المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب مناقب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[بَابُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[بَابُ صِفَةِ النَّارِ وَأَهْلِهَا]

- ‌[بَابُ خَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ]

- ‌[بَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]

- ‌[كِتَابِ الْفَضَائِلِ] [

- ‌بَابُ فَضَائِلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ]

- ‌[بَابُ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاتِهِ]

- ‌[بَابٌ فِي أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[بَابُ الْمَبْعَثِ وَبَدْءِ الْوَحْيِ]

- ‌[بَابُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْمِعْرَاجِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْمُعْجِزَاتِ]

- ‌[بَابُ الْكَرَامَاتِ]

- ‌[بَابٌ هِجْرَةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ وَوَفَاتُهُ]

- ‌[بَابٌ]

- ‌[كِتَابُ الْمَنَاقِبِ وَالْفَضَائِلِ] [

- ‌بَابُ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ وَذِكْرِ الْقَبَائِلِ]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عُمَرَ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عُثْمَانَ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ الْعَشَرَةِ رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم]

- ‌[بَابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن]

- ‌[بَابُ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ]

- ‌[تَسْمِيَةُ مَنْ سُمِّيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَذِكْرِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ]

- ‌[بَابُ ثَوَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ]

الفصل: ‌[باب مناقب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن]

6183 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ آخِذٌ بِبَابِ الْكَعْبَةِ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " أَلَا إِنَّ مِثْلَ أَهْلِ بَيْتِي فِيكُمْ مِثْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

6183 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ الْغِفَارِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ الصَّحَابَةِ وَزُهَّادِهِمْ، أَسْلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ، وَيُقَالُ: كَانَ خَامِسًا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ سَكَنَ الرَّبَذَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ يَتَعَبَّدُ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (أَنَّهُ قَالَ)، أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (وَهُوَ آخِذٌ)، أَيْ: مُتَعَلِّقٌ (بِبَابِ الْكَعْبَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ الرَّاوِي بِهَذَا مَزِيدَ تَوْكِيدٍ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَا أَبُو ذَرٍّ اهْتَمَّ بِشَأْنِ رِوَايَتِهِ فَأَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى رُءُوسِ الْأَنَامِ لِيَتَمَسَّكُوا بِهِ (سَمِعْتُ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " أَلَا إِنَّ مِثْلَ أَهْلِ بَيْتِي ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ أَيْ شَبَهَهُمْ (" فِيكُمْ مِثْلَ سَفِينَةِ نُوحٍ ") ، أَيْ فِي سَبَبِيَّةِ الْخَلَاصِ مِنَ الْهَلَاكِ إِلَى النَّجَاةِ (" مَنْ رَكِبَ نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ ") . فَكَذَا مَنِ الْتَزَمَ مَحَبَّتَهُمْ وَمُتَابَعَتَهُمْ نَجَا فِي الدَّارَيْنِ وَإِلَّا فَهَلَكَ فِيهِمَا وَلَوْ كَانَ يُفَرِّقُ الْمَالَ وَالْجَاهَ أَوْ أَحَدَهُمَا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) . وَكَذَا الْحَاكِمُ لَكِنْ بِدُونِ لَفْظٍ أَنْ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَبِي ذَرٍّ يَقُولُ: مَنْ عَرَفَنِي فَأَنَا مَنْ قَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(أَلَا إِنَّ مِثْلَ أَهْلِ بَيْتِي) الْحَدِيثَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: فَأَنَا مَنْ قَدْ عَرَفَنِي، وَبِقَوْلِهِ: فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ أَنَا الْمَشْهُورُ بِصِدْقِ اللَّهْجَةِ وَثِقَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ لَا مَجَالَ لِلرَّدِّ فِيهِ وَهَذَا تَلْمِيحٌ إِلَى مَا رُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ» " وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي ذَرٍّ: «مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ وَلَا أَوْفَى مِنْ أَبِي ذَرٍّ شِبْهَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَالْحَاسِدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتَعْرِفُ ذَلِكَ لَهُ؟ قَالَ: " أَعْرِفُ ذَلِكَ فَاعْرِفُوهُ» ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الصَّغَانِيُّ فِي كَشْفِ الْحِجَابِ شَبَّهَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْبِدَعِ وَالْجَهَالَاتِ وَالْأَهْوَاءِ الزَّائِغَةِ بِبَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضِهِ، وَقَدْ أَحَاطَ بِأَكْنَافِهِ وَأَطْرَافِهِ الْأَرْضَ كُلَّهَا وَلَيْسَ مِنْهُ خَلَاصٌ وَلَا مَنَاصَ إِلَّا تِلْكَ السَّفِينَةَ، وَهِيَ مَحَبَّةُ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا أَحْسَنَ انْضِمَامُهُ مَعَ قَوْلِهِ:«مَثَلُ أَصْحَابِي مَثَلُ النُّجُومِ مَنِ اقْتَدَى بِشَيْءٍ مِنْهُ اهْتَدَى» ، وَنِعْمَ مَا قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: نَحْنُ مَعَاشِرَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِحَمْدِ اللَّهِ رَكِبْنَا سَفِينَةَ مَحَبَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَاهْتَدَيْنَا بِنَجْمِ هَدْيِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَرْجُوا النَّجَاةَ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَدَرَكَاتِ الْجَحِيمِ، وَالْهِدَايَةَ إِلَى مَا يُوجِبُ دَرَجَاتِ الْجِنَانِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. اهـ.

وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْخُلِ السَّفِينَةَ كَالْخَوَارِجِ هَلَكَ مَعَ الْهَالِكِينَ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمَنْ دَخَلَهَا وَلَمْ يَهْتَدِ بِنُجُومِ الصَّحَابَةِ كَالرَّوَافِضِ ضَلَّ، وَوَقَعَ فِي ظُلُمَاتٍ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، هَذَا وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ» ". وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «النُّجُومُ أَمَانٌ لِأَهْلِ السَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ ذَهَبَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فَإِذَا ذَهَبَ أَهْلُ بَيْتِي ذَهَبَ أَهْلُ الْأَرْضِ» . اهـ.

ص: 3988

[بَابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن]

[11]

بَابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

6184 -

عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: وَأَشَارَ وَكِيعٌ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

ــ

[11]

بَابُ مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي نُسْخَةٍ: وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ. الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

6184 -

(عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " خَيْرُ نِسَائِهَا ")، أَيْ: نِسَاءُ زَمَانِهَا أَوْ عَالَمِهَا (" مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ") : بِالتَّصْغِيرِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ

ص: 3988

مَذْكُورٍ، لَكِنَّهُ يُفَسِّرُهُ الْحَالُ وَالْمُشَاهَدُ يَعْنِي بِهِ الدُّنْيَا وَالدِّينَ، يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَهُ: خَيْرُ نِسَائِهَا خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالضَّمِيرُ لِمَرْيَمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَرْيَمُ خَيْرُ نِسَاءِ زَمَانِهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ الْحَارِثُ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسِلًا: خَدِيجَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَمَرْيَمُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَفَاطِمَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا.

(وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (وَأَشَارَ وَكِيعٌ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي الْأُولَى عَائِدٌ إِلَى الْأُمَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ مَرْيَمُ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلِهَذَا كَرَّرَ الْقَوْلَ مِنْ أَوَّلِهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْآخَرِ، وَكِلَا الْفَصْلَيْنِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَإِشَارَةُ وَكِيعٍ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ مُنْبِئَةٌ مِنْ كَوْنِهِمَا خَيْرًا مِمَّنْ هُوَ فَوْقَ الْأَرْضِ وَتَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيَانِ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ خَيْرُ نِسَائِهَا، لِأَنَّ إِعَادَةَ الضَّمِيرِ إِلَى السَّمَاءِ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُمَا شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا وَحَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ أَرَادَ جُمْلَةَ طَبَقَاتِ السَّمَاءِ وَأَقْطَارِ الْأَرْضِ، أَوْ أَنَّ مَرْيَمَ خَيْرُ مَنْ صَعِدَ بِرُوحِهِنَّ إِلَى السَّمَاءِ، وَخَدِيجَةُ خَيْرُ نِسَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَإِنِ اخْتَلَفَا بِاعْتِبَارِ الدُّنْيَا مَجَازًا كَمَا عَبَّرَ بِهِمَا عَنِ الْعَالَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] الْكَشَّافِ، أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْعَالَمِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} [سبأ: 1] عَلَى مَعْنَى لَهُ الْحَمْدُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَعَبَّرَ بِهِمَا عَنِ الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ حَدِيثِ:«حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ» الْحَدِيثَ. وَتَفْسِيرُ وَكِيعٍ: إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا بَيَّنَ مَا أُبْهِمَ فِي الْحَدِيثِ وَالْمُبْهَمُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ. اهـ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَيْرٌ مِنْ نِسَاءِ الْأَرْضِ فِي عَصْرِهَا، وَأَمَّا الْفَضْلُ بَيْنَهُمَا فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ. ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ.

ص: 3989

6185 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَى جِبْرَئِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ، فَإِذَا أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عليها السلام مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6185 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: وَهُوَ صلى الله عليه وسلم بِحِرَاءَ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذِهِ) : إِشَارَةٌ عَلَى مَا فِي ذِهْنِ جِبْرِيلَ (خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ)، أَيْ: تَوَجَّهَتْ مِنْ (مَكَّةَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ)، أَيْ: مَعَ خُبْزٍ (أَوْ طَعَامٍ) ، أَيْ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِمَا (فَإِذَا أَتَتْكَ)، أَيْ: تَحَقَّقَ مَأْتَاهَا عِنْدَكَ (فَاقْرَأْ عَلَيْهَا) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ أَبْلِغْهَا (السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ) ، بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ لُؤْلُؤٍ مُجَوَّفٍ وَاسِعٍ كَالْقَصْرِ الْمَنِيفِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مِنْ قَصَبِ اللُّؤْلُؤِ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ لُؤْلُؤٍ إِذْ فِي لَفْظِ الْقَصَبِ مُنَاسِبَةٌ لِأَنَّهَا أَحْرَزَتْ قَصَبَ السَّبْقِ لِمُبَادَرَتِهَا إِلَى الْإِيمَانِ دُونَ غَيْرِهَا. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «خَدِيجَةُ سَابِقَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ (لَا صَخَبَ) : بِفَتْحِ الصَّادِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَا: لَنَفْيِ الْجِنْسِ أَيْ: لَا صِيَاحَ أَوْ لَا اخْتِلَاطَ صَوْتٍ. (فِيهِ)، أَيْ: فِي الْقَصَبِ الْمُعَبَّرِ بِهِ عَنِ الْقَصْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ فِيهَا، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(وَلَا نَصَبَ) . بِفَتْحَتَيْنِ قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35] أَيْ كَلَالٌ. قَالَ شَارِحٌ، أَيْ: لَا يَكُونُ لَهَا شَاغِلٌ يَشْغَلُهَا عَنْ لَذَائِذِ الْجَنَّةِ وَلَا تَعَبَ يَنْقُصُهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: نَفَى عَنِ الْقَصَبِ الصَّخَبَ وَالنَّصَبَ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ بَيْتٍ فِي الدُّنْيَا يَسْكُنُهُ قَوْمٌ إِلَّا كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ صَخَبٌ وَجَلَبَةٌ، وَإِلَّا كَانَ فِي بِنَائِهِ وَإِصْلَاحِهِ نَصَبٌ وَتَعَبٌ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قُصُورَ الْجَنَّةِ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْآفَاتِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ بِنَاءَ بَيْتِ الْجَنَّةِ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: كُنْ، لَيْسَ كَأَبْنِيَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا إِنَّمَا يَتَسَبَّبُ بِنَاؤُهَا صَخَبٌ وَنَصَبٌ، وَكَذَا السُّكُونُ فِيهَا لَا يَخْلُو عَنْهُمَا وَلَيْسَ حُكْمُ بَيْتِ الْجَنَّةِ كَذَلِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ص: 3989

6186 -

«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةَ، فَيَقُولُ: " إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وُلْدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6186 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ غَارَ يَغَارُ نَحْوُ خَافَ يَخَافُ (مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ) : مَا: الْأُولَى نَافِيَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: مَا غِرْتُ مِثْلَ الَّتِي غِرْتُهَا أَوْ مِثْلُ غَيْرَتِي عَلَيْهَا، وَالْغَيْرَةُ: الْحَمِيَّةُ وَالْأَنَفُ (وَمَا رَأَيْتُهَا)، الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ؟ هِيَ تَقْتَضِي عَدَمَ الْغَيْرَةِ لِعَدَمِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا غَالِبًا وَلِذَا قَالَتْ:(وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا)، أَيْ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ (وَرُبَّمَا) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ (ذَبَحَ شَاةً)، أَيْ: شَاةً مِنَ الشِّيَاهِ (ثُمَّ يُقَطِّعُهَا) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ يُكْثِرُ قَطْعَهَا (أَعْضَاءً) ، أَيْ عُضْوًا عُضْوًا بِأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ عُضْوٍ قِطْعَةً (ثُمَّ يَبْعَثُهَا)، أَيْ: أَعْضَاءَ الشَّاةِ (فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ)، أَيْ أَصْدِقَائِهَا جَمْعُ صَدِيقَةٍ وَهِيَ الْمَحْبُوبَةُ (فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ) ، أَيِ: الشَّأْنُ (لَمْ تَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةَ) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالنَّصْبِ (فَيَقُولُ:" أَنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ ") أَيْ كَانَتْ صَوَّامَةً وَقَوَّامَةً وَمُحْسِنَةً وَمُشْفِقَةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَرَّرَ كَانَتْ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ التَّثْنِيَةَ، وَلَكِنَّ التَّكْرِيرَ لِيَتَعَلَّقَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ مِنْ خَصَائِلِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا مُتَعَلَّقُهُ لِلشُّهْرَةِ تَفْخِيمًا. (" وَكَانَ ")، أَيْ: مَعَ هَذَا (" لِي مِنْهَا وُلْدٌ ") . بِضَمٍّ فَسُكُونٍ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا جَمْعُ وَلَدٍ وَمِنْهُمْ فَاطِمَةُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ الْقُرَشِيَّةُ، كَانَتْ تَحْتَ ابْنِ هَالَةَ بْنِ زُرَارَةَ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَتِيقُ بْنُ عَابِدٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَهَا يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَلَمْ يَنْكِحْ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ امْرَأَةٍ وَلَا نَكَحَ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنْ كَافَّةِ النَّاسِ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَجَمِيعُ أَوْلَادِهِ مِنْهَا غَيْرُ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ، وَمَاتَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَقِيلَ بِثَلَاثٍ وَكَانَ قَدْ مَضَى مِنَ النُّبُوَّةِ عَشْرُ سِنِينَ، وَكَانَ لَهَا مِنَ الْعُمْرِ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَكَانَ مُدَّةُ مَقَامِهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَدُفِنَتْ بِالْحَجُونِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ص: 3990

6187 -

وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشُ! هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ ". قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، قَالَتْ: وَهُوَ يَرَى مَا لَا أَرَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6187 -

(وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ الْقُرَشِيِّ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفِقْهِ فِي الْمَدِينَةِ فِي قَوْلٍ، وَمِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَأَعْلَامِهِمْ. (أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَائِشُ ") : بِضَمِّ الشِّينِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا عَلَى التَّرْخِيمِ (" هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ ") . مِنَ الْإِقْرَاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ قَرَأَ عليه السلام كَأَقْرَأَهُ، أَوْ لَا يُقَالُ أَقْرَأَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّلَامُ مَكْتُوبًا (قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. قَالَتْ) ، أَيْ: عَائِشَةُ (وَهُوَ)، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يَرَى مَا لَا أَرَى) . وَأَبْعَدَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: أَوْ يَرَى جِبْرِيلُ مَا لَا أَرَاهُ. اهـ. وَاسْتُنْبِطَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ خَدِيجَةَ عَلَى عَائِشَةَ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي حَقِّهَا أَنَّ جِبْرِيلَ أَقْرَأَهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا، وَهَا هُنَا مِنْ جِبْرِيلَ نَفْسِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 3990

6188 -

«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِي: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَقُلْتُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

6188 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أُرِيْتُكِ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْإِرَاءَةِ أَيْ أُعْلِمْتُكِ (" فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَجِيءُ بِكِ ") : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ يَأْتِي بِصُورَتِكِ (" الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ ") : بِفَتْحَتَيْنِ (" مِنْ حَرِيرٍ ")، أَيْ: فِي قِطْعَةٍ مِنْ جَيِّدِ الْحَرِيرِ، قِيلَ: وَهُوَ مُعَرَّبُ سُرَّةٍ (" فَقَالَ ")، أَيِ: الْمَلَكُ (" لِي هَذِهِ ")، أَيْ: هَذِهِ الصُّورَةُ (" امْرَأَتُكَ ") ، أَيْ صُورَتُهَا (" فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتَ هِيَ ")، أَيْ: تِلْكَ الصُّورَةُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَشَفْتُ عَنْ وَجْهِ صُورَتِكِ فَإِذَا أَنْتِ الْآنَ تِلْكَ الصُّورَةُ، وَثَانِيهُمَا:

ص: 3990

كَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ عِنْدَمَا شَاهَدْتُكِ، فَإِذَا أَنْتِ مِثْلُ الصُّورَةِ الَّتِي رَأَيْتُهَا فِي الْمَنَامِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ حَيْثُ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَحَمَلَهَا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] وَمِنْهُ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ كُنْتُ أَظَنُّ أَنَّ الْعَقْرَبَ أَشَدُّ لَسْعَةٍ مِنَ الزُّنْبُورِ، فَإِذَا هِيَ أَيْ فَإِذَا الزُّنْبُورُ مِثْلُ الْعَقْرَبِ، فَحَذَفَ الْأَدَاةَ مُبَالَغَةً فَحَصَلَ التَّشَابُهُ، وَإِلَيْهِ لَمْحُ الْآيَةِ، وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا، وَمَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ فِي إِذَا يُسَاعِدُ هَذَا الْوَجْهُ. اهـ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهَا: نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِينَ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُزَوِّجَنِي بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صُورَتَهَا كَانَتْ فِي الْخِرْقَةِ، وَالْخِرْقَةُ فِي رَاحَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بِالْكَيْفِيَّتَيْنِ لِقَوْلِهِ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ: نَزَلَ مَرَّتَيْنِ أَيْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِهَا فِي رَاحَتِهِ وَمَلَكٌ آخَرُ فِي سَرَقَةٍ (" فَقُلْتُ ")، أَيْ: فِي جَوَابِ الْمَلَكِ (" إِنْ يَكُنْ هَذَا ")، أَيْ: مَا رَأَيْتَهُ فِي الْمَنَامِ (" مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ ") . بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِمْضَاءِ أَيْ يُنْفِذُهُ لَدَيَّ، وَيُوصِلُهُ إِلَيَّ وَيُظْهِرُهُ عَلَيَّ وَفِي نُسْخَةٍ بِهَاءِ السَّكْتِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الشَّرْطُ مِمَّا يَقُولُهُ الْمُتَحَقِّقُ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ الْمُدِلُّ بِصِحَّتِهِ تَقْرِيرًا لِوُقُوعِ الْجَزَاءِ وَتَحَقُّقِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ السُّلْطَانِ لِمَنْ تَحْتَ قَهْرِهِ: إِنْ كُنْتَ سُلْطَانًا انْتَقَمَتْ مِنْكَ أَيِ السَّلْطَنَةُ مُقْتَضِيَةً لِلِانْتِقَامِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ تَخْلِيصِ أَحْلَامِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَضْغَاثِ، فَمَعْنَاهَا إِنْ كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَلَهَا ثَلَاثُ مَعَانٍ. أَحُدُهَا: الْمُرَادُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا عَلَى وَجْهِهَا وَظَاهِرُهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَتَفْسِيرٍ يُمْضِهِ اللَّهُ وَيُنْجِزُهُ، فَالشَّكُّ عَائِدٌ إِلَى أَنَّهَا رُؤْيَا عَلَى ظَاهِرِهَا، أَمْ تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَصَرْفٍ عَنْ ظَاهِرِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الزَّوْجِيَّةُ فِي الدُّنْيَا يُمْضِهَا اللَّهُ، فَالشَّكُّ أَنَّهَا زَوْجِيَّةٌ فِي الدُّنْيَا أَمْ فِي الْجَنَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ وَلَكِنْ أُخْبِرَ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَأَتَى بِصُورَةِ الشَّكِّ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ يُسَمُّونَهُ تَجَاهُلُ الْعَارِفِ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ مَزْجُ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي ضَعَّفْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ، وَكَانَ مِنْ تَوَارُدِ الْخَاطِرِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ: خَطَبَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَتَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ النُّبُوَّةِ وَقَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَعْرَسَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا. أَوَّلُهَا: تِسْعُ سِنِينَ، وَقِيلَ دَخَلَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَقْدَمِهِ، وَبَقِيَتْ مَعَهُ تِسْعَ سِنِينَ، وَمَاتَ عَنْهَا وَلَهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَكَانَتْ فَقِيهَةً عَالِمَةً فَصِيحَةً فَاضِلَةً كَثِيرَةَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَارِفَةً بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَمَرَتْ أَنْ تُدْفَنَ لَيْلًا فَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةَ مَرْوَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3991

6189 -

وَعَنْهَا، قَالَتْ:«إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ حِزْبَيْنِ: فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ. فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: " لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؟ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ ". قَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ فَأَرْسَلْنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ: " يَا بُنَيَّةُ! أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ ". قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: " فَأَحِبِّي هَذِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَذَكَرَ حَدِيثُ أَنَسٍ " فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ " فِي بَابِ " بَدْءِ الْخَلْقِ " بِرِوَايَةِ أَبِي مُوسَى.

ــ

6189 -

(وَعَنْهَا)، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ مِنَ التَّحَرِّي وَهُوَ طَالِبُ الْحَرِيِّ بِمَعْنَى اللَّائِقِ، أَوْ قَصَدَ الْأَحْرَى بِمَعْنَى الْأَحَقِّ وَالْأَوْلَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الرِّوَايَةُ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ يَتَحَيَّنُونَ وَمَا وَجَدْنَاهَا فِي الْأُصُولِ. وَفِي النِّهَايَةِ التَّحَرِّي: الْقَصْدُ وَالِاجْتِهَادُ فِي الطَّلَبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ. وَفِي الْحَدِيثِ:«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» أَيْ: تَعَهَّدُوا طَلَبَهَا فِيهَا. اهـ. وَالْمَعْنَى يَطْلُبُونَ زِيَادَةَ الثَّوَابِ (بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ) ، أَيْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ نَوْبَةُ عَائِشَةَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا (يَبْتَغُونَ)، أَيْ: يَطْلُبُونَ (بِذَلِكَ)، أَيْ: بِإِرْسَالِ هَدَايَاهُمْ إِلَيْهِ فِي يَوْمِهَا (مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . أَيْ زِيَادَةَ رِضَاهُ لِمَزِيدِ مَحَبَّتِهِ لَهَا. (وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ حِزْبَيْنِ)، أَيْ: طَائِفَتَيْنِ اتَّفَقَتْ مِزَاجُ كُلِّ طَائِفَةٍ وَرَأْيُهَا فِي عِشْرَتِهَا وَصُحْبَتِهَا (فَحِزْبٌ)، أَيْ: جَمْعٌ مِنْهُنَّ. (فِيهِ عَائِشَةُ) : وَسَبَقَ ذِكْرُهَا (وَحَفْصَةُ) : وَهِيَ بِنْتُ.

ص: 3991

عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ مَظْعُونٍ، كَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ حُبَيْشِ بْنِ حُفَافَةَ السَّهْمِيِّ، هَاجَرَتْ مَعَهُ مَاتَ عَنْهَا بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَلَمَّا ضَاعَتْ ذَكَرَهَا عُمَرُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ فَلَمْ يُجِبْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَخَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْكَحَهُ إِيَّاهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ، وَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ رَاجَعَهَا حَيْثُ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ:«رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَإِنَّهَا زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ» ، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَاتَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَهِيَ ابْنَةُ سِتِّينَ (وَصَفِيَّةُ) : وَهِيَ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ عليه السلام وَكَانَتْ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحَقِيقِ، فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعٍ، وَوَقَعَتْ فِي السَّبْيِ فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ، فَأَسْلَمَتْ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَمَاتَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، رَوَى عَنْهَا أَنَسٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا (وَسَوْدَةُ)، أَيْ: بِنْتُ زَمْعَةَ أَسْلَمَتْ قَدِيمًا، وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ السَّكُوانُ بْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا مَاتَ زَوْجُهَا تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَدَخَلَ بِهَا بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى عَائِشَةَ، وَهَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَبُرَتْ أَرَادَ طَلَاقَهَا فَسَأَلَتْهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَجَعَلَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَأَمْسَكَهَا، وَتُوُفِّيَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ (وَالْحِزْبُ الْآخَرُ)، أَيْ: مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (أُمُّ سَلَمَةَ) : وَهِيَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، اسْمُهَا هِنْدُ، وَكَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ أَبِي سَلَمَةَ، فَمَا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيَالٍ بَقِينَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا أَبُو سَلَمَةَ، وَمَاتَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ عُمْرُهَا أَرْبَعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَوَى عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَزَيْنَبُ بِنْتُهَا وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ، أَيْ وَبَاقِيهِنَّ وَهُنَّ زَيْنَبُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَجُوَيْرِيَةُ بِالتَّصْغِيرِ وَمَيْمُونَةُ.

أَمَّا زَيْنَبُ فَهِيَ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمُّهَا أُمَيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ خَمْسٍ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَزْوَاجِهِ بَعْدَهُ، وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةُ، فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ. قَالَتْ عَائِشَةُ فِي شَأْنِهَا: لَمْ تَكُنِ امْرَأَةٌ خَيْرًا مِنْهَا فِي الدِّينِ، وَأَتْقَى لِلَّهِ وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً وَأَشَدَّ تَبَذُّلًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَتَصَدَّقُ بِهِ، وَتَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَهَا ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، رَوَتْ عَنْهَا عَائِشَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَغَيْرُهَا.

وَأَمَّا أُمُّ حَبِيبَةَ: فَاسْمُهَا رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَأُمُّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَمَّةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نِكَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا، وَمَوْضِعُ الْعَقْدِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ عَقَدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَزَوَّجَهُ مِنْهَا النَّجَاشِيُّ وَأَمْهَرَهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَقِيلَ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ فَجَاءَ بِهَا إِلَيْهِ، وَدَخَلَ بِهَا بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهَا بِالْمَدِينَةِ، وَزَوَّجَهُ مِنْهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَمَاتَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ.

وَأَمَّا جُوَيْرِيَةُ، فَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ حِزَامٍ، سَبَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ، فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَكَاتَبَهَا فَقَضَى عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كِتَابَتَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ فَغَيَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَمَّاهَا جُوَيْرِيَةَ، وَمَاتَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ، وَلَهَا خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ.

وَأَمَّا مَيْمُونَةُ فَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَهَا كَانَ بَرَّةَ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ: وَكَانَتْ تَحْتَ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَفَارَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا أَبُو دِرْهَمٍ وَتُوُفِّيَ عَنْهَا فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِسَرِفَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا مَاتَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ بِسَرِفَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقِيلَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ الْفَضْلِ امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ، وَأُخْتُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، وَهِيَ آخِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ كَذَا فِي الْأَسْمَاءِ لِلْمُؤَلِّفِ.

ص: 3992

(فَكَلَّمْ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ)، أَيْ: إِيَّاهَا وَالْمَعْنَى فَكَلَّمْنَهَا (فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ) : بِالرَّفْعِ عَلَى مَا فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ، عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِالْجَزْمِ، وَالْمِيمُ مَكْسُورَةٌ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ. قُلْتُ: الصَّوَابُ الرَّفْعُ لِقَوْلِهِ (فَيَقُولُ) : وَالْمَعْنَى لِيُكَلِّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ لَهُمْ: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: يُرْسِلَ هَدِيَّةً (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيُهْدِهِ) : وَضَعَ السَّيِّدُ فِي نُسْخَتِهِ عَلَامَةَ الشَّكِّ فَوْقَ الضَّمِيرِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، نَعَمْ قَدْ يُحْذَفُ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ لَكِنَّ النُّسَخَ اجْتَمَعَتْ عَلَى وُجُودِهِ وَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ تَقْدِيرِهِ، فَلَا وَجْهَ لِلشَّكِّ وَتَنْظِيرِهِ، وَالْمَعْنَى فَلْيُرْسِلْ مُهْدَاهُ أَيْ هَدِيَّتَهُ (إِلَيْهِ)، أَيْ: إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (حَيْثُ كَانَ) . أَيْ مِنْ حُجُرَاتِ الْأُمَّهَاتِ وَمُرَادُهُنَّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ لَا لَهُنَّ وَلَا لِغَيْرِهِنَّ، بَلْ بِحَسْبِ مَا يَتَّفِقُ الْأَمْرُ فِيهِنَّ لِيَرْتَفِعَ التَّمْيِيزُ الْبَاعِثُ لِلْغَيْرَةِ عَنْهُنَّ (فَكَلَّمَتْهُ)، أَيْ أُمُّ سَلَمَةَ (فَقَالَ) : النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَهَا: لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ ") ، أَيْ فِي حَقِّهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ لَا تُؤْذِي عَائِشَةَ لِمَا يُفِيدُ مِنْ أَنَّ مَا آذَاهَا فَهُوَ يُؤْذِيهِ (" فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ ")، أَيْ: لِحَافِ زَوْجَةٍ (" إِلَّا عَائِشَةَ ") . قَالَ الطِّيبِيُّ: إِلَّا بِمَعْنَى غَيْرِ أَيِ امْرَأَةً غَيْرَ عَائِشَةَ. اهـ. وَالْمَعْنَى إِلَّا فِي ثَوْبِ عَائِشَةَ فَفِي كِتَابِ الْخَمِيسِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: نَزَلَتْ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اللِّحَافِ (قَالَتْ)، أَيْ: أُمُّ سَلَمَةَ (أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ)، أَيْ: مِمَّا يَجُرُّ إِلَى أَذَاكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! ثُمَّ إِنَّهُنَّ)، أَيْ: حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ (دَعَوْنَ فَاطِمَةَ)، أَيْ: طَلَبْنَهَا (فَأَرْسَلْنَ)، أَيْ: فَبَعَثْنَهَا (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: لِتُكَلِّمَهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ (فَكَلَّمَتْهُ)، وَلَعَلَّهَا مَا اطَّلَعَتْ عَلَى قِصَّةِ أُمِّ سَلَمَةَ السَّابِقَةِ (فَقَالَ:" يَا بُنَيَّةُ ") : تَصْغِيرٌ لِلشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ (" أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ " قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: " فَأَحِبِّي هَذِهِ ") . أَيْ عَائِشَةَ يَعْنِي وَلَا تَذْكُرِي مَا يَكُونُ سَبَبًا لِكَرَاهِيَةِ خَاطِرِهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

(وَذَكَرَ حَدِيثُ أَنَسٍ «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ ") : تَمَامُهُ: " كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ» . (" فِي بَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ بِرِوَايَةِ أَبِي مُوسَى) . وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسَاءِ جِنْسُهُنَّ، أَوْ أَزْوَاجُهُ صلى الله عليه وسلم عُمُومًا أَوْ بَعْدَ خَدِيجَةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ مِنْ حَيْثُ الْجَامِعِيَّةُ لِلْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا فِي التَّشْبِيهِ بِالثَّرِيدِ، فَإِنَّمَا يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِالثَّرِيدِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ طَعَامِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْمَرَقَةِ، وَلَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْأَغْذِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ الْغِذَاءِ وَاللَّذَّةِ وَالْقُوَّةِ وَسُهُولَةِ التَّنَاوُلِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِي الْمَضْغِ، وَسُرْعَةِ الْمُرُورِ فِي الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا الْمَثَلَ بِهِ لِيُعْلِمَ أَنَّهَا أُعْطِيَتْ مَعَ حُسْنِ الْخَلْقِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَحُسْنِ الْحَدِيثِ، وَحَلَاوَةِ الْمَنْطِقِ، وَفَصَاحَةِ اللَّهْجَةِ، وَجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ، وَرَزَانَةِ الرَّأْيِ، وَرَصَانَةِ الْعَقْلِ التَّحَبُّبَ إِلَى الْبَعْلِ، فَهِيَ تَصْلُحُ لِلتَّبَعُّلِ وَالتَّحَدُّثِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِهَا وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي اجْتَمَعَتْ فِيهَا، وَحَسْبُكَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي أَنَّهَا عَقَلَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ تَعْقِلْ غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَرَوَتْ عَنْهُ مَا لَمْ يَرْوِ مِثْلُهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

ص: 3993

الْفَصْلُ الثَّانِي

6190 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

6190 -

(عَنْ أَنَسٍ) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " حَسْبُكِ ") ، أَيْ: بِالْخِطَابِ الْعَامِّ، وَالْمَعْنَى يَكْفِيكِ (" مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، أَيِ: الْوَاصِلَةِ إِلَى مَرَاتِبِ الْكَامِلِينَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِنَّ وَذَكَرَ مَحَاسِنَهُنَّ وَمَنَاقِبَهُنَّ وَزُهْدَهُنَّ فِي الدُّنْيَا وَإِقْبَالَهُنَّ عَلَى الْعُقْبَى (" مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ") . وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَرَاتِبَهُنَّ عَلَى وَفْقِ ذِكْرِهِنَّ، وَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَبْلَ حُصُولِ كَمَالِ عَائِشَةَ وَوُصُولِهَا إِلَى وِصَالِ الْحَضْرَةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْجَامِعِ: رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ - عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: ( «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَأَنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ: حَسْبُكَ: مُبْتَدَأٌ. وَمِنْ نِسَاءِ مُتَعَلِّقٍ بِهِ، وَمَرْيَمُ خَبَرُهُ. وَالْخِطَابُ إِمَّا عَامٌّ أَوْ لِأَنْسٍ أَيْ: كَافِيكَ مَعْرِفَتُكَ فَضْلِهِنَّ عَنْ مَعْرِفَةِ سَائِرِ النِّسَاءِ. اهـ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي النِّقَابَةِ: نَعْتَقِدُ أَنَّ أَفْضَلَ النِّسَاءِ مَرْيَمُ وَفَاطِمَةُ، وَأَفْضَلَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ، وَفِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ. ثَالِثُهَا: التَّوَقُّفُ. أَقُولُ: التَّوَقُّفُ فِي حَقِّ الْكُلِّ أَوْلَى، إِذْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَالظَّنِّيَّاتُ مُتَعَارِضَةٌ غَيْرُ مُفِيدَةٍ لِلْعَقَائِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْيَقِينِيَّاتِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَكَذَا أَحْمَدُ. وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ أَيْضًا بِلَفْظِ:«خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " «سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ وَفَاطِمَةُ وَخَدِيجَةُ وَآسِيَةُ» .

ص: 3994

6191 -

«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ جِبْرَئِيلَ جَاءَ بِصُورَتِهَا فِي خِرْقَةِ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

6191 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ بِصُورَتِهَا)، أَيْ: بِصُورَةِ عَائِشَةَ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (فِي خِرْقَةِ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 3994

6192 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: بِنْتُ يَهُودِيٍّ فَبَكَتْ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: " مَا يُبْكِيكِ "؟ فَقَالَتْ: قَالَتْ لِي حَفْصَةُ: إِنِّي ابْنَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ؟ ". ثُمَّ قَالَ: " اتَّقِي اللَّهَ يَا حَفْصَةُ!» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

6192 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ)، أَيْ: فِي حَقِّ صَفِيَّةَ (إِنَّهَا بِنْتُ يَهُودِيٍّ)، أَيْ: نَظَرًا إِلَى أَبِيهَا (فَبَكَتْ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ تَبْكِي، قَالَ: " مَا يُبْكِيكِ " فَقَالَتْ)، أَيْ: صَفِيَّةُ (قَالَتْ لِي حَفْصَةُ)، أَيْ: فِي حَقِّي (إِنِّي ابْنَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ ") أَيْ نَظَرًا إِلَى جَدِّهَا الْأَكْبَرِ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَوْ هَارُونُ (" وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ ") ، وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ مُوسَى، وَالْأَوَّلُ فِيهِمَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْأَخِيرَ هُوَ الْأَظْهَرُ (" وَإِنَّكِ ")، أَيِ: الْآنَ (" لَتَحْتَ نَبِيٍّ فَفِيمَ تَفْخَرُ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ أَيْ تَفْخَرُ حَفْصَةُ (" عَلَيْكِ ") : وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى ظُهُورِ مُخْتَارِ الطِّيبِيِّ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ غَايَتُهُ أَنَّ أَبَا حَفْصَةَ إِسْمَاعِيلُ وَعَمَّهَا إِسْحَاقُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَخْتَصُّ بِصَفِيَّةَ وَبِهِ يَحْصُلُ لَهَا الْمَزِيَّةُ، فَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَهِيَ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ عليه السلام (ثُمَّ قَالَ:" اتَّقِي اللَّهَ ") ، أَيْ: مُخَالَفَتَهُ أَوْ عِقَابَهُ بِتَرْكِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ (" يَا حَفْصَةُ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) .

ص: 3994