الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5697 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلَاةَ، ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: " قَدْ أُرِيتُ الْآنَ مُذْ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قِبَلِ هَذَا الْجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5697 -
(عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى) أَيْ إِمَامًا أَوْ جَمَاعَةً (لَنَا يَوْمًا الصَّلَاةَ) اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ الَّذِي هُوَ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ (ثُمَّ رَقِيَ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ صَعِدَ (الْمِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ فِي قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ إِلَى جَانِبِهَا وَجِهَتِهَا (فَقَالَ: " قَدْ أُرِيتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِرَاءَةِ أَيْ أُبْصِرْتُ (الْآنَ) أَيْ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْقَرِيبِ مِنَ الْمَاضِي وَالِاسْتِقْبَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْحَالِ مَعَ مُرَاعَاةِ التَّوْسِعَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ؛ وَلِذَا قَالَ: (مُذْ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ) أَيْ حِينَ صَلَّيْتُ، أَوْ مِنِ ابْتِدَاءِ زَمَنِ مَا صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ إِلَى أَنْ رَقِيتُ الْمِنْبَرَ (الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ مُصَوَّرَتَيْنِ صُورَةً إِجْمَالِيَّةً أَوْ تَفْصِيلِيَّةً (فِي قِبَلِ هَذَا الْجِدَارِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهِمَا. أَيْ فِي مُقَابَلَتِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْقُبُلُ بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ نَقِيضُ الدُّبُرِ، وَرَأَيْتُهُ قُبُلًا مُحَرَّكَةً وَبِضَمَّتَيْنِ وَكَصُرَدٍ وَكَعِنَبٍ أَيْ عِيَانًا وَمُقَابَلَةً. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ:" الْآنَ " لِلْحَالِ وَ " أُرِيتُ " الْمَاضِي، فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ؟ قُلْتُ: قَدْ تُقِرُّ بِهِ لِلْحَالِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا قَوْلُكَ فِي " صَلَّيْتُ " فَإِنَّهُ لِلْمُضِيِّ الْبَتَّةَ؟ قُلْتُ: كُلُّ مُخْبِرٍ أَوْ مُنْشِئٍ يَقْصِدُ الزَّمَانَ الْحَاضِرَ لَا اللَّحْظَةَ الْحَاضِرَةَ الْغَيْرَ الْمُنْقَسِمَةِ الْمُسَمَّاةَ بِالْحَالِ، انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَالَ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُهُ الْمَقَامُ فِي تَحْصِيلِ الْمَرَامِ. (فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) أَيْ لَمْ أَرَ مَرْئِيًّا كَمَرْئِيِّ الْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ، وَلَا مَرْئِيًّا كَمَرْئِيِّ الْيَوْمِ فِي الشَّرِّ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ جَامِعَةٌ لِلْخَيْرَاتِ مِنَ الْحُورِ وَالْقُصُورِ، وَالنَّارَ جَائِزَةٌ لِأَنْوَاعِ الشُّرُورِ مِنَ الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَلَا نَظِيرَ لَهُمَا فِي جَمْعِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَذُو الْحَالِ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ لِشَهَادَةِ السَّابِقِ، وَالْمَعْنَى لَمْ أَرَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ مِثْلَ مَا رَأَيْتُ الْيَوْمَ، أَيْ رَأَيْتُهُمَا رُؤْيَةً جَلِيَّةً ظَاهِرَةً مُثِّلَتَا فِي قِبَلِ هَذَا الْجِدَارِ ظَاهِرًا خَيْرُهَا وَشَرُّهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: " «عُرِضَ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» .
[بَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5698 -
ــ
[9]
- بَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ وَذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْبَدْءُ: بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ فَتَسْكِينِ الدَّالِ فَالْهَمْزَةِ. بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَبَ بِالْوَاوِ حَتَّى لَا يَشْتَبِهَ، ضَبْطُهُ بِضَمَّتَيْنِ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَهَمْزٍ أَوْ بِوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ بِلَا هَمْزٍ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا الظُّهُورُ عَلَى مَا حَقَّقْتُهُ فِي رِسَالَتِي الَّتِي عَلَّقْتُهَا عَلَى أَوَّلِ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِبَابِ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْتَهِيًا إِلَى: وَقَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَظَّمَ مِنْ إِتْيَانِ الْإِعْرَابِ عَلَى وَجْهِ الْخُلُوِّ عَنِ الْإِغْرَابِ، نَعَمْ لَوْ رُسِمَ بِالْيَاءِ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
5698 -
(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ) أَيْ وَقْتَ مَجِيئِهِمْ (مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ مَشْهُورَةٌ (فَقَالَ: " اقْبَلُوا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ تَقْبَلُوا مِنِّي
(الْبُشْرَى) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ الْبِشَارَةُ الْمُطْلَقَةُ أَوِ الْمَعْهُودَةُ (يَا بَنِي تَمِيمٍ) أَوْ هُوَ لَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا الْإِشَارَةَ بِالْبِشَارَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ اسْتِقْبَالِهَا بِالْقَبُولِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ حُصُولُ كُلِّ وُصُولٍ. (قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا) فَحَمَلُوا الْبِشَارَةَ عَلَى الْإِحْسَانِ الْعُرْفِيِّ، فَطَلَبُوا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَطَاءِ الْحَسَنِ، وَهَذَا بِمُقْتَضَى مَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَبِّ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الْمَرَاتِبِ الْآجِلَةِ، فَكُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَيَبِينُ عَنْ ذَلِكَ الْبِنَاءِ مُعَايَنَةً، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ مَنْهَجَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيِ اقْبَلُوا مِنِّي مَا يَقْتَضِي أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ جُلُّ اهْتِمَامِهِمْ إِلَّا بِشَأْنِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِعْطَاءِ دُونَ دِينِهِمْ قَالُوا: بَشَّرْتَنَا لِلتَّفَقُّهِ، وَإِنَّمَا جِئْنَا لِلِاسْتِعْطَاءِ فَأَعْطِنَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ ".
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بَشَّرْتَنَا هُوَ دَالٌّ عَلَى إِسْلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا رَامُوا الْعَاجِلَ، وَغَفَلُوا عَنِ الْآجِلِ، وَسَبَبُ غَضَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفْيِهِ قَبُولَهُمُ الْبُشْرَى إِشْعَارُهُ بِقِلَّةٍ عِلْمِهِمْ وَضَعْفِ قَابِلِيَّتِهِمْ؛ لِكَوْنِهِمْ عَلَّقُوا آمَالَهُمْ بِعَاجِلِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَقَدَّمُوا ذَلِكَ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ الْمُوَصِّلِ إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمِ اهْتِمَامَهُمْ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَقَائِقِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَالِاعْتِنَاءِ بِضَبْطِهَا، وَالسُّؤَالِ عَنْ وَاجِبَاتِهَا وَالْمُوَصِّلَاتِ إِلَيْهَا. ( «فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ:" اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ. قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ» ) أَيْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وَلَمَّا كَانَ نِيَّتُهُمُ الصَّالِحَةُ خَالِصَةً لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ لَا لِلطَّمَعِ فِي الدُّنْيَا حَصَلَ لَهُمُ الْبِشَارَةُ وَالْقَبُولُ وَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالْوُصُولُ، وَحُرِمَ الْأَوَّلُونَ عَنِ الْبِشَارَةِ، بَلْ وَعَنِ الْعَطَاءِ فِي الْحَقَارَةِ، وَوَقَعُوا فِي حَضِيضِ النِّذَارَةِ، فَالْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ هِيَ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْغَالِيَةِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحِكَايَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ: أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى قَصْدِ زِيَارَةِ تُرْبَةِ الْأَمِينِ حَمْزَةَ الْمُنَوَّرَةِ، وَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَفُتِحَ لَهُمَا بَابُ الْمَقْبَرَةِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَدَخَلَ الشَّيْخُ فِي مَحَلِّ الزِّيَارَةِ، فَرَأَى جَمَاعَةً مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ بَرِيئَةً مِنَ النُّقْصَانِ وَالْعَيْبِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ سَاعَةُ الْإِجَابَةِ، فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَبِعَهُ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ رَحْمَةً وَشَفَقَةً عَلَيْهِ: يَا أَخِي اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَا تُرِيدُ، فَإِنَّ الْآنَ وَقْتَ الْإِجَابَةِ وَالْمَزِيدِ، فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى دِينَارًا وَلَمْ يَذْكُرْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، فَرَجَعَا وَلَمَّا وَصَلَا بَابَ الْمَدِينَةِ أَعْطَى الرَّجُلَ دِينَارًا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّكِينَةِ، فَدَخَلَا كِلَاهُمَا عَلَى الْقُطْبِ الْوَلِيِّ السَّيِّدِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ، وَقَدْ كُشِفَ لَهُ الْقَضِيَّةُ فَقَالَ لِلرَّجُلِ: أَيَا دَنِيَّ الْهِمَّةِ تُدْرِكُ وَقْتَ الْإِجَابَةِ، وَتَطْلُبُ قِطْعَةَ دِينَارٍ دَنِيَّةٍ، فَهَلَّا طَلَبْتَ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ لِيَكُونَا لِأَمْرِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ كَافِيَةٌ وَوَافِيَةٌ؟ ثُمَّ مَا أَحْسَنَ طَرِيقَ سُؤَالِهِمْ مِنَ الِابْتِدَاءِ فِي أَوَّلِ حَالِهِمُ الدَّالِّ عَلَى كَمَالِ مَآلِهِمْ حَيْثُ قَالُوا: (وَلِنَسْأَلَكَ) أَيْ وَجِئْنَاكَ لِنَسْأَلَكَ (عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ) أَيْ أَمْرِ الْخَلْقِ وَمَبْدَأِ الْعَالَمِ (مَا كَانَ؟) أَيْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَوَّلَ هَذَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: " مَا " فِي " مَا كَانَ " اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ، وَكُرِّرَ السُّؤَالُ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ (قَالَ: " كَانَ اللَّهُ) أَيْ فِي أَزَلِ الْآزَالِ كَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَبَدِ الْآبَادِ، بِلَا وَصْفِ التَّغَيُّرِ وَالْحُدُوثِ عَلَى مَا هُوَ نَعْتُ الْعِبَادِ، فَإِنَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ. (وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ) أَيْ لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُوجِدُهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مَوْجُودٍ مُمْكِنٍ قَبْلَ الْمُوجِدِ الْوَاجِبِ الْوُجُودَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ، مُكَرِّرٌ الْجَوَابَ عَلَى طَرِيقِ السُّؤَالِ مُطَابَقَةً فِي الِاهْتِمَامِ بِالْحَالِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ أَوَّلُ قَدِيمٍ بِلَا ابْتِدَاءٍ، كَمَا أَنَّهُ كُرَّرَ آخِرُ كَرِيمٍ بِلَا انْتِهَاءٍ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ حَالٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّ خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى: يُسَاعِدُهُ؛ إِذِ التَّقْدِيرُ: كَانَ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ مُنْفَرِدًا مُوَحَّدًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ دُخُولَ الْوَاوِ فِي خَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا نَحْوَ كَانَ زَيْدٌ وَأَبُوهُ قَائِمٌ عَلَى جَعْلِ الْجُمْلَةِ خَبَرًا مَعَ الْوَاوِ تَشْبِيهًا لِلْخَبَرِ بِالْحَالِ. أَقُولُ: وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْأَوَّلِ، فَبَيَّنَ لَهُمُ الْأَوَّلِيَّةَ الْأَزَلِيَّةَ وَنَفَى لِغَيْرِهِ الْقَبْلِيَّةَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ؛ وَلِهَذَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ قَالُوا: وَالْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ، لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ الْمُمْكِنِ فِي جَنْبِ وُجُودِ الْوَاجِبِ كَلَا شَيْءٍ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ. وَقَالَ آخَرُ: سِوَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا فِي الْوُجُودِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا هِيَ مَظَاهِرُ صِفَاتِهِ وَمَرَامِي ذَاتِهِ، فَقَدْ رُوِيَ: كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًّا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ، فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لِأُعْرَفَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ عَلَى تَفْسِيرِ حَبْرِ الْأُمَّةِ أَيْ لِيَعْرِفُونِ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: هَذَا فَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا امْتِزَاجَ لَهُ بِالْفَصْلِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ:( «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» ) لِمَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ مِنَ الْمُنَافَاةِ، فَإِنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ نَاقَضْتَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ مَنْ لَمْ يَسْبِقْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يُعَارِضْهُ فِي الْأَوَّلِيَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:" «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» " إِلَى أَنَّهُمَا كَانَا مَبْدَأَ التَّكْوِينِ، وَأَنَّهُمَا كَانَا مَخْلُوقَيْنِ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْعَرْشِ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا الْمَاءُ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمُمْسِكُهُ بِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَرَادَ الشَّيْخُ بِمَا قَالَهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ جُعِلَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ لَزِمَ الْمَحْذُورُ، فَإِذَا جُعِلَ مُسْتَقِلًّا وَعُطِفَ الثَّانِيَةَ عَلَى الْأُولَى فَلَا، فَإِذَنْ لَفْظَةُ " كَانَ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَسَبِ حَالِ مَدْخُولِهِمَا، فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَزَلِيَّةُ وَالْقِدَمُ، وَبِالثَّانِي الْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ عَطْفٌ عَلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ» ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ حُصُولِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْوُجُودِ وَتَفْوِيضِ التَّرْتِيبِ إِلَى الذِّهْنِ، قَالُوا:(وَ) . بِمَنْزِلَةِ (ثُمَّ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَاءُ الْبَحْرِ، بَلْ هُوَ مَا تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، وَالرِّيحُ قَائِمَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: خُلِقَ الْعَرْشُ وَالْمَاءُ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ خَلَقَهُمَا مِنَ الْمَاءِ بِأَنْ تَجَلَّى عَلَى الْمَاءِ فَتَمَوَّجَ وَاضْطَرَبَ وَحَصَلَ لَهُ زَبَدٌ، فَاجْتَمَعَ فِي مَحَلِّ الْكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ، وَلِذَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَلْقَى الْجِبَالَ عَلَيْهَا لِئَلَّا تَمِيدَ، وَأَوَّلُ الْجِبَالِ أَبُو قُبَيْسٍ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ، وَطَلَعَ دُخَانٌ مِنْ تَمَوُّجِ الْمَاءِ إِلَى جَانِبِ السَّمَاءِ، فَخُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ مِنْهَا، وَمُجْمَلَةٌ فِي سُورَةِ حم فُصِّلَتْ أَوْ تَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ وَسِيَرِ الْمُؤَرِّخِينَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.
(وَكَتَبَ) أَيْ أَثْبَتَ جَمِيعَ مَا هُوَ كَائِنٌ (فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ) أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَالَ الرَّاوِي: ( «ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ» ) أَيِ الْحَقْهَا (فَقَدْ ذَهَبَتْ) أَيْ مُنْفَلِتَةٌ (فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (وَايْمُ اللَّهِ) بِفَتْحِ هَمْزِ وَصْلٍ أَوْ قَطْعٍ وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ وَمِيمٍ مَضْمُومَةٍ مُضَافَةٍ إِلَى الْجَلَالَةِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَتْ جَمْعًا. قَالَ شَارِحٌ: ايْمُ اللَّهِ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِلْقَسَمِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَهَمْزَتُهُ لِلْوَصْلِ، وَلَمْ يَجِئْ فِي الْأَسْمَاءِ أَلِفُ الْوَصْلِ مَفْتُوحَةً غَيْرُهَا، وَتَقْدِيرُهُ ايْمُ اللَّهِ قَسَمِي، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ مَحْذُوفُ " أَيْمُنٍ " جَمْعُ يَمِينٍ وَهَمْزَتُهُ لِلْقَطْعِ (لَوَدِدْتُ) أَيْ لَتَمَنَّيْتُ (أَنَّهَا) أَيِ النَّاقَةُ (قَدْ ذَهَبَتْ) أَيْ فُقِدَتْ (وَلَمْ أَقُمْ) أَيْ فِي طَلَبِهَا الْمَانِعِ مِنْ سَمَاعِ بَقِيَّةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَهْلِ الْيَمَنِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5699 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5699 -
(وَعَنْ عُمَرَ) رضي الله عنه (قَالَ: قَامَ فِينَا) أَيْ خَطِيبًا (رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقَامًا) أَيْ قِيَامًا عَظِيمًا (فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ) أَيْ فَبَيَّنَ الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَحْوَالَ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ إِلَى وَقْتِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَعَيَّنَ أَحْوَالَ أُمَّتِهِ مِمَّا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْهُمُ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ. (حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: حَتَّى غَايَةُ أَخْبَرَنَا أَيْ أَخْبَرَنَا مُبْتَدِئًا مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَوَضَعَ الْمَاضِيَ مَوْضِعَ الْمُضَارِعِ مُبَالَغَةً لِلتَّحْقِيقِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْأَمِينِ.
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَيْ أَخْبَرَنَا عَنِ الْمَبْدَأِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى أَنِ انْتَهَى الْإِخْبَارُ عَنْ حَالِ الِاسْتِقْرَارِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ بِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ، وَتَيْسِيرُ إِيرَادِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5700 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ; فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5700 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ) أَيْ أَثْبَتَ أَوْ أَمَرَ أَنْ يَكْتُبَ الْمَلَائِكَةُ (كِتَابًا) أَيْ مَكْتُوبًا وَهُوَ اللَّوْحُ، أَوْ كَتَبَ كِتَابَةً مُسْتَقِلَّةً (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا (سَبَقَتْ غَضَبِي) أَيْ غَلَبَتْ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْنَى غَلَبَتِ الرَّحْمَةُ بِالْكَثْرَةِ فِي مُتَعَلِّقِهَا عَلَى الْغَضَبِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ وَالْمَثُوبَةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ أَكْثَرُ مِنْ إِرَادَةِ الشَّرِّ وَالنِّقْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ عَامَّةٌ، وَالْغَضَبَ خَاصٌّ، كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَيْثُ قِيلَ: رَحْمَةُ الرَّحْمَنِ عَامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، بَلْ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ؛ وَلِذَا لَا يُطْلَقُ الرَّحْمَنُ عَلَى غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْكَسْرُ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَيَكُونُ لَفْظَةُ " إِنَّ " مِنْ جُمْلَةِ الْمَكْتُوبِ، وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ كِتَابًا، وَعَلَى كُلٍّ فَالْمَكْتُوبُ إِنَّمَا هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَنْ سَائِرِ الْخَلَائِقِ مَرْفُوعٌ عَنْ حَيِّزِ الْإِدْرَاكِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُثْبَتٌ فِي عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَقَدْ يَطَّلِعُ عَلَى بَعْضِ مَعْلُومَاتِهِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَخُلَّصِ أَوْلِيَائِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْكُشُوفِ، لَا سِيَّمَا إِسْرَافِيلَ عليه السلام، فَإِنَّهُ مُوَكَّلٌ عَلَيْهِ وَيَأْخُذُ الْأُمُورَ مِنْهُ، فَيَأْمُرُ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَعَزْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلًّا بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْكِتَابَ هُنَا بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوِ الْقَضَاءِ الْإِجْمَالِيِّ وَالتَّفْصِيلِيِّ، فَيَتَعَيَّنُ الْكَسْرُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ تَجْعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ زُبْدَةً فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَعُمْدَةَ مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُظُوظِ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ، فَعِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ الْقَضَاءُ الَّذِي قَضَاهُ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَهُوَ عِنْدُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَيْنُونَتِهِ مَكْنُونًا عَنْ سَائِرِ الْخَلَائِقِ، مَرْفُوعًا عَنْ حَيِّزِ الْإِدْرَاكِ، وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنَ التَّصَوُّرَاتِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُبَايِنُ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَفِي سَبْقِ الرَّحْمَةِ بَيَانُ أَنَّ قِسْطَ الْخَلْقِ هَاهُنَا أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِمْ مِنَ الْغَضَبِ، وَأَنَّهَا تَنَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَنَّ الْغَضَبَ لَا يَنَالُهُمْ إِلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ، أَلَا يُرَى أَنَّهَا تَشْمَلُ الْإِنْسَانَ جَنِينًا وَرَضِيعًا وَفَطِيمًا وَنَاشِئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ طَاعَةٌ اسْتَوْجَبَ بِهَا ذَلِكَ، وَلَا يَلْحَقُهُ الْغَضَبُ إِلَّا بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118] ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا سَاقَ إِلَيْنَا مِنَ النِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ يَرْجِعَانِ إِلَى الْمُطِيعِ إِثَابَةً وَعِقَابِ الْعَاصِي، وَالْمُرَادُ بِالسَّبْقِ هُنَا وَالْغَلَبَةِ فِي أُخْرَى كَثْرَةُ الرَّحْمَةِ وَشُمُولِهَا، كَمَا يُقَالُ: غَلَبَ عَلَى فُلَانٍ الْكَرَمُ وَالشَّجَاعَةُ، إِذَا كَثُرَ مِنْهُ. أَقُولُ: وَلَوْ أُبْقِيَا عَلَى حَقِيقَتِهِمَا مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ الْمَجَازِ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى سَابِقَةٌ عَلَى غَضَبِهِ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَإِنَّ أَوَّلَ الرَّحْمَةِ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ، ثُمَّ نِعْمَةُ الْإِمْدَادِ، فَلَا يَخْلُو عَنِ النِّعْمَتَيْنِ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ، وَكَذَا مِنَحُهُ سُبْحَانَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مِحَنِهِ غَالِبَةٌ كَثِيرَةٌ شَامِلَةٌ لِعُمُومِ الْخَلَائِقِ، سَوَاءٌ مَنْ أَطَاعَهُ أَوْ عَصَاهُ فِي الْبِلَادِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنَّ مَفْتُوحَةً بَدَلًا مِنْ كِتَابًا، وَمَكْسُورَةً حِكَايَةً لِمَضْمُونِ الْكِتَابِ، وَهُوَ عَلَى وَزْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] أَيْ أَوْجَبَ وَعْدًا أَنْ يَرْحَمَهُمْ قَطْعًا بِخِلَافِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَى الْغَضَبِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَفُورٌ كَرِيمٌ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ بِفَضْلِهِ، وَأَنْشَدَ:
وَإِنِّي إِذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ
…
لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
فَالْمُرَادُ بِالسَّبْقِ هُنَا الْقَطْعُ لِوُقُوعِهَا. قُلْتُ: لَا بُدَّ وَأَنْ يُخَصَّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ تُعَلَّقُ الْمَشِيئَةُ بِمَغْفِرَتِهِمْ وَسَبْقُ الْإِرَادَةِ بِرَحْمَتِهِمْ، وَإِلَّا فَعَذَابُ الْكَافِرِ مَقْطُوعُ الْوُقُوعِ، بَلْ وَاجِبُ الْحُصُولِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَالتَّخَلُّفُ فِي خَبَرِهِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا، وَقَدْ حَرَّرْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي خُصُوصِ رِسَالَةٍ سَمَّيْتُهَا بِـ " الْقَوْلُ السَّدِيدِ فِي خَلْقِ الْوَعِيدِ ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
5701 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5701 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ» ) أَيْ جِنْسُهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْجَانُّ: الْجِنُّ، وَقَالَ شَارِحٌ: يَعْنِي أَبَا الْجِنِّ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمُقَابَلَتِهِ بِآدَمَ، ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ إِبْلِيسُ (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) أَيْ لَهَبٍ مُخْتَلِطٍ بِسَوَادِ دُخَانِ النَّارِ. قَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15]، وَقَالَ:{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27](وَخُلِقَ آدَمُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ كَمَا قَبْلَهُ (مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ مِمَّا بَيَّنَهُ اللَّهُ لَكُمْ فِي قَوْلِهِ: خَلَقُهُ مِنْ تُرَابٍ، وَقَوْلِهِ:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]، وَقَوْلِهِ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26]، وَقَوْلِهِ:{إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص: 71] . وَلَعَلَّ كَثْرَةَ مَا وَرَدَ فِي حَقِّهِ مَعَ اشْتِهَارِهَا مَا أَوْجَبَتِ الْإِبْهَامَ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ. وَرَوَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي (الْكَامِلِ) بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:( «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابِ الْجَابِيَةِ وَعَجَنَهُ بِمَاءِ الْجَنَّةِ» ) . وَالْجَابِيَةُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: قَرْيَةٌ بِدِمَشْقَ، وَبَابُ الْجَابِيَةِ مِنْ أَبْوَابِهَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا ( «خُلِقَتِ النَّخْلَةُ وَالرُّمَّانُ وَالْعِنَبُ مِنْ فَضْلِ طِينَةِ آدَمَ» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا ( «خَلَقَ الْحُورَ الْعِينَ مِنَ الزَّعْفَرَانِ» ) . وَرَوَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي (مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ) وَأَبُو الشَّيْخِ فِي (الْعَظَمَةِ) وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ:( «خَلَقَ اللَّهُ عز وجل الْجِنَّ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ وَخِشَاشُ الْأَرْضِ، وَصِنْفٌ كَالرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ، وَخَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كَالْبَهَائِمِ، وَصِنْفٌ أَجْسَادُهُمْ أَجْسَادُ بَنِي آدَمَ وَأَرْوَاحُهُمْ أَرْوَاحُ الشَّيَاطِينِ، وَصِنْفٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» ) . وَفِي قَوْلِهِ: وَصِنْفٌ عَلَيْهِمُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ إِيمَاءً إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَوَقُّفِهِ فِي حَقِّ الْجِنِّ بِالثَّوَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
5702 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5702 -
(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ» ) أَيْ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: أَرَى هَذَا الْحَدِيثَ مُشْكِلًا جِدًّا، فَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ بَشَرٌ حَيٌّ، وَيُؤَيِّدُهُ الْمَفْهُومُ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ:{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] قَالَ شَارِحٌ، قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَتَانِ أَعْنِي فِي الْجَنَّةِ سَهْوًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَخْطَأَ سَمْعُهُ فِيهِمَا.
قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الْأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ قُبِضَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَخُمِّرَ حَتَّى صَارَ طِينًا، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى صَارَ صَلْصَالًا، وَكَانَ مُلْقًى بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ بِبَطْنِ نُعْمَانَ، وَهُوَ مِنْ أَوْدِيَةِ عَرَفَاتَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي تَصْوِيرَهُ فِي الْجَنَّةِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ طِينَتُهُ لَمَّا خُمِّرَتْ فِي الْأَرْضِ وَتُرِكَتْ فِيهَا حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهَا الْأَطْوَارُ، وَاسْتَعَدَّتْ لِقَبُولِ الصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ حُمِلَتْ إِلَى الْجَنَّةِ وَصُوِّرَتْ، وَنُفِخَ فِيهَا الرُّوحُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] لَا دَلَالَةَ لَهُ أَصْلًا عَلَى أَنَّهُ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَعْدَ مَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، إِنَّ الْمُرَادَ بِالسُّكُونِ الِاسْتِقْرَارُ وَالتَّمَكُّنُ، وَالْأَمْرُ بِهِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحُصُولِ فِي الْجَنَّةِ، كَيْفَ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَحَدُ الْمَأْمُورَيْنِ، وَلَعَلَّ آدَمَ عليه الصلاة والسلام لَمَّا كَانَتْ مَادَّتُهُ الَّتِي هِيَ الْبَدَنُ مِنَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَصُورَتُهُ الَّتِي بِهَا يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَيُضَاهِي بِهَا الْمَلَائِكَةَ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ أَضَافَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَوُّنَ مَادَّتَهُ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا نَشَأَتْ مِنْهَا، وَأَضَافَ حُصُولَ صُورَتِهِ إِلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهَا. (فَجَعَلَ إِبْلِيسُ) أَيْ فَشَرَعَ مِنْ كَمَالِ تَلْبِيسِهِ (يُطِيفُ بِهِ) يُضَمُّ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله تَعَالَى: طَافَ بِالشَّيْءِ يَطُوفُ طَوْفًا وَطَوَافًا، وَأَطَافَ بِهِ يُطِيفُ إِذَا اسْتَدَارَ حَوْلَهُ (يَنْظُرُ مَا هُوَ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ حَالٌ، أَيْ يَتَفَكَّرُ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَيَتَأَمَّلُ مَاذَا يَظْهَرُ مِنْهُ، (فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ) وَهُوَ مَنْ لَهُ جَوْفٌ (عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ) أَيْ لَا يَتَقَوَّى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلَا قُوَّةَ وَلَا ثَبَاتَ، بَلْ يَكُونُ مُتَزَلْزِلَ الْأَمْرِ، مُتَغَيِّرَ الْحَالِ، مُتَعَرِّضًا لِلْآفَاتِ. وَالتَّمَالُكُ: التَّمَاسُكُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ مِنَ الْمَنْعِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُ دَفْعَ الْوَسْوَاسِ عَنْهُ. وَقِيلَ: لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْأَجْوَفُ فِي صِفَةِ الْإِنْسَانِ مُقَابِلٌ لِلصَّمَدِ فِي صِفَةِ الْبَارِي، قِيلَ: السَّيِّدُ سُمِّيَ بِالصَّمَدِ؛ لِأَنَّهُ يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَيُقْصَدُ إِلَيْهِ فِي الرَّكَائِبِ، مِنْ صَمَدْتُ الْأَمْرَ إِذَا قَصَدْتَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ بِصَدَدِ الْحَاجَةِ أَوْ فِي مَعْرِضِ الْآفَةِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّمَدِ بِمَعْنَى الْمُصَمَّدِ، وَهُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، فَالْإِنْسَانُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْغَيْرِ بِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ، وَإِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِيَمْلَأَ جَوْفَهُ، فَإِذَنْ لَا تَمَاسُكَ لَهُ فِي شَيْءٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. أَقُولُ: وَلَعَلَّ جِنْسَ الْجِنِّ لَيْسُوا عَلَى صِفَةِ الْأَجْوَفِيَّةِ لِيَتِمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5703 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5703 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى وَسَلَّمَ -: " اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ) أَيْ نَفْسُهُ عليه الصلاة والسلام بِأَمْرِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124](وَهُوَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ (ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً " وَفِي الْمُوَطَّأِ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. قِيلَ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَكْمَلُ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ (بِالْقَدُومِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِ الْمُخَفَّفَةِ. وَفِي نُسْخَةٍ تَشْدِيدُهَا. قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْقَدُومُ آلَةٌ لِلنَّحْرِ، وَمَوْضِعٌ اخْتَتَنَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام وَقَدْ تُشَدَّدُ دَالُهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْقَدُومُ بِالتَّخْفِيفِ آلَةُ النَّجَّارِ، مَعْرُوفَةٌ، وَبِالتَّشْدِيدِ اسْمُ مَوْضِعٍ، وَقِيلَ: هُوَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْضًا، هَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله: قَالَ أَبُو الزِّنَادِ، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ:«اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ» مُخَفَّفَةً. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: وَمِنَ الْمُحَدِّثِينَ مَنْ يُشَدِّدُ وَهُوَ خَطَأٌ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْقَدُومُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الْخِلَافُ فِي التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَيُقَالُ لِآلَةِ النَّجَّارِ قَدُومٌ بِالتَّخْفِيفِ لَا غَيْرَ، وَأَمَّا الْقَدُومُ مَكَانٌ بِالشَّامِ فِيهِ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ، فَمَنْ رَوَاهُ بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ الْقَرْيَةَ، وَرِوَايَةُ التَّخْفِيفِ يَحْتَمِلُ الْقَرْيَةَ وَالْآلَةَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى التَّخْفِيفِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.
5704 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وَقَوْلُهُ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] ، وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي: فَأَتَى سَارَةَ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبُنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي لِأَنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَأُتِيَ بِهَا، قَامَ إِبْرَاهِيمُ يُصَلِّي، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ. فَأُخِذَ - وَيُرْوَى فَغُطَّ - حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ، فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدُّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِينِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ يَدَهُ مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5704 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ» ") : بِفَتْحِ الذَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ: هُوَ اسْمٌ لَا صِفَةٌ لِأَنَّكَ تَقُولُ كَذَبَ كَذْبَةً، كَمَا تَقُولُ رَكَعَ رَكْعَةً، وَلَوْ كَانَ صِفَةً لَسُكِّنَ فِي الْجَمْعِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْجَيِّدُ أَنْ يُقَالَ بِفَتْحِ الذَّالِ فِي الْجَمْعِ، أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمَصْدَرَ جَاءَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقَامُوسِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَتْحُ مَخْصُوصًا بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ بِخِلَافِ الْكَسْرِ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ كَانَ الْفَتْحُ أَجْوَدُ، هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى الْحَصْرِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ ذِكْرِ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْكَوْكَبِ هَذَا رَبِّي وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الطُّفُولِيَّةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ زَمَانَ التَّكْلِيفِ، أَوِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالِاحْتِجَاجِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَمَّا الْكَذِبُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا هُوَ طَرِيقُ الْبَلَاغِ عَنِ اللَّهِ عز وجل، فَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنْهُ، سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ تَجْوِيزَهُ مِنْهُمْ يَرْفَعُ الْوُثُوقَ بِأَقْوَالِهِمْ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَرْتَفِعُ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ، وَيُعَدُّ مِنَ الصَّغَائِرِ كَالْكِذْبَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِيرٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَفِي إِمْكَانِ وُقُوعِهِ مِنْهُمْ، وَعِصْمَتِهِمْ مِنْهُ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلْفِ. قَالَ عِيَاضٌ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَذِبَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْكَذَبَاتُ الْمَذْكُورَاتُ، فَإِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ لِكَوْنِهَا فِي صُورَةِ الْكَذِبِ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَيْسَتْ كَذَبَاتٌ. قُلْتُ: وَوَافَقَهُ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّاهَا كَذَبَاتٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَارِيضِ لِعُلُوِّ شَأْنِهِمْ عَنِ الْكِنَايَةِ بِالْحَقِّ، فَيَقَعُ ذَلِكَ مَوْقِعَ الْكَذِبِ عَنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ صُورَتُهَا صُورَةَ الْكَذِبِ سُمِّيَتْ كَذَبَاتٍ، وَقَالَ الْأَكْمَلُ فِي (شَرْحِ الْمَشَارِقِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا حَقِيقَةَ الْكَذِبِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَيَحْتَاجُ إِلَى الْعُذْرِ بِأَنَّ الْكَذِبَ لِلْإِصْلَاحِ جَائِزٌ، فَمَا ظَنُّكَ فِي دَفْعِ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ؟ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَيْفَ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ، مَعَ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ وَمَقَالِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ فِيهِ، وَلَمْ يُرِدْ ظَاهِرَهُ أَلَا يَرَى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ كَذَبَاتِهِ قَوْلَهُ لِسَارَةَ: إِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَقَوْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْأُخْتَ فِي النَّسَبِ، وَقَوْلُهُ:(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) فَإِنَّ اسْتِحَالَةَ صُدُورِ الْفِعْلِ مِنَ الْجِدِّ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ أَوْ مُجَوَّزٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ كَذِبًا. قُلْتُ: وَلَا سِيَّمَا فِيهِ قَوْلٌ بِالْمُوقَفِ عَلَى بَلْ فَعَلَهُ وَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: كَبِيرُهُمْ هَذَا. (ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ) : بَدَلٌ مِنْ " ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ "(فِي ذَاتِ اللَّهِ) أَيْ: لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَوْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَنْزِيهِ ذَاتِهِ عَنِ الشِّرْكِ، أَوْ يُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ أَيْ: فِي كَلَامِهِ، وَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ لِمَا لَمْ يَنْفَكْ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا هُوَ رَأْيُ الْأَشْعَرِيِّ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَ شَارِحٌ أَيْ: فِي أَمْرِ اللَّهِ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ نَفْسُهُ فِيهِ أَرَبٌ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالْأُولَى أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْقَوْمِ بِهَذَا الْعُذْرِ فَيَعْمَلَ بِالْأَصْنَامِ مَا فَعَلَ، وَبِالثَّانِيَةِ إِلْزَامَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ ضُلَّالٌ سُفَهَاءُ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ حَذْفُ الْمُضَافِ أَيْ: فِي كَلَامِ ذَاتِ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّ اثْنَتَيْنِ مَذْكُورَتَانِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ لِسَارَةَ: هِيَ أُخْتِي.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذِهِ أَيْضًا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا سَبَبُ دَفْعِ كَافِرٍ ظَالِمٍ عَنْ مُوَاقَعَةِ فَاحِشَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَرْضَى بِهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا خَصَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِ الثَّالِثَةِ تَضَمَّنَتْ نَفْعًا لَهُ وَدَفْعًا لِحَرَمِهِ، هَذَا وُفِي " الْمُغْرِبِ ": ذُو بِمَعْنَى الصَّاحِبِ يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ مَوْصُوفًا وَمُضَافًا إِلَيْهِ، وَتَقُولُ لِلْمُؤَنَّثِ: امْرَأَةٌ ذَاتُ مَالٍ، ثُمَّ اقْتَطَعُوهَا عَنْ مُقْتَضَاهَا، وَأَجْرَوْهَا مَجْرَى الْأَسْمَاءِ التَّامَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ بِأَنْفُسِهَا غَيْرِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَا سِوَاهَا. فَقَالُوا: ذَاتٌ قَدِيمَةٌ أَوْ مُحْدَثَةٌ، وَنَسَبُوا إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ، فَقَالُوا: الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةُ وَاسْتَعْمَلُوهَا اسْتِعْمَالَ النَّفْسِ وَالشَّيْءِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: كُلُّ شَيْءٍ ذَاتٌ وَكُلُّ ذَاتٍ شَيْءٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: فِي ذَاتِ اللَّهِ أَيْ: فِي الدَّفْعِ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَا فِيهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حَلَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ أَيْ: خَاصَمَ وَجَادَلَ وَذَبَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْرِيضِ لِأَنَّهُ
نَوْعٌ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَنَوْعٌ مِنَ التَّعْرِيضِ يُسَمَّى الِاسْتِدْرَاجُ، وَهُوَ إِرْخَاءُ الْعِنَانِ مَعَ الْخَصْمِ فِي الْمُجَارَاةِ لِيَعْثُرَ حَيْثُ يُرِيدُ تَبْكِيتَهُ، فَسَلَكَ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام مَعَ الْقَوْمِ هَذَا الْمَنْهَجَ فَحِينَئِذٍ. (" قَوْلُهُ ") : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] : وَذَلِكَ عِنْدَمَا طَلَبُوا مِنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ إِلَى عِيدِهِمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ لِلْأَمْرِ الَّذِي هَمَّ بِهِ فَنَظَرَ نَظْرَةً إِلَى النُّجُومِ فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَفِيهِ إِتْمَامٌ مِنْهُ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَمَارَةِ عِلْمِ النُّجُومِ عَلَى أَنَّهُ سَقِيمٌ لِيَتْرُكُوهُ، فَيَفْعَلَ بِالْأَصْنَامِ مَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ، أَوْ سَقِيمُ الْقَلْبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَيْظِ بِاتِّخَاذِكُمُ النُّجُومَ آلِهَةً، أَوْ بِعِبَادَتِكُمُ الْأَصْنَامَ. (وَقَوْلُهُ) : بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ حِينَ كَسَّرَ عليه الصلاة والسلام أَصْنَامَهُمْ إِلَّا كَبِيرَهَا، وَعَلَّقَ الْفَاسَ فِي عُنُقِهِ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] أَيْ: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] يَعْنِي: إِنْ كَانَ لَهُمْ نُطْقٌ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهُ دَفَعُ الضَّرَرَ عَنْ غَيْرِهِ؟ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ النُّطْقِ لَا يَصْلُحُ لِلْأُلُوهِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِلَهَ مَنْ هُوَ مَنْعُوتٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ.
(وَقَالَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ الثَّالِثَةِ (بَيْنَا هُوَ) أَيْ: (إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام مُتَوَجِّهٌ إِلَى الشَّامِ (ذَاتَ يَوْمٍ) أَيْ: بَعْدَ هَلَاكِ نُمْرُودَ (وَسَارَةُ) : عَطْفٌ عَلَى هُوَ، وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ (إِذْ أَتَى) أَيْ: مَرَّ إِبْرَاهِيمُ (عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ) أَيْ: ظَالِمٌ مُسَلَّطٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَتَى جَوَابُ بَيْنَا أَيْ: بَيْنَا هُمَا يَسِيرَانِ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ أَتَيَا عَلَى بَلَدِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَوُشِيَ بِهِمَا، (فَقِيلَ لَهُ) أَيْ: لِلْجَبَّارِ (إِنَّ هَاهُنَا) أَيْ: فِي بَلَدِنَا هَذَا (رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ) أَيْ: صُورَةً (فَأَرْسَلَ) أَيْ: رَسُولًا (إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى إِبْرَاهِيمَ يَطْلُبُهُ فَذَهَبَ إِلَيْهِ، (قَالَ عَنْهَا) أَيْ: عَنْ جِهَتِهَا (مَنْ هَذِهِ) ؟ أَيْ: مَنْ تَكُونُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي مَعَكَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَنْ هَذِهِ بَيَانٌ لِلسُّؤَالِ أَيْ: سَأَلَ الْجَبَّارُ بِهَذَا اللَّفْظِ (قَالَ: أُخْتِي) : فِي الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: كَانَ كَاذِبًا وَكَانَ جَائِزًا بَلْ وَاجِبًا فِي دَفْعِ الظَّالِمِ عَلَى مَا شَرَحَ مُسْلِمٌ، لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى التَّعْرِيضِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ:«إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةٍ عَنِ الْكَذِبِ» ، مَعَ أَنَّ نَفْسَ قَوْلِهِ: أُخْتِي لَا يَخْلُو عَنْ تَعْرِيضٍ مَا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ أُخْتِي أَوْ هِيَ أُخْتِي. (فَأَتَى) أَيْ: إِبْرَاهِيمُ (سَارَةَ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ) : إِنْ شَرْطِيَّةٌ أَيْ: إِنْ عَلِمَ (أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبُنِي عَلَيْكِ) أَيْ: فِي أَخْذِكِ بِالظُّلْمِ عَنِّي (فَإِنْ سَأَلَكِ) أَيْ: عَنْ نَسَبِكِ وَنِسْبَتِكِ عَلَى تَقْدِيرِ إِرْسَالِهِ إِلَيْكِ وَوُصُولِكِ عِنْدَهُ (فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي) أَيْ: عَلَى طَرِيقِ التَّعَلُّقِ كَمَا فَعَلْتُهُ (فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ) أَيْ: حَقِيقَةً بِلَا مُشَارَكَةٍ لِأَحَدٍ غَيْرِنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (لَيْسَ) أَيْ: مَوْجُودٌ (عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ) .
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] . بِمَعْنَى أَنَّ الْإِعْلَانَ قَدْ عَقَدَ بَيْنَ أَهْلِهِ السَّبَبِ الْقَرِيبِ وَالنَّسَبِ اللَّاحِقِ مَا يَفْضُلُ الْأُخُوَّةَ فِي النَّسَبِ السَّابِقِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْحَقِّ الْعَقْدِ مِنِّي وَمِنْكِ الْآنَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ انْتَهَى. وَاسْتُشْكِلَ بِكَوْنِ لُوطٍ عليه الصلاة والسلام يُشَارِكُهَا فِي الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْأَرْضِ هِيَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا مَا وَقَعَ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ لُوطٌ إِذْ ذَاكَ. ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ رحمه الله ثُمَّ قِيلَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ ذَلِكَ الْجَبَّارِ الَّذِي يُتَدَيَّنُ
بِهِ فِي الْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ إِلَّا لِذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ، وَيَرَى أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتِ الزَّوْجَ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ السُّلْطَانِ، بَلْ يَكُونُ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ زَوْجِهَا، فَأَمَّا اللَّاتِي لَا أَزَوَاجَ لَهُنَّ، فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِنَّ إِلَّا إِذَا رَضِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَلْزَمَنِي بِالطَّلَاقِ، أَوْ قَصَدَ قَتْلِي حِرْصًا عَلَيْكِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ دِينَ الْمَلِكِ أَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ التَّزَوُّجَ وَالتَّمَتُّعَ بِقَرَابَاتِ الْأَنْبِيَاءِ.
(فَأَرْسَلَ) أَيِ: الْجَبَّارُ (إِلَيْهَا) أَيْ: إِلَى سَارَةَ يَطْلُبُهَا (فَأُتِيَ بِهَا) أَيْ: جِيءَ بِهَا إِلَى الْجَبَّارِ (قَامَ إِبْرَاهِيمُ: اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: فَمَاذَا فَعَلَ بَعْدُ؟ فَأُجِيبَ: قَامَ إِبْرَاهِيمُ (يُصَلِّي) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ: لِيُصَلِّيَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] كَمَا «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى» عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ حُذَيْفَةَ:(فَلَمَّا دَخَلَتْ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَفِي نُسْخَةٍ: أُدْخِلَتْ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْجَبَّارِ (ذَهَبَ) أَيْ: طَفِقَ (يَتَنَاوَلُ) أَيْ: يَأْخُذُهَا وَيَمَسُّهَا (بِيَدِهِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، أَوْ بَعْدَ سُؤَالِهَا وَسَمَاعِ جَوَابِهَا، لَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَيْلُ إِلَيْهَا لِكَمَالِ حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا. (فَأُخِذَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا أَيْ: حُبِسَ نَفَسُهُ وَضُغِطَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَنْقُ هَاهُنَا. أَيْ: أُخِذَ بِمَجَارِي نَفْسِهِ حَتَّى سُمِعَ لَهُ غَطِيطٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَأُخِذَ بِبِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: حُبِسَ عَنْ إِمْسَاكِهَا، أَوْ عُوقِبَ بِذَنْبِهِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْخَاءِ. قَالَ شَارِحٌ: وَيُرْوَى أُخِذَ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّأْخِيذِ، وَهُوَ اسْتِجْلَابُ قَلْبِ شَخْصٍ بِرُقْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، كَالسِّحْرِ بِحَيْثُ يَصِلُ لَهُ خَرَفٌ أَوْ هَيَمَانٌ أَوْ جُنُونٌ عَلَى مَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَيُؤَيِّدُ رِوَايَةَ التَّخْفِيفِ قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ:(وَيُرْوَى) أَيْ: بَدَلَ يَأْخُذُ أَوْ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ (فَغُطَّ) : بِضَمِّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ طَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ: خُنِقَ (حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ) أَيْ: ضَرَبَ بِرِجْلَيْهِ الْأَرْضَ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: حُصِرَ حَصْرًا شَدِيدًا. وَقِيلَ: الْغَطُّ هُنَا بِمَعْنَى الْخَنْقِ. أَيْ: أُخِذَ بِمَجَامِعِ مَجَارِي نَفَسِهِ حَتَّى يُسْمَعُ لَهُ غَطِيطُ نَخِيرٍ وَهُوَ صَوْتٌ بِالْأَنْفِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ أَيِ: اخْتَنَقَ حَتَّى صَارَ كَالْمَصْرُوعِ، (فَقَالَ: ادْعِي) أَيْ: سَلِي (اللَّهَ لِي) أَيْ: لِأَجْلِيَ الْخَلَاصَ (وَلَا أَضُرُّكِ) أَيْ: بِالتَّعَرُّضِ لَكِ (فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ) أَيْ: مِنَ الْأَخْذِ (ثُمَّ تَنَاوَلَ) أَيْ: أَرَادَ تَنَاوُلَهَا (الثَّانِيَةَ) أَيِ: الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ (فَأُخِذَ مِثْلَهَا) أَيْ: مِثْلَ الْأَخْذَةِ الْأُولَى (أَوْ أَشَدَّ) أَيْ: بَلْ أَشَدَّ مِنْهَا (فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ، فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ حَاجِبٍ كَطَلَبَةٍ جَمْعُ طَالِبٍ (فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِينِي بِإِنْسَانٍ) أَيْ: حَتَّى أَقْدِرَ عَلَيْهَا (إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ) أَيْ: حَيْثُ لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا، بَلْ تَصْرَعُنِي، وَتُرِيدُ أَنْ تُهْلِكَنِي.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَرَادَ بِهِ الْمُتَمَرِّدَ مِنَ الْجِنِّيِّ، وَكَانُوا يَهَابُونَ الْجِنَّ وَيُعَظِّمُونَ أَمْرَهُمْ، (فَأَخْدَمْهَا هَاجَرَ) أَيْ: جَعَلَ الْجَبَّارُ هَاجَرَ خَادِمَةً لِسَارَةَ لَمَّا رَأَى كَرَامَتَهَا وَقُرْبَهَا عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ جَبْرًا لِمَا وَقَعَ مِنْ كَسْرِ خَاطِرِهَا حَيْثُ تَعَرَّضَ لَهَا، (فَأَتَتْهُ) أَيْ: إِبْرَاهِيمَ (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي) : وَهُوَ إِمَّا لِعَدَمِ إِطْلَاعِهِ عَلَى خَلَاصِهَا اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ، أَوِ انْكَشَفَ لَهُ الْأَمْرُ، وَزَادَ فِي الْعِبَادَةِ لِيَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا بَعْدَمَا كَانَ عَبْدًا صَبُورًا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ:(فَأَوْمَأَ) : بِهَمْزَتَيْنِ أَيْ: أَشَارَ إِبْرَاهِيمُ (بِيَدِهِ) أَيْ: إِلَى سَارَةَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ (مَهْيَمْ) ؟ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مَرَّتَيْنِ أَيْ: مَا شَأْنُكِ وَمَا حَالُكِ؟ وَهِيَ كَلِمَةٌ يَمَانِيَةٌ يُسْتَفْهَمُ بِمَا، وَهَاهُنَا مُفَسِّرَةٌ لِلْإِيمَاءِ أَيْ: أَوْمَأَ بِيَدِهِ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهَا مَعْنَاهُ، وَلَيْسَتْ بِتَرْجَمَةٍ لِقَوْلِهِ: وَإِلَّا لَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَهْيَمْ؟ (قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ فِي نَحْرِهِ) أَيْ: عَلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] وَمِنْ قَبِيلِ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: «اللَّهُمَّ
إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ» . (وَأَخْدَمَ هَاجَرَ) أَيْ: أُمَّ إِسْمَاعِيلَ عليه الصلاة والسلام قِيلَ: سُمِّيَتْ هَاجَرُ لِأَنَّهَا هَاجَرَتْ مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ. وَقِيلَ: كَانَ لَا يُولَدُ لَهُ مِنْ سَارَةَ، فَوَهَبَتْ هَاجَرَ لَهُ وَقَالَتْ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكَ مِنْهَا وَلَدًا، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام يَوْمَئِذٍ ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ، نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ.
(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ) أَيْ: هَاجَرُ (أُمُّكُمْ) أَيْ: جَدَّتُكُمْ (يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: قِيلَ: أَرَادَ بِهِمُ الْعَرَبَ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْمَطَرَ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهِ، وَالْعَرَبُ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا بِأَجْمَعِهِمْ مِنْ بَطْنِ هَاجَرَ، لَكِنْ غَلَبَ أَوْلَادُ إِسْمَاعِيلَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِمُ الْأَنْصَارَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَزْدِيِّ، جَدِّ نُعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ كَانَ مُلَقَّبًا بِمَاءِ السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُسْتَمْطَرُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَسَمَّاهُمْ بِذَلِكَ لِطَهَارَةِ نَسَبِهِمْ وَشَرَفِ أُصُولِهِمْ.
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ: أَشَارَ بِهِمْ لِكَوْنِهِمْ مِنْ وَلَدِ هَاجَرَ، لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ أَنْبَعَ اللَّهُ تبارك وتعالى لَهُ زَمْزَمَ وَهِيَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا شَهِدَ لَهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ سَاحَةٍ، فَمَا بَالُهُ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِهَا مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ فَذَكَرَهَا، ثُمَّ قَالَ: نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي عَلَى أَنَّ تَسْمِيَتَهَا وَإِنَّهَا مَعَارِيضُ بِالْكَذَبَاتِ إِخْبَارُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ؟ قُلْتُ: نَحْنُ وَإِنْ أَخْرَجْنَاهَا عَنْ مَفْهُومِ الْكَذَبَاتِ بِاعْتِبَارِ التَّوْرِيَةِ، وَسَمَّيْنَاهَا مَعَارِيضَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ صُورَتَهَا صُورَةُ التَّعْوِيجِ عَنِ الْمُسْتَقِيمِ، فَالْحَبِيبُ قَصَدَ إِلَى بَرَاءَةِ سَاحَةِ الْخَلِيلِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَسَمَّاهَا مَعَارِيضَ، وَالْخَلِيلُ لَمَّحَ إِلَى مَرْتَبَةِ الشَّفَاعَةِ هُنَالِكَ، وَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْحَبِيبِ، فَتَجَوَّزَ بِالْكَذَبَاتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5705 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5705 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] » : تَمَامُهُ: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ شَكًّا، بَلْ كَانَ طَلَبًا لِمَزِيدِ الْعِلْمِ، وَأَنَا أَحَقُّ بِهِ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وَأُطْلِقَ الشَّكُّ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمِزِّيُّ: مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ الشَّكُّ مُتَطَرِّقًا إِلَيْهِ، لَكُنْتُ أَحَقُّ بِهِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَشُكَّ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ إِبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْسِهِ تَوَاضُعًا، أَوْ لِصُدُورِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ خَيْرُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَمَّا سُؤَالُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَلِلتَّرَقِّي مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ رَبَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ طَلَبَ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ دَلِيلُهُ عِيَانًا، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَذْهَبُ هَذَا الْحَدِيثِ التَّوَاضُعُ وَالْهَضْمُ مِنَ النَّفْسِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ هَذَا اعْتِرَافٌ بِالشَّكِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، لَكِنَّ فِيهِ نَفْيُ الشَّكِّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا لَمْ أَشُكَّ أَنَا وَلَمْ أَرْتَبْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، فَإِبْرَاهِيمُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَشُكَّ فِيهِ وَلَا يَرْتَابَ بِهِ، وَفِيهِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ تُعْرَضُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ، لَكِنْ مِنْ قِبَلِ طَلَبِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ، وَاسْتِفَادَةِ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، وَالنَّفْسُ تَجِدُ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ بِعِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ مَا لَمْ تَجِدْهُ بِعِلْمِ الْأُمْنِيَّةِ، وَالْعِلْمُ فِي الْوَجْهَيْنِ حَاصِلٌ وَالثَّالِثُ مَرْفُوعٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا طَلَبَ الْإِيمَانَ حِسًّا وَعِيَانًا، لِأَنَّهُ فَوْقَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَالْمُسْتَدِلُ لَا تَزُولُ عَنْهُ الْوَسَاوِسُ وَالْخَوَاطِرُ، فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:«لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» " انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّ عَدَمَ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ عِلْمُهُمْ مِنْ بَابِ الْكَشْفِ وَالْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ، وَالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي لَهُمْ فِي السَّرَائِرِ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ تَرَدُّدُ الْخَوَاطِرِ، وَتَوَسْوُسُ الضَّمَائِرِ، نَعَمْ مَرْتَبَةُ عَيْنِ الْيَقِينِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ عِلْمِ الْيَقِينِ، وَأَنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ.
وَفِي بَعْضِ (نُسَخِ الْمَصَابِيحِ) : «نَحْنُ أَحَقُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» بِدُونِ قَوْلِهِ بِالشَّكِّ، فَفَالَ شَارِحٌ لَهُ أَيْ: نَحْنُ أَحَقُّ مِنْهُ بِالسُّؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ يُرِيدُ بِهِ تَعْظِيمَ أَمْرِهِ، وَأَنَّ سُؤَالَهُ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِنُقْصَانٍ فِي عَقِيدَتِهِ، بَلْ لِكَمَالِ فِكْرَتِهِ، وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ الطَّالِبَةِ لِحُصُولِ الِاطْمِئْنَانِ بِالْوُصُولِ إِلَى دَرَجَةِ الْعِيَانِ.
قَالَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام» ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْ: لَمْ يَكُنْ صُدُورُ هَذَا السُّؤَالِ مِنْهُ شَكًّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَاخْتَلَجَ فِي صَدْرِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ الشَّكُّ يَعْتَرِيهِ لَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْهُ، وَلَكِنَّا لَا نَشُكُّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَشُكَّ هُوَ فِيهِ؟ أَقُولُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ لَيْسَ صِيغَةُ التَّعْظِيمِ، لِيَحْتَاجَ إِلَى الِاعْتِذَارِ بِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا لِإِبْرَاهِيمَ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ مَعَ أُمَّتِي لَا تَشُكُّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، بَلْ نَحْنُ مُعَاشِرَ الْخَلْقِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ غَالِبًا نَعْتَقِدُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَإِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام مِنْ أَكْمَلِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَرْتَبَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَقَامِ التَّفْرِيدِ حَتَّى أَمَرَنَا بِمُتَابَعَتِهِ عَلَى طَرِيقِهِ الْقَوِيمِ وَسَبِيلِهِ الْمُسْتَقِيمِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الشَّكُّ؟ إِذْ لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الشَّكُّ، وَهُوَ مِنَ الْمَعْصُومِينَ الْمَتْبُوعِينَ لَجَازَ لَنَا بِالْأَوْلَى، وَنَحْنُ مِنَ اللَّاحِقِينَ التَّابِعِينَ. وَالْحَالُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ نَفْيَ الشَّكِّ عَنِ الْخَلِيلِ الرَّحْمَانِيِّ، وَإِيصَالِهِ إِيَّاهُ إِلَى الْمَقَامِ الِاطْمِئْنَانِيِّ، وَالْحَالِ الْعَيَانِيِّ.
(وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا) : قِيلَ: تَصْدِيرُ الْكَلَامِ هَذَا الدُّعَاءَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اعْتِرَاءُ نَقْصٍ عَلَيْهِ فِيمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] حَيْثُ كَأَنَّهُ تَمْهِيدٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِلْخِطَابِ الْمُزْعِجِ. (لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، أَيْ عَشِيرَةٍ قَوِيَّةٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ. وَقَالَ شَارِحٌ تَبَعًا لِلْقَاضِي: وَكَأَنَّهُ اسْتَغْرَبَ مِنْهُ وَعَدَّهُ بَادِرَةً، إِذْ لَا رُكْنَ أَشَدَّ مِنَ الرُّكْنِ الَّذِي كَانَ يَأْوِي إِلَيْهِ، وَهُوَ عِصْمَةُ اللَّهِ وَحِفْظُهُ، وَعِنْدِي أَنَّ أَخْذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْمَبْنَى لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الْأَدَبِ فِي الْإِنْبَاءِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ يَنْهَى عَنْ غِيبَةِ أَفْرَادِ الْعَامَّةِ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَذْكُرَ فِي حَقِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ مَا يَكُونُ مُوهِمًا لِنَقْصِ مَرْتَبَتِهِ، أَوْ تَنَزُّلًا عَنْ عُلُوِّ هِمَّتِهِ؟ فَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ يَمِيلُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالْعَشِيرَةِ الْقَوِيَّةِ، فَيَجُوزُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ الْمِحَالِ، فَإِنَّا مَأْمُورُونَ بِمُتَابَعَةِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ فِي التَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ مَعَ الِاعْتِمَادِ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ثُمَّ رَأَيْتُ فِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) مَا يُقَوِّي الْمَذْكُورَ مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّحْرِيرِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ» ". قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ عليه الصلاة والسلام: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُعَظَّمًا وَمَحْمِيًّا وَمُكَرَّمًا لِقُرْبِهِ مِنْ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِيمَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6] وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ أَيْ: مِقْدَارَ طُولِ زَمَنِ لُبْثِهِ وَجَاءَنِي دَاعٍ بِالطَّلَبِ أَوْ سَاعٍ إِلَى الْخُرُوجِ (لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ) . أَيْ وَلَبَادَرْتُ الْخُرُوجَ عَمَلًا بِالْجَوَازِ. لَكِنَّ يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام صَبَرَ لِحُكْمِ تَقَضِّيهِ ذَلِكَ، كَمَا عَبَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ:{فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ} [يوسف: 50] إِلَى آخِرِهِ وَرُبَّمَا وَجَّبَتُهُ عَلَيْهِ فِي مَرَامِ ذَلِكَ الْمَقَامِ مِمَّنْ قَصْدُهُ الْبَرَاءَةُ مِمَّا اشْتُهِرَ فِي حَقِّهِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ، لِيُقَابِلَ صَاحِبَ الْأَمْرِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ، أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَلِّمُ بَعْضَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَرِيقٍ، فَمَرَّ عَلَيْهِ صَحَابِيٌّ فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام: " إِنَّ هَذِهِ فُلَانَةُ مِنَ الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُظَنُّ فِيكَ ظَنُّ السُّوءِ؟ فَقَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» ".
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى إِحْمَادِهِ صَبْرَ يُوسُفَ عليه السلام، وَتَرْكَهُ الِاسْتِعْجَالَ بِالْخُرُوجِ عَنِ السِّجْنِ مَعَ امْتِدَادِ مُدَّةِ الْحَبْسِ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنَّ فِي ضِمْنِ هَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَإِنْ كَانُوا مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ لَا يُنَازِلُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِنَّهُمْ بَشَرٌ يَطْرَأُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ، فَلَا تَعُدُّوا ذَلِكَ مَنْقَصَةً، وَلَا تَحْسَبُوهُ سَيِّئَةً. قُلْتُ: هَذَا مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَضِيَّةِ سَيِّدِنَا لُوطٍ عليه الصلاة والسلام.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ إِخْبَارًا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَضَجُّرِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ، بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَدْحِ يُوسُفَ عليه السلام، وَتَرْكِهِ الِاسْتِعْجَالَ بِالْخُرُوجِ لِيَزُولَ عَنْ قَلْبِ الْمَلِكِ مَا اتُّهِمَ بِهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ مَشْكُوكٍ. انْتَهَى. وَهُوَ بِعَيْنِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَقِيلَ: بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْصِيرِ يُوسُفَ عليه السلام، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْوَسَائِطَ، وَلَمْ يُفَوِّضْ كُلَّ مَا آتَاهُ إِلَيْهِ تَعَالَى.
قُلْتُ: سَبَقَ أَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَسْبَابِ لَا تُنَافِي تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ مَرْتَبَةَ جَمْعِ الْجَمْعِ هِيَ مُبَاشَرَةُ السَّبَبِ مَعَ مُلَاحَقَةِ عَمَلِ الرَّبِّ، وَقِيلَ: بَلْ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَقْصِيرِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا، وَلِذَا دَعَا أَهْلَ السِّجْنِ بِقَوْلِهِ:{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [يوسف: 39] إِلَخْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى عَوْدَةِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَدَّمَ بَرَاءَةَ نَفْسِهِ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ، وَهُوَ دَعْوَةُ الْمَلِكِ.
قُلْتُ: وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ إِذْ تَقْدِيرُ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ رَسُولًا عَامًّا أَوْ خَاصًّا، فَتَقَدَّمَ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِرْسَالِ مِنَ الْبَرَاءَةِ عَلَيْهِ مِمَّا يَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ، لِئَلَّا يَدُورَ طَعْنُ الطَّاعِنِ حَوَالَيْهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَرَّرْنَاهُ، وَعَلَى حَقِيقَةِ مَا حَرَّرْنَاهُ، مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:( «رَحِمَ اللَّهُ يُوسُفَ عليه السلام إِنْ كَانَ لَذَا أَنَاةٍ حَلِيمًا، لَوْ كُنْتُ أَنَا الْمَحْبُوسُ ثُمَّ أُرْسِلَ إِلَيَّ لَخَرَجْتُ سَرِيعًا» ) . وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ فِي (الزُّهْدِ)، وَابْنِ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا:( «رَحِمَ اللَّهُ أَخِي يُوسُفَ لَوْ أَنَا أَتَانِيَ الرَّسُولُ بَعْدَ طُولِ الْحَبْسِ لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ حِينَ قَالَ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: 50] » كَذَا فِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
5706 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا تَسَتَّرَ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ أَوْ أُدْرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ فَجَمَحَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي يَا حَجَرُ! ثَوْبِي يَا حَجَرُ! حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخْذَ ثَوْبَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ " ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5706 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا» ") : بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الْأُولَى وَبِتَشْدِيدِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّهُ فَعِيلٌ أَيْ مُسْتَحْيِيًا (سَتِيرًا)، بِفَتْحِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْفَوْقِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ. قَالَ شَارِحٌ أَيْ: مَسْتُورًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُبَالَغَةُ سَاتِرٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي نُسْخَةِ مَنْ كَسَرَ السِّينَ وَالْفَوْقِيَّةَ الْمُشَدَّدَةَ، وَكَأَنَّ الشَّارِحَ جَعَلَ قَوْلَهُ:" لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ ": صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ هُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ كَثِيرَ التَّسَتُّرِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْتُرَ جَمِيعَ بَدَنِهِ عِنْدَ اغْتِسَالِهِ (اسْتِحْيَاءً) ، أَيْ مِنَ النَّاسِ (فَآذَاهُ، مَنْ آذَاهُ) : بِالْمَدِّ فِيهِمَا أَيْ: مَنْ أَرَادَ إِيذَاءَهُ (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا) : جَمْعٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ كَمَا أَفْرَدَ أَوَّلًا بِنَاءً عَلَى لَفْظِهِ، وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ أَيْ فَقَالَ بَعْضُ الْمُؤْذِينَ:(مَا تَسَتَّرَ) أَيْ: مُوسَى (هَذَا التَّسَتُّرَ) أَيْ: الْبَلِيغَ (إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ أَوْ أُدْرَةٌ) ، بِضَمِّ هَمْزَةٍ وَسُكُونِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ نَفْخَةٌ بِالْخُصْيَةِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ) ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يُنَزِّهَهُ عَنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ الْعَيْبِ، وَيُثْبِتَ لَهُ الْحَيَاءَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّ اللَّهَ هُوَ هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ بِالْوَاوِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ لِلتَّعْقِيبِ، وَأَصْلُ الْكَلَامِ فَقَالُوا: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُبَرِّئَهُ، وَأَتَى بِأَنَّ الْمُؤَكِّدَةِ تَأْكِيدَ اعْتِنَاءٍ بِشَأْنِهِ، (فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ) أَيْ: انْفَرَدَ عَنِ النَّاسِ وَقْتًا مَا حَالَ كَوْنِهِ مُنْفَرِدًا (لِيَغْتَسِلَ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ) أَيْ: بِجَنْبِ الْمَاءِ (فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ)، الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: فَأَخَذَهُ فَارًّا عَنْ مُوسَى، (فَجَمَحَ مُوسَى) : بِجِيمٍ وَمِيمٍ وَحَاءٍ
مَفْتُوحَاتٍ. أَيْ: ذَهَبَ وَأَسْرَعَ إِسْرَاعًا لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 57](فِي أَثَرِهِ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَقَدْ يُكْسَرُ الْهَمْزُ وَتُسَكَّنُ الْمُثَلَّثَةُ أَيْ: فِي عَقِبِ الْحَجَرِ (يَقُولُ) أَيْ: بِلِسَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ (ثَوْبِي) أَيْ: أَعْطِنِي ثَوْبِي (يَا حَجَرُ ثَوْبِي) أَيْ: مَطْلُوبِي ثَوْبِي (يَا حَجْرُ وَالتِّكْرَارُ لِلتَّكْثِيرِ (حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِيهِمُ الْمُؤْذِينَ (فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: عُرْيَانًا حَالٌ. وَكَذَا قَوْلُهُ: " أَحْسَنَ " لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى النَّظَرِ. (وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ)، أَيْ لَيْسَ بِهِ عَيْبٌ مَا. (وَأَخَذَ ثَوْبَهُ وَطَفِقَ) أَيْ: شَرَعَ (بِالْحَجَرِ ضَرْبًا أَيْ: بِضَرْبِهِ ضَرْبًا، فَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] (فَوَاللَّهِ إِنَّ فِي الْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ) : النَّدَبُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالدَّالِ أَيْ: أَثَرًا وَعَلَامَةً بَاقِيَةً مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ، وَأَصْلُ النَّدَبِ أَثَرُ الْجُرْحِ، إِذَا لَمْ يَرْتَفِعْ عَنِ الْجِلْدِ، فَشُبِّهَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ بِالْحَجَرِ وَقَوْلُهُ:(ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا) . مُتَعَلِّقٌ بِالضَّرْبِ أَوِ النَّدَبِ وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: ثَلَاثًا أَيْ نَدَبَاتٍ. ثَلَاثًا بَيَانًا وَتَفْسِيرًا لِاسْمِ إِنَّ، وَضَرْبُهُ هَذَا مِنْ أَثَرِ غَضَبِهِ عَلَى الْحَجَرِ لِأَجْلِ فِرَارِهِ، وَقِلَّةِ أَدَبِهِ، وَلَعَلَّهُ ذُهِلَ عَنْ كَوْنِهِ مَأْمُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَفِيهِ مَأْخَذُ الْعُلَمَاءِ الْأَنَامِ عَلَى أَنَّ ضَرَرَ الْخَاصِّ يُتَحَمَّلُ لِنَفْعِ الْعَامِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ مُوسَى أُمِرَ بِحَمْلِ الْحَجَرِ مَعَهُ إِلَى أَنْ كَانَ فِي التِّيَهِ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: فِيهِ مُعْجِزَتَانِ ظَاهِرَتَانِ لِمُوسَى عليه الصلاة والسلام. إِحْدَاهُمَا مَشْيُ الْحَجْرِ بِثَوْبِهِ، وَالثَّانِيَةُ حُصُولُ النَّدَبِ فِي الْحَجَرِ بِضَرْبِهِ، وَفِيهِ حُصُولُ التَّمْيِيزِ فِي الْجَمَادِ، وَفِيهِ جَوَازُ الْغُسْلِ عُرْيَانًا فِي الْخَلْوَةِ، وَإِنْ كَانَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ أَفْضَلُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ رحمهم الله، وَخَالَفَهُمُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَقَالَ: إِنَّ لِلْمَاءِ سَاكِنًا. قُلْتُ: إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ رحمه الله مَعَ الْجُمْهُورِ، وَظَاهِرُ مُخَالَفَةِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي دُخُولِ الْمَاءِ. قَالَ: وَفِيهِ ابْتِلَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ أَذَى السُّفَهَاءِ وَالجُّهَالَةِ وَصَبْرُهُمْ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنَزَّهُونَ عَنِ النَّقَائِصِ فِي الْخَلْقِ، وَالْخُلُقِ سَالِمُونَ مِنَ الْعَاهَاتِ وَالْمَعَايِبِ، اللَّهُمَّ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الِابْتِلَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5707 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لَا غِنَى عَنْ بَرَكَتِكَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5707 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا)، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَابِسًا لِلْإِزَارِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي: يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَجَرِّدًا عَنِ الثِّيَابِ كُلِّهَا عَلَى طِبْقِ مَا سَبَقَ لِمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ جَائِزًا عِنْدَهُمَا، لَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ إِلَى أَنَّ التَّسَتُّرَ أَوْلَى حَيَاءً مِنَ الْمَوْلَى، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ لِيُتِمِّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، (فَخَرَّ) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ: فَسَقَطَ وَنَزَلَ (عَلَيْهِ) أَيْ: فَوْقَهُ " أَطْرَافَهُ "(جَرَادٌ) أَيْ: جِنْسُ جَرَادٍ (مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي) أَيْ: يَضَعَهُ (فِي ثَوْبِهِ) : كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِكَفِّهِ أَوْ كَفَّيْهِ، وَيَضَعُ فِي ثَوْبِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وَهُوَ الْإِزَارُ اللَّابِسُ لَهُ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوِ الْمُنْفَصِلُ الَّذِي مَا لَبِسَهُ بَعْدُ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ. قَالَ شَارِحٌ لَهُ أَيْ يَجْمَعُهُ فِي ذَيْلِهِ وَيَضُمُّ طَرَفَ الذَّيْلِ إِلَى نَفْسِهِ، (فَنَادَاهُ رَبُّهُ) أَيْ: نِدَاءَ تَلَطُّفٍ (يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ) أَيْ: جَعَلْتُكَ ذَا غِنًى (عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ)، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَذَا لَيْسَ بِعِتَابٍ مِنْهُ تَعَالَى إِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ مُثْرِيًا لَا يَشْبَعُ بِثَرَاهُ، بَلْ يُرِيدُ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ التَّلَطُّفِ وَالِامْتِحَانِ بِأَنَّهُ هَلْ يَشْكُرُ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، فَيَزِيدُ فِي الشُّكْرِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ:(وَلَكِنْ لَا غِنًى) : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ مَقْصُورًا أَيْ لَا اسْتِغْنَاءَ (بِي عَنْ بَرَكَتِكَ) . أَيْ عَنْ كَثْرَةِ نِعْمَتِكَ، وَزِيَادَةِ رَحْمَتِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحِمَتِكَ أَوْ مِنْ فَضْلِكَ، وَفِيهِ جَوَازُ الْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْحَلَالِ فِي حَقِّ مَنْ وَثَقَ مِنْ نَفْسِهِ الشُّكْرَ عَلَيْهِ، وَيَصْرِفُهُ فِيمَا يُحِبُّ رَبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيُتَوَجَّهُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، وَفِي تَسْمِيَةِ الْمَالِ مِنْ جِهَةِ الْحَلَالِ بَرَكَةً فِي الْمَالِ وَحُسْنِ الْحَلَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي: " «مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرَ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» ". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
5708 -
وَفِي رِوَايَةٍ: " «فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَةِ يَوْمِ الطُّورِ، أَوْ بُعِثَ قَبْلِي؟ وَلَا أَقُولُ أَنَّ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» .
ــ
5708 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ) ، بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ افْتِعَالٌ مِنَ السَّبِّ وَهُوَ الشَّتْمِ، وَالْمَعْنَى سَبَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، (قَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ) أَيْ: جَمِيعِهِمْ مِنْ خَلَفِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ (فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ) أَيْ: عَالَمِي زَمَانِهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ الْمُعَارَضَةَ، وَحَاصِلُ مَرَامِهِ الْمُشَارَكَةَ فِي الِاصْطِفَاءِ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، (فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ: الْقَوْلِ الْمُوهِمَ لِخِلَافِ الْأَدَبِ (فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ) ، أَيْ ضَرَبَهُ بِكَفِّهِ كَفًّا لَهُ وَتَأْدِيبًا (فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ) . أَيْ الْأَمْرِ (فَأَخْبَرَهُ)، أَيْ بِمُطَابَقَةِ الْخَبَرِ (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تُخَيِّرُونِي ") : بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنَ التَّخْيِيرِ بِمَعْنَى الِاصْطِفَاءِ، وَالْمَعْنَى لَا تَجْعَلُونِي خَيْرًا بِمَعْنَى لَا تُفَضِّلُونِي (عَلَى مُوسَى) أَيْ: وَنَحْوِهِ مِنْ أَصْحَابِ النُّبُوَّةِ تَفْضِيلًا يُؤَدِّي إِلَى إِيهَامِ الْمَنْقَصَةِ، أَوْ إِلَى تَسَبُّبِ الْخُصُومَةِ، فَإِنَّ أَمْرَ التَّفْضِيلِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ عَلَى وَجْهِ التَّفْضِيلِ، (فَإِنَّ النَّاسَ) أَيْ: جَمِيعَهُمْ (يُصْعَقُونَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى (فَأُصْعَقُ مَعَهُمْ) : مِنْ صَعِقَ الرَّجُلُ إِذَا أَصَابَهُ فَزَعٌ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا مَاتَ مِنْهُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوْتِ كَثِيرًا، لَكِنَّ هَذِهِ الصَّعْقَةَ صَعْقَةُ فَزَعٍ قَبْلَ الْبَعْثِ لِذِكْرِ الْإِفَاقَةِ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ:(فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ)، فَإِنَّ الْإِفَاقَةَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْغَشْيِ وَالْبَعْثِ فِي الْمَوْتِ (فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ) : قَالَ شَارِحٌ أَيْ: قَوِيٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ آخِذٌ (بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي كَانَ) أَيْ: أَكَانَ (فِيمَنْ صُعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي)، أَيْ لِفَضِيلَةٍ اخْتُصَّ بِهَا (أَوْ كَانَ فِيمَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ) أَيْ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] وَالْمَعْنَى أَوْ كَانَ فِيمَنْ لَمْ يُصْعَقْ فَلَهُ مَنْقَبَةٌ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: يَعْنِي فَإِنْ أَفَاقَ قَبْلِي فَهِيَ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يُصْعَقْ، فَهِيَ أَيْضًا فَضِيلَةٌ، وَإِنَّمَا فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ، لَا مَنْ يَقُولُهُ بِدَلِيلٍ، أَوْ مَنْ يَقُولُ بِحَيْثُ يُؤَدِّي إِلَى تَنْقِيصِ الْمَفْضُولِ، أَوْ يَجُرُّ إِلَى الْخُصُومَةِ، أَوِ الْمُرَادُ لَا تُفَضِّلُونِي بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمَفْضُولِ فَضِيلَةٌ، أَوْ أَرَادَ النَّهْيَ عَنِ التَّفْضِيلِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِخَصَائِصَ وَفَضَائِلَ أُخْرَى.
قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] وَ {لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55](وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ) أَيْ: أَجُوزِيَ (بِصَعْقَةِ يَوْمِ الطَّوْرِ) ، بِإِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الظَّرْفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّمَائِرِ أَيْ: بِصَعْقَةِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] فَفِي الْقَامُوسِ: صَعِقَ كَسَمِعَ صَعْقًا وَيُحَرَّكُ، وَصَعْقَةً وَتَصَاعُقًا، فَهُوَ صَعِقٌ كَ " كَنِفٌ " غُشِيَ عَلَيْهِ. (أَوْ بُعِثَ قَبْلِي) ؟ أَيْ أَفَاقَ قَبْلَ إِفَاقَتِي بَعْدَمَا شَارَكَنِي فِي صَعْقَتِي، فَالْبَعْثُ مَجَازٌ عَنِ الْإِفَاقَةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ (وَلَا أَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا) أَيْ: لَا أَنَا وَلَا غَيْرِي مِنَ الْأَنْبِيَاءِ (أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) . بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ الْمَقْصُورَةِ قِيلَ: هِيَ اسْمُ أَمِّ يُونُسَ عَلَى مَا فِي (جَامِعِ الْأُصُولِ) ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ أَحَدًا اسْتُعْمِلَ فِي الْإِثْبَاتِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا أُفَضِّلُ أَحَدًا عَلَى يُونُسَ.
5709 -
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ:( «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ» ".
ــ
5709 -
(وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَا تُخَيِّرُوا) أَيْ: لَا تُفَضِّلُوا (بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ) .
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى» أَيْ لَا تُفَضِّلُونِي عَلَيْهِ. أَقُولُ: قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ أَوَّلًا، ثُمَّ لِيَرْدَعَ الْأُمَّةَ عَنِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ ثَانِيًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْعَصَبِيَّةِ، فَيَنْتَهِزُ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ فُرْصَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَيُطْرُونَ الْفَاضِلَ فَوْقَ حَقِّهِ، وَيَبْخَسُونَ الْمَفْضُولَ حَقَّهُ، فَيَقَعُونَ فِي مَهْوَاةِ الْغَيِّ، وَلِذَا قَالَ:«لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» ، أَيْ: لَا تُقْدِمُوا عَلَى ذَلِكَ بِأَهْوَائِكُمْ وَآرَائِكُمْ، بَلْ مِمَّا آتَاكُمُ اللَّهُ مِنَ الْبَيَانِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» " أَيْ: لَا أَقُولُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَلَا أُفَضِّلُ أَحَدًا عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ، فَإِنَّ شَأْنَهُمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، بَلْ نَقُولُ: كُلُّ مَنْ أُكْرِمَ بِالنُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ أُكْرِمَ بِالرِّسَالَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وَإِنَّمَا خُصَّ يُونُسَ عليه السلام بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الرُّسُلِ لِمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَمْرِ يُونُسَ، وَتَوَلِّيهِ عَنْ قَوْمِهِ، وَضَجْرَتِهِ عَنْ تَثَبُّطِهِمْ فِي الْإِجَابَةِ، وَقِلَّةِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُمْ وَالِاحْتِفَالِ بِهِمْ حِينَ رَامُوا التَّنَصُّلَ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:{وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] وَقَالَ: {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] فَلَمْ يَأْمَنْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَامِرَ بَوَاطِنَ الضُّعَفَاءِ مِنْ أُمَّتِهِ مَا يَعُودُ إِلَى نَقِيصَةٍ فِي حَقِّهِ فَنَبَّأَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَنَّهُ مَعَ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ كَسَائِرِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ جَامِعٌ فِي بَيَانِ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ فَافْهَمْ تَرْشُدْ إِلَى الْأَقْوَمِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الصَّعْقَةِ فَهِيَ قَبْلَ الْبَعْثِ عِنْدَ نَفْخَةِ الْفَزَعِ، فَأَمَّا فِي الْبَعْثِ، فَلَا تَقَدُّمَ لِأَحَدٍ فِيهِ عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتِصَاصُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام هَذِهِ الْفَضِيلَةَ لَا تُوجِبُ لَهُ تَقَدُّمًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ بِسَوَابِقٍ جَمَّةٍ، وَفَضَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَاللَّهُ الْمَأْمُولُ أَنْ يُعَرِّفَنَا حُقُوقَهُمْ، وَيُحْيِينَا عَلَى مَحَبَّتِهِمْ، وَيُمِيتَنَا عَلَى سُنَّتِهِمْ، وَيَحْشُرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَةٍ:" لَا تُفَضِّلُوا ") : بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ أَيْ: لَا تُوقِعُوا التَّفْضِيلَ (بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ)، أَيْ: وَكَذَا بَيْنَ رُسُلِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِزْرَاءِ بِبَعْضٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِفَسَادِ الِاعْتِقَادِ فِي بَعْضٍ وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالصَّادِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ أَيْ: لَا تُفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ لِقَوْلِهِ: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136] .
5710 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: " «قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ» ".
ــ
5710 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي) أَيْ: وَيَعْنِي نَفْسَهُ أَوْ نَفْسِي (" خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ") أَيْ: فَضْلًا عَنْ غَيْرِي (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: " مَنْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ ") أَيْ: فِي النُّبُوَّةِ (" مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى لَقَدْ كَذَبَ ") : لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِاعْتِبَارِ الدَّرَجَاتِ، وَخُصَّ يُونُسُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ تُوهِمُ انْحِطَاطَ رُتْبَتِهِ حَيْثُ قَالَ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140] فَلَفَظُ: " أَنَا " وَاقِعٌ مَوْقِعَ " هُوَ "، وَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْقَائِلِ، فَحِينَئِذٍ كَذَبَ بِمَعْنَى كَفَرَ، كَنَّى بِهِ عَنِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَذِبَ مُسَاوٍ لِلْكُفْرِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: قِيلَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ يَعُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى كُلِّ قَائِلٍ أَيْ: لَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، أَوِ الْعِلْمِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَلَغَ مَا بَلَغَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ، وَيُؤَيُّدُهُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى: مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى. أَقُولُ: فِي تَأْيِيدِهَا نَظَرٌ لِتَحَقُّقِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِ أَيْضًا، بَلِ الْمَعْنَى الثَّانِي أُظْهَرُ مِنْهَا حَيْثُ قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ بِطْرِيقِ الْعُمُومِ الْمُشِيرِ إِلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي " الْجَامِعِ " مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا خُصَّ يُونُسُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُ فِي جُمْلَةِ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَقَالَ:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ - إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] فَقَصَّرَ بِهِ عَنْ مَرَاتِبِ أُولِي الْعَزْمِ وَالصَّبْرِ مِنَ الرُّسُلِ، يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا لَمْ آذَنْ لَكُمْ أَنْ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى، فَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تُفَضِّلُونِي عَلَى غَيْرِهِ مَنْ ذَوِي الْعَزْمِ مِنْ أَجِلَّةِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مِنْهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَالْهَضْمِ مِنَ النَّفْسِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ:" «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» " لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ مُفْتَخِرًا وَلَا مُتَطَاوِلًا بِهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ذِكْرًا لِلنِّعْمَةِ وَمَصْرِفًا بِالْمِنَّةِ، وَأَرَادَ بِالسِّيَادَةِ مَا يُكْرَمُ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ مِنَ الشَّفَاعَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
5711 -
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5711 -
(وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ» ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ مَوْجُودٌ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، سِيَّمَا عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وَأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَالْمَعْرِفَةِ. وَحِكَايَاتُهُمْ فِي رُؤْيَتِهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ وَسُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ، وَحُضُورِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ، وَمَوَاطِنِ الْخَيْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَصَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ بِذَلِكَ، وَشَذَّ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ.
قَالَ الْحِمْيَرِيُّ الْمُفَسِّرُ، وَأَبُو عَمْرٍو: هُوَ نَبِيٌّ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُرْسَلًا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ، وَكَثِيرُونَ: هُوَ وَلِيٌّ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِنُبُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ: مَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَعْلَمُ مِنَ النَّبِيِّ. وَأَجَابَ الْآخَرُونَ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ، كَمَا أُلْقِيَ إِلَى أُمِّ مُوسَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى - أَنِ اقْذِفِيهِ} [طه: 38 - 39] قُلْتُ: فِيهِ أَنَّ الْوَحْيَ إِلَى أُمِّ مُوسَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَدْبِيرِ خَلَاصِ الطِّفْلِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ فِي أَمْرِهِ، وَأَمَّا حَمْلُ أَمْرِ الْغُلَامِ عَلَى الْإِلْهَامِ إِلَى الْوَلِيِّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْوَحْيِ الْإِلْهَامِيِّ بِأَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا، وَقَدْ قَالَ الثَّعْلَبِيُّ الْمُفَسِّرُ: الْخَضِرُ نَبِيٌّ مُعَمِّرٌ مَحْجُوبٌ عَنْ أَكْثَرِ الْأَبْصَارِ. قَالَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ حِينَ يُرْفَعُ الْقُرْآنُ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ الدَّجَّالُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالًا أَنَّهُ مِنْ زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام أَمْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ؟ قُلْتُ: وَيُرْوَى أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) : رَوَى الْحَارِثُ عَنْ أَنَسٍ: الْخَضِرُ فِي الْبَحْرِ، وَإِلْيَاسُ فِي الْبَرِّ يَجْتَمِعَانِ كُلَّ لَيْلَةٍ عِنْدَ الرَّدْمِ الَّذِي بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَيَحُجَّانِ وَيَعْتَمِرَانِ كُلَّ عَامٍ، وَيَشْرَبَانِ مِنْ زَمْزَمَ شَرْبَةً تَكْفِيهِمَا إِلَى قَابِلٍ. وُفِي (الْفَتَاوَى الْحَدِيثِيَّةِ) : رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ: إِنْ إِلْيَاسَ وَالْخَضِرَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ عَامٍ بِالْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلَّا اللَّهُ، بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
ثُمَّ قَوْلُهُ: (طُبِعَ كَافِرًا) أَيْ: خُلِقَ الْغُلَامُ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ، فَلَا يُنَافِي خَبَرَ:" «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " إِذِ الْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ اسْتِعْدَادُ قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ شَقِيًّا فِي جِبِلَّتِهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي (الْكَامِلِ) ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي (الْكَبِيرِ)، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا:" «خَلَقَ اللَّهُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا، وَخَلَقَ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا» ". وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّ «بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي كُلِّ مَوْلُودٍ يُكْتَبُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، وَعَلَى طَبَقَةٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَائَهُمْ} [محمد: 16] » قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: فِيَ هَذَا حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَصِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ فِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ لَهُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ لِلْعَبْدِ فِعْلًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَقُدْرَةً عَلَى الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَفِيهِ أَنَّ الَّذِينَ قُضِيَ لَهُمْ بِالنَّاسِ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمَنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، أَوْ حِجَابًا مَسْتُورًا، وَجَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، وَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضًا، لِتَتِمَّ سَابِقَتُهُ وَتَمْضِيَ كَلِمَتُهُ، لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَطْفَالَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ. قُلْتُ: الْأَوْلَى التَّفْصِيلُ بِأَنَّ مَنْ طُبِعَ مِنْهُمْ كَافِرًا يَكُونُ فِي النَّارِ، وَمَنْ وُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ، وَيُقَارَبُ الْقَوْلُ بِالتَّوَقُّفِ الَّذِي اخْتَارَهُ إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَلَوْ عَاشَ) أَيْ: ذَلِكَ الْغُلَامُ بِأَنْ أَدْرَكَ الْكِبَرَ (لِأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ) أَيْ: لَكَلَّفَهُمَا (طُغْيَانًا وَكُفْرًا) أَيْ: جُعِلَ سَبَبًا لِإِضْلَالِهِمَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِلَّةَ قَتْلِهِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَوْنِهِ طُبِعَ كَافِرًا، وَإِنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ عَاشَ لَكَانَ مُضِلًّا فَاجِرًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَمَّا كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ يَكُونُ هُوَ مُؤْمِنًا. قُلْتُ: فَكَيْفَ يَجُوزُ قَتْلُ الْمُؤْمِنِ؟ قَالَ: فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ لَوْ بَلَغَ لَكَانَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ. أَيْ: غَشِيَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. أَيْ طُغْيَانًا عَلَيْهِمَا وَكُفْرًا لِنِعْمَتِهِمَا بِعُقُوقِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ حَمَلَهُمَا أَنْ يَتْبَعَاهُ فَيَطْغَيَا.
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، فَإِنْ قُلْتَ: خَوْفُ كُفْرِ أَحَدٍ فِي الْمَآلِ لَا يُبِيحُ قَتْلَهُ فِي الْحَالِ، فَكَيْفَ قَتَلَهُ الْخَضِرُ مِنْ خَوْفِ كُفْرٍ؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي شَرْعِهِمْ. قُلْتُ: تَقْرِيرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقْرِيرُهُ مُوسَى صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، بَلْ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا لَوْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا، كَمَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَبَطَلَ كَوْنُ الْغُلَامِ مُؤْمِنًا حِينَئِذٍ، إِذْ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُؤْمِنِ مِنْ غَيْرِ جُنْحٍ إِجْمَاعًا فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ. قَالَ: أَوْ نَقُولُ هَذَا عِلْمٌ لَدُنِّيٌّ، وَلَهُ مَشْرَبٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَعْهُودِ فِي الظَّاهِرِ، فَلَا نَشْتَغِلُ بِكَيْفِيَّتِهِ. قُلْتُ: لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ فِي أَحْكَامِ الطَّرِيقَةِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِمَّنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَرْتَبَةِ الْجَمْعِ نُسِبَ إِلَى الزَّنْدَقَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُوَ عَنْ أَحَدِ شَيْئَيْنِ: فَإِنَّ الْخَضِرَ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَمِلَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عِلْمِهِ اللَّدُنِّيِّ، وَإِلْهَامِهِ الْغَيْبِيِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْعُظْمَى، وَالْبَلِيَّةِ الْكُبْرَى، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي قَتْلِ الْخَضِرِ، وَكَأَنَّهُ خَرَجَ مَوْضِعُ الِاعْتِذَارِ عَنْهُ تَصْرِيحًا بِخِلَافِ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى ذَلِكَ تَلْوِيحًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5712 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5712 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ) أَيْ: خَضِرًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِهِ أَيْ إِنَّمَا سُمِّيَ الرَّجُلُ الْمَشْهُورُ الْخَضِرَ (لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ)، فِي النِّهَايَةِ: الْفَرْوَةُ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ. وَقِيلَ: الْهَشِيمُ الْيَابِسُ مِنَ النَّبَاتِ. قُلْتُ: وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَمُؤَدَّاهُمَا مُتَّحِدٌ، وَاخْتَارَ شَارِحٌ الْقَوْلَ الثَّانِي فَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْفَرْوَةِ الْهَشِيمُ الْيَابِسُ شَبَّهَهُ بِالْفَرْوِ، وَقِيلَ: الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ، وَقِيلَ: جِلْدَةُ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: قِطْعَةُ نَبَاتٍ مُجْتَمِعَةٌ يَابِسَةٌ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَلَعَلَّ الثَّانِيَ مِنْ قَوْلَيِّ صَاحِبِ النِّهَايَةِ أَنْسَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مَنْ خَلْفِهِ خَضِرًا) ؟ إِمَّا تَمْيِيزٌ أَوْ حَالٌ، فَكَأَنَّهُ نَظَرَ الْخَضِرُ عليه الصلاة والسلام إِلَى مَجْلِسِهِ ذَاكَ، فَإِذَا هِيَ تَتَحَرَّكُ مِنْ جِهَةِ الْخُضْرَةِ وَالنَّضَارَةِ انْتَهَى. وَلَعَلَّهُ قَالَ: مِنْ خَلْفِهِ مَعَ أَنَّ النُّمُوَّ وَالِاهْتِزَازَ بِمَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ مِنْ تَحْتِهِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْخُضْرَةَ زَادَتْ عَنِ الْمَجْلِسِ إِلَى انْتِهَاءِ الْفَرْوَةِ الْبَيْضَاءِ، ثُمَّ قَالَ شَارِحٌ: قَوْلُهُ " خَضِرًا " بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مَعَ التَّنْوِينِ أَيْ نَبَاتًا أَخْضَرَ نَاعِمًا. وَرُوِيَ عَلَى زِنَةِ صَفْرَاءَ. قُلْتُ: وَهُوَ كَذَلِكَ فِي " أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمَضْبُوطَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ النُّسْخَةَ الْأُولَى لِمُنَاسَبَةِ وَجْهِ التَّسْمِيَةِ أَوْلَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَأَسْنَدَهُ السُّيُوطِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ فِي (الْجَامِعِ الصَّغِيرِ) إِلَى أَحْمَدَ، وَالشَّيْخَيْنِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
5713 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى ابْنِ عِمْرَانَ، فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ ". قَالَ: " فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا ". قَالَ: " فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي " قَالَ: " فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرِهِ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ ، قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ. قَالَ: فَالْآنَ مِنْ قَرِيبٍ، رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5713 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ ") أَيْ: فِي صُورَةِ بَشَرٍ (إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَقَالَ لَهُ) أَيْ: لِمُوسَى عليه الصلاة والسلام (أَجِبْ رَبَّكَ) أَيْ: بِقَبُولِ الْمَوْتِ، وَالْمَعْنَى إِنِّي جِئْتُكَ لِأَقْبِضَ رُوحَكَ (قَالَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ) أَيْ: ضَرَبَهَا بِبَاطِنِ كَفِّهِ (فَفَقَأَهَا) . بِفَاءٍ فَقَافٍ فَهَمْزَةٍ مَفْتُوحَاتٍ أَيْ: فَشَقَّهَا وَقَلَعَهَا وَأَعْمَاهَا. قِيلَ: الْمَلَائِكَةُ يَتَصَوَّرُونَ بِصُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَتِلْكَ الصُّورَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ كَالْمَلَابِسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَاللَّطْمَةُ إِنَّمَا أَثَّرَتْ فِي الْعَيْنِ الصُّورِيَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ الْمَلَكِيَّةِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُتَأَثِّرَةٍ بِاللَّطْمَةِ وَغَيْرِهَا.
قَالَ شَارِحٌ: وَإِنَّمَا لَطَمَهَا مُوسَى لِإِقْدَامِهِ عَلَى قَبْضِ رَوْحِهِ قَبْلَ التَّخْيِيرِ، وَالْأَنْبِيَاءُ كَانُوا مُخَيَّرِينَ عِنْدَ اللَّهِ آخِرَ الْأَمْرِ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِذَلِكَ. (قَالَ:" «فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي» ". قَالَ: " «فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله فَإِنْ قُلْتَ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِ الْمَلَكِ عَبْدٍ لَكَ عَلَى التَّنْكِيرِ، وَبَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ عَبْدِي؟ قُلْتُ: دَلَّ قَوْلُ الْمَلَكِ عَلَى نَوْعِ طَعْنٍ فِيهِ حَيْثُ نَكَّرَهُ، وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: دَلَّ عَلَى تَفْخِيمِ شَأْنِهِ وَتَعْظِيمِ مَكَانِهِ حَيْثُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ رَدًّا عَلَيْهِ. (فَقَالَ: الْحَيَاةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ قَوْلِهِ (تُرِيدُ) ؟ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ قَبْلَ الْفِعْلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقْرَأَ: الْحَيَاءَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] فَالتَّقْدِيرُ الْحَيَاةَ تُرِيدُ أَمِ الْمَوْتَ؟ ثُمَّ فَصَّلَهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ) أَيْ: الطَّوِيلَةَ إِذِ الْمُؤَبَّدَةُ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] (فَضَعْ يَدَكَ) أَيْ: وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ (عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ) أَيْ: عَلَى ظَهْرِ بَقَرَةٍ (فَمَا تَوَارَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَمَا وَارَتْ (يَدُكَ) : بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَقَوْلُهُ: (مِنْ شَعْرَةٍ) : بَيَانٌ لَهَا، وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ شَعْرِهِ بِالضَّمِيرِ أَيْ: مِنْ شَعْرِ مَتْنِ الثَّوْرِ (فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا) أَيْ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ مُتَوَارِيَةٍ (سَنَةً) ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: وَارَاهُ الشَّيْءُ أَيْ سَتَرَهُ، وَتَوَارَى أَيِ اسْتَتَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} [النحل: 59] فَقَالَ شَارِحٌ قَوْلُهُ: فَمَا تَوَارَتْ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَفِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. وَقَالَ الْقَاضِي: فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ، هَكَذَا مَذْكُورٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ فَمَا وَارَتْ يَدُكَ بِالرَّفْعِ، وَأَخْطَأَ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَدُكَ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَفِي تَوَارَتْ ضَمِيرُ رَفْعٍ فَأَنَّثَهُ لِكَوْنِهِ مُفَسَّرًا بِالشَّعْرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: مِنْ شَعْرَةٍ بَيَانُ " مَا " وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، وَمَا وَارَتْ يَدُهُ قِطْعَةٌ مِنْهُ، فَأَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ الْقِطْعَةِ أَيْ الْقِطْعَةِ الَّتِي تَوَارَتْ بِيَدِكَ أَوْ تَحْتَ يَدِكَ انْتَهَى. وَقِيلَ: التَّاءُ الْأُولَى زَائِدَةٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَارَتْ أَيْ غَطَّتْ، ذَكَرَهُ الْأَكْمَلُ.
(قَالَ) أَيْ: مُوسَى (ثُمَّ مَهْ) ؟ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَأَصْلُهُ مَا حُذِفَتْ أَلِفُهُ، وَوُقِفَ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ لِلتَّعَذُّرِ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ هَاءُ السَّكْتِ، وَمَا: اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: ثُمَّ مَاذَا يَكُونُ أَحَيَاةٌ أَمْ مَوْتٌ؟ (قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ. قَالَ: فَالْآنَ مِنْ قَرِيبٍ)، أَيْ فَأَخْتَارُ الْمَوْتَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (رَبِّ أَدْنِنِي) : أَمْرٌ مِنَ الْإِدْنَاءِ أَيْ قَرِّبْنِي (مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ) : وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَفْضَلَ مَوَاضِعِهَا وَهُوَ الْمُسَمَّى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي كَانَ فِيهِ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِلَّا فَالْأَرْضُ
الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ التَّقْرِيبُ مِقْدَارَ رَمْيَةٍ وَاحِدَةٍ بِحَجَرٍ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: بِمِقْدَارِ ذَلِكَ. أَقُولُ: وَلَعَلَّهُ كَانَ الْمُقَدَّسَةُ تُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَرَاضِي الشَّامِ (رَمْيَةً بِحَجَرٍ) . أَيْ كَرَمْيَةِ حَجَرٍ، وَالْمُرَادُ السُّرْعَةُ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي التَّيْهِ، فَأَرَادَ التَّقْرِيبَ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ، وَلَوْ بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ مِنْ مَوْضِعِ دُعَائِهِ، أَوْ مِنْ مَحَلٍّ مَطْلُوبٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَأَمَّا سُؤَالُهُ الْإِدْنَاءَ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَلِشَرَفِهَا وَفَضِيلَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَدْفُونِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا سَأَلَ الْإِدْنَاءَ وَلَمْ يَسْأَلْ نَفْسَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَبْرُهُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، فَيُفْتَنَ بِهِ النَّاسُ.
قُلْتُ: وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا إِذْ لَمْ يَقَعِ التَّفَتُّنُ بِقَبْرِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ إِمْكَانِ الْفِتْنَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، بَلْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَقْبَرَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قُرْبَ الْقَرْيَةِ لَا دَاخِلَهَا، وَلَعَلَّ عِمَارَةَ بُيُوتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ حِينَئِذٍ قَرِيبَةً إِلَى مَحَلِّ تُرْبَتِهِ عليه الصلاة والسلام، وَعَلَى كُلٍّ فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمَوْتِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ، وَالْمَوَاطِنِ الْمُبَارَكَةِ، وَالْقُرْبِ مِنْ مَدَافِنَ أَرْبَابِ الدِّيَانَةِ.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ ") أَيْ: عِنْدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَبْعَدَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: لَوْ أَنِّي عِنْدَ مُوسَى (لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ) أَيْ: طَرِيقِ الْجَادَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى حَوَالَيْهِ (عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ) . أَيْ التَّلِّ الْمُسْتَطِيلِ الْمُجْتَمِعِ مِنَ الرَّمْلِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ هَذَا الْحَدِيثَ قَالُوا: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى مُوسَى فَقْءُ عَيْنِ مَلَكِ الْمَوْتِ؟ وَأَحَالُوا عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي هَذِهِ اللَّطْمَةِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ امْتِحَانًا بِالْمَلْطُومِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ، وَيَمْتَحِنُهُمْ بِمَا يُرِيدُ. قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا عَلَى الْمَجَازِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مُوسَى نَاظَرَهُ وَحَاجَّهُ فَغَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ، يُقَالُ: فَقَأَ فَلَانٌ عَيْنَ فُلَانٍ إِذَا غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ. قَالَ: وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ رَدَّ حُجَّتِهِ كَانَ بَعِيدًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُوسَى لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ فَدَفَعَهُ عَنْهَا، فَأَدَّتِ الْمُدَافَعَةُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، وَمَا قَصَدَهَا بِالْفَقْءِ، وَهَذَا جَوَابُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ. قَالُوا: وَأَتَاهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِعَلَامَةٍ عَلِمَ بِهَا أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَاسْتَسْلَمَ لَهُ بِخِلَافِ الْمَرَّةِ الْأُولَى. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي (شَرْحِ الْمَشَارِقِ)، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَدَرَ مِنْ مُوسَى هَذَا الْفِعْلُ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ يُفَوَّضُ عَلَمَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَ نَفْسَهُ فَدَفَعَهُ عَنْهَا فَأَدَّتْ مُدَافَعَتُهُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، وَهَذَا مُخْتَارُ الْمَازِرِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ، وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ الشَّارِحُ يَعْنِي الْأَكْمَلَ بِأَنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الرَّجُلَ الدَّاخِلَ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالْمُحَارَبَةِ حَتَّى يَدْفَعَهُ عَنْهُ، بَلْ دَعَاهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَبِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ صَالِحٍ مِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ فَمَا ظَنُّكَ بِمُوسَى عليه الصلاة والسلام؟ وَأَقُولُ: إِنَّ مُوسَى عليه السلام كَانَ فِي طَبْعِهِ حِدَّةٌ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إِذَا غَضِبَ اسْتَعْلَتْ قَلَنْسُوَتُهُ فَإِذَا هَجَمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَدَعَاهُ إِلَى الْهَلَاكِ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَرْبِ، فَدَفَعَهُ قَبْلَ قَصْدِهِ، وَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ، أَوْ لِأَنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام زَعَمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ حِينَ ادَّعَى قَبَضَ رُوحِهِ لِزَعْمِهِ أَنَّ بَشَرًا لَا يَقْبِضُ الرُّوحَ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ فَلَطَمَهُ، وَكَانَ هَذَا الْغَضَبُ لِلَّهِ، وَفِي اللَّهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَذْمُومًا، وَلِهَذَا لَمْ يُعَاقِبِ اللَّهُ مُوسَى عليه السلام حِينَ أَخَذَ رَأْسَ هَارُونَ وَلِحْيَتَهُ، وَكَانَ يَجُرُّهُ مَعَ أَنَّ هَارُونَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا وَأَجَلُّ قَدْرًا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" «حَقُّ كَبِيرِ الْأُخْوَةِ عَلَيْهِمْ كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» ". قُلْتُ: هَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لِزَعْمِهِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ.
قَالَ: وَمَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ الشَّارِحُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي حَقِّ اللَّطْمَةِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ امْتِحَانًا لِلْمَلْطُومِ، فَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْإِيمَانُ بِهِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَبِرَهُ بِمَا جَرَى عَلَيْهِ عُرْفُ الْبَشَرِ، فَيَقَعُ فِي الِارْتِيَابِ، لِأَنَّهُ أَمَرٌ مَصْدَرُهُ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ، وَهُوَ مُجَادَلَةٌ جَرَتْ بَيْنَ مَلَكٍ كَرِيمٍ وَنَبِيٍّ كَلِيمٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَخْصُوصٌ بِصِفَةٍ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ حُكْمِ عَوَامِّ الْبَشَرِ وَمَجَارِي عَادَاتِهِمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي خُصَّ بِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ حَالُهُمَا بِحَالِ غَيْرِهِمَا، وَقَدِ اصْطَفَى اللَّهُ - تَعَالَى مُوسَى بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ، فَلَمَّا دَنَتْ وَفَاتُهُ وَهُوَ بِشَرٌ يَكْرَهُ الْمَوْتَ طَبْعًا لَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِأَنْ لَمْ يُفَاتِحْهُ بَغْتَةً، وَلَمْ يَأْمُرِ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِهِ بِأَنْ يَأْخُذَهُ قَهْرًا، بَلْ أَرْسَلَهُ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِحَانِ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، فَلَمَّا رَآهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ اسْتَنْكَرَ شَأْنَهُ، وَاسْتَوْعَرَ مَكَانَهُ احْتَجَزَ مِنْهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ بِمَا كَانَ مِنْ صَكِّهِ إِيَّاهُ، فَأَتَى ذَلِكَ عَلَى عَيْنِهِ الَّتِي رُكِّبَتْ فِي الصُّورَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ فِي طَبْعِ مُوسَى عليه السلام حِدَّةٌ عَلَى مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِ فِي كِتَابِهِ؟ مِنْ وَكْزِهِ الْقِبْطِيَّ، وَإِلْقَائِهِ الْأَلْوَاحَ، وَأَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ الدِّينِ بِدَفْعِ كُلِّ قَاصِدِ سُوءٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُلْحِدِينَ أَبَادَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
5714 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ لَهُ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5714 -
(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ: عُرِضَ عَلَيَّ ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أُظْهِرَ لَدَيَّ (الْأَنْبِيَاءُ) : وَهُمْ أَعَمُّ مِنَ الرُّسُلِ، وَهُوَ إِمَّا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ، وَالْمَعْنَى عُرِضَ أَرْوَاحُهُمْ مُتَشَكِّلِينَ بِصُوَرٍ كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِشَارِحٍ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَعَلَّ أَرْوَاحَهُمْ مُثِّلَتْ لَهُ كَهَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَعَلَّ صُوَرَهُمْ كَانَتْ كَذَلِكَ، أَوْ صُوَرَ أَبْدَانِهِمْ كُشِفَتْ لَهُ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ (فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ) أَيْ: نَوْعٌ (مِنَ الرِّجَالِ)، وَقِيلَ أَيْ: خَفِيفُ اللَّحْمِ (كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ النُّونِ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ وَهَمْزَةٍ وَهَاءٍ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَإِدْغَامُهَا، وَقَدْ قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ، أَزْدُ شَنُّوَةَ بِالتَّشْدِيدِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ، وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُشْبِهُ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ.
قَالَ شَارِحٌ: وَالشَّنُوءَةُ التَّبَاعُدُ مِنْ الْأَدْنَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَمِنْهُمْ أَزْدُ شَنُوءَةَ، وَهُمْ حَيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَلَعَلَّهُمْ لُقِّبُوا بِذَلِكَ لِطَهَارَةِ نَسَبِهِمْ، وَنَظَافَةِ حَسَبِهِمْ، وَحِسْنِ سِيرَتِهِمْ وَأَدَبِهِمْ. (وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِذَا هُوَ أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ نَظِيرًا (عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ)، قِيلَ: هُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ. (" «وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ» " - يَعْنِي نَفْسَهُ) أَيْ: يُرِيدُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ صَاحِبُكُمْ نَفْسَ ذَاتِهِ لِمَا ظَهَرَ لَهُ فِي مِرْآتِهِ، وَلَمَّا كَانَ جِبْرِيلُ مُلَازِمًا لِلْأَنْبِيَاءِ لِكَوْنِهِ مِنْ لَوَازِمَ الْأَنْبِيَاءِ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْأَنْبِيَاءِ، (فَقَالَ:" «وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ» ") . بِكَسْرِ الدَّالِ، وَقَدْ يُفْتَحُ وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ صُورَةً. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5715 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى، رَجُلًا آدَمَ طُوَالًا، جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ، إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5715 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي ") : بِالْإِضَافَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ أَيْ: أَبْصَرْتُ فِي لَيْلَةِ أَسْرِيَ بِي فِيهَا (مُوسَى رَجُلًا) أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ (آدَمَ) أَيْ: أَسْمَرَ شَدِيدَ السُّمْرَةِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (طُوَالًا)، بِضَمِّ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ أَيْ: طَوِيلًا كَعُجَابٍ مُبَالَغَةَ عَجِيبٍ، وَأَمَّا بِكَسْرِ الطَّاءِ فَهُوَ جَمْعُ طَوِيلٍ، (جَعْدًا) : هُوَ ضِدُّ السَّبْطِ فَمَعْنَاهُ غَيْرُ مُسْتَرْسِلِ الشَّعْرِ، وَلَعَلَّ انْقِبَاضَ شَعْرِهِ مِمَّا يُشْعِرُ عَلَى حِدَّةِ بَاطِنِهِ مِنْ غَيْرِ شُعُورِهِ، ( «كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ» ) أَيْ: مُتَوَسِّطًا لَا طَوِيلًا وَلَا قَصِيرًا وَلَا سَمِينًا وَلَا هَزِيلًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ:(إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ)، حَالٌ أَيْ: مَائِلًا لَوْنُهُ إِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، بَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْبَيَاضِ الْمُشْرَبِ بِالْحُمْرَةِ، كَمَا كَانَ نَعْتُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِي الشَّمَائِلِ فِي الْوَصْفَيْنِ السَّابِقَيْنِ. (سَبْطَ الرَّأْسِ) ، بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا أَيْضًا، وَقَدْ تُسَكَّنُ، فَفِي الْقَامُوسِ: السَّبْطُ وَيُحَرَّكُ وَكَكَتِفٍ نَقِيضُ الْجَعْدِ، وَالْمَعْنَى مُسْتَرْسِلَ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ صِفَةُ الْجَمَالِ، كَمَا أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى مُوسَى نَعْتُ الْجَلَالِ، وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَ فِي مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ كَانَ شَعْرُهُ أَيْضًا. فِي السُّبُوطَةِ وَالْجُعُودَةِ فِي غَايَةٍ مِنَ الِاعْتِدَالِ. (وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ) أَيْ: وَرَأَيْتُ الدَّجَّالَ (فِي آيَاتٍ) أَيْ: مَعَ عَلَامَاتٍ (أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ)، أَيْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي: رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّجَّالَ مَعَ آيَاتٍ أُخَرَ أَرَاهُنَّ اللَّهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا حَكَاهَا. وَقَوْلُهُ: فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ دَفْعًا لِاسْتِبْعَادِ السَّامِعِينَ، وَإِمَاطَةً لِمَا عَسَى أَنْ يَخْتَلِجَ فِي صُدُورِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَالَ: أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّايَ، كَذَا ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى الدَّجَّالِ، وَالْمُرَادُ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتِدْرَاجًا لِلدَّجَّالِ، وَابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: فِي آيَاتٍ أَيْ: رَأَيْتُ الْمَذْكُورَ فِي جُمْلَةِ آيَاتٍ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهَا الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] فَعَلَى هَذَا فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ حَيْثُ وَضَعَ إِيَّاهُ مَوْضِعَ إِيَّايَ، أَوِ الرَّاوِي نَقَلَ مَعْنَى مَا تَلَفَّظَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:(فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) . مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ حَدِيثُ مُوسَى عليه السلام تَلْمِيحًا إِلَى مَا فِي التَّنْزِيلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23] الْكَشَّافِ، قِيلَ: مِنْ لِقَائِكَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَيَكُونُ ذِكْرُ عِيسَى، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ وَالْإِدْمَاجِ، أَيْ: لَا تَكُنْ يَا مُحَمَّدُ فِي رُؤْيَةِ مَا رَأَيْتَ مِنَ الْآيَاتِ فِي شَكٍّ. فَعَلَى هَذَا الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: " فَلَا تَكُنْ " لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْكَلَامُ كُلُّهُ مُتَّصِلٌ لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ مِنَ الرَّاوِي إِلَّا لَفْظُ " إِيَّاهُ " وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ رحمه الله فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: كَانَ قَتَادَةَ يُفَسِّرُهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَعَالَى قَدْ لَقِيَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: مُجَاهِدٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَالسُّدِّيُّ. وَمَعْنَاهُ: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَائِكَ مُوسَى، وَالشَّارِحُونَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي أَلْحَقَهُ بِالْحَدِيثِ دَفْعًا لِاسْتِبْعَادِ السَّامِعِينَ، وَإِمَاطَةً لِمَا عَسَى يَخْتَلِجُ فِي صُدُورِهِمْ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: الْخِطَابُ فِي: فَلَا تَكُنْ خِطَابٌ عَامٌّ لِمَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي لِقَائِكَ عَائِدٌ إِلَى الدَّجَّالِ، أَيْ: إِذَا كَانَ خُرُوجُهُ مَوْعُودًا، فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ لِقَائِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ أَيْ: فَلَا تَكُنْ فِي شَكٍّ مِنْ رُؤْيَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ الْحَدِيثَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى قَوْلِهِ: " (وَ) الدَّجَّالُ وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ.
5716 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى - فَنَعَتَهُ: فَإِذَا رَجُلٌ مُضْطَرِبٌ، رَجِلُ الشَّعْرِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَلَقِيتُ عِيسَى رَبْعَةً أَحْمَرَ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ - يَعْنِي الْحَمَّامَ - وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ " قَالَ: " فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ. فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ لِي: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5716 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي ") : ظَرْفٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ: (لَقِيتُ مُوسَى فَنَعَتَهُ) أَيْ: فَوَصَفَ مُوسَى فَقَالَ فِي حَقِّهِ (فَإِذَا) أَيْ: هُوَ (رَجُلٌ مُضْطَرِبٌ)، قَالَ الْقَاضِيَ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ: يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقِيمَ الْقَدِّ حَادًّا، فَإِذِ الْحَادُّ يَكُونُ قَلِقًا مُتَحَرِّكًا، كَانَ فِيهِ اضْطِرَابٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: رُمْحٌ مُضْطَرِبٌ إِذَا كَانَ طَوِيلًا مُسْتَقِيمًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مُضْطَرِبًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ، كَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُصَلِّي وَلِقَلْبِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ» . (رَجِلَ الشَّعْرِ) ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُسَكَّنُ وَيُفْتَحُ، فِي الْقَامُوسِ: شَعْرٌ رَجِلٌ وَكَكَتِفٍ وَجَبِلٍ بَيْنَ السُّبُوطَةِ وَالْجُعُودَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْجُعُودَةَ، وَلَا شَدِيدَ السُّبُوطَةِ، بَلْ بَيْنَهُمَا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنْ تَكُونَ جُعُودَتُهُ غَالِبَةٌ عَلَى سُبُوطَتِهِ، لِئَلَّا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ كَوْنِهِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام جَعْدًا، (" كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ ") : سَبَقَ بَيَانُهُ (وَلَقِيتُ عِيسَى رَبْعَةً) : بِتَسْكِينِ الْمُوَحَّدَةِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ أَيْ: مَرْبُوعَ الْخَلْقِ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَا طَوِيلٌ وَلَا قَصِيرٌ، وَالتَّأْنِيثُ عَلَى تَأْوِيلِ النَّفْسِ (أَحْمَرُ) أَيْ: شَدِيدُ الْحُمْرَةِ (كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَتُفَتَحُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: (الْكِنُّ وَالسِّرْبُ وَالْحَمَّامُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَإِنْ فَتَحْتَ الدَّالَ جُمِعَتْ عَلَى دَيَامِيسَ، مِثْلَ شَيْطَانَ وَشَيَاطِينَ، وَإِنْ كَسَرْتَهَا جُمِعَتْ عَلَى دَمَامِيسٍ كَقِيرَاطٍ وَقَرَارِيطَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الدِّيمَاسُ لَهُ مَعَانٍ. قَالَ الرَّاوِي: (يَعْنِي) ، أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْحَمَّامَ)، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَالْمُرَادُ وَصْفُهُ بِصَفَاءِ اللَّوْنِ وَنَضَارَةِ الْجِسْمِ وَكَثْرَةِ مَاءِ الْوَجْهِ، كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ حَمَّامٍ وَهُوَ عَرِقٌ. (وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ) أَيْ: أَوْلَادِهِ مِنْ نَسْلِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ أَوْ مُطْلَقًا (وَبِهِ) أَيْ إِبْرَاهِيمَ صُورَةً وَمَعْنًى، فَالْمُشَابَهَةُ الصُّورِيَّةُ عُنْوَانٌ لِلْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ سِرُّ أَبِيهِ فِي مَبَانِيهِ وَمَعَانِيهِ.
(قَالَ) أَيْ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ) أَيْ: أُحْضِرْتُ بِهِمَا (أَحَدُهُمَا لَبَنٌ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: الْعَالَمُ الْقُدْسِيُّ يُصَاغُ فِيهِ الصُّوَرُ مِنَ الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ لِيُدْرَكَ بِهَا الْمَعَانِيَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ فِي عَالَمِ الْحِسِّ مِنْ أَوَّلِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّرْبِيَةُ، وَيُرَشَّحُ بِهِ الْمَوْلُودُ صِيغَ عَنْهُ مِثَالٌ لِلْفِطْرَةِ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَتَنْشَأُ عَنْهَا الْخَاصِّيَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ لَبَنٌ كَأَنَّهُ جَعَلَهُ لَبَنًا كُلَّهُ تَغْلِيبًا لِلَّبَنِ عَلَى الْإِنَاءِ لِكَثْرَتِهِ، وَتَكْثِيرًا لِمَا اخْتَارَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْخَمْرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ قَلِيلُهُ فَقَالَ:(وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ) أَيْ: خَمْرٌ قَلِيلٌ (فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ) . أَيْ: أَيَّ الْإِنَاءَيْنِ، أَوْ أَيَّ الْمَشْرُوبَيْنِ أَرَدْتَهُ وَاشْتَهَيْتَهُ (فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ) ، أَيْ لِمَا يَدُلُّ الْأَمْرُ بِالْأَخْذِ عَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا عُرِضُ عَلَيْهِ كِلَاهُمَا إِظْهَارًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَضْلَهُ بِاخْتِيَارِهِ الصَّوَابَ، (فَقِيلَ لِي هُدِيتَ الْفِطْرَةَ)، بِصِيغَةِ الْخِطَابِ مَجْهُولًا أَيْ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: هَدَاكَ اللَّهُ إِلَى الْفِطْرَةِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ وَالدُّعَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ هُدِيتَ الْفِطْرَةَ الْكَامِلَةَ الشَّامِلَةَ لِأَتْبَاعِكَ الْعَالِمَةَ الْعَامِلَةَ.
قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الْمُرَادُ بِهَا الْفِطْرَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ مِنْهَا الْإِعْرَاضُ عَمَّا فِيهِ غَائِلَةٌ وَفَسَادٌ، كَالْخَمْرِ الْمُخِلِّ بِالْعَقْلِ الدَّاعِي إِلَى الْخَيْرِ الْوَازِعِ عَنِ الشَّرِّ الْمُؤَدِّي إِلَى صَلَاحِ الدَّارَيْنِ، وَخَيْرِ الْمَنْزِلَيْنِ، وَالْمَيْلِ إِلَى مَا فِيهِ نَفْعٌ حَالٌّ عَنْ مَضَرَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَمَعَرَّةٍ دِينِيَّةٍ، كَشُرْبِ اللَّبَنِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَصْلَحِ الْأَغْذِيَةِ، وَأَوَّلُ مَا حَصَلَ بِهِ التَّرْبِيَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي هَذَا الْقَوْلِ لَهُ عِنْدَ أَخْذِ اللَّبَنِ لُطْفٌ وَمُنَاسَبَةٌ، فَإِنَّ اللَّبَنَ لَمَّا كَانَ فِي الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ ذَا خُلُوصٍ وَبَيَاضٍ، وَأَوَّلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَرْبِيَةُ الْمَوْلُودِ صِيَغَ مِنْهُ الْعَالَمُ الْقُدْسِيُّ مِثَالَ الْهِدَايَةِ وَالْفِطْرَةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ فَإِنَّهَا لِكَوْنِهَا ذَاتَ مَفْسَدَةٍ صِيغَ مِنْهَا مِثَالُ الْغِوَايَةِ، وَمَا يُفْسِدُ الْقُوَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ وَلِهَذَا قِيلَ لَهُ أَيْضًا:(أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ) أَيْ: شَرِبْتَ أَوْ مَا شَرِبْتَ، وَالْمَعْنَى لَوْ مِلْتَ إِلَيْهَا أَدَقَّ الْمَيْلِ (غَوَتْ) أَيْ: ضَلَّتْ (أُمَّتُكَ) . أَيْ نَوْعًا مِنَ الْغِوَايَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى شُرْبِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرِبَهَا لَأُحِلَّ لِلْأُمَّةِ شُرْبُهَا، فَوَقَعُوا فِي ضَرَرِهَا وَشَرِّهَا، وَلَمَّا كَانَ هُوَ مَعْصُومًا لَمْ يَقُلْ لَهُ: غَوَيْتَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْمُقَابَلَةُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اسْتِقَامَةَ الْمُقْتَدَى مِنَ النَّبِيِّ وَالْعَالِمِ وَالسُّلْطَانِ، وَنَحْوِهِمْ سَبَبٌ لِاسْتِقَامَةِ أَتْبَاعِهِمْ، لِأَنَّهُمْ. بِمَنْزِلَةِ الْقَلْبِ لِلْأَعْضَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5717 -
ــ
5717 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سِرْنَا) : مِنَ السَّيْرِ أَيْ سَافَرْنَا (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) ، يُحْتَمَلُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبِالْعَكْسِ، (فَمَرَرْنَا بِوَادٍ فَقَالَ:" أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " فَقَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ) . وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ سُمِّيَ بِهِ لِزُرْقَتِهِ، وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ. (فَقَالَ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى " فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعْرِهِ شَيْئًا) أَيْ: بَعْضًا مِنْ أَوْصَافِهَا، وَهُوَ أَنَّ لَوْنَهُ أَحْمَرُ وَشَعْرَهُ جَعْدٌ عَلَى مَا سَبَقَ (وَاضِعًا) أَيْ: حَالَ كَوْنِ مُوسَى وَاضِعًا (أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ)، بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ وَالتَّثْنِيَةُ فِيهِمَا عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ (لَهُ) أَيْ: لِمُوسَى (جُؤَارٌ) : بِضَمِّ جِيمٍ فَهَمْزٍ، وَقَدْ يُبْدَلُ أَيْ: تَضَرُّعٌ (إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ) : ذَكَرَهُ شَارِحٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: رَفْعُ صَوْتٍ بِهَا وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ (مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي) . قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَاضِعًا وَمَارًّا حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَدَاخِلَانِ مِنْ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلَامُ الرَّاوِي، يَعْنِي الرَّاوِيَ عَنْ حَالِهِ، وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(قَالَ) أَيْ: ابْنُ عَبَّاسٍ (ثُمَّ سِرْنَا) أَيْ: ذَهَبْنَا (حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ) : بِفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ وَكَسْرِ نُونٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ أَيْ: عَقَبَةٍ وَهِيَ طَرِيقٌ عَالٍ فِي الْجَبَلِ أَوْ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. (فَقَالَ: " أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ " قَالُوا: هَرَشَى) : بَهَاءٍ فَرَاءٍ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَأَلِفٍ مَقْصُورَةٍ تُكْتَبُ بِالْيَاءٍ كَسَكْرَى عَلَى طَرِيقِ الشَّامِ، وَالْمَدِينَةِ قُرْبَ الْجُحْفَةِ (أَوْ لِفْتَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ، وَسُكُونِ الْفَاءِ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُرْوَى فِيهِ كَسْرُ اللَّامِ، وَإِسْكَانُ الْفَاءِ وَفَتْحُهَا مَعَهُ وَفَتْحُهُمَا. وَقَالَ شَارِحٌ: هَرَشَى ثَنِيَّةٌ بِقُرْبِ الْجُحْفَةِ. يُقَالُ لَهَا أَيْضًا: لِفْتُ، وَالشَّكُّ لِلرَّاوِي، أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ عَلَى أَنْ بَعْضَهُمْ قَالَ: هَرَشَى، وَبَعْضُهُمْ لِفْتَ، وَلَا خِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ. (فَقَالَ:" كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ ") أَيْ: لِلتَّوَاضُعِ وَاخْتِيَارُ الزُّهْدِ، " هَذَا مَأْخَذٌ لِلصُّوفِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْكِسَائِيِّ، وَلَعَلَّهُ لَبِسَهَا عَلَى غَيْرِ هَيْئَةِ الْمُعْتَادِ، أَوْ كَانَ جَائِزٌ فِي شَرْعِهِ لِلْمُحْرِمِ لِبْسُ الْجُبَّةِ وَنَحْوِهَا مُطْلَقًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (خِطَامُ نَاقَتِهِ) أَيْ: زِمَامُهَا وَزْنًا وَمَعْنَى، وَهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُقَادُ بِهِ الْبَعِيرُ يُجْعَلُ عَلَى خَطْمِهِ أَيْ مُقَدَّمِ أَنْفِهِ وَفَمِهِ، (خُلْبَةٌ) ، بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَبِضَمِّهَا فَمُوَحَّدَةٌ فَهَاءٌ لِيفَةُ نَخْلٍ، (مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا) . حَالَانِ مِنْ يُونُسَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْحَجَّ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَمِنْ شَعَائِرِ أَنْبِيَائِهِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، فَيُفِيدُ التَّرْغِيبَ فِي قَصْدِ الْحَجِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ التَّلْبِيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْهَيْئَةِ الْإِحْرَامِيَّةِ الْمُشْعِرَةِ إِلَى التَّجْرِيدِ وَالتَّفْرِيدِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحُجُّونَ وَيُلَبُّونَ وَهُمْ أَمْوَاتٌ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ: أَحُدُهَا: أَنَّهُمْ كَالشُّهَدَاءِ بَلْ أَفْضَلُ، وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحُجُّوا وَيُصَلُّوا وَيَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعُوا، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ تُوُفُّوا، فَهَذَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الْعَمَلِ، حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ مُدَّتُهَا، وَتَعْقُبُهَا الْآخِرَةُ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ انْقَطَعَ الْعَمَلُ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّلْبِيَةَ دُعَاءٌ مِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] .
وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ رُؤْيَةَ مَنَامٍ فِي غَيْرِ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ كَمَا قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي قِصَّةِ عِيسَى. قُلْتُ: وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَصِدْقٌ. قَالَ: وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيَ حَالَهُمُ الَّتِي كَانَ فِي حَيَاتِهِمْ، وَمُثِّلُوا لَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ، كَيْفَ كَانُوا وَكَيْفَ حِجُّهُمْ وَتَلْبِيَتُهُمْ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى ". قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا اسْتِحْضَارُ تِلْكَ الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ عِنْدَ الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهَا وَنِهَايَةِ صِدْقِهَا. قَالَ: وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ عَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُمْ رُؤْيَةَ عَيْنٍ. قُلْتُ: يَرُدُّهُ قَوْلُهُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا.
قَالَ: وَهَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ وَضْعِ الْأُصْبُعِ فِي الْأُذُنِ عِنْدَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ وَالِاسْتِحْبَابُ يَجْنِي عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَوْ غَيْرِهِمْ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا. قُلْتُ: هَذَا الِاسْتِنْبَاطُ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ قِيلَ: بِاسْتِحْبَابِ وَضْعِ الْأُصْبُعَيْنِ فِي الْأُذُنَيْنِ وَقْتَ التَّلْبِيَةِ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهَذَا، وَأَمَّا وَضْعُ الْأُصْبُعِ فِي الْأُذُنِ حَالَ الْأَذَانِ، فَلَهُ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ ذُكِرَ فِي بَابِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
5718 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسَرَّحَ، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسَرَّحَ دَوَابُّهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
5718 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خُفِّفَ ") أَيْ: سُهِّلَ وَيُسِّرَ (عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ) أَيْ: قِرَاءَةُ الزَّبُورِ وَحِفْظُهُ (فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ) ، أَيْ لِرُكُوبِهِ) ، أَيْ وَرُكُوبِ أَصْحَابِهِ (فَتُسْرَجُ الدَّوَابُّ، أَوْ فَيُشْرَعُ فِي سَرْجِهَا (فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ) أَيْ: الْمَقْرُوءَ، وَهُوَ الزَّبُورُ (قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ) : وَفِي النِّهَايَةِ: الْأَصْلُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ يَعْنِي الْقُرْآنَ الْجَمْعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ جَمَعْتَهُ فَقَدْ قَرَأْتَهُ، وَعَنِ الْقُرْآنِ قُرْآنًا لِأَنَّهُ جَمَعَ الْقَصْرَ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَالْآيَاتِ وَالسُّوَرَ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْقِرَاءَةِ نَفْسِهَا يُقَالُ: قَرَأَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا. قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: يُرِيدُ بِالْقُرْآنِ الزَّبُورَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ قَصَدَ إِعْجَازَهُ مِنْ طَرِيقِ الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطْوِي الزَّمَانَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ كَمَا يَطْوِي الْمَكَانَ لَهُمْ، وَهَذَا بَابٌ لَا سَبِيلَ إِلَى إِدْرَاكِهِ إِلَّا بِالْفَيْضِ الرَّبَّانِيِّ. قُلْتُ: حَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي أَنَّهُ بَسْطٌ لِلزَّمَانِ أَوْ طَيٌّ لِلِّسَانِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقَدْ حَصَلَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فِي الْمَبْنِيِّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ طَيِّ الْمَكَانِ وَبَسْطِ الزَّمَانِ، يَحْسَبُ السَّمْعَ وَاللِّسَانَ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْآنِ، وَلِاتِّبَاعِهِ أَيْضًا وَقَعَ حَظٌّ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ كَانَ يَبْتَدِئُ الْقُرْآنَ مِنَ ابْتِدَاءٍ قَصْدِ رُكُوبِهِ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَبَانِي وَتَفَقُّهِ الْمَعَانِي، وَيَخْتِمُهُ حِينَ وَضْعِ قَدَمِهِ فِي رِكَابِهِ الثَّانِي، وَقَدْ نَقَلَ مَوْلَانَا نُورُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْجَامِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السَّامِيُّ فِي كِتَابِهِ نَفَحَاتُ الْأُنْسِ فِي حَضَرَاتِ الْقُدْسِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ: أَنَّهُ قَرَأَ الْقُرْآنَ مِنْ حِينِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَالرُّكْنَ الْأَسْعَدَ إِلَى حِينِ وَصُولِ مُحَاذَاةِ بَابِ الْكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالْقِبْلَةِ الْمَنِيفَةِ، وَقَدْ جَمَعَهُ ابْنُ الشَّيْخِ شِهَابُ الدِّينِ السَّهْرَوَرْدِيُّ مِنْهُ كَلِمَةً كَلِمَةً وَحَرْفًا حَرْفًا مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، قَدَّسَ اللَّهُ أَسْرَارَهُمْ وَنَفَعَنَا بِبَرَكَةِ أَنْوَارِهِمْ. (وَلَا يَأْكُلُ) أَيْ: كَانَ لَا يَتَعَيَّشُ دَاوُدُ عليه الصلاة والسلام (إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ) . كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ - أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 10 - 11] أَيْ دُرُوعًا وَاسِعَاتٍ، وَفِي إِيرَادِ يَدَيْهِ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عَمَلَهُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مُبَاشَرَةِ الْعُضْوَيْنِ، فَيَكُونُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، فَرِوَايَةُ الْجَامِعِ بِيَدِهِ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ يُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ مَرْفُوعًا عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ لَالٍ:«أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْكَسْبُ مِنَ الْحَلَالِ» . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَكَذَا أَحْمَدُ.
5719 -
وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلُ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5719 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَتَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَانِ ") ، أَيْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ابْنٌ (جَاءَ الذِّئْبُ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا) أَيْ: رَفِيقَةُ إِحْدَاهُمَا الَّتِي ذَهَبَ بِابْنِهَا (إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ) . وَلَعَلَّ الْوَلَدَيْنِ كَانَا شَبِيهَيْنِ، أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا كَاذِبَةً، لَكِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَسْتَأْنِسَ بِالْمَوْجُودِ بَدَلًا عَنِ الْمَفْقُودِ، أَوْ لِأَغْرَاضٍ أُخَرَ فَاسِدَةٍ وَأَمْكَارٍ كَاسِدَةٍ. (فَتَحَاكَمَتَا) أَيْ: فَرَفَعَتَا الْحُكُومَةَ (إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ) أَيْ: حَكَمَ بِالْوَلَدِ لِلْكُبْرَى) ، إِمَّا لِكَوْنِهِ فِي يَدِهَا عَلَى مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ صَاحِبَةَ الْيَدِ أَوْلَى، أَوْ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِهَا عَلَى اعْتِبَارِ عِلْمِ الْقِيَافَةِ، كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، (فَخَرَجَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ) ، أَيْ مَارَّتَيْنِ عَلَيْهِ (فَأَخْبَرَتَاهُ)، أَيْ: مِمَّا سَبَقَ مِنْ حَالِهِمَا وَتَحَقَّقَ مِنْ مَآلِهِمَا (فَقَالَ) أَيْ: لِخَدَمِهِ (ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقَّهُ) : بِفَتْحِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: أَنَا أَقْطَعُ الْوَلَدَ نِصْفَيْنِ (بَيْنَكُمَا) أَيْ: مَقْسُومَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ أَنَّكُمَا لَمْ تُظْهِرَا لِي الصِّدْقَ فِي أَمْرِهِ، وَلَعَلَّ الْأُخْرَى أَيْضًا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُتَعَلِّقَةً بِالْوَلَدِ مُتَمَسِّكَةً بِالْيَدِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّنْصِيفِ، وَإِنَّمَا صَوَّرَ لَهُمَا هَذَا التَّصْوِيرَ تَوَسُّلًا إِلَى مَا أَرَادَ بِهِ مِنْ ظُهُورِ أَمَارَةِ التَّأْلِيفِ (فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ) ، أَيْ الشَّقَّ (يَرْحَمُكَ اللَّهُ) أَيْ: كَمَا أَوْقَعَنِي فِي الرَّحْمَةِ عَلَى وَلَدِي (هُوَ ابْنُهَا) ، أَيْ رَضِيتُ بِأَنَّهُ يَكُونُ ابْنَهَا وَهُوَ حَيٌّ، وَلَا أَرْضَى بِالشَّقِّ الْمُفْضِي إِلَى مَوْتِهِ، (فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى) . أَيْ لِوُجُودِ قَرِينَةِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهَا، وَتَحَقُّقِ الْقَسَاوَةِ وَالْيُبُوسَةِ وَالْغَفْلَةِ، بَلْ دَلَالَةُ الْعَدَاوَةِ فِي الْأُخْرَى. قَالَ شَارِحٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ قَضَاءَهُمَا حَقٌّ، لِكَوْنِهِمَا مُجْتَهِدَيْنِ، وَمُسْتَنَدُ قَضَائِهِمَا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ هِيَ الْقَرِينَةُ لَكِنَّ الْقَرِينَةَ الَّتِي قَضَى بِهَا سُلَيْمَانُ أَقْوَى مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ كَانَتْ فِي شَرْعِهِمْ بِمَثَابَةِ الْبَيِّنَةِ يَعْنِي: وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَاتَ الْيَدِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ رحمه الله قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنَّ دَاوُدَ عليه الصلاة والسلام قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فِيهِمَا، لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدِهَا، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَتَوَصُّلَ بِطَرِيقٍ مِنَ الْحِيلَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ بَاطِنِ الْقَضِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَ شَفَقَتِهِمَا لِيَتَمَيَّزَ لَهُ الْأَمْرُ لَا الْقَطْعَ حَقِيقَةً، فَلَمَّا تَمَيَّزَ حَكَمَ لِلصُّغْرَى بِإِقْرَارِ الْكُبْرَى، لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَةِ قُلْتُ: الْإِقْرَارُ لَا دَلَالَةَ لِلْعِبَارَةِ عَلَيْهِ، وَلَا طَرِيقَ لِلْإِشَارَةِ إِلَيْهِ. قَالَ: وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمِثْلُهُ مَا يَفْعَلُهُ الْحُكَمَاءُ لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الصَّوَابِ. قُلْتُ: وَقَدْ حَقَّقَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْجَوْزِيُّ هَذَا الْمَبْحَثَ فِي كِتَابِ " الْفَرَاسَةِ فِي السِّيَاسَةِ ".
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ نَقَضَ سُلَيْمَانُ حُكْمَ أَبِيهِ دَاوُدَ عليه الصلاة والسلام؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ جَزَمَ بِالْحُكْمِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَتْوَى مِنْ دَاوُدَ لَا حُكْمًا. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ فَسْخُ الْحُكْمِ إِذَا رَفَعَهُ الْخَصْمُ إِلَى حَاكِمٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَهُ. قُلْتُ: وَفِي كُلٍّ مِنْهَا نَظَرٌ ظَاهِرٌ، فَالْوَجْهُ أَنَّ الْقَرِينَةَ الْأَقْوَى كَانَتْ عِنْدَهَا بِاْلِاعْتِبَارِ هُوَ الْأَوْلَى، وَأَمَّا لَوْ صَحَّ إِقْرَارُ الْكُبْرَى بِأَنَّهُ لِلصُّغْرَى، فَلَا إِشْكَالَ بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَعْدَ الْحُكْمِ مُعْتَبَرٌ فِي شَرْعِنَا أَيْضًا، كَمَا إِذَا اعْتَرَفَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْحَقَّ لِخَصْمِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
5720 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «قَالَ سُلَيْمَانُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِائَةِ امْرَأَةٍ كُلُّهُمْ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمْ تَحْمَلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَأَيْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5720 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ سُلَيْمَانُ: لَأَطُوفَنَّ ") : الطَّوَافُ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَالْمَعْنَى وَاللَّهِ لِأَدُورَنَّ (اللَّيْلَةَ) أَيْ: الْآتِيَةَ (عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِائَةِ امْرَأَةٍ) : قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِيهِ رِوَايَاتٌ سِتُّونَ وَسَبْعُونَ وَتِسْعُونَ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَمِائَةٌ، وَالْجَمْعُ أَنَّ السِتِّينَ كُنَّ حَرَائِرَ، وَمَا زَادَ كُنَّ سَرَائِرَ، وَبِالْعَكْسِ. وَأَمَّا السَبْعُونَ، فَلِلْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا التِسْعُونَ وَالْمِائَةَ
وَفَوْقَ التِسْعِينَ فَمَنْ قَالَ: تِسْعُونَ أَلْغَى الْكَسْرَ، وَمَنْ قَالَ: مِائَةً أَتَى بِالْجَبْرِ (كُلُّهُنَّ) أَيْ: كُلُّ وَاحِدَةٍ (تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : وَهَذِهِ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الْمَشِيئَةِ. (فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ) أَيْ: الْمُوَكَّلُ عَلَى يَمِينِهِ، أَوْ جِبْرِيلُ، أَوْ غَيْرُهُمَا، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ إِبْهَامُهُ أَوْ إِلْهَامُهُ (قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ) أَيْ: اكْتِفَاءً بِمَا فِي الْجِنَانِ عَنِ الْبَيَانِ بِاللِّسَانِ (وَنَسِيَ) كَعَلِمَ، وَرُوِيَ بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ، وَهُوَ أَحْسَنُ أَيْ: حَصَلَ لَهُ النِّسْيَانُ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَكْمَلُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْجَمْعِ وَأَصْحَابِ الْعِرْفَانِ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ وَنَسِيَ، (فَطَافَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمْ تَحْمَلْ مِنْهُنَّ) أَيْ: لَمْ تَحْبَلْ (إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ) ، أَيْ بِنِصْفِهِ، أَوْ بَعْضِهِ حَيْثُ عَدَلَ عَنْ شَتَّى الصَّوَابِ وَصَوْبِ الْكَمَالِ، (وَاَيْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَيْمُ لَفْظًا وَمَعْنَى، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: هُنَا الْأَصْلُ. فِي " أَيْمُ " اللَّهِ أَيْمُنُ اللَّهِ حُذِفَ مِنْهُ النُّونُ، وَهُوَ اسْمٌ وُضِعَ لِلْقَسَمِ هَكَذَا بِضَمِّ الْمِيمِ وَالنُّونِ، وَأَلِفُهُ أَلْفُ وَصْلٍ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ، وَلَمْ تَجِئْ فِي الْأَسْمَاءِ أَلِفُ الْوَصْلِ مَفْتُوحَةً غَيْرُهَا، وَتَقْدِيرُهُ أَيْمُنُ اللَّهِ قَسَمِي، وَإِذَا حُذِفَ عَنْهُ النُّونُ قِيلَ: أَيْمُ اللَّهِ وَإِيمُ اللَّهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْضًا (لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَجَاهَدُوا) أَيْ: لَوُجِدُوا وَوُلِدُوا وَكَبِرُوا وَقَاتَلُوا الْكُفَّارَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: طَرِيقِ رِضَاهُ (فُرْسَانًا) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ جَاهَدُوا (أَجْمَعُونَ) : تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ أَجْمَعِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَدُّ بِهَا أَجْمَعُونَ بِالرَّفْعِ. قِيلَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عَقِيبَ قَوْلِهِ إِنِّي أَعْمَلُ كَذَا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا وَتَسْهِيلًا لِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى؟ {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَلَفْظُ الْجَامِعِ: ( «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ إِنْسَانٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
5721 -
وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5721 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَ زَكَرِيَّا ") : بِالْقَصْرِ وَيُرْوَى مَدُّهُ (نَجَّارًا) أَيْ: يَنْجُرُ الْخَشَبَةَ وَيَنْحِتُهَا وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، وَفِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ عليه الصلاة والسلام دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ مِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ بِتَرْكِ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ فِي الْأَشْيَاءِ، كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْفِيَاءِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى خِلَافٍ فِي كَوْنِ أَيِّهِمَا أَفْضَلَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
5722 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، الْأَنْبِيَاءُ أُخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِيٌّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5722 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ ") أَيْ: أَقْرَبُهُمْ (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ)، أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بَشَّرَ بِأَنْ يَأْتِيَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68] لِأَنَّهُ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ الِاقْتِدَاءِ، وَأَوْلَاهُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ جِهَةِ قُرْبِ الْعَهْدِ انْتَهَى، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ قُرْبِ الْعَهْدِ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ:(الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ) : فَالْأَوْلَى مَا قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: مِنْ أَنَّ الْمُوجِبَ لِكَوْنِهِ أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ دِينَهُ مُتَّصِلٌ بِدِينِهِ، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ مُبَشِّرًا لَهُ، مُمَهِّدًا لِقَوَاعِدِ دِينِهِ، دَاعِيًا لِلْخَلْقِ إِلَى تَصْدِيقِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى.
الْحُكْمِ السَّابِقِ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَنِ الْمُقْتَضِي لِلْأَوْلَوِيَّةِ، فَأَجَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأُخُوَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ كَالنَّسَبِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ يَقْرُبُ زَمَانُهُ مِنْ زَمَانِهِ وَاتِّصَالُ دَعْوَتِهِ بِدَعْوَتِهِ، كَمَا سَتَجِيءُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِيٌّ فَقَوْلُهُ: (مِنْ عَلَّاتٍ) : بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدٍ أَيْ: هُمْ إِخْوَةٌ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَلَّةَ الضَّرَّةَ وَبَنُو الْعَلَّاتِ أَوْلَادُ الرَّجُلِ مِنْ نِسْوَةٍ شَتَّى فَقَوْلُهُ:(وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى) ، أَيْ مُتَفَرِّقَةٌ مُخْتَلِفَةٌ إِمَّا تَأْكِيدٌ أَوْ تَجْرِيدٌ، وَالْمَعْنَى كَمَا أَنَّ أَوْلَادَ الْعَلَّاتِ أُمَّهَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَشَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ: الْعَلَّةُ الضَّرَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَلَلِ، وَهُوَ الشَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْأُولَى، وَكَانَ الزَّوْجُ عَلَّ مِنْهَا بَعْدَمَا كَانَ نَاهِلًا مِنَ الْأُخْرَى مِنَ النَّهْلِ وَهُوَ الشُّرْبُ الْأَوَّلُ، وَأَوْلَادُ الْعَلَّاتِ أَوْلَادُ الضَّرَّاتِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حَاصِلَ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، وَالْغَايَةَ الْقُصْوَى مِنَ الْبِعْثَةِ الَّتِي بُعِثُوا جَمِيعًا لِأَجْلِهَا دَعْوَةُ الْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَا بِهِ يَنْتَظِمُ مَعَاشُهُمْ، وَيَحْسُنُ مَعَادُهُمْ؟ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفَارِيعِ الشَّرْعِ الَّتِي هِيَ كَالْوَصْلَةِ الْمُؤَدِّيَةِ، وَالْأَوْعِيَةِ الْحَافِظَةِ لَهُ، فَعَبَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا هُوَ الْأَصْلُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْأَبِ، وَنَسَبِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَبَّرَ عَمَّا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ الْمُتَفَاوِتَةِ بِالصُّورَةِ الْمُتَقَارِبَةِ فِي الْفَرْضِ، يَعْنِي بِحَسْبِ الْأَزْمِنَةِ وَالْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَشْخَاصِ الْمُخْتَلِفَةِ طَبْعًا بِالْأُمَّهَاتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ تَبَايَنَتْ أَعْصَارُهُمْ وَتَبَاعَدَتْ أَيَّامُهُمْ، فَالْأَصْلُ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ فِي إِخْرَاجِهِمْ وَإِبْرَازِهِمْ كُلًّا فِي عَصْرِهِ وَأَمْرِهِ وَاحِدٌ، وَلِذَا قَالَ:(وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) : وَهُوَ الدِّينُ الْحَقُّ الَّذِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، مُسْتَعَدِّينَ لِقَبُولِهِ، مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْأُمَّهَاتِ الْأَزْمِنَةُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَشَفَتْ عَنْهُمْ، وَلِذَا قَالَ:(وَلَيْسَ بَيْنَنَا) أَيْ: بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى (نَبِيٌّ) : إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى نَبِيٍّ ذِي شَرْعٍ، أَوْ عَلَى أُلِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله أَيْ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، بَلْ جِئْتُ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] قَالَ: وَبِهَذَا بَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْحَوَارِيُّونَ كَانُوا أَنْبِيَاءَ بَعْدَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ حَمَلَ النَّفْيَ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: الْأَنْبِيَاءُ أُخُوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ كَمَا مَرَّ اسْتِئْنَافٌ عَلَى بَيَانِ الْمُوجِبِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ". فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ الْبَيَانُ عَلَى الْمُبِينِ، يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِيمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ اخْتِصَاصٌ مِنْهُ، لَكِنْ أَنَا أَخَصُّ النَّاسِ بِعِيسَى، لِأَنَّهُ كَانَ مُبَشِّرًا بِي قَبْلَ بِعْثَتِي، وَمُمَهِّدًا لِقَوَاعِدَ مِلَّتِي، ثُمَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مُتَابِعٌ شَرِيعَتِي، وَنَاصِرٌ لِدِينِي، فَكَأَنَّنَا وَاحِدٌ، وَالْأُولَى وَالْآخِرَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ هُمَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْحَالَةُ الْأُولَى وَهِيَ كَوْنُهُ مُبَشِّرًا، وَالْحَالَةُ الْآخِرَةُ وَهُوَ كَوْنُهُ نَاصِرًا مُقَوِّيًا لِدِينِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68] أَيْ إِنِّي أَخَصُّهُمْ بِهِ وَأَقْرَبُهُمْ فِيهِ؟ قُلْتُ: الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَتْبُوعًا، وَالتَّنْزِيلُ فِي كَوْنِهِ تَابِعًا، وَلَهُ الْفَضْلُ تَابِعًا وَمَتْبُوعًا. قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَلَفَظُ الْجَامِعِ:" «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَلَا يَخْفَى حُسْنُ نَظْمِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُطَابِقَةِ لِمُرَاعَاةِ تَرْتِيبِ الدِّرَايَةِ.
5723 -
وَعَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِأُصْبُعَيْهِ حِينَ يُولَدُ، غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
5723 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ بَنِي آدَمَ ") : فِيهِ تَغْلِيبُ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ أَيْ كُلُّ أَوْلَادِ آدَمَ (" يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُضَمُّ مِنْ طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ كَمَنَعَهُ وَنَصَرَهُ طَعْنًا ضَرَبَهُ وَزَجَرَهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَسُّ لِمَا فِي رِوَايَةٍ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَمَسُّهُ وَيُصِيبُهُ (فِي جَنْبَيْهِ بِأُصْبُعَيْهِ) أَيْ: السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفِي التَّثْنِيَةِ إِشْعَارٌ بِكَمَالِ الْعَدَاوَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى قَصْدِ إِضْلَالِهِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (حِينَ يُولَدُ) ، أَيْ أَوَّلَ زَمَنِ وِلَادَتِهِمْ، وَالْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ كُلُّ (غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أَيْ: لِدَعْوَةِ حَنَّةَ جَدَّتِهِ فِي حَقِّ أُمِّهِ بِقَوْلِهَا: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36](ذَهَبَ) أَيْ: أَرَادَ الشَّيْطَانُ وَشَرَعَ وَطَفِقَ (يَطْعَنُ) أَيْ: فِي جَنْبَيْ عِيسَى (فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ) . أَيْ: فَأَوْقَعَ الطَّعْنَ فِي الْمَشِيمَةِ وَهِي مَا فِيهِ الْوَلَدُ فَلَمْ يَتَأَثَّرْ مِنْ مَسِّهِ عِيسَى. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسَّ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ» عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا مَرَّ فِي الْوَسْوَسَةِ. قُلْتُ: وَتَمَامُ الْحَدِيثِ: «حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا عليهما السلام» ، فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ اقْتَصَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذِكْرِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ فِي الْمَرَامِ، أَوْ خُصَّ بِعِيسَى نَظَرًا إِلَى بَعْضِ الْقُيُودِ فِي الْكَلَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَأَسْنَدَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ إِلَى الْبُخَارِيِّ، وَقَالَ: لَفَظُ مُسْلِمٍ: " «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا» ".
5724 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يُكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ: " يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ ". وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ " وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: " الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ". فِي (بَابِ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
ــ
5724 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " كَمُلَ ") : بِضَمِّ الْمِيمِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، فَفِي الْقَامُوسِ: كَمُلَ كَنَصَرَ وَكَرُمَ وَعَلِمِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ فِي كَمُلَ ثَلَاثُ لُغَاتٍ، لَكِنَّ كَسْرَ الْمِيمِ ضَعِيفٌ، أَقُولُ: الصَّحِيحُ الضَّمُّ لِمُوَافَقَتِهِ الْمَعْنَى اللَّازِمِيِّ، أَيْ: صَارَ كَامِلًا، أَوْ بَلَغَ مَبْلَغَ الْكَمَالِ (مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ)، أَيْ: كَثِيرُونَ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْجِنْسِ حَتَّى صَارُوا رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ وَخُلَفَاءَ وَعُلَمَاءَ وَأَوْلِيَاءَ، (وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ) ، وَالتَّقْدِيرُ. إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُنَّ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مَحْصُورًا فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ نَصَّ عَلَيْهِمَا بِخِلَافِ الْكُمَّلِ مِنَ الرِّجَالِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ تِعْدَادُهُ وَاسْتِقْصَاؤُهُمْ بِطَرِيقِ الِانْحِصَارِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْكُمَّلِ الْأَنْبِيَاءُ أَوِ الْأَوْلِيَاءُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتَدَلَّ هَذَا الْحَصْرُ عَلَى أَنَّهُمَا نَبِيَّانِ لِأَنَّ أَكْمَلَ الْإِنْسَانِ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ؟ فَلَوْ كَانَتَا غَيْرَ نَبِيَّتَيْنِ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي النِّسَاءِ وَلِيَّةٌ وَلَا صِدِّيقَةٌ وَلَا شَهِيدَةٌ غَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَا يَلْزَمُ مِنْ لَفْظِ الْكَمَالِ ثُبُوتُ نُبُوَّتِهِمَا، لِأَنَّهُ يُطْلَقُ لِتَمَامِ الشَّيْءِ وَتَنَاهِيهِ فِي بَابِهِ، فَالْمُرَادُ بِبُلُوغِهِمَا إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْفَضَائِلِ الَّتِي لِلنِّسَاءِ.
قُلْتُ: لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَقَالَ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْإِشْكَالُ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَمَالِ الْمَرْأَةِ كَمَلِيَّتُهَا حَتَّى تَلْزَمَ النُّبُوَّةُ، بَلْ يَكْفِي لِحُصُولِ الْكَمَالِ وُصُولُهَا لِلْوِلَايَةِ، فَفَائِدَةُ ذِكْرِهِمَا لِطَرِيقِ الْحَصْرِ اخْتِصَاصُهُمَا بِكَمَالٍ لَمْ يُشْرِكْهُمَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ نِسَاءِ زَمَانِهِمْ، أَوْ مِنْ نِسَاءِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ، وَذَلِكَ لِمَا نَقَلَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ نُبُوَّةِ النِّسَاءِ، وَلِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} [يوسف: 109] لَكِنْ نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ نُبُوَّةُ حَوَّاءَ وَسَارَةَ وَأُمِّ مُوسَى وَهَاجَرَ وَآسِيَةَ وَمَرْيَمَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: فِي الْجَوَابِ عَنِ الْإِيرَادِ السَّابِقِ. قُلْنَا: الْكَمَالُ فِي شَيْءٍ يَكُونُ حُصُولُهُ لِلْكَمَالِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَالنُّبُوَّةُ لَيْسَتْ أَوْلَى بِالنِّسَاءِ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الظُّهُورِ وَالدَّعْوَةِ، وَحَالُهُنَّ الِاسْتِتَارُ، فَلَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِي حَقِّهِنَّ كَمَالًا، بَلِ الْكَمَالُ فِي حَقِّهِنَّ الصِّدِيقِيَّةُ، وَهِي قَرِيبَةٌ مِنَ النُّبُوَّةِ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ.
بِتَرَادُفِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الرَّسُولَ مَأْمُورٌ بِالتَّبْلِيغِ، بِخِلَافِ النَّبِيِّ فَلَا يَلْزَمُ مِنَ النُّبُوَّةِ عَدَمُ التَّسَتُّرِ، مَعَ أَنَّ الرِّسَالَةَ أَيْضًا لَا تُنَافِي السِّتَارَةَ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ) أَيْ: عَلَى جِنْسِهِنَّ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا جَمِيعِهِنَّ، أَوْ عَلَى النِّسَاءِ الْمَذْكُورَاتِ، أَوْ عَلَى نِسَاءِ الْجَنَّةِ، أَوْ عَلَى نِسَاءِ زَمَانِهَا، أَوْ عَلَى نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَوْ عَلَى الْأَزْوَاجِ الطَّاهِرَاتِ (كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَمْ يَعْطِفْ عَائِشَةَ عَلَى آسِيَةَ، لَكِنْ أُبْرِزَتْ فِي صُورَةٍ جَمِيلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ تَنْبِيهًا عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِمَا امْتَازَتْ بِهِ عَنْ سَائِرِهِنَّ، نَحْوَهُ فِي الْأُسْلُوبِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«حُبِّبَ إِلَيَّ مَنَ الدُّنْيَا ثَلَاثٌ: الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ". قُلْتُ: وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ ثَلَاثٍ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله قِيلَ: إِنَّمَا مَثَّلَ بِالثَّرِيدِ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ طَعَامِ الْعَرَبِ. وَلَا يَرَوْنَ فِي الشِّبَعِ أَغْنَى غَنَاءٍ عَنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْمَدُونَ الثَّرِيدَ فِيمَا طُبِخَ بِلَحْمٍ، وَرُوِيَ: سَيِّدُ الطَّعَامِ اللَّحْمُ، فَكَأَنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ اللَّحْمِ عَلَى سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ، وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ الثَّرِيدَ مَعَ اللَّحْمِ جَامِعٌ بَيْنَ الْغِذَاءِ وَاللَّذَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَسُهُولَةِ التَّنَاوُلِ، وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِي الْمَضْغِ، وَسُرْعَةِ الْمُرُورِ فِي الْمِرِّيءِ، فَضُرِبَ بِهِ مَثَلًا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّهَا أُعْطَتْ مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالْخَلْقِ، وَحَلَاوَةِ النُّطْقِ فَصَاحَةَ اللَّهْجَةِ وَجَوْدَةَ الْقَرِيحَةِ، وَرَزَانَةَ الرَّأْيِ، وَرَصَانَةَ الْعَقْلِ، وَالتَّحَبُّبَ إِلَى الْبَعْلِ، فَهِيَ تَصْلُحُ لِلتَّبَعُّلِ وَالتَّحَدُّثِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِهَا، وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهَا، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا عَقِلَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ تَعْقِلْ غَيْرُهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَرَوَتْ مَا لَمْ يَرْوِ مِثْلُهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّرِيدَ أَشْهَى الْأَطْعِمَةِ عِنْدَهُمْ وَأَلَذُّهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ
…
فَذَاكَ ـ أَمَانَةَ اللَّهِ ـ الثَّرِيدُ
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ عَائِشَةَ وَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ. قَالَ الْأَكْمَلُ: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَائِشَةَ بَعْدَ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. أَقُولُ: فَهَذَا يَحْتَمِلُ تَسَاوِي خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ، لِكَوْنِ الْأُولَى مِنَ الْعُرَفَاءِ السَّوَابِقِ، وَالثَّانِيَةِ مِنَ الْفُضَلَاءِ اللَّوَاحِقِ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: فَاطِمَةُ أَفْضَلُ مِنْ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ عَائِشَةُ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي النُّقَايَةِ وَشَرْحِهَا: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ أَفْضَلَ النِّسَاءِ مَرْيَمُ وَفَاطِمَةُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ: حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ عليه السلام، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍ:«خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» . وَفِي الصَّحِيحِ: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ " «هَذَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ لِيُسَلِّمَ عَلَيَّ وَيُبَشِّرَنِي أَنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأُمَّهُمَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ: مَرْيَمُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا، وَفَاطِمَةُ خَيْرُ نِسَاءِ عَالَمِهَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ وَخَيْرُ نِسَائِهَا فَاطِمَةُ. قُلْتُ: وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "«سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ خَدِيجَةُ، ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "«فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بَعْدَ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ» ". ثُمَّ قَالَ السُّيُوطِيُّ: " وَأَفْضَلُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ وَعَائِشَةُ ". قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "«كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يُكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ وَآسِيَةُ وَخَدِيجَةُ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» ". وَفِي لَفْظٍ: " إِلَّا ثَلَاثٌ: مَرْيَمُ وَآسِيَةُ وَخَدِيجَةُ ". وَفِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ. ثَالِثُهَا: الْوَقْفُ. قَالَتْ: وَصَحَّحَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ قَالَتْ: قَدْ رَزَقَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، فَقَالَ: "«لَا وَاللَّهِ مَا رَزَقَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا آمَنَتْ بِي حِينَ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَأَعْطَتْنِي مَالَهَا حِينَ حَرَمَنِي النَّاسُ» ". وَسُئِلَ ابْنُ دَاوُدَ فَقَالَ: عَائِشَةُ أَقْرَأَهَا السَّلَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِبْرِيلَ، وَخَدِيجَةُ أَقْرَأَهَا السَّلَامَ جِبْرِيلُ مِنْ رَبِّهَا، فَهِيَ أَفْضَلُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فَقِيلَ لَهُ: فَأَيٌّ أَفْضَلُ فَاطِمَةُ أَمْ أُمُّهَا؟
قَالَ: فَاطِمَةُ بَضْعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا نَعْدِلُ بِهَا أَحَدًا، وَسُئِلَ السُّبْكِيُّ فَقَالَ: الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَدِينُ لِلَّهِ بِهِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ عليه السلام أَفْضَلُ، ثُمَّ أَمُّهَا خَدِيجَةُ، ثُمَّ عَائِشَةُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ الْعِمَادِ أَنَّ خَدِيجَةَ أَفْضَلُ مِنْ فَاطِمَةَ بِاعْتِبَارِ الْأُمُومَةِ لَا السِّيَادَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ: تَقَدُّمُ آسِيَةُ عَلَى مَرْيَمَ وَزِيَادَةٌ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ إِلَخْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ:" يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ) أَيْ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ " ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ ". (وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ ") : تَمَامُهُ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "«أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ " قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: " فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنُ خَلِيلِ اللَّهِ» " الْحَدِيثَ. قَالَ شَارِحٌ أَيْ: إِذَا لَمْ تَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا فَأَكْرَمُ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ يُوسُفَ. قُلْتُ: أَوْ فِي النَّسَبِ وَالْحَسَبِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْدَادُ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ. (وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: "«الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ» ") : تَمَامُهُ: "«ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» " (فِي بَابِ الْمُفَاخِرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ) .
5725 -
«عَنْ أَبِي رَزِينٍ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: " كَانَ فِي عَمَاءٍ، مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: الْعَمَاءُ أَيْ: لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ.
ــ
5725 -
(عَنْ أَبِي رَزِينٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ لَقْيَطُ بْنُ عَامِرِ بْنِ صَبْرَةَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْقَافِ، وَصَبْرَةُ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، عُقَيْلِيٌّ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، عِدَادُهُ فِي الطَّائِفِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَاصِمٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ:(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ) ؟ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَكَانَ مَعَ الزَّمَانِ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِهِ مَعْدُودَانِ، فَلَوْلَا التَّأْوِيلُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ لَأَوَّلُ السُّؤَالِ وَآخِرُهُ يَتَعَارَضَانِ، وَسَيَجِيءُ بَيَانُ كَشْفِ الْمَعْنَى مِنَ الشُّرَّاحِ الْأَعْيَانِ (قَالَ:" كَانَ فِي عَمَاءٍ ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ مَمْدُودًا أَيْ: فِي غَيْبِ هُوُيَّةِ الذَّاتِ بَلَا ظُهُورِ مَظَاهِرِ الصِّفَاتِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ، فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لِأُعْرَفَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] إِشَارَةً إِلَيْهِ، وَدَلَالَةً عَلَيْهِ عَلَى تَفْسِيرِ حَبْرِ الْأُمَّةِ أَيْ لِيَعْرِفُونِ. قَالَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدَّوْلَةَ فِي كِتَابِهِ (الْعُرْوَةُ) فَأَثْبَتَ تَجَلِّيَ الذَّاتِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًا ثُمَّ تَجَلِّيهِ بِالصِّفَةِ الْآحِدِيَّةِ بِقَوْلِهِ: أَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ. ثَانِيًا: ثُمَّ تَجَلِّيهِ بِالصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ بِقَوْلِهِ: فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لِأُعْرَفَ. ثَالِثًا: وَفِي اصْطِلَاحَاتِ الصُّوفِيَّةِ لِلْكَاشِيِّ الْعَمَاءُ هِيَ الْحَضْرَةُ الْآحِدِيَّةُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَهُوَ فِي حِجَابِ الْجَلَالِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْآحِدِيَّةِ الْجَمْعَ، فَإِنَّهَا بَيْنَ غَيْبِ الْغُيُوبُ، وَبَيْنَ آحِدِيَّةِ الصُّوفِيَّةِ، فَإِنَّهَا بَيْنَ أَحَدِيَّةِ الْجَمْعِ وَبَيْنَ الْوَاحِدِيَّةِ، وَهَذِهِ الْبَيْنُونَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْعَمَاءَ فِي اللُّغَةِ غَيْمٌ رَقِيقٌ يَحُولُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْآحِدِيَّةِ الصُّوفِيَّةِ حَائِلَةٌ بَيْنَ سَمَاءِ الذَّاتِ وَأَرْضِ الْكَثْرَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ، وَقِيلَ: هِيَ الْحَضْرَةُ الْوَاحِدِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، لِأَنَّ الْعَمَاءَ هُوَ الْغَيْمُ الرَّقِيقُ، وَالْغَيْمُ هُوَ الْحَائِلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْحَضْرَةُ الْوَاحِدِيَّةُ هِيَ الْحَائِلَةُ بَيْنَ سَمَاءِ الْآحِدِيَّةِ الصِّرْفَةِ، وَبَيْنَ أَرْضِ الْكَثْرَةِ الْخِلْقِيَّةِ، وَقَدْ جَعَلَ الْفَارِقُ الْجَامِيُّ شَرْحًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ التَّحْقِيقَ، عَلَيْكَ بِذَلِكَ التَّصْنِيفِ، فَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ، وَتَبِعَ كُلُّ فَرِيقٍ مَذْهَبَهُمْ، هَذَا وَفِي الْفَائِقِ الْعَمَاءُ: هُوَ السَّحَابُ الرَّقِيقُ، وَقِيلَ: السَّحَابُ الْكَثِيفُ الْمُطْلَقُ، وَقِيلَ: شِبْهُ الدُّخَانِ يَرْكَبُ رَأْسَ الْجِبَالِ، وَعَنِ الْجَرْمِيِّ الضَّبَابُ، وَفِي النِّهَايَةِ الْعَمَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ السَّحَابُ. وَفِي الْقَامُوسِ: هُوَ السَّحَابُ الْمُرْتَفِعُ، أَوِ الْكَثِيفُ، أَوِ الْمَطَرُ الرَّقِيقُ، أَوِ الْأَسْوَدُ، أَوِ الْأَبْيَضُ، أَوْ هُوَ الَّذِي هَرَاقَ.
مَاؤُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ التِّبْيَانِيَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السَّحَابَ كِنَايَةٌ عَنْ حِجَابِ الْجَلَالِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حِجَابِ الذَّاتِ الْبَاعِثِ عَلَى سِرِّ الصِّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَلَوِيَّاتِ وَالسَّلَفِيَّاتِ، وَلِذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَاءُ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَمَى بِالْقِصَرِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْبَصَرِ، فَقِيلَ: هُوَ كُلُّ أَمْرٍ لَا تُدَارِكُهُ عُقُولُ بَنِي آدَمَ، وَلَا يَبْلُغُ كُنْهَهُ الْوَصْفُ، وَلَا يُدْرِكُهُ الْفَطِنُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: نَحْنُ نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَيِّفُهُ بِصِفَةٍ أَيْ نُجْرِي اللَّفْظَ عَلَى مَا جَاءَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ مَعَ التَّنْزِيهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُوثِ وَالتَّبْدِيلِ.
(مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ) : مَا: نَافِيَةٌ فِيهِمَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِالْعَمَاءِ مَا لَا تَقْبَلُهُ الْأَوْهَامُ وَلَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ وَالْأَفْهَامُ، عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ الْمَكَانِ بِمَا لَا يُدْرَكُ وَلَا يُتَوَهَّمُ، وَعَنْ عَدَمِ مَا يَحْوِيهِ وَيُحِيطُ بِهِ الْهَوَاءُ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْخَلَاءُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْجِسْمِ، لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِ السَّامِعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَمَّا خُلِقَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ فَلَوْ كَانَ الْعَمَاءُ أَمْرًا مَوْجُودًا لَكَانَ مَخْلُوقًا، إِذْ مَا مِنْ شَيْءٍ سِوَاهُ إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ وَأَبْدَعَهُ، فَلَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ طِبْقَ السُّؤَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] وَنَحْوِهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَيْنَ كَانَ عَرْشُ رَبِّنَا؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] : الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ السُّؤَالُ عَنِ الْعَرْشِ لَمَا كَانَ حَاجَةٌ لِلتَّعَرُّضِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى التَّقْدِيرِ، وَلَا بُدَّ لِقَوْلِهِ فِي عَمَاءٍ بِالْمَدِّ مِنَ التَّأْوِيلِ، حَتَّى يُوَافِقَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَمًّى مَقْصُورًا، وَمَا وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ:«كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ:" «مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ» " جَاءَ تَتْمِيمًا صَوْنًا لِمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي عَمَاءٍ مِنَ الْمَكَانِ، فَإِنَّ الْغَمَامَ الْمُتَعَارَفَ مُحَالٌ أَنْ يُوجَدَ بِغَيْرِ هَوَاءٍ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ:" «كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» " عَلَى مَا سَبَقَ فَالْجَوَابُ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ سُئِلَ عَنِ الْمَكَانِ؟ فَأَجَابَ عَنِ الْإِمْكَانِ، يَعْنِي إِنْ كَانَ هَذَا مَكَانًا فَهُوَ فِي مَكَانٍ، وَهُوَ إِرْشَادٌ لَهُ يَفِي غَايَةً مِنَ اللُّطْفِ.
(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) : وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ شُيُوخِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (الْعَمَاءُ) أَيْ: يَعْنِي مَعْنَاهُ (لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ) : وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ فِي هَذَا الشَّأْنِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وَالْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ كَانَ، وَإِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ.
5726 -
ــ
5726 -
(وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، زَعَمَ) أَيْ: نُقِلَ (أَنَّهُ) أَيْ: الْعَبَّاسَ (كَانَ جَالِسًا بِالْبَطْحَاءِ) أَيْ: فِي الْمُحَصَّبِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِمَكَّةَ فَوْقَ مَقْبَرَةِ الْمُعَلَّى، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَكَّةَ، وَأَصْلُ الْبَطْحَاءِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ مَسِيلٌ وَاسِعٌ، فِيهِ دِقَاقُ الْحَصَى (فِي عِصَابَةٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اسْتِعْمَالُ زَعَمَ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى عَبَّاسٍ رَمَزٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مُسْلِمًا، وَلَا تِلْكَ الْعِصَابَةُ كَانُوا مُسْلِمِينَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْبَطْحَاءِ. قُلْتُ: وَكَانَ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ غَالِبًا مُجْتَمَعُ الْكُفَّارِ، وَمَجْمَعُ رَأْيِهِمْ فِي تِلْكَ الدَّارِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اتَّفَقَ مَشَايِخُ الْعَرَبِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، أَنَّهُمْ يَهْجُرُونَ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَا يُبَايِعُونَهُمْ، وَلَا يُشَاوِرُونَهُمْ، وَلَا يُنَاكِحُونَهُمْ، وَلَا يُجَالِسُونَهُمْ، حَتَّى يَتْرُكُوا نُصْرَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِمَايَتَهُ، كَمَا هُوَ فِي السِّيَرِ مَعْرُوفٌ.
وَلِذَا لَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّةَ الْوَدَاعِ نَزَلَ بِهِ عِنْدَ نُزُولِهِ مِنْ مِنًى إِشَارَةً إِلَى مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى أَعْدَاءِ الدَّيْنِ، وَإِيمَاءً إِلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْيَقِينِ، هَذَا وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِمَّا يَدُلُّ صَرِيحًا أَنَّ تِلْكَ الْعِصَابَةَ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَأَمَّا " زَعَمَ "، فَكَثِيرًا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِيهِمْ) ، أَيْ حِينَئِذٍ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْ بَعْدَ الْقِصَّةِ الْمَسْطُورَةِ بَعْدَمَا وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْهَدِيَّةِ، (فَمَرَّتْ سَحَابَةٌ، فَنَظَرُوا إِلَيْهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ ") ؟ مَا: اسْتِفْهَامِيَّةٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ، وَهُوَ حَمْلُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَالْمَقْصُودُ التَّثْبِيتُ ضِدَّ الْإِنْكَارِ أَيْ أَيُّ: شَيْءٍ تُسَمُّونَ هَذِهِ؟ إِشَارَةٌ إِلَى السَّحَابَةِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتُسَمُّونَ، وَالْأَوَّلُ لَفْظَةُ:" مَا "(قَالُوا: السَّحَابَ) . بِالنَّصْبِ أَيْ: نُسَمِّيهِ السَّحَابَ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ السَّحَابُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ وَاحِدَةٌ مِنْ جُمْلَةِ جِنْسِ السَّحَابِ (قَالَ: وَالْمُزْنُ) أَيْ وَتُسَمُّونَهَا أَيْضًا الْمُزْنَ (قَالُوا: وَالْمُزْنَ) . أَيْ: نُسَمِّيهَا أَيْضًا. فَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْغَيْمُ، وَالسَّحَابُ وَاحِدَتُهُ مُزْنَةٌ وَقِيلَ: هِيَ السَّحَابَةُ الْبَيْضَاءُ زَادَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} [الواقعة: 69](قَالَ: وَالْعَنَانُ؟ قَالُوا: وَالْعَنَانُ) . كَسَحَابٍ زِنَةً وَمَعْنَى، مِنْ عَنَّ أَيْ: ظَهَرَ. وَفِي النِّهَايَةِ الْوَاحِدَةُ عَنَانَةُ، وَقِيلَ مَا عَنَّ لَكَ فِيهَا أَيِ اعْتَرَضَ وَبَدَا لَكَ إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَاطَفَهُمْ فِي الْكَلَامِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَعْرِفَتَهُ بِلُغَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ تَدْرِيجًا بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَعْلُومِهِمْ إِلَى مَجْهُولِهِمْ، وَتَرَقِّيًا مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ. (قَالَ:" هَلْ تَدْرُونَ مَا بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ") ؟ أَيْ: مَا مِقْدَارُ بُعْدَ مَسَافَةِ مَا بَيْنَهُمَا (قَالُوا: لَا نَدْرِي. قَالَ: " إِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ وَإِمَّا اثْنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً) ، الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي كَذَا قِيلَ، وَلِلتَّنْوِيعِ لِاخْتِلَافِ أَمَاكِنِ الصَّاعِدِ وَالْهَاوِي، وَبِهَذَا يَظْهَرُ صِحَّةُ مَا قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَالْمُرَادُ بِالسَبْعُونَ فِي الْحَدِيثِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ، لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَبَيْنَ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةَ عَامٍ أَيْ سَنَةً، وَالتَّكْثِيرُ هَذَا أَبْلَغُ وَالْمَقَامُ لَهُ أَدْعَى. (وَالسَّمَاءُ) : بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ (الَّتِي فَوْقَهَا) أَيْ: فَوْقَ سَمَاءِ الدُّنْيَا (كَذَلِكَ) أَيْ: فِي الْبُعْدِ (حَتَّى عِنْدَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ) . أَيْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَاتِ (ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ) أَيْ: عَظِيمٌ (بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ) . أَيْ الْبَحْرِ (ثَمَانِيَةُ أَوَعَالٍ) ، جَمْعُ وَعْلٍ، وَهُوَ الْعَنْزُ الْوَحْشِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ تَيْسُ شَاةِ الْجَبَلِ (بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ) : جَمْعُ ظِلْفٍ بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ لِلْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَالطِّيبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ لِلدَّابَّةِ، وَالْخُفُّ لِلْبَعِيرِ. (وَوَرِكِهِنَّ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ مَا فَوْقَ أَفْخَاذِهِنَّ (مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ)، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِنَّ مَلَائِكَةٌ عَلَى أَشْكَالٍ أَوَعَالٍ، وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ:(ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ) أَيْ: مَحْمُولٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7](بَيْنَ أَسْفَلِهِ) أَيْ: الْعَرْشِ (وَأَعْلَاهُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ) ، أَيْ مِنْ كَثْرَةِ الْبُعْدِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْحَدِّ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ بِجَنْبِ الْعَرْشَ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ (ثُمَّ اللَّهُ) أَيْ: وَسِعَةُ عِلْمُهُ أَوِ اتِّسَاعُ قُدْرَتِهِ فِي مُلْكِهِ (فَوْقَ ذَلِكَ) .
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَشْغَلَهُمْ عَنِ السُّفْلِيَّاتِ إِلَى الْعُلْوِيَّاتِ، وَالتَّفْكِيرُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْعَرْشِ، ثُمَّ يَتَرَقَّوْا إِلَى مَعْرِفَةِ خَالِقِهِمْ وَرَازِقِهِمْ، وَيَسْتَكْفُوا عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَلَا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، فَأَخَذَ فِي التَّرَقِّي مِنَ السَّحَابِ، ثُمَّ مِنَ السَّمَاوَاتِ، ثُمَّ مِنَ الْبَحْرِ، ثُمَّ مِنَ الْأَوْعَالِ، ثُمَّ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى ذِي الْعَرْشِ، وَالْفَوْقِيَّةُ بِحَسْبِ الْعَظَمَةِ لَا الْمَكَانِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَالِي الشَّأْنِ عَظِيمُ الْبُرْهَانِ، وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: فَوْقَ الْعَرْشِ حُكْمًا وَعَظَمَةً وَاسْتِيلَاءً ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .
5727 -
ــ
5727 -
(وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: جَاءَهُ (أَعْرَابِيٌّ) أَيْ: بَدَوِيٌّ (فَقَالَ: جُهِدَتِ الْأَنْفُسُ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْجُهْدِ بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمَشَقَّةُ وَبِضَمِّهَا الطَّاقَةُ، وَالْمَعْنَى حَمَلَتْ فَوْقَ طَاقَتِهَا (وَجَاعَ الْعِيَالُ)، عِيَالُ الرَّجُلِ بِالْكَسْرِ مَنْ يَعُولُهُ وَيَمُونُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (وَنُهِكَتْ) : بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ نَقَصَتْ (الْأَمْوَالُ) ، أَيْ الَّتِي تَنْمُو مِنَ الْأَمْطَارِ (وَهَلَكَتِ الْأَنْعَامُ) ، وَهُوَ جَمْعُ نَعَمٍ مُحَرَّكَةً الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ:(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا) ، أَيْ: فَاطْلُبِ اللَّهَ لِلسَّقْيِ بِالْمَطَرِ مِنْ أَجْلِ مَعَاشِنَا الَّذِي هُوَ زَادُ مَعَادِنَا نَسْتَشْفِعُ أَيْ: نَطْلُبُ الشَّفَاعَةَ (بِكَ) أَيْ: بِوُجُودِكَ وَحُرْمَتِكَ وَبِعَظَمَتِكَ (عَلَى اللَّهِ، وَنَسْتَشْفِعُ اللَّهَ) أَيْ: نَسْتَجِيرُ وَنَسْتَغِيثُ بِهِ (عَلَيْكَ) . فِي أَنْ تَشْفَعَ لَنَا عِنْدَهُ بِأَنْ يُوَفِّقَكَ عَلَى مُسَاعَدَتِنَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مُوَهِّنًا لِلتَّسَاوِي فِي الْقَدْرِ، أَوِ التَّشَارُكِ فِي الْأَمْرِ، وَالْحَالُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الشِّرْكِ مُطْلَقًا، وَقَالَ تَعَالَى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَقَالَ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ لَدَيْهِ، وَتَعَجَّبَ مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ.
(فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ") ، أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ الْمُشَارَكَةِ (" سُبْحَانَ اللَّهِ ") ، كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا، أَوْ ذَكَرَ الثَّانِي تَعَجُّبًا (فَزَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ) ، بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ حَتَّى تَبَيَّنَ أَثَرُ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ إِلَى وُجُوهِ أَصْحَابِهِ) ، لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ تَكْرِيرِ تَسْبِيحِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، فَخَافُوا مِنْ غَضَبِهِ فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا أَثَّرَ فِيهِمُ الْخَوْفُ رَقَّ لَهُمْ وَقَطَعَ التَّسْبِيحَ وَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ (ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ) : بِمَعْنَى وَيْلَكَ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ مَعْنَى الشَّفَقَةِ عَنِ الْمَزَلَّةِ وَالْمَزْلَقَةِ، وَالثَّانِي دَعَا عَلَيْهِ بِالْهَلَكَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَالْمَعْنَى اعْلَمْ أَيُّهَا الْمُتَكَلِّمُ الْجَاهِلُ فِي كَلَامِهِ الْغَافِلُ عَنْ مَرَامِهِ (إِنَّهُ) أَيْ: الشَّأْنُ (لَا يُسْتَشْفَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ شَأْنُ اللَّهِ) : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ لِأَنَّ شَأْنَهُ الْعَلِيُّ وَبُرْهَانَهُ الْجَلِيُّ (أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ) ، أَيْ مِنْ أَنْ يُسْتَشْفَعَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ.
قَالَ الطِّيبِيُّ، يُقَالُ: اسْتَشْفَعْتُ بِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ لِيَشْفَعَ لِي إِلَيْهِ فَشَفَّعَهُ أَجَابَ شَفَاعَتَهُ، وَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ الشَّفَاعَةَ هِيَ الِانْضِمَامِ إِلَى آخَرَ نَاصِرًا لَهُ وَسَائِلًا عَنْهُ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ عَظِيمٍ مَنَعَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسْتَشْفَعَ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ، وَقَوْلُهُ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَثَرِ هَيْبَةٍ أَوْ خَوْفٍ اسْتُشْعِرَ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ تَنْزِيهًا عَمَّا نُسِبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الِاسْتِشْفَاعِ بِهِ عَلَى أَحَدٍ وَتَكْرَارِهِ مِرَارًا. (وَيْحَكَ) : كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا لِزَجْرِهِ وَتَبْيِينًا لِأَمْرِهِ (أَتَدْرِي مَا اللَّهُ) ؟ أَيْ عَظَمَتَهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ وَسَطْوَةِ كِبْرِيَائِهِ وَجَبَرُوتِهِ (إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ) أَيْ: مُحِيطٌ بِهَا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ (لَهَكَذَا) . بِفَتْحِ اللَّامِ الِابْتِدَائِيَّةِ دَخَلَتْ عَلَى خَبَرِ إِنَّ تَأْكِيدًا لِلْحُكْمِ (وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ) أَيْ: أَشَارَ بِهَا وَفِعْلًا بَيَانٌ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ قَوْلًا (مِثْلَ الْغَيْبَةِ عَلَيْهِ) : حَالٌ مِنَ الْعَرْشِ أَيْ مُمَاثِلًا إِلَّا عَلَى مَا فِي جَوْفِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ حَالٌ مِنَ الْمُشَارِ بِهِ، وَفِي قَالَ مَعْنَى الْإِشَارَةِ بِأَصَابِعِهِ إِلَى مُشَابَهَةِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَهِيَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ لِلْأَصَابِعِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْكَفِّ مِثْلَ حَالَةِ الْإِشَارَةِ (وَإِنَّهُ) أَيْ: الْعَرْشَ مَعَ مَا وُصِفَ بِهِ مِنَ الْمَجْدِ وَالْكَرَمِ وَالسِّعَةِ وَالْعَظَمَةِ (لَيَئِطُّ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: لَيَتَضَايَقُ وَيَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ (بِهِ) أَيْ: بِحَقِّ مَعْرِفَتِهِ وَعَنْ سَعَةِ عِلْمِهِ وَإِحَاطَةِ عَظَمَتِهِ، حَيْثُ يَئِطُّ لِمَا
يَرْتَكِبُهُ، وَيَرْتَعِدُ مِمَّا يَرْكَبُهُ مِنْ أَعْبَاءِ جَلَالِهِ وَهَيْبَتِهِ (أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ) أَيْ: كَعَجْزِ الرَّحْلِ عَنِ احْتِمَالِ الرَّاكِبِ. فِي النِّهَايَةِ أَيْ: أَنَّ الْعَرْشَ لِيَعْجَزُ عَنْ حَمْلِهِ وَعَظَمَتِهِ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ، إِنَّمَا يَكُونُ لِقُوَّةِ مَا فَوْقَهُ وَعَجْزِهِ عَنِ احْتِمَالِهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْكَلَامُ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ، وَالْكَيْفِيَّةُ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَحْقِيقُ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَا تَحْدِيدُهُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ تَقْرِيبٍ أُرِيدَ بِهِ تَقْرِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي النُّفُوسِ، وَإِفْهَامِ السَّائِلِ مِنْ حَيْثُ يُدْرِكُهُ فَهْمُهُ إِذْ كَانَ أَعْرَابِيًّا حَافِيًا لَا عِلْمَ لَهُ بِمَعَانِي مَا دَقَّ مِنَ الْكَلَامِ، وَقَرَّرَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ مَعْنَى عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ فِي نَفْسِ السَّائِلِ، وَأَنَّ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يُجْعَلُ شَفِيعًا إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنَّ مَعْنَى يَئِطُّ يُصَوِّتُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّنْزِيهِ مِنْ عَظْمَةِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، حَيْثُ تَحَيَّرَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ مِنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، كَصَوْتِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِالرَّاكِبِ الثَّقِيلِ الشَّدِيدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
5728 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، أَنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقَيْهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
5728 -
(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ ") أَيْ: عَنْ وَصْفِ مَلَكٍ عَظِيمٍ (مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ) أَيْ: الْمُعَظَّمِينَ لِقَوْلِهِ (مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ) . فَإِنَّهُمْ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْمَطَايَا عَلَى قَدْرِ الْعَطَايَا (أَنَّ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُكْسَرُ (مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقَيْهِ) : وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِيهِمَا (مَسِيرَةُ سَبْعَمِائَةِ عَامٍ) . يَعْنِي: فَقِسِ الْبَاقِي عَلَى هَذَا النِّظَامِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا الضِّيَاءُ.
5729 -
ــ
5729 -
(وَعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى) : بِضَمِّ الزَّايِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: لَهُ صُحْبَةٌ، مَاتَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجِبْرِيلَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ) أَيْ: ارْتَعَدَ ارْتِعَادًا شَدِيدًا مِنْ عَظَمَةِ ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَمِنْ هَيْبَةِ مَا سَمِعَ مِنَ الْمَقَالِ. قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حَقِيقَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي دَارِ الْبَقَاءِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَتْ مُسْتَحِيلَةً مَا سَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى أَمْ لَا؟ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الرُّؤْيَةُ غَالِبًا تُنْبِئُ عَنِ الْقُرْبَةِ فَارْتَعَدَ جِبْرِيلُ مِنَ الْهَيْبَةِ، (وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ) ، قَالَ شَارِحٌ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنُقْصَانِ جِبْرِيلَ، وَالْحِجَابُ مِنْ طَرَفِ جِبْرِيلَ اه. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَحْجُوبَ مَغْلُوبٌ، فَهُوَ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ الْمَوْصُوفِ بِنَعْتِ النُّقْصَانِ، وَأَمَّا الْخَالِقُ ذُو الْجَلَالِ الْمَنْعُوتُ بِوَصْفِ الْكَمَالِ، فَلَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ وَلَوْ مِنْ أَنْوَارِ الْجَمَالِ (لَوْ دَنَوْتُ) أَيْ: قَرُبْتُ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (مِنْ بَعْضِهَا) أَيْ: مِنْ بَعْضِ جَمِيعِ تِلْكَ الْحُجُبِ النُّورَانِيَّةِ عَلَى فَرْضِ الْمُحَالِ، وَإِلَّا فَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، (لَاحْتَرَقْتُ) أَيْ: مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ النُّورِ الَّذِي يَغْلِبُ النَّارَ فِي الظُّهُورِ، فَإِنَّ النَّارَ تَقُولُ: جُزْ يَا مُؤْمِنَ فَإِنَّ نُورَكَ أَطْفَأَ لَهَبِي، فَكَيْفَ بِنُورِ رَبِّي وَهُوَ حَسْبِي؟ (هَكَذَا) أَيْ: لَفَظُ الْحَدِيثِ (فِي الْمَصَابِيحِ) أَيْ: عَنْ زُرَارَةَ.
5730 -
وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الْحِلْيَةِ " عَنْ أَنَسٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: " فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ ".
ــ
5730 -
(وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَنَسٍ إِلَّا أَنَّهُ) أَيْ: أَنَسًا (لَمْ يَذْكُرْ: " فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ) . وَفِي (الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي (الْأَوْسَطِ) عَنْ أَنَسٍ: سَأَلْتُ جِبْرِيلَ: " هَلْ تَرَى رَبَّكَ؟ " قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ لَوْ رَأَيْتُ أَدْنَاهَا لَاحْتَرَقْتُ.
5731 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِسْرَافِيلَ، مُنْذُ يَوْمَ خَلْقَهُ صَافًّا قَدَمَيْهِ لَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ تبارك وتعالى سَبْعُونَ نُورًا، مَا فِيهَا مِنْ نُورٍ يَدْنُو إِلَّا احْتَرَقَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
ــ
5731 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِسْرَافِيلَ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقَهُ ") : بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ مُنَوَّنًا (صَافًّا) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ حَالَ كَوْنِ إِسْرَافِيلَ وَاقِفًا (قَدَمَيْهِ) : مَفْعُولُ صَافًّا، وَاعْلَمْ أَنَّ مُنْذُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِكَسْرِهِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، وَيَلِيهِ اسْمٌ مَجْرُورٌ، وَحِينَئِذٍ: حَرْفُ جَرٍّ بِمَعْنَى " مِنْ " فِي الْمَاضِي، وَبِمَعْنَى " فِي " فِي الْحَاضِرِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: مُنْذُ: هَاهُنَا حَرْفُ جَرٍّ وَهُوَ. بِمَعْنَى " فِي ". وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: صَافًّا حَالٌ مِنْ إِسْرَافِيلَ لَا مِنْ ضَمِيرِهِ الْمَنْصُوبِ، وَمُنْذُ يَوْمَ: ظَرْفٌ لِصَافًا وَلَيْسَ بِمَعْنَى " فِي ". وَقَالَ الدَّارَحَدِيثِيُّ: " اتَّفَقُوا أَنَّ مُذْ وَمُنْذُ إِنَّمَا يَدْخُلَانِ اسْمَا الزَّمَانِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنْ أُرِيدَ ابْتِدَاءُ الزَّمَانِ الْمَاضِي الَّذِي انْتِهَاؤُهُ (كَمَنْ) فِيهِ يَكُونَانِ لِلِابْتِدَاءِ نَحْوَ: مَا رَأَيْتُهُ مُذْ يَوْمَيْنِ أَوْ مُذْ سَنَةٍ كَذَا أَيْ: انْتَفَى الرُّؤْيَةَ مِنِ ابْتِدَاءِ يَوْمَيْنِ أَنَا فِي آخِرِهِمَا، وَلَيْسَا بِمَعْنَى " فِي " وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضٌ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُمَا نَفْيُ الرُّؤْيَةِ فِي أَزْمِنَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَنْتَ فِي آخِرِهَا مَقْصُودًا بِهِ ابْتِدَاؤُهَا وَانْتِهَاؤُهَا اه. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِسْرَافِيلَ صَافًّا قَدَمَيْهِ مِنْ أَوَّلِ مُدَّةِ خَلْقِهِ، (لَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ) أَيْ: إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُ أَدَبًا، أَوْ لَا يَرْفَعُ نَظَرَهُ عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ خَوْفًا (" بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ تبارك وتعالى سَبْعُونَ نُورًا ") ، أَيْ مِنْ أَنْوَارِ الْحِجَابِ، وَأَسْرَارِ الْغِيَابِ، وَأَسْتَارِ النِّقَابِ حَتَّى لَا يَعْرِفَهُ غَيْرُهُ قَالَ تَعَالَى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110](مَا مِنْهَا) أَيْ: لَيْسَ مِنَ السَبْعِينَ مِنْ نُورٍ (يَدْنُو) أَيْ: يَقْرُبُ (مِنْهُ) : إِسْرَافِيلُ فَرْضًا (إِلَّا احْتَرَقَ) . أَيْ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ الَّذِي فَوْقَ طَاقَةِ نَظَرِ إِسْرَافِيلَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .
5732 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، خَلَقْتَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ وَيَرْكَبُونَ، فَاجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلَقْتُهُ بِيَدَيَّ وَنَفَخْتُ مِنْ رُوحِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ فَكَانَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
ــ
5732 -
(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ ") أَيْ: يَوْمَ الْمِيثَاقِ أَوْ بَعْدَهُ (قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ خَلَقْتَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ ") : بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ يَطَئُونَ أَوْ يَتَزَوَّجُونَ (وَيَرْكَبُونَ) أَيْ: عَلَى الدَّوَابِّ فِي الْبَرِّ، وَعَلَى السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ، (فَاجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا) أَيْ: بِطَرِيقِ الدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ، أَوِ اجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا فَقَطْ، (وَلَنَا الْآخِرَةَ) أَيْ: نَعِيمَهَا لِحِرْمَانِنَا مِنَ الْحُظُوظِ الْمَذْكُورَةِ فِي الدُّنْيَا تَعَادُلًا بَيْنَنَا. (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلَقْتُهُ بِيَدَيَّ) : بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَرُوِيَ بِالْإِفْرَادِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: لَا أَجْعَلُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِ " أَجْعَلُ "، وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ (لَا) رَدًّا لِقَوْلِهِمْ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَبْلَغُ يَعْنِي: أَكْثَرُ مُبَالَغَةً أَوْ بَلَاغَةُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ مُكَرَّرًا، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ فَتَدَبَّرْ، وَالْمَعْنَى لَا أَجْعَلُ عَاقِبَةَ مَنْ خَلَقْتُهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ مُرَكَّبًا مِنْ مَعْجُونِ الْكَمَالِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى قَابِلِيَّةِ الْهِدَايَةِ وَالضَّلَالِ، وَاسْتِعْدَادِ مَظْهَرِيَّةِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أَيْ: بَعْدَ تَرْبِيَةِ كَمَالِ جَسَدِهِ وَتَصْوِيرِهِ شَكْلًا كَرِيمًا تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا (كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ) أَيْ: بِالْخَلْقِ الْآتِي: (فَكَانَ) . أَيْ
مِنْ غَيْرِ التَّوَانِي. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِي الْكَرَامَةِ مَنْ خَلَقْتُهُ بِنَفْسِي وَلَا وَكَّلْتُ خَلْقَهُ إِلَى أَحَدٍ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وَهُوَ آدَمُ وَأَوْلَادُهُ، مَعَ مَنْ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ بِقَوْلِ (كُنْ) وَهُوَ الْمَلِكُ، وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ كَقَوْلِهِ: بَيْتُ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: لَا يَسْتَوِي الْبَشَرُ وَالْمَلَكُ فِي الْكَرَامَةِ وَالْقُرْبَةِ، بَلْ كَرَامَةُ الْبَشَرِ أَكْثَرُ وَمَنْزِلَتُهُ أَعْلَى، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي تَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَكِ. أَقُولُ: وَوَجْهُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَكَ خُلِقَ مَعْصُومًا، فَصَارَ عَنِ الْجَحِيمِ مَمْنُوعًا وَعَنِ النَّعِيمِ مَحْرُومًا، وَالْبِشْرُ خُلِقَ مَمْحُونًا بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَمَبْلُوًّا بِالْعَطِيَّةِ وَالْبَلِيَّةِ، فَمَنْ قَامَ بِحَقِّهَا اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ فِي الدَّارَيْنِ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُمَا اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ فِي الْكَوْنَيْنِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5733 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
5733 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُؤْمِنُ ") ؟ أَيْ الْكَامِلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْأَوْلِيَاءِ (أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ بَعْضِ مَلَائِكَتِهِ) . وَهُمْ خَوَاصُّهُمْ أَوْ عَوَامُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاصْطِفَاءِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُرَادُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ عَوَامِّهِمْ وَبِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا عَوَامُّهُمْ: قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: عَوَامُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ، وَخَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] وَيَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ اه. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِخَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ، وَبِخَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ نَحْوَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، وَبِعَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ كَالْخُلَفَاءِ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ: بِعَوَّامِ الْمَلَائِكَةِ سَائِرُهُمْ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ أَوْلَى مِنْ إِجْمَالِ بَعْضِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: أَنَّ الْبَشَرَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَكِ، بِمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ لَمَّا وُجِدَ فِيهِمُ الْكُمَّلُ مِنَ الرُّسُلِ، أَوِ الْأَكْمَلُ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لِعَدَمِ وُجُودِهِمْ فِيهِمْ فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . قُلْتُ: وَحَدِيثُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ الْكَعْبَةِ. فِي ابْنِ مَاجَهْ: بِسَنَدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَنَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ: " «لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكَ» " وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ.
5734 -
وَعَنْهُ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي فَقَالَ: " «خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمُكَوَّرَةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ وَآخِرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
5734 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي) : إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ قُرْبِهِ، وَدَلَالَةً عَلَى تَمَامِ حِفْظِهِ، وَلَعَلَّ فِي أَخْذِ يَدِهِ، إِيمَاءً إِلَى تَعْدَادِ أَعْدَادِ الْخَمْسَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خَلْقِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام بَعْدَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ الْغَائِبَةِ وَالْفَذْلَكَةِ الْإِيمَانِيَّةِ، (فَقَالَ:" خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ ") أَيْ: التُّرَابَ وَهُوَ الْأَرْضُ (يَوْمَ السَّبْتِ) ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ آخِرَ يَوْمِهِ الْمُسَمَّى بِعَشِيَّةِ الْأَحَدِ فَلَهَا حِكْمُهُ، فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38](وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ)، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ - وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت: 9 - 10](وَخَلْقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ) أَيْ: جِنْسَهُ (يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ)، بِالْمَدِّ قَالَ عز وجل:{وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] أَيْ فِي بَقِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ (وَخَلَقَ النُّورَ) : بِالرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنُّونِ فِي آخِرِهِ. قَالَ الْأَكْمَلُ: هُوَ بِالرَّاءِ كَمَا لِمُسْلِمٍ وَلِغَيْرِهِ بِالنُّونِ وَهُوَ الْحُوتُ، وَيَجُوزُ خَلَقَهُمَا فِي الْأَرْبِعَاءِ، وَالنُّورُ هُوَ الظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ الْمُظْهَرُ لِغَيْرِهِ اه. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ هُوَ نَفْسُهُ، وَمَا فِيهِ ظُهُورُهُ فَيُنَاسِبُ قَوْلَهُ تَعَالَى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 11 - 12]
(يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَمْدُودَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ مُثَلَّثَةُ الْبَاءِ مَمْدُودَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ النُّورِ كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. (وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ) أَيْ: فَرَّقَهَا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِ أُصُولِهَا (يَوْمَ الْخَمِيسِ)، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ قَضَاءَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَخَلْقَهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ (وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ) أَيْ: لِكَوْنِهِ الْفَذْلَكَةَ الْإِيمَانِيَّةَ، وَبِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ الْغَائِبَةِ (وَآخَرِ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ) أَيْ: وَفِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ نَهَارِ الْجُمُعَةِ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ: فِي آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ (فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ) ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْمَرْجُوَّةُ لِلْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ فِي مَسْنَدَهِ مَرْفُوعًا، لَكِنْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مَا مُلَخَّصُهُ: هُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ غَرَائِبِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَجَعَلُوهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّمَا جَمَعَهُ مِنْ كَعْبٍ، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَجَعَلَهُ مَرْفُوعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
5735 -
«وَعَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَأَصْحَابُهُ إِذْ أَتَى عَلَيْهِمْ سَحَابٌ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " هَذِهِ الْعَنَانُ هَذِهِ رَوَايَا الْأَرْضِ، يَسُوقُهَا اللَّهُ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْكُرُونَهُ، وَلَا يَدْعُونَهُ ". ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَكُمْ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهَا الرَّقِيعُ، سَقْفٌ مَحْفُوظٌ، وَمَوْجٌ مَكْفُوفٌ ". ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ " ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " سَمَاءَيْنِ بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ ". ثُمَّ قَالَ كَذَلِكَ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ " مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " إِنَّ فَوْقَ؟ ذَلِكَ الْعَرْشُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءَيْنِ ". ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا الَّذِي تَحْتَكُمْ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " إِنَّهَا الْأَرْضُ ". ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا تَحْتَ ذَلِكَ؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " إِنَّ تَحْتَهَا أَرْضًا أُخْرَى، بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ ". حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرَضِينَ وَبَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ ". ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّكُمْ دَلَّيْتُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ " ثُمَّ قَرَأَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] » رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: لَهَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ.
ــ
5735 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: بَيْنَمَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: جَالَسٌ وَأَصْحَابُهُ) أَيْ: مَعَهُ جُلُوسٌ (إِذَا أَتَى) أَيْ: مَرَّ (عَلَيْهِمْ سَحَابٌ)، وَفِي نُسْخَةٍ سَحَابَةٌ (فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا "؟ أَيْ السَّحَابُ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: هَذِهِ) أَيْ: السَّحَابَةُ، فَالتَّعْبِيرُ بِالتَّأْنِيثِ لِلْوَحْدَةِ وَبِالتَّذْكِيرِ لِلْجِنْسِ مِنْ بَابِ التَّفَنُّنِ (الْعَنَانُ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ " عَنَّ " أَيْ: ظَهَرَ كَمَا سَبَقَ (هَذِهِ رَوَايَا الْأَرْضِ)، قِيلَ التَّقْدِيرُ: بَلْ هَذِهِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَفِي النِّهَايَةِ عَنِ السَّحَابِ رَوَايَا الْبِلَادِ، وَالرَّوَايَا مِنَ الْإِبِلِ الْحَوَامِلُ لِلْمَاءِ وَاحِدَتُهَا رَاوِيَةٌ، فَشَّبَهَهَا بِهِ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْمَزَادَةُ رَاوِيَةٌ، وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ (يَسُوقُهَا اللَّهُ) أَيْ: يَجُرُّهَا أَوْ يَأْمُرُ بِسَوْقِهَا (إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْكُرُونَهُ) ، أَيْ بَلْ يَكْفُرُونَهُ حَيْثُ يَنْسُبُونَ الْمَطَرَ إِلَى اقْتِرَابِ النُّجُومِ، وَافْتِرَاقِهَا وَغُرُوبِهَا وَطُلُوعِهَا، وَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، (وَلَا يَدْعُونَهُ) . أَيْ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَلَا يَطْلُبُوَنَ مِنْهُ وَلَا يَعْبُدُونَهُ، بَلْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَهُوَ بِعَمِيمِ كَرَمِهِ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ، كَسَائِرِ الْأَنَامِ وَبَاقِي الْأَنْعَامِ.
(ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَكُمْ ") ؟ أَيْ مِنَ السَّمَاءِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهَا الرَّقِيعُ ") . وَهُوَ اسْمٌ لِسَمَاءِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: لِكُلِّ سَمَاءٍ وَالْجَمْعُ أَرْقِعَةٌ (سَقْفٌ مَحْفُوظٌ، وَمَوْجٌ مَكْفُوفٌ ") . أَيْ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاسْتِرْسَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ حَفِظَهَا مِنَ السُّقُوطِ عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ بِلَا عَمَدٍ كَالْمَوْجِ الْمَكْفُوفِ، (ثُمَّ قَالَ:" هَلْ تَدْرُونَ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا ") ؟ أَيْ مِقْدَارَ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ " بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ") . أَيْ مَسِيرَتُهَا وَمَسَافَتُهَا. (ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ) ؟ أَيْ الْمَحْسُوسُ أَوِ الْمَذْكُورُ مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " سَمَاءَانِ ") أَيْ: سَمَاءٌ بَعْدَ سَمَاءٍ (بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ " ثُمَّ قَالَ: كَذَلِكَ) أَيْ: سَمَاءَانِ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ (حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ) أَيْ: أَكْمَلَ عَدَدَ السَّبْعِ مِنْهُنَّ (مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) . أَيْ كَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فَفِيهِ نَوْعُ تَفَنُّنٍ فِي الْعِبَارَةِ.
(ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ ") ؟ أَيِ الْمَذْكُورِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " إِنَّ فَوْقَ ذَلِكَ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ وَقَعَ خَبَرًا مُقَدَّمًا لِإِنَّ، وَقَوْلُهُ:(الْعَرْشَ)، بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لَهُ (وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ) أَيْ: السَّابِعَةِ (بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءَيْنِ) . أَيْ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ. (ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الَّذِي تَحْتَكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: إِنَّهَا الْأَرْضُ ") أَيْ: الْعُلْيَا (ثُمَّ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَا تَحْتَ ذَلِكَ ") ؟ أَيْ الْمُشَارِ إِلَيْهِ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " تَحْتَهَا أَرْضٌ أُخْرَى، بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ ") . أَيْ: وَهَكَذَا ذَكَرَ أَرْضًا بَعْدَ أُخْرَى. (حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرْضِينَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ (بَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ) : بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ بَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ مِنْهَا (مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّكُمْ دَلَّيْتُمْ ") : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ مِنْ أَدْلَيْتُ الدَّلْوَ وَدَلَّيْتَهَا إِذَا أَرْسَلْتُهَا الْبِئْرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19] عَلَى التَّجْرِيدِ أَوِ التَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى لَوْ أَرْسَلْتُمْ (بِحَبْلٍ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى لَهَبَطَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ لَنَزَلَ (عَلَى اللَّهِ) . أَيْ عَلَى عِلْمِهِ وَمُلْكِهِ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ فِي كَلَامِهِ الْآتِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى سُفْلِيَّاتِ مُلْكِهِ، كَمَا فِي عُلْوِيَّاتِ مَلَكُوتِهِ دَفْعًا لِمَا عَسَى يَخْتَلِجُ فِي وَهْمِ مَنْ لَا فَهْمَ لَهُ أَنَّ لَهُ اخْتِصَاصًا بِالْعُلُوِّ دُونَ السُّفْلِ، وَالَّذِي قِيلَ: كَانَ مِعْرَاجُ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام فِي بَطْنِ الْحُوتِ، كَمَا أَنَّ مِعْرَاجَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي ظَهْرِ السَّمَاءِ، فَالْقُرْبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلٍّ فِي مَدِّ الِاسْتِوَاءِ، كَمَا أَخَّرَ عَنْ قُرْبِهِ لِكُلٍّ مِنَ الْعَبِيدِ بِقَوْلِهِ:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُ الْقُرْبُ الْمَعْنَوِيُّ بِالتَّشْرِيفِ اللَّدُنِّيِّ، وَمِنْهُ قُرْبُ الْفَرَائِضِ وَقُرْبُ النَّوَافِلِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ.
(ثُمَّ قَرَأَ) أَيْ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتِشْهَادًا وَأَبُو هُرَيْرَةَ اعْتِضَادًا {هُوَ الْأَوَّلُ} [الحديد: 3] أَيْ: الْقَدَمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ابْتِدَاءٌ {وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] أَيْ: الْبَاقِي الَّذِي لَيْسَ لَهُ انْتِهَاءٌ {وَالظَّاهِرُ} [الحديد: 3] أَيْ: بِالصِّفَاتِ {وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] أَيْ: بِالذَّاتِ {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ} [البقرة: 29] أَيْ: مِنَ الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ عَلَيْهِمْ أَيْ: بَالِغٌ فِي كَمَالِ الْعِلْمِ بِهِ مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِجَوَانِبِهِ.
(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْآيَةَ) أَيْ: الْمَذْكُورَةُ (تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: لَهَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ)، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَمَّا عِلْمُهُ تَعَالَى، فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] وَأَمَّا قُدْرَتُهُ فَمِنْ قَوْلِهِ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] أَيْ هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي يُبْدِئُ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَالْآخِرُ الَّذِي يُفْنِي كُلَّ شَيْءٍ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27] وَأَمَّا سُلْطَانُهُ فَمِنْ قَوْلِهِ: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا غَلَبْتَهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي يَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، وَيَتَصَرَّفُ فِي الْمُكَوِّنَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ، أَوْ لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ يَمْنَعُهُ، وَالْبَاطِنُ هُوَ الَّذِي لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى دُونَهُ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ:(وَعِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَسُلْطَانُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ) ، أَيْ يَسْتَوِي فِيهِ الْعُلْوِيَّاتُ وَالسُّفْلِيَّاتُ وَمَا بَيْنَهُمَا، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، بَلْ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الزَّمَانُ
وَالْمَكَانُ (وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْكَافُ فِي (كَمَا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ اسْتِوَاءً مِثْلَ مَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ مُسْتَأْثِرٌ بِعِلْمِهِ بِاسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ إِشْعَارًا إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِقَوْلِهِ: لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَلِقَوْلِهِ:{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] مِنْ تَفْوِيضِ عِلْمِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَالْإِمْسَاكُ عَنْ تَأْوِيلِهِ كَمَا سَبَقَ أَنَّ بَعْضًا مِنْ خِلَافِ الظَّاهِرِ يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ. وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيهِ.
5736 -
وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَانَ طُولُ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِ أَذْرُعٍ عَرْضًا» "
ــ
5736 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كَانَ طُولُ آدَمَ عليه الصلاة والسلام سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِ أَذْرُعٍ عَرْضًا ") . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَدْرِ ذِرَاعِ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُرِيدَ بِقَدْرِ الذِّرَاعِ الْمُتَعَارَفِ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ ذِرَاعَ كُلَّ أَحَدٍ لِقَدْرِ مِرْفَقِهِ، فَلَوْ كَانَ بِالذِّرَاعِ الْمُتَعَارَفِ لَكَانَتْ يَدُهُ قَصِيرَةً فِي جَنْبِ طُولِ جَسَدِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَقُولُ: فِي الْقَامُوسِ: الذِّرَاعُ بِالْكَسْرِ مِنْ طَرَفِ الْمِرْفَقِ إِلَى طَرَفِ الْأُصْبُعِ الْوُسْطَى وَالسَّاعِدِ، وَقَدْ تُذْكَرُ فِيهِمَا جَمْعُهُ أَذْرُعٍ أَيْ بِفَتْحِ الْهَمْزِ وَضَمِّ الرَّاءِ، فِي مَدٍّ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالذِّرَاعِ طُولًا هُوَ الْمُتَعَارَفُ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَرْضَا ذِرَاعِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ، وَيَرْتَفِعُ الدَّوْرُ الَّذِي هُوَ فِي مَرْتَبَةِ الْمَنْعِ.
5737 -
ــ
5737 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ) أَيْ: أَيُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ (كَانَ أَوَّلَ) ؟ بِالنَّصْبِ أَيْ أَسْبَقَ (قَالَ: " آدَمُ ") : بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنَبِيٌّ كَانَ؟) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّقْرِيرِ لَمَّا قَالَ أَوَّلًا أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ، وَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: آدَمُ أَيْ أَوْ هُوَ نَبِيٌّ كَانَ؟ (قَالَ: " نَعَمْ نَبِيٌّ ") : ذَكَرَ نَبِيٌّ بَعْدَ قَوْلِهِ: نَعَمْ لِيُنِيطَ بِهِ قَوْلَهُ (مُكَلَّمٌ) أَيْ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فَقَطْ، بَلْ كَانَ نَبِيًّا مُكَلَّمًا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الصُّحُفُ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْمُرْسَلُونَ) ؟ الْكَشَّافُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] هَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى تَغَايُرِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ جَمَعَ إِلَى الْمُعْجِزَةِ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ غَيْرُ الرَّسُولِ مَنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ، وَإِنَّمَا أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ اه. وَالْمَشْهُورُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّسُولَ مَنْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالنَّبِيُّ أَعَمُّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (قَالَ:" ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةُ عَشَرَ ") : أَهُمُ الْعَدَدُ إِشْعَارًا بِعَدَمِ الْجَزْمِ كَيْلَا يَزِيدَ أَوْ يَنْقُصَ فِي الْحَدِّ (جَمًّا غَفِيرًا) . أَيْ جَمًّا كَثِيرًا. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ مُجْتَمِعِينَ كَثِيرِينَ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْجُمُومِ وَالْجَمَّةُ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالْكَثْرَةُ. وَالْغَفِيرُ مِنَ الْغَفْرِ، وَهُوَ التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ، فَجُعِلَتِ الْكَلِمَتَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّمُولِ وَالْإِحَاطَةِ، وَلَمْ تَقُلِ الْعَرَبُ الْجَمَّاءُ إِلَّا مَوْصُوفَةً، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ كَطُرًّا وَقَاطِبَةً، فَإِنَّهَا أَسْمَاءٌ وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) ، الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَيْسَ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ، فَإِنَّهُ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، بَلْ هُوَ أَبُو أُمَامَةَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامَيْنِ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا لِصِغَرِهِ،