الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في مناقشة ورد دعوى المعترض أنه لا يكفر إلا من عرف وعلم واختار الكفر]
فصل قال المعترض: (وقد قال القرطبي المالكي (1) رحمه الله: "ليس قوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] [الحجرات / 2] بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنًا إلَاّ باختياره الإيمان كذلك لا يكون المؤمن كافرًا من حيث لا يقصد للكفر ولا يختاره بالإجماع". انتهى كلامه.
وهذا معنى ما ذكره مُغْلطاي في كتاب الإيمان من شرح البخاري؛ ولهذا عبارة جميع الفقهاء في باب حكم المرتد يقولون: "وكل مسلم ارتدَّ وهو مكلَّف مختار".
وذكر العلماء من أصحابنا في باب إخراج الزكاة في "زاد المسافر" وشرحه للشيخ منصور: "فإن منعها؛ أي: الزكاة، جحدًا لوجوبها. كفر عارف بالحكم، وكذا جاهل عرف فعلم وأصر". انتهى.
وقد ذكر لي من يُسْتَرشد عمن يدعى من أعيان هؤلاء القوم ممن أتحاشى عن تسميته: أنه خطَّأ الشيخ منصور وصاحب المتن الذي أصله مقنع موفق الدين بن قدامة العمري العدوى القرشي من شجرة مباركة؛ بل هو حامل لواء المذهب، فالحكم لله العليّ الكبير.
(1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن"(16 / 308) .
فالجواب أن يقال: كلما أبدى هذا المعترض حجة من جهلياته وضلالاته، أنسانا ما قبلها من خزعبلاته وخرافاته.
وحاصل دعواه في هذا الفصل: أنه لا يَكْفُر إلَاّ من عرف وعلم، واختار الكفر على الإيمان، ومن دعا الأموات والغائبين وجعلهم وسائط بينه وبين الله في حاجاته وملماته لا يكفر بذلك؛ لأنه لا يعلم أنه كفر ولا يختار الكفر.
فيقال لهذا: قد رجعت عن قولك الأول، فإنك جعلتهم خير أمة أُخرجت للناس ومن أهل العلم والدين، وأن الرسول قد أعطى الشفاعة، وأن من سأله - كالبوصيري - مثاب مصيب، وأن عُبَّاد القبور هم أهل لا إله إلَاّ الله، وأنها تنفعهم وتعصم دماءهم وأموالهم، وإن عبدوا (1) القبور، فكيف ترجع هنا وتحتج بأنهم لا يعلمون؟ .
ثم هو احتجاج فاسد في نفسه، ما عرف مورده (2) معناه، وما أريد منه، فإن المقصود أن يعلم مراد المعلم والمنبِّه والمرشد، ويعرف ذلك، وليس المقصود أن يتبين له الصواب في نفس الأمر، فإن كثيرًا من أهل النار ما عرفوا (3) الحق في الدنيا ولا تبين لهم.
قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103 - 104][الكهف / 104 ،103] .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]
(1) في (ح)"عبد".
(2)
في (ق) : "مورد".
(3)
في (ح) : "عرف".
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 37][الزخرف / 36، 37] .
وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8][فاطر / 8] .
وقال: وَكَذَلِكَ (1){زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] الآية (2)[الأنعام / 108] .
وغير ذلك من الآيات الدالة على أنهم لم يعرفوا الكفر ولم يتصوروه؛ والذين قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111][البقرة / 111] ، لم يعرفوا كفرهم وضلالهم.
وأما كلام القرطبي: فهو في رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو وأمثاله من السيِّئات التي تحبط الأعمال وصاحبها لا يشعر، وأما من أتى بمكفر (3) وقامت الحجة عليه، فلا شك في كفره، وترك الانقياد للحجة والدليل وداعي الحق يقتضي إيثار الكفر واختياره وقصده، لا أنه (4) لا يكون مختارًا قاصدًا إلَاّ إذا علم أنه كفر، وارتكبه مع العلم بأنه كفر، هذا لا تقتضيه عبارة القرطبي ولا تدلّ عليه، ولو دلَّت (5) عليه فلا حجة (6) فيها، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية تدل على أنَّ من قامت عليه الحجَّة حكم عليه بمقتضاها من كفر أو فسق، وفي الحديث: " «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقى لها بالًا لا يظن أن تبلغ
(1) في (الأصل) و (ق) و (المطبوعة) : "كذلك".
(2)
ساقطة من بقية النسخ.
(3)
في (ق) : "بمكر".
(4)
في (ق) و (ح) : "لأنه".
(5)
"ولو دلَّت" ما بين القوسين ساقط من (ق) .
(6)
في (المطبوعة) : "حاجة".
ما بلغت، يكتب الله له بها (رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يلقى لها بالًا ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها)(1) سخطه إلى يوم يلقاه» " (2) وحديث الذين قالوا: "ما رأينا مثل قرائنًا هؤلاء: أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء" (3) نزل فيهم قوله تعالى:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66][التوبة / 66] .
والحجة ليست في كلام القرطبي وإجماع المسلمين، وإنَّما يحتج بالكتاب والسنَّة والِإجماع.
ثم (4) القرطبي قد قال في شرح أسماء الله الحسنى ما لا يستجيزه من عَقَل عن الله وعن رسوله، وعرف ما كان عليه سلف الأمة في ذلك الباب، ولا يَبْعُد أن المعترض حرَّف عبارة القرطبي على عادته في التحريف، وكذلك ما ذكره المعترض عن مُغُلْطاي هو من هذا الباب؛ إن صحَّ نقله.
ثمَّ ما معنى العدول عن كلام الله وكلام رسوله، مع أن هذه المسألة في الكتاب والسنَّة وكلام الأئمة أشهر من أن تذكر، فأي حجة والحالة هذه في كلام آحاد الناس، مع أنه عليه لا له؟ وآفته الفهم السقيم.
وقوله: (عبارة جميع الفقهاء في باب حكم المرتد يقولون: وكل مسلم ارتدَّ، وهو مكلَّف، مختار) .
(1) ما بين القوسين ساقط من (ق) .
(2)
أخرجه أحمد (3 / 469) ، والترمذي (2319) ، وابن ماجه (3969) ، وصحَّحه الألباني في الصحيحة (888) .
(3)
انظر: تفسير الآية 66 من سورة التوبة في تفسير ابن كثير (2 / 351) .
(4)
في (ق) زيادة: "قال".
فمرادهم: أنَّ أفعاله تقع عن (1) اختيار وقصد، لا أنه يختار أن يكفر مع العلم بأن ما فعله كفر، هذا سوء فهم وعدم فقه.
وأمَّا من فعل مكفرًا وهو غير مكلف ولا مختار، كالصغير والمجنون ونحوهما، أو لم تبلغه الحجة الرسالية، فهذا لا يحكم عليه بالردَّة.
ثم لو سلم (2) له هذا الزعم تسليمًا جدليًّا، فشيخنا لا يُكَفِّر إلَاّ بعد التعريف بالحكم الشرعي وقيام الحجة، فكلام المعترض ساقط، هالك (3) على كل تقدير.
وعبارة "زاد المسافر"، هي من هذا الباب:(إذا جحد الوجوب عارف بالحكم، أي حكم الوجوب. يكفر بذلك؛ وكذا (4) الجاهل) يعني بوجوبها إذا بلغه الوجوب وأصرَّ بعده، وليس المقصود أن يعرف أنه كفر، ولم يقصد الشيخ (5) منصور: أن من جحد الوجوب للزكاة أو غيرها من الأركان لا يكفر إلَاّ إذا عَرَف أنه كفر، هذا لا تقتضيه عبارته؛ بل المقصود أن يعرف الوجوب.
وأمَّا ما نقله عن بعض الأعيان أنه خطَّأ الشيخ منصور، وصاحب المتن.
فيقال: قد تقدَّم بيان كذب المعترض في النقل، وقرَّرنا أنه من أهل
(1) في (ح) : "على ".
(2)
في (ح) : "يسلم".
(3)
في (ق) : "لك".
(4)
في بقية النسخ: "وكذلك".
(5)
ساقطة من (ق) و (م) و (ح) .
الوضع والافتراء، فنُقُولُه (1) موقوفة حتى يأتي بشاهدي عدل يشهدان له.
ثم لو خَطَّأ منصورًا (2) أو غيره ممن لم تثبت له العصمة، وهو متأوِّل في ذلك قاصد للحق، ماذا يعاب عليه؟ .
ولعلَّ التخطئة وقعت في مفهوم هذا المعترض وأمثاله من الضُّلَاّل الذين يقولون: (لا بدَّ أن يعلم أنَّ ما فعله كفر وردَّة) ، وهذا لم يقصده منصور، ولو قصده لتوجه منعه.
وأما استعظامه الخطأ على منصور (3) البهوتي وصاحب "المقنع".
فهذا من جهله، فإن الفضل لا يقتضي العصمة ولا يوجبها، قد يقع الخطأ من الفاضل، كما يقع من المفضول، وقد قال مالك بن أنس رحمه الله:"ما منا إلَاّ راد ومردود عليه، إلاِّ صاحب هذا القبر"، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زال العلماء ينتقد بعضهم على بعض؛ وينكرون الخطأ على قائله كائنًا من كان، وهذا واضح بحمد الله.
ولازم هذا القول عيب أهل العلم برد ما خالف الدليل من أقوال أهل الفضل والعلم، ففي الحقيقة هذا المعترض هو الذي طعن على أهل العلم من عهد النبوَّة إلى عصرنا هذا، ولكنه لا يشعر ولا يدري ما تضمنه كلامه الغث.
(1) في (ق) : "فنقول له ".
(2)
في (ح) : "أخطأ منصور".
(3)
في (ق) و (م) : "الإنكار على منصور" وفي (المطبوعة) : "الخطأ على الشيخ منصور".