الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل فيه رد على فهم خاطىء للمعترض لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية]
فصل قال المعترض: (ثم قال أبو العباس: "وما يروى أن رجلًا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكي إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر وأن يخبره أنهم مسقون، فعليه بالكيس، فمثل هذا يقع كثيرًا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم، وأعْرِف من هذا وقائع، وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من أمته حاجة فتقضى، فإن هذا وقع كثيرًا، ولكن عليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء السائلين لا (1) تدل على استحباب السؤال، وأكثر هؤلاء السائلين الملحين (2) لما هم فيه من ضيق الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك ". هذا كلامه والمقصود في هذا أنه قال بعد حكايته عن فعلهم وسؤالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، و (3) أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك (4) وأثبت لهم الْإِيمان بذلك، وسوى بين الحياة والممات؛ كما
(1) ساقطة من (ح) .
(2)
في (م) : "الملحدين".
(3)
في (ق) و (المطبوعة) : "كما أن".
(4)
في (ق) و (المطبوعة) زيادة: "هذا كلامه، والمقصود في هذا أنه قال بعد حكايته عن فعلهم وسؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، وأن السائلين له في الحياة كانوا كذلك".
تراه صريحًا واضحًا (1) . وقد «قال ربيعة بن كعب رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: "كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوء وحاجة فقال: سلني، فقلت: سألتك مرافقتك في الجنة فقال أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. فقال: "أعني على نفسك بكثرة السجود» " (2) وهذا الرجل كفَّر من سأل الله تعالى وحده بذات النبي صلى الله عليه وسلم، أو برجل صالح وأخرجه عن (3) ملة الإِسلام بذلك، كما ترى فيما سبق من (4) قوله في شبهته، فهو بذلك ممن قال الله فيهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8] الآية [الحج / 8] .
وممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " «إنهم يقتلون أهل الْإِيمان ويدعون أهل الأوثان» ") .
والجواب أن يقال: إن أبا العباس قرر منع الدعاء عند القبور، وأنه وسيلة إلى دعاء أربابها مع الله، كما يفعله عباد الكواكب والأصنام والصالحين من الآدميين والملائكة، وجزم بالمنع من دعاء الله عندها، وأنها وسيلة إلى هذا الشرك العظيم، وأنه مشاقة لله ورسوله، فإن (5) الرسول منع من الصلاة عند القبور، ولعن فاعله، وقال: " «لا تتخذوا قبري
(1) ساقطة من (ق) و (المطبوعة) .
(2)
أخرجه مسلم (488) ، وأبو داود (1320) ، والنسائي (2 / 227) ، وأحمد (3 / 500) .
(3)
في (ق) و (م) : "من".
(4)
في (م) : "في".
(5)
في (م) : "وإن ".
عيدًا» " (1) فاستدل واحتج واستظهر، ثم ذكر (2) سؤالًا يورده القبوريون- يعني عباد القبور- وأجاب عنه، وذكر أنه إنما أورده مع بُعْدِه عن طريق العلم والهدى، لأنه غاية ما يتمسك به القبوريون، وأورد فيه ما يحتجون به، ومنه ما ذكر هذا المعترض أن رجلًا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة، والشيخ لم يقصد أنَّ هذا جائز أو أنه مشروع، أو دليل يستدل به على الدعاء عند القبور، أو على دعاء أربابها مع الله، وإنما ذكر أنه يقع، وأن وقوعه لا يُسْتَدَل به، وأنه ذكره في معرض الرد على من دعا عند القبور، فإن كان كلام الشيخ دليلًا فقد رده، وذكر أنه لا يحتج به، وأنه بعيد عن طريق العلم والهدى كما قاله في أول السؤال في كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم ".
وقوله: (وأعرف من هذا وقائع، وأن هذا وقع كثيرًا) .
يريد به أن الوقائع القدرية في مثل هذا لها أسباب متعددة لا يحيط بها إلَاّ الله، فلا يستدل بها على التشريع والاستحباب أو الجواز.
وقوله: (لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم) . ليس فيه أنهم لم يشركوا أو أن هذا مشروع، غاية ما هناك أنه ذكر عنهم أنهم لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، وهذا يدل على أنهم على طرف وحرف، إن أصابهم خير اطمأنُّوا (3) به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا، كما أن كثيرًا من السائلين
(1) في (ق) زيادة: "ولا بيوتكم. . . الحديث "، والحديث تقدم تخريجه. انظر: ص (481) ، هامش 1 ".
(2)
ساقطة من (ق) و (م) .
(3)
في (ق) : " أصابه خير اطمأن".
له (1) في الحياة كذلك، وقد ذمهم الله وعابهم بقوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58](2)[التوبة / 58] . وهؤلاء من أهل النفاق بنص الآية والشيخ جعلهم مثلهم، فأي دليل يبقى لمبطل لو كانوا يعلمون؟ . ويقال أيضًا: قول الشيخ: (لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم) ، ليس فيه أنهم مؤمنون إيمانًا يمنع من الشرك، غايته أن (3) يكونوا مؤمنين برسالته ونبوته (4) الِإيمان بالرسالة والنبوة لا يكفي مع عدم الانقياد لما جاء به من التوحيد، والبراءة من الشرك، أو يراد به الإيمان بتوحيد الربوبية.
قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106][يوسف / 106] . أثبت لهم إيمانًا (5) مع شركهم (6) . ويدل على مراد الشيخ: أنه لم يطلق الإيمان، وإنما أتى بإيمان مقيد (7) بالإضافة إليهم، وهذا يدل على نوع خاص من الإيمان وجزء
(1) ساقطة من (ق) .
(2)
في (ق) و (م) : "يسخرون".
(3)
في (ق) و (م) : "أنهم".
(4)
في (المطبوعة) زيادة: "إيمان الجاهلين المقلدين لا إيمان الراسخين المستبصرين، وهذا ".
(5)
في (ق) : "الإيمان".
(6)
في (المطبوعة) زيادة: " وهو بلا شك الإيمان التقليدي الكاذب". كما قال في المنافقين: "ومن الناس من يقول آمنا وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين".
(7)
في (ق) و (م) : "بالإيمان مقيدًا".
منه، فأي حجة تبقى لهذا المعترض الذي هو أجهل وأضل (1) من حمار أهله؟ .
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5][الجمعة / 5] .
وأما حديث ربيعة بن كعب: فالاستدلال به خروج عن محل النزاع، وأهل العلم لا يمنعون من سؤاله صلى الله عليه وسلم في حال حياته، فإن المراد هنا طلب (2) شفاعته بالدعاء.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64][النساء / 64] .
وهذا من جنس سؤال المخلوق ما يقدر عليه، ولهذا كان الإتيان إليه صلى الله عليه وسلم لطلب الاستغفار لمن ظلم نفسه مشروعًا في حياته باتفاق الأمة، وأما بعد موته فلم ينقل عن أحد من أصحابه، ولا عن أحد من أئمة العلم والهدى أنَّه فعله، أو استحبه (3) أو أمر به، حتى أن الحكاية التي تذكر عن العتبي ضعفها أهل العلم بالنقل، ولم يثبتوها وقد بَسط الكلام عليها وكَشف حال ناقليها، الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي رحمه الله تعالى في كتاب:"الصارم المنكي"، وتقدم تلخيص ذلك قريبًا (4) .
(1) ساقطة من (ق) .
(2)
ساقطة من (ح) و (المطبوعة) .
(3)
في (ق) : "استحسنه".
(4)
في (المطبوعة) زيادة: "وتبين أنها مكذوبة لا تقوم بها حجة".
والخير في اتباع من سلف، والشر في ابتداع من خلف، وهذا الرجل من الصم البكم (1) الذين لا يعقلون، والحديث فيه الْإِشارة بقوله:" «أعنِّي على نفسك بكثرة السجود» " إلى ما وقع في حديث أبي هريرة صريحًا لما قال له: " «من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلَاّ الله خالصًا من قلبه» "(2) وكلا (3) الحديثين خرج من مشكاة واحدة ممن لا ينطق عن الهوى، إن هو إلَاّ وحي يوحى، ومن كان له نور يمشي به في الناس ابصر وأدرك (4) ما يخفي ويتعذر إدراكه على أهل الظلمة والعمى. فسبحان من قسم بين عباده الشقاوة والهدى.
ومن هذا: سؤال الناس له صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أن يشفع لهم إلى ربه، وهو من جنس مسألته في الدنيا صلى الله عليه وسلم، (5) وقد احتج به المبطلون على سؤاله بعد مماته ودعائه مع الله، وقد كشف شبهتهم وأبدى خزيتهم شيخنا رحمه الله في كتابه (6) "كشف الشبه" (7) وشيخ الْإِسلام ابن تيمية في كتاب:"الاستغاثة"(8) وكتاب: "الرد على ابن الأخنائي المالكي "، فليراجع.
(1) في بقية النسخ: "والبكم".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في (ح) : "كان".
(4)
في (م) : "أدرك وأبصر".
(5)
في بقية النسخ: "صلى الله عليه وسلم في الدنيا".
(6)
في بقية النسخ: "كتاب".
(7)
في (المطبوعة) : "الشبهات".
(8)
في (ق) : "الإغاثة".
وأما قول هذا (1) المعترض: (وهذا الرجل كفَّر من سأل الله تعالى وحده بذات النبي صلى الله عليه وسلم، أو برجل صالح؛ وأخرجه عن ملة الْإِسلام) إلى آخر عبارته.
فقد تقدم لك أنه لا يتحاشى من (2) الكذب، وأنه من أكذب الخلق على الله وعلى عباده المؤمنين، والله سبحانه وتعالى يعلم وعباده المؤمنون يعلمون (3) أن الشيخ إنما كفَّر من دعا مخلوقًا (4) أعظم من دعاء الله، ومن تضرع وخشع (5) واستكان، رغبة ورهبة عند قبور الصالحين (6) أعظم من تضرعه في بيوت الله وخشوعه له في أوقات الْإِجابة، وأوقات (7) الأسحار، وطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلَاّ الله العزيز الغفار.
وأما من سأل الله بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو بذات غيره: فالكلام فيها معروف مشهور لا يخفى [على](8) صغار الطلبة، وقد حكاه شيخنا رحمه الله في كثير من رسائله، وقرر ما ذكره شيخ الْإِسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، وحكى الخلاف فيه على عادة أهل العلم، ولم يقل أنه شرك فضلًا عن أن يقول: أنه يخرج عن (9) الملة، وهذه المسألة ليست
(1) ساقطة من (ح) .
(2)
ساقطة من (ق) و (المطبوعة) .
(3)
ساقطة من (ق) و (م) .
(4)
في (المطبوعة) زيادة: "مثل أو".
(5)
ساقطة من (المطبوعة) .
(6)
في (المطبوعة) زيادة: "مثل أو".
(7)
ساقطة من (ق) و (المطبوعة) .
(8)
ما بين المعقوفتين زيادة من (المطبوعة) يقتضيها السياق.
(9)
في (ق) : "مخرج من".
مما (1) نحن فيه من مسائل النزاع، وإنما أدخلها هذا الملحد مغالطة وترويجًا لباطله، ولبسا للحق بالباطل، كما هو الغالب عليه في سائر اعتراضاته.
قال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ (2) وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42][البقرة / 42] .
وأما قوله: (فهو بذلك ممن قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8] [الحج / 8] ) .
فلا تستغرب هذه الجرأة على الله، وعلى كتابه، وعلى عباده المؤمنين، ممن قلَّ حظه ونصيبه من العلم والدين، وعدم العقل المانع عما يهلك ويشين، وكل مبتدع وضال يتأول إذا تهتك وخرج عن قانون الاحتجاج والمناظرة في خصمه، ومخالفة ما يكابر به معاني الآيات والنصوص الظاهرة، فانظر إلى قول الرافضة:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19][الرحمن / 19] . علي وفاطمة.
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22][الرحمن / 22] . حسن وحسين.
وقولهم: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} [الدخان: 43] بنو أمية، وحَمْلُهم بعض النصوص الواردة في أناس من صناديد المشركين وأعيانهم على أبي بكر وعمر، وقولهم في عائشة - لعنة الله عليهم- يتأولون فيه، فلا عجب من هذا البغي والعدوان، فللرسل وأهل العلم ورثة، وللرافضة والباطنية ورثة، إنَّ الله يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
(1) في: (ق)"فيما"، وإسقاط "ليست".
(2)
في (ح) زيادة: "لا"، وهو خطأ.