الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[10]
الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، بَلْ وَتَعَدُّدُ طُرُقِهِ، فَلَا يُشَكُّ فِي كَوْنِهِ ثَابِتًا، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ كَوْنِهِ صَحِيحًا إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الْحِسَانِ لِقِلَّةِ الصِّحَاحِ حَيْثُ لَا مُعَارِضَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابٌ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5973 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا، وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
[10]
بَابٌ بِالرَّفْعِ وَالْإِسْكَانِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5973 -
(عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا، وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ» ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ وَصِيًّا. فَقَالَتْ: مَتَى أُوصِيَ إِلَيْهِ، وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ حَتَّى مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى؟ وَمَعْنَى: وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ أَيْ لَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَلَا أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، خِلَافَ مَا يَزْعُمُهُ الشِّيعَةُ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي وَصِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابِ اللَّهِ وَوَصِيَّتِهِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَإِجَازَةِ الْوَفْدِ، فَلَيْسَتْ مُرَادَةً بِقَوْلِهَا: وَلَا أَوْصَى، وَأَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ وَفَدَكٍ، فَقَدْ سَبَّلَهَا صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ، وَجَعَلَهَا صَدَقَةً لِلْمُسْلِمِينَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ إِلَّا قَوْلَهَا: وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ. ثُمَّ قَالَ رَزِينٌ الْحَبَشِيُّ الرَّاوِي، عَنْ عَائِشَةَ: وَأَشُكُّ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، وَسَيَأْتِي نَفْيُهُمَا أَيْضًا، وَأَمَّا مَا حَكَى بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ لَهُ عِشْرُونَ نَاقَةً يَحْفَظُونَهَا فِي نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، وَيَأْتُونَ بِأَلْبَانِهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَكَانَ لَهُ سَبْعُ شِيَاهٍ يَشْرَبُونَ أَلْبَانَهَا، وَكَانَ لَهُ سَبْعُ مَعِزٍ يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا، فَلَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ الْفُقَرَاءُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَغَيْرُهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا.
5974 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَخِي جُوَيْرِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَلَا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5974 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ)، أَيِ: الْخُزَاعِيِّ لَهُ صُحْبَةٌ عَلَى مَا فِي الشَّمَائِلِ (أَخِي جُوَيْرِيَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً)، أَيْ: فِي الرِّقِّ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ رَقِيقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ الْأَخْبَارِ كَانَ إِمَّا مَاتَ وَإِمَّا أَعْتَقَهُ (وَلَا شَيْئًا) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ) ، أَيِ الَّتِي كَانَ يَخْتَصُّ بِرُكُوبِهَا (وَسِلَاحَهُ)، أَيِ الَّذِي كَانَ يَخْتَصُّ بِلُبْسِهِ مِنْ نَحْوِ: سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَدِرْعٍ وَمِغْفَرٍ وَحَرْبَةٍ، وَلَعَلَّ هَذَا الْحَصْرَ إِضَافِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِثْلَ الْأَثْوَابِ، وَأَمْتِعَةِ الْبَيْتِ، وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ أَنَّهُ تَرَكَ أَثْوَابًا وَغَيْرَهَا قَدْ بُيِّنَتْ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَعَلَّ حَجْمَةَ سُكُوتِ الرَّاوِي عَنْ ذِكْرِهَا كَوْنُهَا مُحَقَّرَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْمَذْكُورَاتِ. (وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً) . قَالَ شَارِحٌ: الضَّمِيرُ الْمَفْعُولُ لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْبَغْلَةِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَرْضِ، وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ لِلْأَرْضِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، أَيْ: تَصَدَّقَ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، فَصَارَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْوَقْفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهَا فِي حَيَاتِهِ صَدَقَةً جَارِيَةً بَاقِيَةً إِلَى قِيَامِهَا فَيَدُومُ ثَوَابُ الصَّدَقَةِ بِدَوَامِهَا، فَلَا يُنَافِي أَنَّ مَا عَدَاهَا مِنْ أَمْلَاكِهِ بِنَفْسِ الْمَوْتِ تَصِيرُ صَدَقَةً، كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: هِيَ نِصْفُ أَرْضِ فَدَكٍ، وَثُلُثُ أَرْضِ وَادِي الْقُرَى، وَسَهْمُهُ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ، وَحِصَّةٌ مِنْ أَرْضِ بَنِي النَّضِيرِ، وَضَمِيرُ جَعَلَهَا رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ الثَّلَاثَةِ لَا إِلَى الْأَرْضِ فَقَطْ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ) اه. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5975 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5975 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «لَا تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا» ) ، بِتَأْنِيثِ الْفِعْلِ وَرَفْعِهِ، فَهُوَ إِخْبَارُ حَقِيقَةٍ، وَمَعْنَاهُ لَيْسَ تَقْتَسِمُ وَرَثَتِي بَعْدَ مَوْتِي دِينَارًا إِذْ لَسْتُ أَخْلُفُ بَعْدَ مَوْتِي دِينَارًا أَمْلِكُهُ، فَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا فِي الصُّورَةِ وَنَهْيًا فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ الصَّرِيحِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّهْيِ فَهُوَ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ
أَيْ لَا دِينَارَ هُنَاكَ فَيُقَسَّمُ اه. وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ، وَفِي أُخْرَى بِالْجَزْمِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا تَقْتَسِمُ مِنْ الِاقْتِسَامِ مَرْفُوعًا وَمَجْزُومًا. قَالَ مِيرَكُ: هُوَ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ عَلَى النَّهْيِ، وَبِضَمِّهَا عَلَى النَّفْيِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى حَتَّى لَا يُعَارِضَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتْرُكْ مَالًا يُورَثُ عَنْهُ، وَتَوْجِيهُ رِوَايَةِ النَّهْيِ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُفُ شَيْئًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا. فَنَهَاهُمْ عَنْ قِسْمَةِ مَا يَخْلُفُ إِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ خَلَفَهُ، ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لَا يَقْتَسِمُ وَهُوَ نَفْيٌ لَا نَهْيٌ ; لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ شَرْطُهُ الْإِمْكَانُ وَإِرْثُ النَّبِيِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَتَمْحَضَ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْتَسِمُونَ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ اه. وَفِيهِ أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْإِمْكَانُ الْعَقْلِيُّ، وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ لَا الْإِمْكَانُ الشَّرْعِيُّ لِئَلَّا يَتَعَارَضَا، ثُمَّ قَوْلُهُ:(وَرَثَتِي) أَيْ بِالْقُوَّةِ، وَإِلَّا فَحَيْثُ لَا قِسْمَةَ فَلَا وَرَثَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مَنْ يَصْلُحُ وَرَثَتِي لَوْ أَمْكَنَتْ. وَقَالَ مِيرَكُ: هُمْ وَرَثَتُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ بِالْقُوَّةِ، لَكِنْ مُنِعُوا مِنَ الْمِيرَاثِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا نُورَثُ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَهُ وَعِلَّتَهُ مُسْتَأْنِفًا (مَا تَرَكْتُ) : مَا: مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ، وَتَرَكْتُ صِلَتُهُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيِ الَّذِي تَرَكْتُهُ ( «بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ» ) . وَالْفَاءُ لِتَضْمِينِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِمْ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ يُفِيدُ التَّوْكِيدَ وَالتَّأْبِيدَ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَعْنَى الْمُعْتَدَّاتِ، إِذْ كُنَّ لَا يَجُوزُ لَهُنَّ أَنْ يُنْكَحْنَ أَبَدًا فَجَرَتْ لَهُنَّ النَّفَقَةُ. وَقَوْلُهُ:(وَمُؤْنَةِ عَامِلِي) أَرَادَ بِالْعَامِلِ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ مِنَ الصَّفَايَا الَّتِي كَانَتْ لَهُ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَفَدَكٍ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ كَذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى عُثْمَانَ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِمَالِهِ، فَأَقْطَعَهَا مَرْوَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى رَدَّهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: يُرِيدُ بِمَا تَرَكَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ الَّتِي كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِهِ لِأَنَّ نَفَقَةَ نِسَائِهِ بَعْدَهُ كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِحَيَاةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لِكَوْنِهِنَّ مَحْبُوسَاتٍ عَنِ النِّكَاحِ فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ، وَبَقِيَ حُكْمُ نِكَاحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَاقِيًا مُدَّةَ بَقَائِهِنَّ، فَوَجَبَ لَهُنَّ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وُجُوبَ نَفَقَةِ النِّسَاءِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى نَفَقَةِ نِسَائِهِ إِرْثَهُنَّ مِنْهُ، بَلْ لِكَوْنِهِنَّ مَحْبُوسَاتٍ وَمَمْنُوعَاتٍ عَنِ الْأَزْوَاجِ بِسَبَبِهِ فَهُنَّ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ مَا دَامَتْ حَيَاتُهُنَّ، وَقِيلَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ فِي قَبْرِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَعَلَى هَذَا لَا إِشْكَالَ فِي نَفَقَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِعِظَمِ حُقُوقِهِنَّ وَقِدَمِ هِجْرَتِهِنَّ وَكَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ اخْتُصِصْنَ بِمَسَاكِنِهِنَّ وَلَمْ يَرِثْهَا وَرَثَتُهُنَّ. قَالَ الشَّارِحُ: وَأَمَّا نَفَقَةُ عَامِلِهِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَامِلِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْعَامِلُ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَالِ الْفَيْءِ فَاسْتَحَقَّ الْعِمَالَةَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُهَا فَاسْتَثْنَاهَا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ اه.
وَلَفْظُ الْحَدِيثِ: (وَمُؤْنَةِ عَامِلِي) فَفِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ الْمُؤْنَةُ فَعُولَةٌ مِنْ مَأَنْتُ الْقَوْمَ، أَيِ: احْتَمَلْتُ مُؤْنَتَهُمْ، وَفِي الصِّحَاحِ: الْمُؤْنَةُ يُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُفْعَلَةٌ مِنَ الْأَبْنِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ وَقِيلَ: هِيَ مُفْعَلَةٌ مِنَ الْأَوْنِ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْعَدْلُ لِأَنَّهَا ثِقَلٌ عَلَى الْإِنْسَانِ اه.
وَفِي الْحَدِيثِ: الْمَعُونَةُ تَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْمُؤْنَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: (مُؤْنَةِ عَامِلِي) فَقِيلَ: الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقِيلَ: يُرِيدُ بِذَلِكَ الْعَامِلَ عَلَى النَّخْلِ وَالْقَيِّمَ عَلَى الْأَرْضِ، وَبِهِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِعَامِلِهِ حَافِرُ قَبْرِهِ عليه الصلاة والسلام. وَقَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي الْخَصَائِصِ: الْمُرَادُ بِعَامِلِهِ خَادِمُهُ الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا كَالْأَجِيرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أُجْرَةِ الْقَسَّامِ، وَقِيلَ: كُلُّ عَامِلٍ لِلْمُسْلِمِينَ إِذْ هُوَ عَامِلٌ لَهُ وَنَائِبٌ عَنْهُ فِي أُمَّتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ بِزِيَادَةِ (وَلَا دِرْهَمًا) فَقِيلَ: فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِهِمَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَهُمَا بِذَلِكَ أَوْلَى، وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي الْأَنْبِيَاءِ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ الْآتِي:( «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ) يَعْنِي لَا نُورَثُ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّا مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ، وَمِنْ شَرْطِ الْفَقِيرِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَمَا فِي يَدِهِ إِمَّا أَمَانَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَحَاصِلُ الْحَدِيثِ: مَا مِيرَاثُنَا إِلَّا وَاقِعٌ وَمُنْحَصِرٌ فِي صَرْفِ أَحْوَالِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُورَثُ إِنَّمَا مِيرَاثُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسَاكِينِ. وَقِيلَ لِئَلَّا يَفْرَحَ أَحَدٌ بِمَوْتِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ مِنْ حَيْثِيَّةِ أَخْذِ تَرِكَتِهِ، وَخَالَفَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَامَّةِ، وَقَالَ: هَذَا.