الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل فيه الشفاعة المثبتة والمنفية والمقصود بملكية الشفاعة]
فصل قال المعترض: (وقد قال هذا الرجل في موضع آخر تكلَّم به على قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] [الفاتحة: 4] . قال: فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص الملك ذلك اليوم (1) عرف تخصيص هذه المسألة، وأن معناه عند جميع المفسرين كلهم ما فسَره الله به في قوله:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19][الانفطار -19] . ثم (2) قال: فأين هذا المعنى والإيمان بما صرَّح به القرآن مع قوله صلى الله عليه وسلم: " «يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا» "(3) من قول صاحب البردة في قوله (4) .
ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي
…
إذ (5) الكريم تجلى باسم منتقم
(1) في (المطبوعة) زيادة: "الله".
(2)
ساقطة من (ق) و (م) .
(3)
تقدم تخريجه، انظر: ص (291) ، هامش 4، وص (387) ، هامش 1.
(4)
"في قوله" سقط من (المطبوعة) .
(5)
في (ق) و (ح) و (المطبوعة) : "إذا".
فإن لي ذمة منه بتسميتي
…
محمدا (1) ؛ وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
…
فضلا ، وإلا فقل: يا زلة القدم.
ثم قال: فليتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العلماء والعباد، وهل يجتمع في قلب عَبْد (2) التصديق بهذه الأبيات، والتصديق بقوله تعالى:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19][الانفطار -19] . وقوله: " «يا فاطمة بنت محمد، لا أملك لك (3) من الله شيئا» "، والله لا والله إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق وأن فرعون صادق، وأنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم صادق على الحق، وأنَّ أبا جهل صادق على الحق.
والله ما استويا ولن يتلاقيا
…
حتى تشيب مفارق الغربان
. فمن عرف هذه المسألة، وعرف البردة، ومن فتن بها من العلماء والعباد والزهاد عرف غربة الإسلام) . انتهى كلامه. ثم ذكر عند ذلك قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57][الإسراء -57] . وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14][الرعد -14] . قال: (فهذا بعض معاني قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4][الفاتحة -4] بإجماع المفسرين.
(1) في (ق) و (ح) و (المطبوعة) : "محمد ".
(2)
ساقطة من (ق) و (م) .
(3)
في (ق) و (م) : "أغني عنكِ".
وهذا قوله لا قول المفسرين كما يزعم، بل سترى قول المفسرين، فبهذا الكلام ضرب كتاب الله بعضه ببعض، وكذلك سنَة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطل بهذا الكلام جميع الشفاعات التي ورد بها الكتاب والسنَّة المتواترة من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والشهداء والأولياء والصالحين، والأطفال وغيرهم، فنفى بذلك جميع الشفاعات بما لا علم له به ولا دراية، أولا: نظر إلى مخارج كلام الله وكلام العرب المنزَّل بلغتهم، حيث يقول جلَّ وعلا:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7][محمد -7] . وقال في الآية الأخرى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126][آل عمران -126، والأنفال -10] . فكذلك الشفاعة إنما هي من عطائه لأوليائه؛ ليمتازوا بها عن غيرهم، إكراما لهم بها؛ ليُغْبَطوا بها ذلك اليوم الذي ذكر هذا الرجل حيث يقول صاحب البردة:(إذ (1) الكريم تجلَّى باسم منتقم) . إذ الشفاعة منه تبارك وتعالى من الجزاء الجزيل، والفضل العميم، الذي لا تملك نفس لنفس شيئا ذلك اليوم استقلالا، بل الكل من عند الله: الشافع والمشفع والشفاعة) . وأطال الكلام بهذا المعنى، وأن الشفاعة لا تكون بيد أحد من دون الله، إذ الكل خلق الله وأسباب، وأن الشيخ لا يدري كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأنه جاهل بكلام العرب وبلاغتها التي نزل القرآن بلغتها، ولا يميز بين الكلام الإضافي من المطلق والاستقلالي، وأنشد قول جرير بن الخطفان:(2) .
(1) في (ق) و (ح) و (المطبوعة) : "إذا".
(2)
في (المطبوعة) : "الخطفي".
يقضي الكتاب على الصليب وتغلب
…
ولكل منزل آية تأويل
. وزعم أن هذا خاص بالكافرين كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26][الفرقان -26] . ثم قال: (فمن قضائه تبارك وتعالى: تمليك أنبيائه ورسله وأوليائه من الشهداء والصالحين والأطفال، وتمكينهم من الشفاعة، وهذا مما يجب الإيمان به، كما صرَّح به علماء الأمة دون أهل الأهواء والبدع) . ثم ذكر عن البغوي في قوله: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86][الزخرف / 86] . قال: (وهم عيسى وعزير (1) والملائكة، -فإنهم عبدوا من دون الله [164] تعالى ولهم الشفاعة (2) وصحَّح هذا القول، فإذا كان ذلك (3) كذلك كما وصفنا فهل ترى صاحب البردة طلب ذلك استقلالا من دون الله تعالى؟ بل (4) ولم يقصد طلبه في الحال، وإنما استحضر كما قدمنا يوم القيامة حين تطلبه صلى الله عليه وسلم جميع الخلائق؛ حيث علموا قربه من ربه جلَّ وعلا وما أعطاه من الكرامة والمقام المحمود) . والجواب: أن يقال لهذا الجهول، المفتري، المُخَلِّط. إنَما يضرب كتاب الله بعضه ببعض من ردَّ بعضه ببعض، واحتج ببعضه على خلاف ما دلَّ عليه البعض الآخر، كما يفعله أهل البدع
(1) في (ق) : "والعزير".
(2)
في (ق) : "شفاعة".
(3)
ساقطة من (المطبوعة) .
(4)
ساقطة من (ق) و (م) .
والضلال، ومن رد ما دل عليه قوله تعالى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4][الفاتحة -4] . وقوله: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19](1)[الانفطار -19] . ونحو هذه الآيات بقوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف: 86][الزخرف / 86] ونحوها. وزعم أن ملك الشفاعة مثبت، وأنه يقضي على هذه الآيات ويرد به ما دلت عليه، وهذا ضرب كتاب الله تعالى بعضه ببعض، وفي المثل:"رمتني وانسلت". وأما من رد بكتاب الله كلام أهل الغلو والإطراء، واستدل بكتاب الله على بطلان غلو الغالين، وزيغ الزائغين، وتحريف المبطلين، فهذا هو المؤمن المهتدي، المحتج بكتاب (2) الله على ما أنزل لأجله، المستضيء بنوره؛ المهتدي بهداه، المعتصم بحيله. وأما جحده أن يكون ما ذكر الشيخ هو كلام المفسرين: فهذا دليل على عدم علمه بكلام المفسرين، وقصور رتبته عن الاطلاع على معاني التنزيل، وكتب المفسرين موجودة بأيدي أهل العلم، وهم لا يختلفون أن المعنى: أنه المنفرد بالملك والتدبير ذلك اليوم، فلا تملك نفس لنفس شيئا، بخلاف حالهم في الدنيا، فإن أكثر الخلق نازع الرسل وعصى الأمر، واتبع السبل (3)
(1) في (ق) زيادة: والأمر يومئذ لله.
(2)
في (م) : "بكلام".
(3)
في (ق) : "السبيل".
فتفرقت بهم (1) عن سبيله (2) وهذا المعنى دل عليه القرآن في غير موضع. وأما قوله: (وأبطل بهذا الكلام جميع الشفاعات)(3) فهذا أيضا صدر عن جهل عظيم؛ واعتقاد ذميم، فإن نفي (4) الشفاعة التي ظنها المشركون حاصلة بالتعلق على الأنبياء والصالحين ومسألتهم مع الله: منفية بالكتاب والسنة؛ وإجماع الأمة، وهذه هي التي نفاها الشيخ وأهل العلم قبله، وأما الشفاعة التي جاءت بها السنة، وقال بها الأئمة فهي مقيدة بقيود تمنع مسألة غير الله للشفاعة وطلبها من سواه، ولا تحصل إلا بتجريد التوحيد لله العزيز الحميد، كما تقدم في حديث أبي هريرة (5)[165] . والمعترض جاهلي لا يفرق بين النوعين، فظهر أنه هو العديم (6) العلم والدراية، الجاهل بأحكام الرواية والرعاية لكلام الله وكلام رسوله وكلام العرب، فإن العربي سليم الفطرة يعرف بلغته أن القيد في قوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255][البقرة -255] . يفيد صرف الوجوه إلى من بيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله (7) ولا يتقدم أحد بين يديه إلا بإذن ورضى لما يقول، وأنه لا يرضى الشفاعة فيمن أشرك به وسوى بينه وبين عباده في خالص حقه.
(1) في (ح) : "به".
(2)
في (ح) و (المطبوعة) : "سبيل الله".
(3)
في (ق) و (م) : "الشفاعة".
(4)
ساقطة من (ح) و (المطبوعة) .
(5)
في (المطبوعة) زيادة: "من أسعد الناس بشفاعتك".
(6)
في (ق) و (ح) : "عديم".
(7)
"وإليه يرجع الأمر كله" ساقطة من (ق) .
وقد نصَّ بعضهم على أنَّ هذا هو نكتة القيد في آيات الشفاعة. وأمَّا ما استدل به المعترض من أنَّ (1) الله جلَّ وعلا قال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7][محمد -7] . وقال في الوضع الآخر: {وما النصر إلا من عند الله} [آل عمران: 126][آل عمران -126، والأنفال -10] . فهذا أيضا: يدل على كثافة فهمه وانسلاخه من العلم، فإن النصر المثبت لهم غير المنفي عنهم، فنصرهم لله قيامهم بما افترض عليهم من الدعوة إلى سبيله، وجهاد أعدائه باليد واللسان والجنان، وأما النصر المنفي عنهم فهو الظهور على العدو، وقتله وهزيمته وفشله، واضمحلال كيده. قال تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17][الأنفال -17] . فأثبت الله لنبيّه (2) صلى الله عليه وسلم من الرمي ما يليق بحال البشر، وأما التأثير والإصابة والهزيمة بذلك الرمي وإيصاله إليهم فالله تعالى هو الفاعل له، الرامي في الحقيقة. فإذا تبيَّن هذا: فذلك دليل على أن الشفاعة التي تحصل بها النجاة والسعادة يد الله، وأن الشافع ليس بيده إلا مجرد الطلب والمسألة، بعد الإذن والرضى عمن شفع فيه، وأما القبول وتوفيق الشافع وإلهامه فكل هذا إلى الله وحده.
(1) في (ق) : "بأن".
(2)
في (م) و (ح) : "له".
وأمَّا قوله: (فكذلك الشفاعة) . فيقال: إن كانت الشفاعة كذلك فهي منفية عن غير الله، كما أن النصر منفي عن غيره، والمثبت منها ومن النصر لا يوجب أن يطلب من الغائبين والأموات شيء ألبتة. وقد ذكر شيخ الإسلام في ردِّه على النصارى (1) أن النبوَّات متفقة على المنع من دعاء الغائبين والأموات، فلا يدعون لشفاعة ولا غيرها. فقول المعترض:(إنَّ الشفاعة من عطائه، ومن الجزاء والفضل) ونحو هذا لا يفيد طلبها من غير الله كالأموات والغائبين، وليس كل ما أعطي العبد يجوز أن يُطْلب منه، فإن هذا لا يقوله عاقل. وأما قوله: إن المراد في قوله: {لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19][الانفطار -19] ، ذلك اليوم استقلالا. فهذا لا يفيده لو سلَّمناه، فإنَّ من لا يستقلّ بفعل أصلا، ولا طاقة له على الاستقلال ليس بمالك ولا متصرف بمجرَّد مشيئته وإرادته، مع أن المعنى المراد الذي نصَّ عليه أعيان المفسرين: نَفْي المُلْك مطلقا استقلالا وغيره. وأما نسبة الشيخ إلى الجهل وعدم العلم ببلاغة العرب التي نزل بها [166] القرآن، وأنه لا يعرف الكلام الإضافي من المطلق. فيقال: كل ضال ومفترٍ ينحو هذا النحو؛ ولا يتحاشى من الفجور في (2) الخصام، والمنافقون نسبوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
(1) انظر: "الجواب الصحيح "(3-13 و 4-462) .
(2)
في (ق) و (م) : "و".
السفاهة وعدم العقل، وقال فرعون وقومه في موسى وهارون عليهما السلام ما قالوا، فالعاقل لا يلتفت إلى هذا الكلام، لأنه معدود من اللغو والآثام، والنظر في كلام شيخنا وكلامك يقضي له عند من وقف عليه بالعلم والدراية ومعرفة الحقائق ومعاني التنزيل، وأنه يورد تقريره مطابقا للحال، وهذا عين البلاغة كما عرفوها وحدُّوها في كتب المعاني، فإن البلاغة يوصف بها الكلام والمتكلم. وأما كلام هذا المعترض وهذيانه المكرر، وتكراره لألفاظه المستهجنة، ولحنه وتنافر تركيبه فهو من أدلَّة جهله وتفاهته (1) ؛ وأنه لا صناعة ولا عناية ولا أدب، ولا فضيلة وأن حججه كما قيل:
تخرصا وأحاديثا ملفقة
…
ليست بنبع إذا عدت ولا غرب.
وانظر إلى قوله: (أولا: نظر إلى مخارج كلام الله وكلام العرب المنزَّل بلغتهم) ، فإنَّ في استعماله المخارج في المعاني والمقاصد ما يقضي بجهله، وفي قوله:(وكلام العرب المنزل بلغتهم) ما يقضي بتفاهته (2) وعدم معرفته للتراكيب؛ فإنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي؛ ولا يجوز الفصل هنا لِإيهامه اللبس. فلا تقول جاء زيد وجاء عمر القائم (3) أبوه، تريد نعت زيد، بل يتعيَّن ترك الفصل هنا، فهذه الغلطات في نصف سطر، ولو تتبعت ما في كلامه من الخلل لطال الكلام، والقصد كشف شبهته ودحض حجته.
(1) في (ك) : "فهاهته".
(2)
في (ك) : "فهاهته".
(3)
في (ق) : "عمرو والقائم"، وفي (م) :"عمرو القائم".
وأمَّا قوله: (إنَّ هذا خاص بالكافرين، كقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26] الفرقان -26] . فليس الأمر كما زعم، فإن نفي الملك عام، فلا يملك أحد ولو الأنبياء والملائكة، بل هو سبحانه المنفرد بالملك المختص به، وأما العسر، فنعم؟ خاص بالكافرين. ثم في قوله: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26] الفرقان -26] . وفي (1) تخصيص العسر بهم ما يفيد أن العسر المطلق هو المختص، وأما المقيد فلا مانع من أن ينال المذنب من الموحدين منه ما يكفر به من سيئاته. وأما قول المعترض:(فمن قضائه تبارك وتعالى تمليك أنبيائه ورسله وأوليائه من الشهداء والصالحين والأطفال، وتمكينهم من الشفاعة، وهذا مما يجب الإيمان به كما صرَّح به علماء الأمة) . فيقال في جوابه: لم يرد لفظ التمليك في الكتاب والسنَّة إلا (2) في معرض النفي والاستثناء ليس بنص ولا ظاهر في التمليك؟ بل هو كقوله: [167]{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] وقد نصَّ شيخ الإسلام رحمه الله أنَّ هذا لا يفيد إثبات التكليف، ولا سلف لهذا المعترض وأمثاله في هذا القول، ولم يعرف إطلاقه عن
(1) في (ق) و (م) : " في ".
(2)
في (ق) : "ولا".
أحد من أهل العلم، ولو سأل أحد طفلا من أطفال المؤمنين أن يشفع له لعده الناس من أجهل الخلق وأضلهم. وقد قال تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 44][الزمر / 44] . وقال تعالى في يوم القيامة: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105][هود: 105-105] . وهذا يدل على عدم الملك المؤمن والكافر؟ لقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105][هود: 105] . وقوله: (وهذا مما يجب الإيمان به) . يقال: إنما يجب الإيمان بما أخبر به الرسول، ودلَّ عليه الكتاب العزيز، من إثبات الشفاعة بإذن الله لمن شاء (1) من الموحدين، هذا الذي يجب الإيمان به، وأما الإيمان بأنهم مَلَكوا الشفاعة، وأنهم يدعون لها بعد الممات وفي المغيب، فهذا قول باطل لا أصل له، ولا يؤمن به إلا أهل الشرك الذين يدعون الأموات والغائبين مع الله. فهذا المعترض خلط الشركيات بالشرعيات، ولبس الحق بالباطل، والذي أنكره أهل البدع وعابه عليهم سلف الأمة وأئمتها هي الشفاعة التي جاءت بها الأخبار وصحَّت بها الآثار. وأما القول:(بأن علماء الأمة أنكروا على من أبطل الشفاعة الشركية؟ وصرحوا بثبوتها) فهو قول باطل، بل علماء الأمة أشد الناس إنكارا لها كما دلَّت عليه الآيات البيّنات.
(1) في (ق) : (يشاء) .
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي (1) الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18][يونس: 18] . فنفى هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون، وظنوها حاصلة ممن قصدوه وتوجَّهوا إليه، وسألوه رغبا ورهبا، كما يشفع المخلوق عند مثله من الملوك والأمراء والأكابر، هذه هي التي قامت بقلوب المشركين وتعلقوا على الأنبياء والملائكة (2) والصالحين لأجلها، وهذه منفية كما مرَّ في آية يونس، وكما (3) في آية الزمر، وكما في سورة الأحقاف في قوله:{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ (4) الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف: 28] ) (5)[الأحقاف - 18 - 28] . وكما في آية (6) سبأ: ( {وَلَا (7) تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ (8) إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] ) [سبأ: 23] . وهي التي قصد هذا المعترض بقوله، إنَّ الله ملَّكهم [168] الشفاعة؟ وأنه يجب الإيمان بها، والسنَّة جاءت بإثبات شفاعة غير هذه،
(1) ولا في" ساقطة من (ق) .
(2)
في (م) : الملائكة "، بإسقاط الواو.
(3)
في (ق) و (م) زيادة: "مر".
(4)
في (ح) : " يضرهم "، وهو خطأ فاحش.
(5)
في (ق) زيادة: " (وذلك إفكهم) الآية ".
(6)
في بقية النسخ: "سورة ".
(7)
ساقطة من (ح) .
(8)
ساقطة من (المطبوعة) .
تنال (1) بتجريد التوحيد وإخلاصه كما في حديث أبي هريرة، وهي مملوكة لله وحده،. هو الذي يأذن ويعين للشافع ويحدّ له حدّا معينا مخصوصا، كما جاء صريحا في حديث الشفاعة، وهذا النوع من الشفاعة أنكره المعتزلة، وهم محجوجون بالكتاب والسنَّة، ولكن (2) المعترض خلط ولم يميز بين ما نفاه القرآن وما نفته المعتزلة، ولم يعرف هذا النوع الثابت. وأما قوله:(إن البغوي فسَّر قوله (3){إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86][الزخرف / 86] . هم عيسى وعزير والملائكة، فإنهم عُبِدُوا من دون الله) . فقول البغوي هو أحد القولين في الآية، وقد تقدَّم الكلام في ذلك، وليس في هذا ما يستريح إليه المبطل، فإنهم يشفعون لمن شاء (4) الله، ومُلك الشفاعة ليس بأيديهم، بل هو بيد (5) الله الذي له ملك السماوات والأرض، فأي حجة في هذا على أنهم يُدْعون مع الله للشفاعة أو غيرها؟ ، ولكن هذا الملبس قَصْده إيهام السامع أن شيخنا ينكر الشفاعة التي قالها البغوي وأمثاله، وإنما إنكار الشيخ لعبادتهم ودعائهم، وأنهم يُسألون الشفاعة كما تُسأل سائر الملاك أملاكهم. وهذه الآية حجة للشيخ وإخوانه المؤمنين على أن الشفعاء لا يدعون
(1) في (ح) : "تناول") .
(2)
ساقطة من (ح) .
(3)
"إن البغوي فسر قوله) ساقطة من (المطبوعة) .
(4)
في (ق) : "يشاء) .
(5)
في (ق) : "بملك) .
ولا يقصدون ولا يعبدون؟ لأن الله أنكر ذلك على من قصد المسيح وعزيرا لأجله وهيَّأهم له، والتجأ إليهم في تحصيله ونيله (1) . فالآيات القرآنية وكلام المفسرين من أهل العلم حجة لنا، وشاهد للأمر بتجريد التوحيد وإخلاص الدين، والنزاع بيننا ليس في إثبات الشفاعة، وإنما هو في طلبها من الأموات والغائبين، والمعترض ملبس مموه، فنعوذ بالله من التلبيس المفضي بصاحبه إلى مرضاة إبليس. ثم قول المعترض:(فهل ترى صاحب البردة طلب ذلك استقلالا، بل ولم يقصد طلبه في الحال دائما استحضر يوم القيامة) . فجوابه: أن النزاع في نفس الطلب والدعاء لأجل الشفاعة، وأمَّا الاستقلال وعدمه فليس من محل النزاع، ومشركو العرب لا يدَّعون الاستقلال لآلهتهم، ولا يرونه، وإنما أتوا من حيث الوساطة والشفاعة، والشافع ليس بمالك لا حقيقة ولا مجازا، وغاية ماله الجاه والمنزلة، [169] ، وهي المقصودة (2) لجمهور المشركين من اليهود والنصارى وجاهلية العرب. ولا قائل باستقلال أحد من دون الله بشيء (3) إلا الثنوية ومن على طريقتهم ممن يثبت خالقين وربين، وبهذا تعرف أن المعترض من أجلاف الجاهلية لا تمييز عنده بين شرك المشركين وتعطيل المعطلين، ودين أنبياء الله المرسلين، وليس عنده إلا خبط عشواء ومقالة عمياء، وكون صاحب البردة استحضر يوم القيامة، لا يكون عذرا له في دعاء
(1) في (ق) : "مع نيله) .
(2)
في (م) و (ح) : "المقصود) .
(3)
في (ق) و (م) : "بشيء من دون الله".
غير الله؛ بل مستحضر الشدَّة فدعاؤه (1) أبلغ في العبادة والخضوع والخوف والرجاء، والحب. والاعتقاد، وكان المشركون من العرب يتواصون في الشدائد بإخلاص الدعاء، ويرون أنه لا ينجي في الشدَّة إلا الله، كما في قصة عكرمة بن أبي جهل لما فرَّ إلى اليمن، وقد ذكرها العلَاّمة ابن كثير في تفسير سورة المؤمنين (2) .
(1) في (م) : " دعاؤه".
(2)
لم أقف عليها في تفسير سورة المؤمنون عند ابن كثير، وأما القصة فمشهورة في كتب السيرة، وذكرها ابن حجر في ترجمة عكرمة من الإصابة، وابن جرير الطبري في التاريخ (3 / 59) .