الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في الشفاعة وأنها لمن كان من أهل التوحيد]
فصل قال المعترض: (وروى الإمام أحمد بسندٍ صحيح عن ابن عمر وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (1)" «خُيِّرت بين الشفاعة لأمتي وبين أن يدخل شطر أمَّتي الجنة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكفى، ترونها للمؤمنين المتقين؟ لا ولكنها للمذنبين المتلوثين (2) الخطائين» "(3) وهل هذا الحديث إلَاّ يفيد أنه صلى الله عليه وسلم أعطى الشفاعة لقوله: " خيرت فاخترت " وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» "، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن أنس (4) والجواب أن يقال: ساق هذا المعترض ما ساقه من أحاديث الشفاعة، ومراده أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعا ويرجى، وتطلب منه الشفاعة (5) بعد
(1) ساقطة من (ق) و (م) .
(2)
ساقطة من (ق) .
(3)
أخرجه أحمد (2 / 75)، وابن ماجه (4311) . قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (4 / 242) :"وإسناده جيد".
(4)
أخرجه أحمد (3 / 213) ، وأبو داود (4739) ، والترمذي (2435، 2436) ، وابن ماجه (4310) ، والحاكم (1 / 69) .
(5)
في (ق) زيادة: "ومراده".
موته صلى الله عليه وسلم، ويريد أن من منع ذلك فقد أخطأ وضلَّل الأمة، وخطأهم بغير حق، هذا مراده، فسبحان من طبع على قلبه حتى انعكس عليه الأمر، وصار يفهم من النصوص والألفاظ النبوية خلاف ما دلت عليه، فإن من دعا غير الله وأشرك به، وتعلق على الأنبياء والملائكة والصالحين، وجعلهم منتهى طلبه وغاية قصده، أو سوى بينهم وبين الله في خالص حقِّه ليس داخلًا في الحديث، وليس مرادًا به؛ لأن لفظ الأمة في مقام المدح والوعد لا يدخل فيهم أهل الشرك بالله الذين سووا (1) بينه وبين غيره، وعدلوا بربهم، وأنابوا إلى سواه، واعتمدوا على غيره، كحال عبَّاد القبور الذين هم محل النزاع بيننا وبين هؤلاء الضُّلَاّل، وكونه صلى الله عليه وسلم اختار الشفاعة أو أعطى الشفاعة لا يدلُّ على أنه يقصد لها ويدعى لها (2) بعد موته، فإنَّ أصل الشرك هو دعاء الأموات والاستغاثة بهم، وفَرْقٌ بين حال الحياة وحال (3) الممات.
يوضِّح هذا: أنَّ أعلم الخلق به وبدينه وهديه صلى الله عليه وسلم لم يطلب أحد، منهم بعد موت النبي (4) صلى الله عليه وسلم منه شيئًا لا شفاعة ولا غيرها، بل نهوا عن استقبال القبر حال الدعاء، فكيف بدعائه صلى الله عليه وسلم؟ ومنعوا المسلم أن يصلي إلى القبر خشية الفتنة، فأحاطوا قبره الشريف بجدار مثلث لئلا يصل أحد إليه، وسيرتهم في قبور أصحابه وصالحي أمته كذلك ينهون عن الدعاء عندها والصلاة وعن قصدها لشيء من ذلك، وعن رفعها واعتياد المجيء
(1) في (ق) و (م) : "الذي سوَّى".
(2)
ساقطة من (ق) و (م) .
(3)
ساقطة من (ق) و (م) .
(4)
في بقية النسخ: "موته صلى الله عليه وسلم".
إليها بحيث تكون كالعيد الذي يعتاد في وقت معين هذه سيرتهم.
وعُبَّاد القبور ومن نصرهم وحمل لواءهم- كهذا المعترض الضال (1) يحرف أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلحد (2) في معانيها، ويقودها إلى مذهب أهل الشرك والضُّلَاّل، وقد صانها الله عن أن تدل على دعاء غيره (3) وعبادة سواه، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون.
والشفاعة قد صحت أحاديثها وتواترت، ولكنها لا تدل بحمد الله على ما ذهب إليه الغالون المخالفون المبدلون لدين الله، الداعون للأموات والغائبين، السالكون سبيل سلفهم من الجاهلية المشركين من الكتابيين والأميين، فإنهم تعلَّقوا على أندادهم ودعوهم مع الله لأجل الجاه والشفاعة، وأنهم (4) قد أعطوا الشفاعة. كما حكى الله عنهم ذلك (5) بقوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18][يونس / 18] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3][الزمر / 3] .
ولهذا نطق القرآن بإبطال هذه الشفاعة التي ظنها المشركون وتعلقوا بها.
(1) في (ق) و (م) و (ح) زيادة: "وأمثاله".
(2)
في (م) : "ويلحق".
(3)
في (م) : "غير الله".
(4)
في (ق) : "ولأنهم".
(5)
في بقية النسخ: "ذلك عنهم".
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ - قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 43 - 44] الآية [الزمر / 44 ،43] .
وقال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86][الزخرف / 86] .
وأصح الأقوال في هذه الآية: أنَّ الاستثناء يرجع إلى المشفوع فيهم، وأن الشفاعة لا تكون إلَاّ لمن كان من أهل التوحيد، ومن معه أصل الإيمان المنافي للشرك (1) ودعاء غير الله، ويُستدل على هذا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: " «قلت: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلَاّ الله خالصًا من قلبه» ) (2) فدعاء الله وحده وإسلام الوجه (3) له، هو السبب الأعظم في نيل الشفاعة وحصولها، ولو كان المشفوع فيه متلوِّثًا بالذنوب والخطايا، فإنَّ حسنة التوحيد لا يقاومها ما دون الشرك من السيِّئات، وسيِّئة (4) الشرك لا يبقى [معها](5) شيء من الحسنات.
وأمَّا قوله: (وهل هذا الحديث إلَاّ يفيد أنه صلى الله عليه وسلم قد أعطي الشفاعة (6)
(1) في (ق) : "للشركاء".
(2)
تقدم تخريجه، انظر: ص (325) ، هامش 5.
(3)
في (ق) : "الوجوه".
(4)
في (المطبوعة) : "ونجس".
(5)
ما بين المعقوفتين من (م) و (ح) ، وفي (الأصل)، و (ق) و (المطبوعة) :"معه".
(6)
في (م) و (ق) زيادة: "فإن كان مراد هذا المعترض أنه قد أعطى الشفاعة".
وملكها كما يملك سائر الخلق ما أعطوا من النعم الدنيوية والأملاك الآدمية.) .
فهذا من أعظم الجهل وأقبحه، فإنَّ معنى الإعطاء ليس كما يظنه هؤلاء الضُّلَاّل، بل معناه: أنَّ الله سبحانه وتعالى (1) يأذن له في الشفاعة؛ ويعين له من يشفع فيهم؛ ويحد له حدًّا معينًا، هذا ما دلَّت عليه الأحاديث، وهذا مما يدل المؤمن على كمال ربوبية فاطر السماوات والأرض، وأن ما توهَّمه المشركون من الشفاعة لا وجود له، ولا يعلم سبحانه له وجودًا أصلًا، وما لا يعلم تعالى وجوده فهو منتفٍ مستحيل الوجود، وجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل (2) وملك الأرحام وأمثالهم من أكابر رسل الله وأوليائه قد أعطوا ما أعطوا من الأمور المهمَّة والتدابير العظيمة، أفيقال: إنَّ الله ملَّكهم فنسألهم ما ملَّكهم الله، كما هو لازم قول هذا الضال وإخوانه من المشركين؟ وهذا عين الشرك بالله والكفر برسله، وردّ ما جاءوا به من توحيده وعبادته.
والمعترض وإخوانه من أبعد الخلق عن معرفة الله، ومعرفة دينه، وما جاءت به رسله، ولذلك سرى إليهم الشرك وزيَّنه الشيطان، لخلو أذهانهم (3) من معرفة دين الله وشرعه.
أتاني هواها (4) قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
(1) في (ق) و (م) زيادة: "هو الذي".
(2)
في (المطبوعة) : "ملك الموت"، وليس يصح خبر في تسمية (ملك الموت) باسم (عزرائيل) .
(3)
في (المطبوعة) زيادة: "وخراب قلوبهم".
(4)
في (ق) و (م) : "هواهما"، وهو خطأ.