الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُمْ فَسَّرُوهُ بِالتَّمَكُّنِ لِلْأَكْلِ فِي الْجُلُوسِ، كَالْمُتَرَبِّعِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى وِطَاءٍ تَحْتَهُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ تَسْتَدْعِي كَثْرَةَ الْأَكْلِ. (يَقُولُ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِمَا قَبْلَهُ (" آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ ")، أَيْ: مِمَّا يَتَيَسَّرُ لَهُ مِنْ أَدَقِّ الْمَأْكُولِ (" وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ ") ، إِمَّا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ كَهَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْهَيْئَاتِ، أَوْ بِرَفْعِ إِحْدَى الرُّكْبَتَيْنِ حَالَةَ الْأَكْلِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ بِرَفْعِ الرُّكْبَتَيْنِ عَلَى صِفَةِ الِاحْتِبَاءِ، وَهُوَ أَكْثَرُ أَنْوَاعِ جُلُوسِهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.
وَفِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَرْفُوعًا: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا " وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَشْرَبُ كَمَا يَشْرَبُ الْعَبْدُ ". رَوَاهُ أَبُو عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ أَنَسٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا. وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إِذَا شَرِبَ تَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ نَفَسٍ وَيَشْكُرُ فِي آخِرِهِنَّ» . وَفِي الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُرْسَلًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا شَرِبَ الْمَاءَ قَالَ:( «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَقَانَا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْحًا أُجَاجًا بِذُنُوبِي» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَعْتَقِلُ الشَّاةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ» .
[بَابُ الْمَبْعَثِ وَبَدْءِ الْوَحْيِ]
هَذَا مِنْ بَابِ مَا قَالَهُ أَرْبَابُ الْهِدَايَةِ: مِنْ أَنَّ النِّهَايَةَ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبِدَايَةِ، فَنَقُولُ: الْبَابُ أَصْلُهُ الْبَوَبُ قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَيُجْمَعُ عَلَى أَبْوَابٍ، وَقَدْ قَالُوا: أَبْوِبَةٌ ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ، وَالْمُرَادُ هُنَا نَوْعٌ مِنَ الْكَلَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ جِنْسُ الْكِتَابِ الْمَجْمُوعِ لِأَفْرَادِ الْأَنْوَاعِ، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي تَعْلِيقِي لِأَوَّلِ بَابِ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ فِي بَيَانِ الْإِعْرَابِ بِدُونِ الْإِغْرَابِ، ثُمَّ الْمَبْعَثُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْبَعْثِ مِنْ بَعَثَ إِذَا أَرْسَلَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مَعْرِفَةُ زَمَانِ الْبَعْثِ وَمَكَانِهِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَوَّلَ الْحَدِيثِ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْبَدْءُ بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَدَالٍ سَاكِنَةٍ فَهَمْزٍ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، قِيلَ: وَيُرْوَى بُدُوٌّ كَظُهُورٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، وَهَلِ الْأَحْسَنُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَعْنَيَيْنِ، أَوِ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَعَمُّ؟ رَأْيَانِ. قُلْتُ: إِنَّمَا مَحَلُّهُ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا يُسَاعِدُ الرَّسْمَ الثَّانِي، فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِالْيَاءِ هُنَا بِخِلَافِ مَا فِي الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ يُكْتَبُ فِيهِ بِالْوَاوِ فَتَأَمَّلْ وَلَا تَمِلْ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا قُلْنَا أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي، قَالَ عِيَاضٌ: رُوِيَ الْبَدْءُ بِالْهَمْزِ وَسُكُونِ الدَّالِ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَبِغَيْرِ هَمْزٍ مَعَ ضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنَ الظُّهُورِ. قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهُ مَضْبُوطًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ بِنَا إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِهَا: كَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ؛ فَهَذَا يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ وَهُوَ الَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْمُصَنِّفُ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - هَذِهِ الْعِبَارَةَ كَثِيرًا، كَبَدْءِ الْحَيْضِ، وَبَدْءِ الْأَذَانِ، وَبَدْءِ الْخَلْقِ، وَالْوَحْيُ لُغَةً الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ التَّفْهِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] وَشَرْعًا هُوَ الْإِعْلَامُ.
بِالشَّرْعِ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ أَيِ: الْمُوحَى، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْمَفْعُولُ عَلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْبَعْثُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِرْسَالِ، وَالْبَدْءُ الِابْتِدَاءُ، وَالْوَحْيُ هُنَا الرِّسَالَةُ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَهُ كَغَيْرِهِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ فِي الْمَبْعَثِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أَيْضًا، مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَيْفِيَّةِ أَصْلِ الْفِعْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الفصل الأول
5837 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ «بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشَرَةَ سِنِينَ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5837 -
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: جُعِلَ مَبْعُوثًا إِلَى الْخَلْقِ بِالرِّسَالَةِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِينَ سَنَةً)، أَيْ: وَقْتَ إِتْمَامِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِيهِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24](فَمَكَثَ) . بِضَمِّ الْكَافِ وَيُفْتَحُ أَيْ: فَلَبِثَ (بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً) : بِسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ (يُوحَى إِلَيْهِ)، جُمْلَةٌ حَالِيَّةُ الْمَرْفَاةِ أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَيْ: يُوحَى إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ السِّنِينَ (ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ) أَيْ: إِلَى الْمَدِينَةِ (فَهَاجَرَ) أَيْ: إِلَيْهَا (وَأَقَامَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ) ، بِالسُّكُونِ لَا غَيْرَ (وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً) . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِإِدْخَالِ سَنَتَيِ الْوِلَادَةِ وَالْوَفَاةِ، وَقِيلَ: ابْنُ سِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ أَنَسٍ بِإِلْغَاءِ الْكَسْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5838 -
وَعَنْهُ، قَالَ «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَيَرَى الضَّوْءَ سَبْعَ سِنِينَ وَلَا يَرَى شَيْئًا وَثَمَانِ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5838 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً» ) أَيْ: بِإِدْخَالِ سِنِيِّ الْوِلَادَةِ وَالْهِجْرَةِ (يَسْمَعُ الصَّوْتَ) أَيْ: صَوْتَ جِبْرِيلَ (وَيَرَى الضَّوْءَ) أَيِ: النُّورَ فِي اللَّيَالِي الْمُظْلِمَةِ ضِيَاءً عَظِيمًا (سَبْعَ سِنِينَ)، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرَى مِنْ أَمَارَاتِ النُّبُوَّةِ سَبْعَ سِنِينَ ضِيَاءً مُجَرَّدًا، وَمَا رَأَى مَعَهُ مَلَكًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:(وَلَا يَرَى شَيْئًا)، أَيْ: سِوَى الضَّوْءِ قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِي رُؤْيَةِ الضَّوْءِ الْمُجَرَّدِ دُونَ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ حُصُولُ اسْتِئْنَاسِهِ أَوَّلًا بِالصَّوْتِ الْمُجَرَّدِ، وَذَهَابُ رَوْعِهِ إِذْ فِي رُؤْيَةِ الْمَلَكِ مَظِنَّةُ ذُهُولٍ وَذَهَابُ عَقْلٍ لِغَلَبَةِ دَهْشَتِهِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَطِيرٌ اهـ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي قَوْلِهِ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْمَلَكَ لَا يُفَارِقُهُ ضَوْءُ الْمَلَكِيَّةِ وَنُورُ الرُّبُوبِيَّةِ، فَلَوْ رَآهُ ابْتِدَاءً فَلَرُبَّمَا لَمْ تُطِقْهُ الْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ، وَعَسَى أَنْ يَحْدُثَ مِنْ ذَلِكَ غَشْيٌ، فَاسْتُؤْنِسَ أَوَّلًا بِالضَّوْءِ ثُمَّ غَشِيَهُ الْمَلِكُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالضَّوْءِ انْشِرَاحُ صَدْرِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ، فَسُمِّيَ الِانْشِرَاحُ ضَوْءًا، وَلَا يُكْمَلُ انْشِرَاحُ صَدْرِهِ إِلَّا بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى أَرْبَعِينَ لِيَسْتَعِدَّ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. (وَثَمَانِ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ)، أَيْ: فِي مَكَّةَ (وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ) . سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ، قَوْلُهُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ يَقَعْ فِي مَوْقِعِهِ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخْرِجْهُ. بَلْ هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَقَطْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَمَنْشَأُ تَوَهُّمِ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ صَنِيعُ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اغْتَرَّ بِظَاهِرِ كَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى الْمَأْخَذِ، فَلِذَا وَقَعَ فِيمَا وَقَعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5839 -
وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ «تَوَفَّاهُ اللَّهُ رَأْسَ سِتِّينَ سَنَةً.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5839 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً) . قَالَ الطِّيبِيُّ: مَجَازُ قَوْلِهِ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً أَيْ: آخِرُهُ كَمَجَازِ قَوْلِهَا رَأْسُ آيَةٍ أَيْ: آخِرُهَا، سَمَّوْا آخِرَ الشَّيْءِ رَأْسًا لِأَنَّهُ مَبْدَأُ مِثْلِهِ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى أَوْ عِقْدٍ آخَرَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.
5840 -
وَعَنْهُ قَالَ «قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَعُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ: (ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) ، أَكْثَرُ.
ــ
5840 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: تُوُفِّيَ (وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ صَاحِبُ ثَلَاثِ سِنِينَ (وَسِتِّينَ) أَيْ: سَنَةً كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَأَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) أَيْ: بِلَا خِلَافٍ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (وَعُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) . وَقِيلَ: ابْنُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: إِحْدَى وَخَمْسِينَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: طَعَنَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَدُفِنَ يَوْمَ الْأَحَدِ عَاشِرَ مُحَرَّمٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي عُمُرِهِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْفًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ فَدُفِنَ لَيْلَةَ السَّبْتِ بِالْبَقِيعِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعُمُرِ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ اثْنَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَاسْتُخْلِفَ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَضَرَبَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيَّ بِالْكُوفَةِ، صَبِيحَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنْ ضَرْبَتِهِ وَدُفِنَ سَحَرًا، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ، وَقِيلَ سَبْعُونَ، وَقِيلَ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَلَعَلَّ أَنَسًا لَمْ يَذْكُرْ عَلِيًّا مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي عُمُرِهِ أَنَّهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَا تَحَرَّرَ عِنْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَخْطُبُ قَالَ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَذَلِكَ، وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ أَيْ: وَأَنَا مُتَوَقِّعٌ أَنْ أَمُوتَ فِي هَذَا السِّنِّ مُوَافَقَةً لَهُمْ، فَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: كَانَ مُعَاوِيَةُ فِي زَمَانِ نَقْلِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا السِّنِّ، وَلَمْ يَمُتْ فِيهِ، بَلْ مَاتَ وَبِهِ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً. قَالَ مِيرَكُ: تَمَنَّى لَكِنْ لَمْ يَنَلْ مَطْلُوبَهُ، بَلْ مَاتَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَانِينَ. قُلْتُ: لَكِنْ حَصَلَ مَرْغُوبُهُ مِنْ ثَوَابِ التَّرَافُقِ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ مَعَ زِيَادَةِ عُمُرِهِ وَأَمَلِهِ، فَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ.
(قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ: ثَلَاثٍ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَةِ وَالتَّقْدِيرُ رِوَايَةُ ثَلَاثٍ (وَسِتِّينَ أَكْثَرُ) أَيْ: رِوَايَةً مِنْ غَيْرِهَا، وَرَجَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا هَذِهِ الرِّوَايَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: ذَكَرَ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، وَالثَّانِيَةُ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَالثَّالِثَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَهِيَ أَصَحُّهَا، وَأَشْهَرُهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ هُنَا مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهم، فَرِوَايَةُ سِتِّينَ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الضَّوْءِ وَرِوَايَةُ الْخَمْسِ مُنَافِيَةٌ لَهُ، وَأَنْكَرَ عُرْوَةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ النُّبُوَّةِ، وَلَا كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ بِخِلَافِ الْبَاقِينَ. وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَادَّعَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ ثَانِي الشَّهْرِ أَمْ ثَامِنُهُ أَمْ عَاشِرُهُ؟ وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ضُحًى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هُنَا قَوْلًا آخَرَ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ عُمُرَهُ صلى الله عليه وسلم اثْنَانِ وَنِصْفٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّ عُمُرَ كُلِّ نَبِيٍّ نِصْفُ عُمُرِ نَبِيٍّ كَانَ قَبْلَهُ، عُمُرُ عِيسَى عليه السلام خَمْسٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَةٌ. وَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِلْغَاءُ النِّصْفِ مِنَ الْكَسْرِ غَيْرُ بَعِيدٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
5841 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى خَدِيجَةَ. فَيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) . قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ فِي الْجَهْدِ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ:(زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا:(لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّعِيفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ. فَقَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟) قَالَ: نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوَفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5841 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ عَائِشَةَ لَمْ تُدْرِكْ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ، فَتَكُونُ سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ، وَمُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِنِيُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا سَمِعَتْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهَا: قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، فَيَكُونُ قَوْلُهَا: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِكَايَةَ مَا تَلَفَّظَ بِهِ صلى الله عليه وسلم كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُؤَدِّي لَفْظَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، أَوْ مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ حِينَئِذٍ مِنَ الْمَرَاسِيلِ. قُلْتُ: هَذَا غَرِيبٌ مِنَ الطِّيبِيِّ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تُسْنِدْ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا سَمِعَتْ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنَ الْمَرَاسِيلِ، إِمَّا عَنْهُ أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهَا: قَالَ، فَإِنَّهُ نَقَلَ كَلَامَهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ نَقَلَ كَلَامَ الصَّحَابِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ نَاقِلًا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.
ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ فِي قَوْلِهَا: (مِنَ الْوَحْيِ) : تِبْعِيضِيَّةٌ لَا بَيَانِيَّةٌ كَمَا قِيلَ أَيْ: أَوَّلُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْيِ (الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ) : وَقَوْلُهُ (فِي النَّوْمِ) ، إِمَّا تَأْكِيدٌ وَإِمَّا فِي الرُّؤْيَا تَجْرِيدٌ، إِذِ الرُّؤْيَا مَا رَأَيْتَ فِي مَنَامِكَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي قَلْبِ النَّائِمِ أَوْ فِي حُرَّاسِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا يَخْلُقُهَا فِي الْيَقَظَةِ، وَهُوَ سبحانه وتعالى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يَمْنَعُهُ نَوْمٌ وَلَا غَيْرُهُ عَنْهُ، فَرُبَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ، كَمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ مَا رَآهُ عِلْمًا عَلَى أُمُورٍ أُخْرَى يَخْلُقُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ، أَوْ كَانَ قَدْ خَلَقَهَا، فَيَقَعُ ذَلِكَ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْغَيْمَ عَلَامَةً لِلْمَطَرِ كَذَا حَقَّقَهُ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ، (فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا) : وَفِي نُسْخَةٍ الرُّؤْيَا (إِلَّا جَاءَتْ) أَيْ: تِلْكَ الرُّؤْيَا بِمَعْنَى أَثَرِهَا الدَّالِّ عَلَى تَحَقُّقِهَا (مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ)، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ أَيْ: ضَوْئِهِ إِذَا انْفَلَقَ كَمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَالْمَعْنَى مُشَبَّهَةً بِضِيَائِهِ أَوْ مَجِيئًا مِثْلَهُ. قَالَ شَارِحٌ: الْفَلَقُ بِالتَّحْرِيكِ الصُّبْحُ بِعَيْنِهِ، وَحَسُنَ إِضَافَتُهُ إِلَى الصُّبْحِ، وَإِنْ كَانَتْ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، لِكَوْنِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ الْفَلَقُ عَلَى الصُّبْحِ، وَعَلَى الْمُطْمَئِنِّ مِنَ الْأَرْضِ، فَشَبَّهَتْ مَا جَاءَهُ فِي الْيَقَظَةِ مُوَافِقًا لِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ بِالْفَلَقِ لِإِنَارَتِهِ، وَإِضَاءَتِهِ وَصِحَّتِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: شُبِّهَ مَا جَاءَهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَوَجَدَهُ فِي الْخَارِجِ طِبْقًا لِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ بِالصُّبْحِ فِي إِنَارَتِهِ وَوُضُوحِهِ، وَالْفَلَقُ الصُّبْحُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِي غَيْرِهِ كَالْفَلَقِ فِي قَوْلِهِ:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَغَيْرُ ذَلِكَ أُضِيفَ إِلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ وَالْبَيَانِ إِضَافَةِ الْعَامِ إِلَى الْخَاصِّ، كَقَوْلِهِمْ: عَيْنُ الشَّيْءُ وَنَفْسُ الشَّيْءِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِلْفَلَقِ شَأْنٌ عَظِيمٌ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96] وَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِرَبِّ الْفَلَقِ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنِ انْشِقَاقِ ظُلْمَةِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَطُلُوعِ تَأْثِيرِ الصُّبْحِ بِظُهُورِ سُلْطَانِ الشَّمْسِ وَإِشْرَاقِهَا الْآفَاقَ، لِأَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مُبَشِّرَاتٌ تُنْبِئُ عَنْ وُفُورِ أَنْوَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَآثَارِ مَطَالِعِ الْهَامَاتِ شَبَّهَ بِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَتَنْبِيهٌ مِنْ تَنْبِيهَاتِهَا لِمُشْتَرِكِي الْعُقُولِ عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا سُمِّيَ نَبِيًّا لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا تَسْتَقِلُّ الْعُقُولُ بِإِدْرَاكِهِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: إِنَّمَا ابْتَدَأَ صلى الله عليه وسلم بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الْمَلَكُ، وَيَأْتِيَهُ صَرِيحُ النُّبُوَّةِ بَغْتَةً فَلَا يَحْتَمِلُهَا قُوَى الْبَشَرِيَّةِ فَبُدِئَ بِتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ وَصِدْقِ الرُّؤْيَا اسْتِئْنَاسًا. قُلْتُ: وَهُوَ مُقْتَضَى الْأُمُورِ التَّدْرِيجِيَّةِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَأَنَّ الرُّؤْيَا شُبِّهَتْ بِالْفَلَقِ الَّذِي هُوَ الصُّبْحُ، وَهُوَ مُقَدِّمَةُ طُلُوعِ الشَّمْسِ الْمُشَبَّهُ بِهِ إِتْيَانُ جِبْرِيلَ بِالْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ الَّذِي هُوَ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ، ثُمَّ بَوْنٌ بَيْنَ النُّورِ الْحِسِّيِّ الْآفَاقِيِّ وَالنُّورِ الْعِلْمِيِّ الْخَلَّاقِيِّ.
(ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ) : بِالْمَدِّ أَيِ: الْخَلْوَةُ الْمُنَاسِبَةُ لِمَرْتَبَةِ التَّخْلِيَةِ عَنِ الْغَيْرِ الْمُقَدَّمَةُ عَلَى التَّحْلِيَةِ الْمُتَرَبِّعَةُ عَلَيْهَا بِثُبُوتِ نُورِ وُجُودِهِ وَظُهُورِ كَرَمِهِ وَجُودِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْخَلْوَةُ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلْوَةُ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ، وَهِيَ مُعِينَةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ، وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَخْشَعُ قَلْبُهُ وَيَجْمَعُ هَمَّهُ، فَالْمُخْلِصُ فِي الْخَلْوَةِ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ مَا يُؤْنِسُهُ فِي خَلْوَتِهِ مِنْ تَعْوِيضِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَمَّا تَرَكَهُ لِأَجْلِهِ " وَاسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِنُورِ الْغَيْبِ حِينَ تَذْهَبُ ظَلَمَةُ الشَّمْسِ، وَاخْتِيَارُ الْخَلْوَةِ لِسَلَامَةِ الدِّينِ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِ النَّفْسِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ اهـ. وَاخْتُلِفَ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْخُلْوَةِ وَالْجُلْوَةِ وَالْخُلْطَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ فِي مَحَلِّهَا هِيَ الْأَفْضَلُ وَالْأَكْمَلُ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ، وَاقْتِضَاءُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. (وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ) ، بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مُذَكَّرٌ مَصْرُوفٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مُؤَنَّثٌ غَيْرُ مَصْرُوفٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَقَالَ الْقَاضِي الزَّاهِدُ صَاحِبُ الثَّعْلَبِيِّ وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْعَوَامُّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءٍ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ، وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ، وَيَقْصِرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ وَهُوَ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى، وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ وَالْقَصْرُ خَطَأٌ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَيُصْرَفُ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا يُصْرَفُ عَلَى الثَّانِي. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّذْكِيرِ اعْتِبَارُ الْمَوْضِعِ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: حِرَاءٌ هُوَ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ رِوَايَةً، وَحُكِيَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ جَوَازًا لَا رِوَايَةً، وَعِنْدَ الْأَصِيلِيِّ بِالْفَتْحِ
وَالْقَصْرِ (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ) أَيْ: فَيَتَعَبَّدُ فِي ذَلِكَ الْغَارِ فِرَارًا مِنَ الْأَغْيَارِ. وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: فَيَتَحَنَّفُ بِالْفَاءِ أَيْ: يَتَّبِعُ الْحَنِيفِيَّةَ، وَهِيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ، وَالْفَاءُ تُبْدَلُ تَاءً فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. (وَهُوَ) أَيِ: التَّحَنُّثُ (التَّعَبُّدُ) : وَكَانَ الْمُتَعَبِّدُ يَتَحَرَّزُ عَنِ الْحِنْثِ بِمَعْنَى الْإِثْمِ، وَيَجْتَنِبُ عَنْهُ بِعِبَادَتِهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ إِمَّا مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَوْ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَالتَّحَنُّثُ فِي اللُّغَةِ: إِلْقَاءُ الْحِنْثِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَرِدْ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ فِي مَعْنَى إِلْقَاءِ الشَّيْءِ عَنِ النَّفْسِ إِلَّا التَّحَنُّثُ وَالتَّأَثُّمُ وَالتَّجَوُّبُ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ، قَوْلُهُ: وَهُوَ التَّعَبُّدُ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ قَطْعًا. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ، أَوْ مَنْ دُونَهُ. قَالَ: وَجَزَمَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ تَفْسِيرِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ اهـ.
وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَسَّرَتِ التَّحَنُّثَ بِقَوْلِهَا: وَهُوَ التَّعَبُّدُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ مِنْ دَأْبِهِ قَالَ النَّوَوِيُّ، وَقَوْلُهُ:(اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ) . مُتَعَلِّقٌ بِيَتَحَنَّثُ لَا بِالتَّعَبُّدِ، وَمَعْنَاهُ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي، بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتُرِضَ بَيْنَ كَلَامِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَإِنَّمَا كَلَامُهَا فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ اللَّيَالِي وَأُرِيدَ بِهَا اللَّيَالِي مَعَ أَيَّامِهِنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّهَا أَنْسَبُ لِلْخَلْوَةِ، وَقُيِّدَ بِذَوَاتِ الْعَدَدِ لِإِرَادَةِ التَّقْلِيلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] اهـ.
فَالْمُرَادُ بِذَاتِ الْعَدَدِ الْقِلَّةُ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ الْكَثْرَةَ إِذِ الْكَثِيرُ يَحْتَاجُ لِلْعَدَدِ لَا الْقَلِيلُ، وَقِيلَ: إِبْهَامُ الْعَدَدِ لِاخْتِلَافِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا مَجِيئُهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الْخَلْوَةِ قَدْ عُرِفَتْ مُدَّتُهَا وَهِيَ شَهْرٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَذَلِكَ الشَّهْرُ كَانَ رَمَضَانَ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّةُ أَرْبَعِينَ قِيَاسًا عَلَى مِيقَاتِ مُوسَى عليه السلام، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَسْرَارِ الَّتِي تَظْهَرُ آثَارُهَا وَأَنْوَارُهَا عَلَى الصُّوفِيَّةِ الْأَبْرَارِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ مُطَابَقَةِ الْأَرْبِعِينَاتِ فِي الْأَطْوَارِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:( «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» ) . هَذَا وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلَمْ يَأْتِ التَّصْرِيحُ بِصِفَةِ تَعَبُّدِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَيُطْعِمُ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ يَتَعَبَّدُ بِالتَّفْكِيرِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ مُسْلِمٍ، وَفِي التَّحْرِيرِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْهُمَامِ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَبْعَثِهِ مُتَعَبِّدٌ، فَقِيلَ بِشَرْعِ نُوحٍ، وَقِيلَ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ مُوسَى، وَقِيلَ عِيسَى، وَنَفَاهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْآمِدِيُّ، وَتَوَقَّفَ الْغَزَالِيُّ أَيْ: فِي تَعَبُّدِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ. وَفِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: لَا يَظْهَرُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَمَرَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَا فِي الْفُرُوعِ، بَلْ يَجْرِي مَجْرَى التَّوَارِيخِ الْمَنْقُولَةِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ فِي الشَّرِيعَةِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعَبُّدِ هُنَا التَّجَرُّدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْخَلْقِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالتَّبَتُّلُ إِلَى الْحَقِّ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْخُلُوُّ عَنِ الْمَطَالِبِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْمَآرِبِ الشَّهْوِيَّةِ، وَخُلَاصَتُهُ الْغَيْبَةُ عَمَّا سِوَاهُ، وَالْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ الْمُتَرْجَمِ عَنْهُ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَارِدُ فِيهِ: أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ بِالْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ، وَالِانْفِصَالِ، وَالْبَيْنُونَةِ وَالْكَيْنُونَةِ، وَهُوَ نِهَايَةُ مَرَاتِبِ الْعِبَادِ وَغَالِبُ مَطَالِبِ الْعِبَادِ. (قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ)، يُقَالُ: نَزَعَ إِلَى أَهْلِهِ يَنْزِعُ أَيِ اشْتَاقَ وَمَالَ، وَلِذَا قِيلَ: يَنْزِعُ يَرْجِعُ زِنَةً وَمَعْنًى. قَالَ شَارِحٌ: وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَمِيلُ عَنْ أَهْلِهِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى خَلْوَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(وَيَتَزَوَّدُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: فَيَجِيءُ أَهْلَهُ وَيَأْخُذُ زَادَهُ (لِذَلِكَ)، أَيْ: لِتَعَبُّدِهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، أَوْ لِمَا ذُكِرَ مِنَ اللَّيَالِي مُشْتَغِلًا بِرَبِّ الْعِبَادِ وَمُتَهَيِّئًا لِأَمْرِ الْمَعَادِ إِلَى فَرَاغِ الزَّادِ. (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا)، أَيْ: لِمِثْلِ تِلْكَ اللَّيَالِي، أَوْ لِنَحْوِ تِلْكَ الْعَوْدَةِ الَّتِي فِيهَا الْجَوْدَةُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الزَّادِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالِاعْتِمَادَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَمَرَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنَ الذَّهَابِ لِلْآمَالِ وَالرُّجُوعِ.
لِنَيْلِ الْمَنَالِ وَحُسْنِ الْمَآلِ. (حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ) أَيْ: أَمْرُ الْحَقِّ وَهُوَ الْوَحْيُ، أَوْ رَسُولُ الْحَقِّ وَهُوَ جِبْرِيلُ عليه السلام، ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، أَوْ مَعْنَى تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَظَهَرَ لَهُ الْجَمَالُ الْمُطْلَقُ بِلَا مُرَاعَاةٍ وَلَا مِرَاءٍ. (وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ) : اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، وَقِيلَ إِسْرَافِيلُ (قَالَ: اقْرَأْ) . أَيْ: مُطْلَقًا وَهُوَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْبَاهِرِ أَوْ كَمَا أَقْرَأُ وَهُوَ الظَّاهِرُ (قَالَ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) أَيْ: لَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ، وَلَمْ أَتَعَلَّمِ الْقِرَاءَةَ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِيمَنْ يَقْرَأُ. (قَالَ:(فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: عَصَرَنِي قَبْلَ الْغَطِّ. فِي الْأَصْلِ الْمَقْلُ فِي الْمَاءِ، وَالتَّغْوِيصُ فِيهِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَطُّ مِمَّا يَأْخُذُ بِنَفْسِ الْمَغْطُوطِ اسْتُعْمِلَ مَكَانَ الْخَنْقِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَخَنَقَنِي. أَقُولُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْغَطَّ هُوَ الْعَصْرُ إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْبَطْنِ أَوِ الظَّهْرِ، لَكِنَّ شِدَّتَهُ رُبَّمَا تُضَيِّقُ النَّفَسَ، فَيُشَابِهُ حَالَةَ الْخَنْقِ، فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْخَنْقِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى وَأَخْلَقُ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يَقُولُهُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُبَالَغَةً فِي التَّنْبِيهِ، فَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيهِ الْمُتَعَلِّمِ، وَيَأْمُرَهُ لِإِحْضَارِ قَلْبِهِ، وَقِيلَ إِنَّمَا غَطَّ لِيَخْتَبِرَهُ، هَلْ يَقُولُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ شَيْئًا، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَصَرَنِي عَصْرًا شَدِيدًا. (حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ)، بِضَمِّ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجُهْدُ يَجُوزُ فِيهِ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا، وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ، وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ وَرَفْعُهَا، فَعَلَى النَّصْبِ بَلَغَ جِبْرِيلُ فِيَّ الْجَهْدَ، وَعَلَى الرَّفْعِ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ - أَعْنِي نَصْبَ الدَّالِ وَفَتْحَهَا - صَاحِبُ التَّحْرِيرِ اهـ.
وَقَالَ شَارِحٌ: هُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَرَفْعِ الدَّالِ وَهُوَ بِالضَّمِّ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ الْمُبَالَغَةُ وَالْغَايَةُ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ فِي الْوُسْعِ، وَأَمَّا الْمَشَقَّةُ وَالْغَايَةُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا أَرَى الَّذِي يَرْوِيهِ بِنَصْبِ الدَّالِ إِلَّا قَدْ وَهِمَ فِيهِ، أَوْ جَوَّزَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ فَإِنَّهُ إِذَا نَصَبَ الدَّالَ عَادَ الْمَعْنَى إِلَى أَنَّهُ غَطَّهُ حَتَّى اسْتَفْرَغَ قُوَّتَهُ فِي ضَغْطِهِ وَجَهِدَ جَهْدَهُ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَزِيدٌ، وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْبِنْيَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَسْتَدْعِي اسْتِيفَاءَ الْقُوَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، لَا سِيَّمَا فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْقَضِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ اشْمَأَزَّ مِنْ ذَلِكَ وَتَدَاخَلَهُ الرُّعْبُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا شَكَّ أَنَّ جِبْرِيلَ فِي حَالَةِ الْغَطِّ لَمْ يَكُنْ عَلَى صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي تَحَلَّى بِهَا عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَعِنْدَمَا رَآهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْكُرْسِيِّ، فَيَكُونُ اسْتِفْرَاغُ جُهْدِهِ بِحَسَبِ الصُّورَةِ الَّتِي تَجَلَّى لَهُ وَغَطَّهُ، وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ اضْمَحَلَّ الِاسْتِبْعَادُ. أَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ تَشَكُّلِ الْمَلَكِ بِصُورَةِ الْآدَمِيِّ وَتَبَدُّلِهِ عَنْ أَصْلِ هَيْئَةِ الْمَلَكِ - سَلْبُ الْقُوَّةِ عَنْهُ، وَنَفْيُ الْغَلَبَةِ مِنْهُ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَعْنَوِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْهَيْكَلِ الصُّورِيِّ، فَكَلَامُ الشَّيْخِ فِي مَحَلِّهِ وَصِحَّةُ الرِّوَايَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى نَقْلِهَا لَا بِمُجَرَّدِ جَوَازِهَا وَذِكْرِهَا وَحَمْلِهَا.
(ثُمَّ) أَيْ: بَعْدَمَا بَلَغَ بِقُرْبِهِ مِنِّي الْجَهْدَ (أَرْسَلَنِي) أَيْ: تَرْكَنِي فِي مَقَامِ الْبُعْدِ، وَكَأَنَّهُ نُقِلَ مِنْ مَقَامِ الْجَمْعِ إِلَى حَالِ التَّفْرِقَةِ، وَمِنْ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ تَرَقِّيًا إِلَى دَرَجَةِ جَمْعِ الْجَمْعِ (فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ) الظَّاهِرُ مِنْ صَنِيعِ الشُّرَّاحِ أَنَّ قَوْلَهُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ (مَا) فِي الْأُولَى نَافِيَةٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ أَوْ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ مِصْرَ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَنَا أَقْرَؤُهُ. (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ) . أَيِ: الَّذِي أَنَا بِقَارِئٍ مَا هُوَ؟ عَلَى أَنَّ مَا: مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ فِي الْمَعْنَى الْمَرَامِ أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ الْإِعْلَامِ. (فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقِيلَ أَوَّلُهُ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ اقْرَأْ أَوَّلُهُ الْحَقِيقِيُّ وَيَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أَوَّلُهُ الْإِضَافِيُّ، وَهُوَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ إِلَّا الْإِلَهِيَّ قَالَ: وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، لِكَوْنِهَا لَمْ تُذْكَرْ هُنَا، وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا، بَلْ نَزَلَتِ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، كَمَا نَزَلَتْ بَاقِي السُّوَرِ فِي وَقْتٍ آخَرَ. فَلَا تَكُونُ الْبَسْمَلَةُ جُزْءًا لِجَمِيعِ أَوَائِلِ السُّوَرِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، فَثَبَتَ مُدَّعِي أَهْلِ الْفَضْلِ، وَلَعَلَّ النَّوَوِيَّ لَمَّا أُشْعِرَ ضَعْفَ الْجَوَابِ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ تَبَرِّيًا مِنْ قَوْلِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: اقْرَأْ أَمْرٌ بِإِيجَادِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِمَقْرُوءٍ دُونَ مَقْرُوءٍ، فَقَوْلُهُ:{بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] حَالٌ أَيِ: اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ أَيْ قُلْ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثُمَّ اقْرَأْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مَأْمُورٌ قِرَاءَتُهَا فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ قِرَاءَةٍ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا قِرَاءَتُهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا. قُلْتُ: لَا يَخْفَى بُعْدَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أُولِي النُّهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: أَمْرٌ بِإِيجَادِ الْقِرَاءَةِ فَفِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْإِيجَادَ وَالْإِمْدَادَ مِنْ أَفْعَالِ رَبِّ الْعِبَادِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الِاعْتِقَادِ، فَالْأَمْرُ إِنَّمَا تَوَجَّهَ بِمُبَاشَرَةِ الْقِرَاءَةِ لَا بِإِيجَادِهَا، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِمَقْرُوءٍ دُونَ مَقْرُوءٍ، فَفِيهِ أَنَّ لَفْظَ اقْرَأْ هُنَا أَيْضًا مَقْرُوءٌ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلِاسْتِعَانَةِ أَوْ لِلْإِلْصَاقِ أَوِ الْمُلَابَسَةِ، كَمَا حُقِّقَ فِي الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ أَيِ: اقْرَأْ مُسْتَعِينًا بِاسْمِ رَبِّكَ، أَوْ مُلْصِقًا بِهِ قِرَاءَتَكَ، أَوْ حَالَ كَوْنِكَ مُتَلَبِّسًا بِهِ وَعَلَى الْمَنْزِلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الِافْتِتَاحِ بِاسْمِ الرَّبِّ أَنْ يُؤْتَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ يَقْرَأُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، بَلْ ظَاهِرُهُ خِلَافُ الْمَأْمُورِ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَقْرُوءَ بَعْدَ قَوْلِهِ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] وَالْحَالُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُدَّعَى الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُثْبِتُوا الْبَسْمَلَةَ قَبْلَ قَوْلِهِ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ثُمَّ قَوْلُهُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مَأْمُورٌ قِرَاءَتُهَا فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ قِرَاءَةٍ مَمْنُوعٌ وَمَدْفُوعٌ، لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ، أَوْ وُجُوبِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَعَلَى جَوَازِ الْبَسْمَلَةِ كَذَلِكَ إِلَّا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٍ عَلَى الصَّوَابِ، وَفِي أَثْنَاءِ سُورَتِهَا خِلَافٌ وَالْمُعْتَمَدُ مَنْعُهَا. {الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] . أَيِ: الْأَشْيَاءَ وَمِنْ جُمْلَتِهَا خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ خُلَاصَةُ الْمَخْلُوقَاتِ وَزُبْدَةُ الْمَوْجُودَاتِ، وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا اخْتَارَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِبْهَامٌ وَتَبْيِينٌ، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى تَنَقُّلِهِ فِي أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ بِالْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، وَإِلَى مَقَامِ الرِّسَالَةِ مِنْ دُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَى دَعْوَةِ الْحَقِّ. (اقْرَأْ) : تَأْكِيدٌ لِلتَّقْرِيرِ وَتَكْرِيرٌ لِلتَّكْثِيرِ {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3] أَيْ: مِنْ كُلِّ كَرِيمٍ، فَإِنَّ كَرَمَ كُلِّ كَرِيمٍ مِنْ أَثَرِ كَرَمِهِ، وَذَرَّةٌ مِنْ شُعَاعِ ظُهُورِ شَمْسِ نِعَمِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وَصْفَهُ الْأَكْرَمَ اقْتَضَى بُلُوغَ وُصُولِ الْأُمِّيِّ إِلَى حُصُولِ مَقَامِ الْأَعْلَمِ، وَصَيَّرَهُ وَاسِطَةَ إِيصَالِ فَيْضِ الْعِلْمِ إِلَى أَفْرَادِ الْعَالَمِ. {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4] أَيْ: بِوَاسِطَتِهِ كَثِيرًا مِنَ الْعُلُومِ الْمُتَعَارَفِ لِأَفْرَادِ بَنِي آدَمَ {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ} [العلق: 5] أَيْ: بِطَرِيقِ بَيَانِ اللِّسَانِ وَتِبْيَانِ الْجِنَانِ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الْحَادِثَةِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِنْسَانِ هُوَ الْكَامِلُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَاللَّامُ لِلْمَعْهُودِ فِي الْأَذْهَانِ، فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا فَصَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.
(فَرَجَعَ بِهَا) أَيْ: رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْآيَاتِ أَيْ: مَعَهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى مَكَّةَ (يَرْجُفُ) : بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ: يَضْطَرِبُ (فُؤَادُهُ) ، وَيَتَحَرَّكُ شَدِيدًا مِنَ الرُّعْبِ الَّذِي دَخَلَ فِي قَلْبِهِ (فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ)، قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: صَارَ بِسَبَبِ تِلْكَ الضَّغْطَةِ يَضْطَرِبُ فُؤَادُهُ، وَرَجَعَ يَجِيءُ بِمَعْنَى قَصَدَ أَيْضًا اهـ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا لَا يَخْفَى (فَقَالَ:(زَمِّلُونِي) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: غَطُّونِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا (زَمِّلُونِي) : كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ زِيَادَةِ التَّأْبِيدِ. (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ)، بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيِ: الْخَوْفُ وَالرُّعْبُ الشَّدِيدُ (فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ) أَيْ: خَبَرَ مَا تَقَدَّمَ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَمَقُولِهِ وَهُوَ: (لَقَدْ خَشِيتُ) أَيْ: خِفْتُ (عَلَى نَفْسِي) أَيْ: مِنَ الْجُنُونِ أَوِ الْهَلَاكِ. وَقَالَ شَارِحٌ: أَدْهَشَتْهُ هَيْبَتُهُ الْبَدِيهَةَ فَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَخَبُّطِ الشَّيْطَانِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ، فَتَزْهَقُ نَفْسُهُ، أَوْ يَكُونُ هَذَا لِأَوَّلِ التَّبَاشِيرِ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقَظَةِ، وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ، وَتَحْقِيقِ رِسَالَةِ رَبِّهِ، فَيَكُونُ قَدْ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سبحانه وتعالى، فَلَا يَجُوزُ الشَّكُّ فِيهِ وَتَسْلِيطُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ: وَهَذَا الِاحْتِمَالُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ هَذَا بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ: بِـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ، قِيلَ: خَشِيَ الْجُنُونَ، وَأَنَّ
يَكُونُ مَا رَآهُ مِنْ جِنْسِ الْكِهَانَةِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: وَذَلِكَ قَبْلَ حُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَهُ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُ مَلَكٌ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ الْمَوْتُ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ، وَقِيلَ الْمَرَضُ، وَقِيلَ الْعَجْزُ عَنْ حَمْلِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ عَدَمُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَقِيلَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَقِيلَ أَنْ يُكَذِّبُوهُ، وَقِيلَ أَنْ يُعَيِّرُوهُ. (فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا) ، هِيَ كَلِمَةُ رَدْعٍ أَيْ: لَا تَظُنَّ ذَلِكَ، أَوْ لَا تَخَفْ أَوْ مَعْنَاهُ حَقًّا، فَقَوْلُهَا (وَاللَّهِ) : لِلتَّأْكِيدِ وَتَأْيِيدٌ لِلتَّأْبِيدِ، لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا) ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَعَقِيلٍ، وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ، وَيَجُوزُ فَتْحُ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ وَضَمُّهَا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ أَقُولُ: لَا يَخْفَى أَنَّ فَتْحَ الْيَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ فَتْحِ الزَّايِ بِخِلَافِ ضَمِّ الْيَاءِ، فَإِنَّهُ مَعَ كَسْرِ الزَّايِ كَمَا قُرِئَ بِهَا مُتَوَاتِرًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65] وَنَحْوَهُ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى: فَمِنَ الْإِخْزَاءِ بِمَعْنَى الْإِفْضَاحِ وَالْإِهَانَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8](إِنَّكَ) : بِالْكَسْرِ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ شَائِبَةُ تَعْلِيلٍ (لَتَصِلُ الرَّحِمَ)، أَيْ: وَلَوْ قَطَعُوكَ (وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ)، بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ: تَتَكَلَّمُ بِصِدْقِ الْكَلَامِ وَلَوْ كَذَّبُوكَ أَوْ كَذَّبُوكَ (وَتَحْمِلُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (الْكَلَّ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَهُوَ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ وَقَدْ يُعَبِّرُ عَنِ الثَّقِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76] وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَتَحَمَّلُ مُؤْنَةَ الْكَلِّ، وَتَقْبَلُ مِحْنَةَ الْكَلِّ، وَإِنْ تَرَكُوكَ وَلَمْ يُسَاعِدُوكَ، وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْأَرَامِلِ وَالْعِيَالِ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ. (وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ) ، بِفَتْحِ التَّاءِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَرُوِيَ بِضَمِّهَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْمَعْنَى تُحَصِّلُ الْمَالَ لِلْخَيْرِ، أَوْ تُعْطِي الْمُحْتَاجَ، فَكَأَنَّ الْفَقِيرَ مَعْدُومٌ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي نَظَرِ الْغَنِيِّ، أَوْ لِأَنَّ الْفَقْرَ يَقْتَضِي الْفَنَاءَ وَالْإِسْكَانَ، كَمَا أَنَّ الْغِنَى يُوجِبُ الظُّهُورَ وَالتَّحَرُّكَ وَالطُّغْيَانَ. (وَتَقْرِي) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: تُطْعِمُ (الضَّعِيفَ)، أَيِ: النَّازِلَ بِكَ (وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ)، أَيِ: الْحَوَادِثِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِتَقْدِيرِ الْحَقِّ أَيْ: يُنَابُ فِيهَا، وَقِيلَ: النَّوَائِبُ جَمْعُ النَّائِبَةِ وَهِيَ الْحَادِثَةُ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إِلَى الْحَقِّ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ. قَالَ لَبِيَدٌ:
نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا
…
فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ
هَذَا مُجْمَلُ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ الْأَعْلَامِ، فَقَدْ قَالَ ثَعْلَبٌ وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا: يُقَالُ: كَسَبْتَ الرَّجُلَ مَالًا وَأَكْسَبْتَهُ مَالًا لُغَتَانِ، أَفْحَمُهُمَا كَسَبْتَهُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، فَمَعْنَى الضَّمِّ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ، أَيْ: تُعْطِيهِ إِيَّاهُ تَبَرُّعًا، فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ، وَأُقِيمَ الْمَوْصُوفُ بِهِ مَقَامَهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى تُعْطِي النَّاسَ مَالًا يَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ نَفَائِسِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، أَوْ تُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجَزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِكَسْبِ الْمَالِ، لَا سِيَّمَا قُرَيْشٍ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم مَغْبُوطًا فِي تِجَارَتِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ يُضَمَّ مَعَهُ زِيَادَةٌ، فَمَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَعْجَزُ غَيْرِي عَنْهُ، ثُمَّ تَجُودُ بِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَبْوَابِ الْمَكَارِمِ، كَمَا ذَكَرْتُ مِنْ حَمْلِ الْكَلِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَغَيْرِهِمَا، وَصَاحِبُ التَّحْرِيرِ جَعَلَ الْمَعْلُومَ عِبَارَةً عَنِ الرَّجُلِ الْمُحْتَاجِ الْمَعْلُومِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ، وَسَمَّاهُ مَعْلُومًا لِكَوْنِهِ كَالْمَعْلُومِ الْمَيِّتِ حَيْثُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي مَعِيشَةِ الْحَيَاةِ اهـ.
وَقِيلَ: الصَّوَابُ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيْ تُعْطِي الْعَائِلَ وَتَمْنَحُهُ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَفْعَالِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْدُومُ هِيَ اللَّفْظَةُ الصَّحِيحَةُ بَيْنَ أَهْلِ الرِّوَايَةِ، وَأَجْرَاهَا بَعْضُهُمْ عَلَى التَّوَسُّعِ، فَرَأَى أَنَّهُ نَزَّلَ الْعَائِلَ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ مُبَالَغَةً فِي الْعَجْزِ كَقَوْلِكَ لِلْبَخِيلِ وَالْجَبَانِ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ: وَيَكْسِبُ مِنْ كَسَبْتَ زِيدًا مَالًا أَوْ كَسَبْتَ مَالًا، وَيَجُوزُ بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَكْسَبْتَ زِيدًا مَالًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالْأَفْصَحُ كَسَبْتَهُ، فَمَعْنَى تَكْسِبُ إِنْ جُعِلَ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ أَنَّكَ تَكْسِبُ مَا لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَلَا حَاصِلًا لِنَفْسِكَ، وَتَقْرِي بِهِ الضَّيْفَ، فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَبَبًا لِأَنْ لَا يُخْزِيهِ اللَّهُ أَوْ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَهُوَ الْفَقِيرُ سُمِّيَ مَعْدُومًا لِلْمُبَالَغَةِ، كَأَنَّهُ صَارَ مِنْ غَايَةِ فَقْرِهِ مَعْدُومًا وَالْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ يَكْسِبُهُ وَيَجْعَلُهُ؛ مَوْجُودًا، وَإِنْ جُعِلَ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ فَالْمَحْذُوفُ إِمَّا الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، أَيْ: تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَعْدُومَ، أَيْ: يُعْطِيهِ مَالًا يَكُونُ.
مَوْجُودًا عِنْدَهُ وَتَوَصُّلُهُ إِلَيْهِ أَوِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي أَيْ: تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ أَيِ: الْفَقِيرَ مَالًا أَيْ: تُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ لَفْظَ الْكَسْبِ إِرَادَةَ أَنَّكَ لَنْ تَزَالَ تَسْعَى فِي طَلَبِ عَاجِزٍ تُنْعِشُهُ كَمَا يَسْعَى غَيْرُكَ فِي طَلَبِ مَالٍ يُنْعِشُهُ اهـ. وَزُبْدَتُهُ، أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنَّكَ مِمَّنْ لَا يُصِيبُهُ مَكْرُوهٌ لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الشَّمَائِلِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبٌ لِلسَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ، وَفِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ تَطْرَأُ، وَفِيهِ تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مُخَالَفَةٌ مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ، وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ، وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَدَلُّ حُجَّةٍ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ فَقْرَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَرْضِيًّا اخْتِيَارِيًّا لَا مَكْرُوهًا اضْطِرَارِيًّا، وَمَنْشَؤُهُ كَمَالُ الْكَرَمِ وَالسَّخَاوَةِ، وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ وَالنُّعُوتَ الْمَسْطُورَةَ كَانَتْ لَهُ جِبِلِّيَّةً خَلْقِيَّةً قَبْلَ بَعْثَتِهِ الْبَاعِثَةِ لِتَتْمِيمِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
(ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ إِلَى وَرَقَةَ) بِفَتْحَتَيْنِ (بْنِ نَوْفَلٍ) أَيِ: ابْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيِّ (ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ) أَيِ: ابْنَةِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، فَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا حَقِيقَةً، وَاخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِهِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ. (فَقَالَتْ لِي: يَا ابْنَ عَمِّ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ) . وَهَذَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ كَقَوْلِهِمْ: يَا أَخَا الْعَرَبِ وَقَالَ شَارِحٌ: إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. (فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ) : وَقَدْ كَانَ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ. (يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى) ؟ قِيلَ: ذَا، زَائِدَةٌ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَقِيلَ ذَا: مَوْصُولَةٌ أَيْ: مَا الدِّينُ تَرَاهُ؟ (خَبَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى) أَيْ: بِخَبَرِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَلَكِ وَأَثَرِهِ، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا) أَيِ: الْمَلَكُ الَّذِي رَأَيْتَهُ (هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ) أَيْ: أَنْزَلَ اللَّهُ (عَلَى مُوسَى)، قِيلَ: نَامُوسُ الرَّجُلِ صَاحِبُ سِرِّهِ الَّذِي يُطْلِعُهُ عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُسَمُّونَ جِبْرِيلَ بِالنَّامُوسِ، فَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: النَّامُوسُ: صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ، وَالْجَاسُوسُ: صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ، فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَهُ بِالْوَحْيِ. (يَا لَيْتَنِي) أَيْ: كُنْتُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فِيهَا) أَيْ: فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ أَوْ مُدَّةِ الدَّعْوَةِ أَوِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا (جَذَعًا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: جَلْدًا شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِكَ بِمَنْزِلَةِ الْجَذَعِ مِنَ الْخَيْلِ، وَهُوَ مَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، فَالْجَذَعُ فِي الْأَصْلِ لِلدَّوَابِّ، وَهُنَا اسْتِعَارَةٌ، وَنَصْبُهُ إِمَّا بِإِضْمَارِ كُنْتُ أَوْ بِلَيْتَ عَلَى تَأْوِيلِ تَمَنَّيْتُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حَالٌ أَيْ: لَيْتَنِي حَاصِلٌ فِيهَا جَذَعًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ فِي:
يَا لَيْتَ أَيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعَا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ: لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَقَالَ الْقَاضِي: الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَخَبَرُ لَيْتَ قَوْلُهُ: فِيهَا، وَالْعَامِلُ مُتَعَلِّقُ الظَّرْفِ، هَذَا وَفِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي الْمُنَادَى مَحْذُوفٌ أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: ظَنَّ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّ (يَا) الَّتِي يَلِيهَا لَيْتَ حَرْفُ نِدَاءٍ، وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ، وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَائِلَ لَيْتَنِي قَدْ يَكُونُ وَحْدَهُ، فَلَا يَكُونُ مَعَهُ مُنَادَى كَقَوْلِ مَرْيَمَ:{يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23] قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَا رَبِّ أَوْ يَا نَفْسِي أَوْ يَا وَلَدِي أَوْ أَرَادَتْ بِهِ الْخِطَابَ الْعَامَّ الْمَقْصُودَ فِي أَوْهَامِ الْأَفْهَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي ادُّعِيَ فِيهِ حَذْفُهُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ ثُبُوتُهُ كَحَذْفِ الْمُنَادَى قَبْلَ أَمْرٍ أَوْ دُعَاءٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُهُ لِكَثْرَةِ ثُبُوتِهِ مِنْهُ، فَمِنْ ثُبُوتِهِ قَبْلَ الْأَمْرِ:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وَقِيلَ الدُّعَاءُ {يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف: 134] وَمِنْ حَذْفِهِ قَبْلَ الْأَمْرِ (أَلَا يَا اسْجُدُوا) فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ أَيْ: أَلَا يَا هَؤُلَاءِ، وَقَبْلَ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَا
أَيْ: أَلَا يَا دَارَ مَيَّ اسْلَمِي فَحَسُنَ حَذْفُ الْمُنَادَى جَعَلَهَا اعْتِمَادًا عَلَى ثُبُوتِهِ، بِخِلَافِ لَيْتَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ ثَابِتًا فَادِّعَاءُ حَذْفِهِ بَاطِلٌ، فَتَعَيَّنَ كَوْنُ يَا هَذِهِ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ مِثْلَ أَلَا فِي نَحْوِ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً
قُلْتُ: لَعَلَّ وَجْهَ حَذْفِ الْمُنَادَى مَعَ لَيْتَ كَثْرَةُ اسْتِعْمَالِهِ، فَتَارَةً يَكُونُ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا أَوْ مُؤَنَّثًا، وَتَارَةً تَثْنِيَةً أَوْ جَمْعًا كَذَلِكَ، وَتَارَةً يَكُونُ مُحَقَّقًا وَأُخْرَى يَكُونُ مَوْهُومًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَثْرَةَ الِاسْتِعْمَالِ مُوجِبَةٌ لِلْحَذْفِ وَالتَّخْفِيفِ، حَتَّى رُبَّمَا تَجْعَلُ الْحَذْفَ وَاجِبًا، فَادِّعَاءُ حَذْفِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَقٌّ، بَلْ وَاجِبٌ لَا بَاطِلٌ وَذَاهِبٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْقَامُوسِ ذِكْرَ جَوَازِ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدَّمَ مَا قَدَّمْنَاهُ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا وَلِيَ يَا مَا لَيْسَ بِمُنَادَى كَالْفِعْلِ فِي: أَلَا يَا اسْجُدُوا، وَالْحَرْفِ فِي نَحْوِ:{يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} [النساء: 73] ، «وَيَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٌ فِي الْعُقْبَى» ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ نَحْوَ:
يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمُ
…
وَالصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جَارِ
فَهِيَ لِلنِّدَاءِ وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِجْحَافُ بِحَذْفِ الْجُمْلَةِ كُلِّهَا اهـ. وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَفِيهِ بَحْثٌ لَا يَخْفَى وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. (لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ أَكُنْ قَوِيًّا (إِذْ يُخْرِجُكَ) : إِذْ هُنَا لِلِاسْتِقْبَالِ كَإِذَا، وَالْمَعْنَى حِينَ يَتَسَبَّبُ لِخُرُوجِكَ مِنْ بَلَدِكَ (قَوْمُكَ) أَيْ: أَقَارِبُكَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ) ؟ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا كَقَوْلِهِ: مُصْرِخِيَّ وَهُوَ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: هُمْ، وَأَصْلُهُ مُخْرِجُونَ أُضِيفَ إِلَى يَاءِ الْإِضَافَةِ بِكَسْرِ الْجِيمِ لِلْمُنَاسَبَةِ، فَإِعْرَابُهُ تَقْدِيرِيٌّ كَمُسْلِمِيَّ، وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِعْلَامِ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ مِنْ هَذَا الْإِقْدَامِ لِتَأْكِيدِ الْمَرَامِ أَيْ: أَيَكُونُ مَا قُلْتَ وَهُوَ مُخْرِجِيَّ؟ (فَقَالَ: نَعَمْ) . أَيْ: يُخْرِجُونَكَ وَسَبَبُهُ (أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ) أَيْ: مِنَ الرِّسَالَةِ (إِلَّا عُودِيَ) : مَاضٍ مَجْهُولٌ مِنَ الْمُعَادَاةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفْرَغٌ مِنْ أَعَمِّ عَامِّ الْأَحْوَالِ (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) : شَرْطٌ جَزَاؤُهُ (أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) . بِتَشْدِيدِ الزَّايِ الْمَفْتُوحَةِ. قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ بِالْيَوْمِ الزَّمَانَ الَّذِي أَظْهَرَ فِيهِ الدَّعْوَةَ، أَوْ عَادَاهُ قَوْمُهُ فِيهِ، وَقَصَدُوا إِيذَاءَهُ، وَإِخْرَاجَهُ، وَالْمُؤَزَّرُ الْبَالِغُ فِي الْقُوَّةِ مِنَ الْأَزْرِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ. قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] . (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ) : بِسُكُونِ النُّونِ وَفَتَحِ الشِّينِ أَيْ: لَمْ يَلْبَثْ وَلَمْ يَبْرَحْ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ، لَمْ يَشْتَغِلْ بِغَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَكَنَّى بِهِ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ:(أَنْ تُوُفِّيَ)، نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْوَفَاةِ أَيْ: لَمْ تَلْبَثْ وَفَاتُهُ بِأَنْ جَاءَتْ سَرِيعًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ وَرَقَةَ أَيْ: لَمْ يَلْبَثْ وَفَاتُهُ (وَفَتَرَ الْوَحْيُ) أَيِ: انْقَطَعَ أَيَّامًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5842 -
ــ
5842 -
(وَزَادَ الْبُخَارِيُّ) أَيْ: عَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَوْلَهُ: (حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : بِكَسْرِ الزَّايِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْحُزْنُ خِلَافُ السُّرُورِ، يُقَالُ: حَزِنَ الرَّجُلُ فَهُوَ حَزِنٌ وَحَزِينٌ وَأَحْزَنَهُ غَيْرُهُ وَحَزَّنَهُ أَيْضًا، لَكِنْ بِفَتْحِ الزَّايِ فِي الْمُتَعَدِّي (فِيمَا بَلَغَنَا) أَيْ: مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى حُزْنِهِ، وَهُوَ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَصْدَرِهِ الْمَنْصُوبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَعْنِي (حُزْنًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيَجُوزُ فَتْحُهُمَا أَيْ: حُزْنًا عَظِيمًا مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ (غَدَا) أَيْ: ذَهَبَ فِي الْغَدْوَةِ (مِنْهُ) : مِنْ أَجْلِ الْحُزْنِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ فُتُورِ الْوَحْيِ، وَقِيلَ: مَعْنَى غَدَا جَاوَزَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ ذَكَرَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: عَدَا بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ، وَهُوَ الذَّهَابُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْجَبَهَا مِنَ الذَّهَابِ غَدْوَةً اهـ. وَاقْتَصَرَ الشَّارِحُ عَلَى الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَقَالَ أَيْ: مَشَى مِنَ الْعَدْوِ (مِرَارًا) أَيْ: مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (كَيْ يَتَرَدَّى) أَيْ: يَسْقُطَ (مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجَبَلِ)، أَيْ: عَوَالِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ شَاهِقٍ، وَهُوَ الْجَبَلُ الْمُرْتَفِعُ (فَكُلَّمَا أَوْفَى) أَيْ
وَصَلَ وَلَحِقَ (بِذِرْوَةِ جَبَلٍ) : بِكَسْرِ الذَّالِ وَيَجُوزُ تَثْلِيثُهُ أَيْ: بِأَعْلَاهُ (لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ، تَبَدَّى) أَيْ: تَبَيَّنَ وَظَهَرَ لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا) . مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ نُصِبَ بِمُضْمَرٍ أَيْ: أَحَقَّ هَذَا الْكَلَامُ حَقًّا. (فَيَسْكُنُ) أَيْ: يَطْمَئِنُّ (لِذَلِكَ جَأْشُهُ) : أَوْ فَيَزُولُ لِذَلِكَ اضْطِرَابُ قَلْبِهِ وَقَلَقُهُ وَرَوْعُهُ وَفَزَعُهُ (وَتَقِرُّ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ تَسْكُنُ (نَفْسُهُ) أَيْ: مِنِ اضْطِرَابِهَا.
5843 -
ــ
5843 -
(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ) أَيِ: انْقِطَاعِهِ أَيَّامًا ثُمَّ حُصُولِهِ مُتَتَابِعًا (قَالَ: (فَبَيْنَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَبَيْنَمَا (أَنَا أَمْشِي) أَيْ: فِي أَرْضِ مَكَّةَ بِنَاءً عَلَى إِطْلَاقِهِ، أَوْ فَوْقَ جَبَلِ حِرَاءٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: حَتَّى هَوَيْتُ (سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجِئْتُ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَكَسْرِ هَمْزٍ وَسُكُونِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ: فَزِعْتُ وَخِفْتُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْمَلَكِ (رُعْبًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِضَمَّتَيْنِ إِمَّا حَالٌ أَيْ: مُمْتَلِئًا رُعْبًا أَوْ مَرْعُوبًا كُلَّ الرُّعْبِ وَالرُّعْبُ: يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، فَإِنَّ الْفَزَعَ انْقِبَاضٌ وَنِفَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنَ الشَّيْءِ الْمُخِيفِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْجَزَعِ، وَالرُّعْبُ: الِانْقِطَاعُ مِنِ امْتِلَاءِ الْخَوْفِ، كَذَا حَقَّقَهُ التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ تَمْيِيزٌ مُؤَكَّدٌ، وَنَظِيرُهُ:{ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} [الحاقة: 32](حَتَّى هَوَيْتُ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ: سَقَطْتُ وَنَزَلْتُ (إِلَى الْأَرْضِ فَجِئْتُ أَهْلِي) أَيْ: أَهْلَ بَيْتِي (فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) أَيْ: دَثِّرُونِي وَثَقِّلُونِي مِنَ الزَّامِلَةِ، وَهُوَ ثَقْلُ الْمَتَاعِ، وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّكْثِيرِ، (فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى؟ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالثَّاءِ أَيِ الْمُتَدَثِّرُ بِمَعْنَى الْمُتَزَمِّلِ الْمُتَثَقِّلِ، وَلِهَذَا قِيلَ مَعْنَاهُ: يَا أَيُّهَا الْمُتَلَبِّسُ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، وَالْمُتَحَمِّلُ بِأَثْقَالِ الرِّسَالَةِ (قُمْ) أَيْ: بِأَمْرِنَا، أَوْ دُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 1 - 2] وَلِذَا قِيلَ: إِنَّهُ أُمِرَ بِالْقِيَامِ لِلنُّبُوَّةِ وَهَذَا أَمْرٌ بِالْقِيَامِ لِلرِّسَالَةِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] أَيْ: فَأَعْلِمِ النَّاسَ بِالتَّخْوِيفِ عَنِ الْعَذَابِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْوَاعِ الثَّوَابِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، أَوِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِنْذَارِ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الْكُفَّارِ وَعُمُومِ الْفُجَّارِ، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] أَيْ: فَخُصَّ رَبَّكَ بِوَصْفِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أَيْ: مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ طَهَارَةُ الْبَاقِي عَنِ الْقَاذُورَاتِ بِالْأَوْلَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَصِّرْ ثِيَابَكَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّوَاضُعِ الْمُلَائِمِ لِلْعُبُودِيَّةِ الْمُنَاسِبِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ ظُهُورِ كِبْرِيَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ. {وَالرُّجْزَ} [المدثر: 5] : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا أَيِ: الشِّرْكُ وَالْعِصْيَانُ {فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] أَيْ: فَاتْرُكْهُ، الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا اقْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي إِذْ تَمَامُهُ {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 6 - 7] (ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيِ: اشْتَدَّ حَرُّهُ (وَتَتَابَعَ) . أَيْ: نُزُولُهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5844 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، «أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ) . قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5844 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ) : هُوَ مَخْزُومِيٌّ، أَخُو أَبِي جَهْلٍ شَقِيقُهُ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَاسْتُشْهِدَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ. قَالَ الْعَيْنِيُّ: وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ. (سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ) ؟ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ عَائِشَةَ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ أَصْحَابُ.
الْأَطْرَافِ، فَكَأَنَّهَا حَضَرَتِ الْقِصَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَارِثُ أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ بَعْدُ، فَيَكُونُ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ وَحُكْمُهُ الْوَصْلُ اتِّفَاقًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ، وَعَامِرٌ فِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنَّ لَهُ مُتَابِعٌ عِنْدَ ابْنِ مَنْدَهْ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(أَحْيَانًا) أَيْ: فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَالْأَزْمَانِ، قِيلَ: وَهُوَ وَقْتُ إِتْيَانِ الْوَعِيدِ (يَأْتِينِي) أَيِ: الْوَحْيُ (مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ) أَيْ: إِتْيَانًا مِثْلَ صَوْتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ حَالًا أَيْ: يَأْتِينِي الْوَحْيُ مُشَابِهًا صَوْتُهُ لِصَوْتِ الْجَرَسِ، وَالصَّلْصَلَةُ: صَوْتُ الْحَدِيدِ إِذَا حُرِّكَ (وَهُوَ) أَيْ: هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْوَحْيِ (أَشَدُّهُ) : أَصْعَبُهُ (عَلَيَّ) : وَأَتْعَبُهُ إِلَيَّ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لِأَنَّ الْفَهْمَ مِنْ كَلَامِ الصَّلْصَلَةِ أَشْكَلُ مِنَ الْفَهْمِ مِنْ كَلَامِ الرَّجُلِ بِالتَّخَاطُبِ الْمَعْهُودِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَلَعَلَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ صَوْتٌ مُتَدَارِكٌ يَسْمَعُهُ وَلَا يُثْبِتُهُ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ، حَتَّى يَتَفَهَّمَ وَيَتَثَبَّتَ فَيَتَلَقَّفُهُ حِينَئِذٍ وَيَعِيهِ، وَلِذَا قَالَ:(وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ)(فَيَفْصِمُ عَنِّي) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ أَيْ: يَنْقَطِعُ عَنِّي، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مِنْ أَفْصَمَ الْحُمَّى وَالْمَطَرُ أَيْ: أَقْلَعَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُقْلِعُ عَنِّي كَرْبُ الْوَحْيِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ قَوْلُهُ: فَيَفْصِمُ أَيِ: الْوَحْيُ أَوِ الْمَلَكُ فَكَأَنَّهُ جَوَّزَ تَقْدِيرَ الْمُضَافِ فِي الْوَحْيِ السَّابِقِ أَيْ كَيْفَ يَأْتِيكَ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَهُوَ الْمَلَكُ ثُمَّ قَالَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، كَذَا لِأَبِي الْوَقْتِ مِنْ فَصَمَ يَفْصِمُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ يَضْرِبُ، وَالْمُرَادُ قَطْعُ الشِّدَّةِ أَيْ: يُقْطَعُ وَيَنْجَلِي مَا يَغْشَانِي مِنَ الْكَرْبِ وَالشِّدَّةِ، وَيُرْوَى: فَيُفْصِمُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مِنْ أَفْصَمَ الْمَطَرُ إِذَا أَقْلَعَ رُبَاعِيٌّ. قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَيُفْصَمُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ، وَالْفَصْمُ الْقَطْعُ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمَلَكَ يُفَارِقُنِي لِيَعُودَ حَالِي. (وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ)، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَهُوَ بِغَيْرِ الْعَيْنِ أَيْ: حَفِظْتُ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، ثُمَّ الْوَعْيُ هُنَا قَبْلَ الْإِفْصَامِ، وَفِيمَا بَعْدُ حَالُ الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ وَرَدَ أَوَّلًا مَاضِيًا وَثَانِيًا حَالًا حَيْثُ قَالَ:(وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ) أَيْ: يَتَصَوَّرُ وَيَتَشَكَّلُ (لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا) أَيْ: مِثْلَ رَجُلٍ (فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ يُغَالِطُ فِيهِ أَبْنَاءُ الصَّلَابَةِ وَيَتَّخِذُونَهُ ذَرِيعَةً إِلَى تَضْلِيلِ الْعَامَّةِ وَتَشْكِيكِهِمْ، وَهُوَ حَقٌّ أَبْلَجُ، وَنُورٌ يَتَوَقَّدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] لَا يَغْلَطُ فِيهِ إِلَّا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ عَيْنَ قَلْبِهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ تَقُولَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَيَّنًا بِالْبَلَاغِ، مُهَيْمِنًا عَلَى الْكِتَابِ، مُكَاشَفًا بِالْعُلُومِ الْغَيْبِيَّةِ، مَخْصُوصًا بِالْمُسَامَرَاتِ الْقَلْبِيَّةِ، وَكَانَ يَتَوَفَّرُ عَلَى الْأُمَّةِ حِصَّتُهُمْ بِقَدْرِ الِاسْتِعْدَادِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُنْبِئَهُمْ بِمَا لَا عَهْدَ لَهُمْ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ صَاغَ لَهَا أَمْثِلَةً مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَاتِ، لِيَعْرِفُوا مِمَّا شَاهَدُوهُ مَا لَمْ يُشَاهِدُوهُ، فَلَمَّا سَأَلَ الصَّحَابِيُّ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَحْيِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعَوِيصَةِ وَالْعُلُومِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي لَا يُكْشَفُ نِقَابُ التَّعَرِّي عَنْ وَجْهِهَا لِكُلِّ طَالِبٍ وَمُتَطَلِّبٍ، وَعَالِمٍ وَمُتَعَلِّمٍ، ضَرَبَ لَهَا فِي الشَّاهِدِ مَثَلًا بِالصَّوْتِ الْمُتَدَارِكِ الَّذِي يُسْمَعُ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَنْبَاءَهَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ فِي لُبْسَةِ الْجَلَالِ، وَأُبَّهَةِ الْكِبْرِيَاءِ، فَتَأْخُذُ هَيْبَةَ الْخِطَابِ حِينَ وُرُودِهَا بِمَجَامِعِ الْقَلْبِ، وَيُلَاقِي فِي ثِقَلِ الْقَوْلِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِالْقَوْلِ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فَإِذَا سُرِّيَ عَنْهُ وَجَدَ الْقَوْلَ الْمُنَزَّلَ هُنَا مُلْقًى فِي الرَّوْعِ، وَاقِعًا مَوْقِعَ الْمَسْمُوعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ) وَمَعْنَى: يَفْصِمُ يُقْلِعُ عَنِّي كَرْبُ الْوَحْيِ شَبَّهَهُ بِالْحُمَّى إِذَا فَصَمَتْ عَنِ الْمَحْمُومِ، وَيُقَالُ: أَفْصَمُ الْمَطَرُ أَيْ: أَقْلَعَ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْوَحْيِ شَبِيهٌ بِمَا يُوحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ، عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا قَضَى اللَّهُ فِي السَّمَاءِ أَمْرًا ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهَا سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] » .
هَذَا وَقَدْ سَبَقَ لَنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِ عَلَى صِفَتَيْنِ. أَوَّلُهُمَا أَشَدُّ مِنَ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُرَدُّ فِيهَا مِنَ الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى الْأَوْضَاعِ الْمَلَكِيَّةِ، فَيُوحَى إِلَيْهِ كَمَا يُوحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْأُخْرَى يُرَدُّ فِيهَا الْمَلَكُ إِلَى شَكْلِ الْبَشَرِ وَشَاكِلَتِهِ، فَكَانَتْ هَذِهِ أَيْسَرَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ صَوْتٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُتَضَمِّنٌ لِلْمَعَانِي، مُدْهِشٌ لِلنَّفْسِ لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا إِيَّاهُ، وَلَكِنَّ الْقَلْبَ لِلْمُنَاسَبَةِ يُشْرَبُ مَعْنَاهُ، فَإِذَا سَكَنَ الصَّوْتُ أَفَاقَ النَّفَسُ، فَحِينَئِذٍ يَتَلَقَّى النَّفَسُ مِنَ الْقَلْبِ مَا أُلْقِيَ إِلَيْهِ، فَيَعِي عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الْعَقْلُ. فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّ مَا جَاءَ مِثْلَ ذَلِكَ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ وَصُورَتُهُ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا وَيُحِيلُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَّا ضَعِيفُ النَّظَرِ وَالْإِيمَانِ، إِذْ جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَدَلَائِلُ الْعُقُولِ لَا تُحِيلُهُ.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) : قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، سِيَّمَا إِذَا جَوَّزْنَا الْعَطْفَ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ دَاخِلٍ تَحْتَهُ، بَلْ كَانَ ثَابِتًا بِإِسْنَادٍ آخَرَ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيقِ تَأْيِيدًا لِأَمْرِ الشِّدَّةِ وَتَأْكِيدًا لَهُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَطْفٍ. (وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ: فَيَنْفَصِلُ الْوَحْيُ عَنْهُ وَالْحَالُ أَنَّ (جَبِينَهُ) أَيْ: مُقَدَّمَ وَجْهِهِ (لَيَتَفَصَّدُ) أَيْ: لَيَتَصَبَّبُ (عَرَقًا) . تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى لَيَسِيلُ عَرَقُهُ مِثْلَ سَيَلَانِ الدَّمِ مِنَ الْعَرَقِ الْمَفْصُودِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
5845 -
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: نَكَّسَ رَأْسَهُ، وَنَكَّسَ أَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ، فَلَمَّا أُتْلِيَ عَنْهُ رَفَعَ رَأْسَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5845 -
(وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ) : مَجْهُولٌ مِنَ الْإِنْزَالِ (عَلَيْهِ الْوَحْيُ) أَيْ: حِينَ أَوَّلِ إِنْزَالِهِ عَلَيْهِ (كُرِبَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أَصَابَهُ الْكَرْبُ وَحَزِنَ (لِذَلِكَ) أَيْ: لِشِدَّةِ نُزُولِهِ وَصُعُوبَةِ حُصُولِهِ. قَالَ شَارِحٌ: الْكَرْبُ وَالْكُرْبَةُ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ يُقَالُ: كَرَبَهُ الْغَمُّ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَالْمُسْتَكِنُّ فِي كَرْبٍ إِمَّا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ لِشِدَّةِ اهْتِمَامِهِ بِالْوَحْيِ كَمَنْ أَخَذَهُ غَمٌّ أَيْ لِسَبَبِ مَبْنَاهُ أَوْ مَعْنَاهُ، وَلِذَا قِيلَ لَهُ:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16] الْآيَةَ. قَالَ: أَوْ لِخَوْفِ مَا عَسَى يَتَضَمَّنُهُ الْوَحْيُ مِنَ التَّشْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِذَلِكَ، أَوِ الْمُسْتَكِنُّ الْوَحْيُ بِمَعْنَى اشْتَدَّ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَرْبِ الشِّدَّةُ. قُلْتُ: حِينَئِذٍ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: لِذَلِكَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْوَحْيِ أَشَدَّ الِاهْتِمَامِ، وَيَهَابُ مِمَّا يُطَالِبُ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْقِيَامِ بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَيَخْشَى عَلَى عُصَاةِ الْأُمَّةِ أَنْ يَنَالَهُمْ مِنَ اللَّهِ خِزْيٌ وَنَكَالٌ، فَيَأْخُذُهُ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كَرْبُ الْوَحْيِ وَشِدَّتُهُ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَرْبِ الشِّدَّةُ، وَإِنَّمَا قَالَ الصَّحَابِيُّ كُرِبَ لِمَا وَجَدَ مِنْ شَبَهِ حَالِهِ بِحَالِ الْمَكْرُوبِ وَقَوْلُهُ:(وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ) أَيْ: تَغَيَّرَ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي التَّغَيُّرِ مِنَ الْغَضَبِ، وَتَرَبَّدَ الرَّجُلُ أَيْ: تَعَبَّسَ.
(وَفِي رِوَايَةٍ: نَكَّسَ رَأْسَهُ) أَيْ: أَطْرَقَهُ كَالْمُتَفَكِّرِ (وَنَكَّسَ أَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ)، أَيِ: اتِّبَاعًا لَهُ وَتَأَدُّبًا مَعَهُ (فَلَمَّا أُتْلِيَ عَنْهُ) : بِضَمِّ هَمْزَةٍ فَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ وَكَسْرِ لَامٍ فَفَتْحِ تَحْتِيَّةٍ أَيْ: سُرِّيَ عَنْهُ وَكُشِفَ، كَأَنَّهُ ضَمَّنَ الْإِتْلَاءَ وَهُوَ الْإِحَالَةُ مَعْنَى الْكَشْفِ بِقَرِينَةِ عَنْ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْأُصُولِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ غَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى: فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْوَحْيُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَوِ الْكَرْبُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (رَفَعَ رَأْسَهُ) . أَيْ: وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أُتْلِيَ بِهَمْزَةٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقَ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ فَيَاءٍ، هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ بِلَادِنَا، وَمَعْنَاهُ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْوَحْيُ، هَكَذَا فَسَّرَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أُجْلِيَ بِالْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ انْجَلَى بِالْجِيمِ وَمَعْنَاهُ أُزِيلَ عَنْهُ وَزَالَ عَنْهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمَّنَ أُتْلِيَ مَعْنَى أَقْلَعَ فَعَدَّى بِعْنَ، وَيَنْصُرُهُ رِوَايَةُ شَرْحِ السُّنَّةِ: فَلَمَّا أَقْلَعَ عَنْهُ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُهُ: فَلَمَّا أُتْلِيَ عَلَيْهِ كَذَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ، وَأَرَى صَوَابَهُ: فَلَمَّا تُلِيَ عَلَيْهِ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَإِنْ كَانَ أُتْلِيَ عَلَيْهِ مُحَقَّقًا، فَمَعْنَاهُ أُحِيلَ يُقَالُ: أَتْلَيْتُهُ أَحَلْتُهُ أَيْ: أُحِيلَ عَلَيْهِ الْبَلَاغُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ إِذَا قَضَى إِلَيْهِ مَا نَزَلَ بِهِ، فَقَدْ أَحَالَ عَلَيْهِ الْبَلَاغَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5846 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي:(يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ) لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى تَجَمَّعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ:(أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ صَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ - وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ - أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟) قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا. قَالَ:(فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) . قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، لِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5846 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} [الشعراء: 214] أَيْ: قَوْمَكَ " الْأَقْرَبِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ: وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَعِدَ: بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ طَلَعَ (الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي) أَيْ: يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتٍ (يَا بَنِي فِهْرٍ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (يَا بَنِي عَدِيٍّ) أَيْ: وَأَمْثَالَ ذَلِكَ (لِبُطُونِ قُرَيْشٍ) : وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ وَتَفْصِيلُهُ (حَتَّى اجْتَمَعُوا)، أَيْ: حَضَرَ جَمْعٌ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ (فَجَعَلَ الرَّجُلُ أَيْ: مِنْ مَشَايِخِهِمْ وَأَكَابِرِهِمْ (إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ) أَيْ: لِعُذْرٍ (أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هِيَ، أَيْ: مِنَ الْخَبَرِ (فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ أَيْ: عَامَّتُهُمْ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَرَأَيْتُمْ) أَيْ: أَخْبِرُونِي وَصَدِّقُونِي (إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا) : يَعْنِي فُرْسَانًا (تَخْرُجُ) أَيْ: تَظْهَرُ (مِنْ صَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ) أَيْ: نَاحِيَتِهِ أَوْ سَفْحِهِ فَفِي الْقَامُوسِ: إِنَّ الصَّفْحَ الْجَانِبُ، وَمِنَ الْخَيْلِ مُضْطَجَعُهُ وَالسَّفْحُ عَرْضُ الْجَبَلِ الْمُضْطَجَعُ أَوْ أَصْلُهُ أَوْ أَسْفَلُهُ. (وَفِي رِوَايَةٍ:(إِنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِالْوَادِي) : اللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَادِي الْمَشْهُورُ بِوَادِي فَاطِمَةَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ (تُرِيدُ) أَيِ: الْخَيْلُ، وَالْمُرَادُ أَصْحَابُهَا وَرُكَّابُهَا (أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ) أَيْ: تَأْتِيَكُمْ بَغْتَةً لِلْإِغَارَةِ عَلَيْكُمْ لَيْلًا أَوْ صَبَاحًا (أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟) قَالُوا: نَعَمْ) أَيْ: نُصَدِّقُكَ لِأَنَّكَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ (مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: ضَمَّنَ جَرَّبَ مَعْنَى أَلْقَى أَيْ: مَا أَلْقَيْنَا عَلَيْكَ شَيْئًا مِنَ الْأَخْبَارِ مُجَرِّبِينَ إِيَّاكَ إِلَّا وَجَدْنَاكَ فِيهِ صَادِقًا. (قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ) أَيْ: مُنْذِرٌ وَمُخَوِّفٌ (بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) . أَيْ: قُدَّامَهُ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ (قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: خُسْرَانًا وَهَلَاكًا (لَكَ، أَلِهَذَا) أَيْ: لِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ (جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسْكَنُ أَيْ خَسِرَ وَهَلَكَ هُوَ، وَالْيَدُ مُقْحَمَةٌ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مُزَاوَلَتِهَا وَمُعَالَجَتِهَا بِهِمَا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] فَقَوْلُهُ (وَتَبَّ) تَأْكِيدٌ، وَالْأَوَّلُ فِي الدُّنْيَا وَالثَّانِي فِي الْأُخْرَى، فَالْمَعْنَى خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، أَوِ الْأَوَّلُ دُعَاءٌ وَالثَّانِي إِخْبَارٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5847 -
ــ
5847 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ) أَيْ: قَرِيبًا مِنْهَا (وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ)، أَيْ: حَالَ كَوْنِ جَمْعٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي مَجَامِعِهِمْ (حَوْلَ الْكَعْبَةِ إِذْ قَالَ قَائِلٌ) أَيْ: أَبُو جَهْلٍ أَوْ غَيْرُهُ (أَيُّكُمْ يَقُومُ) أَيْ: يَتَوَجَّهُ (إِلَى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ) أَيْ: بَعِيرِهِمْ (فَيَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: فَيَقْصِدُ الْقَائِمُ (إِلَى فَرْثِهَا) : وَهُوَ السِّرْجِينُ مَا دَامَ فِي الْكِرْشِ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَالضَّمِيرُ إِلَى الْجَزُورِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَةَ مُؤَنَّثَةٌ يُقَالُ: هَذِهِ الْجَزُورُ، وَإِنْ أَرَدْتَ ذَكَرًا كَذَا فِي النِّهَايَةِ (وَدَمِهَا وَسَلَاهَا) : بِفَتْحِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَهُوَ الْجِلْدُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ الْوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَلْفُوفًا فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي الْمَاشِيَةِ السَّلَاءُ وَفِي النَّاسِ الْمَشِيمَةُ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ الْمَشِيمَةَ تَخْرُجُ بَعْدَ الْوَلَدِ، وَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ فِيهَا حِينَ يَخْرُجُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (فَانْبَعَثَ) أَيْ: فَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى مَا ذَكَرَ، (أَشْقَاهُمْ) أَيْ: أَشْقَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَقِيلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، (فَلَمَّا سَجَدَ) أَيِ: النَّبِيُّ عليه السلام (وَضَعَهُ) أَيْ: مَا ذَكَرَ، وَالْمَعْنَى أَحَدُهَا، وَلَعَلَّهُ بِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ (بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا)، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُسْتَمِرًّا عَلَى سُجُودِهِ، وَمُسْتَقِرًّا عَلَى شُهُودِهِ، رَاضِيًا بِقَضَائِهِ،
مُسَلِّمًا لِأَمْرِهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ؛ فَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ السُّرُورِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ الْحُضُورِ الْحَاصِلِ مِنْ قُرْبِ الرَّبِّ، وَهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، وَتَعَلُّقِهِمْ بِالْخَلْقِ غَفَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُهْلِكُوا هُنَاكَ، (فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أَيْ: وَاقِعِينَ وَسَاقِطِينَ فَوْقَ بَعْضِهِمْ (مِنَ الضَّحِكِ)، أَيْ: مِنْ كَثْرَتِهِ النَّاشِئَةِ عَنْ إِعْجَابِهِمْ بِفِعْلِهِمْ وَتَعَجُّبِهِمْ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم (فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ)، أَيْ: وَأَخْبَرَهَا بِمَا جَرَى (فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى)، أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا تُسْرِعُ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، فَإِنَّهَا وُلِدَتْ وَعُمْرُهُ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ (وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا) : هُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ وَتَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:(حَتَّى أَلْقَتْهُ) أَيْ: طَرَحَتْهُ (عَنْهُ) : فَاطِمَةُ وَأَبْعَدَتْهُ مِنْهُ (وَأَقْبَلَتْ) أَيْ: تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمْ (تَسُبُّهُمْ)، أَيْ: تَشْتُمُهُمْ وَتَلْعَنُهُمْ وَهُمْ سَاكِتُونَ عَنْهَا لِصِغَرِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي أَنَّ غَيْرَهَا مَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ لِمَا كَانَ عَسَى أَنْ تَثُورَ الْفِتْنَةُ الْمُرْدِيَةُ إِلَى الْقِتَالِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ، (فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ) أَيْ: أَدَّاهَا وَفَرَغَ مِنْهَا (قَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ) . الْبَاءُ زَائِدَةٌ وَعَلَيْكَ اسْمُ فِعْلٍ فَالْمَعْنَى خُذْهُمْ أَخْذًا شَدِيدًا أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (ثَلَاثًا) . أَيْ: كَرَّرَهُ ثَلَاثًا (وَكَانَ) أَيْ: مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ (إِذَا دَعَا) أَيِ: اللَّهَ (دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ) أَيْ: طَلَبَ مِنَ اللَّهِ (سَأَلَ ثَلَاثًا) : فَقِيلَ هَذَا تَأْكِيدٌ لِدَعَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لَهُ، هَذَا وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَمَرَّ فِي الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى ظَهْرِهِ؟ أَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: بِأَنْ لَيْسَ هَذَا بِنَجِسٍ، لِأَنَّ الْفَرْثَ وَرُطُوبَةَ الْبَدَنِ طَاهِرَانِ، وَإِنَّمَا النَّجِسُ الدَّمُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ هَذَا السَّلَا يَتَضَمَّنُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الدَّمِ فِي الْغَالِبِ، وَلِأَنَّهُ ذَبِيحَةُ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ. قُلْتُ: يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مَذْبُوحَةً وَإِلَّا فَمَيْتَةٌ نَجِسَةٌ اتِّفَاقًا. وَكَانَ النَّوَوِيُّ غَفَلَ عَنِ التَّصْرِيحِ فِي الْحَدِيثِ بِذِكْرِ الدَّمِ، حَتَّى تَعَلَّقَ بِأَنَّ السَّلَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الدَّمِ غَالِبًا. ثُمَّ قَالَ: وَالْجَوَابُ الْمَرْضِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمْ مَا وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَاسْتَمَرَّ فِي سُجُودِهِ اسْتِصْحَابًا لِلطَّهَارَةِ. قُلْتُ: وَرَدَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَعَ النَّجَاسَةِ لَا تَصِحُّ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ: الصَّوَابُ مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. قِيلَ: كَانَ هَذَا الصَّنِيعُ مِنْهُمْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ وَذَبِيحَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَلَمْ تَكُنْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَا كَالْخَمْرِ كَانَتْ تُصِيبُ ثِيَابَهُمْ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ ثَبَاتَهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مَزِيدًا لِلشَّكْوَى، وَإِظْهَارًا لِمَا صَنَعَ أَعْدَاءُ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لِيَأْخُذَهُمْ أَخْذًا وَبِيلًا، وَلِذَا كَرَّرَ الدُّعَاءَ ثَلَاثًا:
(اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ) أَيْ: خُصُوصًا، وَهُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ الْجَاهِلِيُّ الْمَعْرُوفُ، كَانَ يُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ، فَكُنَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا جَهْلٍ، فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكُنْيَةُ، قَتَلَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَقَطَعَ رَأْسَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي بَدْرٍ. (وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ) : جَاهِلِيٌّ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا (وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ)، أَيِ: ابْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، جَاهِلِيٌّ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا (وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ)، أَيِ: ابْنِ رَبِيعَةَ، جَاهِلِيٌّ قُتِلَ بِبَدْرٍ مُشْرِكًا (وَأُمَيَّةَ) : بِضَمِّ الْهَمْزِ وَفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (بْنِ خَلَفٍ) ، بِفَتْحَتَيْنِ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مُشْرِكًا، وَأَمَّا أَخُوهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُشْرِكًا، قَتَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، (وَعُقْبَةَ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ (بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ)، بِالتَّصْغِيرِ (وَعُمَارَةَ) : بِضَمٍّ فَتَخْفِيفٍ (بْنِ الْوَلِيدِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ) أَيْ: أَبْصَرْتُ الْمَذْكُورِينَ (صَرْعَى) : هَلْكَى، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ: مَصْرُوعِينَ حِينَ (يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: جُرُّوا (إِلَى الْقَلِيبِ) : وَهُوَ الْبِئْرُ قَبْلَ أَنْ تُطْوَى (قَلِيبِ بَدْرٍ) ، بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ وَنَصْبُهُ، ثُمَّ بَدْرٌ اسْمُ مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ صَاحِبَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَدِ اسْتَشْكَلَ عَدُّ عُمَارَةَ فِي الْمَذْكُورِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ بِبَدْرٍ، بَلْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي أَنَّهُ مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلَامَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِنَّمَا قُتِلَ صَبْرًا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا عَنْ بَدْرٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لَمْ يُطْرَحْ فِي الْقَلِيبِ كَمَا هُوَ بَلْ مُقَطَّعًا.
(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَأُتْبِعَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا (أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً) . أَيْ: أُتْبِعَ عَذَابُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 60] وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَنَصْبُ أَصْحَابٍ عَلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِإِيصَالِ اللَّعْنَةِ الْمُتَوَاصِلَةِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: جُمْلَةُ وَأُتْبِعَ إِلَخْ. يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ الدُّعَاءِ الْمَاضِي؛ فَيَكُونَ فِيهِ عَلَمٌ عَظِيمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5848 -
ــ
5848 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ) أَيْ: هَلْ مَرَّ عَلَيْكَ وَقْتٌ وَزَمَانٌ (كَانَ) أَيْ: صُعُوبَتُهُ (أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ)، أَيْ: مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، أَوْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الْمُبْهَمُ لِيَذْهَبَ الْوَهْمُ كُلَّ الْمَذْهَبِ فِي الْفَهْمِ، (وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْ) : بِنَصْبِ أَشَدَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ:(يَوْمَ الْعَقَبَةِ) : فَبِالنَّصْبِ لَا غَيْرَ وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يُضَافُ إِلَيْهَا جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ. قَالَ شَارِحٌ: أَشَدَّ بِالنَّصْبِ خَبَرُ كَانَ، وَمَا لَقِيتُ مِنْهُمْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ اسْمُهُ، وَيَوْمَ الْعَقَبَةِ ظَرْفُ لَقِيتُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَانَ مَا لَقِيتُهُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ أَشَدَّ مِمَّا لَقِيتُهُ مِنْهُمْ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْعَقَبَةِ اسْمَ كَانَ وَخَبَرُهُ أَشَدَّ مُضَافًا إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ أَوِ الْمَوْصُوفَةِ الْمُعَبَّرِ بِهَا عَنِ الْأَيَّامِ، تَقْدِيرُهُ: وَكَانَ يَوْمَ الْعَقَبَةِ أَشَدَّ الْأَيَّامِ الَّتِي لَقِيتُ مِنْهُمْ، أَوْ أَشَدَّ أَيَّامٍ لَقِيتُ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَكْسِ، وَقِيلَ: مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ اسْمُ كَانَ، وَيَكُونُ أَشَدُّ خَبَرَهُ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ مِنْ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَشَدُّ مَا لَقِيتُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهُ عَائِدٌ إِلَى مُقَدَّرٍ، وَهُوَ مَفْعُولُ قَوْلِهِ: لَقَدْ لَقِيتُ، وَيَوْمَ الْعَقَبَةِ ظَرْفٌ، فَالْمَعْنَى كَانَ مَا لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ يَوْمَ الْعَقَبَةِ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ، وَأَرَادَ بِالْعَقَبَةِ الَّتِي بِمِنًى، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ عِنْدَ الْعَقَبَةِ فِي الْمَوْسِمِ، وَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى الْإِسْلَامِ اهـ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَا أَجَابُوا ذَلِكَ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:(إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي) : وَفِي نُسْخَةٍ: إِذْ وَهُوَ الظَّاهِرُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَضَعَ إِذَا الَّتِي هِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ مَوْضِعَ إِذْ، يَعْنِي الْمَوْضُوعَةَ لِلْمَاضِي اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ، وَالْمَعْنَى حِينَ عَرَضْتُ نَفْسِي بِالْأَمَانِ وَالْإِجَارَةِ مِنَ التَّعَرُّضِ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ (عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَاللَّامِ الْأَوْلَى (بْنِ كُلَالٍ)، بِضَمِّ الْكَافِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَالَّذِي فِي الْمَغَازِي أَنَّ الَّذِي كَلَّمَهُ هُوَ عَبْدُ يَالِيلَ نَفْسُهُ، وَعِنْدَ أَهْلِ النَّسَبِ أَنَّ كُلَالًا أَخُوهُ لَا أَبُوهُ، وَأَنَّهُ عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَمْرٍو، وَيُقَالُ اسْمُ ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ مَسْعُودٌ، وَكَانَ ابْنُ عَبْدِ يَالِيلَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الطَّائِفِ مِنْ ثَقِيفٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدِمَ مَعَ وَفْدِ طَائِفٍ سَنَةَ عَشْرٍ، فَأَسْلَمُوا، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ، لَكِنْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ) أَيْ: مَا قَصَدْتُ وَطَلَبْتُ مِنْهُ حِينَئِذٍ مِنَ الْعَهْدِ وَالْأَمَانِ (فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:(عَلَى وَجْهِي)، فَذَهَبْتُ مَهْمُومًا عَلَى جِهَتِي. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: فَانْطَلَقْتُ حَيْرَانًا هَائِمًا لَا أَدْرِي أَيْنَ أَتَوَجَّهُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْغَمِّ وَصُعُوبَةِ ذَلِكَ الْهَمِّ. (فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ)، يُقَالُ: أَفَاقَ وَاسْتَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ وَسُكْرِهِ، بِمَعْنَى أَيْ: فَلَمْ أُفِقْ مِمَّا كُنْتُ فِيهِ مِنَ الْغَمِّ وَشِدَّةِ الْهَمِّ، حَتَّى بَلَغْتُ قَرْنَ الثَّعَالِبِ، وَالْقَرْنُ: جَبَلٌ، وَقَرْنُ الثَّعَالِبِ: جَبَلٌ بِعَيْنِهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، (فَرَفَعْتُ رَأْسِي) أَيْ: إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ وَمَهْبِطَ الرَّجَاءِ، (فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي) أَيْ: بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ (فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا) أَيْ: فِي
السَّحَابَةُ (جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ) أَيْ: قَوْلَكَ إِيَّاهُمْ (وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ) أَيْ: مِنْ إِيَّاهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ، وَبَيَانًا عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ مِنَ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، (وَقَدْ بَعَثَ) أَيْ: أَرْسَلَ اللَّهُ (إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ) . قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عليه السلام (فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ)، أَيْ بِنَحْوِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، أَوْ يَا مُحَمَّدُ (فَسَلَّمَ عَلَيَّ) أَيْ: تَسْلِيمَ تَعْظِيمٍ وَتَكْرِيمٍ (ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ)، أَيْ: بِشَأْنِكَ أَوْ بِمَا تُرِيدُهُ (إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ) : بِضَمِّ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُخَفَّفَةِ مِنْ أَطْبَقَ إِذَا جَعَلَ الشَّيْءَ فَوْقَ الشَّيْءِ مُحِيطًا بِجَمِيعِ جَوَانِبِهِ كَمَا يَنْطَبِقُ الطَّبَقُ عَلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ وَالْمَعْنَى إِذَا أَرَدْتَ أَنْ أَقْلِبَ (عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ) . وَهُمَا جَبَلَانِ يُضَافَانِ إِلَى مَكَّةَ مَرَّةً، وَإِلَى مِنًى أُخْرَى، وَهُمَا وَاحِدٌ، ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي الْفَائِقِ: الْأَخْشَبَانِ الْجَبَلَانِ الْمُطْبِقَانِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ أَبُو قُبَيْسٍ وَالْأَحْمَرُ وَهُوَ جَبَلٌ مُشْرِفٌ وَجْهُهُ عَلَى قُعَيْقِعَانَ، وَالْأَخْشَبُ كُلُّ جَبَلٍ غَلِيظٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: قُعَيْقِعَانُ كَزُعَيْفِرَانَ جَبَلٌ بِمَكَّةَ وَجْهُهُ إِلَى أَبِي قُبَيْسٍ.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بَلْ) أَيْ: لَا أُرِيدُ ذَلِكَ وَإِنِ اسْتَحَقُّوا لِكَفْرِهِمْ بَلْ (أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ) أَيْ: مِنْ أَنْسَابِ بَعْضِهِمْ (مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ)، أَيْ: مَنْ يُوَحِّدُهُ مُنْفَرِدًا أَوْ لِيُطِيعَهُ مُخْلِصًا (لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) أَيْ: مِنْ شِرْكٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5849 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ؟) » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5849 -
(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى وَزْنِ الثَّمَانِيَةِ، السِّنُّ الَّذِي بَيْنَ الثَّنِيَّةِ وَالنَّابِ، وَكَانَتِ الرَّبَاعِيَةُ الْمَكْسُورَةُ هِيَ السُّفْلَى مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ (يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ) : بِضَمِّ شِينٍ وَتَشْدِيدِ جِيمٍ أَيْ: جُرِحَ رَأْسُهُ فَقَوْلُهُ (فِي رَأْسِهِ) ، إِمَّا مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ أَوْ نَوْعٌ مِنَ التَّأْكِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي، بُولِغَ فِي الشَّجِّ حَيْثُ أَوْقَعَ الرَّأْسَ ظَرْفًا لِلشَّجِّ، يَعْنِي فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَوْقَعَ الشَّجَّ فِي رَأْسِهِ تَضْمِينًا (فَجَعَلَ يَسْلُتُ) : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: يُزِيلُ (الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ) أَيِ: اسْتِعْظَامًا وَاسْتِعْجَابًا ( «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ» ) ؟ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ ضُرِبَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ بِالسَّيْفِ سَبْعِينَ ضَرْبَةً، وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهَا كُلَّهَا، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ حُصُولُ الْمُشَارَكَةِ لَهُ مَعَ السَّبْعِينَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ عَصَمَهُ لِقَوْلِهِ:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وَبِمَا حَصَلَ لَهُ بَعْضُ الْأَثَرِ مِنَ الشَّجِّ وَالْكَسْرِ لِتَحْقِيقِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَلِإِظْهَارِ مُقْتَضَى الْأَوْصَافِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَالتَّأْثِيرِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْعُبُودِيَّةِ، وَمُوجِبُ نَعْتِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ الْمُلَاءَمَةِ لِلرُّبُوبِيَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ: وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
5850 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ) . يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ» . وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ: الْفَصْلِ الثَّانِي
ــ
5850 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ)(يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ) : حَالٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وَعَامِلُهُ قَالَ: وَقَعَ مُفَسِّرًا لِمَفْعُولِ فَعَلُوا هَذَا (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . لَعَلَّ حَذْفَ الْعَاطِفِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ مُسْتَقِلَّانِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الرَّاوِي، وَيُؤَيِّدُهُ تَكْرَارُ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ، أَوْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ مَا ذُكِرَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الِاشْتِرَاكِ، وَلَمْ يَأْتِ بِأَوْ كَيْلَا يُظَنَّ الشَّكُّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُهُ وَضْعًا لِلظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِشْعَارًا بِأَنَّ مَنْ يَقْتُلُهُ مَنْ هُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَشْقَى النَّاسِ، وَالَّذِي قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ، وَقَوْلُهُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ احْتِرَازٌ عَمَّنْ يَقْتُلُهُ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، لِأَنَّ مَنْ يَقْتُلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ قَاصِدًا لَهُ صلى الله عليه وسلم. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) . تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ مِرَارًا.