الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاختراع يناسب وصفه عز وجل بالقدرة كما أن التعذيب والغفران فى الثانية يناسبها ذكر المآل فجاء على ما يناسب.
الآية العاشرة
قوله عز وجل: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يأت أحدا من العالمين
"
وفى سورة إبراهيم: "وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنائكم ويستحيون نسائكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم " فافتتح قول موسى لقومه فى سورة المائدة بندائهم ولم يقع نداؤهم فى سورة إبراهيم فيسأل عن الموجب لذلك وعن وجه الفرق؟
والجواب عن ذلك: أنه لما اعتمد فى آية المائدة تذكيرهم بضروب من الآلاء والنعم الجسام من جعل الأنبياء فيهم وجعلهم ملوكا وإعطائهم ما لم يعط غيرهم كا ذلك تعريفا باعتنائه سبحانه بهم وتفضيلهم على من عاصرهم وتقدمه من أمم الأنبياء قبلهم فناسب ذلك نداء موسى عليه السلام بقوله "يا قوم " بالاضافة إلى ضميره إنباء بالقرب والمزية وناسب هذا النداء المنبئ بالاعتناء ما تقدم من تخصيصهم بما عقب به النادء من التشريف بما منحهم من الآلاء والنعم الجسام ولما قصد فى آية سورة إبراهيم تذكيرهم بنجاتهم من آل فرعون وما كان يسومهم به من ذبح ذكور أبنائهم واستحياء نسائهم للمهنة ولم يذكر هنا شئ مما فى آية المائدة لما اقتصر عليه هنا من التذكير بمجرد الإنجباء فناسب ذلك الاقتصار على خطابهم دون النداء رعيا للمناسبة والله أعلم.
الآية الحادية عشرة:
قوله تعالى: "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ قدير " وفى سورة الفتح: "ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما " فقدم فى المائدة ذكر التعذيب وآخرفى سورة الفتح وأعقبت الأولى بقوله: "والله على كل شئ قدير " والثانية بقوله: "وكان الله غفورا رحيما " فهذان سؤالان.
والجواب عن الأول: أنه لما تقدم آية المائدة قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا
…
الآية " وقوله: "والسارق والسارقة
…
الآية " وقد وقع فى الآيتين ذكر تنكيل الطائفتين ممن حارب أو سرق مقدما فقيل فى الطائفة الأولى: "أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو
ينفوا من الأرض " فهذا ما يعجل لهم فى الدنيا ثم أعلم تعالى بوعيدهم الأخراوى وجزائهم إن هم وافوا على فعلهم هذا مستحلين ذلك المرتكب أو غير مستحلين إن أنفذ الوعيد عليهم وأعقب تعالى بذكر إقالتهم إن تابوا قبل أن يقدر عليهم بما أعطاه الاشتثناء وأشار إليه قوله تعالى: "فاعلموا أن الله غفور رحيم " وقيل فى الطائفة الثانية: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ثم قال: "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح " إذ أشار إلى من أقلع منهم تائبا وأصلح فإن الله يتوب عليه فقد تقدم فى هاتين القصتين ذكر الامتحان قبل ما به رجاء الغفران وهذا فى مآلهم الفدنياوى، ثم أعقب الآية التى أعلم فيها بانفراده بملك السماوات والأرض وأنه تعالى يعذب من يشاء فقد ذكر العذاب على المغفرة تنظيرا لما تقدم ومقابلة تطابق إذ كل ذلك بقره تعالى وسابق مشيئته فهذا وجه التقديم فى آية المائدة.
وأما آية الفتح فقد تقدمها قوله تعالى: "ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا " وبالايمان رجاء الغفران وهو متشبث به كما أن العذاب مرتبط بالكفر ومناط به، فتقدم فى ذهه الآية مثمر الغفران وهو الإيمان وتأخر موجب التعذيب من الكفر والخذلان، ثم أعقب تعالى بقوله:"ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " فناسب بين الآيتين بالتناظر فى الجزاءين من المغفرة لمن أناب والتعذيب لمن كفر وارتاب وبحسب مشيئته سبحانه وما قدر لكل من الفرقين أولا.
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ثم قال بعد: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " ثم قال بعد: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون "،
فللسائل أن يسأل عن موجب افتراق هذه الأوصاف الوعيدية بوسم من وصف بها بما يستلزم العقاب الأخراوى من الكفر والظلم والفسق إن لم يكن إقلاع وغفران؟ ولم اختلفت مع وحدة الموصوفين بها؟ وكيف ورد فيها الأخف بعد الأثقل؟ وذلك ضد الترقى فى مقابل الوعيد الذى تشير إليه الصفات وهو الوعد.
وطريقته الترقى من حال إلى أعلى وعلى ذلك وردت آى الكتاب كقوله تعالى: "وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات
…
الآية " فبشروا أولا بالجنات ثم وصف بجرى أنهارها وبذلك حياتها ثم بموالاة رزقها وتشابهه لتأنس النفوس
بما ألقت لأن غير المألوف من المطعم ينافره الطبع ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فى الضب حين قرب إليه فرده "لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه " ثم أتبع ذكر الرزق المأكول بالأزواج المطهرة فازداد النعيم واتسع الميلاذ ثم أعقب بالخلود وذلك كمال النعيم وقال تعالى: "يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم " فتأمل ورود الغفران بعد إصلاح الأعمال وكلاهما جزاء على ما منحوه من التقوى وسداد الأقوال وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم " وقال تعالى: "وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من الله أكبر " وقال تعالى: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه "، فتأمل ختام الجزاء المذكور فى آية الحديد بالغفران وعظيم ما يثمره والترقى من ذكر ما تقدمه إليه وختام هاتين الآيتين بعد الرضى وهو أعظم ما يعطاه أهل الجنة والحديث الصحيح فى ذلك مشهور ومفهوم الرضى لو لم يرد الحديث أعظم نعمة والترقى فى هذه الآى بين ولم ينكسر هذا المطرد فى آى الوعد على تكررها وعلى ذلك جرت آيات الوعيد، وإلى الوعيد مرجع آى المائدة المتكلم فيها لما ذكرنا من السببيه ومقابل الوعيد الوعد وقد اطرد ذلك فيه فى كل آي القرآن وكذلك فى الآى الوعيدية.
ومن أبين الوارد فى ذلك وأقربه شبها بآى المائدة قوله تعالى: "كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق .. الآيات " إلى قوله: "وما لهم من ناصرين " فقد وقع فى هذه الآى ثلاثة أصناف اجتمعوا فى الكفر بعد الإيمان ثم اختلف حكمهم فيما بعد وقد تحصل فى وعيدهم الانتقال من أخف إلى أثقل فقال تعالى: "كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم " إلى قوله: "وأولئك هم الضالون " فهؤلاء مع وعيدهم وما ذكر من لعنهم قد أعقب ذلك بقوله تعالى: "إلا الذين تابوا " فهذا إبقاء خفت به حالهم عت المذكورين بعدهم وكذا ورد فى سبب هذه الآية أن الذى نزلت بسببه كتب بها إلى مكة بعد سؤاله هل له من توبة حين كفر بعد إسلامه ولحق بمكة فلما وفد عليها راجع الإسلام وحسنت توبته ثم قال تعالى: "إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا " فذكر هؤلاء بازدياد الكفر بعد الكفر المعقب به ايمانهم ثم أعقب ذلك
بقوله: "لن تقبل توبتهم " فأبقى الله تعالى على الأولين حين قال: "إلا الذين تابوا " واشتد حال المذكورين بعدهم حين قيل فيهم: "لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " ثم قال تعالى: "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار " فأعلم من حال هؤلاء بموتهم على الكفر فانقطع رجاؤهم وهؤلاء أشد حالا ممن ذكر قبلهم فى الآية المذكورة ونص فى هذه الأخيرة فكانت أشد، فقد وضح فى هذه الآيات الانتقال من أخف إلى أثقل وهو مطرد فى الوعد والوعيد واللطف والتعريف بالامتنان والأحوال وما يرجع إلى ذلك وعلى هذا كلام العرب فى هذه الضرورة التى أشرنا إليها.
ومن آى الامتنان قوله تعالى: "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم " وفى هذه الآية الترقى وهى من قبيل ما ذكر وإنما يرد عكس الترقى فيذكر الأخف بعد الأثقل فى التكاليف والأوامر والنواهى وما يرجع إلى ذلك ومنه قوله تعالى: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين
…
الآيات " فهذا الضرب وما يرد منه ويرجع إليه لا يشترك فيه ما قدم من الترقى والانتقال من أخف إلى أثقل ومن حكم إلى ما هو أعلى منه، أما الوعد والوعيد فالمطرد فيهما وفى الضروب المذكورة معهما ما بيناه من الترقى وهو كلام العرب.
فللقائل أن يقول إذا ثبت ذلك فما جوابكم عما ورد فى آية المائدة وظاهره على خلاف ما زعمتم إطراده؟ فأقول: أما القول بخروج آية المائدة عما اطرد فى نظائرها وأنها مما ورد فيه الأخف بعد الأثقل فمرتكب لا يسلم لقائله وغفلة عما عليه آى القرآن وكلام العرب وإن كان قد اعتمده بعض الجلة رحمهم الله والجواب عنه جواب عن السؤال الأول.
وحاصل كلام من أشرنا إليه سؤالا وجوابا أن قال: إن قيل لم قال فى الأولى "هم الكافرون " وفى الثانية "هم الظالمون " والكفر أعظم من الظلم فما الفائدة فى ذكر الأخف بعد الأثقل؟ ثم جاوب بما معناه أنه لما تقدم الآية الأولى قوله تعالى: "فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا " وان ارتكاب شئ مما نهوا عنه وعدم خشيته تعالى تقصير فيما يجب له سبحانه وجحد الواجب له وإنكار نعمه تعالى كفر فأعقب بقوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ".
ولما تقدم الآية الثانية قوله تعالى: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس
…
الآية "
فلم تتضمن هذه الآية غير الحقوق المتعلقة بالنفوس والوقوع فى شئ من ذلك يوجب إيلامها ودوام عقابها وذلك ظلم لها فأعقبت هذه بقوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " انتهى معنى كلامه وفيه ببادئ النظر مناسبة وملاءمة فى النظم.
إلا أن ما تمهد من المطرد فى آى القرآن وما عليه كلام العرب فى الوعد والوعيد يرد ما اعتمده هذا القائل وقد تقدم فى قوله تعالى فى سورة البقرة: "وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية
…
الآية " ما فيه شفاء فيما ذكرته هنا.
ثم إن الكلام لو كان جاريا على ما قال لبنى عليه اعتراض يلزمه تكميلا لما ألزم نفسه فى هذه الآى من توجيه الوارد فيها من الأوصاف الثلاثة وهو قصره السؤال والجواب على الوصفين من الكفر والظلم وكأن قوله تعالى فى الآية الثالثة بعد: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " غير مناط بما قبله وليس الأمر كذلك فإن المذكورين فى الآى الثلاث قد اجتمعوا فى الحكم بغير ما أنزل الله وقد شملهم ذلك فهم من حيث ذلك صنف واحد ومدار الآى الثلاث إنما هو على فعل يهود المنصوص على حكمهم بغير ما أنزل الله ومخالفتهم منصوص كتابهم فى الرجم وغيره، وما قبل هذه الآى وما بعدها لم يخرج عنهم، فهم أهل الأوصاف الثلاثة وقد نقل المفسرون عن ابن عباس أنه قال: الكافرون والفاسقون والظالمون أهل الكتاب وعن ابن مسعود: هو عام فى اليهود وغيرهم وقال الزمخشرى مشيرا إلى وجه الترتيب فى هذه الأوصاف والمرادون بها فقال: الكافرون والفاسقون والظالمون وصف لهم بالعتو فى كفرهم حين ظلموا بالاستهانة وتمردوا بأن حكمهم بغير ما أنزل الله فجعل الظلم استهانة والفسق تمردا، وقد فسر الفاسقين من قوله تعالى فى آية البقرة: وما يكفر بها إلا الفاسقون بأنهم المتمردون من الكفرة، قلت: جعل الزمخشرى الاستهانة مسيرة ظلمهم ومادته فظلمهم المسبب عنها
بعد حصول كفرهم أشد من الكفر، ثم إن التمرد المعبر عنه فى الآية بالفسق وإن تقدمته الاستهانة وكانت كالمادة فإنه أشد من الاستهانة لأن التمرد تفعل من مرد أى عتا، والتفعل ينبنى علي التعمد والتعمل فتأمل حصول الترقى فى كلامه من أخف إلى أثقل وانسحاب كلامه على الأوصاف الثلاثة من الكفر والظلم والفسق وإن لم يفصح بسؤال ولا جواب وكثيرا ما يعتمده وينقل كلامه من قدمنا مأخذه فى هذه الآى وهو أبو الفضل بن الخطيب ثم أنه عدل عن اعتبار كلامه هنا وارتكب خلافه ولم يستوف توجيه الأوصاف الثلاثة وقصر السؤال على فصل ما بين الكفر والظلم دون الفسق، وأرى ذلك غير ما ينبغى والله أعلم.
وقد تعرض صاحب كتاب الدرة لهذه الآى من حيث خصوص مقصده وبنى جوابه على ذلك فانفصل فى الأوليين بأن الظلم فى الآية الثانية واقع على الكفر والظلم فهو أشد من الكفر مجردا هذا معنى ما أراد وقد جرى فيه على المعرض من الترقى إلا أنه لم يتخلص ما بعد ذلك وجعل الآية الثالثة منقطعة عن الآيتين قبلها وحاصل كلامه بالجملة أن ما تقدم من الوصف بالكفر والظلم خاص بيهود لتقدم ذكرهم قبل هذه الآيات وقوله تعالى: "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ..
"إلى قوله نهيا لهم "فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا ..
"إلى قوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ولم يتقدم ذكرهم بغير كفرهم وتحريفهم من غير التفات إلى ذكر ظلمهم غيرهم إنما مجرد كفرهم ظلم لأنفسهم فأعقب هذا بقوله "هم الكافرون ".
ثم لما اجتمع فى الآية الثانية ظلمهم لأنفسهم ولغيرهم بما ذكر من مخالفتهم فى القصاص المشار إليه بقوله: "وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس "الى آخره، أعقب هذا بقوله تعالى:"فأولئك هم الظالمون " لظلمهم أنفسهم بالكفر وزيادة ظلمهم غيرهم فكان أشد من وصف الكفر إذ هو كفر وزيادة فعبر بالوصف العام للكفر وغيره ثم لما أعقب بذكر إنزال الإنجيل وكان الكلام انقطع عما قبله ومن المعلوم أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون من غير الكافر وان لم تبلغ منزلته الكفر فهو فاسق لا كافر فقيل هنا: "فأولئك هم الفاسقون " انتهى معنى كلامه ثم أعقب هذا بأن قال: فقد بان لك أن كل موضع من الآى الثلاث أخبر فيه عن المذكورين قبل بالكفر والظلم والفسق، ولم يحصل غير ذلك.
قلت فقد حصل من كلامه أن الكفر والظلم لفى الآيتين خاص بيهود وهم المقصودون بذلك وان الفسق يعمهم مع غيرهم وهو مأخذ بناه على ما حكاه من غيره من أن "من " فى ثلاث الآى موصولة بمعنى الذى واعتمده هو فى الأوليين واخنار فى الثالثة من شرطية ليحصل فى الموصولة خصوص وعهد فيمن تقدم وليحصل فى الشرطية عموم كما تقدم ثم أنه لم يتعرض لبيان ترق ولا انتقال.
فإن قيل إنما بنى عليه كتابه على مقصد خاص وهو فرق ما بين المتشابهات من الآى ونص السؤال الذى فرض إن قال: لسائل أن يسأل فيقول: الموضع الذى وصف فيه من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر هل باين الموضوع الذى وصف فيه تارك ذلك بالظلم والفسق؟ ثم أجاب بما تقدم فجوابه مطابق لما فرض من السؤال قلت هذا صحيح
ولكنه لم يتخلص له جوابه فيما بين الآيتين الا باعتماد طريقة الترقى وهو لم يقصده بسؤال ولا جواب وإنما قصد الفرق الموجب لاختلاف الوصفين فتحصل له بما فى الآيتين من الانتقال فلو اعتبر ذلك ومشى عليه فى الآية الثالثة لكان أنسب وأبين فى جواب ما فرض من السؤال مع زيادة فائدة أهم وأكبر ولما لم يلح ذلك ارتكب التفصيل فى الجواب فجعل "من " فى الآيتين الأوليين موصولة ليحصل من خصوص هاتين الآيتين بيهود ما اعتمده كما تقدم من كلامه وجعلها فى الآية الثالثة شرطية ليحصل له ما قصد من العموم، وليس ذلك كما ذهب إليه ولا انفصلت منها آية أخرى الا بما أعقبت به من الوصف وتوجيهه حاصل منه ما أراده على ما نبينه مع رعى الترقى الثابت على ما قد تقدم وهو أوضح فى توجيهه هذه الأوصاف وأولى فى الجواب عن عين ما فرض صاحب كتاب الدرة من السؤال ووصف يهود بالفسق أعظم من وصفهم بالظلم ووصفهم بالظلم أعظلم من وصفهم بالكفر وقد نقل المفسرون عن الحسن أنه قال: إذا استعمل فى نوع من المعاصى يعنى الفسق وقع على أعظم ذلك لنوع من كفر وغيره ثم فى آى سورة البقرة ما يبين وجه ختم آية المائدة بوصف الفسق قال تعالى: "ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات
…
الآيات " إلى قوله: "وما يكفر بها إلا الفاسقون " فتأمل ما تضمنت هذه الآيات فقد ورد فيها بضع عشرة خصلة من شنيع مرتكبهم منها اتباع ما هوته أنفسهم أشار إليه قوله تعالى: "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم " ومنها استكبارهم وتكذيبهم الرسل وقتلهم إياهم وقولهم: قلوبنا غلف، إلى ما
بعد من المرتكبات وقد وقع فى أول هذه الآى ذكر عيسى عليه السلام والتقفية من بعده بالرسل وفى آيات المائدة قوله تعالى: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم " والضمير فى "آثارهم " لمن تقدم فى قوله تعالى: "يحكم بها النبيون الذين أسلموا " فورد مفصلا فى آى البقرة ما ورد مجملا فى المائدة وختمت آيات البقرة بقوله تعالى: "وما يكفر بها إلا الفاسقون " وآيات المائدة بقوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " فإلى مجموع ما فى آيات البقرة أشارت آية المائدة وختمت هذه من وصفهم بالفسق بما ختمت تلك وحصل من وصفهم به أنه أعظم من وصفهم بالكفر والظلم لأنه كفر جامع لكل شنيع من مرتكباتهم ولذلك اختير التعبير به عن مرتكب إبليس فى إبايته عن السجود واستكباره فقيل: "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " فلم تقع هنا عبارة
بكفره ولا ظلمه لأن الفسق بما يعتضد به من القرائن أعظم من الكفر والظلم، وقد حصل الجواب عما فرض السؤال عنه من تقدم وزاد إلى ذلك بيان الترقى المطرد وهو السؤال الأول وأما التفصيل فخطأ بين فأقول وأسأل الله توفيقه إن المفسرين قد أجمعوا على أن الوعد فى هذه الآى يتناول يهود وقد ثبت فى الصحيح إنكارهم الرجم مع ثبوته فى التوراة وفعلهم فيما نعى الله تعالى عليهم من مخالفة ما عهد إليهم فيه ونص فى كتابهم حسب ما أشار إليه قوله تعالى:"وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم " إلى قوله: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " إلى ما بعده وهذا كله من حكمهم بغير ما أنزل الله فهم الكافرون والظالمون والفاسقون ففيهم وبسبب مرتكبهم نزلت آيات المائدة ثم تقول مع ذلك أن الحكم إذا نزل بسبب خاص يمنع ذلك من دعوى العموم المنزل وهذا باتفاق من حذاق الأصوليين وقد رددوا التمثيل بشاة ميمونة وهذا مع عدم الفرائن.
أما فيما نحن بسبيله فى آيات المائدة فقد عضد العموم فى ذلك وغيرها موضع من الكتاب والسنة فنقول بناء على ذكرنا أن هذه الآية وان نزلت بسبب جعل اليهود ومرتكبهم فى الرجم وغيره فإن ذلك عام فى كل من حكم بغير ما أنزل إليه، ما لم يفعل ذلك جاهلا غير متعمد للمعصية أو عاصيا متعمدا مع صحة اعتقاده وسلامة إقراره بلسانه، فقد حصت الشريعة هذين.
وقد تعلقت الخوارج بعموم هذه الآى وأشباهها فى تكفيرهم مرتكب الكبيرة وليس شئ من ذلك نصا فى مطلوبهم وهو محجوبون بغيرها وإذا كانت هذه الآى على عمومها فيمن بينا، فمن فى المواضع الثلاثة شرطية وهى من المتفق عليه فى ألفاظ العموم عند أربابه وهم الجمهور وأما القول بتفصيل حكم "من " فى هذه الآى وانها من اجتماع المذكورين فى الآيات فيما تقدم من حكمهم بغير ما أنزل الله ووحدة السبب فى نزول الآيات فلا يصح بوجه فقصر السؤال على فصل ما بين الكفر والظلم دون الفسق كما ذكرنا عمن تعرض لهذه الآية من الجلة وجعله الآيتين الأوليين مما ورد فيه الانتقال من الأثقل إلى الأخف غير صواب والله أعلم.
واطراد ما تقدم من الترقى والانتقال فى الوعد والوعيد وتحكيم ما تقرر من ذلك هو الحق الذى لا ينبغى أن يعدل عنه ثم أقول وأسأل الله التوفيق إن هذه الآى جارية على المطرد فى الوعد والوعيد والانتقال فى الوصف بالكفر والظلم والفسق من أخف إلى
أثقل جار على ما قد تبين بحول الله إنما يدخل الغلط من أخذ هذه الصفات مجردة عن القرائن وما يثمره الاشتراك فالكفر إذا ورد مجردا عن القرائن إنما يقع على الكفر فى الدين ثم إنه قد يقع على كفر النعمة ويفتقر إلى قرينة ومنه: "وفعل فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين ".
وأما الظلم فلفظ مشترك فإذا ورد مجردا عن القرائن لم نصا فى شئ من مواقعه، وإنما يتخلص بالقرائن، قال تعالى:"إن الشرك لظلم عظيم " وقال تعالى مخبرا عن نبيه يونس عليه السلام: "سبحانك إنى كنت من الظالمين " ومعاذ الله من الكبيرة فكيف بالشرك الذى لا فلاح معه ولم يخالف أحد من أهل السنة ممن يعتمد نظره انهم معصومون من الكفر قبل الوحى وبعده وجمهورهم متفقون انهم معصومون من الكبائر، وجلة أهل السنة على عصمتهم مما فيه دناءة من الصغائر وبعضهم فى طائفة كبيرة من سيئة المتصوفه يقولون بعصمتهم من الصغائر على الإطلاق وكل هذه الضروب يصح وقوع اسم الظلم عليه وقوله تعالى:"إن الله لا يظلم مثقال ذرة " أوضح شهادة على ذلك.
أما الكفر فلا تنتشر مواقعه وكأم دلالته على كفر النعمة من قبيل ما يدل بتشكيك كدلالة موجود على العرض وأما الظلم فعلى ما تقدم فإذا اقترن بالظلم الكفر كان أعظم من الكفر.
قال المفسرون فى قوله تعالى: "وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " إنهم المتوغلون فى الظلم المكابرون فهذا كفر وزيادة وقد تقدم تسمية الشرك ظلما وأما الفسق فلم يرد فى القرآن واقعا على صغيرة وقد يقع على الكبيرة حيث يقصد تعظيمها كقوله تعالى: "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء "الآيى وقد ختمت بوصفهم بالفسق ولا أذكر غيرها وقد عد عليه السلام هذه فى السبع الموبقات وإنما يقع فى الأكثر على الكفر كقوله تعالى: "أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا " لأن المراد هنا الطرفان كقوله تعالى: "فمنكم كافر ومنكم مؤمن " وأكثر وقوعه فى القرآن إنما هو فى وصف يهود والمنافقين كقوله تعالى: "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون "، نزلت فى ابن صوريا لعنه الله، وكقوله تعالى:"منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون "، وكقوله تعالى:"فلا تأس على القوم الفاسقين "، وكقوله