُ، فَكَانُوا طَاغِينَ بَاغِينَ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ عَمَّارًا كَانَ فِي عَسْكَرِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْإِمَامَةِ، فَامْتَنَعُوا عَنْ بَيْعَتِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُؤَوِّلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَيَقُولُ: نَحْنُ فِئَةٌ بَاغِيَةٌ طَالِبَةٌ لِدَمِ عُثْمَانَ، وَهَذَا كَمَا تَرَى تَحْرِيفٌ، إِذْ مَعْنَى طَلَبِ الدَّمِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ هُنَا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي إِظْهَارِ فَضِيلَةِ عَمَّارٍ وَذَمِّ قَاتِلِهِ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي طَرِيقِ وَيْحَ. قُلْتُ: وَيْحَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا فَيُتَرَحَّمُ عَلَيْهِ وَيُرْثَى لَهُ، بِخِلَافِ وَيْلَ، فَإِنَّهَا كَلِمَةُ عُقُوبَةٍ تُقَالُ لِلَّذِي يَسْتَحِقُّهَا وَلَا يُتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، هَذَا وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا ( «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» ) وَهَذَا كَالنَّصِّ الصَّرِيحِ فِي الْمَعْنَى الصَّحِيحِ الْمُتَبَادَرِ مِنَ الْبَغْيِ الْمُطْلَقِ فِي الْكِتَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} [الحجرات: 9] فَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ الشَّرْعِيِّ عَلَى إِرَادَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ عُدُولٌ عَنِ الْعَدْلِ، وَمَيْلٌ إِلَى الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبَغْيَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَالْإِطْلَاقِ الْعُرْفِيِّ، خَصَّ عُمُومَ مَعْنَى الطَّلَبِ اللُّغَوِيِّ إِلَى طَلَبِ الشَّرِّ الْخَاصِّ بِالْخُرُوجِ الْمَنْهِيِّ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ طَلَبُ دَمِ خَلِيفَةِ الزَّمَانِ، وَهُوَ عُثْمَانُ رضي الله عنه، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ تَأْوِيلٌ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ عَلِيٌّ وَفِئَتُهُ حَيْثُ حَمَلَهُ عَلَى الْقِتَالِ، وَصَارَ سَبَبًا لِقَتْلِهِ فِي الْمَآلِ، فَقِيلَ لَهُ فِي الْجَوَابِ: فَإِذَنْ قَاتِلُ حَمْزَةَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَانَ بَاعِثًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى حَيْثُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِيهِ مُعْجِزَاتٌ ثَلَاثٌ: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ سَيُقْتَلُ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَظْلُومٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَاتِلَهُ بَاغٍ مِنَ الْبُغَاةِ، وَالْكُلُّ صِدْقٌ وَحَقٌّ، ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّيْخَ أَكْمَلَ الدِّينِ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا أَيِ: التَّأْوِيلَ السَّابِقَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَمَا حُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّهُ قَتَلَهُ مَنْ أَخْرَجَهُ لِلْقَتْلِ وَحَرَّضَهُ عَلَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَحْرِيفٌ لِلْحَدِيثِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحَدٌ، بَلْ هُوَ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاصِدًا لِإِقَامَةِ الْغَرَضِ، وَإِنَّمَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا افْتِرَاءٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ لِأَنَّهُ رضي الله عنه أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي شَيْءٍ ظَاهِرِ الْفَسَادِ عَلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ.
قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ بَغْيِهِ بِإِطَاعَتِهِ الْخَلِيفَةَ، وَيَتْرُكَ الْمُخَالَفَةَ وَطَلَبَ الْخِلَافَةِ الْمُنِيفَةِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَاطِنِ بَاغِيًا، وَفِي الظَّاهِرِ مُتَسَتِّرًا بِدَمِ عُثْمَانَ مُرَاعِيًا مُرَائِيًا، فَجَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَيْهِ نَاعِيًا، وَعَنْ عَمَلِهِ نَاهِيًا، لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، فَصَارَ عِنْدَهُ كُلٌّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَهْجُورًا، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَعَصَّبْ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ، وَتَوَلَّى الِاقْتِصَادَ فِي الِاعْتِقَادِ، لِئَلَّا يَقَعَ فِي جَانِبَيْ سَبِيلِ الرَّشَادِ مِنَ الرَّفْضِ وَالنَّصْبِ بِأَنْ يُحِبَّ جَمِيعَ الْآلِ وَالصَّحْبِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5879 -
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رضي الله عنه، قَالَ:«قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَجْلَى الْأَحْزَابَ عَنْهُ: (الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ) » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5879 -
(وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ)، بِضَمٍّ فَفَتْحٍ مَصْرُوفًا: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَجْلَى) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَفْعُولِ أَيْ: تَفَرَّقَ وَانْكَشَفَ (الْأَحْزَابُ عَنْهُ) : وَهُمْ طَوَائِفٌ مِنَ الْكُفَّارِ تَحَزَّبُوا وَاجْتَمَعُوا لِحَرْبِ سَيِّدِ الْأَبْرَارِ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ مِنْهُمْ: قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَأَهْلُ تُهَامَةَ وَقَائِدُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَخَرَجَ غَطَفَانَ فِي أَلْفٍ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، وَقَائِدُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فِي هَوَازِنَ، وَضَامَّتُهُمُ الْيَهُودُ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَمَضَى عَلَى الْفَرِيقَيْنِ قَرِيبٌ مِنْ شَهْرٍ لَا حَرْبَ بَيْنَهُمْ إِلَّا التَّرَامِي بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّصْرَ بِأَنْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحَ الصَّبَا وَجُنُودًا لَمْ يَرَوْهَا، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ: النَّجَاءُ النَّجَاءُ! فَانْهَزَمُوا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَهُنَا مَعْنَى الْإِجْلَاءِ. (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: حِينَئِذٍ (الْآنَ) أَيْ: فِيمَا بَعْدَ هَذَا الزَّمَانِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْآنَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْبَيَانِ (نَغْزُوهُمْ) أَيِ: ابْتِدَاءً (وَلَا يَغْزُونَّا)، بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: وَلَا يَغْزُونَنَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَالْمَعْنَى لَا يُحَارِبُونَنَا، فَفِيهِ مُشَاكَلَةٌ لِلْمُقَابَلَةِ، (نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ) . أَيْ: وَهُمْ لَا يَسِيرُونَ إِلَيْنَا، وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ فَغَزَاهُمْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَحَصَلَتْ لَهُ الْعَلِيَّةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ الْآنَ نَغْزُوهُمْ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ قَلَّ شَوْكَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْيَوْمِ، فَلَا يَقْصِدُونَنَا الْبَتَّةَ بَعْدُ، بَلْ نَحْنُ نَغْزُوهُمْ وَنَقْتُلُهُمْ، وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ فَكَانَ مُعْجِزَةً. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5880 -
ــ
5880 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ) أَيْ: عَنْ نَفْسِهِ (وَاغْتَسَلَ) أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ (أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ جِبْرِيلُ وَهُوَ فِي اللَّفْظِ أَقْرَبُ، وَفِي مَعْنَى الْحَثِّ أَنْسَبُ (يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ الْغُبَارِ فَقَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ) . أَيْ: إِلَى الْكُفَّارِ وَأَبْهِمْهُمْ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَ) أَيْ: أَيْنَ أَقْصِدُ وَإِلَى مَنْ أَخْرَجُ؟ (فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ) ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَسَاعَدُوا الْأَحْزَابَ. (فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ) . أَيْ: وَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَيْفِيَّةُ نُصْرَتِهِ وَبَيَانُ قِصَّتِهِ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَبَعْضِ التَّفَاسِيرِ مَبْسُوطَةٌ، وَمَا وَقَعَ لَهُ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَضْبُوطَةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5881 -
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ رضي الله عنه، «قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا فِي زُقَاقِ بَنِيَ غَنْمٍ مَوْكِبَ جَبْرَئِيلَ عليه السلام حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ» .
ــ
5881 -
(وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا) أَيْ: مُرْتَفِعًا (فِي زُقَاقِ بَنَى غَنْمٍ) : بِفَتْحِ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ نُونٍ، قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالزُّقَاقِ بِضَمِّ الزَّايِ السِّكَّةُ (مَوْكِبَ جِبْرِيلَ عليه السلام : بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ عَلَى مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَأَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا بِإِثْبَاتِ مِنْ، وَالْمَوْكِبُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْكَافِ جَمَاعَةُ رُكَّابٍ يَسِيرُونَ بِرِفْقٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ) . الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الزُّقَاقَ كَانَ مَهْجُورًا مَنْ سَيْرِ النَّاسِ فِيهِ، فَرُؤْيَةُ الْغُبَارِ السَّاطِعِ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَثَرِ جُنْدِ الْمَلَائِكَةِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ رَئِيسَهُمْ جِبْرِيلُ عليه السلام وَهُوَ مَعَهُمْ أَوْ هُوَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِضَافَتُهُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ كَالْأَتْبَاعِ لَهُ.
5882 -
ــ
5882 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ (يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ) : بِالتَّخْفِيفِ أَفْصَحُ (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ) أَيْ: ظَرْفُ مَاءٍ مِنْ مُطَهِّرَةٍ أَوْ سِقَايَةٍ (فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، ثُمَّ أَقْبَلُ النَّاسُ نَحْوَهُ)، أَيْ: إِلَى جَانِبِ جَنَابِهِ طَالِبِينَ فَتَحَ الْخَيْرِ مِنْ بَابِهِ (قَالُوا) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءً) : بِالْمَدِّ (نَتَوَضَّأُ بِهِ وَنَشْرَبُ) أَيْ: مِنْهُ (إِلَّا مَا فِي رِكْوَتِكَ)، أَيْ: مِنَ الْمَاءِ فَمَا مَقْصُورَةٌ مَوْصُولَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَحْتَمِلُ الِاتِّصَالَ وَالِانْقِطَاعَ، ثُمَّ فِي الْقَضِيَّةِ جُمْلَةٌ مَطْوِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِحَسْبِ الْعَادَةِ أَنَّ مَاءَ الرِّكْوَةِ لَمْ يَكْفِ الْجَمَاعَةَ (فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ)، أَيْ: فِي جَوْفِهَا أَوْ فِي فَمَهَا (فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ)، أَيِ: الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ صُخُورِ الْجِبَالِ، أَوْ عُرُوقِ الْأَرْضِ. (قَالَ: فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا) أَيْ: جَمِيعُنَا، فَطُوبَى لَهُمْ مِنْ طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْمَاءِ الْمَعِينِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ. (قِيلَ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ) ؟ أَيْ: يَوْمَئِذٍ حَتَّى كَفَاكُمْ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ فِي مَقَامِ الْمُعْجِزَةِ (قَالَ) أَيْ: أَوَّلًا فِي الْجَوَابِ (لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ) أَيْ: مَثَلًا (لَكَفَانَا) : ثُمَّ قَالَ تَتْمِيمًا لِفَصْلِ الْخِطَابِ: (كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً) .
قَالَ الطِّيبِيُّ: عَدَلَ عَنِ الظَّاهِرِ لِاحْتِمَالِهِ التَّجَوُّزَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ فِيهِ وَغَلَبَ ظَنُّهُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ، وَقَوْلُ الْبَرَاءِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَتْلُو هَذَا الْحَدِيثَ: كُنَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، كَانَ عَنْ تَحْقِيقٍ لِمَا سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ بَابِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ: أَنَّ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعْمِائَةٍ تَحْقِيقًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَهْمٌ، وَقَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ: الْجَمْعُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعْمِائَةٍ وَزِيَادَةً لَا تَبْلُغُ الْمِائَةَ، فَالْأَوَّلُ أَلْغَى الْكَسْرَ، وَالثَّانِي جَبَرَهُ، وَمَنْ قَالَ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ، فَعَلَى حَسَبِ اطِّلَاعِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَأَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ، وَكَأَنَّهُ عَلَى ضَمِّ الْأَتْبَاعِ وَالصِّبْيَانِ، وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَهَذَا تَحْرِيرٌ بَالِغٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5883 -
ــ
5883 -
(وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (فَنَزَحْنَاهَا) أَيْ: نَزَعْنَا مَاءَهَا (فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: خَبَرُ نَفَادِ مَائِهَا (فَأَتَاهَا، فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهِ)، أَيْ: طَرَفُهَا (ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ) أَيْ: مَجَّهُ فِيهَا. (ثُمَّ قَالَ: دَعُوهَا) أَيِ: اتْرُكُوهَا (سَاعَةً) : لَعَلَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ وَقَعَتْ تَدْرِيجِيَّةً، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا السَّاعَةُ النُّجُومِيَّةُ اللُّغَوِيَّةُ، أَوِ الْمَدَّةُ الْقَلِيلَةُ بِحَسْبِ الْإِطْلَاقَاتِ الْعُرْفِيَّةِ (فَأَرْوَوْا) أَيِ: اسْقُوا سَقْيًا كَامِلًا (أَنْفُسَهُمْ وَرِكَابَهُمْ) أَيْ: إِبِلَهُمْ أَوْ مَرْكُوبَهُمْ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ (حَتَّى ارْتَحَلُوا) . أَيْ: سَافَرُوا عَنْهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَضِيَّةَ جَابِرٍ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مُتَكَرِّرَةٌ، وَالْعَجَبُ مِنَ النَّاسِ عُمُومًا وَخُصُوصًا أَنَّهُمْ مَا ضَبَطُوا هَذِهِ الْبِئْرَ، وَلَا جَعَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبِنَاءِ الْكَبِيرِ رَجَاءً لِلْخَيْرِ الْكَثِيرِ، مَعَ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنْ مَكَّةَ عَلَى طَرَفٍ حِدَّةٍ فِي طَرِيقِ جَدَّةَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5884 -
ــ
5884 -
(وَعَنْ عَوْفٍ) ، لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ وَلَعَلَّهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ (عَنْ أَبِي رَجَاءٍ) هُوَ عِمْرَانُ بْنُ تَمِيمٍ الْعُطَارِدِيُّ، أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، كَانَ عَالِمًا عَامِلًا مُعَمَّرًا، وَكَانَ مِنَ الْقُرَّاءِ، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي التَّابِعِينَ. (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ الْعَطَشَ، فَنَزَلَ فَدَعَا فُلَانًا) أَيْ: شَخْصًا مَعْرُوفًا (كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ وَنَسِيَهُ عَوْفٌ) أَيْ: فَعَبَّرَ عَنْهُ بِفُلَانًا (وَدَعَا عَلِيًّا)، أَيْ: أَيْضًا (فَقَالَ: اذْهَبَا فَابْتَغِيَا الْمَاءَ) أَيْ: فَاطْلُبَاهُ (فَانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مُزَادَتَيْنِ) : بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ: رَاكِبَةٌ بَيْنَ رَاوِيَتَيْنِ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ لِمَا يُوضَعُ فِيهِ الزَّادُ، (أَوْ سَطِيحَتَيْنِ) : قَالَ الْقَاضِي: وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْمَزَادَةِ يَكُونُ مِنْ جِلْدَيْنِ قُوبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَسُطِحَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: هِيَ أَصْغَرُ مِنَ الْمَزَادَةِ ثُمَّ قَوْلُهُ: (مِنْ مَاءٍ) . بَيَانٌ لِمَا فِيهِمَا (فَجَاءَ أَيِ: الصَّحَابِيَّانِ (بِهَا) أَيْ: بِالْمَرْأَةِ وَمَا مَعَهَا (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا)، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمَرْأَةِ أَيْ: طَلَبُوا مِنْهَا أَنْ تَنْزِلَ عَنِ الْبَعِيرِ، وَقِيلَ: رَاجِعٌ إِلَى الْمَزَادَةِ بِمَعْنَى أَنْزِلُوهَا، وَاسْتَنْزَلَ وَأَنْزَلَ بِمَعْنًى (وَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ) أَيْ: طَلَبَهُ (فَفَرَّغَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: صَبَّ (فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ)، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْجِيحِهَا عِنْدَ الرَّاوِي (وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: أَسْقُوا) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ وَقِيلَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَكْسُورَةٍ أَيِ: اسْقُوا أَنْفُسَكُمْ وَغَيْرَكُمْ، وَالْمَعْنَى خُذُوا الْمَاءَ قَدَرَ حَاجَتِكُمْ (فَاسْتَقَوْا) أَيْ: فَأَخَذُوا الْمَاءَ جَمِيعُهُمْ.
(قَالَ) أَيْ: عِمْرَانُ (فَشَرِبْنَا عِطَاشًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ عَطْشَانَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ شَرِبْنَا (أَرْبَعِينَ رَجُلًا) : بَيَانٌ لَهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ شَارِحٌ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ عِطَاشًا أَوْ شَرِبْنَا (حَتَّى رَوِينَا)، بِكَسْرِ الْوَاوِ (فَمَلَأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ) : مَعَنَا (وَايْمُ اللَّهِ) أَيْ: وَايْمُنُ اللَّهِ قَسَمِي لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: انْكَفَتِ الْجَمَاعَةُ عَنْ تِلْكَ الْمَزَادَةِ وَرَجَعُوا عَنْهَا (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَيُخَيَّلُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: لَيُشَبَّهُ (إِلَيْنَا أَنَّهَا) أَيْ: تِلْكَ الْمَزَادَةُ (أَشَدُّ مِلْئَةً) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَيُفْتَحُ وَسُكُونِ اللَّامِ فِعْلَةٌ مِنَ الْمَلْءِ مَصْدَرُ مَلَأْتُ الْإِنَاءَ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْمَزَادَةِ (حِينَ ابْتَدَأَ) . أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْآخِذُ مِنْهَا. وَفِي نُسْخَةٍ: ابْتُدِئَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: الِاسْتِقَاءُ وَالشُّرْبُ مِنْهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا حِينَئِذٍ كَانَتْ أَكْثَرَ مَاءً تِلْكَ السَّاعَةَ الَّتِي اسْتَقَوْا مِنْهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5885 -
«وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، وَإِذَا شَجَرَتَيْنِ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ:(انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ:(انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) .
فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا قَالَ:(الْتَئِمَا عَلَيَّ، بِإِذْنِ اللَّهِ) . فَالْتَأَمَتَا، فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ، فَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلًا، وَإِذَا الشَّجَرَتَيْنِ قَدِ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5885 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ) أَيْ: وَاسِعًا عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، وَإِذَا شَجَرَتَيْنِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: بِالنَّصْبِ كَذَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، وَأَكْثَرُ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا شَجَرَتَانِ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ مُغَيَّرٌ، فَتَقْدِيرُ النَّصْبِ فَوَجَدَ شَجَرَتَيْنِ نَابِتَتَيْنِ (بِشَاطِئِ الْوَادِي) أَيْ: بِطَرَفِهِ. وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ، وَرُوِيَ شَجَرَتَيْنِ بِإِضْمَارِ رَأَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِشَجَرَتَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، (فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنَيْنِ مِنْ أَغْصَانِهِ فَقَالَ: انْقَادِي عَلَيَّ) أَيْ: لِلتَّسَتُّرِ عَلَيَّ (بِإِذْنِ اللَّهِ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَا تَعْصَيْ عَلَيَّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] أَيْ: لِمَ
تَخَافُنَا عَلَيْهِ. (فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ) : وَهُوَ الَّذِي فِي أَنْفِهِ الْخِشَاشِ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ عُوَيْدَةٌ تُجْعَلُ فِي أَنْفِ الْبَعِيرِ، لِيَكُونَ أَسْرَعَ إِلَى الِانْقِيَادِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ)، قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ أَيْ: يَنْقَادُ لَهُ وَيُرَافِقُهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْمُصَانَعَةِ الرِّشْوَةُ وَهِيَ أَنْ تَصْنَعَ لِصَاحِبِكَ شَيْئًا لِيَصْنَعَ لَكَ شَيْئًا. (حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ) : هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ نِصْفُ الطَّرِيقِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَوْضِعُ الْوَسَطُ مِمَّا بَيْنَهُمَا (قَالَ: الْتَئِمَا) أَيْ: تَقَارَبَا (عَلَيَّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ حَالٌ أَيِ: اجْتَمِعَا مُظِلَّتَيْنِ عَلَيَّ (بِإِذْنِ اللَّهِ فَالْتَأَمَتَا) أَيْ: حَتَّى قَضَى الْحَاجَةَ بَيْنَهُمَا (قَالَ جَابِرٍ: فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي) أَيْ: بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ (فَحَانَتْ) أَيْ: فَظَهَرَتْ (مِنِّي لَفْتَةٌ)، أَيِ: الْتِفَاتَةٌ (فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلًا)، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ حَانَ إِذَا أَتَى وَقْتُ الشَّيْءِ، وَاللَّفْتَةُ فَعْلَةٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ، (وَإِذَا الشَّجَرَتَيْنِ) أَيْ: وَجَدْتُهُمَا أَوْ رَأَيْتُهُمَا (قَدِ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ) . أَيْ: وَقَفَتْ بِانْفِرَادِهَا فِي مَكَانِهَا، فَفِيهِ مُعْجِزَتَانِ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5886 -
ــ
5886 -
(وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) : هُوَ شَيْخُ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، رَوَى الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْهُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْمَكِّيِّ، وَلِلْبُخَارِيِّ ثُلَاثِيَّاتٍ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَوْلَى سَلَمَةَ، رَوَى عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ. (قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٌ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ؟ قَالَ: ضَرْبَةٌ) أَيْ: هِيَ ضَرْبَةٌ (أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ)، وَفِي نُسْخَةٍ أَصَابَتْنِيهِمَا أَيِ: السَّاقُ، وَفِي نُسْخَةٍ أَصَابَتْهَا، وَفِي نُسْخَةٍ أُصِبْتُهَا بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَقَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ) أَيْ: مَاتَ لِشِدَّةِ أَثَرِهَا (فَأَتَيْتُ الْنَبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَفَثَ فِيهِ) أَيْ: فِي مَوْضِعِ الضَّرْبَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا أَيْ: فِي نَفْسِ الضَّرْبَةِ أَوْ فِي السَّاقِ (ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ) : بِالْجَرِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: السَّاعَةُ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ بِالْجَرِّ عَلَى خِلَافِ مَا جَعَلَهُ الْكِرْمَانِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَلْزَمُ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ الِاشْتِكَاءُ مِنَ الْحِكَايَةِ، وَأَجَابَ: بِأَنَّ السَّاعَةَ مَنْصُوبٌ، وَحَتَّى لِلْعَطْفِ، فَالْمَعْطُوفُ دَاخِلٌ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَيْ: مَا اشْتَكَيْتُهَا زَمَانًا حَتَّى السَّاعَةَ نَحْوَ: أَكَلْتُ السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا، قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا وَجَدْتُ أَثَرَ وَجَعٍ إِلَى الْآنَ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا أَدْرِي أَجِدُهُ أَمْ لَا؟ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَهَا خِلَافُ مَا قَبْلَهَا، أَوِ الْمُرَادُ نَفْيُ الشِّكَايَةِ بِآكَدَ، وُجِدَ بِأَنَّ مُرَادَهُ مَا وَجَدْتُ وَجَعًا إِلَى الْآنَ، فَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ وَجَعٌ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يُوجَدَ وَجَعٌ بَعْدَ مُدَّةٍ مَضَتْ مِنْ بُرْئِهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.
5887 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«نَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ فَقَالَ: (أَخْذَ الرَّايَةَ زِيدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ـ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ـ حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ - يَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدَ - حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5887 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا» ) أَيْ: زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ (وَجَعْفَرًا) أَيِ: ابْنَ أَبِي طَالِبٍ (وَابْنَ رَوَاحَةَ) أَيْ: أَخْبَرَ بِمَوْتِهِمْ لِلنَّاسِ فِيهِ جَوَازُ النَّعْيِ (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ)، أَيْ: فَكَانَ مُعْجِزَةً (وَقَدْ كَانُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا مُؤْتَةُ) : بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ فَهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ قَرْيَةٌ بِالشَّامِ، وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَالرُّومُ مَعَ هِرَقْلَ مِائَةَ أَلْفٍ، (فَقَالَ) : تَفْسِيرٌ وَتَفْصِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ أَيْ: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم (أَخَذَ الرَّايَةَ) أَيِ: الْعَلَمَ (زَيْدٌ) : إِذِ الْعَادَةُ أَنْ يَأْخُذَهُ أَمِيرُ الْعَسْكَرِ (فَأُصِيبَ) أَيِ: اسْتُشْهِدَ (ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ) أَيِ: الرَّايَةَ (فَأُصِيبَ) أَيْ: عَلَى تَفْصِيلٍ مَشْهُورٍ (ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ.
تَسِيلَانِ دَمْعًا لِلثَّلَاثَةِ مِنْ خَبَرِ مَوْتِهِمْ (حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ) أَيْ: شَجِيعٌ مِنْ شُجْعَانِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُعَدُّ أَلْفًا، وَانْقَطَعَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةُ أَسْيَافٍ، وَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ (يَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ) : تَفْسِيرٌ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ أَوْ مَنْ بَعْدَهُ، وَالْمَعْنَى يُرِيدُ الْنَبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْوَصْفِ السَّابِقِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ. (حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أَيْ: فِي يَدِهِ وَزَمَانِ إِمَارَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ قِتَالٌ فِيهِ هَزِيمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ حَتَّى رَجَعُوا غَانِمِينَ ; أَوِ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ حِيَازَةُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى رَجَعُوا سَالِمِينَ؟ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5888 -
ــ
5888 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قِيلَ: غَزْوَةُ حُنَيْنٍ، كَانَتْ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَحُنَيْنٌ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَرَاءَ عَرَفَاتٍ، (فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ)، أَيْ: وَوَقَعَ الْقِتَالُ الشَّدِيدُ فِيمَا بَيْنَهُمْ (وَلَّى الْمُسْلِمُونَ) أَيْ: بَعْضُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (مُدْبِرِينَ) أَيْ: لَكِنْ مُقْبِلِينَ إِلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ (فَطَفِقَ) أَيْ: شَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ) : بِضَمِّ الْكَافِ أَيْ: يُحَرِّكُ بِرِجْلِهِ (بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: إِلَى جِهَتِهِمْ وَقَابِلَتِهِمْ. قَالَ الْأَكْمَلُ: بَغْلَتُهُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: دُلْدُلُ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ، فَفِيهِ قَبُولُ هَدِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ، وَوَرَدَ أَنَّهُ رَدَّ بَعْضَ الْهَدَايَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقِيلَ: قَبُولُ الْهَدِيَّةِ نَاسِخٌ لِلرَّدِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا نَسْخَ، وَإِنَّمَا قَبِلَ مِمَّنْ طَمِعَ فِي إِسْلَامِهِ، وَيَرْجُو مِنْهُ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَرَدَّ مِمَّنْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. (وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكُفُّ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: أَمْنَعُهَا وَعِلَّةُ مَنْعِهَا (إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ)، أَيِ: الْبَغْلَةُ إِلَى جَانِبِ الْعَدُوِّ (وَأَبُو سُفْيَانَ) : قِيلَ: اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (آخِذٌ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: مَاسِكٌ (بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: تَأَدُّبًا وَمُحَافَظَةً (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْ: عَبَّاسُ) أَيْ: يَا عَبَّاسُ (نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ، وَهِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي بَايَعُوا تَحْتَهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ (فَقَالَ عَبَّاسٌ - وَكَانَ) أَيِ: الْعَبَّاسُ (- رَجُلًا صَيِّتًا -) : جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مِنْ كَلَامِ رَاوِي الْعَبَّاسِ بَعْدَهُ، وَالصَّيِّتُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: قَوِيُّ الصَّوْتِ، وَأَصْلُهُ صَيْوِتٌ وَإِعْلَالُهُ إِعْلَالُ سَيِّدٍ (فَقُلْتُ) أَيْ: فَنَادَيْتُ (بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ) أَيْ: لَا تَنْسَوْا بَيْعَتَكُمُ الْوَاقِعَةَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّمَرَةِ (فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (عَطْفَتَهُمْ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: رَجْعَتَهُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ لَكَأَنْ بِالتَّخْفِيفِ وَعَطْفَتُهُمْ بِالرَّفْعِ (حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْأَوَّلِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الثَّانِي (عَلَى أَوْلَادِهَا) : فِي نُسْخَةٍ أَوْلَادِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ (فَقَالُوا) أَيْ: بِأَجْمَعِهِمْ أَوْ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ (يَا لَبَّيْكَ) : الْمُنَادَى مَحْذُوفٌ أَيْ: يَا قَوْمُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(أَلَا يَا اسْجُدُوا) عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ (يَا لَبَّيْكَ) : التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ أَوِ التَّكْثِيرِ (قَالَ عَبَّاسٌ: فَاقْتَتَلُوا) أَيِ: الْمُسْلِمُونَ (وَالْكُفَّارَ)، بِالنَّصْبِ أَيْ: مَعَهُمْ (وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ) أَيْ: وَالنِّدَاءُ فِي حَقِّ الْأَنْصَارِ بِخُصُوصِهِمْ بَدَلَ مَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْمُهَاجِرِينَ بِحَسَبِ تَغْلِيبِهِمْ، (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ) فَأُطْلِقَ الْفِعْلُ، وَأُرِيدَ الْمَصْدَرُ عَلَى طَرِيقِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} [الروم: 24] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
" أَحْضُرَ الْوَغَى "" وَتَسْمَعُ بِالْمُعِيدِيِّ " وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(قَالَ) أَيِ: الْعَبَّاسُ (ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: اقْتَصَرَتْ وَانْحَصَرَتْ (عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ) أَيْ: فَنُودِيَ: يَا بَنِي الْحَارِثِ، وَهُمْ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ (فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ) : الْوَاوُ حَالٌ أَيْ: نَظَرَ صلى الله عليه وسلم حَالَ كَوْنِهِ عَلَى بَغْلَتِهِ وَقَوْلُهُ: (كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ، عَلَى بَغْلَتِهِ أَيْ: كَالْقَالِبِ الْقَادِرِ عَلَى سَوْقِهَا، وَقِيلَ: كَالَّذِي يَمُدُّ عُنُقَهُ لِيَنْظُرَ إِلَى مَا هُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ. (مَائِلًا إِلَى قِتَالِهِمْ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنَظَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا يُشْعِرُ أَنَّ نُسْخَتَهُ فِيهَا بَعْضُ اخْتِصَارٍ مُخِلٍّ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْمَصَابِيحِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عليه السلام (هَذَا حِينَ) : بِالْفَتْحِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِّ (حَمِيَ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الْوَطِيسُ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةً إِلَى الْقِتَالِ، وَحِينَ بِالْفَتْحِ ظَرْفٌ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى وَقْتِ الْقِتَالِ، وَحِينُ بِالرَّفْعِ خَبَرُهُ، وَقَالَ الْأَكْمَلُ: يَجُوزُ فِي حِينَ الْفَتْحُ ; لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَبْنِيٍّ، وَالضَّمُّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَحِينَ مَبْنِيٌّ ; لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ مُتَعَلِّقٍ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَيْ: هَذَا الْقِتَالُ حِينَ اشْتَدَّ الْحَرْبُ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَاسْتِعْظَامِ الْحَرْبِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ مَا قِيلَ أَنَّ هَذَا مُبْتَدَأٌ وَحِينَ خَبَرُهُ، وَبُنِيَ عَلَى الْفَتْحِ لِإِضَافَةٍ إِلَى الْفِعْلِ أَيْ: هَذَا الزَّمَانُ زَمَانٌ اشْتِدَادِ الْحَرْبِ، ثُمَّ الْوَطِيسُ شِدَّةُ التَّنُّورِ، أَوِ التَّنُّورُ نَفْسُهُ يُضْرَبُ مَثَلًا لِشِدَّةِ الْحَرْبِ الَّتِي يُشْبِهُ حَرُّهَا حَرَّهُ، وَفِي النِّهَايَةِ الْوَطِيسُ: شِبْهُ التَّنُّورِ، وَقِيلَ: هُوَ الضِّرَابُ فِي الْحَرْبِ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَطْءُ الَّذِي يَطِيسُ النَّاسَ أَيْ: يَدُقُّهُمْ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ حِجَارَةٌ مُدَوَّرَةٌ إِذَا حَمِيَتْ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ يَطَؤُهَا، وَلَمْ يُسْمَعْ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَعَبَّرَ بِهِ عَنِ اشْتِبَاكِ الْحَرْبِ وَقِيَامِهَا عَلَى سَاقٍ.
(ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ) أَيْ: قَائِلًا: (شَاهَتِ الْوُجُوهُ شَاهَتِ الْوُجُوهُ) . (ثُمَّ قَالَ) . أَيْ: تَفَاؤُلًا أَوْ إِخْبَارًا (انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ. فَوَاللَّهِ مَا هُوَ) أَيْ: لَيْسَ انْهِزَامُ الْكُفَّارِ (إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ) أَيْ: سِوَى رَمْيِهِمْ (بِحَصَيَاتِهِ)، أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ بِالْقِتَالِ وَالضَّرْبِ بِالسَّيْفِ وَالطِّعَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عِبَارَةً عَنِ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ وَيَكُونَ هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، (فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ) أَيْ: بَأْسَهُمْ وَحِدَّتَهُمْ وَسُيُوفَهُمْ وَشِدَّتَهُمْ (كَلِيلًا) أَيْ: ضَعِيفًا (وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا) . أَيْ: وَحَالَهُمْ ذَلِيلًا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ مُعْجِزَتَانِ ظَاهِرَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِحْدَاهُمَا فِعْلِيَّةٌ، وَالْأُخْرَى خَبَرِيَّةٌ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِهَزِيمَتِهِمْ وَرَمَاهُمْ بِالْحَصَيَاتِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ.
5889 -
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ رضي الله عنه، قَالَ:«قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ: يَا أَبَا عُمَارَةَ! فَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كَثِيرُ سِلَاحٍ، فَلَقَوْا قَوْمًا رُمَاةً لَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُهُ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ، وَقَالَ: (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ) ثُمَّ صَفَّهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلِلْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ.
ــ
5889 -
(وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ، رَأَى عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمَا، وَسَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ الْأَرْقَمِ. رَوَى عَنْهُ الْأَعْمَشُ، وَشُعْبَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ كَثِيرُ الرِّوَايَةِ. (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ) : جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مِنْ قَيْسٍ لَكِنْ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ (لِلْبَرَاءِ: يَا أَبَا عُمَارَةَ) بِضَمٍّ فَتَخْفِيفٍ (فَرَرْتُمْ) أَيْ: أَفَرَرْتُمْ كَمَا فِي الشَّمَائِلِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ (يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: لَا حَقِيقَةً وَلَا صُورَةً، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ تَغْيِيرِ فَرَّ إِلَى وَلَّى حُسْنُ عِبَارَةٍ (وَلَكِنْ خَرَجَ) أَيْ: إِلَى الْعَدُوِّ (شُبَّانُ أَصْحَابِهِ) : بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّبَابِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ وَقَارٌ وَرَأْيٌ عَلَيْهِ مَدَارٌ، وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الشَّمَائِلِ بِقَوْلِهِ: وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ مِنَ النَّاسِ أَيِ: الَّذِينَ يَتَسَارَعُونَ إِلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَمَعْرِفَةٍ كَامِلَةٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (لَيْسَ عَلَيْهِمْ كَثِيرُ سِلَاحٍ، فَلَقَوْا قَوْمًا رُمَاةً) أَيْ: تَلَقَّتْهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ عَلَى مَا فِي الشَّمَائِلِ (لَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ عَلَى الْأَرْضِ، فَرَشَقُوهُمْ) أَيْ: فَرَمَوْهُمْ رَشْقًا (مَا كَانُوا يُخْطِئُونَ)، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا
الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَهُ الْبَرَاءُ مِنْ بَدِيعِ الْأَدَبِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ فَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ، فَيَقْتَضِي أَنَّ الْنَبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَافَقَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْبَرَاءُ: لَا وَاللَّهِ مَا فَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَرَى لَهُمْ كَذَا وَكَذَا، (فَأَقْبَلُوا) أَيِ: الشُّبَّانُ (هُنَاكَ) أَيْ: ذَلِكَ الزَّمَانُ أَوِ الْمَكَانُ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: مُتَحَيِّزِينَ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَعَ هَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمُ الْفِرَارُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] قَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا فِئَتُكُمْ) .
فَإِنْ قُلْتَ: ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَأَقْبَلُوا، فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ لَهُ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَعَ لَهُمْ صُورَةُ الْإِدْبَارِ، ثُمَّ بَعْدَ تَوَجُّهِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ وَمُنَادَاتِهِمْ بِصِيَاحِ الْعَبَّاسِ حَصَلَ لَهُمْ سَعَادَةُ الْإِقْبَالِ، وَدَوْلَةُ الِاتِّصَالِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ صُورَةِ الْفِرَارِ إِلَى سِيرَةِ الْقَرَارِ. (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَعِنْدَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدُوسٍ أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي رَكِبَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ هِيَ:(دُلْدُلُ) وَكَانَتْ شَهْبَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ، يَعْنِي: صَاحِبَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَأَمَّا الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ يُقَالُ لَهَا: فِضَّةُ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ، وَذَكَرَ عَكْسَهُ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي مُسْلِمٍ. (وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُهُ) أَيْ: يَمْشِي قُدَّامَهُ، أَوْ يَقُودُ بَغْلَتَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ بِتَأْوِيلِ الْمَرْكُوبِ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ آخِذًا بِاللِّجَامِ، وَأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ آخِذًا بِالرِّكَابِ، لَكِنْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنَاوُبِ، أَوْ عَلَى تِلْكَ أَنَّ الْحَالَ لِشِدَّتِهَا احْتَاجَ إِلَى اثْنَيْنِ. (فَنَزَلَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَاسْتَنْصَرَ) أَيْ: طَلَبَ النَّصْرَ وَالْفَتْحَ لِأُمَّتِهِ كَمَا يَأْتِي تَتِمَّةُ قِصَّتِهِ (وَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ: ( «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» ) : بِسُكُونِ الْبَاءِ فِيهِمَا عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ فِي السَّجْعِ وَالنَّظْمِ، وَإِنَّمَا صَدَرَ هَذَا مِنْ مِشْكَاةِ صَدْرِ النُّبُوَّةِ مُسْتَقِيمًا عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ الْمَوْزُونِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ مِنْهُ، فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ شِعْرًا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَدْ غَفَلَ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالَ: الرِّوَايَةُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِالْخَفْضِ حِرْصًا عَلَى تَغْيِيرِ الرِّوَايَةِ لِيَسْتَغْنِيَ عَنِ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الرَّجَزِ الَّذِي جَرَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَوْقَاتِهِ، وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَعَ شَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَمْ يُعَلَّمِ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ وَإِنِ اسْتَوَى عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ إِذًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّعْرَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ صُدُورُهُ عَنْ نِيَّةٍ لَهُ وَرَوِيَّةٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ اتِّفَاقُ كَلَامٍ أَحْيَانًا فَيَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ عَلَى بَعْضِ أَعَارِيضِ الشِّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نَسَبَ نَفْسَهُ إِلَى جَدِّهِ دُونَ أَبِيهِ، وَافْتَخَرَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ الِافْتِخَارَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ ; فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ شُهْرَتُهُ بِجَدِّهِ أَكْثَرَ، لِأَنَّ أَبَاهُ قَدْ تُوُفِّيَ شَابًّا قَبْلَ اشْتِهَارِهِ، وَكَانَ جَدُّهُ مَشْهُورًا شُهْرَةً ظَاهِرَةً شَائِعَةً، وَكَانَ سَيِّدَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ مُشْتَهِرًا عِنْدَهُمْ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بُشِّرَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ سَيَظْهَرُ، وَيَكُونُ شَأْنُهُ عَظِيمًا، وَكَانَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ، يَعْنِي: وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُهَّانِ، وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ رَأَى رُؤْيَا تَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِذَلِكَ، وَيُنَبِّهَهُمْ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ظُهُورِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُ لِتَقْوَى نُفُوسُهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَيْضًا أَنَّهُ ثَابِتٌ يُلَازِمُ الْحَرْبَ لَمْ يُوَلِّ مَعَ مَنْ وَلَّى، وَعَرَّفَهُمْ مَوْضِعَهُ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ الرَّاجِعُونَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، فَمَعْنَاهُ أَنَا النَّبِيُّ حَقًّا، فَلَا أَفِرُّ، وَلَا أَزُولُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ فِي الْحَرْبِ: أَنَا فُلَانٌ، أَوْ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ، يَعْنِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَةِ إِظْهَارُهُ لِلشَّجَاعَةِ، فَلَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. (ثُمَّ) أَيْ: بَعْدَمَا اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ، وَرَجَعَ الشُّبَّانُ الْمُسْرِعُونَ (صَفَّهُمْ) أَيْ: جَعَلَهُمْ صَافِّينَ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(وَلِلْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ) أَيْ: فَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي مُؤَدَّاهُ.
5890 -
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا، «قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِيهِ، يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم» -.
ــ
5890 -
(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ) أَيِ: اشْتَدَّ الْحَرْبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَوْتٌ أَحْمَرُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: احْمِرَارُ الْبَأْسِ كِنَايَةٌ عَنِ اشْتِدَادِ الْحَرْبِ، فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِحُمْرَةِ الدِّمَاءِ الْحَاصِلَةِ، أَوْ لِإِسْعَارِ نَارِ الْحَرْبِ وَاشْتِعَالِهَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: حَمِيَ الْوَطِيسُ (نَتَّقِي بِهِ) ، أَيْ نَلْتَجِئُ إِلَيْهِ، وَنَطْلُبُ الْخَلَاصَ بِسَبَبِهِ (وَإِنَّ الشُّجَاعَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيِ: الْبَلِيغَ فِي الشَّجَاعَةِ (مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِيهِ)، أَيْ: يُوَازِيهِ وَيُحَاذِي مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقْدِرْ حِينَئِذٍ عَلَى التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَبَانًا فَيَفِرَّ عَنْهُ، أَوْ شَجِيعًا فَيَعُوذَ لَهُ وَيَلُوذَ إِلَيْهِ. (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ الْبَرَاءُ بِالضَّمِيرَيْنِ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) . وَفِيهِ بَيَانُ شَجَاعَتِهِ وَعَظِيمُ وُثُوقِهِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ.
5891 -
ــ
5891 -
(وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَ: غَزَوْنَا) أَيِ: الْكُفَّارَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا)، أَيْ: يَوْمَ حُنَيْنٍ (فَوَلَّى صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: بَعْضُهُمْ (فَلَمَّا غَشُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : عَلَى زِنَةِ رَضُوا، وَالضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ أَيْ: لَمَّا قَارَبُوا غَشَيَانَهُ (نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ) أَيْ: بِالتُّرَابِ (رَامِيًا وُجُوهَهُمْ. فَقَالَ) أَيْ: دُعَاءً أَوْ خَبَرًا (شَاهَتِ الْوُجُوهُ)، أَيْ: تَغَيَّرَتْ وَقُبِّحَتْ (فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا) أَيْ: فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ (إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ)، وَالتَّعْبِيرُ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ لِإِفَادَةِ التَّأْكِيدِ وَتَقْرِيرِ الْحَصْرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ بَيَانُ الْمُعْجِزَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِيصَالُ تُرَابِ تِلْكَ الْقَبْضَةِ إِلَى أَعْيُنِهِمْ جَمِيعًا. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا بِحَيْثُ مَلَأَتْ عَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ الْيَسِيرَةِ وَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيمَنْ ضَامَّهُمْ مِنْ إِمْدَادِ سَائِرِ الْعَرَبِ. قُلْتُ: وَالثَّالِثُ انْهِزَامُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ) : حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ أَوْ مُقَيِّدَةٌ أَيْ: غَيْرَ رَاجِعِينَ (فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ) أَيْ: وَنَصَرَ رَسُولَهُ وَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ عِزِّ الْجَاهِ وَحُسْنِ الْحَالِ وَغَنِيمَةِ الْمَالِ، وَلِذَا قَالَ:(وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5892 -
«وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ:(هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، وَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ الَّذِي تُحَدِّثُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَدْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ فَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ فَقَالَ:(أَمَّا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَجَدَ.
الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ، قَدِ انْتَحَرَ فُلَانٌ وَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) » رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5892 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْنَا) أَيْ: حَضَرْنَا (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ) أَيْ: فِي حَقِّهِ وَشَأْنِهِ (مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اسْمُ الرَّجُلِ قَرْمَانُ قَالَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ) : مَقُولٌ لِلْقَوْلِ (فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ)، أَيْ: وَقْتُهُ (قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ وَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ)، بِكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ الْجِرَاحَةِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (فَجَاءَ رَجُلٌ) أَيْ: مُتَعَجِّبًا (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ الَّذِي تُحَدِّثُ) أَيْ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَالِ مَنْ أَخْبَرْتَ (عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ فَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ) ؟ أَيْ: وَظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشَدَّ الْقِتَالِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ (فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) أَيِ: الْقَوْلُ مَا قُلْتُ لَكَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَكَ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِصُورَةِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ عَلَى حُسْنِ الْأَحْوَالِ وَخَاتِمَةِ الْآمَالِ (فَكَادَ) أَيْ: قَرُبَ (بَعْضُ النَّاسِ) أَيْ: بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَهُ ضَعْفٌ فِي الدِّينِ، وَقِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِعِلْمِ الْيَقِينِ (يَرْتَابُ) أَيْ: يَشُكُّ فِي أَمْرِهِ، لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. (فَبَيْنَمَا هُوَ) أَيِ: الرَّجُلُ (عَلَى ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ مُبْهَمِ الْحَالِ (إِذْ وَجَدَ
الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ) أَيْ: قَصَدَ وَمَالَ (إِلَى كِنَانَتِهِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: إِلَى جُعْبَتِهِ وَهِيَ ظَرْفُ سَهْمِهِ (فَانْتَزَعَ سَهْمًا) أَيْ: فَأَخْرَجَهُ (فَانْتَحَرَ) أَيْ: نَحَرَ نَفْسَهُ (بِهَا) . أَيْ: بِالْمِعْبَلَةِ الَّتِي هِيَ مُرَكَّبَةٌ فِي السَّهْمِ وَهِيَ كَمِكْنَسَةِ نَصْلٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَاتَ كَافِرًا لِخُبْثِ بَاطِنِهِ، أَوْ فَاسِقًا بِقَتْلِ نَفْسِهِ، (فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: عَدْوًا وَأَسْرَعُوا قَاصِدِينَ وَمُتَوَجِّهِينَ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ)، بِتَشْدِيدِ الدَّالِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ أَيْ: حَقَّقَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِهَا أَيْ: صَدَقَ اللَّهُ فِي إِخْبَارِكَ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ (قَدِ انْتَحَرَ فُلَانٌ وَقَتَلَ نَفْسَهُ) . عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَبَيَانٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)، قَالَ شَارِحٌ: هَذَا كَلَامٌ يُقَالُ عِنْدَ الْفَرَحِ فَرِحَ عليه السلام حِينَ ظَهَرَ صِدْقُهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مُحْتَمِلٌ تَعَجُّبًا وَفَرَحًا لِوُقُوعِ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ، فَعَظَّمَ اللَّهَ تَعَالَى حَمْدًا وَشُكْرًا لِتَصْدِيقِ قَوْلِهِ: وَأَنْ يَكُونَ كَسْرًا لِلنَّفْسِ وَعَجَبِهَا، حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ وَيَنْصُرُهُ قَوْلُهُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ (يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ) أَيْ: فَأَعْلِمِ النَّاسَ ( «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ» ) أَيْ: خَالِصٌ احْتِرَازًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ مُؤْمِنٌ كَامِلٌ، فَالْمُرَادُ دُخُولُهَا مَعَ الْفَائِزِينَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِعَذَابٍ. ( «وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» ) . أَيِ: الْمُنَافِقِ أَوِ الْفَاسِقِ مِمَّنْ يَعْمَلُ رِيَاءً أَوْ يَخْلِطُ بِهِ مَعْصِيَةً، وَرُبَّمَا يَكُونُ عَمَلًا بِهِ سُوءُ الْخَاتِمَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَالْجُمْلَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً تَحْتَ التَّأْذِينِ، أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْقَائِلِينَ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ مَنْ يُصَنِّفُ أَوْ يُدَرِّسُ أَوْ يُعَلِّمُ أَوْ يَتَعَلَّمُ أَوْ يُؤَذِّنُ أَوْ يَؤُمُّ أَوْ يَأْتَمُّ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، كَمَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ زَاوِيَةً لِغَرَضٍ فَاسِدٍ وَقَصْدٍ كَاسِدٍ مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِنِظَامِ الدِّينِ وَقَوَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَصَاحِبُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْرُومِينَ، جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُخْلِصِينَ بَلْ مِنَ الْمُخْلَصِينَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا مُسْلِمٌ. وَفِي الْجَامِعِ: ( «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ» ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ:" «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ الْإِسْلَامَ بِرِجَالٍ مَا هُمْ مِنْ أَهْلِهِ» ".
5893 -
«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ.
حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدِي، دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ:(أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ، جَاءَنِي رَجُلَانِ، جَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ. قَالَ: فِي مَاذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ) فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ. فَقَالَ: (هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) فَاسْتَخْرَجَهُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5893 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «سُحِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» - أَيْ: سَحَرَهُ يَهُودِيٌّ (حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: لَيَظُنُّ (أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ) أَيِ: الْفُلَانِيَّ مَثَلًا (وَمَا فَعَلَهُ)، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ. قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ مِنْ حَيْثُ النِّسْيَانِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ وَمَا فَعَلَهُ، أَوْ أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ وَقَدْ فَعَلَ، وَذَلِكَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا لَا فِي الدِّينِ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى:{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهَا مَا تَسْعَى، بَلْ أَنَّهُمْ لَطَّخُوهَا بِالزِّئْبَقِ، فَلَمَّا ضَرَبَتْ عَلَيْهَا الشَّمْسُ اضْطَرَبَتْ، فَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَتَحَرَّكُ {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: يَعْنِي فَأَضْمَرَ فِيهَا خَوْفًا مِنْ مُفَاجَأَتِهِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَقَدْ قُرِئَ: يُخَيِّلُ عَلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ مَنْزِلِ النُّبُوَّةِ لِذَلِكَ، وَأَنَّ تَجَوُّزَهُ يَمْنَعُ الثِّقَةَ بِالشَّرْعِ، وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى صِدْقِهِ وَعِصْمَتِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، وَالْمُعْجِزَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ، وَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ بَاطِلٌ، فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِهَا، فَهُوَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْبَشَرِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يُتَخَيَّلُ إِلَيْهِ مَا يُخَيَّلُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ صِحَّتَهُ، وَكَانَتْ مُعْتَقَدَاتُهُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ صِحَّةَ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالدِّينِ، ثُمَّ يُنَبَّهُ عَلَيْهِ، وَيُبَيَّنُ لَهُ صَحِيحُ الِاعْتِقَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى:{لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68] وَقِيلَ: مَعْنَى لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَيْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ، فَإِذَا دَنَا مِنْهُ أَخَذَتْهُ أَخْذَةُ السِّحْرِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكُلُّ مَا جَاءَ مِنْ أَنَّهُ يُخَيِّلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ، فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّخَيُّلِ بِالْبَصَرِ لَا بِالْعَقْلِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَطْعَنُ بِالرِّسَالَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَأَمَّا مَا زَعَمُوا مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ فِي الشَّرْعِ بِأَنْبِيَائِهِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا يَعْمَلُ فِي أَبْدَانِهِمْ، وَهُمْ بَشَرٌ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ مَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ تَأْثِيرُ السِّحْرِ فِي أَبْدَانِهِمْ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقَتْلِ، وَتَأْثِيرُ السُّمِّ وَعَوَارِضِ الْأَسْقَامِ فِيهِمْ، وَقَدْ قُتِلَ زَكَرِيَّا وَابْنُهُ، وَسُمَّ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا أَمْرُ الدِّينِ فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ عز وجل وَأَرْصَدَهُمْ لَهُ، وَهُوَ جَلَّ ذِكْرُهُ حَافِظٌ لِدِينِهِ وَحَارِسٌ لِوَحْيِهِ أَنْ يَلْحَقَهُ فَسَادٌ وَتَبْدِيلٌ بِأَنْ لَا يَطُولَ ذَلِكَ، بَلْ يَزُولَ سَرِيعًا، وَكَأَنَّهُ مَا حَلَّ، وَفَائِدَةُ الْحُلُولِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ هَذَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَعَلَى أَنَّ السِّحْرَ تَأْثِيرُهُ حَقٌّ، فَإِنَّهُ إِذَا أَثَّرَ فِي أَكْمَلِ الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ غَيْرُهُ؟ (حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ) : بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، لَكِنَّ الرَّفْعَ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهَا (عِنْدِي، دَعَا اللَّهُ وَدَعَاهُ)، كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ أَوِ التَّكْثِيرِ أَيْ: وَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَتَى عَقِبَ دُعَائِهِ بِدُعَاءٍ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَ حُصُولِ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ، وَحُسْنِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
(ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ) أَيْ: أَعَلِمْتِ (يَا عَائِشَةُ! أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي) أَيْ: بَيَّنَ لِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ أَيْ فِيمَا طَلَبْتُ بَيَانَ الْأَمْرِ مِنْهُ، وَكَشْفَهُ عَنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ:(جَاءَنِي رَجُلَانِ) أَيْ: مَلَكَانِ عَلَى صُورَةِ رَجُلَيْنِ (جَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي)، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّثْنِيَةِ (ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ) ؟ أَيْ مَا سَبَبُ تَعَبِهِ الَّذِي بِمَنْزِلَةِ وَجَعِهِ (قَالَ: مَطْبُوبٌ) . أَيْ هُوَ مَسْحُورٌ، يُقَالُ: طُبَّ الرَّجُلُ إِذَا سُحِرَ، فَكَنَّوْا بِالطَّبِّ عَنِ السِّحْرِ، كَمَا كَنَّوْا بِالسَّلِيمِ عَلَى اللَّدِيغِ. (قَالَ) أَيِ: الْآخَرُ (وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ) . قِيلَ أَيْ: بَنَاتُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] أَيِ النِّسَاءِ أَوِ النُّفُوسِ السَّوَاحِرِ الَّتِي يَعْقِدْنَ عُقَدًا فِي خُيُوطٍ وَيَنْفُثْنَ عَلَيْهَا، وَالنَّفْثُ النَّفْخُ مَعَ رِيقٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَتَخْصِيصُهُ بِالتَّعَوُّذِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ يَهُودِيًّا سَحَرَ الْنَبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً فِي وَتَرٍ دَسَّهُ فِي بِئْرٍ، فَمَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ، وَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِمَوْضِعِ السِّحْرِ، فَأَرْسَلَ عَلِيًّا رضي الله عنه، فَجَاءَ بِهِ فَقَرَأَهُمَا عَلَيْهِ، فَكَانَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَوَجَدَ بَعْضَ الْخِفَّةِ» ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ صِدْقَ الْكَفَرَةِ فِي أَنَّهُ مَسْحُورٌ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ بِوَاسِطَةِ السِّحْرِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّةٌ أُخْرَى، فَإِنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوُقُوعِ نَوْعَيْنِ مِنَ السِّحْرِ لَهُ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ. وَإِنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَعَ مِنْ لَبِيدٍ، وَالْآخَرُ مِنْ بَنَاتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ) أَيِ: الْآخَرُ (فِي مَاذَا) ؟ أَيْ سُحِرَ فِي أَيِّ شَيْءٍ (قَالَ: فِي مُشْطٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمُشْطُ مُثَلَّثَةٌ وَكَكَتِفٍ وَعُنُقٍ وَعُتُلٍّ وَمِنْبَرٍ آلَةٌ يُمْتَشَطُ بِهَا (وَمُشَاطَةٍ) : بِضَمِّ الْمِيمِ مَا سَقَطَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوِ اللِّحْيَةِ عِنْدَ تَسْرِيحِهِ بِالْمُشْطِ (وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ) ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَهُوَ وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلِ، وَطَلْعَةِ ذَكَرٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَأَرَادَ بِالذَّكَرِ فَحْلَ النَّخْلِ، قِيلَ: وَيُرْوَى جُبِّ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: دَاخِلِ طَلْعَةِ ذَكَرٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجُفُّ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْفَاءِ، هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَرِ بِلَادِنَا. وَفِي بَعْضِهَا جُبٌّ بِالْبَاءِ، وَهُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَلِهَذَا أَضَافَ فِي الْحَدِيثِ طَلْعَةَ إِلَى ذَكَرٍ إِضَافَةَ بَيَانٍ. (قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِمَّا سُحِرَ بِهِ (قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ) : بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. قَالَ شَارِحٌ: وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ. قِيلَ: هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّ أَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ أَشْهَرُ مِنْ ذَرْوَانَ، وَذَرْوَانُ عَلَى مَسِيرَةِ سَاعَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ بُنِيَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ، قُلْتُ: فَذَرْوَانُ أَوْفَقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ، وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي مُعْظَمِهَا
ذَرْوَانُ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ مَشْهُورٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَجْوَدُ، وَهِيَ بِئْرٌ فِي الْمَدِينَةِ فِي بُسْتَانِ أَبِي زُرَيْقٍ (فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ) أَيْ: مَعَ جَمْعٍ (مِنْ أَصْحَابِهِ) أَيِ: الْمَخْصُوصِينَ (إِلَى الْبِئْرِ: (هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (وَكَأَنَّ) : بِالتَّشْدِيدِ (مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ)، بِضَمِّ النُّونِ أَيْ: لَوْنُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَاءَهَا مُتَغَيِّرٌ لَوْنُهُ مِثْلُ مَاءٍ نُقِعَ فِيهِ الْحِنَّاءُ وَالنُّقَاعَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَنْقُوعِ. (وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) . قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: أَرَادَ بِالنَّخْلِ طَلْعَ النَّخْلِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَدْفُوعًا فِيهَا، وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ ذَلِكَ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ، فَلِمَا صَادَفُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالنَّفْرَةِ وَقُبْحِ الْمَنْظَرِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعُدُّ صُوَرَ الشَّيَاطِينِ مِنْ أَقْبَحِ الْمَنَاظِرِ ذَهَابًا فِي الصُّورَةِ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالشَّيَاطِينِ الْحَيَّاتُ الْخَبِيثَاتُ الْعُرُمَاتُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِهَذَا الْمَنْظَرِ فِي الْحَدِيثِ مَسُوقٌ عَلَى نَصِّ الْكِتَابِ فِي التَّمْثِيلِ. قَالَ تَعَالَى:{كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65](فَاسْتَخْرَجَهُ) ، أَيْ مَا ذُكِرَ مِمَّا سُحِرَ بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5894 -
ــ
5894 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) : رضي الله عنه (قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ) أَيْ: حَاضِرُونَ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا) : قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: الْقَسْمُ مَصْدَرُ قَسَمْتُ الشَّيْءَ فَانْقَسَمَ سُمِّيَ الشَّيْءُ الْمَقْسُومُ، وَهُوَ الْغَنِيمَةُ بِالْمَصْدَرِ، وَالْقِسْمُ بِالْكَسْرِ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، وَلَا وَجْهَ لِلْمَكْسُورَةِ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَا إِذَا تَفَرَّدَ نَصِيبٌ، وَهَذَا الْقَسْمُ كَانَ فِي غَنَائِمِ خَيْبَرَ قَسَمَهَا بِالْجِعْرَانَةِ. (أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ) : تَصْغِيرُ الْخَاصِرَةِ (وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) : قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ شَهِيرَةٌ وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] فَهُوَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ مِنْ أَصْلِهِ يَخْرُجُ الْخَوَارِجُ، وَأَمَّا قَوْلُ شَارِحٍ: هُوَ رَئِيسُ الْخَوَارِجِ فَفِيهِ مُسَامَحَةٌ إِذْ أَوَّلُ ظُهُورِهِمْ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اعْدِلْ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّوْرِيَةَ كَمَا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ النِّفَاقِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْعَدْلِ التَّسْوِيَةُ، أَوْ قِسْمَةُ الْحَقِّ اللَّائِقِ بِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعَدْلِ الَّذِي فِي مُقَابِلِ الظُّلْمِ، لَكِنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِنُورِ النُّبُوَّةِ أَوْ ظُهُورِ الْفِرَاسَةِ أَوْ قَرِينَةِ الْحَالِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي إِعْطَائِهِ يَرَى قَدْرَ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ، وَلِأَنَّ التَّسْرِيَةَ فِي مَكَانٍ يَنْبَغِي التَّفَاضُلُ نَوْعٌ مِنَ الظُّلْمِ فَغَضِبَ عَلَيْهِ. (فَقَالَ: وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ. قَدْ خِبْتَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَاءِ الْخِطَابِ أَيْ: حُرِمْتَ الْمَقْصُودَ (وَخَسِرْتَ) : عَلَى الْخِطَابِ أَيْضًا (إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ) : قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا رَدَّ الْخَيْبَةَ وَالْخُسْرَانَ إِلَى الْمُخَاطَبِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ عَدْلٍ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَبَعَثَهُ لِيَقُومَ بِالْعَدْلِ فِيهِمْ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ فَقَدْ خَانَ الْمُعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَيْهِمْ، فَخَابَ وَخَسِرَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ فَضْلًا مِنْ أَنْ يُرْسِلَهُمْ إِلَى عِبَادِهِ انْتَهَى. وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ ذَلِكَ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يَعْدِلُ فَقَدْ خَابَ الْقَائِلُ وَخَسِرَ بِهَذَا الْحُكْمِ.
(فَقَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ) . بِالْجَزْمِ وَجُوِّزَ رَفْعُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ (فَقَالَ: دَعْهُ)، أَيِ اتْرُكْهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَيْفَ مَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهِ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ. قِيلَ: إِنَّمَا أَبَاحَ قَتْلَهُمْ إِذَا كَثُرُوا، وَامْتَنَعُوا بِالسِّلَاحِ، وَاسْتَعْرَضُوا النَّاسَ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةً حِينَ مَنَعَ مِنْ قَتْلِهِمْ، وَأَوَّلُ مَا نَجَمَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمُ انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ مَا ذَكَرَهُ الْأَكْمَلُ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حُسْنِ أَخْلَاقِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: (اعْدِلْ) . وَفِي رِوَايَةٍ: اتَّقِ اللَّهَ، وَفِي أُخْرَى: إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْقَتْلَ إِذْ فِيهِ النَّقْصُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا لَوْ قَالَهُ أَحَدٌ فِي عَصْرِنَا لَحُكِمَ بِكُفْرِهِ أَوِ ارْتِدَادِهِ انْتَهَى. وَهُوَ لَا يُنَافِي تَعْلِيلَ مَنْعِهِ عَنْ قَتْلِهِ بِقَوْلِهِ:(فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا) أَيْ: أَتْبَاعًا سَيُوجَدُونَ
مِنْ نَعْتِهِمْ (أَنَّهُ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ)، أَيْ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (مَعَ صَلَاتِهِمْ) أَيْ: فِي جَنْبِ صَلَاتِهِمُ الْمُزَيَّنَةِ الْمُحَسَّنَةِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ)، أَيْ فِي نَوَافِلِ أَيَّامِهِمْ. قَالَ شَارِحٌ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ هَذَا النَّهْيُ عَلَى إِطْلَاقِهِ (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ: يُدَاوِمُونَ عَلَى تِلَاوَتِهِ، وَيُبَالِغُونَ فِي تَجْوِيدِهِ، وَتَرْتِيلِهِ، وَمُرَاعَاةِ مَخَارِجِ حُرُوفِهِ وَصِفَاتِهِ (لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ لَا يَتَجَاوَزُ مَقْرُوءُهُمْ عَنْ حُلُوقِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ صُعُودِ عَمَلِهِمْ، وَنَفْيِ قَبُولِ قِرَاءَتِهِمْ. قَالَ شَارِحٌ: وَالتَّرَاقِي جَمْعُ تَرْقُوَةٍ، وَهِيَ الْعِظَامُ بَيْنَ نَقْرَةِ الْحَلْقِ وَالْعَاتِقِ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّصُ عَنْ أَلْسِنَتِهِمْ وَآذَانِهِمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِي أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُ قِرَاءَتُهُمْ عَنْ أَلْسِنَتِهِمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ، فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا، أَوْ لَا تَتَصَاعَدُ مِنْ مَخْرَجِ الْحُرُوفِ وَحَيِّزِ الصَّوْتِ إِلَى مَحَلِّ الْقَبُولِ وَالْإِنَابَةِ (يَمْرُقُونَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: يَخْرُجُونَ (مِنَ الدِّينِ) أَيْ: مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَيَمُرُّونَ عَلَيْهِ سَرِيعًا مِنْ غَيْرِ حَظٍّ وَانْتِفَاعٍ بِهِ، (كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) ، بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ وَهِيَ الصَّيْدُ، وَيُقَالُ: مَرَقَ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، أَيْ: خُرُوجُ السَّهْمِ، وَمُرُورُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَتَنَزُّهُهُ عَنِ التَّلَوُّثِ بِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ فَرْثٍ وَدَمٍ. قَالَ شَارِحٌ: شَبَّهَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالرَّمِيَّةِ لِاسْتِحْيَاشِهِمْ عَمَّا يَرْمُونَ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ النَّافِعِ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُشَبَّهَ بِهِ فِي سُرْعَةٍ تُخَلِّصُهُ وَتُنَزِّهُهُ عَنِ التَّلَوُّثِ بِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ فَرْثٍ وَدَمٍ لِيُبَيِّنَ الْمَعْنَى الْمَضْرُوبَ لَهُ بِقَوْلِهِ:(يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ)، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (إِلَى رُصَافِهِ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَيُكْسَرُ بَدَلٌ وَهُوَ عَصَبٌ يُلْوَى فَوْقَ مَدْخَلِ النَّصْلِ (إِلَى نَضِيِّهِ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدٍ (وَهُوَ قِدْحُهُ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهُوَ مَا جَاوَزَ الرِّيشَ إِلَى النَّصْلِ مِنَ النِّضْوِ، لِأَنَّهُ بُرِيَ حَتَّى صَارَ نِضْوًا، فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ، وَهُوَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي تَفْسِيرٌ لِلنِّضِيِّ، ثُمَّ قَوْلُهُ:(إِلَى قُذَذِهِ) : مِنْ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَمْعُ قُذَّةٍ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ رِيشُ السَّهْمِ. قَالَ الْقَاضِي: أَخْرَجَ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدَادِ لَا التَّنَسُّقِ (فَلَا يُوجَدُ فِيهِ) أَيْ: فِي السَّهْمِ، أَوْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ (شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، وَالْحَالُ أَنَّ السَّهْمَ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا (قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ) ، أَيْ مَرَّ عَلَيْهِمَا، وَالْمَعْنَى كَمَا نَفَذَ السَّهْمُ فِي الرَّمِيَّةِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّوْثِ وَالدَّمِ، دُخُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ خُرُوجُهُمْ مِنْهُ سَرِيعًا بِحَيْثُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ، هَذَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّصْلِ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ الْمُؤَثِّرُ وَالْمُتَأَثِّرُ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى قِبَلِهِ، فَلَا تَجِدُ فِيهِ أَثَرًا مِمَّا شُرِعَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَبِالرُّصَافِ الصَّدْرُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الِانْشِرَاحِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَلَمْ يُشْرَحْ لِذَلِكَ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ أَثَرُ السَّعَادَةِ، وَبِالنَّضِيِّ الْبَدَنُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَدَنَ وَإِنْ تَحَمَّلَ لِتَكَالِيفِ الشَّرْعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ فَائِدَةٌ وَبِالْقُذَّةِ أَطْرَافُ الْبَدَنِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْآلَاتِ لِأَهْلِ الصِّنَاعَاتِ أَيْ: لَنْ يَحْصُلَ لَهُ بِهَا مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ السَّعَادَاتِ، (آيَتُهُمْ) أَيْ: عَلَامَةُ أَصْحَابِهِ الْكَائِنَةُ فِيهِمُ الْكَامِنَةُ مِنْهُمْ (رَجُلٌ أَسْوَدُ) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ قِطْعَةِ اللَّحْمِ وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّشْبِيهِ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي (تَدَرْدَرُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَجِيءُ وَتَذْهَبُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: تُحَرَّكُ وَتُزَحْزَحُ مَارًّا أَوْ جَائِيًا انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأُصُولُ الْمَضْبُوطَةُ (وَيَخْرُجُونَ) : عَطْفٌ عَلَى يَمْرُقُونَ (عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ) . أَيْ فِي زَمَانِهِمْ (مِنَ النَّاسِ) : يُرِيدُ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ رضي الله عنهم. وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ فَعَلَى بِمَعْنَى (فِي) أَيْ: يَظْهَرُونَ فِي حِينِ تَشَتُّتِ أَمْرِ النَّاسِ وَاضْطِرَابِ أَحْوَالِهِمْ وَظُهُورِ الْمُحَارَبَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) أَيِ: الْخُدْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ (أَشْهَدُ) أَيْ: أَحْلِفُ (أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ)، أَيْ: فَهُوَ وَمَنْ مَعَهُ خَيْرُ الْفِرْقَةِ (فَأَمَرَ) أَيْ: عَلِيٌّ (بِذَلِكَ الرَّجُلِ) أَيْ: بِطَلَبِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي آيَتُهُمْ وَعَلَامَتُهُمْ (فَالْتُمِسَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فَطُلِبَ وَأُخِذَ (فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَهُ) . أَيْ سَابِقًا.
(وَفِي رِوَايَةٍ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: بَدَلَ أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ (أَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْغَوْرِ أَيْ: غَارَتْ عَيْنَاهُ وَدَخَلَتَا فِي رَأْسِهِ (نَاتِئُ الْجَبْهَةِ) : بِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ بَعْدَهَا هَمْزٌ أَيْ مُرْتَفِعُهَا (كَثُّ اللِّحْيَةِ) : بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ مُثَلَّثَةً أَيْ كَثِيفُهَا (مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ) أَيْ: عَالِي الْخَدَّيْنِ (مَحْلُوقُ الرَّأْسِ) أَيْ: لِادِّعَاءِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَافَةِ وَالتَّأْكِيدِ فِي قَطْعِ التَّعَلُّقِ، وَهُوَ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِبْقَاءِ شَعْرِ رَأْسِهِ، وَعَدَمِ حَلْقِهِ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ النُّسُكِ، غَيْرَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحْلِقُ كَثِيرًا لِمَا قَدَّمْنَا سَبَبَهُ وَوَجْهَهُ، (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! اتَّقِ اللَّهَ) أَيْ: فِي قَسْمِكَ (فَقَالَ: فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ) أَيْ: يَتَّقِيهِ مِنْ أُمَّتِي (إِذَا عَصَيْتُهُ) أَيْ: مَعَ عِصْمَتِي وَثُبُوتِ نُبُوَّتِي (فَيَأْمَنُنِي اللَّهُ) أَيْ: يَجْعَلُنِي أَمِينًا (عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِّي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَيُخَفَّفُ، وَالْخِطَابُ عَلَى وَجْهِ الْعِتَابِ لِذِي الْخُوَيْصِرَةِ وَقَوْمِهِ (فَسَأَلَهُ رَجُلٌ) : وَهُوَ عُمَرُ رضي الله عنه كَمَا سَبَقَ (قَتْلَهُ) ، أَيْ تَجْوِيزَهُ (فَمَنَعَهُ)، أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ (فَلَمَّا وَلَّى) أَيِ: الرَّجُلُ (قَالَ: إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا) : بِكَسْرِ مُعْجَمَتَيْنِ وَهَمْزَتَيْنِ يُبْدَلُ أَوَّلُهُمَا أَيْ: مِنْ أَصْلِهِ وَنَسَبِهِ وَعَقِبِهِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَوَلَّدُونَ مِنْهُ، فَقَدْ أَبْعَدَ، إِذْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْخَوَارِجِ قَوْمٌ مِنْ نَسْلِ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الزَّمَانَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْقَوْلَ إِلَى أَنْ نَابَذَ الْمَارِقَةُ عَلِيًّا رضي الله عنه وَحَارَبُوهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مِنَ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ فِي النَّسَبِ، أَوْ مِنَ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ. (قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ) أَيْ: مَقْرُوءُهُمْ (حَنَاجِرَهُمْ) أَيْ: ظَوَاهِرَهُمْ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي بَوَاطِنِهِمْ (يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: مِنْ كَمَالِهِ، أَوْ مِنِ انْقِيَادِ الْإِمَامِ. اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ كَفَّرَ الْخَوَارِجَ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ هُنَا طَاعَةُ الْإِمَامِ (مُرُوقَ السَّهْمِ) أَيْ: كَخُرُوجِهِ سَرِيعًا (مِنَ الرَّمِيَّةِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ انْتِفَاعٍ بِهَا (فَيَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ) أَيْ: لِتَكْفِيرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِسَبَبِ ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ (وَيَدَعُونَ) : بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: يَتْرُكُونَ (أَهْلَ الْأَوْثَانِ)، أَيْ: أَهْلَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ (لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) . أَرَادَ بِقَتْلِ عَادٍ اسْتِئْصَالَهُمْ بِالْهَلَاكِ، فَإِنَّ عَادًا لَمْ تُقْتَلْ، وَإِنَّمَا أُهْلِكَتْ بِالرِّيحِ، وَاسْتُؤْصِلَتْ بِالْإِهْلَاكِ. قِيلَ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ الْقَتْلِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ وَتَظَاهُرِهِمْ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ مِنْ قَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ مَنْعَ قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ لِانْفِرَادِهِ، بَلْ لِسَبَبٍ آخَرَ بَيَانُهُ تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5895 -
ــ
5895 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ) ، حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى الشِّرْكِ (فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا) أَيْ: إِلَى الْإِسْلَامِ وَمُتَابَعَةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ (فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: فِي حَقِّهِ وَشَأْنِهِ (مَا أَكْرَهُ) أَيْ: شَيْئًا أَكْرَهُهُ مِنَ الْكَلَامِ، أَوْ أَكْرَهُ ذِكْرَهُ بَيْنَ الْأَنَامِ، (فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْكِي) أَيْ: مِنَ الْحُزْنِ وَالْغَبْنِ، حَيْثُ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى تَأْدِيبِهَا لِكَوْنِهَا أُمِّي. (قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ فَقُلْتُ: ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا» ) أَيْ: مَسْرُورًا مُنْشَرِحًا (بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا صِرْتُ) أَيْ: وَاصِلًا (إِلَى الْبَابِ) أَيْ: بَابِ أُمِّي (فَإِذَا هُوَ) أَيْ: بَابٌ (مُجَافٍ) ، أَيْ مَرْدُودٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:(أَجِيفُوا أَبْوَابَكُمْ) . أَيْ رُدُّوهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ) : بِالتَّثْنِيَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ أَيْ:
صَوْتَهُمَا، وَقِيلَ: حَرَكَتَهُمَا وَحِسَّهُمَا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَيُحَرَّكُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (فَقَالَتْ: مَكَانَكَ) : بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمْهُ (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ) ، أَيْ تَحْرِيكَهُ، وَقِيلَ: صَوْتُهُ (فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ قَمِيصَهَا (وَعَجِلَتْ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ (عَنْ خِمَارِهَا)، أَيْ: تَرَكَتْ خِمَارَهَا مِنَ الْعَجَلَةِ يُقَالُ: عَجِلْتُ عَنْهُ تَرَكْتُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا بَادَرَتْ إِلَى فَتْحِ الْبَابِ بَعْدَ لَبْسِهَا الثِّيَابَ قَبْلَ أَنْ تَلْبَسَ خِمَارَهَا، وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَ الطِّيبِيُّ: عَجَّلَتِ الْفَتْحَ مُتَجَاوِزَةً عَنْ خِمَارِهَا (فَفَتَحَتِ الْبَابَ)، أَيْ بَعْدَ مَا وَقَعَ عَلَيْهَا النِّقَابُ وَرُفِعَ عَنْهَا الْحِجَابُ ( «ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ خَيْرًا» ) . أَيْ قَوْلًا خَيْرًا، أَوْ كَلَامًا يَتَضَمَّنُ خَيْرًا، أَوِ التَّقْدِيرُ: وَصَلْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ خَيْرًا بِإِسْلَامِ أُمِّكَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5896 -
ــ
5896 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: إِنَّكُمْ) أَيْ: مَعْشَرَ التَّابِعِينَ، وَقِيلَ الْخِطَابُ مَعَ الصَّحَابَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ (تَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ) ، أَيِ الرِّوَايَةِ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ) أَيْ: مَوْعِدُنَا، فَيَظْهَرُ عِنْدَهُ صِدْقُ الصَّادِقِ وَكَذِبُ الْكَاذِبِ، لِأَنَّ الْأَسْرَارَ تَنْكَشِفُ هُنَالِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لِقَاءُ اللَّهِ الْمَوْعِدُ، وَيَعْنِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ يُحَاسِبُنِي عَلَى مَا أَزِيدُ وَأَنْقُصُ، لَا سِيَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ:( «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ) . (وَإِنَّ إِخْوَتِي) أَيْ: إِخْوَانِي وَأَصْحَابِي (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْغَيْنِ وَأَمَّا الضَّمُّ وَالْكَسْرُ فَلُغَةٌ قَلِيلَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ أَيْ: يَمْنَعُهُمْ (الصَّفِقُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: ضَرْبُ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ عِنْدَ الْبَيْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُقُودِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ) أَيِ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي فِيهَا نَخِيلُهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا أَصْحَابَ تِجَارَاتٍ وَالْأَنْصَارَ أَصْحَابُ زِرَاعَاتٍ. (وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا) أَيْ: عَاجِزًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ وَأَسْبَابِ الزِّرَاعَةِ (أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: صُحْبَتَهُ وَخِدْمَتَهُ حَامِدًا (عَلَى مَلْءِ بَطْنِي) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ حَالٌ أَيْ أَلْزَمُهُ صلى الله عليه وسلم قَانِعًا بِمَا يَمْلَأُ بَطْنِي، فَعَدَّاهُ بِعَلَى مُبَالَغَةً، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ مَلَكْتَ كَفَافَ قُوتٍ فَكُنْ بِهِ
…
قَنِيعًا فَإِنَّ الْمُتَّقِيَ اللَّهَ قَانِعُ
(وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا: لَنْ يَبْسُطَ) أَيْ: لَنْ يَفْرِشَ (أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ) أَيْ: أُفْرِغَ (مَقَالَتِي هَذِهِ) : كَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى دُعَاءٍ دَعَاهُ حِينَئِذٍ ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ: كَانَتْ مَقَالَتُهُ دُعَاءَهُ لِلصَّحَابَةِ بِالْحِفْظِ وَالْفَهْمِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْكَلَامُ الَّذِي كَانَ شَرَعَ فِيهِ (ثُمَّ يَجْمَعَهُ) : بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ أَيْ: يَضُمُّ ثَوْبَهُ (إِلَى صَدْرِهِ فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي) أَيْ: مِنْ أَحَادِيثِي (شَيْئًا أَبَدًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ جَوَابُ النَّفْيِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ، فَيَكُونُ عَدَمُ النِّسْيَانِ مُسَبَّبًا عَنِ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا، وَأُوثِرَتْ (لَنْ) النَّافِيَةُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْمُحَالِ، وَقَوْلُهُ: مِنْ مَقَالَتِي شَيْئًا إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الْمَقَالَاتِ كُلِّهَا. (فَبَسَطْتُ نَمِرَةً) : بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: شَمْلَةً مُخَطَّطَةً مَنْ مَآزِرِ الْأَعْرَابِ، وَجَمْعُهَا نِمَارٌ كَأَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ لَوْنِ النَّمِرِ لِمَا فِيهَا مِنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، (حَتَّى قَضَى صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ) أَيْ: تِلْكَ (ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَتِهِ) أَيْ: مِنْ جِنْسِ مَقَالَتِهِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، أَوْ ذُكِرَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ الْقَوْلُ وَالْكَلَامُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، الْمَقَالَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ (إِلَى يَوْمِي هَذَا) . وَهُوَ وَقْتُ رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5897 -
وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟) فَقُلْتُ: بَلَى، وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا) . قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسِي بَعْدُ، فَانْطَلَقَ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَحْمَسَ فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5897 -
(وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: الْبَجَلِيِّ (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تُرِيحُنِي) : مِنَ الْإِرَاحَةِ وَهِيَ إِعْطَاءُ الرَّاحَةِ أَيْ: أَلَا تُخَلِّصُنِي (مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ) ؟ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ بَيْتٌ كَانَ لَخَثْعَمَ يُدْعَى كَعْبَةَ الْيَمَامَةِ، وَالْخَلَصَةُ: اسْمُ طَاغِيَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النُّفُوسَ الزَّكِيَّةَ الْكَامِلَةَ الْمُكَمَّلَةَ قَدْ يَلْحَقُهَا الْعَنَاءُ مِمَّا هُوَ عَلَى خِلَافِ مَا يَنْبَغِي مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْبَغِي. (فَقُلْتُ: بَلَى، وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ) : بِضَمِّ الْبَاءِ (عَلَى الْخَيْلِ)، أَيْ: كُنْتُ أَقَعُ عَنْهَا أَحْيَانًا (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أَيْ: عَدَمَ الثُّبُوتِ (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ) أَيْ: عَلِمْتُ (أَثَرَ يَدِهِ) أَيْ: تَأْثِيرَهَا لِقُوَّةِ ضَرْبِهَا (فِي صَدْرِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (وَاجْعَلْهُ هَادِيًا) أَيْ: لِغَيْرِهِ (مَهْدِيًّا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ: مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ لَا يَزِيغُ عَنْ هَدْيِهِ (قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ) أَيْ: سَقَطْتُ (عَنْ فَرَسِي بَعْدُ) ، أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ الدُّعَاءِ، أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (فَانْطَلَقَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ جَرِيرٍ، فَفِيهِ الْتِفَاتٌ، وَالْمَعْنَى فَذَهَبَ جَرِيرٌ (فِي مِائَةٍ) أَيْ: مَعَ مِائَةٍ (وَخَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَحْمَسَ) أَيْ: مِنْ قَوْمِ قُرَيْشٍ، وَالْأَحْمَسُ الشُّجَاعُ، فَفِي النِّهَايَةِ: هُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَلَدَتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَجَدِيلَةُ قَيْسٍ، سُمُّوا حَمْسًا لِأَنَّهُمْ تَحَمَّسُوا فِي دِينِهِمْ أَيْ: تَشَدَّدُوا وَالْحَمَاسَةُ الشَّجَاعَةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَصَلِّبِينَ فِي الدِّينِ وَالْقِتَالِ، فَلَا يَسْتَظِلُّونَ أَيَّامَ مِنًى، وَلَا يَدْخُلُونَ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. (فَحَرَّقَهَا بِالنَّارِ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: أَحْرَقَ جَرِيرٌ الْخَلَصَةَ (وَكَسَرَهَا) أَيْ: وَأَبْطَلَهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5898 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«إِنَّ رَجُلًا كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَقْبَلُهُ) . فَأَخْبَرَنِي أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهُ أَتَى الْأَرْضَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فَوَجَدَهُ مَنْبُوذًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا؟ فَقَالُوا: دَفَنَّاهُ مِرَارًا فَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5898 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا) : قِيلَ: لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ وَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّرْحِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا، بَلْ هُوَ رَجُلٌ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ. (كَانَ يَكْتُبُ) أَيِ: الْوَحْيَ (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ) أَيْ: فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ. (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْأَرْضَ لَا تَقْبَلُهُ) . فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا، فَأَلْقَوْهُ فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا الْأَرْضَ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ. (قَالَ أَنَسٌ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو طَلْحَةَ) : وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ أَنَسٍ (أَنَّهُ) أَيْ: أَبَا طَلْحَةَ (أَتَى الْأَرْضَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فَوَجَدَهُ مَنْبُوذًا) . أَيْ مَطْرُوحًا مُلْقًى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ (فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا؟ فَقَالُوا: دَفَنَّاهُ مِرَارًا فَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5899 -
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه، قَالَ:«خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: (يَهُودُ تُعَذَّبَ فِي قُبُورِهَا) » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5899 -
(وَعَنْ أَبَى أَيُّوبَ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ) ، أَيْ سَقَطَتْ وَغَرَبَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36](فَسَمِعَ صَوْتًا) ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ أَوْ صَوْتَ يَهُودَ الْمُعَذَّبِينَ، أَوْ صَوْتَ وَقْعِ الْعَذَابِ. وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مَا يُؤَيِّدُ الثَّانِي، وَكَذَا ظَاهِرُ مَا بَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم. (فَقَالَ: يَهُودُ) أَيْ: هَذَا يَهُودُ أَيْ: صَوْتُهُ يَعْنِي صَوْتَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ (تُعَذَّبَ فِي قُبُورِهَا) . فِيهِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمُعْجِزَةٌ مِنْ حَيْثُ كَشْفِ أَحْوَالِهِمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5900 -
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ) . فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا عَظِيمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5900 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ) : بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَالْخَبَرُ مُتَعَلِّقَةٌ أَيْ: فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ وَاصِلًا بِقُرْبِهَا (هَاجَتْ)، أَيْ: ثَارَتْ وَظَهَرَتْ (رِيحٌ)، أَيْ: عَظِيمَةٌ (تَكَادُ تَدْفِنُ الرَّاكِبَ)، بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: تَقْرُبُ أَنْ تُوَارِيَهُ مِنْ شِدَّةِ تَوَازُنِهَا (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُرْسِلَتْ (لِمَوْتِ مُنَافِقٍ) . أَيْ فِي وَقْتِ مَوْتِهِ (فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا عَظِيمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ) . قِيلَ: هُوَ رِفَاعَةُ بْنُ دُرَيْدٍ، وَالسَّفَرُ غَزْوَةُ تَبُوكَ، وَقِيلَ: رَافِعٌ، وَالسَّفَرُ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا الْبُخَارِيُّ.
5901 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَدِمْنَا عُسْفَانَ، فَأَقَامَ بِهَا لَيَالِيَ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا نَحْنُ هَاهُنَا فِي شَيْءٍ، وَإِنَّ عِيَالَنَا لَخُلُوفٌ مَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِي الْمَدِينَةِ شِعْبٌ وَلَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا حَتَّى تَقْدَمُوا إِلَيْهَا) ثُمَّ قَالَ: (ارْتَحِلُوا) فَارْتَحَلْنَا وَأَقْبَلْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ مَا وَضَعْنَا رِحَالَنَا حِينَ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ حَتَّى أَغَارَ عَلَيْنَا بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ وَمَا يُهَيِّجُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5901 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا)، أَيْ: مِنْ مَكَّةَ (مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَدِمْنَا عُسْفَانَ)، بِضَمِّ أَوَّلِهِ فَفِي الْقَامُوسِ: عُسْفَانُ كَعُثْمَانَ، مَوْضِعٌ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: رَجَعْنَا عَنِ السَّفَرِ وَوَصَلْنَا إِلَى عُسْفَانَ، مَوْضِعٌ قَرِيبُ الْمَدِينَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ: وَهُوَ غَلَطٌ، بَلْ هُوَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، ذَكَرَهُ الْمُغْرِبُ وَغَيْرُهُ. (فَأَقَامَ بِهَا)، أَيْ: بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ (لَيَالِيَ)، أَيْ: وَأَيَّامًا (فَقَالَ النَّاسُ)، أَيْ: بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الضُّعَفَاءِ فِي الدِّينِ وَالْيَقِينِ (مَا نَحْنُ هَاهُنَا فِي شَيْءٍ)، أَيْ: شُغْلٍ وَعَمَلٍ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ (وَإِنَّ عِيَالَنَا لَخُلُوفٌ) : بِالضَّمِّ أَيْ: لَغَائِبُونَ أَوْ نِسَاءٌ بِلَا رِجَالٍ، يُقَالُ: حَيٌّ خُلُوفٌ إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَّا النِّسَاءُ، وَالْخُلُوفُ أَيْضًا الْحُضُورُ الْمُتَخَلِّفُونَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَقَوْلُهُ:(مِمَّا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ)، أَيْ: عَلَى عِيَالِنَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَلَعَلَّ تَذْكِيرَ الضَّمِيرِ لِلتَّغْلِيبِ، أَوْ تَنْزِيلًا مَنْزِلَةَ الرِّجَالِ فِي الْجَلَادَةِ وَالشَّجَاعَةِ، (فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: فَوَصَلَهُ هَذَا الْكَلَامُ (فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِي الْمَدِينَةِ شِعْبٌ) : بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ طَرِيقٌ فِي الْجَبَلِ (وَلَا نَقْبٌ)، أَيْ: طَرِيقٌ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، أَيْ: لَيْسَ فِي الْمَدِينَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الشِّعْبُ وَالنَّقْبُ (إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا) : بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: يَحْفَظَانِهَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى (حَتَّى تَقْدَمُوا) : بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: تَرْجِعُوا (إِلَيْهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشِّعْبِ وَالنَّقْبِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَحْرُسَانِهَا رَاجِعٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْمُرَادُ شِعْبُهَا وَنَقْبُهَا. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا جَمِيعًا (ثُمَّ قَالَ: ارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلْنَا وَأَقْبَلْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ) ، أَيْ مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهَا (فَوَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ)، أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ (مَا وَضَعْنَا رِحَالَنَا) أَيْ: مَتَاعَنَا عَنْ ظُهُورِ جِمَالِنَا (حِينَ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ حَتَّى أَغَارَ عَلَيْنَا)، أَيْ: مَعْشَرِ الْمَدِينَةِ (بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ) : بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ فَالْمُهْمَلَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَدِينَةَ حَالَ غَيْبَتِهِمْ عَنْهَا كَانَتْ مَحْرُوسَةً، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِعْجَازًا، وَلَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنَ الْإِغَارَةِ وَالتَّهْيِيجِ عَلَيْهَا إِلَّا حِرَاسَةُ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(وَمَا يُهَيِّجُهُمْ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَا يُثِيرُ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْإِغَارَةِ (قَبْلَ ذَلِكَ)، أَيْ: قَبْلَ دُخُولِنَا الْمَدِينَةِ (شَيْءٌ)، أَيْ: مِنَ الْبَوَاعِثِ. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: قَبْلَ الْغَارَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5902 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ حَتَّى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ - أَوْ غَيْرُهُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ:(اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا) . فَمَا يُشِيرُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ) . قَالَ: فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5902 -
(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ)، أَيْ: قَحْطٌ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ فِي زَمَانِهِ (فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةَ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكَ الْمَالُ) ، أَيِ الْمَوَاشِي، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ أَمْوَالِهِمْ، وَهَلَاكُهَا إِمَّا بِتَغَيُّرِهَا أَوْ بِمَوْتِهَا (وَجَاعَ الْعِيَالُ) ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مَنْ يَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ مِنَ الْأَهْلِ،
(فَادْعُ اللَّهَ لَنَا) . أَيْ: مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ (فَرَفَعَ يَدَيْهِ)، أَيْ: بِالسُّؤَالِ لَدَيْهِ (وَمَا نَرَى)، أَيْ: نَحْنُ (فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً)، بِفَتْحِ الْقَافِ وَالزَّايِ أَيْ: قِطْعَةً مِنَ السَّحَابِ (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا)، أَيْ: يَدَهُ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الْجِنْسِ (حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ)، أَيْ: سَطَعَ وَظَهَرَ جِنْسُ السَّحَابِ ظُهُورًا كَامِلًا (أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ) : فِي النِّهَايَةِ، أَيْ يَنْزِلُ وَيَقْطُرُ، وَهُوَ يَتَفَاعَلُ مِنَ الْحُدُورِ ضِدِّ الصُّعُودِ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى اهـ. وَالْمَعْنَى حَتَّى يَتَسَاقَطَ الْمَطَرُ. (عَلَى لِحْيَتِهِ) : وَقِيلَ: يُرِيدُ أَنَّ السَّقْفَ قَدْ وَكَفَ حَتَّى نَزَلَ الْمَاءُ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ (فَمُطِرْنَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: جَاءَنَا الْمَطَرُ (يَوْمَنَا)، أَيْ: بَقِيَّةَ يَوْمِنَا (ذَلِكَ)، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ (وَمِنَ الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ) : يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا ابْتِدَائِيَّةٌ لِقَوْلِهِ:(حَتَّى)، أَيْ: إِلَى (الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ) : حَالٌ أَيْ: وَقَدْ قَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ بِعَيْنِهِ (أَوْ غَيْرُهُ) : مِنَ الْأَعْرَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى جَاءَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا يَقْتَضِي الْجَمْعَ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا، فَلَعَلَّ أَنَسًا ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ نَسِيَهُ، أَوْ نَسِيَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَرَدَّدَ فِي كَوْنِ الْقَائِمِ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، لَكِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ تَارَةً أَنَّهُ هُوَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَزْمِ، وَتَارَةً أَنَّهُ غَيْرُهُ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّنْكِيرِ، وَتَارَةً أَتَى بِصِيغَةِ الشَّكِّ لِاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ، فَالشَّكُّ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَقَالَ)، أَيِ: الْقَائِمُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَهَدَّمَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَيْ: خَرِبَ (الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: صَارَ غَرِيقًا (فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا)، أَيْ: أَمْطِرْ حَوَالَيْنَا بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: فِي مَوَاضِعِ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ لَنَا ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ. (وَلَا عَلَيْنَا)، أَيْ: لَا تُمْطِرْ فِي مَوَاضِعِ الْمَضَرَّةِ الْوَاقِعَةِ عَلَيْنَا. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَيْ: أَنْزِلِ الْغَيْثَ فِي وَضْعِ النَّبَاتِ لَا عَلَى الْأَبْنِيَةِ يُقَالُ: قَعَدَ حَوْلَهُ وَحَوَالَهُ وَحَوْلَيْهِ وَحَوَالَيْهِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَلَا يُقَالُ حَوَالِيهِ بِكَسْرِ اللَّامِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي قَوْلِهِ: (وَلَا عَلَيْنَا) بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: (حَوَالَيْنَا) ثُمَّ فِي إِدْخَالِ الْوَاوِ هَاهُنَا مَعْنًى لَطِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ طَلَبَ الْمَطَرِ عَلَى حَوَالَيْنَا لَيْسَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ، بَلْ لِيَكُونَ وِقَايَةً عَنْ أَذَى الْمَطَرِ. قُلْتُ: الْوَاوُ خَالِصَةٌ لِلْعَطْفِ لَكِنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِمْ: تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيِهَا، فَإِنَّ الْجُوعَ لَيْسَ مَقْصُودًا بِعَيْنِهِ، لَكِنْ لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنَ الرِّضَاعِ بِأُجْرَةٍ إِذْ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ اهـ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: أُوثِرَ حَوَالَيْنَا لِمُرَاعَاةِ الِازْدِوَاجِ مَعَ قَوْلِهِ: عَلَيْنَا نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ:(وَلَا عَلَيْنَا) عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ (حَوَالَيْنَا) وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ لَكَانَ حَالًا أَيْ: أَمْطِرْ عَلَى الْمَزَارِعِ، وَلَا تُمْطِرْ عَلَى الْأَبْنِيَةِ، وَأُدْمِجَ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْنَا مَعْنَى الْمَضَرَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اجْعَلْ لَنَا لَا عَلَيْنَا. (فَمَا يُشِيرُ) : حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ (إِلَى نَاحِيَةٍ)، أَيْ: جَانِبٍ مِنَ السَّحَابِ جَمْعِ سَحَابَةٍ (إِلَّا انْفَرَجَتْ)، أَيِ: انْكَشَفَتْ وَتَفَرَّقَتْ (وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ)، أَيْ: جَوُّهَا (مِثْلَ الْجَوْبَةِ) ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ الْفُرْجَةُ فِي السَّحَابِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَطَرَ أَوِ الْغَيْمَ انْكَشَفَ عَمَّا يُحَاذِينَا، وَأَحَاطَ بِمَا حَوْلَنَا بِحَيْثُ صَارَ جَوُّ الْمَدِينَةِ مِثْلَ الْجَوْبَةِ خَالِيًا عَنِ السَّحَابِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَهُوَ الْجَوُّ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْحُفْرَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ الْوَاسِعَةِ، وَصَارَ الْغَيْمُ مُحِيطًا بِأَطْرَافِ الْمَدِينَةِ مُنْكَشِفًا عَنْهَا. (وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ) : بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِلْوَادِي، وَهِيَ عَلَمٌ لَهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَفِي أُخْرَى بِتَنْوِينِهَا (شَهْرًا)، ظَرْفُ سَالَ. قَالَ مِيرَكُ: أَعْرِبْ قَنَاةَ بِالضَّمِّ عَلَى الْبَدَلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَنَاةَ اسْمُ الْوَادِي، وَلَعَلَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ أَقُولُ: فَالْقَنَاةُ اسْمُ أَرْضٍ بِجَنْبِ.
الْوَادِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَحْفُورَةٌ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ نَهْرٌ فِي بَطْنِهَا يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: كَارِيزْ، وَسُمِّيَ بِهَا لِطُولِهَا الْمُشَبَّهِ بِالْقَنَاةِ، وَهِيَ الرُّمْحُ، وَقِيلَ هُوَ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى التَّشْبِيهِ أَيْ سَالَ مِثْلَ قَنَاةٍ. قِيلَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حَتَّى سَالَ وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، وَصُحِّحَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اهـ. كَلَامُهُ نَاقِلًا عَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ.
وَقَالَ شَارِحٌ: قَنَاةُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ سَالَ أَيْ: سَالَ الْوَادِي سَائِلًا مِثْلَ الْقَنَاةِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْقَنَاةِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْجَرْيِ حَسُنَ أَنْ يُجْعَلَ حَالًا مِنَ الْوَادِي، وَيَجُوزَ فِيهِ الْمَصْدَرُ أَيْ سَيَلَانُ الْقَنَاةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَوِ الْمَصْدَرِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أَيْ: مِثْلَ الْقَنَاةِ، أَوْ سَيَلَانِ الْقَنَاةِ فِي الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَالْقُوَّةِ وَالْمِقْدَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَنَاةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالنُّونِ الْمُخَفَّفَةِ عَلَمٌ عَلَى أَرْضٍ ذَاتِ مَزَارِعَ نَاحِيَةَ أُحُدٍ، وَوَادِيهَا أَحَدُ أَوْدِيَةِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ قَالَهُ الْحَازِمِيُّ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَمَّاهُ وَادِي قَنَاةَ تُبَّعٌ الْيَمَانِيُّ، لَمَّا قَدِمَ يَثْرِبَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَهُ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ يَتَوَهَّمُونَهُ قَنَاةً مِنَ الْقَنَوَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَقَالَ: الْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ أَيْ: سَالَ مِثْلُ الْقَنَاةِ، وَعِبَارَةُ الْبُخَارِيِّ: حَتَّى سَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا. قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَنَاةُ عَلَمُ مَوْضِعٍ. قِيلَ: إِنَّهُ الْوَادِي الَّذِي عِنْدَهُ قَبْرُ حَمْزَةَ رضي الله عنه وَهُوَ يَأْتِي مِنَ الطَّائِفِ. وَقِيلَ: نُصِبَ قَنَاةُ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: مِقْدَارَ قَنَاةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ قَنَاةٍ بِالرُّمْحِ أَوْلَى مِنْهُ بِحُفْرَةٍ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا بَلَغَ الْقَنَاةُ فِي كَثْرَةِ مِيَاهِهَا مَبْلَغَ السُّيُولِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى. (وَلِمَ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَتِهِ)، أَيْ: مِنْ جَوَانِبِ الْمَدِينَةِ (إِلَّا حَدَّثَ)، أَيْ: أَخْبَرَ (بِالْجَوْدِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ أَيِ الْمَطَرِ الْكَثِيرِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ) : بِالْمَدِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ الْأَكَمَةِ، وَهِيَ التَّلُّ وَالرَّابِيَةُ، وَقِيلَ الْأَكَمَةُ يُجْمَعُ عَلَى أَكَمٍ، وَيُجْمَعُ الْأَكَمُ عَلَى آكَامٍ كَجَبَلٍ وَجِبَالٍ، وَيُجْمَعُ الْآكَامُ عَلَى أُكُمٍ مِثْلُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَيُجْمَعُ الْأُكُمُ عَلَى آكَامٍ كَعُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَمْدُودَةً وَكَسْرِهَا مَقْصُورَةً جَمْعُ أَكَمَةٍ مُحَرَّكَةً، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ. (وَالظِّرَابِ) : بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ: الْجِبَالِ الصِّغَارِ (وَبُطُونِ الْأَدْوِيَةِ)، أَيِ: الْخَالِيَةِ عَنِ الْأَبْنِيَةِ (وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)، أَيِ: الْمُنْتِجِ لِلثَّمَرِ (قَالَ)، أَيْ: أَنَسٌ (فَأَقْلَعَتْ)، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: كَفَّتِ السَّحَابُ عَنِ الْمَطَرِ، وَقِيلَ: انْكَشَفَتْ، وَالتَّأْنِيثُ لِأَنَّهُ جَمْعُ سَحَابَةٍ يُقَالُ: أَقْلَعَ الْمَطَرُ انْقَطَعَ، وَفِي الْقَامُوسِ. أَقْلَعَتْ عَنْهُ الْحُمَّى تَرَكَتْهُ، وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الْأَمْرِ الْكَفُّ، وَفِي الْمَشَارِقِ: أَقْلَعَ الْمَطَرُ كَفَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] اهـ. وَتَبَيَّنَ أَنَّ صِيغَةَ الْمَفْعُولِ مِنْ رِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ طَلَبِ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ عَنِ الْمَنَازِلِ، وَالْمَرَافِقِ إِذَا كَثُرَ وَتَضَرَّرُوا بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُشْرَعُ لَهُ صَلَاةٌ وَلَا اجْتِمَاعٌ فِي الصَّحْرَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5903 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ اسْتَنَدَ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ، صَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ (بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ) » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5903 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ اسْتَنَدَ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: أَصْلِهَا وَسَاقِهَا (مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ)، جَمْعُ سَارِيَةٍ بِمَعْنَى الْأُسْطُوَانَةِ (فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (فَاسْتَوَى عَلَيْهِ)، أَيْ: قَامَ (صَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ)، أَيْ نِصْفَيْنِ أَوْ قِطَعًا (فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: وَمَشَى إِلَيْهَا (حَتَّى أَخَذَهَا)، أَيْ: بِيَدِهِ (فَضَمَّهَا إِلَيْهِ)، أَيْ: إِلَى نَفْسِهِ صلى الله عليه وسلم وَعَانَقَهَا تَسْلِيَةً لَهَا (فَجَعَلَتْ)، أَيْ: طَفِقَتْ.
الْأُسْطُوَانَةُ، أَوْ جِذْعُ النَّخْلَةِ وَاكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: مِثْلَ أَنِينِهِ (حَتَّى اسْتَقَرَّتْ)، أَيْ: سَكَتَتْ وَسَكَنَتْ. (قَالَ)، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَبَبِ بُكَائِهَا: (بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ)، أَيْ: عَلَى فَوْتِهِ وَفَوْتِ قُرْبِ الذَّاكِرِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5904 -
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَمَالِهِ فَقَالَ: (كُلْ بِيَمِينِكَ) قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: (لَا اسْتَطَعْتَ) . مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5904 -
(وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّ رَجُلًا) : قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ يُقَالُ لَهُ: بِشْرُ بْنُ رَاعِي الْعَيْرِ، وَقِيلَ بُسْرٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ مِنْ أَشْجَعَ، وَضُبِطَ فِي الْأَذْكَارِ الْعَيْرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ، وَقَالَ: هُوَ صَحَابِيٌّ أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَمَالِهِ فَقَالَ: (كُلْ بِيَمِينِكَ) .
قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ (لَا اسْتَطَعْتَ) . دُعَاءٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَذَبَ فِي اعْتِذَارِهِ (مَا مَنَعَهُ)، أَيْ: مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: مِنَ الْأَكْلِ بِالْيَمِينِ (إِلَّا الْكِبْرُ)، أَيْ لَا الْعَجْزُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ قَوْلُ الرَّاوِي وَرَدَ اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ مُوجَبِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ دَعَا عَلَيْهِ بِلَا اسْتَطَعْتَ وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ؟ فَأُجِيبَ: بِأَنَّ مَا مَنَعَهُ مِنَ الْأَكْلِ بِالْيَمِينِ الْعَجْزُ، بَلْ مَنَعَهُ الْكِبْرُ. (قَالَ)، أَيْ: سَلَمَةُ (فَمَا رَفَعَهَا)، أَيِ: الرَّجُلُ يَمِينَهُ (إِلَى فِيهِ) . أَيْ فَمِهِ (بَعْدَ ذَلِكَ) . لِدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5905 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا مَرَّةً، فَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ بَطِيئًا وَكَانَ يَقْطِفُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ:(وَجَدْنَا فَرَسَكُمْ هَذَا بَحْرًا) . فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُجَارَى.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5905 -
(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا) : بِكَسْرِ الزَّايِ، أَيْ: خَافُوا مِنْ مَأْتَى الْعَدُوِّ مَرَّةً (فَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا)، أَيْ: عُرْيَانًا (لِأَبِي طَلْحَةَ بَطِيئًا)، أَيْ: فِي الْجَرْيِ وَالْمَشْيِ (وَكَانَ)، أَيِ: الْفَرَسُ (يَقْطِفُ) ، بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ يَمْشِي مَشْيًا ضَيِّقًا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: يَتَقَارَبُ خُطَاهُ (فَلَمَّا رَجَعَ)، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ (قَالَ: وَجَدْنَا فَرَسَكُمْ هَذَا بَحْرًا) . أَيْ جَلْدًا سُمِّيَ بَحْرًا لِأَنَّ جَرْيَهُ لَا يَنْفَدُ. كَمَا لَا يَنْفَدُ مَاءُ الْبَحْرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِوَجَدْنَا، وَشُبِّهَ الْفَرَسُ بِالْبَحْرِ فِي سَعَةِ خَطْوِهِ وَسُرْعَةِ جَرْيِهِ (فَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَكَانَ (بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُجَارَى) . بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: لَا يُقَاوَمُ فِي الْجَرْيِ وَلَا يُسْبَقُ. وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُحَاذَى بِهِ فَرَسٌ يَجْرِي مَعَهُ.
(وَفِي رِوَايَةٍ فَمَا سُبِقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا مُسْلِمٌ.
5906 -
ــ
5906 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: تُوُفِّيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: قُبِضَ وَمَاتَ (أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ)، أَيْ: جَمِيعَ ثَمَرِنَا (بِمَا عَلَيْهِ)، أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ مَا عَلَى أَبِي (فَأَبَوْا)، أَيِ: امْتَنَعُوا لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَعْيُنِهِمْ قَلِيلًا وَهُمْ يَهُودُ (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمْتَ)، أَيْ: أَنْتَ (أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ دَيْنًا كَثِيرًا وَإِنِّي) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ)، أَيْ: عِنْدِي لَعَلَّهُمْ يُرَاعُونِي (فَقَالَ لِيَ: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرَةٍ عَلَى نَاحِيَةٍ)، أَيِ: اجْمَعْ كُلَّ نَوْعٍ صُبْرَةً عَلَى حِدَةٍ، أَمْرٌ مِنْ بَيْدَرَ الطَّعَامَ إِذَا دَاسَ فِي الْبَيْدَرِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُدَاسُ فِيهِ الطَّعَامُ، وَالْمُرَادُ هُنَا اجْعَلْ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ تَمْرِكَ بَيْدَرًا أَيْ: صُبْرَةً وَاحِدَةً، وَقِيلَ: فَرِّقْ كُلَّ نَوْعٍ فِي مَوْضِعِهِ، (فَفَعَلْتُ) .
أَيْ صُبَرًا وَبَيَادِرَ (ثُمَّ دَعَوْتُهُ)، أَيْ طَلَبْتُهُ صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ أُغْرُوا بِي) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَجُّوا فِي مُطَالَبَتِي، وَأَلَحُّوا كَأَنَّ دَوَاعِيَهُمْ حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِي مِنْ أَغْرَيْتُ الْكَلْبَ أَيْ: هَيَّجْتُهُ، وَالْمَعْنَى أَغْلَظُوا عَلَيَّ، فَكَأَنَّهُمْ هُيِّجُوا بِي، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ غَرَّى بِالشَّيْءِ إِذَا وَلِعَ بِهِ، وَالِاسْمُ الْغَرَّاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، فَمَعْنَى أُغْرُوا بِي أَلْصَقُوا بِي (تِلْكَ السَّاعَةَ)، أَيْ: ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُمْ بِالْمُسَامَحَةِ أَوْ بِحَطِّ بَعْضِ الدَّيْنِ أَوْ بِالصَّبْرِ، فَأَظْهَرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ)، أَيْ: دَارَ (حَوْلَ أَعْظَمِ)، أَيْ: أَكْبَرِ تِلْكَ الْبَيَادِرِ (بَيْدَرًا) : التَّمْيِيزُ لِلتَّأْكِيدِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32](ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) . ظَرْفُ طَافَ (ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ)، أَيْ: عَلَى أَعْظَمِهَا (ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي أَصْحَابَكَ) ، أَيْ أَصْحَابَ دَيْنِكَ (فَحَضَرُوا فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللَّهُ عَنْ وَالِدِي)، أَيْ: قَضَى عَنْهُ (أَمَانَتَهُ) ، أَيْ دَيْنَهُ، وَسُمِّيَ أَمَانَةً لِأَنَّهُ ائْتُمِنَ عَلَى أَدَائِهِ قَالَ تَعَالَى:{وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] أَيْ مَا ائْتَمَنْتُكُمْ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْتُورِبِشْتِيُّ. (وَأَنَا أَرْضَى)، أَيْ: كُنْتُ أَرْضَى حِينَئِذٍ (أَنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أَمَانَةَ وَالِدِي) : وَلَا أَرْجِعَ - بِالنَّصْبِ. وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً أَيْ: وَلَا أَنْقَلِبُ (إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ، فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا) . أَيْ جَعَلَهَا سَالِمَةً عَنِ النُّقْصَانِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، أَوْ خَلَّصَهَا عَنْ أَيْدِي الْغُرَمَاءِ بِبَرَكَتِهِ صلى الله عليه وسلم (وَحَتَّى أَنِّي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَجُوِّزَ كَسْرُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى هِيَ الدَّاخِلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا، وَهِيَ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ جُمِعَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا ثُمَّ فَصَّلَهَا بِقَوْلِهِ: حَتَّى كَذَا وَحَتَّى كَذَا اهـ. وَمُجْمَلُهُ: أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ فَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَيَادِرَ كُلَّهَا حَتَّى لَمْ يَنْقُصْ مِنْ تِلْكَ الْبَيَادِرِ الَّتِي لَمْ يَكِلْهَا شَيْءٌ أَصْلًا. وَحَتَّى أَنِّي (أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: جَالِسًا (كَأَنَّهَا)، أَيِ: الْقِصَّةُ أَوِ الْبَيْدَرُ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الصُّبْرَةِ (لَمْ تَنْقُصْ تَمْرَةٌ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ النَّقْصَ لَازِمٌ أَيْ: لَمْ يَنْتَقِصْ تَمْرَةٌ مِنْهَا. وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهَا تَمْيِيزٌ أَوْ مَفْعُولٌ، وَالْإِسْنَادُ إِلَى الصُّبْرَةِ مَجَازِيٌّ، وَقَوْلُهُ:(وَاحِدَةٌ) : لِلتَّأْكِيدِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ.
5907 -
ــ
5907 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ: إِنَّ أُمَّ مَالِكٍ)، أَيِ: الْبَهْزِيَّةَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ لَهَا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَهِيَ حِجَازِيَّةٌ، رَوَى عَنْهَا طَاوُسٌ وَمَكْحُولٌ (كَانَتْ تُهْدِي) : مِنَ الْإِهْدَاءِ (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عُكَّةٍ) : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ قِرْبَةٌ صَغِيرَةٌ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: هِيَ وِعَاءٌ مِنْ جِلْدٍ مُسْتَدِيرٍ، وَيَخْتَصُّ بِالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ، وَهُوَ بِالسَّمْنِ أَخَصُّ (لَهَا)، أَيْ: كَانَتْ لِأُمِّ مَالِكٍ (سَمْنًا)، مَفْعُولُ تُهْدِي (فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الْأُدُمَ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيِ: الْإِدَامَ (وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ) : فِيهِ تَغْلِيبٌ (شَيْءٌ)، أَيْ: مِنَ الْإِدَامِ، أَوْ مِمَّا يُشْتَرَى بِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (فَتَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ تَقْصِدُ أُمُّهُ (إِلَى الَّذِي)، أَيْ: إِلَى الْعُكَّةِ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الظَّرْفِ (كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا فَمَا زَالَ)، أَيِ: الظَّرْفُ أَوِ السَّمْنُ الَّذِي تَجِدُهُ فِيهِ (يُقِيمُ لَهَا أُدُمَ بَيْتِهَا حَتَّى عَصَرَتْهُ)، أَيْ: لِزِيَادَةِ الطَّمَعِ، فَانْقَطَعَ الْإِدَامُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحِرْصَ شُؤْمٌ، وَالْحَرِيصُ مَحْرُومٌ (فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: وَأَخْبَرَتْهُ بِالْخَبَرِ جَمِيعًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: فَأَتَتْ وَشَكَتِ انْقِطَاعَ إِدَامِ بَيْتِهَا مِنَ الْعُكَّةِ (فَقَالَ: عَصَرْتِيهَا) ؟ أَيِ الْعُكَّةَ وَالْبَاءُ لِلْإِشْبَاعِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرَةٌ (قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ تَرَكْتِيهَا) : بِإِشْبَاعِ الْيَاءِ أَيْضًا أَيْ: لَوْ تَرَكْتِ مَا فِيهَا مِنَ السَّمْنِ وَمَا عَصَرْتِهَا (مَا زَالَ)، أَيْ: دَامَ بَيْتُكِ (قَائِمًا) . أَيْ ثَابِتًا دَائِمًا: فَإِنَّ الْبَرَكَةَ إِذَا نَزَلَتْ فِي شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا كَثُرَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5908 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟) . قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: (بِطَعَامٍ؟) قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: (قُومُوا) . فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ. فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! مَا عِنْدَكِ) فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ:(ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا. ثُمَّ قَالَ:(ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ ثُمَّ لِعَشَرَةٍ) فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: ( «ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) فَدَخَلُوا فَقَالَ: (كُلُوا وَسَمُّوا اللَّهَ) فَأَكَلُوا حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلًا، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُ الْبَيْتِ وَتَرَكَ سُؤْرًا» .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: " «أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً " حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ؟» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «ثُمَّ أَخَذَ مَا بَقِيَ فَجَمَعَهُ، ثُمَّ دَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ فَعَادَ كَمَا كَانَ. فَقَالَ: (دُونَكُمْ هَذَا) » .
ــ
5908 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ) : وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ زَوْجَةُ أَبِي طَلْحَةَ (لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ) ؟ أَيْ: وَلَوْ قَلِيلًا مِنَ الْمَأْكُولِ (فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا) : وَهُوَ مَا تَسْتُرُ الْمَرْأَةُ بِهِ رَأْسَهَا (فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ)، أَيْ: خَبَّأَتْهُ وَأَخْفَتْهُ (تَحْتَ يَدِهِ)، أَيْ: يَدِ أَنَسٍ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: دَسَّهُ إِذَا أَدْخَلَهُ فِي الشَّيْءِ بِقَهْرٍ وَقُوَّةٍ (وَلَاثَتْنِي) : بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، أَيْ: عَمَّمَتْنِي (بِبَعْضِهِ)، أَيْ: بِبَعْضِ الْخِمَارِ وَهُوَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي، أَيْ: عَمَّمَتْنِي أَوْ لَفَّفَتْنِي مِنَ اللَّوْثِ وَهُوَ لَفُّ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَإِدَارَتِهِ عَلَيْهِ اهـ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَمَالِ قِلَّةِ الْخُبْزِ. (ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ بِهِ)، أَيْ بِالْخُبْزِ إِلَيْهِ (فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ) . قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَعَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ فِيهِ حِينَ مُحَاصَرَةِ الْأَحْزَابِ لِلْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَمَعَهُ النَّاسُ أَيِ: الْكَثِيرُ وَهُمْ ثَمَانُونَ رَجُلًا عَلَى مَا سَيَأْتِي. (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ)، أَيْ: بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَقَصْدِ الْجَمِيعِ (فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْسَلَكَ) : بِهَمْزَةٍ مُقَدَّرَةٍ وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ لِلِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَبَعَثَكَ (إِلَيَّ أَبُو طَلْحَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ) . وَهُوَ لَا يُنَافِي إِرْسَالَ أُمِّهِ لِأَنَّ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ، وَمَآلُهُمَا مُتَّحِدٌ، وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم عَدَلَ عَنْ ذِكْرِهَا احْتِشَامًا، أَوْ لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ هُوَ الْبَاعِثُ الْأَوَّلُ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ الْمُعَوَّلُ. (قَالَ: بِطَعَامٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ) . وَالتَّفْرِيقُ إِمَّا لِلتَّفْهِيمِ أَوْ بِحَسَبِ تَدْرِيجِ الْوَحْيِ وَالتَّعْلِيمِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ صلى الله عليه وسلم فَهِمَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ اسْتَدْعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلِذَا قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: قُومُوا، وَأَوَّلُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ، وَأَبَا طَلْحَةَ أَرْسَلَا الْخُبْزَ مَعَ أَنَسٍ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّهُمَا أَرَادَا إِرْسَالَ الْخُبْزِ مَعَ أَنَسٍ أَنْ يَأْخُذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَأْكُلَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ أَنَسٌ، وَرَأَى كَثْرَةَ النَّاسِ اسْتَحَى وَظَهَرَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِيَقُومَ مَعَهُ وَحْدَهُ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ إِطْعَامِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ أَرْسَلَهُ عَهِدَ إِلَيْهِ إِذَا رَأَى كَثْرَةَ النَّاسِ دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَشْيَةَ أَنْ لَا يَكْفِيَهُمْ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَقَدْ عَرَفُوا إِيثَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَقَدْ وَجَدْتُ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ تَقْتَضِي أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ اسْتَدْعَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ.
قُلْتُ: هَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَرَفَ بِنُورِ الْوَحْيِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ أَرْسَلَ أَنَسًا بِطَعَامٍ وَأَخْبَرَهُ بِهِ، كَيْفَ يَفْهَمُ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ اسْتَدْعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ؟ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَأَوَّلُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي إِلَخْ. لَيْسَ فِي مَحِلِّهِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ الْمَرَامِ لَا مُقْتَضَى الْكَلَامِ، ثُمَّ لَا دَلَالَةَ لِلِاسْتِحْيَاءِ وَالِاسْتِدْعَاءِ الْمَنْسُوبَيْنِ لِأَنَسٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ، وَلَا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَرْسَلَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِأَمْرِ أَبِي طَلْحَةَ لَمَا حَصَلَ لَهُ فَزَعٌ وَاضْطِرَابٌ بِمَأْتَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَةِ، وَهُوَ إِشْبَاعُ جَمْعٍ كَثِيرٍ بِخُبْزٍ قَلِيلٍ، وَمُنْضَمَّةٌ إِلَى مُعْجِزَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَضِيَّةُ الْعُكَّةِ الْآتِيَةِ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ وَأَنَسٍ وَأُمِّهِ لِيَحْصُلَ لَهُمْ بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ بِحُسْنِ نِيَّتِهِمْ، وَإِخْلَاصِ طَوِيَّتِهِمْ، وَآدَابِ خِدْمَتِهِمْ، وَيَكُونُ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ أَنَسٌ: فَانْطَلَقَ)، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ. (وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)، أَيْ: قُدَّامَهُمْ كَهَيْئَةِ الْخَادِمِ وَالْمُضِيفِ أَوْ مُسْرِعًا لِإِيصَالِ الْخَبَرِ لِقَوْلِهِ (حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ)، أَيْ: بِإِتْيَانِهِمْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، أَيْ: مَعَهُمْ (وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ)، أَيْ: غَيْرُ مَا أَرْسَلْنَاهُ إِلَيْهِ وَثَمَّ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَكَيْفَ نُقَدِّمُ لَهُمْ شَيْئًا قَلِيلًا؟ (فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) . أَيْ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ بَعْضِ الْحِكَمِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ مَنْقَبَةٌ
عَظِيمَةٌ لِأُمِّ سُلَيْمٍ، وَدَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ دِينِهَا وَرُجْحَانِ عَقْلِهَا وَقُوَّةِ يَقِينِهَا، تَعْنِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ قَدْرَ الطَّعَامِ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمَصْلَحَةِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَصْلَحَةَ لَمَا فَعَلَهَا، (فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ)، أَيْ: مُسَارِعًا (حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ)، أَيْ: حَتَّى دَخَلَا عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ وَالنَّاسُ وَرَاءَهُمَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ) . أَيْ: عَجِّلِي وَأَحْضِرِي (مَا عِنْدَكِ) . أَيْ مِنَ الْخُبْزِ (فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَوْ أَبَا طَلْحَةَ أَوْ غَيْرَهُ بِالْخُبْزِ يَعْنِي بِتَفْتِيتِهِ (فَفُتَّ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمَاضِي أَيْ: جُعِلَ فَتِيتًا أَيْ قِطَعًا صِغَارًا مَفْتُوتًا قَالَ شَارِحٌ: أَوْ هُوَ أَمْرُ مُخَاطَبٍ، وَلَعَلَّ تَقْدِيرَهُ فَأَمَرَ بِهِ وَقَالَ: فَفُتَّ (وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِمَدِّهَا، أَيْ: جَعَلَتْ مَا خَرَجَ مِنَ الْعُكَّةِ وَهُوَ السَّمْنُ إِدَامًا لِذَلِكَ الْفَتِيتِ (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ) : أَيْ فِي ذَلِكَ الْخُبْزِ مَعَ الْإِدَامِ أَوْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْخُبْزِ وَالْإِدَامِ (مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ)، أَيْ: مِنَ الدُّعَاءِ أَوِ الْأَسْمَاءِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ قَالَ: بَاسِمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعْظِمْ فِيهِمَا الْبَرَكَةَ. ثُمَّ قَالَ)، أَيْ: لِأَبِي طَلْحَةَ أَوْ لِأَنَسٍ أَوْ لِغَيْرِهِمَا (ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) : وَإِنَّمَا أَذِنَ لِعَشَرَةٍ عَشَرَةٍ لِيَكُونَ أَرْفَقَ بِهِمْ، فَإِنَّ الْقَصْعَةَ الَّتِي فِيهَا الطَّعَامُ لَا يَتَحَلَّقُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ إِلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُمْ لِبُعْدِهَا عَنْهُمْ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَأْذَنْ لِلْكُلِّ مَرَّةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ إِذَا نَظَرُوا إِلَى طَعَامٍ قَلِيلٍ يَزْدَادُ حِرْصُهُمْ عَلَى الْأَكْلِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ الطَّعَامَ لَا يُشْبِعُهُمْ، وَالْحِرْصُ عَلَيْهِ يَمْحَقُ الْبَرَكَةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ الْجَلِيلَ إِذَا أَبْصَرُوا الطَّعَامَ الْقَلِيلَ لَآثَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَوِ اسْتَحْيَوْا مِنَ الْأَكْلِ الْكَثِيرِ، وَاسْتَقَلُّوا فِي أَكْلِهِمْ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مُرَادُهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ فِي الشَّجَاعَةِ، وَعَلَى أَدَاءِ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: لِضِيقِ الْمَنْزِلِ، (فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ ثُمَّ لِعَشَرَةٍ) أَيْ: وَهَلُمَّ جَرًّا (فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا) .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا وَقَعَ هُنَا بِالشَّكِّ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْجَزْمُ بِالثَمَانِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ بِضْعَةٍ وَثَمَانِينَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلًا. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، قُلْتُ: كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: كَانُوا نَيِّفًا وَثَمَانِينَ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَلْغَى الْكَسْرَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ حَتَّى أَكَلَ مِنْهُ أَرْبَعُونَ وَبَقِيَتْ كَمَا هِيَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ التَّغَايُرَ، وَأَنَّ الْقَضِيَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ. قُلْتُ: الْقَضِيَّةُ مُتَّحِدَةٌ، وَالْجَمْعُ بِأَنَّ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ كَانُوا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ أَرْبَعُونَ أُخَرُ مِمَّنْ كَانُوا وَرَاءَهُمْ، أَوْ وَقَعَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم دُعَاءَهُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ) : فَدَخَلُوا فَقَالَ: (كُلُوا وَسَمُّوا اللَّهَ، فَأَكَلُوا حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلًا، ثُمَّ)، أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِ أَكْلِ أَصْحَابِهِ (أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُ الْبَيْتِ، وَتَرَكَ سُؤْرًا) : بِضَمِّ سِينٍ وَسُكُونِ هَمْزٍ وَيُبْدَلُ، وَجَزَمَ الْتُورِبِشْتِيُّ وَقَالَ: هُوَ بِالْهَمْزِ أَيْ بَقِيَّةٌ.
(وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) . أَيْ: مِنْ غَيْرِ انْتِظَارٍ لِلْأَرْبَعِينَ الْأُخَرَ، لِيَحْصُلَ بَرَكَتُهُ لِلطَّرَفَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، أَوِ الْمَعْنَى ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْكُلِّ أَكَلَ، (فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ)، أَيْ: أَتَفَكَّرُ وَأَتَرَدَّدُ وَأَتَأَمَّلُ (هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ) ؟ أَيْ أَمْ لَا. فَلَا يَظْهَرُ نَقْصٌ أَصْلًا.
(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ثُمَّ أَخَذَ مَا بَقِيَ فَجَمَعَهُ ثُمَّ دَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ، فَعَادَ كَمَا كَانَ فَقَالَ)، أَيْ: لِأَهْلِ الْبَيْتِ (دُونَكُمْ هَذَا) أَيْ: خُذُوهُ. قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مِنْ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ فَفِي إِحْدَاهَا يَقُولُ: تَرَكَ سُؤْرًا، وَفِي الْأُخْرَى يَقُولُ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَفِي الثَّالِثَةِ: ثُمَّ أَخَذَ مَا بَقِيَ فَجَمَعَهُ الْحَدِيثَ؟ قُلْنَا: وَجْهُ التَّوْفِيقِ فِيهِنَّ هَيِّنٌ بَيِّنٌ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّمَا قَالَ وَتَرَكَ سُؤْرًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ مِنْهُ، فَمَا فَضَلَ مِنْهُ سَمَّاهُ سُؤْرًا، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَحْسَبُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ فَرَغُوا مِنْهُ. وَقِيلَ: أَخْبَرَ فِي الْأُولَى أَنَّهُ دَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَحْكِيهِ عَلَى مَا وَجَدَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الدُّعَاءِ، وَعَوْدُهُ إِلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّنَاوُلِ، وَالثَّالِثَةُ لَا الْتِبَاسَ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
5909 -
وَعَنْهُ، قَالَ:«أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ. قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَلَاثَمِائَةٍ) أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5909 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: جِيءَ (بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ) : بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ، وَهُوَ الْبِئْرُ الْبَعِيدَةُ الْقَعْرِ. وَقِيلَ: مَوْضِعٌ قَرِيبٌ بِالْمَدِينَةِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمُرَادُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَكَانٌ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ السُّوقِ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ قُرْبَ الْمَسْجِدِ. (فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، فَجَعَلَ)، أَيْ: شَرَعَ (الْمَاءُ يَنْبُعُ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّهَا وَجُوِّزَ كَسْرُهَا فَقِيلَ فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ، وَالْمُخْتَارُ الْفَتْحُ. وَفِي الْمِصْبَاحِ نَبَعَ كَنَصَرَ وَكَمَنَعَ لُغَةً. وَفِي الْقَامُوسِ: نَبَعَ يَنْبُعُ مُثَلَّثَةً خَرَجَ مِنَ الْعَيْنِ (مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا النَّبْعِ قَوْلَانِ. حَكَاهُمَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ أَصَابِعِهِ وَيَنْبُعُ مِنْ ذَاتِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْمُعْجِزَةِ مِنْ نَبْعِهِ مِنْ حَجَرٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَكْثَرَ الْمَاءَ فِي ذَاتِهِ فَصَارَ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، (فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ)، أَيْ: مِنْهُ (قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ) ؟ أَيْ يَوْمَئِذٍ (قَالَ: ثَلَاثَمِائَةٍ) : بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ كُنَّا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ نَحْنُ أَوِ الْقَوْمُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَكَذَا قَوْلُهُ:(أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ) : بِنَصْبِ زُهَاءَ وَبِرَفْعِهِ وَهُوَ بِضَمِّ الزَّايِ وَبِالْمَدِّ أَيْ: مِقْدَارُهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثَلَاثَمِائَةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لَكَانَ الْمَقْدُورِ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ أَيْ قَدْرَ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ زَهَوْتُ الْقَوْمَ إِذَا حَزَرْتُهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5910 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً، وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا.
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ. فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ: (اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ) فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، ثُمَّ قَالَ:(حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ، وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ) وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5910 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ)، أَيِ: الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ (بَرَكَةً، وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا)، أَيْ: إِنْذَارًا وَهَلَكَةً. قَالَ شَارِحٌ: وَسُمِّيَتْ آيَةً لِأَنَّهَا عَلَامَةُ نُبُوَّتِهِ، فَقِيلَ: أَرَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه بِذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لَا يَنْفَعُ فِيهِمْ إِلَّا الْآيَاتُ الَّتِي نَزَلَتْ بِالْعَذَابِ وَالتَّخْوِيفِ، وَخَاصَّتَهُمْ يَعْنِي الصَّحَابَةَ كَانَ يَنْفَعُ فِيهِمُ الْآيَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْبَرَكَةِ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ طَرِيقَ الْخَوَاصِّ مَبْنِيٌّ عَلَى غَلَبَةِ الْمَحَبَّةِ وَالرَّجَاءِ، وَسَبِيلَ الْعَوَامِّ مَبْنِيٌّ عَلَى كَثْرَةِ الْخَوْفِ وَالْعَنَاءِ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُونَ بِالطَّائِرِينَ الْمَجْذُوبِينَ الْمُرَادِينَ، وَالْآخِرُونَ بِالسَّائِرِينَ السَّالِكِينَ الْمُرِيدِينَ، وَتَفْصِيلُ هَذَا الْمَرَامِ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] وَالْآيَاتُ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمُعْجِزَاتُ، أَوْ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلَةُ، وَكِلَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِ الْمُوَافِقِ بَرَكَةٌ وَازْدِيَادٌ فِي إِيمَانِهِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَالِفِ الْمُعَانِدِ إِنْذَارٌ وَتَخْوِيفٌ. يَعْنِي لَا نُرْسِلُهَا إِلَّا تَخْوِيفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ كَالطَّلِيعَةِ وَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ، وَفِيهِ مَدْحٌ لِلصَّحَابَةِ الَّذِينَ اسْتَعَدُّوا بِصُحْبَةِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ وَلَزِمُوا طَرِيقَتَهُ، وَذَمٌّ لِمَنْ عَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ قُلْتُ. إِيرَادُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْمَرَامِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا عَلَى مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ، أَيْ: بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59] .
وَقَوْلُهُ: {إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] أَيْ: مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْمُسْتَأْصَلِ، فَإِنْ لَمْ يَخَافُوا نَزَلَ، أَوْ بِغَيْرِ الْمُقْتَرَحَةِ كَالْمُعْجِزَاتِ وَآيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا تَخْوِيفًا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ أَمْرَ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مُؤَخَّرٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَالتَّخْوِيفُ مَطْلُوبٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَأَكَّدَهُ حَيْثُ أَتَى بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ لِابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فِي عَدِّهَا تَخْوِيفًا؟ قَتَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ كُنَّا نَعُدُّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ طَلَبٍ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْبَرَكَةُ آيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ، وَأَنْتُمْ تَحْصُرُونَ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ عَلَى الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَخَافَةُ الْعُقُوبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بَيَانُهُ لِقَوْلِهِ:( «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ: اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ، فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ قَلِيلٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ» ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيِ الْمَاءِ (الْمُبَارَكِ)، أَيِ: الْكَثِيرِ الْبِرْكَةِ، وَالْمَعْنَى هَلُمُّوا إِلَيْهِ وَأَسْرِعُوا (وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ)، أَيْ: لَا مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ. (ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنَّا)، أَيْ: أَحْيَانًا (نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ) . وَذَكَرَ صَاحِبُ الشِّفَاءِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصَى فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ حَتَّى سَمِعْنَا التَّسْبِيحَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.
5911 -
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِّيَتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمْ، وَتَأْتُونَ الْمَاءَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا) فَانْطَلَقَ النَّاسُ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ فَمَالَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ:(احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا) فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ:(ارْكَبُوا) فَرَكِبْنَا. فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ نَزَلَ، ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ. قَالَ: وَبَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ. ثُمَّ قَالَ: (احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتَكَ فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ) ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ، وَرَكِبَ وَرَكِبْنَا مَعَهُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّاسِ حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ وَحَمِيَ كُلُّ شَيْءٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكْنَا وَعَطِشْنَا، فَقَالَ:(لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ) وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ فَجَعَلَ يَصُبُّ، وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ، فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(أَحْسِنُوا الْمَلَأَ، كُلُّكُمْ سَيُرْوَى) قَالَ: فَفَعَلُوا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ، حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَبَّ فَقَالَ لِيَ:(اشْرَبْ) فَقُلْتُ: لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: (إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ) .
قَالَ: فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ، قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ جَامِّينَ رِوَاءً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ هَكَذَا فِي (صَحِيحِهِ) وَكَذَا فِي (كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ)، وَ (جَامِعِ الْأُصُولِ) . وَزَادَ فِي (الْمَصَابِيحِ) بَعْدَ قَوْلِهِ:(آخِرُهُمْ) لَفْظَةَ: (شُرْبًا) .
ــ
5911 -
(وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: خَطَبَنَا)، أَيْ: خَطَبَ لَنَا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِّيَتَكُمْ)، أَيْ: أَوَّلَ لَيْلَتِكُمْ (وَلَيْلَتَكُمْ)، أَيْ: بَقِيَّتَهَا وَآخِرَهَا (وَتَأْتُونَ الْمَاءَ)، أَيْ: تَحْضُرُونَهُ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا) فَانْطَلَقَ النَّاسُ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) ، أَيْ: لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يَعْطِفُ عَلَيْهِ، بَلْ يَمْشِي كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعِيَ الصُّحْبَةَ لِاهْتِمَامِهِ بِطَلَبِ الْمَاءِ وَوُصُولِهِ إِلَيْهِ وَحُصُولِهِ لَدَيْهِ. (قَالَ أَبُو قَتَادَةَ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ) أَيْ: فِي لَيْلَةٍ (حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ) : بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَمَصْدَرُهُ ابْهِيرَارًا كَاحْمَارَّ احْمِيرَارًا أَيِ: انْتَصَفَ وَتَوَسَّطَ، ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَيُقَالُ: ذَهَبَ مُعْظَمُهُ وَأَكْثَرُهُ، وَقِيلَ ابْهَارَّ اللَّيْلُ إِذَا اطَّلَعَتْ نُجُومُهُ وَاسْتَنَارَتْ، (فَمَالَ عَنِ الطَّرِيقِ)، أَيْ: لِقَصْدِ النَّوْمِ (فَوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ)، أَيْ: لِبَعْضِ خَدَمِهِ (احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا)، أَيْ: وَقْتَهَا، وَهِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَكَأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِمُ النَّوْمُ فَرَقَدُوا (فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : وَهُوَ اسْمُ كَانَ أَوْ خَبَرُهُ وَأَوَّلُ عَكْسُهُ (وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ)، أَيْ: طَالِعَةٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (ثُمَّ قَالَ: ارْكَبُوا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ؟ فِي تَأْخِيرِهِ صلى الله عليه وسلم قَضَاءَ الصَّلَاةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا ثُمَّ تَذَكَّرَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ، وَعَلَى نَدْبِ مُفَارَقَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرَكَ فِيهِ الْمَأْمُورَ، أَوِ ارْتَكَبَ فِيهِ الْمَنْهِيَّ يَعْنِي: وَلَوْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ تَأْخِيرَهُ إِنَّمَا هُوَ لِرَجَاءِ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَاءِ أَوْ لِخُرُوجِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(فَرَكِبْنَا، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ)، أَيْ: بِقَدْرِ رُمْحٍ أَوْ أَكْثَرَ (نَزَلَ ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِأَلِفٍ قَبْلَ الْهَمْزِ، وَأَصْلُهُ مِوْضَأَةٌ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ مِفْعَلَةٍ مِنَ الْوُضُوءِ.
وَفِي الْفَائِقِ: هِيَ عَلَى مِفْعَلَةٍ مِفْعَالَةٍ مَطْهَرَةٌ كَبِيرَةٌ يُتَوَضَّأُ مِنْهَا ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي النِّهَايَةِ بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ، وَقَدْ يُمَدُّ، وَالْمَعْنَى ثُمَّ طَلَبَ مَطْهَرَةً (كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ)، أَيْ: قَلِيلٌ (مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ) : يَعْنِي وُضُوءًا وَسَطًا، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ الْمَاءِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَوَافَقَهُ الطِّيبِيُّ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُ اسْتَنْجَى فِي هَذَا الْوُضُوءِ بِالْحَجَرِ لَا بِالْمَاءِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ يُتَوَضَّأُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ مِنَ التَّثْلِيثِ بِأَنِ اكْتَفَى بِمَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ (قَالَ)، أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (وَبَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ قَالَ)، أَيِ: النَّبِيُّ عليه السلام (احْفَظْ عَلَيْنَا)، أَيْ: لِأَجْلِنَا (مِيضَأَتَكَ)، أَيْ: ذَاتَهَا وَمَا فِيهَا (فَسَيَكُونُ لَنَا نَبَأٌ)، أَيْ: خَبَرٌ عَظِيمٌ، وَشَأْنٌ جَسِيمٌ، وَفَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَنَتِيجَةٌ جَمِيلَةٌ يُتَحَدَّثُ بِهَا وَيُرْوَى حِكَايَتُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: مُعْجِزَةٌ كَمَا سَيَأْتِي (ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ) : فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْآذَانِ لِلْقَضَاءِ كَمَا هُوَ سُنَّةٌ لِلْأَدَاءِ (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: سُنَّةَ الصُّبْحِ لِفَوْتِهَا مَعَ فَرْضِهِ الْمُؤَدَّيَيْنِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَأَمَّا إِذَا فَاتَتْ وَحْدَهَا فَلَا قَضَاءَ لَهَا إِلَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لَكِنْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا وَبَعْدَ الزَّوَالِ لَا تُقْضَى اتِّفَاقًا (ثُمَّ صَلَّى الْغُدْوَةَ)، أَيْ: فَرْضَ الصُّبْحِ قَضَاءً (وَرَكِبَ وَرَكِبْنَا مَعَهُ، فَانْتَهَيَا إِلَى النَّاسِ)، أَيِ: النَّازِلِينَ مِنْ أَهْلِ الْقَافِلَةِ (حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ)، أَيِ: ارْتَفَعَ (وَحَمِيَ كُلُّ شَيْءٍ)، أَيِ: اشْتَدَّ حَرَارَتُهُ (وَهُمْ يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكْنَا)، أَيْ: مِنْ حَرَارَةِ الْهَوَاءِ (وَعَطِشْنَا) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ: مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ (فَقَالَ: لَا هُلْكَ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: لَا هَلَاكَ (عَلَيْكُمْ) : وَهُوَ دُعَاءٌ أَوْ خَبَرٌ (وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ فَجَعَلَ يَصُبُّ)، أَيِ: الْمَاءَ (وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ)، بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيُضَمُّ (فَلَمْ يَعْدُ) : مُضَارِعُ عَدَا أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزْ (أَنْ رَأَى النَّاسُ) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: رُؤْيَتُهُمْ (مَاءً)، أَيْ: كَثِيرًا (مِنَ الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: تَزَاحَمُوا (عَلَيْهَا)، أَيْ: عَلَى الْمِيضَأَةِ مُكِبًّا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يَضْبُطِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَقَعَتْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الدَّالِ وَإِثْبَاتِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَتَكَابُّوا وَلَيْسَ فِي مُسْلِمٌ، وَلَا فِي شَرْحِهِ الْفَاءُ، وَأَنْ رَأَى النَّاسُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزْ رُؤْيَةُ النَّاسِ الْمَاءَ إِكْبَابَهُمْ فَتَكَابُّوا، وَإِنْ مَفْعُولًا أَيْ: لَمْ يَتَجَاوَزِ السَّقْيُ أَوِ الصَّبُّ رُؤْيَةَ النَّاسِ الْمَاءَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهِيَ كَبُّهُمْ عَلَيْهِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَحْسِنُوا الْمَلَأَ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الْخُلُقَ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْمَلَأُ مُحَرَّكَةً الْخُلُقُ، وَمِنْهُ: أَحْسِنُوا إِمْلَاءَكُمْ أَيْ: أَخْلَاقَكُمْ. وَفِي الْفَائِقِ: الْمَلَأُ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَقِيلَ لِلْخُلُقِ الْحَسَنِ مَلَأٌ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ مَا فِي الرَّجُلِ وَأَفْضَلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ لِكِرَامِ الْقَوْمِ وُجُوهَهُمْ مَلَأٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكِرَامِ مَلَأٌ لِأَنَّهُمْ يَتَمَالَئُونَ أَيْ: يَتَعَاوَنُونَ. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُمْ يَمْلَأُونَ الْمَجْلِسَ أَوْ يَمْلَأُونَ الْعُيُونَ عَظَمَةً أَوْ بِحَشَمِهِمْ وَخَدَمِهِمْ كَثْرَةً (كُلُّكُمْ سَيُرْوَى) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: جَمِيعُكُمْ تَرْوُونَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فَلَا تَزْدَحِمُوا وَلَا تُسِيئُوا أَخْلَاقَكُمْ بِالتَّدَافُعِ.
(قَالَ)، أَيِ: الرَّاوِي (فَفَعَلُوا)، أَيِ: النَّاسُ إِحْسَانَ الْخُلُقِ وَلَمْ يَزْدَحِمُوا حَيْثُ اطْمَأَنُّوا (فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ، وَأَسْقَاهُمْ حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي)، أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ ( «وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَبَّ فَقَالَ لِيَ: اشْرَبْ فَقُلْتُ: لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ» )، أَيْ: شُرْبًا: كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَلَا شَكَّ، أَنَّ السَّاقِيَ حَقِيقَةً هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُنَافِي قَوْلَ أَبِي قَتَادَةَ: وَأَسْقِيهِمْ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى.
أُنَاوِلُهُمْ (قَالَ: فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ. قَالَ)، أَيْ: أَبُو قَتَادَةَ (فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ)، أَيْ: وَصَلُوا إِلَى مَكَانِ الْمَاءِ (جَامِّينَ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: مُسْتَرِيحِينَ، ذَكَرَهُ الْتُورِبِشْتِيُّ (رِوَاءً) : بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ جَمْعُ رَاوٍ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى مِنَ الْمَاءِ أَوْ جَمْعُ رَيَّانَ كَعِطَاشٍ جَمْعُ عَطْشَانٍ أَيْ: مُمْتَلِئِينَ مِنَ الْمَاءِ. وَقَالَ شَارِحٌ قَوْلُهُ: جَامِّينَ أَيْ: مُجْتَمِعِينَ مِنَ الْجَمِّ أَوْ مُسْتَرِيحِينَ مِنَ الْجَمَامِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الرَّاحَةُ وَزَوَالُ الْإِعْيَاءِ. قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: وَاكْثُرْ مَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْفَرَسِ يَعْنِي لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْعَطَشِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ هَكَذَا فِي صَحِيحِهِ وَكَذَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ)، أَيْ: سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ بِدُونِ شُرْبًا، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ، وَرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى. (وَزَادَ فِي الْمَصَابِيحِ بَعْدَ قَوْلِهِ: آخِرُهُمْ لَفْظَةَ شُرْبًا) : قُلْتُ: وَهُوَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْقُضَاعِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ.
5912 -
ــ
5912 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ غَزْوَةِ تَبُوكَ) : بِعَدَمِ الِانْصِرَافِ وَقَدْ يُصْرَفُ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مَسِيرَةُ شَهْرٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمَشْهُورُ فِي تَبُوكَ عَدَمُ الصَّرْفِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ الْمَوْضِعَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ عَلَى وِزَانِ يَزِيدَ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ فِي رَجَبٍ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ، وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَبُوكُونَ عَيْنَ تَبُوكَ أَيْ: يُدْخِلُونَ فِيهَا الْقَدَحَ أَيِ: السَّهْمَ وَيُحَرِّكُونَهُ لِيَخْرُجَ الْمَاءُ فَقَالَ: (مَا زِلْتُمْ تَبُوكُونَهُ بَوْكًا) . (أَصَابَ النَّاسَ) : جَوَابُ لَمَّا أَيْ: حَصَلَ لَهُمْ (مَجَاعَةٌ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: جُوعٌ شَدِيدٌ (فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ) : فِي الْحَدِيثِ اخْتِصَارٌ إِذْ رُوِيَ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَجَاعَةٌ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا فَأَكَلْنَا وَأَدَمْنَا. فَقَالَ: افْعَلُوا فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ فَعَلْتَ قَلَّتِ الظُّهُورُ، وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، وَالْفَضْلُ مَا زَادَ عَنْ شَيْءٍ، وَالْأَزْوَادُ جَمْعُ زَادٍ وَهُوَ طَعَامٌ يُتَّخَذُ لِلسَّفَرِ، فَالْمَعْنَى مُرْهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِبَقِيَّةِ أَزْوَادِهِمْ، (ثُمَّ ادْعُ اللَّهَ لَهُمْ عَلَيْهَا)، أَيْ: عَلَى تِلْكَ الْأَزْوَادِ (بِالْبَرَكَةِ)، أَيْ: كَثْرَةِ الْخَيْرِ (فَقَالَ: نَعَمْ، فَدَعَا بِنِطَعٍ) : بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ شُرَّاحُ الشِّفَاءِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي النِّطَعِ لُغَاتٌ فَتْحُ النُّونِ وَكَسْرُهَا مَعَ فَتْحِ الطَّاءِ وَإِسْكَانِهَا وَأَفْصَحُهُنَّ كَسْرُ النُّونِ وَفَتْحُ الطَّاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: النِّطَعُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَبِالتَّحْرِيكِ وَكَعِنَبٍ بِسَاطٌ مِنَ الْأَدِيمِ (فَبُسِطَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: النِّطَعُ (ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ) ، بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ الذُّرَةُ: كُثْبَةُ حَبٍّ مَعْرُوفٍ أَصْلُهُ ذُرَوٌ (وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ) ، اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ تَمْرَةٌ بِالتَّاءِ (وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكِسْرَةٍ)، أَيْ: بِقِطْعَةٍ مِنَ الْخُبْزِ (حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ شَيْءٌ يَسِيرٌ)، أَيْ: قَلِيلٌ جِدًّا (فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَرَكَةِ)، أَيْ: بِنُزُولِهَا عَلَيْهِ (ثُمَّ قَالَ خُذُوا) أَيْ: مَا تُرِيدُونَ مِنَ الزَّادِ الْوَاقِعِ فِي النِّطَعِ (وَاجْعَلُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ) . وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: صُبُّوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ آخِذِينَ أَوْ خُذُوا صَابِّينَ فِي أَوْعِيَتِكُمْ. اهـ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَوْعَيِ التَّضْمِينِ، لَكِنَّ التَّضْمِينَ لِلْجَعْلِ أَوْلَى مِنَ الصَّبِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى. (فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ)، أَيْ: فِي الْمُعَسْكَرِ أَوْ فِي أَيْدِي الْعَسْكَرِ (وِعَاءً إِلَّا مَلَئُوهُ) : وَمَا أَحْلَى ذَلِكَ الْمَالَ الْحَلَالَ.
(قَالَ)، أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ (فَأَكَلُوا)، أَيْ: جَمِيعُ الْعَسْكَرِ (حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ) : بِفَتْحِ الضَّادِ وَيُكْسَرُ أَيْ: زَادَتْ (فَضْلَةٌ) : بِالرَّفْعِ أَيْ زِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْفَضْلُ ضِدَّ النَّقْصِ، وَقَدْ فَضَلَ كَنَصَرَ وَكَرُمَ وَالْجَمْعُ فُضُولٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْمُعْجِزَاتِ سَبَبُ زِيَادَةِ الْيَقِينِ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ (لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا)، أَيْ: بِالشَّهَادَتَيْنِ (عَبْدٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِيهِ سَبَبِيَّةً أَوِ اسْتِعَانَةً أَوْ حَالًا، وَقَدْ جِيءَ بِالْجُمْلَةِ اسْتِطْرَادًا أَوِ اسْتِبْشَارًا لِلْأُمَّةِ وَقَوْلُهُ:(غَيْرُ شَاكٍّ) : مَرْفُوعٌ صِفَةُ عَبْدٍ. قُلْتُ: وَفِي نُسْخَةٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ أَوِ الْحَالِ (فَيُحْجَبَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: فَيُمْنَعَ (عَنِ الْجَنَّةِ) : قَالَ شَارِحٌ: فَيُحْجَبَ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ فِي جَوَابِ النَّفْيِ وَهُوَ لَا يَلْقَى اهـ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمَعْنَى مَنْ يَلْقَى اللَّهَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا شَكٍّ فَلَا يُحْجَبُ عَنِ الْجَنَّةِ أَبَدًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَيُحْجَبُ مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَيْهِمَا مَعًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ عَنْ سَلَمَةَ.
5913 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا بِزَيْنَبَ، فَعَمَدَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَصَنَعَتْ حَيْسًا فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهَذَا إِلَيْكَ أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَهَبْتُ فَقُلْتُ، فَقَالَ:(ضَعْهُ) ثُمَّ قَالَ: (اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا) رِجَالًا سَمَّاهُمْ (وَادْعُ مَنْ لَقِيتَ) فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى وَمَنْ لَقِيتُ، فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ.
قِيلَ لِأَنَسٍ: عَدَدُكُمْ كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ. فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ، وَتَكَلَّمَ بِمَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُ لَهُمْ:(اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ) قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ. قَالَ لِي:(يَا أَنَسُ! ارْفَعْ) فَرَفَعْتُ، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5913 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا) : هُوَ نَعْتٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْمَعْنَى زَوْجًا جَدِيدًا (بِزَيْنَبَ)، أَيْ: بِسَبَبِهَا، وَقِيلَ أَيْ: مُتَزَوِّجًا بِهَا (فَعَمَدَتْ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: قَصَدَتْ (أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: لَبَنٍ مُجَفَّفٍ يَابِسٍ مُسْتَحْجَرٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَقِطُ مُثَلَّثَةٌ وَيُحَرَّكُ وَكَكَتِفٍ وَرَجُلٍ وَإِبِلٍ شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنَ الْمَخِيضِ الْغَنَمِيِّ (فَصَنَعَتْ حَيْسًا) : فَالْحَيْسُ مَجْمُوعُ الثَّلَاثَةِ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: الْحَيْسُ هُوَ تَمْرٌ مَعَ سَمْنٍ أَوْ أَقِطٍ، وَقِيلَ هُوَ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةٍ نَقْلٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى تَمْرٍ مَعَ سَمْنٍ أَوْ أَقِطٍ كَمَا قَالَ، وَقَدْ يُجْعَلُ بَدَلَ الْأَقِطِ دَقِيقٌ أَوْ فَتِيتٌ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا فِي الْقَامُوسِ: الْحَيْسُ الْخَلْطُ وَتَمْرٌ يُخْلَطُ بِسَمْنٍ وَأَقِطٍ فَيُعْجَنُ شَدِيدًا، ثُمَّ يُنْدَرُ مِنْهُ نَوَاهُ، وَرُبَّمَا يُجْعَلُ فِيهِ سَوِيقٌ. (فَجَعَلَتْهُ)، أَيْ: أُمُّ سُلَيْمٍ (فِي تَوْرٍ) : بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَرَاءٍ إِنَاءٌ كَالْقَدَحِ ( «فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ! اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهَذَا إِلَيْكَ أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيلٌ» )، أَيْ: زَهِيدٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَذَهَبْتُ)، أَيْ: بِهِ (إِلَيْهِ، فَقُلْتُ)، أَيْ: مَا أَوْصَتْنِي بِهِ (فَقَالَ: ضَعْهُ)، أَيْ: قَائِلًا بِلِسَانِ الْحَالِ إِنَّ الْيَسِيرَ عِنْدَنَا كَثِيرٌ، وَلَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ فَضْلٌ كَبِيرٌ، (ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا، رِجَالًا) ، أَيْ: ثَلَاثَةً (سَمَّاهُمْ)، أَيْ: عَيَّنَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَنِسْبَتِهِمْ فَعَبَّرْتُ عَنْهُمْ بِفُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا فَقَوْلُهُ: رِجَالًا سَمَّاهُمْ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ بَدَلٌ مِنْ فُلَانًا إِلَخْ. أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي أَوْ مَعْنِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ)، أَيْ: عَلَى الْعُمُومِ (فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى وَمَنْ لَقِيتُ فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ) . بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: مُمْتَلِئٌ بِهِمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ هُوَ الدَّارُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ وَيَكُونُ فِيهِ مُعْجِزَةٌ أُخْرَى حَيْثُ وَسِعَ خَلْقًا كَثِيرًا (قِيلَ لِأَنَسٍ: عَدَدُكُمْ كَمْ كَانُوا) ؟ جَمَعَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْعَدَدِ لِزِيَادَةٍ عَلَى الْوَاحِدِ (قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ) : بِنَصْبِ زُهَاءَ عَلَى تَقْدِيرِ كَانُوا. وَقِيلَ: بِرَفْعِهِ أَيْ: عَدَدُنَا مِقْدَارُ ثَلَاثِمِائَةٍ (فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِمَا شَاءَ اللَّهُ)، أَيْ: مِنَ الذِّكْرِ وَالدَّعْوَةِ (ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً)، أَيْ: عَشَرَةً بَعْدَ عَشَرَةٍ لِمَا سَبَقَ (يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ لَهُمُ: اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ) : بِسُكُونِ لَامِ الْأَمْرِ وَيُكْسَرُ أَيْ يَتَنَاوَلُ (كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ)، أَيْ: مِمَّا يُقَرِّبُهُ مِنَ الْوِعَاءِ. (قَالَ)، أَيْ: أَنَسٌ (فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ)، أَيْ: وَشَبِعُوا جَمِيعُهُمْ (قَالَ لِي: يَا أَنَسُ ارْفَعْ)، أَيِ: الْقَدَحَ (فَرَفَعْتُ فَمَا أَدْرِي، حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ) . أَيْ: فِي الصُّورَةِ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ حِينَ الرَّفْعِ كَثُرَ بِبَرَكَةِ وَضْعِ يَدِهِ صلى الله عليه وسلم وَفَضْلَةِ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم هَذَا وَقَدْ قِيلَ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْوَلِيمَةَ لِزَيْنَبَ كَانَتْ مِنَ الْحَيْسِ الَّذِي أَهْدَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ، وَالْمَشْهُورُ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقِصَّةِ تَكْثِيرُ ذَلِكَ الطَّعَامِ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُضُورُ الْحَيْسِ صَادَفَ حُضُورَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ، وَإِنْكَارُ وُقُوعِ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ فِي قِصَّةِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ عَجِيبٌ، فَإِنَّ أَنَسًا يَقُولُ: أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِشَاةٍ، وَأَنَّهُ أَشْبَعَ الْمُسْلِمِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ نَحْوُ الْأَلْفِ. قُلْتُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْحَيْسَ وَلِيمَةٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ إِرْسَالُهُ هَدِيَّةً ثُمَّ إِمَّا فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِمَّا فِي يَوْمٍ آخَرَ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِشَاةٍ وَأَشْبَعَ الْأَلْفَ خُبْزًا وَلَحْمًا، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَضِيَّتَيْنِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْمُعْجِزَتَيْنِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5914 -
ــ
5914 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ)، أَيْ: رَاكِبٌ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَقِي عَلَيْهِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ (قَدْ أَعْيَا)، أَيْ: عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ (فَلَا يَكَادُ يَسِيرُ)، أَيْ: يَقْرُبُ السَّيْرَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ (فَتَلَاحَقَ)، أَيْ: لَحِقَ (بِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا لِبَعِيرِكَ؟ قُلْتُ: قَدْ عَيِيَ) : بِكَسْرِ الْيَاءِ أَيْ: عَجَزَ (فَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: عَنِ الْعَسْكَرِ وَعَنِ النَّاضِحِ (فَزَجَرَهُ)، أَيْ: بِالضَّرْبِ أَوِ الصَّوْتِ (فَدَعَا لَهُ فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِبِلِ)، أَيْ: سَائِرِهَا (قُدَّامَهَا) : بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْإِبِلِ، وَهُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: فَمَا زَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ:(يَسِيرُ) : وَهُوَ خَبَرُ مَا زَالَ وَاسْمُهُ عَائِدٌ إِلَى نَاضِحٍ كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ (فَقَالَ لِي: كَيْفَ تَرَى بِعِيرَكَ؟)، أَيِ: الْآنَ (قُلْتُ: بِخَيْرٍ قَدْ أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ قَالَ: أَفَتَبِيعُنِيهِ بِوُقِيَّةٍ) ؟ أَيْ: بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا صَرَّحَ بِهِ.
شَارِحٌ، وَهُوَ بِضَمِّ الْوَاوِ وَيُفْتَحُ وَكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَجَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ بِالْفَتْحِ فِي الْوَقِيَّةِ وَهَى لُغَةٌ حَكَاهَا بَعْضُهُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِأُوقِيَّةٍ بِضَمِّ الْهَمْزِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَقِيلَ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْوَقِيَّةُ يَسْتَعْمِلُهَا الْآنَ الْمُسْتَعْرِبُونَ، وَهِيَ بِالضَّمِّ لُغَةٌ عَامِرِيَّةٌ، وَالْأُوقِيَّةُ لِغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قِيلَ: هِيَ فِي الْحَدِيثِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ وَمُتَعَارَفِ النَّاسِ الْآنَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأُوقِيَّةُ بِالضَّمِّ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ كَالْوُقِيَّةِ بِالضَّمِّ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدِّدَةً وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَقَيَدَّهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ. (فَبِعْتُهُ عَلَى أَنْ لِي فَقَارَ ظَهْرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)، بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: رُكُوبَ فَقَارِ ظَهْرِهِ وَهَى عِظَامُ الظَّهْرِ، فَفِي النِّهَايَةِ فَقَارُ الظَّهْرِ حَرَزَاتُهُ الْوَاحِدَةُ فَقَارَةٌ. أَيْ: بِالْفَتْحِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ، وَاسْمُ سَيْفِهِ صلى الله عليه وسلم ذُو الْفَقَارِ ; لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ فِقَرٌ صِغَارٌ حِسَانٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ مُدَّةً (فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ عَلَيْهِ بِالْبَعِيرِ)، أَيْ: أَتَيْتُهُ بِهِ غُدْوَةً (فَأَعْطَانِي ثَمَنَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ لَهُ بِوَاسِطَةِ بِلَالٍ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَرُبَتِ الْمَدِينَةُ قَالَ لِبِلَالٍ:(أَعْطِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ وَزِدْ) اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ أَمْرَهُ لِبِلَالٍ أَسْبَقُ، ثُمَّ إِعْطَاؤُهُ فِي غَدٍ تَحَقُّقٌ مَعَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَطَاءِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْأَمْرِ بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5915 -
ــ
5915 -
(وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (السَّاعِدِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى بَنِي سَاعِدَةَ (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ)، أَيْ: إِلَيْهَا أَوْ فِيهَا فَنَصَبَ غَزْوَةَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ (فَأَتَيْنَا وَادِي الْقُرَى) : بِسُكُونِ يَاءِ الْوَادِي، لَكِنَّهَا تَسْقُطُ فِي الدَّرْجِ، وَفِي بَعْضِهَا بِنَصْبِهَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ التَّرْكِيبَ إِضَافِيٌّ لَا مَزْجِيٌّ وَقَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: وَادِي الْقُرَى لَا يُعْرَبُ الْيَاءُ مِنْ وَادِي، فَإِنَّ الْكَلِمَتَيْنِ جُعِلَتَا اسْمًا وَاحَدًا اهـ. وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ أَيْ: جِئْنَاهُ مَارِّينَ (عَلَى حَدِيقَةٍ)، أَيْ: بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ (لِامْرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اخْرُصُوهَا) : بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: قَدِّرُوا وَخَمِّنُوا ثَمَرَهَا (فَخَرَصْنَاهَا)، أَيْ: مُخْتَلِفِينَ فِي قَدْرِهَا (وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ أَوْسُقٍ) : وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا (وَقَالَ)، أَيْ: لِلْمَرْأَةِ (أَحْصِيهَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ أَيِ: اضْبُطِيهَا وَاحْفَظِي عَدَدَهَا كَمْ يَبْلُغُ ثَمَرُهَا (حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَانْطَلَقْنَا حَتَّى قَدِمْنَا تَبُوكَ) : رَسْمُهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ هُنَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لَا غَيْرُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سَتَهُبُّ) : بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: سَتَمُرُّ (عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَلَا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ)، أَيْ: مِنْ مَكَانِهِ فَإِنَّهُ يَضُرُّهُ (فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ)، أَيْ: فَلْيَرْبِطْ مِنَ الْآنَ (عِقَالَهُ) ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ مَا يُرْبَطُ بِهِ وَظِيفُ الْبَعِيرِ إِلَى ذِرَاعِهِ (فَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ) . فَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ (فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ) ، بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَهَا هَمْزٌ عَلَى وَزْنِ سَيِّدٍ، وَهُوَ أَبُو قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَكَذَا فِي الْقَامُوسِ، ثُمَّ قِيلَ: الْجَبَلَانِ أَحَدُهُمَا أَجَأُ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ بِهَمْزٍ وَجِيمٍ فَهَمْزٌ عَلَى فَعَلٍ كَجَبَلٍ، وَقِيلَ كَعَصَا، وَالْآخَرُ سَلْمَى بِفَتْحِ السِّينِ وَهُمَا بِأَرْضِ نَجْدٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمَا سُمَّيَا بِاسْمِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الْعَمَالِيقِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مُعْجِزَةٌ أُخْرَى.
(قَالَ) الرَّاوِي: (ثُمَّ أَقْبَلْنَا)، أَيْ: فِي الرُّجُوعِ (حَتَّى قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَرْأَةَ عَنْ حَدِيقَتِهَا: (كَمْ بَلَغَ ثَمَرُهَا) . بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُمَا وَضَمٍّ فَسُكُونٍ وَالْمُرَادُ تَمْرُهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فَقَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ) . بِالنَّصْبِ أَيْ: بَلَغَ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: عَدَدَ أَوْسَاقِهَا عَشَرَةُ أَوْسُقٍ مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: فَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ ثَالِثَةٌ لِأَجْلِ تَحَدِّيهَا وَطَلَبِ مُعَارَضَتِهَا، فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِثْلُ هَذَا اتِّفَاقًا، وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ إِظْهَارَ نُبُوَّتِهِ لِلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَلِزِيَادَةِ إِتْقَانِ إِيمَانِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5916 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « (إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهَا ذِمَّةً وَرَحِمًا - أَوْ قَالَ: ذِمَّةً وَصِهْرًا - فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا) . قَالَ: فَرَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ وَأَخَاهُ رَبِيعَةَ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَخَرَجْتُ مِنْهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5916 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ) : وَهِيَ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ (وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى)، أَيْ: يُذْكَرُ (فِيهَا الْقِيرَاطُ) ، وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: خَمْسُ شُعَيْرَاتٍ، وَأَصْلُهُ قِرَّاطٌ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أُبْدِلَتِ الرَّاءُ الْأُولَى يَاءً، وَنَظِيرُهُ دِينَارٌ. قَالَ الْقَاضِي، أَيْ: يُكْثِرُ أَهْلُهَا ذِكْرَ الْقَرَارِيطِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ لِتَشَدُّدِهِمْ فِيهَا وَقِلَّةِ مُرُوءَتِهِمْ، وَقِيلَ: الْقَرَارِيطُ كَلِمَةٌ يُذْكَرُ أَهْلُهَا فِي الْمُسَابَّةِ، وَيَقُولُونَ: أَعْطَيْتُ فُلَانًا قَرَارِيطَ أَيْ: أَسْمَعْتُهُ الْمَكْرُوهَ، وَقَدْ حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِلَهْجَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ، لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَوْمَ لَهُمْ دَنَاءَةٌ وَخِسَّةٌ، أَوْ فِي لِسَانِهِمْ بَذَاءٌ وَفُحْشٌ، (فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا) أَيْ: إِذَا اسْتَوْلَيْتُمْ عَلَى أَهْلِهَا وَتَمَكَّنْتُمْ مِنْهُمْ (فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا) أَيْ: بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ عَمَّا تُنْكِرُونَ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ سُوءُ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ عَلَى الْإِسَاءَةِ، (فَإِنَّ لَهَا)، أَيْ: لِأَهْلِهَا (ذِمَّةً)، أَيْ: حُرْمَةً وَأَمَانًا مِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَرَحِمًا) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ: قَرَابَةً مِنْ قِبَلِ هَاجَرَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ عليه السلام، فَإِنَّ هَاجَرَ وَمَارِيَةَ كَانَتَا مِنَ الْقِبْطِ (أَوْ قَالَ ذِمَّةً وَصِهْرًا) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي قَالَ شَارِحٌ: فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الصِّهْرُ يَخْتَصُّ بِمَارِيَةَ، وَالذِّمَّةُ بِهَاجَرَ، (فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ) : بِفَتْحِ لَامٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَهِيَ الْآجُرُّ قَبْلَ طَبْخِهِ (فَاخْرُجْ)، أَيْ: يَا أَبَا ذَرٍّ (مِنْهَا) . أَيْ: مِنْ مِصْرَ، وَالظَّاهِرُ الْمُطَابِقُ لِرَأَيْتُمْ أَنْ يُقَالَ: فَاخْرُجُوا، وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم خَصَّ الْأَمْرَ بِهِ شَفَقَةً عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْفِتْنَةِ لَوْ أَقَامَ بَيْنَهُمْ.
(قَالَ)، أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (فَرَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شُرَحْبِيلَ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ فَسُكُونٍ بِلَا انْصِرَافٍ (ابْنِ حَسَنَةَ) : بِفَتَحَاتٍ (وَأَخَاهُ رَبِيعَةَ) : لَمْ يَذْكُرْهُمَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (يَخْتَصِمَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَخَرَجْتُ مِنْهَا) . وَقَدْ وَقَعَ هَذَا فِي آخِرِ عَهْدِ عُثْمَانَ حِينَ عَتَبُوا عَلَيْهِ وِلَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا كُوشِفَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَيْبِ أَنَّهُ سَتَحْدُثُ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي مِصْرَ، وَسَيَكُونُ عَقِيبَ ذَلِكَ فِتَنٌ وَشُرُورٌ بِهَا كَخُرُوجِ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه أَوَّلًا، وَقَتْلِهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ثَانِيًا، وَهُوَ وَالٍ عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ عَلِيٍّ فَاخْتَبَأَ حِينَ أَحَسَّ بِالشَّرِّ فِي جَوْفِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَرَمَوْهُ بِالنَّارِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً وَأَمَارَةً لِتِلْكَ الْفِتَنِ وَأَمَرَ أَبَا ذَرٍّ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا حَيْثُمَا رَآهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الشُّرَّاحُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ عَلِمَ أَنَّ فِي طِبَاعِ سُكَّانِهَا خِسَّةً وَمُمَاكَسَةً، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ صَدْرُ الْحَدِيثِ، فَإِذَا اقْتَضَتِ الْحَالُ إِلَى أَنْ يَتَخَاصَمُوا فِي هَذَا الْمُحَقَّرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَيَجْتَنِبَ عَنْ مُسَاكَنَتِهِمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5917 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «فِي أَصْحَابِي - وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فِي أُمَّتِي - اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيهِمُ الدُّبَيْلَةُ: سِرَاجٌ مِنْ نَارٍ يَظْهَرُ فِي أَكْتَافِهِمْ حَتَّى تَنْجُمَ فِي صُدُورِهِمْ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: (لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا) فِي (بَابِ مَنَاقِبِ عَلِيٍّ) رضي الله عنه.
وَحَدِيثَ جَابِرٍ (مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ) فِي (بَابِ الْمَنَاقِبِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ــ
5917 -
(وَعَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فِي أَصْحَابِي - وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فِي أُمَّتِي - اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا) : مَعَ أَنَّهُ يُشَمُّ مِنْ مَسَافَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)، أَيْ: حَتَّى يَدْخُلَ الْبَعِيرُ فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ بِالْمُحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} [الأعراف: 40] قَالَ الشَّيْخُ الْتُورِبِشْتِيُّ: صُحْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُعْتَدُّ بِهَا هِيَ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْإِيمَانِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ الصَّحَابِيُّ إِلَّا عَلَى مَنْ صَدَقَ فِي إِيمَانِهِ، وَظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَتُهُ دُونَ أَنْ أُغْمِضَ عَلَيْهِمْ بِالنِّفَاقِ، فَإِضَافَتُهَا إِلَيْهِمْ لَا تَجُوزُ إِلَّا عَلَى الْمَجَازِ لِتَشَبُّهِهِمْ بِالصَّحَابَةِ، وَتَسَتُّرِهِمْ بِالْكَلِمَةِ، وَإِدْخَالِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي غِمَارِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: فِي أَصْحَابِي وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَصْحَابِي، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا إِبْلِيسُ كَانَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَيْ: فِي زُمْرَتِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَقُولُ:{كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] وَقَدْ أَسَرَّ بِهَذَا الْقَوْلِ إِلَى خَاصَّتِهِ وَذَوِي الْمَنْزِلَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَمْرَ هَذِهِ الْفِئَةِ الْمَسْمُومَةِ الْمُتَلَبِّسَةِ، لِئَلَّا يَقْبَلُوا مِنْهُمُ الْإِيمَانَ، وَلَا يَقْبَلُوا مِنْ قِبَلِهِمُ الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَى الْمَحْفُوظَيْنِ شَأْنُهُمْ لِاشْتِهَارِهِمْ بِذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يُوَاجِهُونَهُمْ بِصَرِيحِ الْمَقَالِ أُسْوَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ حُذَيْفَةُ أَعْلَمُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرْجِعَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَقَبَةِ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَمَّارٌ يَقُودُ بِهِ وَحُذَيْفَةُ يَسُوقُ بِهِ، وَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَادَى: أَنْ خُذُوا بَطْنَ الْوَادِي فَهُوَ أَوْسَعُ لَكُمْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخَذَ الثَّنِيَّةَ فَلَمَّا سَمِعَهُ الْمُنَافِقُونَ طَمِعُوا فِي الْمَكْرِ بِهِ، فَاتَّبَعُوهُ مُتَلَثِّمِينَ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَشَفَةَ الْقَوْمِ مِنْ وَرَائِهِ، فَأَمَرَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَرُدَّهُمْ، فَاسْتَقْبَلَ حُذَيْفَةُ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ بِمِحْجَنٍ كَانَ مَعَهُ، فَضَرَبَهَا ضَرْبًا فَرَعَبَهُمُ اللَّهُ حِينَ أَبْصَرُوا حُذَيْفَةَ، فَانْقَلَبُوا مُسْرِعِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ حَتَّى خَالَطُوا النَّاسَ، فَأَدْرَكَ حُذَيْفَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِحُذَيْفَةَ:(هَلْ عَرَفْتَ أَحَدًا مِنْهُمْ؟) قَالَ: لَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَلَثِّمِينَ، وَلَكِنْ أَعْرِفُ رَوَاحِلَهُمْ فَقَالَ. (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنِي بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، وَسَأُخْبِرُكَ بِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ الصَّبَاحِ) فَمِنْ ثَمَّ كَانَ النَّاسُ يَرْجِعُونَ حُذَيْفَةَ فِي أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَتَابَ اثْنَانِ وَبَقِيَ اثْنَا عَشَرَ عَلَى النِّفَاقِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، وَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى أَسْمَائِهِمْ فِي كُتُبِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ مَرْوِيَّةً عَنْ حُذَيْفَةَ غَيْرَ أَنِّي وَجَدْتُ فِي بَعْضِهَا اخْتِلَافًا، فَلَمْ أَرَ أَنْ أُخَاطِرَ بِدِينِي فِيمَا لَا ضَرُورَةَ لِي (ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ)، أَيْ: مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ مُنَافِقًا (تَكْفِيهِمْ)، أَيْ: تَدْفَعُ شَرَّهُمُ (الدُّبَيْلَةُ) : قَالَ الْقَاضِي: الدُّبَيْلَةُ فِي الْأَصْلِ تَصْغِيرُ الدِّبْلِ، وَهِيَ الدَّاهِيَةُ، فَأَطْلَقَتْ قُرْحَةً عَلَى رَدِيَّهٍ تَحْدُثُ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ وَيُقَالُ لَهَا الدُّبْلَةُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، (سِرَاجٌ مِنْ نَارٍ) : تَفْسِيرٌ لِلدُّبَيْلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ حُذَيْفَةَ (يَظْهَرُ)، أَيْ: يَخْرُجُ السِّرَاجُ (فِي أَكْتَافِهِمْ حَتَّى تَنْجُمَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: تَظْهَرَ وَتَطَّلِعَ النَّارُ (فِي صُدُورِهِمْ) . أَيْ: فِي بُطُونِهِمْ، وَفِي كَلَامِ الْقَاضِي إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: تَظْهَرُ بِصِيغَةِ
التَّأْنِيثِ حَيْثُ قَالَ: وَفَسَّرَهَا فِي الْحَدِيثِ بِنَارٍ تَخْرُجُ فِي أَكْتَافِهِمْ، حَتَّى تَنْجُمَ أَيْ: تَظْهَرَ مِنْ نَجَمَ يَنْجُمُ بِالضَّمِّ إِذَا ظَهَرَ وَطَلَعَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهَا وَرَمًا حَارًّا يَحْدُثُ فِي أَكْتَافِهِمْ بِحَيْثُ يَظْهَرُ أَثَرُ تَرْكِ الْحَرَارَةِ وَشِدَّةُ لَهَبِهَا فِي صُدُورِهِمْ مُمَثَّلَةً بِسِرَاجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ شُعْلَةُ الْمِصْبَاحِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَرَّفَهُ إِيَّاهُمْ وَأَنَّهُمْ هَلَكُوا، كَمَا أَخْبَرَهُ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ كَذَا) أَيْ: رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (فِي بَابِ مَنَاقِبِ عَلِيٍّ) أَيْ: فَإِنَّهُ أَوْلَى.
(وَحَدِيثَ جَابِرٍ)، أَيْ: وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ (مَنْ يَصْعَدِ الثَّنِيَّةَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَرُوِيَ يَصْعَدُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَتَمَامُهُ:(فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) . (فِي بَابِ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ) . أَيْ: فَإِنَّهُ الْمُنَاسِبُ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : مُتَعَلِّقٌ بِسَنَذْكُرُ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
5918 -
عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا، فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ، حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا سَيِّدُ الْعَالِمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ.
فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا. وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ، وَكَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ. فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ شَجَرَةٍ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ. فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
5918 -
(عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ)، أَيْ: فِي جُمْلَتِهِمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ أَكَابِرُهُمْ أَوْ لِسِنِّهِمْ (فَلَمَّا أَشْرَفُوا)، أَيْ: طَلَعُوا (عَلَى الرَّاهِبِ) : اسْمُهُ بُحَيْرَاءُ، وَهُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ مَمْدُودًا عَلَى الْمَشْهُورِ، لَكِنْ ضَبَطَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَأَلِفٍ مَقْصُورَةٍ، وَهُوَ زَاهِدُ النَّصَارَى قَالَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: وَكَانَ أَعْلَمَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ وَالْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ (هَبَطُوا)، أَيْ: نَزَلُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُوَ بُصْرَى مِنْ بِلَادِ الشَّامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ، (فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ)، أَيْ: فَفَتَحُوهَا (فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا)، أَيِ: النَّاسُ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ (قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ)، أَيْ: بِمَكَانِهِ (فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، قَالَ)، أَيِ: الرَّاوِي (فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ) ، إِشْعَارٌ بِأَنَّ خُرُوجَهُ وَنُزُولَهُ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ حُلُولِهِمْ وَوُصُولِهِمْ (فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ)، أَيْ: أَخَذَ يَمْشِي فِيمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَيَطْلُبُ فِي خِلَالِهِمْ شَخْصًا (حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ)، أَيْ: عَلَى الْإِطْلَاقِ (هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أَيْ: إِلَى الْعَالَمِينَ جَمِيعِهِمْ نَظَرًا إِلَى السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(يَبْعَثُهُ اللَّهُ) أَيْ: يُرْسِلُهُ أَوْ يُظْهِرُ رِسَالَتَهُ (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) : لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ.
مَبْعُوثٌ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. (فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ) ؟ أَيْ: مَا سَبَبُ عِلْمِكَ وَبَيَانُ كَيْفِيَّتِهِ (فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ، أَيْ: سَقَطَ (سَاجِدًا)، أَيْ: مُتَوَاضِعًا إِلَيْهِ (وَلَا يَسْجُدُ إِلَّا لِنَبِيٍّ)، أَيْ: عَظِيمٍ وَرَسُولٍ كَرِيمٍ (وَإِنِّي أَعْرِفُهُ)، أَيِ: النَّبِيَّ أَيْضًا (بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَيُكْسَرُ وَالنُّبُوَّةِ بِالْإِدْغَامِ وَيُهْمَزُ (أَسْفَلَ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ (مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ) : بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ رَأْسُ لَوْحِ الْكَتِفِ (مِثْلَ التُّفَّاحَةِ) : بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالرَّفْعِ، وَفِي أُخْرَى بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ خَاتَمٍ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: يَرْوِي بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مَحْذُوفٌ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ الْجَرُّ عَلَى الْإِبْدَالِ دُونَ الصِّفَةِ لِأَنَّ مِثْلًا وَغَيْرًا لَا يَتَعَارَفَانِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ، (ثُمَّ رَجَعَ)، أَيِ: الرَّاهِبُ (فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ)، أَيْ: بِالطَّعَامِ (وَكَانَ هُوَ)، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فِي رِعْيَةِ الْإِبِلِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ أَيْ: فِي رِعَايَتِهَا (قَالَ)، أَيِ: الرَّاهِبُ (أَرْسِلُوا إِلَيْهِ)، أَيْ: فَإِنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهِ (فَأَقْبَلَ)، أَيْ: بَعْدَ الْإِرْسَالِ أَوْ قَبْلَهُ (وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ) . أَيْ: سَحَابَةٌ (تُظِلُّهُ) . أَيْ: تَجْعَلُهُ تَحْتَ ظِلِّهِ.
(فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ)، أَيْ: قَرُبَ مِنْهُمْ (وَجَدَهُمْ)، أَيْ: وَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقَوْمَ (قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ شَجَرَةٍ)، أَيْ: إِلَى ظِلِّهَا (فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ)، أَيْ: زِيَادَةً عَلَى ظِلِّ السَّحَابَةِ. أَوْ زَالَتِ السَّحَابَةُ وَمَالَتِ الشَّجَرَةُ إِظْهَارًا لِلْخَارِقِينَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ أَيْ وَاقِعًا ظِلُّهُ عَلَيْهِ (قَالَ)، أَيِ: الرَّاهِبُ لِلْقَوْمِ (انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ)، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مَا تَنْظُرُونَ إِلَى مِظَلَّةِ السَّمَاءِ فَانْظُرُوا إِلَى مِظَلَّةِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْمَاهُمْ عَمَاءَهُمْ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] وَأَظْهَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46](فَقَالَ)، أَيِ: الرَّاهِبُ (أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ) : بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ وَبِضَمِّ الشِّينِ أَيْ أَحْلِفُ عَلَيْكُمْ بِاللَّهِ، وَقِيلَ، أَيْ: أَطْلُبُ مِنْكُمْ بِاللَّهِ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ، وَبَطَلَ عَمَلُ الْفِعْلِ لِلتَّعْلِيقِ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ:(أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ) ؟ أَيْ قَرِيبُهُ وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ (قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ)، أَيْ: وَلِيُّهُ (فَلَمْ يَزَلْ)، أَيِ: الرَّاهِبُ (يُنَاشِدُهُ)، أَيْ: يُنَاشِدُ أَبَا طَالِبٍ وَيُطَالِبُ رَدَّهُ عليه السلام خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الرُّومِ أَنْ يَقْتُلُوهُ فِي الشَّامِ وَيَقُولُ لِأَبِي طَالِبٍ: بِاللَّهِ عَلَيْكَ أَنْ تَرُدَّ مُحَمَّدًا إِلَى مَكَّةَ وَتَحْفَظَهُ مِنَ الْعَدُوِّ، (حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ) ، أَيْ إِلَى مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ - (وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا)، وَفِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: فَرَدَدْتُهُ مَعَ رِجَالٍ، وَكَانَ فِيهِمْ بِلَالٌ أَخْرَجَهُ رَزِينٌ، (وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ) : وَهُوَ الْخُبْزُ الْغَلِيظُ عَلَى مَا فِي الْأَزْهَارِ قَالَ شَارِحٌ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْخُبْزِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْخُبْزُ وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَكَذَا فِي الْقَامُوسِ (وَالزَّيْتِ) . أَيْ لَإِدَامِ ذَلِكَ الْخُبْزِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ رَوَاهَا أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ:( «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، أَيْ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، أَوْ أَحَدُهَا. وَذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ فِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَعَدَّهُ أَئِمَّتُنَا وَهْمًا وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ سِنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَاكَ اثْنَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَبُو بَكْرٍ أَصْغَرُ مِنْهُ بِسَنَتَيْنِ، وَبِلَالٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ وُلِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اهـ.
وَقَالَ فِي مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ، قِيلَ: مِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا، وَبِلَالٌ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ صَبِيًّا اهـ. وَضَعَّفَ الذَّهَبِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ لِقَوْلِهِ: وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذْ ذَاكَ مَا اشْتَرَى بِلَالًا. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ: الْحَدِيثُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَيْسَ فِيهِ سِوَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ فِيهِ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ وَهْمًا مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ، كَذَا فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِيرَادَ هَذَا الْحَدِيثِ بِبَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ كَانَ أَوْفَقَ لِلتَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
5919 -
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
5919 -
(وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ)، أَيْ: حَجَرٌ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) فَالْحَدِيثُ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ وَكَرَامَةٌ لِلْوَلِيِّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .
5920 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. قَالَ: فَارْفَضَّ عَرَقًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
5920 -
(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ)، أَيْ: جِيءَ (بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ) : بِإِضَافَتِهَا عَلَى الْبِنَاءِ وَجَوَازِ إِعْرَابِهَا مُنَوَّنًا، وَالتَّقْدِيرُ أُسْرِيَ فِيهَا بِهِ صلى الله عليه وسلم (مُلْجَمًا مُسْرَجًا)، عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا أَيْ: مَوْضُوعًا عَلَيْهِ اللِّجَامُ وَالسَّرْجُ (فَاسْتَصْعَبَ)، أَيِ: اسْتَعْصَى الْبُرَاقُ (عَلَيْهِ) : وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ الرُّكُوبِ، وَيُقَالُ: اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَيْ صَعُبَ، فَالْمَعْنَى صَعُبَ عَلَيْهِ رُكُوبُهُ بِاسْتِعْصَائِهِ (فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا) ؟ وَلَمْ تَفْعَلْ بِغَيْرِهِ أَوْ وَلَوْ فَعَلْتَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ (فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ) بِرَفْعِ أَكْرَمُ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: وَجَدْنَا الرِّوَايَةَ فِي أَكْرَمَ بِالنَّصْبِ، فَلَعَلَّ التَّقْدِيرَ: فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ كَانَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. (قَالَ)، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَارْفَضَّ) : بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيِ انْصَبَّ الْبُرَاقُ (عَرَقًا) تَمْيِيزٌ، وَالْمَعْنَى سَالَ مِنْهُ الْعَرَقُ حَيَاءً لِكَوْنِ اهْتِزَازِهِ صَدَرَ عَنْهُ فَرَحًا، وَظَنَّ أَنَّهُ وَقَعَ اسْتِعْصَاءً (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
5921 -
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ جَبْرَئِيلُ بِأُصْبُعِهِ، فَخَرَقَ بِهَا الْحَجَرَ، فَشَدَّ بِهِ الْبُرَاقَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5921 -
(وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ أَسْلِمِيٌّ، أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا وَبَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ) : قَدْ سَبَقَ ضَبْطُهُ بِالْوَجْهَيْنِ (قَالَ جِبْرِيلُ بِأُصْبُعِهِ)، أَيْ: أَشَارَ بِهَا (فَخَرَقَ)، أَيْ: جِبْرِيلُ (بِهَا)، أَيْ: بِتِلْكَ الْإِشَارَةِ (الْحَجَرَ فَشَدَّ)، أَيْ: جِبْرِيلُ أَوِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بِهِ)، أَيْ: بِالْحَجَرِ (الْبُرَاقَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي كَانَ يَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ؟ قُلْتُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَلْقَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْحَلْقَةُ، وَقَدِ انْسَدَّ فَخَرَقَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ.
5922 -
ــ
5922 -
(وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَخَيْبَرَ وَالْفَتْحَ وَحُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَعِدَادَهُ فِي الْكُوفِيِّينَ. (قَالَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ) ، أَيْ: مِنَ الْمُعْجِزَاتِ (رَأَيْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ (بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَهُ، إِذْ مَرَرْنَا بِبَعِيرٍ يُسْنَى) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُسْتَقَى (عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ الْبَعِيرُ جَرْجَرَ)، أَيْ: صَاحَ مِنَ الْجَرْجَرَةِ، وَهِيَ صَوْتُ تَرَدُّدِ الْبَعِيرِ فِي حَلْقِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَالْمَعْنَى رُدِّدَ الصَّوْتُ فِي حَلْقِهِ (فَوَضَعَ جِرَانَهُ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ مُقَدَّمَ عُنُقِهِ، وَقِيلَ: بَاطِنُ عُنُقِهِ (فَوَقَفَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا
الْبَعِيرِ) ؟ أَيْ مَالِكُهُ (فَجَاءَهُ فَقَالَ: بِعْنِيهِ، فَقَالَ: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ)، أَيْ: لَا نَبِيعُهُ إِيَّاكَ بَلْ نُعْطِيكَ هِبَةً (يَا رَسُولَ اللَّهِ) ! فَإِنَّ رِسَالَتَكَ تَقْتَضِي جَلَالَتَكَ (وَإِنَّهُ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالضَّمِيرُ لِلْبَعِيرِ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (لِأَهْلِ بَيْتٍ) : أَرَادَ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ (مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ) أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ مَا يَعِيشُونَ بِهِ (غَيْرُهُ. قَالَ: أَمَّا) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِهَا عَلَى أَنَّهَا لِلتَّنْبِيهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِقَوْلِهِ:(إِذَا ذَكَرْتَ هَذَا مِنْ أَمْرِهِ)، أَيْ: فَاعْلَمْ أَنِّي مَا طَلَبْتُ شِرَاءَهُ إِلَّا لِتَخْلِيصِهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ بِهِ (فَإِنَّهُ شَكَا كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ) ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بِأَنِ امْتَنَعَ الْبَيْعُ (فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ)، أَيْ: بِكَثْرَةِ الْعَلَفِ وَقِلَّةِ الْعَمَلِ مَعَ جَوَازِ كَثْرَتِهِمَا وَقِلَّتِهِمَا، إِذِ الظُّلْمُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ كَثْرَةِ الْعَمَلِ وَقِلَّةِ الْعَلَفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ أَمَّا مَحْذُوفٌ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ شَكَا جَوَابُ لَا، مَا الْمُقَدَّرَةُ تَقْدِيرُهُ، أَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ أَنَّ الْبَعِيرَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ فَلَا أَلْتَمِسُ شِرَاءَهُ، وَأَمَّا الْبَعِيرُ فَتَعَاهَدُوهُ فَإِنَّهُ اشْتَكَى إِذْ لَا بَدَلًا، مَا التَّفْصِيلِيَّةُ مِنَ التَّكْرَارِ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ أَمَّا الْمُقَدَّرَةِ فَتَعَاهَدُوهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّهُ شَكَا فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَفِي الْمُغْنِي: أَمَّا بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ هِيَ حَرْفُ شَرْطٍ وَتَفْصِيلٍ وَتَأْكِيدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ تَأْتِي لِغَيْرِ تَفْصِيلٍ أَصْلًا نَحْوُ: أَمَّا يَزِيدُ فَمُنْطَلِقٌ، وَأَمَّا التَّأْكِيدُ فَقَلَّ مَنْ ذَكَرَهُ، وَلَمْ أَرَ مَنْ أَحْكَمَ شَرْحَهُ غَيْرَ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فَائِدَةٌ، أَمَّا فِي الْكَلَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ فَضْلَ تَأْكِيدٍ تَقُولُ: يَزِيدُ ذَاهِبٌ، فَإِذَا قَصَدْتَ تَأْكِيدَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا مَحَالَةَ ذَاهِبٌ، وَأَنَّهُ بِصَدَدِ الذَّهَابِ، وَأَنَّهُ مِنْهُ عَزِيمَةٌ. قُلْتُ: أَمَّا يَزِيدُ فَذَاهِبٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَزَيْدٌ ذَاهِبٌ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ بِفَائِدَتَيْنِ بَيَانُ كَوْنِهِ تَأْكِيدًا وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ. (ثُمَّ سِرْنَا)، أَيْ: سَافَرْنَا أَوْ تَحَوَّلْنَا مِنْ مَكَانِنَا (حَتَّى نَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَنَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَتْ شَجَرَةٌ تَشُقُّ الْأَرْضَ)، أَيْ: تَقْطَعُهَا (حَتَّى غَشِيَتْهُ) ، أَيْ أَتَتْهُ وَأَظَلَّتْهُ (ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرْتُ لَهُ) أَيْ أَنَا. وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: ذُكِرَتِ الْقَضِيَّةُ لَهُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ. (فَقَالَ: هِيَ شَجَرَةٌ اسْتَأْذَنَتْ رَبَّهَا فِي أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَذِنَ لَهَا) . أَيْ فَجَاءَتْ لِلسَّلَامِ.
(قَالَ)، أَيْ: يَعْلَى (ثُمَّ سِرْنَا فَمَرَرْنَا بِمَاءٍ)، أَيْ: بِمَوْضِعِ مَاءٍ فِيهِ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: بِقَبِيلَةٍ (فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا بِهِ جِنَّةٌ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ جُنُونٍ (فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْخِرِهِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَنْخِرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْخَاءِ وَبِكَسْرِهِمَا وَضَمِّهِمَا وَكَمَجْلِسٍ الْأَنْفُ (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمَجْنُونِ أَوِ الشَّيْطَانِ الَّذِي فِيهِ (اخْرُجْ)، أَيْ: مِنْهُ (فَإِنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ سِرْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مَرَرْنَا بِذَلِكَ الْمَاءِ فَسَأَلَهَا)، أَيِ: الْمَرْأَةَ (عَنِ الصَّبِيِّ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ)، أَيْ: مِنَ الصَّبِيِّ (رَيْبًا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ أَيْ شَيْئًا نَكْرَهُهُ (بَعْدَكَ)، أَيْ: بَعْدَ مُفَارَقَتِكَ أَوْ بَعْدَ دُعَائِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] أَيْ حَوَادِثَ الدَّهْرِ، وَقِيلَ: مَا رَأَيْنَا مِنْهُ مَا أَوْقَعَنَا فِي شَكٍّ مِنْ حَالِهِ وَتَضَجُّرِنَا مِنْ أَمْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2](رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ)، أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.
5923 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ بِابْنٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ ابْنِي بِهِ جُنُونٌ، وَإِنَّهُ لَيَأْخُذُهُ عِنْدَ غَدَائِنَا وَعَشَائِنَا فَيَخْبُثُ عَلَيْنَا فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ وَدَعَا، فَثَعَّ ثَعَّةً وَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ مِثْلُ الْجِرْوِ الْأَسْوَدِ يَسْعَى» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
5923 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ بِابْنٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي بِهِ جُنُونٌ، وَأَنَّهُ لَيَأْخُذُهُ» ) أَيِ: الْجُنُونُ (عِنْدَ غَدَائِنَا وَعَشَائِنَا)، أَيْ: عِنْدَ حُضُورِهِمَا، أَوْ وَقْتَ اسْتِعْمَالِهِمَا. وَقَالَ شَارِحٌ، أَيْ: صَبَاحَنَا وَمَسَاءَنَا (فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ)، أَيْ: صَدْرَ الْوَلَدِ (وَدَعَا، فَثَعَّ) : بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْعَيْنِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: قَاءَ (ثَعَّةً)، أَيْ: قَيْئَةً وَاحِدَةً، فَفِي النِّهَايَةِ الثَّعُّ الْقَيْءُ، وَالثَّعَّةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ (وَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ مِثْلُ الْجِرْوِ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: وَلَدِ الْكَلْبِ (الْأَسْوَدِ) : صِفَةٌ لِلْجِرْوِ، وَقَوْلُهُ:(يَسْعَى) . حَالٌ أَيْ: يَمْشِي ذَلِكَ الْجِرْوُ وَيُسْرِعُ. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .
5924 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ جَبْرَئِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ، قَدْ تَخَضَّبَ بِالدَّمِ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تُحِبُّ أَنْ نُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: (نَعَمْ) . فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ: ادْعُ بِهَا، فَدَعَا بِهَا، فَجَاءَتْ، فَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ، فَأَمَرَهَا، فَرَجَعَتْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (حَسْبِي حَسْبِي) .» رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
5924 -
(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ) : عليه السلام عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (جَالِسٌ حَزِينٌ، وَقَدْ تَخَضَّبَ بِالدَّمِ)، أَيْ: تَلَوَّثَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ عِنْدَ كَسْرِ رَبَاعِيَتِهِ (مِنْ فِعْلِ أَهْلِ مَكَّةَ)، أَيْ: مِنْ ضَرْبِ كُفَّارِهِمْ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: ضُرِبَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالسَّيْفِ سَبْعِينَ ضَرْبَةً، وَوَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] لَكِنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْكَسْرُ لِيَكْثُرَ لَهُ الْأَجْرُ وَالْجَبْرُ فِي مُشَارَكَةِ مَشَقَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِحْنَةِ الْمُجَاهِدِينَ، وَلِذَا لَمَّا أَصَابَ حَجَرٌ أُصْبُعَهُ وَدَمِيَتْ قَالَ: هَلْ أَنْتَ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ.
(فَقَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! تُحِبُّ أَنْ نُرِيَكَ آيَةً) ؟ أَيْ: عَلَامَةً مِنْكَ عَلَى نُبُوَّتِكَ تَسْلِيَةً لَكَ عَلَى مِحْنَتِكَ لِتَعْرِفَ أَنَّهَا سَبَبٌ لِمَزِيدِ مِحْنَتِكَ، وَقُرْبِ مَنْزِلَتِكَ (قَالَ: نَعَمْ، فَنَظَرَ) أَيْ جِبْرِيلُ (إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَائِهِ)، أَيْ: مِنْ خَلْفِهِ، أَوْ مِنْ خَلْفِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فَقَالَ)، أَيْ: جِبْرِيلُ (ادْعُ بِهَا) ، أَيِ اطْلُبْهَا (فَدَعَا بِهَا، فَجَاءَتْ، فَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ)، أَيْ: مُنَادِيَةً لَدَيْهِ وَمُنْقَادَةً إِلَيْهِ (فَقَالَ)، أَيْ: جِبْرِيلُ (مُرْهَا)، أَيْ: بِالرُّجُوعِ (فَلْتَرْجِعْ) أَيْ: لِحِكْمَةٍ تَقْتَضِيهِ (فَأَمَرَهَا، فَرَجَعَتْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: حَسْبِي)، أَيْ: كَفَانِي (حَسْبِي) زِيدَ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى تَكْرَارِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْمَجِيءِ وَالْإِعَادَةِ، وَالْمَعْنَى كَفَانِي فِي تَسْلِيَتِي عَمَّا لَقِيتُهُ مِنَ الْحُزْنِ هَذِهِ الْكَرَامَةُ مِنْ رَبِّي. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .
5925 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ فَلَمَّا دَنَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ؟) . قَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: (هَذِهِ السَّلَمَةُ) فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَهُوَ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الْأَرْضَ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَشْهِدْهَا ثَلَاثًا، فَشَهِدَتْ ثَلَاثًا. أَنَّهُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبِتِهَا» . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
5925 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ)، أَيْ: فِي غَزْوَةٍ أَوْ عُمْرَةٍ (فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ) ، أَيْ بَدَوِيٍّ (فَلَمَّا دَنَا)، أَيْ: قَرُبَ (قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: تَشْهَدُ)، أَيْ: أَتَشْهَدُ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ قَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ)، أَيْ: عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ وَظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ (عَلَى مَا تَقُولُ) ؟ أَيْ: مِنْ دَعْوَى الرِّسَالَةِ (قَالَ: هَذِهِ السَّلَمَةُ) : بِفَتَحَاتٍ شَجَرَةٌ مِنَ الْبَادِيَةِ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَفِي النِّهَايَةِ: السَّلَمُ شَجَرٌ مِنَ الْعِضَاهِ، وَاحِدُهَا سَلَمَةٌ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَوَرَقُهَا الْقَرَظُ الَّذِي يُدْبَغُ بِهِ، وَبِهَا سُمِّيَ الرَّجُلُ سَلَمَةَ. (فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَهُوَ) ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (بِشَاطِئِ الْوَادِي) ، أَيْ كَانَ وَاقِفًا بِطَرَفِهِ (فَأَقْبَلَتْ)، أَيِ: الشَّجَرَةُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (تَخُدُّ الْأَرْضَ) : بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: تَشُقُّهَا أُخْدُودًا، وَقَوْلُهُ:(خَدًّا) : عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أَيْ مُسَلِّمَةً عَلَيْهِ وَمُسْلِمَةً لَدَيْهِ (فَاسْتَشْهَدَهَا)، أَيْ: طَلَبَ الشَّهَادَةَ مِنَ الشَّجَرَةِ (ثَلَاثًا)، أَيْ: مُرَتَّبًا لَا مُتَوَالِيًا (فَشَهِدَتْ ثَلَاثًا. أَنَّهُ كَمَا قَالَ)، أَيْ: أَنَّ الشَّأْنَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَوْنِهِ رَسُولَ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبِتِهَا) . بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ: مَوْضِعُ نَبَاتِهَا وَمَوْطِنِ أَصْلِهَا. (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .
5926 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بِمَا أَعْرِفُ أَنَّكَ نَبِيٌّ؟ قَالَ: (إِنْ دَعَوْتَ هَذَا الْعِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ يَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِنَ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: (ارْجِعْ) فَعَادَ، فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
ــ
5926 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بِمَ أَعْرِفُ)، أَيْ: مِنْ مُعْجِزَاتِكَ (أَنَّكَ نَبِيٌّ) ؟ أَيْ: صَادِقٌ (قَالَ: إِنْ دَعَوْتُ) : بِكَسْرٍ إِنْ فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ، وَفِي بَعْضِهَا بِفَتْحِ إِنْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ: بِأَنْ دَعَوْتُ (هَذَا الْعِذْقَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهُوَ الْعُرْجُونُ بِمَا فِيهِ مِنَ الشَّمَارِيخِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعُنْقُودِ مِنَ الْعِنَبِ، وَبِالْفَتْحِ النَّخْلَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ:(مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ يَشْهَدُ)، أَيْ: حَالَ كَوْنِ الْعِذْقِ يَشْهَدُ (أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) : وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ دَعَوْتُ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ بِمَا أَعْرِفُ أَيْ: يَأْتِي إِنْ دَعَوْتُهُ يَشْهَدْ. اهـ. وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ يَشْهَدْ مَجْزُومًا بِصِيغَةِ الْغَائِبِ، وَالْمَعْنَى فَأَعْرِفُ بِأَنِّي إِنْ دَعَوْتُهُ يَشْهَدْ. وَقَالَ شَارِحٌ: إِنْ لِلشَّرْطِ، وَيَشْهَدْ جَزَاؤُهُ، أَوْ لِلْمَصْدَرِيَّةِ وَيَشْهَدُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ اهـ.
وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ يَشْهَدْ عَلَى الْأَوَّلِ مُخَاطَبًا مَجْزُومًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ لِيَكُونَ جَوَابَ الْأَعْرَابِيِّ بِنَعَمْ مُقَدَّرًا، أَوِ النُّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْتَظِرْ جَوَابَهُ إِذْ لَيْسَ لَهُ جَوَابٌ صَوَابٌ غَيْرُهُ (فَدَعَاهُ)، أَيِ: الْعِذْقَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ)، أَيْ: فَشَرَعَ الْعِذْقُ (يَنْزِلُ مِنَ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ)، أَيْ: وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: مُنْتَهِيًا إِلَيْهِ وَمُسْتَسْلِمًا لَدَيْهِ (ثُمَّ قَالَ: ارْجِعْ فَعَادَ)، أَيْ: إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ (فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَصَحَّحَهُ.
5927 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ ذِئْبٌ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي حَتَّى انْتَزَعَهَا مِنْهُ، قَالَ: فَصَعِدَ الذِّئْبُ عَلَى تَلٍّ فَأَقْعَى وَاسْتَثْفَرَ، وَقَالَ: قَدْ عَمَدْتُ إِلَى رِزْقٍ رَزَقَنِيهِ اللَّهُ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ انْتَزَعَهُ مِنِّي؟ ! فَقَالَ الرَّجُلُ:
تَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ! فَقَالَ الذِّئْبُ: أَعْجَبُ مِنْ هَذَا رَجُلٌ فِي النَّخَلَاتِ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ يُخْبِرُكُمْ بِمَا مَضَى وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ. قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ يَهُودِيًّا، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، وَأَسْلَمَ، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّهَا أَمَارَاتٌ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، قَدْ أَوْشَكَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يُحَدِّثَهُ نَعْلَاهُ وَسَوْطُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ» ) . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) .
ــ
5927 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ ذِئْبٌ) : بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيُبْدَلُ (إِلَى رَاعِي غَنَمٍ)، أَيْ: إِلَى قِطْعَةِ غَنَمٍ رَاعِيهَا مَعَهَا (فَأَخَذَ)، أَيِ: الذِّئْبُ (مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي)، أَيْ: تَبِعَهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ (حَتَّى انْتَزَعَهَا مِنْهُ)، أَيْ: خَلَّصَهَا مِنْ فَمِهِ (قَالَ)، أَيِ: الرَّاعِي فَإِنَّهُ هُوَ الرَّائِي، وَالرَّاوِي ذَكَرَهُ شَارِحٌ (فَصَعِدَ الذِّئْبُ عَلَى تَلٍّ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، أَيْ: مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ (فَأَقْعَى)، أَيْ: جَلَسَ مُقْعِيًا بِأَنْ قَعَدَ عَلَى وَرِكَيْهِ وَنَصَبَ يَدَيْهِ (وَاسْتَثْفَرَ) ، بِالْمُثَلَّثَةِ فَالْفَاءِ، أَيْ: أَدْخَلَ ذَنَبَهُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، وَقِيلَ: بَيْنَ أَلْيَيْهِ (وَقَالَ: قَدْ عَمَدْتُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ إِخْبَارًا عَلَى سَبِيلِ الشِّكَايَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى قَصَدْتُ (إِلَى رِزْقٍ رَزَقَنِيهِ اللَّهُ)، أَيْ: أَبَاحَهُ لِي (أَخَذْتُهُ، ثُمَّ انْتَزَعَهُ مِنِّي) ؟ أَيْ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ تَخْلِيصِهِ عَلَيْكَ، فَالْكُلُّ مُنْقَادُونَ تَحْتَ أَمْرِهِ مُطِيعُونَ لِحُكْمِهِ، مُسْتَسْلِمُونَ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ (فَقَالَ الرَّجُلُ)، أَيِ: الرَّاعِي: قَالَ الْتُورِبِشْتِيُّ: اسْمُهُ هَبَّارُ بْنُ أَوْسٍ
الْخُزَاعِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ مُكَلِّمُ الذِّئْبِ (تَاللَّهِ) : قَسَمٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ (إِنْ رَأَيْتُ)، أَيْ: مَا رَأَيْتُ (كَالْيَوْمِ)، أَيْ: مَا رَأَيْتُ ذِئْبًا يَتَكَلَّمُ كَالْيَوْمِ، ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي الْفَائِقِ، أَيْ: مَا رَأَيْتُ أُعْجُوبَةً كَأُعْجُوبَةِ الْيَوْمِ، فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ، وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ، وَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ (ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. كَأَنَّهُ قِيلَ، أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ فَقَالَ: ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، (فَقَالَ الذِّئْبُ: أَعْجَبُ مِنْ هَذَا) ، أَيْ: مِنْ تَكَلُّمِ الذِّئْبِ (رَجُلٌ فِي النَّخَلَاتِ) : بِالْفَتَحَاتِ أَيْ: نَخِيلُ الْمَدِينَةِ الْوَاقِعَةِ (بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ تَثْنِيَةُ حَرَّةٍ، وَهِيَ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنْ جِبَالِ الْمَدِينَةِ (يُخْبِرُكُمْ بِمَا مَضَى)، أَيْ: بِمَا سَبَقَ مِنْ خَبَرِ الْأَوَّلِينَ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ (وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ) أَيْ مِنْ نَبَأِ الْآخِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ أَحْوَالِ الْأَجْمَعِينَ فِي الْعُقْبَى.
(قَالَ) - أَيِ: الرَّاوِي وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ -: (فَكَانَ الرَّجُلُ)، أَيِ: الرَّاعِي (يَهُودِيًّا) : فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ خُزَاعِيٌّ، فَإِنَّ خُزَاعَةَ لَيْسَتْ بِيَهُودَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا (فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ)، أَيْ: بِخَبَرِ الذِّئْبِ (وَأَسْلَمَ فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: فِيمَا رَوَاهُ (ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهَا أَمَارَاتٌ) : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْقِصَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَعْنَى مَا تَكَلَّمَ بِهِ الذِّئْبُ بِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ وَالْقِصَّةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي رَآهَا وَأَمْثَالَهَا عَلَامَاتٌ (بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ)، أَيْ: قُدَّامَهَا (قَدْ أَوْشَكَ الرَّجُلُ)، أَيْ: قَرُبَ (أَنْ يَخْرُجَ)، أَيْ: مِنْ بَيْتِهِ (فَلَا يَرْجِعُ) : ظَاهِرُهُ النَّصْبُ، لَكِنِ اتَّفَقَ النُّسَخُ عَلَى رَفْعِهِ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ فَهُوَ لَا يَرْجِعُ (حَتَّى يُحَدِّثَهُ نَعْلَاهُ)، أَيْ: فِي رِجْلِهِ (وَسَوْطُهُ) ، أَيْ فِي يَدِهِ (بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ)، أَيْ: مِنْ أَفْعَالِ السُّوءِ أَوِ الْحُسْنِ (بَعْدَهُ)، أَيْ: بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمُفَارَقَتِهِ إِيَّاهُمْ. (رَوَاهُ)، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) . أَيْ بِإِسْنَادِهِ.
5928 -
وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ:«كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَتَدَاوَلُ مِنْ قَصْعَةٍ، مِنْ غُدْوَةٍ حَتَّى اللَّيْلِ، يَقُومُ عَشَرَةٌ وَيَقْعُدُ عَشَرَةٌ قُلْنَا: فَمِمَّا كَانَتْ تُمَدُّ؟ قَالَ: مِنْ أَيْ شَيْءٍ تَعْجَبُ؟ مَا كَانَتْ تُمَدُّ إِلَّا مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
5928 -
(وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ، فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ) : تَقَدَّمَ ضَبْطُهُمَا وَسَبَقَ ذِكْرُهُمَا (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَتَدَاوَلُ) : يُقَالُ: تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي، أَيْ: تَنَاوَلَتْهُ، يَعْنِي أَخَذَتْهُ هَذِهِ مَرَّةً، وَهَذِهِ مَرَّةً ذَكَرَهُ شَارِحٌ، فَالْمَعْنَى نَتَنَاوَبُ أَخْذَ الطَّعَامِ وَأَكْلَهُ (مِنْ قَصْعَةٍ)، بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ مِنْ صَحْفَةٍ كَبِيرَةٍ (مِنْ غُدْوَةٍ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيَجُوزُ بِفَتْحَتَيْنِ فَأَلِفٍ أَيْ: مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ (حَتَّى اللَّيْلِ)، أَيْ: إِلَى دُخُولِ الْعَشِيَّةِ (يَقُومُ عَشَرَةٌ)، أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ مِنْهَا (وَيَقْعُدُ عَشَرَةٌ)، أَيْ: لِلتَّنَاوُلِ مِنْهَا (قُلْنَا)، أَيْ: لِسَمُرَةَ (فَمِمَّا كَانَتْ تُمَدُّ) ؟ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِمْدَادِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنَ الْمَدَدِ مِنْ قَوْلِهِ: مَدَّ السِّرَاجَ بِالزَّيْتِ، وَالْمَعْنَى فَأَيُّ شَيْءٍ كَانَتِ الْقَصْعَةُ تُمَدُّ مِنْهُ وَتُزَادُ فِيهِ، وَمِنْ أَيْنَ يَكْثُرُ الطَّعَامُ فِيهَا طُولَ النَّهَارِ؟ وَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا السُّؤَالِ نَوْعٌ مِنَ التَّعَجُّبِ. (قَالَ)، أَيْ: سَمُرَةُ (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَعْجَبُ) ؟ وَالْخِطَابُ لِأَبِي الْعَلَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ، فَإِنَّهُ مِنْ رُؤَسَاءِ التَّابِعِينَ، أَوِ الْمُرَادُ خِطَابُ الْعَامِّ، وَالْمَعْنَى لَا تَعْجَبْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ (مَا كَانَتْ تُمَدُّ إِلَّا مِنْ هَاهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ) : وَالْمَعْنَى لَا تَكُونُ كَثْرَةُ الطَّعَامِ فِيهَا إِلَّا مِنْ عَالَمِ الْعَلَاءِ بِنُزُولِ الْبَرَكَةِ فِيهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] وَهَذَا ظَاهِرُ شَرْحِ الْكَلَامِ عَلَى وَفْقِ الْمَرَامِ، وَقَالَ شَارِحٌ: ضَمِيرُ قَالَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُظْهِرُ، وَمَنْ تَبِعَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلَ سَمُرَةُ، وَالسَّائِلَ أَبُو الْعَلَاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ اهـ.
وَوَجْهُ ظُهُورِهِ لَا يَخْفَى، إِذْ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ مِنَ الْأَصْحَابِ الْمُشَاهِدِينَ لِلْمُعْجِزَةِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْغَرَابَةِ، وَأَمَّا سُؤَالُ التَّابِعِينَ مِنَ الصَّحَابِيِّ، فَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الطَّعَامُ وَيُوضَعُ فِي الْقَصْعَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بَعْدَ فَرَاغِ عَشَرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، كَمَا يَقَعُ فِي الْعُرْفِ عَلَى طَرِيقِ الْعَادَةِ، فَأَجَابَ الصَّحَابِيُّ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، فَالْمَدَدُ مِنْ رَبِّ السَّمَاءِ لَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) .
5929 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ. قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ) فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ، فَانْقَلَبُوا وَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أَوْ جَمَلَيْنِ وَاكْتَسَوْا، وَشَبِعُوا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
5929 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ) : بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْإِضَافَةِ (وَخَمْسَةَ عَشَرَ) . بِفَتْحِ الْجُزْأَيْنِ عَلَى التَّرْكِيبِ (قَالَ) : اسْتِثْنَاءُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ (اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ)، أَيْ: غَالِبَهُمْ (حُفَاةٌ) : بِضَمِّ الْحَاءِ جَمْعُ حَافٍ وَهُوَ مَنْ لَا نَعْلَ لَهُ (فَاحْمِلْهُمْ)، بِهَمْزِ وَصْلٍ وَكَسْرِ مِيمٍ أَيْ: أَعِنْهُمْ عَلَى الْحَمْلِ، وَالْمَعْنَى أَعْطِ كُلًّا مِنْهُمُ الْمَرْكُوبَ (اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ) : بِالضَّمِّ جَمْعُ عَارٍ أَيْ: عُرْيَانٌ فِيمَا بَعْدَ الْإِزَارِ (فَاكْسُهُمْ) : بِضَمِّ السِّينِ أَيْ: أَعْطِهِمُ الْكُسْوَةَ وَأَلْبِسْهُمْ لِبَاسَ الزِّينَةِ (اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ) . أَيْ: بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِيَتَقَوَّوْا عَلَى الطَّاعَةِ (فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ)، أَيْ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَصَرَهُ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ وَصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَأَكَابِرِهِمْ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ، (فَانْقَلَبُوا)، أَيْ: فَرَجَعَ أَصْحَابُهُ (وَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أَوْ جَمَلَيْنِ، وَاكْتَسَوْا، وَشَبِعُوا) . أَيْ: مِنْ غَنَائِمِ أَعْدَائِهِمْ فَصَدَقَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ «الصَّبْرَ عَلَى مَا تَكْرَهُ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ» ، ثُمَّ هَذَا نَتِيجَتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
5930 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ وَمُصِيبُونَ وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
5930 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ) أَيْ: عَلَى الْأَعْدَاءِ (وَمُصِيبُونَ) أَيْ: لِلْغَنَائِمِ (وَمَفْتُوحٌ لَكُمْ)، أَيِ: الْبِلَادُ الْكَثِيرَةُ (فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ)، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْكُمْ (فَلْيَتَّقِ اللَّهَ)، أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ لِيَكُونَ كَامِلًا (وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) . لِيَكُونَ مُكْمَلًا لَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ إِمَارَتِهِ، وَتَحْصِيلِ عَدَالَتِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُنْكَرِ الْغُلُولُ وَهُوَ الْخِيَانَةُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
5931 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً، ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذِّرَاعَ، فَأَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ) وَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا.
فَقَالَ: أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ؟) فَقَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟ قَالَ: (أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ فِي يَدِي) لِلذِّرَاعِ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَنْ تَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُعَاقِبْهَا، وَتُوَفِّي أَصْحَابُهُ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ، حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشَّفْرَةِ، وَهُوَ مَوْلًى لِبَنِي بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
5931 -
(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ) : قِيلَ: إِنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَهِيَ بِنْتُ أَخِي مَرْحَبِ بْنِ أَبِي مَرْحَبٍ (سَمَّتْ شَاةً)، أَيْ: جَعَلَتْهَا مَسْمُومَةً (مَصْلِيَّةً)، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ مَشْوِيَّةً. قِيلَ: وَأَكْثَرَتِ السُّمَّ فِي الْكَتِفِ وَالذِّرَاعِ لَمَّا بَلَغَهَا أَنَّهُمَا أَحَبُّ أَعْضَاءِ الشَّاةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ)، أَيْ: إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم (فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذِّرَاعَ، فَأَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ رَهْطٌ) أَيْ: جَمَاعَةٌ (مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ)، أَيْ: مِنْ لَحْمِ تِلْكَ الشَّاةِ (فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ) أَيْ: كُفُّوهَا وَامْنَعُوهَا عَنِ الْأَكْلِ (وَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا) ، أَيْ
طَلَبَهَا فَحَضَرَتْ (فَقَالَ: سَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ) ؟ لَا بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ، بَلْ بِالْجَزْمِ فِي إِخْبَارِ الْكَلَامِ، وَلِذَا لَمْ تَقُلْ: لَا أَوْ نَعَمْ (قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟) أَيِ: اللَّهُ أَوْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ (قَالَ: أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ) أَيْ: هَذِهِ «الذِّرَاعُ بِإِنْطَاقِ اللَّهِ إِيَّاهَا» . وَقَوْلُهُ: (وَفِي يَدِي) : حَالٌ مِنْ هَذِهِ، أَيْ: مُسْتَقِرَّةً فِيهَا (لِلذِّرَاعِ) . وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى (عَنْ) نَحْوَ قَالَ لِزَيْدٍ: إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الشَّرَّ أَيْ: قَالَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى قَالَ عَنِ الذِّرَاعِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْنِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى (إِلَى) أَيْ: قَالَ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَيْهَا (قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ) : جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ (إِنْ كَانَ) أَيْ: مُحَمَّدٌ (نَبِيًّا فَلَنْ تَضُرَّهُ)، أَيِ: الشَّاةُ الْمَسْمُومَةُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ اخْتِلَافٌ إِذِ الرِّوَايَةُ وَرَدَتْ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهَا فَقُتِلَتْ، وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَفَا عَنْهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي ابْتَلَعَهَا أَمَرَ بِهَا فَقُتِلَتْ مَكَانَهُ اهـ. وَفِي الْمَوَاهِبِ، وَقِيلَ: أَسْلَمَتْ وَلَمْ تُقْتَلْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ قَوْلُهُ: فَعَفَا عَنْهَا أَيْ: تَرَكَهَا أَوَّلًا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ أَمَرَ بِقَتْلِهَا قِصَاصًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَهَا لِكَوْنِهَا أَسْلَمَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهَا قِصَاصًا لِقَتْلٍ بِشْرٍ، وَلَمْ يَنْفَرِدِ الزُّهْرِيُّ بِدَعْوَاهُ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ، فَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ فِي مَغَازِيهِ. وَلَفْظُهُ بَعْدَ قَوْلِهَا: وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ، وَقَدِ اسْتَبَانَ لِي أَنَّكَ صَادِقٌ، وَأَنَا أُشْهِدُكَ وَمَنْ حَضَرَ عَلَى دِينِكَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (وَتُوَفِّيَ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ)، أَيْ: بَعْضُهُمْ وَهُوَ بِشْرٌ ( «وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كَاهِلِهِ» ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ: بَيْنَ كَتِفَيْهِ (مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ) أَيِ: الْمَسْمُومَةِ (حَجَمَهُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (أَبُو هِنْدٍ) : قِيلَ اسْمُهُ يَسَارٌ الْحَجَّامُ (بِالْقَرْنِ وَالشَّفْرَةِ)، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: كَانَتِ الْمِحْجَمَةُ قَرْنًا (وَالْمِبْضَعَةُ) السِّكِّينُ الْعَرِيضُ (وَهُوَ)، أَيْ: أَبُو هِنْدٍ (مَوْلًى لِبَنِي بَيَاضَةَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ قَبِيلَةٌ (مِنَ الْأَنْصَارِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) .
5932 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، «أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عَشِيَّةً، فَجَاءَ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. إِنِّي طَلِعْتُ عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ.
بِظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمُ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:(تِلْكَ غَنِيمَةٌ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) قَالَ: (مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ) قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (ارْكَبْ) فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ. قَالَ: (اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ) فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ:(هَلْ حَسِسْتُمْ فَارِسَكُمْ) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا حَسِسْنَا، فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ:(أَبْشِرُوا، فَقَدْ جَاءَ فَارِسُكُمْ) فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ، حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ) قَالَ: لَا إِلَّا مُصَلِّيَا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (فَلَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَهَا) » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
5932 -
(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ أُمُّ جَدِّهِ، وَقِيلَ أُمُّهُ، وَإِلَيْهَا يُنْسَبُ، وَبِهَا يُعْرَفُ، وَاسْمُ أَبِيهِ الرَّبِيعُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ سَهْلٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ فَاضِلًا مُعْتَزِلًا عَنِ النَّاسِ، كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَكَانَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِدِمَشْقَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ (أَنَّهُمْ) أَيِ: الصَّحَابَةَ (سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ)، أَيْ: وَقْتَ تَوَجُّهِهِ إِلَيْهِ (فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ) أَيْ: أَطَالُوا وَبَالَغُوا فِيهِ (حَتَّى كَانَ عَشِيَّةً)، أَيِ: السَّيْرُ مُمْتَدٌّ إِلَى وَقْتِ الْعَشِيَّةِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: حَتَّى كَانَ الْوَقْتُ عَشِيَّةً (فَجَاءَ فَارِسٌ)، أَيْ: رَاكِبُ فَرَسٍ (مُسْرِعًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي طَلِعْتُ) : بِكَسْرِ اللَّامِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا أَيْ: عَلَوْتُ (عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا)، فَفِي الْقَامُوسِ: طَلَعَ الْجَبَلَ عَلَاهُ كَطَلِعَ بِالْكَسْرِ، وَاقْتَصَرَ الْجَوْهَرِيُّ عَلَى الْكَسْرِ، وَصَاحِبُ الْمِفْتَاحِ عَلَى الْفَتْحِ، وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ ضُبِطَ بِالْكَسْرِ، وَوُضِعَ عَلَيْهِ صَحٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ (عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: كُلُّهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَقِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ جَمِيعَ أَوْلَادِهِ عَلَى بَكْرَةٍ، وَالْبَكْرُ بِالْفَتْحِ الْفَتِيُّ مِنَ الْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ الْغُلَامِ مِنَ النَّاسِ، وَالْأُنْثَى بَكْرَةٌ، وَجَاءُوا عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ كَلِمَةٌ لِلْعَرَبِ، وَيُرِيدُونَ بِهَا الْكَثْرَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي يُقَالُ: جَاءَ الْقَوْمُ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ أَيْ جَاءُوا بِأَجْمَعِهِمْ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَعَلَى هَاهُنَا بِمَعْنَى (مَعَ) وَهُوَ مَثَلٌ يَضْرِبُهُ الْعَرَبُ، وَكَانَ السَّبَبُ أَنَّ فِيهِ جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ عَرَضَ لَهُمُ انْزِعَاجٌ، فَارْتَحَلُوا جَمِيعًا، وَلَمْ يُخَلِّفُوا.
شَيْئًا حَتَّى أَنَّ بَكْرَةً كَانَتْ لِأَبِيهِمْ أَخَذُوهَا مَعَهُمْ، فَقَالَ مَنْ وَرَاءَهُمْ جَاءُوا عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَصَارَ ذَلِكَ مَثَلًا فِي قَوْمٍ جَاءُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ بَكْرَةٌ، وَهِيَ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا الْمَاءُ، فَاسْتُعِيرَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ (بِظُعُنِهِمْ) : بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي جَمَاعَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الَّذِينَ يَظْعُنُونَ أَيْ: يَرْتَحِلُونَ. كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ، أَيْ: بِنِسَائِهِمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ الظَّعِينَةِ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ مَا دَامَتْ فِي الْهَوْدَجِ وَقِيلَ: هِيَ الْهَوْدَجُ كَانَتْ فِيهَا امْرَأَةٌ أَوْ لَا. وَهُوَ مَرْكَبٌ مِنْ مَرَاكِبِ النِّسَاءِ مُقَبَّبٌ وَغَيْرُ مُقَبَّبٍ (وَنَعَمِهِمْ) ، بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ وَبِأَمْوَالِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ (اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ)، أَيْ: مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ (فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: مُتَعَجِّبًا مِنْ حُسْنِ صَنِيعِهِ سُبْحَانَهُ (وَقَالَ: تِلْكَ) أَيْ: تِلْكَ الْجَمَاعَةُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَمْوَالِ (غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ) : لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِلتَّقْيِيدِ احْتِيَاطًا (ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْرُسُنَا) ؟ بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: يَحْفَظُ عَسْكَرَنَا مِنَ الْبَيَاتِ (اللَّيْلَةَ) ؟ أَيِ الْآتِيَةَ. (قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ (الْغَنَوِيُّ) : بِفَتْحَتَيْنِ (أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: شَهِدَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ فَتْحَ مَكَّةَ وَحُنَيْنًا، وَمَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَلَهُ وَلِأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَأَخِيهِ صُحْبَةٌ، وَاسْمُ أَبِي مَرْثَدٍ كَنَازٌ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَبِالزَّايِ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ أُنَيْسٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ أَكْثَرُ، يُقَالُ: إِنَّهُ الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) . وَقِيلَ: غَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ: ارْكَبْ فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ فَقَالَ: اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ (حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: سُنَّةَ الصُّبْحِ (ثُمَّ قَالَ: هَلْ حَسِسْتُمْ) : بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: أَدْرَكْتُمْ بِالْحِسِّ (فَارِسَكُمْ) ؟ بِأَنْ رَأَيْتُمُوهُ أَوْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ؟ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَسِسْنَا) ، أَيْ مَا عَرَفْنَا لَهُ خَبَرًا، وَلَا رَأْيَنَا لَهُ أَثَرًا (فَثُوِّبَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ أُقِيمَ (بِالصَّلَاةِ)، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَصْلُ فِي التَّثْوِيبِ أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مُسْتَصْرِخًا، فَيُلَوِّحُ بِثَوْبِهِ لِيُرَى وَيُشْتَهَرَ فَسُمِّيَ الدُّعَاءُ تَثْوِيبًا لِذَلِكَ وَكُلُّ دَاعٍ مُثَوِّبٌ، (فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَعْنَى فَشَرَعَ حَالَ الصَّلَاةِ (يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ)، أَيْ: يَمِيلُ بِطَرْفِ عَيْنِهِ إِلَى جِهَةِ الطَّرِيقِ فِي الْجَبَلِ (حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ)، أَيْ: أَدَّاهَا وَفَرَغَ مِنْهَا (قَالَ: أَبْشِرُوا، فَقَدْ جَاءَ فَارِسُكُمْ) . الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ (فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ) ، بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ الْخَلَلِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ (فَإِذَا هُوَ) أَيِ: الْفَارِسُ (قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: رَاكِبًا أَوْ نَازِلًا (قَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ، حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لَا يَخْفَى حُسْنُ الْعُدُولِ عَنْ قَوْلِهِ حَيْثُ أُمِرْتُ (فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا)، أَيْ: أَتَيْتُ طَرِيقَيِ الْجَبَلِ وَجَوَانِبِهِمَا مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَحَدٌ مَخْفِيًّا (فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ نَزَلْتَ)، أَيْ: عَنِ الدَّابَّةِ (اللَّيْلَةَ) ؟ أَيِ الْبَارِحَةَ وَهِيَ الْمَاضِيَةُ (قَالَ: لَا إِلَّا مُصَلِّيَا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ) . أَيْ: مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَلَا عَلَيْكَ)، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ حَرَجٌ (فِي أَنْ لَا تَعْمَلَ) أَيْ: مِنَ النَّوَافِلِ وَالْفَضَائِلِ (بَعْدَهَا) . أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الَّتِي فَعَلْتَهَا، فَإِنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَكَ فَضِيلَةٌ كَافِيَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِيهِ بِشَارَةٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ النَّظَرِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ بِأَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْخَيْرَاتِ، فَإِنَّ عَمَلَكَ اللَّيْلَةَ كَافِيَةٌ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ مَثُوبَةً وَفَضِيلَةً، وَأَرَادَ النَّوَافِلَ وَالتَّبَرُّعَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ لَا الْفَرَائِضَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ جُبْرَانًا لِقَلْبِهِ وَتَسْلِيَةً لَهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
5933 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِتَمَرَاتٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ، فَضَمَّهُنَّ، ثُمَّ دَعَا لِي فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ، قَالَ: (خُذْهُنَّ فَاجْعَلْهُنَّ فِي مِزْوَدِكَ، كُلَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا فَأَدْخِلْ فِيهِ يَدَكَ فَخُذْهُ وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرًا) . فَقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكُنَّا نَأْكُلُ مِنْهُ وَنُطْعِمُ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ حَقْوِي حَتَّى كَانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثْمَانَ فَإِنَّهُ انْقَطَعَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
5933 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِتَمَرَاتٍ)، بِفَتَحَاتٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ: كَانَتِ التَّمَرَاتُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، كَذَا فِي الْأَذْكَارِ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ادْعُ اللَّهَ فِيهِنَّ الْبَرَكَةَ) ، أَيِ: اسْأَلِ اللَّهَ الْبَرَكَةَ فِيهِنَّ أَوْ لِأَجْلِهِنَّ (فَضَمَّهُنَّ) ؟ أَيْ: فَأَخَذَهُنَّ بِيَدِهِ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِنَّ (ثُمَّ دَعَا لِي)، أَيْ: لِأَجْلِي خُصُوصًا (فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ)، أَيْ: بِالْبَرَكَةِ فِيهِنَّ، وَكَثْرَةِ الْخَيْرِ فِي أَكْلِهِنَّ مَعَ بَقَائِهِنَّ (قَالَ)، أَيْ: بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ (خُذْهُنَّ فَاجْعَلْهُنَّ)، أَيْ: أَدْخِلْهُنَّ (فِي مِزْوَدِكَ) ، بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الزَّادُ مِنَ الْجِرَابِ وَغَيْرِهِ، (كُلَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ)، أَيْ: مِنَ التَّمْرِ أَوْ مِنَ الْمِزْوَدِ (شَيْئًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ جَعَلَ مِنْهُ صِلَةً لِتَأْخُذَ، وَشَيْئًا: مَفْعُولٌ لَهُ، فَيَكُونُ نَكِرَةً شَائِعَةً، فَلَا يَخْتَصُّ بِالتَّمْرِ، جَعَلَ وَإِنْ حَالًا مِنْ شَيْئًا اخْتَصَّ بِهِ، (فَأَدْخِلْ فِيهِ)، أَيْ: فِي الْمِزْوَدِ (يَدَكَ فَخُذْهُ)، أَيِ: التَّمْرَ مِنْهُ (وَلَا تَنْثُرْهُ) ؟ بِضَمٍّ الْمُثَلَّثَةِ وَتُكْسَرُ (نَثْرًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، فَفِي الْمِصْبَاحِ نَثَرْتُهُ نَثْرًا مِنْ بَابَيْ نَصَرَ وَضَرَبَ رَمَيْتُ بِهِ مُتَفَرِّقًا (فَقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ)، أَيْ: سِتِّينَ صَاعًا عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَصَرَّحَ بِهِ شَارِحٌ أَوْ حِمْلَ بَعِيرٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ حَمَلْتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى الْأَخْذِ أَيْ: أَخَذْتُهُ مِقْدَارَ كَذَا بِدُفَعَاتٍ انْتَهَى. وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمُدَّعَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(فَإِنَّهُ)، أَيْ: أَنَا وَأَصْحَابِي (نَأْكُلُ مِنْهُ وَنُطْعِمُ)، أَيْ: غَيْرَنَا (وَكَانَ)، أَيِ: الْمِزْوَدُ (لَا يُفَارِقُ حَقْوِي)، أَيْ: وَسَطِي. قَالَ شَارِحٌ: الْحَقْوُ الْإِزَارُ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَوْضِعُ شَدِّ الْإِزَارِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَقْوُ مَعْقِدُ الْإِزَارِ، وَسُمِّيَ الْإِزَارُ بِهِ لِلْمُجَاوِرَةِ (حَتَّى كَانَ يَوْمُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَجُوِّزَ نَصْبُهُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ حَتَّى كَانَ الزَّمَانُ يَوْمَ (قَتْلِ عُثْمَانَ) : بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ مُضَافًا إِلَى مَفْعُولِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَعُثْمَانُ نَائِبُ الْفَاعِلِ. قَالَ الْخَلْخَالِيُّ: يَجُوزُ فَتْحُ يَوْمَ مُضَافًا إِلَى قَتْلِ، وَهُوَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ كَانَ التَّامَّةِ. (فَإِنَّهُ)، أَيِ: الْمِزْوَدُ (انْقَطَعَ) . أَيْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَسَقَطَ مِنِّي وَضَاعَ، فَحَزِنْتُ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْفَسَادَ إِذَا شَاعَ ارْتَفَعَتِ الْبَرَكَةُ، وَكَانَ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ:
لِلنَّاسِ هَمٌّ وَلِي هَمَّانِ بَيْنَهُمُ هَمُّ الْجَوَابِ وَهَمُّ الشَّيْخِ عُثْمَانَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5934 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوِثَاقِ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَخْرِجُوهُ.
فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ. وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا، قَالَ: لَا أَدْرِي. فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ، فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5934 -
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ)، أَيْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ وَحَضَرَ مَعَهُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيٍّ (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ) : بِفَتْحِ هَمْزٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ، أَيْ: فَارْبُطُوهُ (بِالْوَثَاقِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ (يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: يَعْنُونَهُ بِالضَّمِيرَيْنِ الْمُسْتَتِرِ وَالْبَارِزِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِثْبَاتِهِ بِهِ حَبْسُهُ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ) ، وَحَصِّلُوا لَكُمْ مِنْهُ الرَّاحَةَ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ) ، أَيْ عَلَى وَجْهِ
الْإِهَانَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا بِإِسْلَامِ الْأَنْصَارِ وَمُتَابَعَتِهِمْ خَافُوا وَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ مُتَشَاوِرِينَ فِي أَمْرِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ فَقَالَ: أَنَا مِنْ نَجْدٍ سَمِعْتُ اجْتِمَاعَكُمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَحْضُرَكُمْ، وَلَنْ تَعْدَمُوا مِنِّي رَأْيًا وَنُصْحًا، فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: رَأْيِي أَنْ تَحْبِسُوهُ فِي بَيْتٍ وَتَسُدُّوا مَنَافِذَهُ غَيْرَ كُوَّةٍ تُلْقُونَ إِلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْهَا حَتَّى يَمُوتَ. وَقَالَ الشَّيْخُ: بِئْسَ الرَّأْيُ يَأْتِيكُمْ مَنْ يُقَاتِلُكُمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَيُخَلِّصُهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ. فَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو: رَأْيِي أَنْ تَحْمِلُوهُ عَلَى جَمَلٍ فَتُخْرِجُوهُ مِنْ أَرْضِكُمْ، فَلَا يَضُرُّكُمْ مَا صَنَعَ. فَقَالَ: بِئْسَ الرَّأْيُ يُفْسِدُ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَيُقَاتِلُكُمْ بِهِمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَنَا أَرَى أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ بَطْنٍ غُلَامًا وَتُعْطُوهُ سَيْفًا فَيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَيَتَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ، فَلَا تَقْوَى بَنُو هَاشِمٍ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهِمْ، فَإِذَا طَلَبُوا الْعَقْلَ عَقَلْنَاهُ، فَقَالَ: صَدَقَ هَذَا الْفَتَى، فَتَفَرَّقُوا عَلَى رَأْيِهِ. (فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ) أَيْ بِأَنْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَهُ بِالْخَبَرِ وَأَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ فَبَيَّتَ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - عَلَى مَضْجَعِهِ وَخَرَجَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه إِلَى الْغَارِ (فَبَاتَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: لِلتَّعْمِيَةِ عَنْهُ فِي التَّخْلِيَةِ إِذْ كَانَ رَأْيُ الْكُفَّارِ تَقَرَّرَ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْرُسُونَهُ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ فِي الصُّبْحِ يَقْتُلُونَهُ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: تِلْكَ اللَّيْلَةَ، (وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا، أَيْ: يَظُنُّونَ عَلِيًّا (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا) :. بِمُثَلَّثَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ أَيْ وَثَبُوا (عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى مَنْ عَلَى الْمَرْقَدِ ظَنًّا أَنَّهُ النَّبِيُّ عليه السلام (فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا)، أَيْ: مَكَانَهُ (رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ) ، أَيْ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30](فَقَالُوا) أَيْ لِعَلِيٍّ (أَيْنَ)، أَيْ: ذَهَبَ (صَاحِبُكَ هَذَا) ؟ أَيِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ)، أَيْ: عَلِيٌّ مِنْ كَمَالِ عَقْلِهِ (لَا أَدْرِي) : وَهُوَ إِمَّا حَقِيقَةٌ أَوْ تَوْرِيَةٌ (فَاقْتَصُّوا) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تَتَبَّعُوا (أَثَرَهُ) ، أَيْ آثَارَ قَدَمِهِ (فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ)، أَيْ: جَبَلَ ثَوْرٍ (اخْتَلَطَ)، أَيِ: اشْتَبَهَ أَمْرُ الْأَثَرِ (عَلَيْهِمْ فَصَعِدُوا الْجَبَلَ)، بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَفِي الْقَامُوسِ: صَعِدَ فِي السُّلَّمِ كَسَمِعَ انْتَهَى، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ مِنْ بَابِ دَخَلْتُ الدَّارَ أَيْ: فَطَلَعُوا عَلَيْهِ (فَمَرُّوا بِالْغَارِ) ، أَيْ بِالْكَهْفِ الَّذِي فَوْقَ ذَلِكَ الْجَبَلِ فَظَنُّوا أَنَّهُ فِيهِ (فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ)، أَيْ: مَنْسُوجَةً (فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ)، وَقِيلَ: لَمَّا دَخَلَ الْغَارَ بَعَثَ اللَّهُ حَمَامَتَيْنِ فَبَاضَتَا فِي أَسْفَلِهِ، وَالْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ طَلَعُوا فَوْقَ الْغَارِ بِحَيْثُ لَوْ نَظَرُوا إِلَى أَقْدَامِهِمْ لَرَأَوْهُمَا، فَأَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عليه السلام:(مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) فَأَعْمَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الْغَارِ، فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ حَوْلَهُ، فَلَمْ يَرَوْهُ، وَلَا مَنْعَ مِنْ جَمْعِ الْجَمْعِ. (فَمَكَثَ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهِ أَيْ: لَبِثَ (فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ) أَيْ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
5935 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنَ الْيَهُودِ) . فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عَنْهُ؟) . قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَبُوكُمْ؟) قَالُوا: فُلَانٌ. قَالَ: (كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ) قَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ. قَالَ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟) . قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا فَقَالَ لَهُمْ:(مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟) قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا) . ثُمَّ قَالَ: (هَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟) . فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. قَالَ: (هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟) قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: (فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟)، قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَمْ يَضُرَّكَ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5935 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ» ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا وَتُكْسَرُ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اجْمَعُوا لِي)، أَيْ: لِأَجْلِي، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَيَّ أَيْ مُنْتَهِينَ إِلَيَّ، أَوِ اجْعَلُوا مُجْتَمِعِينَ عِنْدِي (مَنْ كَانَ هَاهُنَا)، أَيْ: فِي هَذَا الْمَكَانِ (مِنَ الْيَهُودِ) فَجُمِعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ) ، أَيْ أَوَّلًا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ)، بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالْيَاءِ أَيْ: مُصَدِّقُونِي فِي الْإِخْبَارِ (عَنْهُ)، أَيْ ثَانِيًا. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي أَصْلِ الْمَالِكِيِّ: صَادِقُونِي بِالتَّحْقِيقِ. قَالَ: كَذَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ دُخُولُ نُونِ الْوِقَايَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُعْرَبَةِ الْمُضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِتَقِيَهَا عَنْ خَفَاءِ الْإِعْرَابِ، فَلَمَّا مَنَعُوهَا ذَلِكَ صَارَ الْأَصْلُ مَتْرُوكًا فَنَبَّهُوا عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ الْمُعْرَبَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلْفِعْلِ، (قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَبُوكُمْ) ؟ أَيْ جَدُّكُمْ (قَالُوا: فُلَانٌ)، أَيْ: بِطَرِيقِ الْكَذِبِ عَلَى وَجْهِ الِامْتِحَانِ (قَالَ: كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ. قَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: أَحْسَنْتَ (قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ) أَيْ: ثُمَّ أَخْبَرَتْكُمْ بِهِ (قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ: وَإِنْ كَذَبْنَاكَ)، أَيْ: فِي قَوْلِنَا هَذَا (عَرَفْتَ كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا)، أَيْ: زَمَانًا قَلِيلًا، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80](ثُمَّ تَخْلُفُونَا) : بِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَتُخَفَّفُ أَيْ: تَعْقُبُونَنَا (فِيهَا) . وَهَذَا عَلَى زَعْمِهِمُ الْفَاسِدِ، وَاعْتِقَادِهِمُ الْكَاسِدِ أَنَّهُ قَوْلُ صِدْقٍ وَخَبَرُ حَقٍّ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اخْسَئُوا فِيهَا) : إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونَ} [المؤمنون: 108] وَهُوَ الْأَصْلُ زَجْرُ الْكَلْبِ، فَالْمَعْنَى اسْكُتُوا فِي سُكُوتِ هَوَانٍ، فَإِنَّكُمْ كَاذِبُونَ فِي أَخْبَارِكُمْ (وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا) . ثُمَّ قَالَ:(هَلْ أَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ فِي شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا)، أَيْ: فِي دَعْوَى رِسَالَتِكَ (أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَمْ يَضُرَّكَ) . بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا، وَلَوْ رُوِيَ بِكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ لَجَازَ، كَمَا قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] فِي آلِ عِمْرَانَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي قَوْلِهِ: أَنْ نَسْتَرِيحَ مَفْعُولٌ لَأَرَدْنَا وَجَزَاءُ الشَّرْطِ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ مَحْذُوفٌ لِوُجُودِ الْقَرِينَةِ أَيْ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَنَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَمْ يَضُرَّكَ، فَنَنْتَفِعُ بِهِدَايَتِكَ، وَحَاصِلُهُ أَرَدْنَا الِامْتِحَانَ، يَعْنِي فَإِمَّا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّكَ كَاذِبٌ فَنَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِمَّا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّكَ نَبِيٌّ فَنَتَّبِعَكَ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْ فَحْوَاهُمْ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي دَعْوَاهُمْ، فَثَبَتَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ بِظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ السَّابِغَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5936 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَصَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَطَبَنَا، حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا، حَتَّى الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَعْلَمُنَا أَحَفْظُنَا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5936 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ الْأَنْصَارِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَبِي زَيْدٍ، غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزَوَاتٍ، وَمَسَحَ رَأَسَهُ وَدَعَا لَهُ بِالْجَمَالِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَنَيِّفًا، وَمَا فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ إِلَّا نُبْذَةٌ مِنْ شَعْرٍ أَبْيَضَ، عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا الْفَجْرَ) ، أَيْ: صَلَاةَ الصُّبْحِ (وَصَعِدَ) بِالْكَسْرِ، أَيْ: طَلَعَ (عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَطَبَنَا) ، أَيْ خَطَبَ لَنَا أَوْ وَعَظَنَا (حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ) ، أَيْ صَلَاةُ الظُّهْرِ بِدُخُولِ وَقْتِهَا (فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ) : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ (فَخَطَبَنَا، حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، حَتَّى غَرَبَتِ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَوْ غَابَتِ (الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، أَيْ: مُجْمَلًا أَوْ مُفَصَّلًا فَفِيهِ الْإِعْجَازُ أَكْثَرُ (قَالَ)، أَيْ: عَمْرٌو (فَأَعْلَمُنَا) أَيِ الْآنَ (احْفَظُنَا)، أَيْ: يَوْمَئِذٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: أَحْفَظُنَا الْآنَ لِتِلْكَ الْقِصَّةِ أَعْمَلُنَا أَيِ الْآنَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5937 -
ــ
5937 -
(وَعَنْ مَعْنٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، مَعْدُودٌ فِي التَّابِعِينَ (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ)، أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيِّ (قَالَ) ، أَيْ مَعْنٌ (سَمِعْتُ أَبِي)، أَيْ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: سَأَلْتُ مَسْرُوقًا) : وَهُوَ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (مَنْ آذَنَ) : بِذَلِكَ، أَيْ: مَنْ أَعْلَمَ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِنِّ) أَيْ: بِحُضُورِهِمْ (لَيْلَةَ) : بِالتَّنْوِينِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا بِنَاءً عَلَى إِضَافَتِهَا إِلَى قَوْلِهِ: (اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ) ؟ بَلْ قِيلَ: هُوَ أَفْصَحُ فِي قَوْلِهِ: لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ، وَكَذَا فِي: يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ} [المائدة: 119] عِنْدَ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ. (فَقَالَ)، أَيْ: مَسْرُوقٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ (حَدَّثَنِي أَبُوكَ - يُعْنَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -) : تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ الْمُتَأَخِّرِينَ (أَنَّهُ)، أَيِ: ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلَا يَبْعُدُ رَجْعُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: آذَنَتْ) : بِالْمَدِّ أَيْ: أَعْلَمَتْ (بِهِمْ شَجَرَةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5938 -
ــ
5938 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ)، أَيْ: فَطَلَبْنَا رُؤْيَتَهُ (وَكُنْتُ رَجُلًا حَدِيدَ الْبَصَرِ، فَرَأَيْتُهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهُ)، أَيِ: الْهِلَالَ (غَيْرِي، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِعُمَرَ: أَمَّا تَرَاهُ؟ فَجَعَلَ لَا يَرَاهُ)، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِقَوْلِهِ: فَجَعَلْتُ أَيْ: طَفِقْتُ أُرِيهِ الْهِلَالَ، فَهُوَ لَا يَرَاهُ، فَأَقْحَمَ جَعَلَ مُشَاكَلَةً، كَمَا أُقْحِمَ {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188] تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} [آل عمران: 188] انْتَهَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ فَجَعَلَ عُمَرُ يُطَالِعُ فِي السَّمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ لَا يَرَاهُ. (قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ)، أَيْ: بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ (سَأَرَاهُ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِي) ، الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ وَالْمَعْنَى سَأَرَاهُ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَيْسَ لِي إِلَى رُؤْيَتِهِ الْآنَ حَاجَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: لَا يُهِمُّنِي الْآنَ رُؤْيَتَهُ بِتَعَبٍ سَأَرَاهُ بَعْدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ (ثُمَّ أَنْشَأَ)، أَيِ: ابْتَدَأَ (عُمَرُ يُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ. قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرِينَا) : بِضَمٍّ فَكَسْرٍ أَيْ: يُعْلِمُنَا (مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ)، أَيْ: مَوَاضِعَ طَرْحِهِمْ وَصَرْعِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ (بِالْأَمْسِ)، أَيْ بِأَمْسِ الْقَضِيَّةِ لَا الْحِكَايَةِ (يَقُولُ: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ) ، أَيْ: غَدًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) . يَعْنِي وَهَكَذَا إِلَى أَنْ بَيَّنَ مَصَارِعَ سَبْعِينَ مِنْهُمْ. (قَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي بَعَثَهُ)، أَيِ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (بِالْحَقِّ)، أَيْ: بِالصِّدْقِ (مَا أَخْطَأُوا)، أَيْ: مَا تَجَاوَزُوا الْمَذْكُورَ (الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا)، أَيِ: الْمَوَاضِعَ الَّتِي بَيَّنَهَا وَعَيَّنَهَا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ: مَا أَخْطَأُ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، فَالْمَعْنَى مَا أَغْلَطُهَا، بَلْ أَحْفَظُهَا وَأَعْرِفُهَا، لَكِنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى سُقُوطِ الْوَاوِ عَنْ رَسْمِ الْكِتَابَةِ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بِنَاءِ الْغَائِبِ الْمُذَكَّرِ الْمُفْرَدِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ)، أَيْ: عُمَرُ (فَجُعِلُوا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فَأُلْقُوا (فِي بِئْرٍ) ، أَيْ مَهْجُورَةٍ. (بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ) : بِفَتْحِ النُّونَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَهُمَا كِنَايَتَانِ عَنِ الْعَلَمَيْنِ (وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَهَكَذَا) : إِلَى أَنْ نَادَى كُلَّهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ أَكْثَرَهُمْ أَوْ أَقَلَّهُمْ (هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ حَقًّا) . وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] فَهَؤُلَاءِ أَيْضًا لَا بُدَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَعَمْ، إِمَّا بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ. (فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا) ؟ أَيْ: بِظَاهِرِهَا أَوْ بِكَمَالِهَا (فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ) ، مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَعَ، وَالْمَعْنَى لَسْتُمْ بِأَقْوَى أَوْ أَكْثَرَ سَمَاعًا مِنْهُمْ لِمَا أَقُولُهُ لَهُمْ (غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا) . أَيْ مِنَ الْجَوَابِ مُطْلَقًا، أَوْ بِحَيْثُ أَنَّكُمْ تَسْمَعُونَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5939 -
وَعَنْ أُنَيْسَةَ بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ أَبِيهَا رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى زَيْدٍ يَعُودُهُ مِنْ مَرَضٍ كَانَ بِهِ، قَالَ: (لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ مَرَضِكَ بَأْسٌ، وَلَكِنْ كَيْفَ لَكَ إِذَا عُمِّرْتَ بَعْدِي فَعَمِيتَ؟) . قَالَ: أَحْتَسِبُ وَأَصْبِرُ. قَالَ: (إِذًا تَدْخُلِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . قَالَ: فَعَمِيَ بَعْدَمَا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ ثُمَّ مَاتَ» .
ــ
5939 -
(وَعَنْ أُنَيْسَةَ) : تَصْغِيرُ أَنِيسَةٍ كَجَلِيسَةٍ (بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ)، لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنْ أَبِيهَا) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، يُعَدُّ فِي الْكُوفِيِّينَ، سَكَنَهَا وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ، (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى زَيْدٍ) : يَعْنِي نَفْسَهُ إِمَّا عَلَى التَّجْرِيدِ أَوْ بِنَوْعِ الِالْتِفَاتِ أَوْ بِتَصَرُّفِ الرُّوَاةِ (يَعُودُهُ مِنْ مَرَضٍ كَانَ بِهِ قَالَ: (لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ مَرَضِكَ بَأْسٌ، وَلَكِنْ كَيْفَ لَكَ)، أَيْ: حَالًا وَمَالًا (إِذَا عُمِّرْتَ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ: طَالَ عُمُرُكَ (بَعْدِي فَعَمِيتَ؟) بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ: فَصِرْتَ أَعْمَى (قَالَ: أَحْتَسِبُ)، أَيْ: أَطْلُبُ الثَّوَابَ (وَأَصْبِرُ. أَيْ عَلِمَ حُكْمَ رَبِّ الْأَرْبَابِ (قَالَ: (إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ وَفِي نُسْخَةٍ إِذَا (تَدْخُلِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ) . وَفِي نُسْخَةِ الْجَزَرِيِّ بِالرَّفْعِ وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ تَدْخُلُ بِمَعْنَى: تَسْتَحِقُّ دُخُولًا بِغَيْرِ مُحَاسَبَةٍ (قَالَ)، أَيِ: الشَّخْصُ الرَّاوِي سَوَاءً كَانَ أُنَيْسَةُ أَوْ غَيْرُهَا (فَعَمِيَ بَعْدَ مَا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ ثُمَّ مَاتَ) . وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْ لَهُ رَدَّ بَصَرِهِ لِيَكُونَ مَشَقَّةُ صَبْرِهِ أَكْثَرَ، وَأَجْرُهُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ أَكْبَرَ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ النَّصْرُ مَعَ الصَّبْرِ.
5940 -
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) . وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلًا، فَكَذَبَ عَلَيْهِ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوُجِدَ مَيِّتًا، وَقَدِ انْشَقَّ بَطْنُهُ، وَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ» . رَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .
ــ
5940 -
(وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ)، صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَقَوَّلَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: مَنْ كَذَبَ وَافْتَرَى (عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ)، أَيْ: مُتَعَمِّدًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) . وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي الْمَعْنَى كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ (وَذَلِكَ)، أَيْ: وَسَبَبُ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ (أَنَّهُ)، أَيِ: النَّبِيُّ عليه السلام (بَعَثَ رَجُلًا) ، أَيْ إِلَى قَوْمٍ أَوْ إِلَى أَحَدٍ (فَكَذَبَ عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَانْكَشَفَ لَهُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ أَوْ بَلَغَهُ خَبَرُهُ (فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوُجِدَ مَيِّتًا، وَقَدِ انْشَقَّ بَطْنُهُ، وَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ) . وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُوَيْنِيِّ: أَنَّ الْمُفْتَرِي عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام عَمْدًا كَافِرٌ. (رَوَاهُمَا)، أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) .
5941 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسَقِ شَعِيرٍ فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا حَتَّى كَالَهُ فَفَنِيَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلَقَامَ لَكُمْ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5941 -
(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسَقِ شَعِيرٍ)، أَيْ: نِصْفَ وَسَقٍ وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا أَوْ حِمْلُ بَعِيرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّطْرِ الْبَعْضُ، فَإِنَّهُ بَعْضُ مَعَانِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَهُوَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ لِدَلَالَتِهِ بِالْأَغْلَبِيَّةِ عَلَى الْمَرَامِ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِي حَدِيثِ:(الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ)(فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: وَتَأْكُلُ هِيَ أَيْضًا مِنْهُ (وَضَيْفُهُمَا)، أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَذَلِكَ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ (حَتَّى كَالَهُ)، أَيِ: الرَّجُلُ بَقِيَّةَ الْمَأْكُولِ (فَفَنِيَ) ، أَيْ نَفَذَ سَرِيعًا (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: فَذَكَرَ لَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ قَالَ: (لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ)، أَيْ: أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَأَضْيَافُكُمَا (وَلَقَامَ لَكُمْ) . أَيْ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5942 -
وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ:«خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ يُوصِي الْحَافِرَ يَقُولُ: (أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ) فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِيَ امْرَأَتِهِ، فَأَجَابَ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَجِيءَ بِالطَّعَامِ، فَوَضَعَ يَدَهُ، ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ، فَأَكَلُوا، فَنَظَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا) . فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى النَّقِيعِ - وَهُوَ مَوْضِعٌ يُبَاعُ فِيهِ الْغَنَمُ - لِيُشْتَرَى لِي شَاةٌ، فَلَمْ تُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً أَنْ يُرْسِلَ بِهَا إِلَيَّ بِثَمَنِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَطْعِمِي هَذَا الطَّعَامَ الْأَسْرَى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
ــ
5942 -
(وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ)، بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَضْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ الْجَرْمِيُّ الْكُوفِيُّ سَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ، وَمِنْهُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ، وَحَدِيثُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ انْتَهَى. وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: وَفِي الْمُعْجِزَاتِ (عَنْ أَبِيهِ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا (فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ)، أَيْ: طَرَفِهِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (يُوصِي الْحَافِرَ) : بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَتَشْدِيدٍ حَالٌ أُخْرَى (يَقُولُ) : بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ (أَوْسِعْ) : أَمْرُ مُخَاطَبٍ لِلْحَافِرِ (مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: مِنْ جَانِبِهِمَا (أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ) فَلَمَّا رَجَعَ) ، أَيْ: عَنِ الْمَقْبَرَةِ (اسْتَقْبَلَهُ دَاعِيَ امْرَأَتِهِ)، أَيْ: زَوْجَةِ الْمُتَوَفَّى (فَأَجَابَ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَجِيءَ بِالطَّعَامِ، فَوَضَعَ يَدَهُ) ، أَيْ فِيهِ (ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ) ، أَيْ أَيْدِيَهُمْ (فَأَكَلُوا) ، هَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يَرُدُّ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَصْحَابُ مَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الطَّعَامِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّالِثِ، أَوْ بَعْدَ الْأُسْبُوعِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ، وَذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ عِنْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ لِلْمُصِيبَةِ إِلَى ثَلَاثٍ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابٍ مَحْظُورٍ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ وَالْأَطْعِمَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتَ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَالْكُلُّ عَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ شَرْعٌ فِي السُّرُورِ، لَا فِي الشُّرُورِ. قَالَ: وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنِيعَهُمُ الطَّعَامَ مِنَ النِّيَاحَةِ انْتَهَى. فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ كَلَامُهُمْ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنِ اجْتِمَاعٍ يُوجِبُ اسْتِحْيَاءَ أَهْلِ بَيْتِ الْمَيِّتِ، فَيُطْعِمُونَهُمْ كُرْهًا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى كَوْنِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ صَغِيرًا أَوْ غَائِبًا، أَوْ لَمْ يَعْرِفْ رِضَاهُ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الطَّعَامُ مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ قَبْلَ قِسْمَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعَلَيْهِ مُجْمَلُ قَوْلِ قَاضِي خَانْ: يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ فِي أَيَّامِ الْمُصِيبَةِ ; لِأَنَّهَا أَيَّامُ تَأَسُّفٍ، فَلَا يَلِيقُ بِهَا مَا يَكُونُ لِلسُّرُورِ، وَإِنِ اتَّخَذَ طَعَامًا لِلْفُقَرَاءِ كَانَ حَسَنًا، وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِاتِّخَاذِ الطَّعَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِيُطْعِمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَبَاطِلَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ.
(فَنَظَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فِيهِ)، أَيْ: يُلْقِيهَا مِنْ فَمِهِ إِلَى جَانِبٍ آخَرَ، فَفِي النِّهَايَةِ: اللَّوْكُ إِدَارَةُ الشَّيْءِ فِي الْفَمِ (ثُمَّ قَالَ: (أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ اتُّخِذَتْ (بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا) فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى النَّقِيعِ)، بِالنُّونِ - وَهُوَ مَوْضِعٌ يُبَاعُ فِيهِ الْغَنَمُ - أَيْ: تَفْسِيرٌ مُدْرَجٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ النَّقِيعُ مَوْضِعٌ بِشَرْقِ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ فِي التَّهْذِيبِ: هُوَ فِي صَدْرِ وَادِي الْعَقِيقِ عَلَى نَحْوِ عِشْرِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَخْطَأَ مَنْ قَالَ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ قَوْلُهَا: أَرْسَلَتْ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ قَوْلُهَا: (لِيُشْتَرَى لِي شَاةٌ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَلَمْ تُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً أَنْ يُرْسِلَ)، أَيْ: بِأَنْ يُرْسِلَ الْجَارُ (بِهَا)، أَيْ: بِالشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ لِنَفْسِهِ (إِلَيَّ بِثَمَنِهَا)، أَيِ: الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ (فَلَمْ يُوجَدْ) ، أَيِ الْجَارُ (فَأَرْسَلْتُ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَأَرْسَلَتْ)، أَيِ: الْمَرْأَةُ (إِلَيَّ بِهَا) . أَيْ بِالشَّاةِ، فَظَهَرَ أَنَّ شِرَاءَهَا غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ إِذْنَ جَارِهَا وَرِضَاهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَهُوَ يُقَارِبُ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالشُّبْهَةُ قَوِيَّةٌ وَالْمُبَاشَرَةُ غَيْرُ مَرَضِيَّةٍ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(أَطْعِمِي هَذَا الطَّعَامَ الْأَسْرَى) : جَمْعُ أَسِيرٍ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ فَقِيرٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُمْ كُفَّارٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ الشَّاةِ لِيَسْتَحِلُّوا مِنْهُ، وَكَانَ الطَّعَامُ فِي صَدَدِ الْفَسَادِ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِطْعَامِ هَؤُلَاءِ فَأَمَرَ بِإِطْعَامِهِمُ انْتَهَى. وَقَدْ لَزِمَهَا قِيمَةُ الشَّاةِ بِإِتْلَافِهَا، وَوَقَعَ هَذَا تَصَدُّقًا عَنْهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) . مُتَعَلِّقٌ بِرَوَى الْمُقَدَّرِ فَتَدَبَّرْ.
5943 -
وَعَنْ حِزَامِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ - وَهُوَ أَخُو أُمِّ مَعْبَدٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُخْرِجَ مِنْ مَكَّةَ خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ، هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَمَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَدَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ اللَّيْثِي ُّ، مَرُّوا عَلَى خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ، فَسَأَلُوهَا لَحْمًا وَتَمْرًا لِيَشْتَرُوا مِنْهَا، فَلَمْ يُصِيبُوا عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، كَانَ الْقَوْمُ مُرْمِلِينَ مُسْنِتِينَ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ، فَقَالَ: (مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ عَبْدٍ؟) قَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ. قَالَ: (هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟) قَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟) قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلْبًا فَاحْلِبْهَا. فَدَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ بِيَدِهِ ضَرْعَهَا. وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَا لَهَا فِي شَاتِهَا، فَتَفَاجَّتْ عَلَيْهِ، وَدَرَّتْ وَاجْتَرَّتْ، فَدَعَا بِإِنَاءٍ يُرْبِضُ الرَّهْطَ، فَحَلَبَ فِيهِ ثَجًّا، حَتَّى عَلَاهَا الْبَهَاءُ ثُمَّ سَقَاهَا حَتَّى رَوِيَتْ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ حَتَّى رَوُوا، ثُمَّ شَرِبَ آخِرَهُمْ، ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا بَعْدَ بَدْءٍ، حَتَّى مَلَأَ الْإِنَاءَ، ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا، وَبَايَعَهَا، وَارْتَحَلُوا عَنْهَا» . رَوَاهُ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الِاسْتِيعَابِ) وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ (الْوَفَاءِ) وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ.
ــ
5943 -
(وَعَنْ حِزَامٍ) : بِكَسْرِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ فَزَايٌ (ابْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ)، أَيْ هِشَامٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنْ جَدِّهِ حُبَيْشٍ) : بِضَمِّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَنُونٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ (ابْنُ خَالِدٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: حُبَيْشُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ، قُتِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ هِشَامٌ (وَهُوَ)، أَيْ: حُبَيْشٌ (أَخُو أُمِّ مَعْبَدٍ)، أَيِ: الْخُزَاعِيَّةِ، وَهِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدٍ يُقَالُ: إِنَّهَا أَسْلَمَتْ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مُهَاجَرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَتْ، وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ بِحَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ مَشْهُورٌ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُخْرِجَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ (مِنْ مَكَّةَ) : أَوْ صَارَ أَهْلُ مَكَّةَ سَبَبَ خُرُوجِهِ إِذْ لَمْ يَقَعْ إِخْرَاجُ إِهَانَةٍ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: (خَرَجَ)، أَيْ: بِاخْتِيَارِهِ (مُهَاجِرًا)، أَيْ: مِنْ مَكَّةَ لِكُفْرِ أَهْلِهَا (إِلَى الْمَدِينَةِ)، أَيْ: وَأَهْلِهَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْكِبَارِ (هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَمَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ) : بِضَمِّ فَاءٍ وَفَتَحِ هَاءٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (وَدَلِيلُهُمَا)، أَيْ: مُرْشِدُ النَّبِيِّ وَالصَّدِيقِ فِي الطَّرِيقِ (عَبْدُ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ) : هُوَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، هَاجَرَ مَعَهُمَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَارَ الْأَرْقَمِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ (مَرُّوا عَلَى خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ) ، بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ مُضَافًا (فَسَأَلُوهَا لَحْمًا وَتَمْرًا لِيَشْتَرُوا مِنْهَا، فَلَمْ يُصِيبُوا)، أَيْ: لَمْ يُصَادِفُوا (عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ)، أَيْ: مِمَّا ذُكِرَ مِنَ اللَّحْمِ وَالتَّمْرِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولِ (وَكَانَ الْقَوْمُ مُرْمِلِينَ)، أَيْ: فَاقِدِينَ الزَّادَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْمُرْمِلُ مَنْ نَفِدَ زَادُهُ، يُقَالُ: أَرْمَلَ الرَّجُلُ إِذَا ذَهَبَ طَعَامُهُ (مُسْنِتِينَ)، أَيْ أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ يُقَالُ: أَسْنَتَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُسْنِتٌ (فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ السِّينِ وَبِكَسْرِ أَوَّلِهِ، أَيْ: جَانِبِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: كِسْرُ الْخَيْمَةِ بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِهَا جَانِبُ الْخَيْمَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْكِسْرُ جَانِبُ الْبَيْتِ وَالشَّقَّةِ السُّفْلَى مِنَ الْخِبَاءِ، أَوْ مَا يُكْسَرُ، وَيُثْنَى عَلَى الْأَرْضِ مِنْهَا، وَالنَّاحِيَةُ وَيُكْسَرُ (فَقَالَ:(مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟) قَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ تَرَكَهَا (الْجُهْدُ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ أَيِ الْهُزَالُ (عَنِ الْغَنَمِ)، أَيْ: مُتَخَلِّفَةٌ عَنْهَا (قَالَ: (هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ) ؟ أَيْ بَعْضِهِ (قَالَتْ: (هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ) . وَالْمَعْنَى لَيْسَ فِيهَا لَبَنٌ أَصْلًا (قَالَ: (أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا) : مِنْ بَابِ نَصَرَ عَلَى مَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْحَلْبُ وَيُحَرَّكُ اسْتِخْرَاجُ مَا فِي الضَّرْعِ مِنَ اللَّبَنِ يَحْلِبُ وَيَحْلُبُ، وَفِي النِّهَايَةِ: حَلَبْتُ الشَّاةَ وَالنَّاقَةَ أَحْلِبُهَا حَلَبًا بِفَتْحِ اللَّامِ. (قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلَبًا) : بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ اللَّامُ، أَيْ: لَبَنًا مَحْلُوبًا (فَاحْلِبْهَا) . قَالَ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ: الْحَلَبُ مُحَرَّكَةً يُطْلَبُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَعَلَى اللَّبَنِ الْمَحْلُوبِ (فَدَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: طَلَبَهَا (فَمَسَحَ بِيَدِهِ ضَرْعَهَا، وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَا لَهَا)، أَيْ: لِأُمِّ مَعْبَدٍ (فِي شَاتِهَا)، أَيْ: فِي شَأْنِهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ: فِي حَقِّهَا (فَتَفَاجَّتْ عَلَيْهِ)، بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ: فَتَحَتْ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا لِلْحَلَبِ (وَدَرَّتْ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، أَيْ: أَرْسَلَتِ الدَّرَّ بِالْفَتْحِ وَهُوَ اللَّبَنُ (وَاجْتَرَّتْ)، بِالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. قَالَ. الطِّيبِيُّ: الْجَرَّةُ مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ مِنْ بَطْنِهِ لِيَمْضُغَهُ ثُمَّ يَبْلَعَهُ (فَدَعَا بِإِنَاءٍ يُرْبِضُ الرَّهْطَ)، بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَرْوِيهِمْ وَيُثْقِلُهُمْ حَتَّى يَنَامُوا وَيَمْتَدُّوا عَلَى الْأَرْضِ، مِنْ رَبَضَ فِي الْمَكَانِ إِذَا لَصَقَ بِهِ وَأَقَامَ مُلَازِمًا لَهُ (فَحَلَبَ فِيهِ)، أَيْ: فِي الْإِنَاءِ (ثَجًّا)، أَيْ: حَلَبًا ذَا سَيَلَانٍ (حَتَّى عَلَاهُ)، أَيْ: ظَهَرَ عَلَى الْإِنَاءِ (الْبَهَاءُ) ، أَيْ بَهَاءُ اللَّبَنِ،