المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب ذكر اليمن والشام وذكر أويس القرني] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[بَابُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[بَابُ صِفَةِ النَّارِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[بَابُ خَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌[بَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[كِتَابِ الْفَضَائِلِ] [

- ‌بَابُ فَضَائِلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ]

- ‌[بَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتِهِ]

- ‌[بَابٌ فِي أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[بَابُ الْمَبْعَثِ وَبَدْءِ الْوَحْيِ]

- ‌[بَابُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْمِعْرَاجِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْمُعْجِزَاتِ]

- ‌[بَابُ الْكَرَامَاتِ]

- ‌[بَابٌ هِجْرَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَفَاتُهُ]

- ‌[بَابٌ]

- ‌[كِتَابُ الْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ] [

- ‌بَابُ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ وَذِكْرِ الْقَبَائِلِ]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عُثْمَانَ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ الْعَشَرَةِ رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن]

- ‌[بَابُ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ]

- ‌[تَسْمِيَةُ مَنْ سُمِّيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَذِكْرِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ]

- ‌[بَابُ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ]

الفصل: ‌[باب ذكر اليمن والشام وذكر أويس القرني]

عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَكَانَ هُوَ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ أَوَّلَ أَنْصَارِيَّيْنِ مِنَ الْخَزْرَجِ أَسْلَمَا، شَهِدا بَدْرًا وَأَخَوَاهُ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ، وَقُتِلَ أَخَوَاهُ هَذَانِ بِبَدْرٍ وَشَهِدَ بَعْدَ بَدْرٍ مِنَ الْمَشَاهِدِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَقِيلَ: أَنَّهُ عَاشَ إِلَى زَمَنِ عُثْمَانَ.

(مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ أَبُو أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ) : بِالتَّصْغِيرِ كُنْيَةُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَهُوَ سَاعِدِيٌّ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَلَهُ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ (مِسْطَحُ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ (بْنُ أُثَاثَةَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ (بْنِ عَبَّادٍ) : بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ (بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ) أَيِ الْقُرَشِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمُشَاهِدَ كُلَّهَا بَعْدَهَا، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِي عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مَا قَالَهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، وَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ جَلَدَ، وَيُقَالُ: إِنَّ مِسْطَحًا لَقَبُهُ وَاسْمُهُ عَوْفٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ. (مُرَارَةُ) بِضَمِّ الْمِيمِ (بْنُ الرَّبِيعِ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الْأَنْصَارِيُّ) : عَامِرِيٌّ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فِي شَأْنِهِمْ. (مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ) بِفَتْحِ مِيمٍ فَسُكُونِ عَيْنٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ شَهِيدًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ فَقُتِلَا مَعًا يَوْمَئِذٍ. (مِقْدَادُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ) : بِكَسْرِ الْكَافِ (حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ) . بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: إِنَّ أَبَاهُ حَالَفَ كِنْدَةَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ابْنُ الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيفَهُ أَوَّلًا، فَتَبَنَّاهُ وَكَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ، مَاتَ بِالْجَرْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً (هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ (الْأَنْصَارِيُّ) : أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ الَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكٍ، لَهُ ذِكْرٌ فِي اللِّعَانِ، رَوَى عَنْهُ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَتُحُصِّلَ أَنَّ عَدَدَ الْمَجْمُوعِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَفِي نُسْخَةٍ: رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.

ص: 4034

[بَابُ ذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَذِكْرِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

6266 -

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رَجُلًا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ لَا يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا اللَّهَ فَأَذْهَبَهُ إِلَّا مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ» ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ لَهُ بَيَاضٌ فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

(بَابُ ذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَذِكْرِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ) فِي الْمُغْرِبِ: الْيَمَنُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْيَمِينِ بِخِلَافِ الشَّامِ، لِأَنَّهَا بِلَادٌ عَلَى يَمِينِ الْكَعْبَةِ وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا يَمَنِيٌّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَوْ يَمَانِيٌّ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى تَعْوِيضِ الْأَلِفِ مِنْ إِحْدَى يَائَيِ النِّسْبَةِ وَفِي الْقَامُوسِ: الْيَمَنُ مُحَرَّكَةٌ مَا عَلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ مِنْ بِلَادِ الْغَوْرِ، وَهُوَ يَمَنِيٌّ وَيَمَانِيٌّ وَيَمَانٍ، وَالشَّامُ بِلَادٌ عَنْ مُشَاءَمَةِ الْقِبْلَةِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمًا مِنْ بَنِي كَنْعَانَ تَشَاءَمُوا إِلَيْهَا أَيْ تَيَاسَرُوا، أَوْ سُمِّيَ بِشَامُ بْنِ نُوحٍ، فَإِنَّهُ بِالشِّينِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّ أَرْضَهَا شَامَاتٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ وَسُودٌ، وَعَلَى هَذَا لَا يُهْمَزُ وَقَدْ يُذَكَّرُ. قُلْتُ: وَعَلَى الْأَوَّلِ يُهْمَزُ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهَا، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَالْأَشْمَلُ لِلْمَعَانِي، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُتَعَلِّقًا بِذِكْرِ الْمَكَانَيْنِ أَوْ بِأَهْلِيهِمَا، فَقَوْلُهُ: وَذِكْرِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِلتَّشْرِيفِ، ثُمَّ الْقَرَنِيُّ بِفَتْحَتَيْنِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْقَرْنُ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَهِيَ قَرْيَةٌ عِنْدَ الطَّائِفِ، وَاسْمُ الْوَادِي كُلُّهُ، وَغَلَطَ الْجَوْهَرِيُّ فِي تَحْرِيكِهِ، وَفِي نِسْبَةِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى قَرَنِ بْنِ رُومَانَ بْنِ نَاجِيَةَ بْنِ مُرَادٍ أَحَدِ أَجْدَادِهِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ 6266 - (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ رَجُلًا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ) : تَصْغِيرُ أَوْسٍ (" لَا يَدَعُ ")، أَيْ: لَا يَتْرُكُ (بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ وَعِيَالٌ فِي الْيَمَنِ.

ص: 4034

غَيْرَهَا، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ عَنِ الْإِتْيَانِ إِلَيْنَا خِدْمَتُهَا، (" قَدْ كَانَ بِهِ ")، أَيْ: بِأُوَيْسٍ (" بَيَاضٌ ")، أَيْ: بَرَصٌ (" فَدَعَا اللَّهَ فَأَذْهَبَهُ إِلَّا مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ ") ، شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَعَلَّهُ أَبْقَاهُ لِلْعَلَامَةِ كَمَا قِيلَ فِي ظُفْرِ آدَمَ: أَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ جِلْدِهِ السَّابِقِ، أَوْ تَرَكَ ذَاكَ الْبَعْضَ لِيَكُونَ سَبَبَ تَنَفُّرِهِ، وَلِهَذَا كَانَ يُحِبُّ الْخُمُولَ وَالْعُزْلَةَ وَيَكْرَهُ الشُّهْرَةَ وَالْخُلْطَةَ. (" فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ ") . قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ، وَفِيهِ طَلَبُ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. أَقُولُ: وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ: سَمِعْتُ، رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادٍ مِنَ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ فِيهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ وَهُوَ لَهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَلَوِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» " فَاسْتَغْفِرْ لِي فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.

(وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ)، أَيْ: عُمَرُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ ")، أَيْ: مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ، وَحَصَلَ لَهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ عَنْ حُضُورِ حَضْرَتِهِ وَنُورِ طَلْعَتِهِ صلى الله عليه وسلم. (" رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ ")، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَيْرُ التَّابِعِينَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ: أَفْضَلُ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ سَعِيدَ أَفْضَلُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهَا لَا فِي كَوْنِهِ أَكْثَرَ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

(" وَلَهُ وَالِدَةٌ ")، أَيْ: أُمٌّ، وَهُوَ بَارٌّ لَهَا (" وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ ")، أَيْ بَرَصٌ وَذَهَبَ اللَّهُ بِهِ أَيْ: أَذْهَبَهُ كُلَّهُ إِلَّا قَدْرَ الْيَسِيرِ، وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ (" فَمُرُوهُ ")، أَيْ: فَالْتَمِسُوهُ أَوْ مُرُوهُ بِنَاءً عَلَى أَمْرِنَا إِيَّاكُمْ أَوْ إِيَّاهُ (" فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ ") . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِاسْتِغْفَارِ أُوَيْسٍ لَهُمْ وَإِنْ كَانَ الصَّحَابَةُ أَفْضَلَ مِنَ التَّابِعِينَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاضِلَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الدُّعَاءَ مِنَ الْمَفْضُولِ، أَوْ قَالَهُ صلى الله عليه وسلم تَطَيُّبًا لِقَلْبِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَى حَضْرَتِهِ، لَكِنْ مَنَعَهُ بِرُّهُ لِأُمِّهِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ أَنَّهُ مُسِيءٌ فِي التَّخَلُّفِ اهـ. وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا نُقِلَ أَنَّهُ تَرَكَ أُمَّهُ وَجَاءَ وَاجْتَمَعَ بِالصَّحَابَةِ فَإِنَّ امْتِنَاعَهُ مِنَ الْإِتْيَانِ كَانَ بِعُذْرِ عَدَمِ مَنْ يَكُونُ فِي خِدْمَتِهَا وَقَائِمًا بِمُؤْنَتِهَا، فَلَمَّا وَجَدَ السَّعَةَ تَوَجَّهَ إِلَى الصَّحَابَةِ أَوْ لَمَّا فُرِضَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ تَعَيَّنَ مَأْتَاهُ أَوْ أَذِنَتْ لَهُ بِالسَّيْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

وَفِي الرِّيَاضِ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ يَسْأَلُهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَلَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ وَهُوَ لَهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» " فَاسْتَغْفِرْ لِي فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ. قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا. قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرُ فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ فَقَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ. صلى الله عليه وسلم: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. ثُمَّ قَالَ: " فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ " فَأَتَى أُوَيْسًا فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَجْهَ خَفَائِهِ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ فِي مَادَّةِ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَوْ كَانَ ظَاهِرُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ مَسْتُورًا أَوْ غَيْرُهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِغْفَارُ لِلْكُلِّ، وَلَا امْتِنَاعُهُ عَنِ الْبَعْضِ لِمَا يُوجِبُ مِنَ الْإِيحَاشِ وَكَشْفِ الْحَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا " «خَيْرُ التَّابِعِينَ أُوَيْسٌ» ". رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَنِيُّ وَأَنَّ شَفَاعَتَهُ فِي أُمَّتِي مِثْلَ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» .

ص: 4035

6267 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ:«أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ وَأَلْيَنُ قُلُوبًا الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6267 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: " أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً ")، أَيْ: مِنْ سَائِرِ مَنْ يَأْتِيكُمْ وَالرِّقَّةُ ضِدُّ الْقَسَاوَةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْفُؤَادُ الْقَلْبُ، وَقِيلَ: بَاطِنُهُ، وَقِيلَ ظَاهِرُهُ، وَالْمَعْنَى هُمْ أَكْثَرُ رِقَّةً وَرَحْمَةً مِنْ جِهَةِ الْبَاطِنِ. (" وَأَلْيَنُ قُلُوبًا ") أَيْ: أَكْثَرُ لِينَةً لِقَبُولِ النَّصِيحَةِ وَالْمَوْعِظَةِ مِنْ قُلُوبِ سَائِرِ النَّاسِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَصَفَ الْأَفْئِدَةَ بِالرِّقَّةِ وَالْقُلُوبَ بِاللِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ أَنَّ الْفُؤَادَ غِشَاءُ الْقَلْبِ إِذَا رَقَّ نَفَذَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَخَلُصَ إِلَى مَا وَرَاءُ، وَإِذَا غِلَظَ تَعَذَّرَ وُصُولُهُ إِلَى دَاخِلِهِ، فَإِذَا صَادَفَ الْقَلْبَ لَيِّنًا عَلِقَ بِهِ وَنَجَعَ فِيهِ. وَقَالَ الْقَاضِي: الرِّقَّةُ ضِدُّ الْغِلْظَةِ وَالصَّفَاقَةِ وَاللِّينُ مُقَابِلُ الْقَسَاوَةِ، فَاسْتُعِيرَتْ فِي أَحْوَالِ الْقَلْبِ، فَإِذَا نَبَا عَنِ الْحَقِّ وَأَعْرَضَ عَنْ قَبُولِهِ وَلَمْ يَتَأَثَّرْ عَنِ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ، يُوصَفُ بِالْغِلْظَةِ، فَكَانَ شِغَافُهُ صَفِيقًا لَا يَنْفُذُ فِيهِ الْحَقُّ وَجِرْمُهُ صَلْبٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْوَعْظُ، وَإِذَا كَانَ بِعَكْسِ ذَلِكَ يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ وَاللِّينِ فَكَانَ حِجَابُهُ رَقِيقًا لَا يَأْبَى نُفُوذَ الْحَقِّ، وَجَوْهَرُهُ لَيِّنٌ يَتَأَثَّرُ بِالنُّصْحِ، ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ أَتْبَعَهُ مَا هُوَ كَالنَّتِيجَةِ وَالْغَايَةِ بِقَوْلِهِ:(" الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ") ، فَإِنَّ صَفَاءَ الْقَلْبِ وَرِقَّتَهُ وَلِينَ جَوْهَرِهِ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى عِرْفَانِ الْحَقِّ وَالتَّصَدِّي بِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالِانْقِيَادُ لِمَا يُوجِبُهُ وَيَقْتَضِيهِ، وَالتَّيَقُّظُ وَالِاتِّقَاءُ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ وَهُوَ الْحِكْمَةُ، فَتَكُونُ قُلُوبُهُمْ مَعَادِنَ الْإِيمَانِ وَيَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ قُلُوبٌ مَنْشَؤُهَا الْيَمَنُ نُسِبَ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ وَالْحِكْمَةُ مَعًا لِانْتِسَابِهَا إِلَيْهِ تَنْوِيهًا بِذِكْرِهِمَا وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمَا.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْفُؤَادِ وَالْقَلْبِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي كَوْنِهِمَا مُتَرَادِفَيْنِ فَكَرَّرَ لِيُنَاطَ بِهِ مَعْنًى غَيْرَ الْمَعْنَى السَّابِقِ، فَإِنَّ الرِّقَّةَ مُقَابِلَةٌ لِلْغِلْظَةِ وَاللِّينَ مُقَابِلٌ لِلشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ، فَوُصِفَتْ أَوَّلًا بِالرِّقَّةِ لِيُشِيرَ إِلَى التَّخَلُّقِ مَعَ النَّاسِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْإِخْوَانِ. قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وَثَانِيًا بِاللِّينِ لِيُؤْذَنَ بِأَنَّ الْآيَاتِ النَّازِلَةَ وَالدَّلَائِلَ الْمَنْصُوبَةَ نَاجِعَةٌ فِيهَا وَصَاحِبُهَا مُقِيمٌ عَلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ:" «الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» " يَشْمَلُ حُسْنَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُعَاشَرَةِ مَعَ النَّاسِ، فَلِشِدَّةِ شَكِيمَةِ الْيَهُودِ وَعِنَادِهِمْ، قِيلَ فِيهِمْ:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةٍ} [البقرة: 74] وَلِلِينِ جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ وُصِفُوا بِقَوْلِهِ {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] اهـ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْإِيمَانُ يَمَانٍ هُوَ نِسْبَتُهُ إِلَى الْيَمَنِ، وَالْأَلِفُ فِيهِ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ النِّسْبَةِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَكَّةُ مِنْ أَرْضِ تِهَامَةَ، وَتِهَامَةُ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ وَمَا وَلِيَهَا مَنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تَهَائِمُ، فَمَكَّةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَمَانِيَةٌ، وَفِيهَا ظَهَرَ الْإِيمَانُ. قَالَ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ بِتَبُوكَ، وَمَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ حِينَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَمَنِ، فَأَشَارَ إِلَى نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَهُوَ يُرِيدُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَقِيلَ: عَنَى بِهَذَا الْقَوْلِ الْأَنْصَارَ لِأَنَّهُمْ يَمَانُونَ وَهُمْ نَصَرُوا الْإِيمَانَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَوَوْهُمْ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ وُجُوهٌ مُتَقَارِبَةٌ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ بُعْدِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْكَلَامِ وَالثَّانِي، فَإِنَّهُ أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ، وَالْجُمْهُورُ مِنْهُمْ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَمَا حَوْلَهُمَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُشِيرَ لَهُمْ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَهْلُ الْيَمَنِ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانُ إِشْعَارًا بِكَمَالِهِ فِيهِمْ، وَالْمُرَادُ الْمَوْجُودُونَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا كُلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَانِ، فَالْمَقْصُودُ تَفْضِيلُ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ:" «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ» " ثُمَّ قَوْلُهُ: " الْإِيمَانُ يَمَانٍ " لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حِجَازِيًّا، وَإِنَّمَا يَنْبِي عَنِ اسْتِعْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ لِقَبُولِ ذَلِكَ، وَفُشُوِّهِ فِيهِمْ وَاسْتِقْرَارِ أَمْرِهِمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فُتِحَتْ بِأَمْدَادِهِمُ الشَّامُ وَالْعِرَاقُ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ثُمَّ قَوْلُهُ:" وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ " بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ فَقِيلَ: أَرَادَ بِهَا الْفِقْهَ فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: كُلُّ كَلِمَةٍ صَالِحَةٍ تَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْهَلَكَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ قُلُوبُهُمْ مَعَادِنَ الْإِيمَانِ وَيَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَكَانَتِ الْخَصْلَتَانِ مُنْتَهَى هِمَمِهِمْ نَسَبَ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ إِلَى مَعَادِنِ نُفُوسِهِمْ وَمَسَاقِطِ رُؤُوسِهِمْ نِسْبَةَ الشَّيْءِ إِلَى مَقَرِّهِ (وَالْفَخْرُ) أَيِ: الِافْتِخَارُ بِالْمُبَاهَاةِ وَالْمُنَافَسَةِ فِي الْأَشْيَاءِ الْخَارِجَةِ عَنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ كَالْمَالِ وَالْجَاهِ، (" وَالْخُيَلَاءُ ") : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ مَمْدُودَةٍ، وَهِيَ التَّكَبُّرُ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ أَفْضَلُ.

ص: 4036

مِنْ غَيْرِهِ وَيَمْنَعُهُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ (" فِي أَصْحَابِ الْإِبِلِ ") وَفِي مَعْنَاهَا الْخَيْلُ، بَلْ هِيَ أَدْهَى بِالْوَيْلِ، وَسَيَأْتِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَةِ:(" وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ")، أَيِ: التَّأَنِّي وَالْحِلْمُ وَالْأُنْسُ (" فِي أَهْلِ الْغَنَمِ ") . قَالَ الْقَاضِي: تَخْصِيصُ الْخُيَلَاءِ بِأَصْحَابِ الْإِبِلِ، وَالْوَقَارُ بِأَهْلِ الْغَنَمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَطَةَ الْحَيَوَانِ تُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ وَتُعَدِّي إِلَيْهَا هَيْئَاتٍ وَأَخْلَاقًا تُنَاسِبُ طِبَاعَهَا وَتُلَائِمُ أَحْوَالَهَا، قُلْتُ: وَلِهَذَا قِيلَ الصُّحْبَةُ تُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ، وَلَعَلَّ هَذَا أَيْضًا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ رَعَى الْغَنَمَ، وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ وَرَابِطَةُ النِّظَامِ بَيْنَ فُصُولِ الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ وَالْحِكْمَةُ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْإِبِلِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْفَخْرُ، وَأَهْلُ الْغَنَمِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ السُّكُونُ، فَمَنْ أَرَادَ صُحْبَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ، فَعَلَيْهِ بِمُصَاحَبَةِ نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى وَجْهِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى:"؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى إِظْهَارِ مُعْجِزَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْيَمَنِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ قِلَّةِ أَهْلِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَطْرَافِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَثْرَةِ خَلَائِقِهِمْ قَلِيلُونَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ: " الْإِيمَانُ يَمَانٍ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "«أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَضْعَفُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ»

".

ص: 4037

6268 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6268 -

(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " رَأْسُ الْكُفْرِ ")، أَيْ: مُعْظَمُهُ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ مَنْشَؤُهُ (" نَحْوَ الْمَشْرِقِ ")، بِالنَّصْبِ قَالَ الطِّيبِيُّ نَحْوَهُ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، أَيْ: ظُهُورُ الْكُفْرِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: مِنْهُ يَظْهَرُ الْكُفْرُ وَالْفِتَنُ كَالدَّجَّالِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِاخْتِصَاصِ الْمَشْرِقِ بِهِ مَزِيدُ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ حِينَ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنَ الْمَشْرِقِ فَإِنَّهُ مَنْشَأُ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ وَمَثَارُ الْكُفْرِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ، نَقْلًا عَنِ الْبَاجِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فَارِسَ وَأَنْ يُرِيدَ نَجْدًا (" وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ ")، قَالَ الرَّاغِبُ: الْخُيَلَاءُ التَّكَبُّرُ عَنْ تَخَيُّلِ فَضِيلَةٍ تَرَاءَتْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْهَا يَتَأَوَّلُ لَفْظُ الْخَيْلِ مَا قِيلَ أَنَّهُ لَا يَرْكَبُ أَحَدٌ فَرَسًا إِلَّا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ نَخْوَةً، وَالْخَيْلُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْأَفْرَاسِ وَالْفُرْسَانِ جَمِيعًا اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْخَيْلَ اسْمٌ حَتَّى لِلْفَرَسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] أَمَّا قَوْلُهُ: " يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبُوا " فَمَجَازٌ. (" وَالْفَدَّادِينَ ") : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: وَفِي الْفَلَّاحِينَ عَطْفٌ عَلَى أَهْلِ الْخَيْلِ وَقَوْلُهُ: (" أَهْلُ الْوَبَرِ ") ، بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُوَحَّدَةِ شَعْرُ الْإِبِلِ وَهُوَ بِالْجَرِّ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ سُكَّانُ الصَّحَارِي، لِأَنَّ بُيُوتَهُمْ غَالِبًا خِيَامٌ مِنَ الشَّعْرِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْفَدَّادُونَ بِالتَّشْدِيدِ الَّذِينَ تَعْلُو أَصْوَاتُهُمْ فِي حُرُوثِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، وَاحِدُهُمْ فَدَّادٌ، يُقَالُ: فَدَّ الرَّجُلُ يَفِدُّ فَدِيدًا إِذَا اشْتَدَّ صَوْتُهُ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُكْثِرُونَ مِنَ الْإِبِلِ، وَقِيلَ: هُمُ الْجَمَّالُونَ وَالْبَقَّارُونَ وَالْحَمَّارُونَ وَالرُّعْيَانِ، وَقِيلَ: الْفَدَادُونَ بِالتَّخْفِيفِ جَمْعُ فَدَّادٍ مُشَدَّدًا، وَهِيَ الْبَقَرَةُ الَّتِي تُحْرَثُ بِهَا وَأَهْلُهَا أَهْلُ جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِذَا رُوِيَ بِالتَّخْفِيفِ تَقْدِيرُهُ: وَفِي أَهْلِ الْفَدَّادِينَ، وَأَرَى أَصْوَبَ الرِّوَايَتَيْنِ بِالتَّشْدِيدِ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الَّذِي يَتْلُو هَذَا الْحَدِيثَ، وَالْجَفَاءُ الْغِلَظُ فِي الْفَدَّادِينَ وَالتَّخْفِيفُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَتَقْدِيرُ الْحَذْفِ فِيهِ مُسْتَبْعَدٌ رِوَايَةً وَمَعْنًى، فَرَدَدْنَا الْمُخْتَلِفَ فِيهِ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ صَحَّ «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى مُسْكَةً وَشَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحَرْثِ فَقَالَ: " مَا دَخَلَ هَذَا دَارَ قَوْمٍ إِلَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ» " وَأَيْنَ إِيقَاعُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ مِنْ مَوْقِعِ الذُّلِّ؟ قُلْتُ: لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ عَمَّا سَيَقَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ أَنَّ كَثْرَةَ الزِّرَاعَةِ تَكُونُ سَبَبًا لِلِافْتِخَارِ وَالتَّكَبُّرِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَرْبَابِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْمَزَارِعِ الْكَثِيرَةِ فِي الْعَجَمِ بِحَيْثُ أَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَ فِي الْمَحَافِلِ عَلَى أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ، بَلْ لَهُمُ اعْتِبَارٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْمُلُوكِ حَتَّى يَصِيرَ أَكْثَرُهُمْ وُزَرَاءَ لَهُمْ وَكُبَرَاءَ عِنْدَ سَائِرِ رَعِيَّتِهِمْ. (" وَالسَّكِينَةُ ") ، أَيِ: الْوَقَارُ وَالَتَأَنِّي وَالْحِلْمُ وَالْأُنْسُ (" فِي أَهْلِ الْغَنَمِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ. قَالَ مِيرَكُ: إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَقُلْ: وَالْفَدَّادِينَ بِالْوَاوِ، بَلْ هِيَ مَحْذُوفَةٌ فِيهِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ ثَابِتَةٌ، فَعَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ نَعْتٌ لِأَهْلِ الْخَيْلِ، وَعَلَى إِثْبَاتِهِ عَطْفٌ عَلَيْهَا. قُلْتُ: فَعَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مُرَادٌ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ يُرَادُ التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى الْخَيْلِ بِرِوَايَةِ تَخْفِيفِ الْفَدَّادِينَ، وَعَلَى أَهْلِ الْخَيْلِ بِرِوَايَةِ التَّشْدِيدِ وَاللَّهُ الْمُلْهِمُ لِلتَّسْدِيدِ.

ص: 4037

6269 -

وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنْ هَاهُنَا جَاءَتِ الْفِتَنُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالْجَفَاءُ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6269 -

(وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مِنْ هَاهُنَا جَاءَتِ الْفِتَنُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ ") : حَالٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: " مِنْ هَاهُنَا جَاءَتِ الْفِتَنُ " مُشِيرًا نَحْوَ الْمَشْرِقِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّاوِي مُدْرَجًا عَلَى قَصْدِ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " هَاهُنَا ". (" وَالْجَفَاءُ ") ، بِالْمَدِّ وَهُوَ ضِدُّ الْوَفَاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْجَفَاءُ نَقِيضُ الصِّلَةِ وَيُقْصَرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَاهُنَا غِلَظُ الْأَلْسِنَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:(" وَغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ ") : بَيَانٌ لِلْفَدَّادِينَ، وَيُرَادُ بِأَهْلِ الْوَبَرِ الْأَعْرَابُ أَوْ سُكَّانُ الصَّحَارِي، وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ لِبُعْدِهِمْ عَنِ الْمُدُنِ وَالْقُرَى الْمُوجِبِ لِقِلَّةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِهِ حُسْنُ الْأَخْلَاقِ لَهُمْ وَسَائِرُ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ تَعَالَى:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] . وَفِي الْحَدِيثِ: " مَنْ بَدَا جَفَا ". (" عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ")، أَيْ: هُمْ تَبَعٌ لِأُصُولِهَا وَيَمْشُونَ خَلْفَهَا لِلرَّعْيِ فِيهِمَا أَوْ لِإِثَارَةِ الْأَرْضِ خَلْفَ الْبَقَرِ وَلِسَقْيِ الْمَاءِ خَلْفَهُمَا، فَالْمُرَادُ بِهِمُ الَأَّكَارُونَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَتْبُوعَ تَابِعًا وَالتَّابِعَ مَتْبُوعًا، فَعَكَسُوا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ مَوْضُوعًا وَمَشْرُوعًا، وَإِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: عِنْدَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: الْفَدَّادِينَ عَلَى تَأْوِيلِ الَّذِينَ بِهِمْ جَلَبَةٌ وَصِيَاحٌ عِنْدَ سَوْقِهِمْ لَهَا ; لِأَنَّ سَائِقَ الدَّوَابِّ إِنَّمَا يَعْلُو صَوْتُهُ خَلْفَهَا. (" فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ؟ ") . إِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَذِهِ الطَّائِفَةُ فِيهِمْ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِقَوْلِهِ: وَالْجَفَاءُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْفَدَّادِينَ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

) .

ص: 4038

6270 -

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ فِي الْمَشْرِقِ وَالْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

6270 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ فِي الْمَشْرِقِ ")، وَلَفْظُ الْجَامِعِ: فِي أَهْلِ الْمَشْرِقِ (" وَالْإِيمَانُ ") : وَلَفْظُ الْجَامِعِ: وَالسَّكِينَةُ وَالْإِيمَانُ (" فِي أَهْلِ الْحِجَازِ ") . أَيْ: مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَحَوَالَيْهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِهِ الْأَنْصَارَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

ص: 4038

6271 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي نَجْدِنَا. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي نَجْدِنَا، فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

6271 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا» ")، لَعَلَّ تَقْدِيرَهُ عَلَى الْيَمَنِ مُشْكِلٌ إِلَى أَنَّهُ مُبَارَكٌ فِي أَصْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] وَلِوُجُودِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِ، فَالْمُرَادُ زِيَادَةُ الْبَرَكَةِ أَوِ الْبَرَكَةُ الْحَاصِلَةُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْخُصُوصِ (" «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا» ") . أَيْ: بَرَكَةً ظَاهِرِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً، وَلِهَذَا كَثُرَ الْأَوْلِيَاءُ فِيهِمْ، وَالظَّاهِرُ فِي وَجْهِ تَخْصِيصِ الْمَكَانَيْنِ بِالْبَرَكَةِ لِأَنَّ طَعَامَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَجْلُوبٌ مِنْهُمَا. (قَالُوا)، أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَفِي نَجْدِنَا) ؟ عَطْفُ تَلْقِينٍ وَالْتِمَاسٍ أَيْ: قُلْ: وَفِي نَجْدِنَا لِيَحْصُلَ الْبَرَكَةُ لَنَا مِنْ صَوْبِهِ أَيْضًا، وَالنَّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا دُونَ الْحِجَازِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ خِلَافُ الْغَوْرِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ. (قَالَ: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا» ") : قَالَ الْأَشْرَفُ: إِنَّمَا دَعَا لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ لِأَنَّ مَوْلِدَهُ بِمَكَّةَ، وَهُوَ مِنَ الْيَمَنِ، وَمَسْكَنُهُ وَمَدْفَنُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ مِنَ الشَّامِ، وَنَاهِيكَ مِنْ فَضْلِ النَّاحِيَتَيْنِ أَنَّ إِحْدَاهُمَا مَوْلِدُهُ، وَالْأُخْرَى مَدْفِنُهُ، فَإِنَّهُ أَضَافَهُمَا إِلَى نَفْسِهِ، وَأَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا وَكَرَّرَ الدُّعَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَفِي نَجْدِنَا؟ فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ) : يَعْنِي أَوْ فِي الثَّانِيَةِ (" هُنَاكَ ")، أَيْ: فِي نَاحِيَةِ نَجْدٍ وَهُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: نَحْوَ الْمَشْرِقِ (" الزَّلَازِلُ ")، أَيِ: الْحِسِّيَّةُ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ تَزَلْزُلُ الْقُلُوبِ وَاضْطِرَابُ أَهْلِهَا (" وَالْفِتَنُ ")، أَيِ: الْبَلِيَّاتُ وَالْمِحَنُ الْمُوجِبَةُ لِضَعْفِ الدِّينِ وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ، فَلَا يُنَاسِبُهُ دَعْوَةُ الْبَرَكَةِ لَهُ (" وَبِهَا ")، أَيْ: بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ وَنَوَاحِيهَا (" يَطْلُعُ ") : بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: يَظْهَرُ (" قَرْنُ الشَّيْطَانِ ") . أَيْ: حِزْبُهُ وَأَهْلُ وَقْتِهِ وَزَمَانِهِ وَأَعْوَانُهُ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَكَذَا مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ.

ص: 4038

الْفَصْلُ الثَّانِي

6272 -

عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ قِبَلَ الْيَمَنِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَقْبِلْ بِقُلُوبِهِمْ وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

6272 -

(عَنْ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) : هَذَا نَقْلُ الصَّحَابِيِّ عَنْ مِثْلِهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ نَقْلِ الْأَقْرَانِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ نَقْلِ الْأَصَاغِرِ عَنِ الْأَكَابِرِ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ قِبَلَ الْيَمَنِ)، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: إِلَى جَانِبِهِ (فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَقْبِلْ ") : أَمْرٌ مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (" بِقُلُوبِهِمْ ") ، لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى اجْعَلْ قُلُوبَهُمْ مُقْبِلَةً إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا دَعَا بِذَلِكَ لِأَنَّ طَعَامَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ يَأْتِيهِمْ مِنَ الْيَمَنِ، وَلِذَا عَقَّبَهُ بِبَرَكَةِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ لِطَعَامٍ يُجْلَبُ لَهُمْ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ:(" وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا ") . وَأَرَادَ بِهِمَا الطَّعَامَ الْمُكْتَالَ بِهِمَا، فَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الظَّرْفِ وَإِرَادَةِ الْمَظْرُوفِ أَوِ الْمُضَافُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: طَعَامِ صَاعِنَا وَمُدِّنَا، ثُمَّ الصَّاعُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ كُلُّ مُدٍّ رَطْلٌ وَثُلُثٌ، وَالرَّطْلُ وَيُكْسَرُ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: مِعْيَارُ الْمُدِّ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفَّيِ الرَّجُلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ وَلَا بِصَغِيرِهِمَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَكَانٍ يُوجَدُ فِيهِ صَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ. وَجَرَّبْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ صَحِيحًا، تَمَّ كَلَامُهُ.

وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجْهُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مَا زَالُوا فِي شِدَّةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَعَوَزٍ مِنَ الزَّادِ لَا تَقُومُ أَقْوَاتُهُمْ لِحَاجَتِهِمْ، فَلَمَّا دَعَا اللَّهَ بِأَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْيَمَنِ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ وَهُوَ الْجَمُّ الْغَفِيرُ دَعَا اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِيَتَّسِعَ عَلَى الْقَاطِنِ بِهَا وَالْقَادِمِ عَلَيْهَا، فَلَا يَسْأَمُ الْمُقِيمُ مِنَ الْقَادِمِ عَلَيْهِ، وَلَا تَشُقُّ الْإِقَامَةُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

وَفِي الْجَامِعِ: " «اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَكَ وَخَلِيلَكَ دَعَاكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أَدْعُوكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ مِثْلَ مَا بَارَكْتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ.

ص: 4039

6273 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «طُوبَى لِلشَّامِ. قُلْنَا: لِأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

6273 -

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " طُوبَى لِلشَّامِ ")، أَيْ: حَالَةٌ طَيِّبَةٌ لَهَا وَلِأَهْلِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: طُوبَى مَصْدَرٌ مِنْ طَابَ كَبُشْرَى وَزُلْفَى، وَمَعْنَى طُوبَى لَكَ أَصَبْتَ خَيْرًا وَطَيِّبًا (قُلْنَا: لِأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ؟ بِتَنْوِينِ الْعِوَضِ فِي أَيٍّ أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ: لِأَيِّ سَبَبٍ قُلْتَ ذَلِكَ؟ وَقَدْ أُثْبِتَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ لَفْظُ شَيْءٍ، وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: حُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، وَأُجْرِيَ إِعْرَابُهُ عَلَى الْمُضَافِ اهـ. وَغَرَابَتُهُ لَا تَخْفَى (قَالَ:" لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ ") : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ (" بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى بُقْعَةِ الشَّامِ وَأَهْلِهَا بِالْمُحَافَظَةِ عَنِ الْكُفْرِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ بِلَفْظِ:" طُوبَى لِلشَّامِ إِنَّ الرَّحْمَنَ لَبَاسِطٌ رَحْمَتَهُ عَلَيْهِ " أَيْ: عَلَى بَلَدِ الشَّامِ فَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ بِاعْتِبَارَيْنِ.

ص: 4039

6274 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ نَحْوِ حَضْرَمَوْتَ أَوْ مِنْ حَضْرَمَوْتَ تَحْشُرُ النَّاسَ. قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

6274 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " سَتَخْرُجُ نَارٌ ") : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْفِتْنَةُ (" مِنْ نَحْوِ «حَضْرَمَوْتَ» ") ، بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحَتَيْنِ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ، فَفِي الْقَامُوسِ: حَضْرَمَوْتُ وَبِضَمِّ الْمِيمِ بَلَدٌ وَقَبِيلَةٌ، وَيُقَالُ: هَذَا حَضْرَمَوْتُ، وَيُضَافُ فَيُقَالُ: حَضْرُمَوْتٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِنْ شِئْتَ لَا تُنَوِّنِ الثَّانِيَ (" أَوْ مِنْ حَضْرَمَوْتَ ")، أَيْ: مِنْ جَانِبِهَا الْمُقْتَصِّ عَنْهَا (" تَحْشُرُ النَّاسَ ") :

ص: 4039

أَيْ: تَجْمَعُهُمُ النَّارُ وَتَسُوقُهُمْ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا) ؟ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ (قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ ") . أَيْ خُذُوا طَرِيقَهَا وَالْزَمُوا فَرِيقَهَا، فَإِنَّهَا سَالِمَةٌ مِنْ وُصُولِ النَّارِ الْحِسِّيَّةِ أَوِ الْحُكْمِيَّةِ إِلَيْهَا حِينَئِذٍ، لِحِفْظِ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ إِيَّاهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ رَأْيَ عَيْنٍ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا فِتْنَةٌ عَبَّرَ عَنْهَا بِالنَّارِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ يَعْنُونَ فِي التَّوَقِّي عَنْهَا. فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 4040

6275 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَخِيَارُ النَّاسِ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

6275 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّهَا ")، أَيِ: الْقِصَّةُ (" سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ ") . قَالَ الشَّارِحُونَ: كَانَ مِنْ حَقِّ الثَّانِيَةِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا مَعَ لَامِ الْعَهْدِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْهِجْرَةُ الْوَاجِبَةُ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَا مُنَكَّرَةً لِتُسَاوِقَ الْأُولَى فِي الصِّيغَةِ مَعَ إِضْمَارٍ فِي الْكَلَامِ أَيْ: بَعْدَ هِجْرَةٍ حَقَّتْ وَوَجَبَتْ، وَإِنَّمَا حَسُنَ الْحَذْفُ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ، وَالْمَعْنَى سَتَكُونُ هِجْرَةٌ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ هِجْرَةٍ كَانَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَذَلِكَ حِينَ تَكْثُرُ الْفِتَنُ، وَيَقِلُّ الْقَائِمُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي الْبِلَادِ، وَيَسْتَوْلِي الْكَفَرَةُ الطُّغَاةُ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَيَبْقَى الشَّامُ تَسُومُهَا الْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ مَنْصُورَةً عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يُقَاتِلُوا الدَّجَّالَ، فَالْمُهَاجِرُ إِلَيْهَا حِينَئِذٍ فَازَ بِدِينِهِ مُلْتَجِئٌ إِلَيْهَا لِإِصْلَاحِ آخِرَتِهِ، يَكْثُرُ سَوَادُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ الْقَائِمِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَصْرِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ التَّكْرِيرُ كَمَا فِي قَوْلِكَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ أَيْ: أُلَبِّكَ إِلْبَابًا بَعْدَ إِلْبَابٍ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ:(" فَخِيَارُ النَّاسِ ") : يُلَوِّحُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ تَفْصِيلٌ لِلْمُجْمَلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: سَيَحْدُثُ لِلنَّاسِ مُفَارَقَةٌ مِنَ الْأَوْطَانِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يُفَارِقُ وَطَنَهُ إِلَى آخَرَ، وَيَهْجُرُهُ هِجْرَةً بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُهُمْ مَنْ يُهَاجِرُ أَوْ يَرْغَبُ (" إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ ") : عليه السلام وَهُوَ الشَّامُ اهـ.

وَقَوْلُهُ: إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ: مَوْضِعِ هِجْرَتِهِ وَإِلَى مُخَفَّفَةُ الْيَاءِ الْمُنْقَلِبَةِ إِلَى الْأَلِفِ عَلَى أَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ مُجَرَّدٌ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ فَخِيَارُ النَّاسِ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى مُهَاجَرَةٍ، لِأَنَّ الْمُهَاجِرَ حِينَئِذٍ فَازَ بِدِينِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إِلَيَّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى أَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِخِيَارٍ، وَحِينَئِذٍ (مُهَاجَرُ) مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ تَقْدِيرُهُ، فَخِيَارُ النَّاسِ مُهَاجِرٌ هَاجَرَ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُعْرِبَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِإِعْرَابِهِ، وَالْمُرَادُ بِمُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ الشَّامُ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْعِرَاقِ مَضَى إِلَى الشَّامِ.

(وَفِي رِوَايَةٍ: " فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ ")، أَيْ: أَكْثَرُهُمْ لُزُومًا (" مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ ") عليه السلام بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيِ: الشَّامُ، فَمُهَاجَرَ بِالنَّصْبِ ظَرْفٌ أُلْزِمَ وَهُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَمِلَ فِي اسْمِ الظَّاهِرِ (" وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا ")، أَيْ: أَهْلُ الْأَرْضِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ (" تَلْفِظُهُمْ ") : بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: تَرْمِيهِمْ (" أَرَضُوهُمْ ") ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْمَعْنَى تَرْمِي شِرَارَ النَّاسِ أَرَاضِيهِمْ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى. قَالَ الشُّرَّاحُ: يَعْنِي يَنْتَقِلُ مِنَ الْأَرَاضِي الَّتِي يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْكَفَرَةُ خِيَارُ أَهْلِهَا، وَيَبْقَى خِسَاسٌ تَخَلَّفُوا عَنِ الْمُهَاجِرِينَ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا، وَرَهْبَةً عَنِ الْقِتَالِ، وَحِرْصًا عَلَى مَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا مِنْ ضِيَاعٍ وَمَوَاشٍ وَنَحْوِهِمَا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَهُمْ لِخِسَّةِ نُفُوسِهِمْ، وَضَعْفِ دِينِهِمْ كَالشَّيْءِ الْمُسْتَرْذَلِ الْمُسْتَقْذَرِ عِنْدَ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ، وَكَأَنَّ الْأَرْضَ تَسْتَنْكِفُ عَنْهُمْ فَتَقْذِفُهُمْ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُهُمْ فَيُبْعِدُهُمْ مِنْ مَظَانِّ رَحْمَتِهِ، وَمَحَلِّ كَرَامَتِهِ ; إِبْعَادَ مَنْ يَسْتَقْذِرُ الشَّيْءَ وَيَنْفِرُ عَنْهُ طَبْعُهُ، فَلِذَلِكَ مَنَعَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ. وَثَبَّطَهُمْ قُعُودًا مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] فَقَوْلُهُ: (تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ) ، مِنَ التَّمْثِيلَاتِ

ص: 4040

الْمُرَكَّبَةِ الَّتِي لَا طَلَبَ لِمُفْرَدَاتِهِ مُمَثَّلًا وَمُمَثَّلًا بِهِ مِثْلَ شَابَتْ لَمَّةُ اللَّيْلِ وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: تَقْذَرُهُمْ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ قَذِرْتُ الشَّيْءَ بِالْكَسْرِ أَيْ: كَرِهْتُهُ، وَنَفْسُ اللَّهِ بِسُكُونِ الْفَاءِ أَيْ: ذَاتُهُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مُضَافٌ وَمُضَافٌ إِلَيْهِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَإِثْبَاتَ شَيْئَيْنِ، لَكِنَّهُ جَازَ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِبَارُ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ تَعَالَى اللَّهُ عَنِ الْإِثْنَوِيَّةِ وَمُشَابَهَتِهِ لِلْمُحْدَثَاتِ عُلُوًّا كَبِيرًا (تَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ) أَيْ: تُلَازِمُهُمُ النَّارُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَتَجْمَعُهُمْ مَعَ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ هُمْ بِاعْتِبَارِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، كَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ. (" تَبِيتُ ")، أَيِ: النَّارُ (" مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وَتَقِيلُ ") : بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: تَضْحَى وَتَظَلُّ النَّارُ (" مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا ") . أَيْ: أَضْحَوْا وَظَلُّوا، وَهُوَ مِنَ الْقَيْلُولَةِ وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ بِالنَّهَارِ، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنِفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِدَوَامِ الْمُلَازَمَةِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا أَوْ حَالٌ مِنْهُ، وَأَمَّا الْجُمَلُ السَّابِقَةُ فَكُلُّهَا مُسْتَأْنِفَةٌ أَجْوِبَةً لِلْأَسْئِلَةِ الْمُقَدَّرَةِ.

قَالَ الْمُظْهِرُ: النَّارُ هَاهُنَا الْفِتْنَةُ يَعْنِي تَحْشُرُهُمْ نَارُ الْفِتْنَةِ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، وَأَقْوَالِهِمْ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، لِكَوْنِهِمْ مُتَخَلِّقِينَ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي بُلْدَانِهِمْ، فَيَخْتَارُونَ جَلَاءَ أَوْطَانِهِمْ وَيَتْرُكُونَهَا، وَالْفِتْنَةُ تَكُونُ لَازِمَةً لَهُمْ، وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُمْ حَيْثُ يَكُونُونَ وَيَنْزِلُونَ وَيَرْحَلُونَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 4041

6276 -

وَعَنِ ابْنِ حَوَالَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَيَصِيرُ الْأَمْرُ أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً جُنْدٌ بِالشَّامِ وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ، فَقَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا خِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيَرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

6276 -

(وَعَنِ ابْنِ حَوَالَةَ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " سَيَصِيرُ الْأَمْرُ ") ، أَيْ: أَمْرُ الْإِسْلَامِ أَوْ أَمْرُ الْقِتَالِ (" أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا ")، أَيْ: عَسَاكِرَ (" مُجَنَّدَةً ")، بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: مَجْمُوعَةً فِي كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مُخْتَلِفَةً فِي مُرَاعَاةِ الْأَحْكَامِ (" جُنْدٌ بِالشَّامِ، وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ، وَجُنْدٌ بِالْعِرَاقِ ")، أَيْ: عِرَاقُ الْعَرَبِ وَهُوَ الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ، أَوْ عِرَاقُ الْعَجَمِ وَهُوَ مَا وَرَاءَهَا دُونَ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ. (فَقَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: خِرْ لِي) : بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَمْرٌ مِنَ الْخِيَرَةِ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ، أَيِ: اخْتَرْ لِي جُنْدًا أَلْزَمُهُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ)، أَيْ: ذَلِكَ الْوَقْتَ (فَقَالَ: " عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهَا ") أَيِ: الشَّامَ (خِيَرَةُ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَدْ يُسَكَّنُ أَيْ: مُخْتَارَةُ (اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ) أَيْ: مِنْ بِلَادِهِ فَفِيهَا خَيْرُ عِبَادِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخِيرُ بِسُكُونِ الْيَاءِ الِاسْمُ مِنْ خَارَ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَهِيَ الِاسْمُ مِنْ قَوْلِكَ اخْتَارَ، وَمُحَمَّدٌ خِيَرَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ بِالْفَتْحِ وَالسُّكُونِ اهـ.

وَالْمَعْنَى اخْتَارَهَا اللَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ لِلْإِقَامَةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (" يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيَرَتَهُ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ ثُمَّ مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ فِي قَوْلِهِ:(" مِنْ عِبَادِهِ ") قَالَ شَارِحٌ: يَجْتَبِي يَفْتَعِلُ مِنْ جَبَوْتُ الشَّيْءَ، وَجَبَيْتُهُ: جَمَعْتُهُ، فَالْمَعْنَى يَجْمَعُ اللَّهُ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ الْمُخْتَارِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَجْتَبِي لَازِمًا أَيْ: يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا الْمُخْتَارُونَ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: خِيَرَتُهُ مَرْفُوعٌ بِأَنَّهُ فَاعِلُ يَجْتَبِي إِنْ كَانَ مِنَ الِاجْتِبَاءِ اللَّازِمِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الِاجْتِمَاعِ، أَوْ مَنْصُوبٌ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ إِنْ كَانَ مِنَ الِاجْتِبَاءِ الْمُتَعَدِّي، وَهُوَ بِمَعْنَى الِاصْطِفَاءِ وَالِاخْتِيَارِ اهـ.

وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مِنَ الثَّانِي مُوَافَقَةً لِمَا وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 13](" فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ ")، أَيِ: امْتَنَعْتُمْ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى الشَّامِ (" فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ، وَاسْقُوا ") : بِهَمْزِ الْوَصْلِ وَيَجُوزُ قَطْعُهُ أَيْ: أَنْفُسَكُمْ وَدَوَابَّكُمْ (" مِنْ غُدَرِكُمْ ") بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ أَيْ: حِيَاضِكُمْ (" فَإِنَّ اللَّهَ تَوَكَّلَ ")، أَيْ: تَكَفَّلَ (" لِي ")، أَيْ: لِأَجْلِي وَإِكْرَامًا لِي فِي أُمَّتِي، وَقِيلَ صَوَابُهُ تَكَفَّلَ لِي أَيْ ضَمِنَ الْقِيَامَ (بِالشَّامِ)، أَيْ: بِأَمْرِ الشَّامِ وَحِفْظِ أَهْلِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُهُ:

ص: 4041

فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ هَذَا كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ أَدْخَلَهُ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ، أَيِ: الْزَمُوا الشَّامَ وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهَا رَخَّصَ لَهُمْ فِي النُّزُولِ بِأَرْضِ الْيَمَنِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا بُدِئَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الْيَمَنَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِهِ الْعَرَبَ، وَالْيَمَنُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِكُمْ لِيَسْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ غُدَرِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ، وَالْأَجْنَادُ الْمُجَنَّدَةُ بِالشَّامِ، لَا سِيَّمَا أَهْلُ الثُّغُورِ وَالنَّازِلُونَ فِي الْمُرُوجِ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتَّخِذَ كُلُّ فِرْقَةٍ لِنَفْسِهَا غَدِيرًا تَسْتَنْقِعُ فِيهَا الْمَاءَ لِلشُّرْبِ وَالتَّطَهُّرِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ، فَوَصَّاهُمْ بِالسَّقْيِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِمْ وَتَرْكِ الْمُزَاحَمَةِ فِيمَا سِوَاهُ، وَالتَّغَلُّبِ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ وَتَهْيِيجِ الْفِتْنَةِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ قَوْلُهُ فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ وَارِدٌ عَلَى التَّأْنِيبِ وَالتَّغْيِيرِ، يَعْنِي أَنَّ الشَّامَ مُخْتَارَةُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَرْضِهِ، فَلَا يَخْتَارُهَا اللَّهُ لِخِيرَةِ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ أَيَّتُهَا الْعَرَبُ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتَرْتُمْ بِلَادَكُمْ وَمَسْقَطَ رَأْسِكُمْ مِنَ الْبَوَادِي، فَالْزَمُوا يَمَنَكُمْ وَاسْقُوا مِنْ غُدَرِهَا ; لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لَكُمْ مِنْ مِيَاهِ الْبَوَادِي. أَلَا تَرَى كَيْفَ جَمَعَ الضَّمِيرَيْنِ فِي الْقَرِينَتَيْنِ بَعْدَ إِفْرَادِهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكَ بِالشَّامِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّامَ أَوْلَى بِالِاخْتِيَارِ وَالْيَمَنَ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَالْغُدَرُ جَمْعُ غَدِيرٍ وَهُوَ حُفْرَةٌ يُنْقَعُ فِيهَا الْمَاءُ، وَالْعَرَبُ أَكْثَرُ النَّاسِ اتِّخَاذًا لَهَا، وَلِذَلِكَ أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ فِي سَائِرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ، وَالصَّوَابُ قَدْ تَكَفَّلَ لِي وَهُوَ سَهْوٌ إِمَّا فِي أَصْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، فَنُقِلَ عَلَى مَا وُجِدَ. قَالَ الْقَاضِي: أَرَادَ بِالتَّوَكُّلِ التَّكَفُّلَ فَإِنَّ مَنْ تَوَكَّلَ فِي شَيْءٍ، فَقَدْ تَكَفَّلَ بِالْقِيَامِ بِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِي حِفْظَهَا وَحَفِظَ أَهْلِهَا مِنْ بَأْسِ الْكَفَرَةِ وَاسْتِيلَائِهِمْ بِحَيْثُ يَتَخَطَّفُهُمْ وَيُدَمِّرُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) . قَالَ الطِّيبِيُّ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَقَوْلُهُ: لِي لَيْسَ بِصِلَةِ تَوَكَّلَ وَصِلَتُهُ إِمَّا: عَلَى أَوِ: الْبَاءُ وَلَا يَجُوزُ الْأَوَّلُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي أَيْ: تَوَكَّلَ بِالشَّامِ لِأَجْلِي، وَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: تَوَكَّلَ بِالْأَمْرِ إِذَا ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهِ.

ص: 4042

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

6277 -

عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ:«ذُكِرَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَ عَلِيٍّ وَقِيلَ: الْعَنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلًا يُسْقَى بِهِمُ الْغَيْثُ وَيُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَسَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمُ الْعَذَابُ» .

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

6277 -

(عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا حَضْرَمِيٌّ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَجُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَعَنْهُ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ. (قَالَ: ذُكِرَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَ عَلِيٍّ رضي الله عنه) ، أَيْ: بِالسُّوءِ (وَقِيلَ: الْعَنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: لَا)، أَيْ: لَا يَجُوزُ لَعْنُهُمْ، أَوْ لَا أَلْعَنُهُمْ (إِنِّي) : بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «الْأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلًا يُسْقَى بِهِمُ الْغَيْثُ» ") . أَيِ: الْمَطَرُ (أَوْ يُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ ")، أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (" وَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمْ ") . أَيْ: بِبَرَكَتِهِمْ أَوْ بِسَبَبِ وُجُودِهِمْ فِيهَا (" الْعَذَابُ ") . أَيِ: الشَّدِيدُ كَمَا سَيَأْتِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ ثَلَاثَمِائَةِ نَفْسٍ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ آدَمَ، وَلَهُ أَرْبَعُونَ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ مُوسَى، وَلَهُ سَبْعَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَهُ خَمْسَةٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ جِبْرِيلَ، وَلَهُ ثَلَاثٌ قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ مِيكَائِيلَ، وَلَهُ وَاحِدٌ قَلْبُهُ عَلَى قَلْبِ إِسْرَافِيلَ، كُلَّمَا مَاتَ الْوَاحِدُ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْخَمْسَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ مِنَ الْخَمْسَةِ وَاحِدٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ السَّبْعَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ السَّبْعَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْأَرْبَعِينَ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الْأَرْبَعِينَ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ، وَكُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنَ الثَّلَاثِمِائَةِ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ مِنَ الْعَامَّةِ بِهِمْ يُدْفَعُ الْبَلَاءُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَمْ يَذْكُرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَحَدًا عَلَى قَلْبِهِ إِذْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِي عَالَمَيِ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ أَعَزَّ وَأَشْرَفَ وَأَلْطَفَ مِنْ قَلْبِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُسَاوِيهِ وَلَا يُحَاذِيهِ قَلْبُ أَحَدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، سَوَاءٌ كَانُوا أَبْدَالًا أَوْ أَقْطَابًا.

ص: 4042

قَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ السَّيْمَتَانِيُّ فِي كِتَابِ الْعُرْوَةِ لَهُ: وَالْبَدَلُ مِنَ الْبُدَلَاءِ السَّبْعَةِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: هُوَ مِنَ السَّبْعَةِ وَسَيِّدُهُمْ، وَكَانَ الْقُطْبُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَمَّ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ عِصَامًا، فَحَرِيٌّ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَأَجِدُ نَفْسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، وَهُوَ مَظْهَرٌ خَاصٌّ لِلتَّجَلِّي الرَّحْمَانِيِّ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَظْهَرًا خَاصًّا لِلتَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ الْمَخْصُوصِ بِاسْمِ الذَّاتِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ بِالنَّقْلِ أَوِ الْكَشْفِ يَشْكُلُ بِأَنَّهُ كَيْفَ تَكُونُ الْقُطْبِيَّةُ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِالْإِجْمَاعِ؟ مَعَ أَنَّ عِصَامًا هَذَا لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ لَا فِي الصَّحَابَةِ وَلَا فِي التَّابِعِينَ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «خَيْرُ التَّابِعِينَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ» " عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ الْيَافِعِيَّ رحمه الله عَلَى مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ عَنْهُ قَالَ: وَقَدْ سُتِرَتْ أَحْوَالُ الْقُطُوبِ هُوَ الْغَوْثُ عَنِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ غِيرَةً مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ.

ص: 4043

6278 -

وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَتُفْتَحُ الشَّامُ فَإِذَا خُيِّرْتُمُ الْمُنَازِلَ فِيهَا فَعَلَيْكُمْ بِمَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ فَإِنَّهَا مَعْقِلُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَلَاحِمِ وَفُسْطَاطُهَا مِنْهَا أَرْضٌ يُقَالُ لَهَا الْغُوطَةُ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.

ــ

6278 -

(وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ) تَقَدَّمَ أَنَّ جَهَالَةَ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ وَمَرَاسِيلَهُمْ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" سَتُفْتَحُ الشَّامُ ") أَيْ: بِلَادُهَا (" فَإِذَا خَيَّرْتُمُ الْمَنَازِلَ فِيهَا، فَعَلَيْكُمْ بِمَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ) بِكَسْرِ الدَّالِّ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَهُوَ الْآنَ مَشْهُورٌ بِالشَّامِ (فَإِنَّهَا) أَيْ: مَدِينَةُ دِمَشْقٍ (مَعْقِلُ الْمُسْلِمِينَ) : بِفَتْحِ مِيمٍ فَكَسْرِ قَافٍ أَيْ: مَلَاذُهُمْ (" مِنَ الْمَلَاحِمِ ") : بِفَتْحِ مِيمٍ وَكَسْرِ حَاءٍ جَمْعُ الْمَلْحَمَةِ وَهِيَ الْحَرْبُ وَالْقِتَالُ، وَالْمَعْنَى يَتَحَصَّنُ الْمُسْلِمُونَ وَيَلْتَجِؤُونَ إِلَيْهَا كَمَا يَلْتَجِئُ الْوَعْلُ إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ (" وَفُسْطَاطُهَا ") ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَقَدْ يُكْسَرُ، وَهُوَ الْبَلْدَةُ الْجَامِعَةُ لِلنَّاسِ (" وَمِنْهَا ")، أَيْ: مِنْ أَرَاضِي دِمَشْقَ (" أَرْضٌ يُقَالُ لَهَا ") . أَيْ: لِتِلْكَ الْأَرْضِ (" الْغُوطَةُ ") : بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهِيَ اسْمُ الْبَسَاتِينِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي عِنْدَ دِمَشْقَ، وَيُقَالُ لَهَا غُوطَةُ دِمَشْقَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جِنَانُ الدُّنْيَا أَرْبَعٌ: غُوطَةٌ وَمَشْعَرُ نَهْرِ الْإِيلِ، وَشِعْبُ كَدَانَ، وَسَمَرْقَنْدُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ: رَأَيْتُ كُلَّهَا وَفَضْلُ الْغُوطَةِ عَلَى الثَّلَاثِ كَفَضْلِ الْأَرْبَعِ عَلَى غَيْرِهَا. (رَوَاهُمَا)، أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (أَحْمَدُ) . أَيْ: فِي مُسْنَدِهِ.

ص: 4043

6279 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْخِلَافَةُ بِالْمَدِينَةِ وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ» .

ــ

6279 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْخِلَافَةُ) أَيِ: الْحَقَّةُ (بِالْمَدِينَةِ) أَيْ: غَالِبًا لِكَوْنِ عَلِيٍّ فِي الْكُوفَةِ زَمَنَ خِلَافَتِهِ أَوِ الْخِلَافَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ بِالْمَدِينَةِ (وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ) وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْحَسَنِ لَمْ يَصِرْ خَلِيفَةً، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَفِينَةَ:«الْخِلَافَةُ بَعْدِي فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ» .

ص: 4043

6280 -

وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمُودًا مِنْ نُورٍ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي سَاطِعًا حَتَّى اسْتَقَرَّ بِالشَّامِ» رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.

ــ

6280 -

(وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " رَأَيْتُ عَمُودًا ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيِ: اسْطُوَانَةً (" مِنْ نُورٍ ") : وَلَعَلَّهُ أَمْرُ الْخِلَافَةِ الْمُشَبَّهُ بِالْعَمُودِ فِي أَنَّهُ عِمَادُ بِنَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِحْكَامِ ثَبَاتِ الْأَحْكَامِ (" خَرَجَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي سَاطِعًا ")، أَيْ: رَافِعًا لَامِعًا وَاصِلًا أَثَرُهُ فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ (" حَتَّى اسْتَقَرَّ ")، أَيْ: ثَبَتَ ذَلِكَ الْعَمُودُ وَاسْتَمَرَّ (" بِالشَّامِ رَوَاهُمَا ") . أَيِ: الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) : وَوَافَقَهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

ص: 4043