المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النساء الآية الأولى منها: قوله تعالى: "يا أيها اللناس اتقوا - ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل - جـ ١

[ابن الزبير الغرناطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌سورة أم القرآن

- ‌سورة البقرة

- ‌الآية التاسعة:

- ‌الآية الحادية عشرة

- ‌الآية الثانية عشرة:

- ‌الآية الثالثة عشرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم

- ‌قوله عز وجل: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يأت أحدا من العالمين

- ‌الآية الثالثة عشرة: وهى تمام ما قبلها:قوله تعالى: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم

- ‌قوله تعالى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم

- ‌سورة الأنعام

- ‌قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون

- ‌الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "إن هو إلا ذكرى للعالمين

- ‌الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة

- ‌الآية الموفية عشرينقوله تعالى: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل

- ‌قوله تعالى: "ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون

- ‌الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى: "كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون

- ‌الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى: "ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون

- ‌الآية السادسة والعشرون قوله تعالى: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا كذلك كذب الذين من قبلهم

- ‌الآية التاسعة والعشرون: قوله تعالى: "وأنا أول المسلمين "، وفى سورة الأعراف: "وأنا أول المؤمنين "، يسأل عن الفرق

- ‌سورة الأعراف

- ‌الآية الرابعة من سورة الأعرافقوله جل وتعالى: " وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ

- ‌الآية الخامسة قوله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون

- ‌الآية الحادية عشرة من سورة الأعرافقوله تعالى فى قصة صالح: " قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

- ‌الآية الرابعة عشرة من سورة الأعرافقوله تعالى: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ

- ‌الآية السادسة عشرة قوله تعالى: " تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ

- ‌الآية السابعة عشرة قوله تعالى: " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون

- ‌الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى: " قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌الآية الثالثة قوله تعالى: " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

- ‌سورة يونس

الفصل: ‌ ‌سورة النساء الآية الأولى منها: قوله تعالى: "يا أيها اللناس اتقوا

‌سورة النساء

الآية الأولى منها: قوله تعالى: "يا أيها اللناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " وفى سورة الأعراف: "هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها " وفى سورة الزمر: "خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها " فيها ثلاث سؤالات،

أحدها: الفرق بين الخلق والجعل، والثانى: وجه تخصيص الأخيرتين بجعل والأولى بخلق، والثالث: وجه ورود ثم فى آية الزمر عوضا عن الواو.

والجواب عن الأول أن العبارة بخلق واردة على ما ينبغى وطابقة للمعنى المقصود وهو المراد بجعل إلا أن جعل ثانية عنها لتوقف الجعل على ما يتقدمه لأن العبارة بخلق تكون عند المتسرعين عن عدم سابق حيث لا تتقدم مادة ولا سبب محسوس واستيفاء الكلام هنا وتحرير التمثيل يطول وله مظان.

وأما الجعل فيتوقف على موجود مغاير للمجعول يكون منه المجعول أو عنه كالمادة والسبب، ولا يرد فى الكتاب العزيز لفظ جعل فى الأكثر مرادا به الخلق إلا حيث يكون فيله ما يكون عنه الجعل أو منه سببا فيه محسوسا عنه يكون ذلك المخلوق الثانى، بخلاف خلق فإن العبارة تقع كثيرا به عما لم يتقدم وجوده وجود مغاير يكون عنه الثانى، وقل ما تقع واحدة من العبارتين فى القرآن على خلاف ما ذكرناه، قال تعالى:"الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ".

وإنما الظلمات والنور عن أجرام توجد بوجودها وتعدم بعدمها

أما السماوات والأرض فليست كذلك أعنى أنها لا ترتبط بموجود حادث توجد بوجوده وتعدم بعدمه وإن قلنا بتقدم مادة حسبما ورد فى القرآن فى قوله تعالى: "ثم استوى إلى السماء وهى دخان " فى الخبر المذكور فى خلقها وقال تعالى: "وهو الذى مد الأرض وجعل فيها رواسى وأنهارا "، وقال تعالى:"وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون "، وفى هذه الآية والمتصلة بها قبلها شوب تصيير لتقارب المعنى فى التصيير وما يكون عن المادة فقد لاح الفرق بين خلق وجعل ووجه تخصيص كل آية مما تقدم بالوارد فيها.

وأما ورود جعل فى آية الأعراف فى قوله تعالى:

ص: 97

"وجعل منها زوجها " فلما قصد هنا من معنى السكن وكأنه أريد نفى المغايرة تقريبا وتأنيسا لحصول الركون والسكن الذى جعله الله من آياته ونعمه لتستحكم سببية التناسل والتكثير فكانت جعل أوقع فى هذا الغرض ثم إن الخبر وارد بخلق حواء من ضلع آدم فهذا نحو من المتقدم فى سورة الأنعام وعبر فى سورة النساء بخلق لمقصود الآية من التعريف بالأولية والابتداء

ولمناسبة ما اتصل بها من قوله "خلقكم " حتى يوافقه من اللفظ ما قصد من المعنى.

وأما الجواب عن السؤال الثالث وهو زيادة "ثم " فى سورة الزمر فلما قصد من الامتنان والإنعام على الجنس الآدمى ولتفاوت ما بين الآيتين العجيبتين من خلق الصنف الإنسانى من شخص واحد وخلق زوجه فجئ بثم المنبهة على معنى الاعتناء بذكر ما عطف بها والتأكيد لشأنه للمزية على المعطوف عليه القائمة مقام التراخى فى الزمان.

قال الزمخشرى: فإن قلت ما معنى قوله "ثم جعل منها زوجها " وما تعطيه من معنى التراخى؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التى عددها دالا على وحدانيته وقدرته وهما تشعب هذا الخلق الفائت للحصر وانتشاره من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة والأخرى لم يجر بها العادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل فكانت أدخل فى كونها آية وأجلب لعجب السامع فعطفها بثم على الآية الأولى للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهو من التراخى فى الحال والمنزلة لا من التراخى فى الوجود.

قلت وعلى هذا المأخذ يسقط الاعتراض بأن ثم قد تجرى مجرى الواو فلا تقتضى الترتيب الزمانى لزوما أما إذا قلنا إنها ترد لقصد التفاوت والتراخى الزمانى لزوما ولا تحتاج إلى انفصال عن ذلك الاعتراض ولا أن تقول: إن ثم قد تكون بمعنى الواو قلت ومن ورود ثم لما ذكرنا من تراخى الرتبة قوله جل وتعالى: "وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " قال الزمخشرى: ومنه قوله تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ".

وكلمة التراخى دلت على ثبات المنزلتين دلالتهما على تباين المرتبتين فى جاءنى زيد ثم عمرو؟ أعنى أن منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه لأنها أعلى منها وأفضل ومنه قوله تعالى: "إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر "، قال الزمخشرى:

إن قلت ما معنى ثم الداخلة فى تكرير الدعاء قلت: الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ونحوه قوله:

ص: 98

ألا ياسلمى ثم اسلمى ثمت اسلمى

أنشده النحويون على إلحاق تاء التأنيث بثم وأنشده الزمخشرى ومثل ذلك: "ثم كان من الذين آمنوا " قال: جاء بثم لتراخى الإيمان وتباعده فى الرتبة والفضيلة عن العتق والصدق لا فى الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به.

فثم حيث لا يقصد مهلة الزمان تحرز تنبيها على حال ما يعطف بها ومحله والإشارة إلى أنه بحيث أنه لو لم يذكر ما قبله لكان كافيا فى المقصود هذا ما تحصله حيث لا يقصد مهلى الزمان فلما قصد فى آية الزمر الإنعام والامتنان وتعداد ذلك تعظيما وتفخيما ورد بثم، فقال تعالى:"خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزاوج ".

فإن قلت: فقد كان الوجه على هذا أن لو قيل: ثم أنزل لكم من الأنعام قلت: هذه نعمة لا تفتقر لبيان أمرها إلى التنبيه بثم وليست موضع تغفل أو تخف وإنما موضع ثم حيث يراد الاعتناء والتنبيه على قدر المعطوف بها لاحتمال أن يخفى فإذا كان غير خاف وبين الاستقلال بنفسه لم يفتقر إلى هذا ومن حيث قصد معنى الامتنان كانت "جعل " أولى لما تقدم من معناها، فقد وضح ورود كل آية من الثلاث على ما يناسب المقصود من كل واحدة.

الآية الثانية: قوله تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما وازقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا " وفى آية أخرى بعد: "وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزوقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ".

للسائل أن يسأل عن زيادة "واكسوهم " فى الأولى وسقوطها فى الثانية.

والجواب: ان قوله تعالى "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " إنما المراد به السفيه المتصير إليه المال بإرث ولا يحسن القيام عليه فيحجر عليه ماله إبقاء عليه ولا يمكن منه الا بقدر ما يأكله ويلبسه، فالنهى إنما هو للأوصياء ونسبة المال إليهم مجازا بما لهم فيه من التصرف والنظر، أما الآية الأخرى فليست فى شأن أحوال السفهاء وحكمها، وانما المراد بها المقتسمون لميراث يخصهم لا حق فيه لغيرهم فيحضرهم قريب فقير ويتيم محتاج ومسكين فندبوا إلى التصدق عليهم والإحسان، لا لحق هؤلاء فى المال فمن أين تلزم كسوتهم والتنصيص عليها؟ إنما ندبوا إلى الإحسان إليهم بالعفو مما يخف عليهم وسع ذلك كسوتهم أو لم يسع.

فافترق مقصد الآيتين وجاء كل على ما يناسب.

ص: 99

الآية الثالثة:

قوله تعالى: "ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم " وفى سورة المائدة: قوله تعالى: "فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين " وفى آخر هذه السورة قوله تعالى: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنهم ذلك الفوز العظيم " وفى سورة براءة: "لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم "، وفى آية منها فيما بعد قوله تعالى:"والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم " وفى سورة إبراهيم: "وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم "، وفى سورة الكهف: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب

الآية " وفى سورة الحديد: "بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم " وفى سورة المجادلة: "أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " وفى سورة الصف: "يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ومساكن طيبة فى جنات عدن " وفى سورة الطلاق: "ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا

قد أحسن الله له رزقا " وفى سورة البروج: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير " وفى سورة البريئة [البينة]: "جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ".

فهذه ثلاث عشرة آية يجمعها التعريف بالجزاء الأخراوى للمؤمنين والإشارة إلى حال الجزاء ووصفه وقد عرض فيها مما يسأل عنه مما اتفقت فيه أو اختلفت وانفرد به بعضها دون بعض ست سؤالات.

ص: 100

الأول: وهو اتفاق أكثرها فى ذكر الخلود وقد كثر اختلافهما فيما سوى ذلك.

والجواب عنه: أن وجه اتفاق أكثرها على ما ذكر أن كل نعيم ينقطع فليس بنعيم فى الحقيقة وكذلك العذاب وهذا واضح فلولا الخلود لما كان نعيما فلهذا كثر ترداده مع ضروب الجزاء.

والسؤال الثانى: ما وجه اجتماع الرضا والتأييد فى الآية الثانية من المائدة وثانية براءة وآية البريئة ولم يجمع بينهما فى البواقى؟

ووجه ذلك والله أعلم أن هذه الآيات على ما يذكر:

أما آية المائدة فقد قال تعالى فيها: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم "، وورد التصديق لعيسى عليه السلام فوسمهم فيها بالصدق وهو أسنى حالات الإيمان وقد قال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "، فالصدق حال الأنبياء والرسل وأولى السوابق.

وأما الآية الثانية من سورة براءة ففيها: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " وسبقية هؤلاء رضوان الله عليهم وما عرف من حالهم وأنهم صفوة المحسنين من هؤلاء الأمة معلوم ملحق لهم بنمط الأعلين من الصادقين من أتباع الرسل فلما كان المشار إليهم فى الآيتين هم الأسوة والقدوة لمن سواهم ناسب حالهم الإطناب فذكر الرضا والتأييد ولم يقع فى الآيات البواقى وصف يلحق أصحابه بهؤلاء وإن شملهم الرضا والخلود فى الجنة لكن تحديد الذكر والإفصاح بالمقدر المفهوم من سياق الكلام وعمومه له حكم قد بين فى نحو قوله: "وجبريل وميكائيل " وبابه.

وأما الآية البريئة فإنها على حكم مقتضى الترتيب الثابت آخر آية ذكر فيها حال المؤمنين فى الجزاء الأخراوى معقبا به ذكر جزاء من كان فى طرف من حالهم من مستوجبى النار على التأييد فكانت هذه الآية مظنة استيفاء للحال فوردت ورود الآيتين قبلها.

والسؤال الثالث وهو ما وجه تخصيص الآيات الأربع: آية المائدة والثانية من سورة براءة وآية الطلاق وآية البريئة بذكر التأييد مع الخلود فقيل: "خالدين أبدا ".

ولم يقع ذلك فى البواقى؟

والجواب عن ذلك: استدعاء هذه المواضع الأربعة ذكر ذلك.

أما آية المائدة وثانية براءة فلما بنيتا عليه من الإطناب، ولما حمل فيهما على جمع التأييد والرضا حسبما تقدم

ص: 101

فى السؤال قبل هذا، وأما آية الطلاق فوجه ذكر التأييد فيها ما تكرر فى هذه السورة من ذكر غايات بينها قوله تعالى:"قد جعل الله لكل شئ قدرا " فلما أشارت آى السور إلى غايات ونهايات ناسب ذلك التعريف بأن خلود الجنة متأبد لا انتهاء له ولم يجمع بينه وبين ذكر الرضا إذ لم يجتمع لمن ذكر هنا ما اجتمع لأولئك الموصوفين فى آية المائدة وثانية براءة ولم يبلغوا مبلغهم.

وأما آية البريئة فإنها كما تقدم ختام حال الفريقين فاقتضت الاستيفاء.

والسؤال الرابع: ما وجه تخصيص آية المجادلة بالرضا فقط دون التأييد؟

والجواب عنه: أن المذكورين فى هذه الآية قد وصفوا بما يلحقهم بأعلى نمط وذلك قوله: "أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه " ثم قال: "أولئك حزب الله " ثم قال: "ألا إن حزب الله هم المفلحون " والفلاح الفوز والظفر ببغية الراغب وحيث يذكر الفوز فهو مغن عن ذكر التأييد إلا أن يقصد الإطناب ولذلك لم يقع ذكر التأييد فى آية النساء والأولى من براءة وسورة الحديد والمجادلة إذ الفلاح فوز فذكر الفوز أو الفلاح مغن عن ذكر التأييد فلم يجمع بينهما، ولما لم يذكر فى آية الطلاق الفوز ولا ما يرادفه لم يكن بد من ذكر التأييد.

فإن قلت: فإن مقصود آية المجادلة الإطناب فلم لم يجمع فيها بين التأييد والرضا؟

قلت: عدل إلى أوصاف حصل منها خصوص وإطناب فوقع الاكتفاء بها والله أعلم.

والسؤال الخامس: وهو وجه نخصيص آية المجادلة بقوله: "أولئك حزب الله " ووجه ذلك أنه قوبل به قوله فيمن قبل: "أولئك حزب الشيطان " ثم لما طال الكلام بهذا المسوق للمقابلة مع دلالته ودلالة ما قدم من كتب الإيمان والتأييد بروح منه سبحانه وذكر الفلاح لم يحتج إلى ذكر "أبدا " كما أشير قبل.

والسؤال السادس قد تحصل جوابه وهو اختصاص التأييد فقط بآية الطلاق.

الآية الرابعة:

قوله تعالى: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " وفى سورة الإسراء: "ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ".

للسائل أن يسأل عن زيادة قوله "ومقتا " فى سورة النساء وسقوط ذلك فى سورة الاسراء؟

والجواب عن ذلك: أن نقول: أن المقت هو النقص والاستحقار ومتزوج امرأة أبيه

ص: 102

فاعل رذيلة يمقت فاعلها ويشنأ وتستخسه الطباع السليمة فوسمت فعلته بالمقت وساوت الزنا فيما وراء ذلك فلهذا زيد فى آية النساء قوله "ومقتا ".

الآية الخامسة:

قوله تعالى: "محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان " وفى المائدة "محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان " لا إشكال فى هذه الآية لأن مصرف الوصف فى الأولى للإماء المتزوجات عند عدم الطول ومصرف الوصف فى المائدة للمتزوجين من الرجال، وهذا السؤال والذى قبله لا إشكال فيهما.

الآية السادسة:

قوله تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " وفى سورة النحل: "وجئنا بك شهيدا على هؤلاء "

للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف ما اختلف فى هاتين الآيتين فى التقديم والتأخير من قوله "وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " وقوله "وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " مع اجتماعهما فى معنى واحد من شهادة الرسل على أممهم وشهادة نبينا صلى الله عليه وسلم على أمته؟

والجواب عن ذلك: والله أعلم أن آية النحل تقدمها قوله تعالى: "ويوم نبعث فى كل شهيدا عليهم من أنفسهم " فتقدم اسم الشهيد على المشهود عليه فورد ما نسق على ذلك من الإخبار بشهادته عليه السلام على أمته مرتبا على ما تقدمه من مقتضى النظم فى التناظر والتناسب فقيل: "وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " متوازنا مع قوله "شهيدا عليهم " وذلك على ما يجب والله أعلم.

أما آية النساء فلم يرد فيها إفصاح بذكر المشهود عليهم ولا كناية عنهم بضمير ولا اسم إشارة بل فى آية النساء داع إلى تقدم المجرور بـ على وهو أنه لما تقدم قوله تعالى: "والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " وذلك من صفة المنافقين ناسب هذا تقديم المجرور فى قوله "وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " حتى كأنه بحسب المفهوم لم يقصد به غيرهم ولا شهد على من سواهم وقد تقدم نحو هذا ومنه

لتقربن قربا جلذيا ما دام فيهن فصيل حيا

وقال تعالى: "ولم يكن له كفوا أحد " وليس فى آية النحل ما يقتضى ذلك بل مقتضاها إطلاق شهادته عليه السلام للجميع من صالح وطالح إذ لم يتقدم قبلها التقييد بل ظاهر مما تقدمها أن المراد جميع من بعث صلى الله عليه وسلم إليه فهذان حاملان من الآيتين على وجوب ورود النظم على ما ورد.

ص: 103

وأيضا فإن قوله تعالى "شهيدا " فى آية النحل لم يقع فى الفواصل بل أثنائها وتأمل ذلك من لدن قوله تعالى: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا " إلى قوله "لعلكم تشكرون " ثم قال: "ألم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السماء ما يمسكهن إلا الله " إلى قوله "لقوم يؤمنون " واستمرار الآيات على ذلك إلى آخر السورة ولم يتخلل فيما اكتنف الآية قبلها وبعدها فيما قرب منها غير ذلك فقد تقررت فواصل هذه الآى من سورة النحل.

أما آية النساء فبناء نظمها على فواصل روعى فيها مجئ المنون المنصوب من غير التزام حرف بعينه واستمرت الآى قبلها على ذلك.

وقوله "جئنا بك على هؤلاء شهيدا " فاصلة استدعى ورودها على ذلك ما تقدمها من الفواصل وما تأخر عنها وانتظم ذلك على أعلى نظام وأجل مناسبة ولم يكن عكس الوارد فى الآيتين ليناسب والله أعلم.

الآية السابعة:

قوله تعالى: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله

ص: 104

كان عفوا غفورا " وفى سورة المائدة "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " للسائل أن يسأل عن زيادة "منه " فى آية المائدة وعن الواقع فيما أعقبت به كل آية منهما وعن الواقع من الطول فيما أعقبت به آية المائدة فهذه ثلاث سؤالات.

والجواب عن الأول منها: أن زيادة "منه " فى آية المائدة زيادة بيان ألا ترى أن قوله تعالى: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ".

لا يحصل منه ما يحصل من زيادة "منه " فزيدت بيانا واختصت بذلك آية المائدة لتأخرها فى الترتيب الثابت عليه المصحف والبيان يتأخر عما هو بيان له فجاء على ما يجب.

والجواب عن السؤال الثانى: وهو وجه التناسب بين الآى وما أعقبت به وهو أن آية النساء نزلت قبل تحريم الخمر وقد ذكر المفسرون وغيرهم السبب فى نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " وأنها نزلت قبل التحريم كما تقدم وكان شاربها قبل أن تحرم ربما عرض له بسببها التأخير لصلاته كما أشارت إليه الآية وفى تأخيرها عن أول وقتها نقص للفضل الموجود فى أدائها أول وقتها فلما كان ذلك مظنة لنقص والوقوع فى أدائها فى آخر وقتها أو بعد وقتها ربما كان الإثم، والآية قد أعقبت بآية التيمم ناسب ما تقدم التعقيب بقوله "إن الله كان عفوا غفورا " إذ العفو والمغفرة مرجوان فى نحو ما تقدم.

وأما آية المائدة فإنه لما تقدم قبلها حلية طعام أهل الكتاب وجواز نكاح نسائهم على الحاصل من قوله تعالى: "اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " وحال بنى إسرائيل من تحريم الشحوم عليهم وغير ذلك مما شدد عليهم فيه مما هو أمر مرفوع عنا ناسب ذلك تعقيب آية المائدة بقوله تعالى: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " فجاء كل على ما يناسب.

والجواب عن السؤال الثالث: أن آية النساء غير مقصود بها ما قصد بآية المائدة من الإطناب وتأمل ما انطوت عليه كل آية منها من عدد الكلم والحروف من لدن قوله تعالى فى النساء "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " إلى قوله "وأيديكم " وقوله فى المائدة "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " إلى قوله "وأيديكم منه " تجد آية العقود يزيد عدد حروفها على آية المائدة بضعا وثلاثين حرفا فلما أطيل فى هذه ناسبها ما أعقبت به وبنى عليها من قوله "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " وناسب إيجاز آية النساء ما بنى عليها من قوله "إن الله كان عفوا غفورا " إيجازا بإيجاز وإطنابا بإطناب.

فإن قيل: إن الإيجاز فى الكتاب عمدة ما بنى عليه وهو الجارى فى بلاغته وإنما يكون إطناب الكلام لحامل وداع فما الحامل على ذلك فى آية المائدة؟

فقلت: الحامل على ذلك فيها تفصيل ما وقع فى الآى قبلها مما حلل وحرم من لدن قوله قوله عز وجل "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير " إلى تفصيل ما أحل لكم من قوله "يسألونك ماذا أحل لهم " إلى الآية المتكلم فيها فلما جرى ذلك كله مفصلا مستوفى ناسبه الوارد فى الآية وليس فى آية النساء من مثل هذا شئ مما حلل أو حرم فجرى حكمه على نسبة ما تقدمها بناء على رعى المناسبة والله أعلم بما أراد.

الآية الثامنة:

قوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " وفى نصف "لا خير فى كثير من نجواهم ""إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا "

للسائل أن يسأل عن وجه

ص: 105

اختلاف تعقيب الأولى بقوله "فقد افترى إثما عظيما " وتعقيب الثانية "فقد ضل ضلالا بعيدا ".

والجواب: أنه لما وقع قبل الآية الكريمة ذكر أهل الكتاب وذكر اعتدائهم وتحريفهم من لدن قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل " ثم قال بعد هذا: "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه " وهذا إفصاح بكذبهم وافترائهم ثم أتبع ما ذكر بقوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به " ناسب ما تقدم من أوصاف الشرك الافتراء الذى هو أخص صفات من كذب من أهل الكتاب من أن المشرك مفتر فقال عز وجل: "ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " ولما لم يتقدم مثل ذلك فى الآية الأخرى إنما تقدم قبلها قوله: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " وقبلها ما يخص منافقى أيام نبينا عليه السلام من لدن قوله تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما " ثم قال: "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ....

الآية " فلم يقع فى هذه الآى ذكر تحريف ولا افتراء إنما ذكر منافقو أيامه عليه السلام بنفاقهم وما صدر منهم من غير الكذب والافتراء فناسب ذلك ما بنى عليه من قوله سبحانه: "ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " كما ناسب قوله فى الأولى "فقد افترى إثما عظيما " ما تقدمه وبنى عليه وجاء كل على ما يجب ولو أعقبت الأولى الثانية والثانية بما أعقبت به الأولى لما ناسب على ما تقدم.

والله أعلم.

الآية التاسعة:

قوله تعالى: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا " وفى سورة المائدة: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا "،

للسائل أن يسأل عن وجه ما ورد فى هاتين الآيتين من قوله فى الأولى " إلى ما أنزل الله وإلى الرسول " والاكتفاء فى الثانية بقوله " إلى ما أنزل الله " مع استوائهما فى دعاء المخالفين ممن ذكر قبل كل آية منهما إلى متابعة الحق والرجوع إليه.

والجواب أن حال المدعوين مختلف فإن الآية الأولى فى منافق ويهودى تخاصما وتحاكما إلى كعب بن الأشرف ورضيا بحكمه فالمراد بالآية المنافقون لأنهم المظهرون أنهم آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى موسى عليه السلام القائلون ذلك بألسنتهم ولكون ذلك

ص: 106

نطقا بألسنتهم عبر بالزعم وكنى بالطاغوت فيما ذكره المفسرون عن كعب بن الأشرف قال تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به " ولم تؤمر يهود أن يكفروا بأحبارهم ما لم يحرفوا وإنما المأمورون بالكفر منهم المؤمنون حين ظهر تحريفهم وتبديلهم ثم قال تعالى: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول " أى للحكم بينهم بما أنزل الله صدوا عنه ونفروا إلى التحاكم عند كعب بن الأشرف أو عند الكاهن على الاختلاف فى ذلك.

وأما آية المائدة فمبنية على ما تقدمها من مرتكبات أهل الجاهلية وما سنوه تقليدا أو اتباعا لعمرو بن لحي وأشباهه ممن سن مثل تغييرا لملة إبراهيم عليه السلام فدان بفعلهم فى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام

أما البحيرة فهى المشقوق أذنها طولا بنصفين متروكة ترعى وترد الماء لا ينتفع بشئ منها فإذا ماتت أكلها الرجال وحرمت على النساء وذلك إذا ولدت أبطنا قبل عشرة وقبل غير ذلك وكل ضلال باطل.

وأما السائبة فالناقة تسيب للآلهة وأيضا إذا اتبعت إناثا ثنتى عشرة لا ذكر فيها.

وأما الوصيلة فالشاة إذا ولدت ثلاثة بطون أو خمسة إن كان آخرها ذكرا ذبحوه لآلهتهم وإن كان أنثى استحيوها وقالوا إن الأنثى قد وصلت آخاها ومنعته أن يذبح وقيل غير هذا.

والحام فحل الإبل إذا ضرب فيها عشرة أعوام أو ولد من ظهره عشرة قيل ظهره فسيب.

فالضمير من قوله "وإذا قيل لهم " راجع إلى القائلين بهذه الأشياء المتبعين فيها لآبائهم فبين تعالى وحكم فيها بقوله "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ".

إلى قوله "ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب " فحكم هذه الأشياء بين واضح من كتاب الله لا يفتقر فى تعرفه إلى غير سماعه إذا حصل التصديق به وسواء سمع ذلك منه صلى الله عليه وسلم أو من غيره لتواتر نقله فلهذا لم يذكر هنا دعاء إلى زائد على المنزل.

أما آية النساء ففى قضية تخاصم لابد من التحاكم فيها إلى مجتهد يفصل فيها بما فهمه الله من كتابه والآتى به صلى الله عليه وسلم هو المبين ما فيه والمعصوم فيما بين منه ويحكم به والقضية واقعة حال وجوده وحضوره فإليه صلى الله عليه وسلم المرجع فلهذا قيل فى تلك الآية "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول " ولم يكن عكس الوارد فى الآيتين ليناسب والله أعلم.

الآية العاشرة:

قوله تعالى: "ومن أصدق من الله حديثا " وبعد

ص: 107

هذا "ومن أصدق من الله قيلا "،

للسائل أن يسأل عن اختلاف التعبيرين مع أن المتقدم فى كل من الآيتين إخبار أخراوى.

ففى الأولى "ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه " وفى الثانية وما وعد الله به المؤمنين فى قوله "سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار " ثم جئ بالتمييز مختلفا فقيل فى الأولى "ومن أصدق من الله حديثا " وفى الثانية "ومن أصدق من الله قيلا " فخولف فى العبارة مع وحدة المعنى فيسأل عن ذلك وهل كان يجوز العكس؟

والجواب أن التعبير الثانى مبنى على ما يجب ربطه به من قوله "وعد الله حقا " وقيل "ومن أصدق من الله قيلا " وأنيب مناب وعدا فكأن قد قيل: ومن أصدق من الله وعدا وهو ما وعدهم به تعالى من النعيم وعظيم الإحسان فجئ بلفظ يوازن المصدر عن قبله وهما وعدا وحقا ويشابههما فى الخفة فسكون عين الكلمة وعدد حروفها كالمصدرين قبلها وكأنه إنما أريد تكرار المصدر بلفظه فاستثقل التكرار للتقارب وعادة العرب فى ذلك فعدل إلى ما يجاريه ويحرز المعنى ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا خفة ووزنا إحرازا للتناسب والتلاؤم.

ولما لم يتقدم فى الآية الأولى ما يستلزم هذا وإن قوله تعالى "ليجمعنكم إلى يوم القيامة " إخبار وحديث عن البعث بعد الموت وجمع الخلق لحسابهم ومجازاتهم على الخير والشر فهو إخبار وإنباء، ومثله ما ورد فى قوله تعالى إخبارا عن قول منكرى البعث "هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق "الآية فالإنباء هنا هو ذلك الخبر الصدق منه تعالى بقوله "ليجمعنكم إلى يوم القيامة " الآية فقد وضح ورود كل واحدة من الآيتين على ما يناسب ويلائم والله أعلم.

الآية الحاية عشرة:

قوله تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين

الآية " وفى الأنفال: "ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب " وفى الحشر: "ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله فإن الله شديد العقاب "

للسائل أن يسأل عن إدغام الوارد فى الحشر وفك الإدغام فى السورتين قبل ما وجه ذلك مع أن الفك والإدغام فصيحان؟

الجواب أن الإدغام تخفيف وليس بالأصل فورد فى النساء على الأصل ولم يقترن به ما يستدعى تخفيفه ولا سؤال فى ذلك ولما تقدم فى سورة الحشر قوله تعالى: " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله "وتقد الماضى مدغما ولم يسمع فى الماضى إلا تلك اللغة،

ص: 108

فجئ بما حمل عليه من قوله: "ومن يشاق الله " مدغما ليحصل مجئ الإدغام قبله فى الماضى من قوله "ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " وعطف "ورسوله " على اسم الله تعالى وقد وردت نسبة المشاقة لله ورسوله وورد ذلك بالعطف بالواو الجامعة وهو ما يناسب الفك فاستدعى الموضع داعيان:

أحدهما ما قبله من الإدغام،

والثانى ما بعده من العطف المشبه للفك، فروعى البعدى لأنه أقوى فى الرعى كما فعلوا فى الإمالة فلم يميلوا مناشيط وما كان مثله مما تأخر فيه حرف الاستعلاء وإن حال بينه وبين الألف حرفان ومع ذلك فإنه يمنع الإمالة وليس كذلك فى قوة المنع إذا تقدم مع حائل فكذا فعلوا فيما تقدم فراعوا ما بعد كما ذكرنا فلم يدغموا إذ المتقدم فى قوة المفروع منه المنقطع المتصل بعد فى النطق أقرب، فورد على ما يجب ويناسب.

الآية الثانية عشرة:

قوله تعالى: "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا "

وفى آية أخرى بعد

"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما "

فيهما سؤالان:

قوله فى الأولى "وإن تحسنوا وتتقوا " وفى الثانية "وإن تصلحوا " والختامان "خبيرا " فى الأولى و"غفورا " فى الثانية.

والجواب والله أعلم: أن الآية الأولى فيما بين المرأة وزوجها فإذا خافت منه وأرادت تآلفه وبقاءه وكينونتها فى عصمته فلا جناح عليهما أن تعطى شيئا من نفسها وتترك بعض حقها كأن تؤثر ضرتها فى القسمة أو تترك هى حظها كما فعلت سودة رضى الله عنها أو تهب له من حالها لا جناح عليهما فى هذا ولا على زوجها فى قبول ذلك منها وإن كان الطبع يأبى من إسقاط حق أو تنقصه لما جبلت عليه النفوس وإليه الإشارة بقوله تعالى: "وأحضرت الأنفس الشح " ثم قال تعالى: "وإن تحسنوا وتتقوا " فندب كلا منهما إلى الإحسان والتقوى والزوج أخص بذلك وأولى وأن يحتمل كل منهما من صاحبه ويصبر فإن الله مطلع عليه خبير بما يكنه ويخفيه،

ثم قال: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بيم النساء ولو حرصتم " لأن القلوب لا تملك ولا بيد الإنسان فسادها ولا صلاحها فإن عدل فى القسمة والمحادثة والإنفاق والنظر وبشاشة الوجه وجميل الملاقاة وفرضنا اجتهاده فى هذا كله حتى تحصل المساواة

ص: 109

لم يقدر أن يميل بقلبه إلى كلهن على حال سواء: "فلا تميلوا كل الميل " بل على الإنسان أن يجتهد وفى الحديث عنه عليه السلام: "اللهم هذه قسمتى فيما أملك فلا تلمنى فيما لا أملك "، "فتذروها كالمعلقة " لا ممسكة ولا مطلقة ثم قال تعالى:"وإن تصلحوا وتتقوا " والمراد ما استطعتم وكان فى إمكانكم فإن الله يغفر لكم ما سوى ذلك.

والآية الأولى مقصودها يستدعى ما ختمت به من أنه تعالى خبير بأفعال عباده وأعمالهم الظاهرة والباطنة ومساق هذه الأخرى يستدعى مغفرته تعالى إذ قد عرفت الآية أن العدل لا يستطاع فإن لم تكن المغفرة هلك الملكف فورد أعقاب كل آية بما يناسب وأما ورود "وإن تحسنوا " فى الآية الأولى وورود "وإن تصلحوا " هنا فمفهوم مما تمهد وأنسب شئ والله أعلم.

الآية الثالثة عشرة:

قوله تعالى: "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ولله ما فى السماوات وما فى الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما فى السماوات وما فى الأرض وكان الله غنيا حميدا ولله ما فى السماوات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا "

للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف ما أعقبت به هذه الآى الثلاث من أوصافه العلية سبحانه وتعالى: "وكان الله واسعا حكيما " وفى الثانية: "وكان الله غنيا حميدا " وفى الثالثة: "وكفى بالله وكيلا " يسأل عن ذلك وعن تكرار إخباره تعالى وقوله "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض " ثلاث مرات مع تقارب الكلام واتصاله.

والجواب عن الأول: إنه لما قال سبحانه فى الزوجين عند عدم انقيادهما لحسن المعاشرة "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " قال الزمخشرى: "يرزقه زوجا خيرا من زوجته وعيشا أهنأ من عيشه " ولما قال "يغن الله كلا من سعته " ناسب هذا ذكر ما يقتضى من صفاته عموم وجوه الإحسان وأنه لا نفاد لما عنده مما به قوام عيشهم وكمال حال كل واحد منهم من الرزق والسكن والتأنيس وأنه سبحانه المنفرد بعلم وجه الحكمة فى تآلفهم فقال "وكان الله واسعا حكيما " أى كثير العطاء جم الإحسان عليم بخفيات مصالح العباد فقوله "وكان الله واسعا حكيما " عقب ما تقدمه من قوله " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " أوضح شئ فى المناسبة ثم اتبع بما يلائم ذلك ويزيده وضوحا من إخباره تعالى من أن السماوات والأرض وما فيهما ملكه تعالى فقال "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض " ثم أتبع سبحانه أنه بما يرجع إلى عموم

ص: 110

إحسانه إلى من تقدم من المخاطبين بكتبه المنزلة رحمة لعباده وإحسانه كما أحسن إلى المواجهين بهذا الكتاب والمهيمن من على هذه الخطاب فقال "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله " وأعلم سبحانه أنه محسن إليهم لأن تقواهم إياه تعالى مثمرة لهم السلامة من عذابه والنجاة من أليم عقابه وأنه ليس به إلى تقواهم من حاجة ولا يعود إليه سبحانه من كل ذلك منفعة إذ هو الغنى عنهم وعن عبادتهم فقال: "وإن تكفروا فإن لله ما فى السماوات وما فى الأرض " فهو الغنى عنكم وعن عبادتكم كما قال تعالى فى آية أخرى: "وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الأرض جمبعا فإن الله لغنى حميد " وقال تعالى: "فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد " وإذا كان الكل ممن فى السماوات والأرض ملكا له سبحانه وتحت قهره وفى قبضته يفعل فيهم ما يشاء ولا يكون منهم إلا ما يشاؤه ويريده وهو الغنى الحميد ثم أكده بقوله "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض " لما بنى عليه من قوله "وكفى بالله وكيلا " أى حافظا لجميع

ذلك منفردا بتدبيره وإمساك السماوات والأرض ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده فختام الآية بهذه الصفة من أنسب شئ وأبينه والله أعلم.

الآية الرابعة عشرة:

قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " وفى المائدة: "كونوا قوامين لله شهداء بالقسط "فقدم فى آية النساء قوله "بالقسط " وأخر فى المائدة فيسأل عن وجه ذلك.

والجواب عنه والله أعلم: أن الآيات المتصلة بآية سورة النساء مبنية على الأمر بالعدل والقسط قال تعالى: "من يعمل سوءا يجز به

الآية " وقال بعد: "ويستفتونك فى النساء " ثم قال: "وأن تقوموا لليتامى بالقسط " وتوالت الآى بعد على هذا المعنى فقدم قوله بالقسط ليناسب ما ذكر

وأما آية المائدة فثبت قبلها الأمر بالطهارة ثم تذكيره سبحانه بتذكر نعمه والوقوف مع ما عهد به إلى عباده والأمر بتقواه فناسبه قوله: "كونوا قوامين لله " ثم أتبع بما بنى على ذلك من الشهادة بالقسط فتأمل ما بنى على هذه وما بنى على آية النساء يتضح لك ما قلته والله أعلم بما أراد.

الآية الخامسة عشرة:

قوله تعالى: "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " وفيما بعد من السورة نفسها

"إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا

ص: 111

إلا طريق جهنم ..

الآية "

للسائل أن يسأل عن وجه اختلاف الكنايتين عما إليه الهداية الممنوعة عمن ذكر فى الآيتين مع استواء حال من ذكر فيهما من التلبس بالزيادة على الكفر وفى الجزاء بعدم الغفران ومنع الهداية ومع أن مسمى السبيل والطرق واحد فما وجه اختلاف الكناية باسم السبيل فى الأولى والطرق فى الثانية؟

والجواب والله أعلم: أن السبيل والطريق وإن استويا واتحد معناهما فيما ذكر فبينهما فرق واضح عن حيث أن مواضع السبيل أكثر ترددا فى الكلام ففى إطلاق لفظه توسعه وعموم ليست فى إطلاق لفظ طريق فقد ورد ذكر السبيل فى الربع الأول من الكتاب العزيز فى بضع وخمسين موضعا أو نحو ذلك من ذلك فى سورة البقرة أربعة عشر موضعا أولها قوله تعالى: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل " وآخرها قوله تعالى: "للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله " وفى آل عمران ستة مواضع وفى النساء ستة وعشرون موضعا وفى المائدة والأنعام تسعة مواضع ولم يقع ذكر الطريق فى كتاب الله كله إلا فى [أربعة مواضع] ثم إن اسم السبيل مع ما تقرر من كثرة ترداده أغلب وقوعا فى الخير وسبيل السلامة إفصاحا وإشارة، ولا يكاد اسم الطريق يرد مرادا به السلامة والخير إلا مقرونا بوصف أو إضافة أو ما يخلصه لذلك كقوله تعالى:"يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم ".

وإذا تقرر هذا فقوله تعالى فى الآية الأولى: "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا " حاصل منه وسم هؤلاء بشر وصف وأعظمه وأبلغه بأقصى غاية فى شنعة المرتكب فليست حال من كفر بعد إيمان كحال من لم يتقدم كفره إيمان قال تعالى فيمن توعده بأشد الوعيد: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم "

إلى ما وصفوا به من استحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة وإنما وقع ذلك منهم بعد علمهم بكيان الآخرة وتصديقهم بها ثم اختاروا الدنيا عليها فحالهم حال من أضله الله على علم ولا أسوأ حال من هؤلاء.

أما الموصوفون فى الآية الثانية بالكفر والظلم فدون هؤلاء فى شنعة المرتكب والمبالغة فى الضلال ألا ترى أن حال الكافر الذى لم يتقدم منه إيمان ليست كحال من تقدم منه إيمان لكفر هذا على علم ولا حال من وصف بالظلم وإن كان يقع على الكفر وما دونه كحال من وصف فى الآية الأولى بعوده

ص: 112

إلى الإيمان ثم إلى الكفر بعد ذلك ثم الازدياد فى الكفر فلما بلغت حال هؤلاء فيما وصفوا به أشنع غايات الكفر والضلال وأشدها تخبطا ناسب ذلك الكناية عما صدوا عنه ومنعوه "بالسبيل " مناسبة بين حالهم والممنوع من محسود مآلهم ولما لم يكن وصف الآخرين بالكفر والظلم يبلغ شنعة المرتكب مبلغ أولئك عدل فى الكناية عما منعوه إلى ما يناسبه وجرى كل على ما يجب ويناسب ولم يكن عكس الوارد ليلائم ولا ليناسب والله أعلم.

الآية السادسة عشرة:

قوله تعالى: "إن تبدوا خيرا أو تخفوه تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا " وفى سورة الأحزاب: "إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليما "

للسائل أن يسأل هنا فى ثلاثة مواضع: أحدها قوله: "إن تبدوا خيرا " وفى الأحزاب "شيئا " فيسأل عن وجه الفرق؟ والثانى: ما الموجب لخلاف جواب الشرط فى الآيتين؟ ففى الأولى "فإن الله كان عفوا قديرا " وفى الثانية "فإن الله كان بكل شئ عليما " والثالث: زيادة قوله فى الأولى "أم تعفوا عن سوء ".

والجواب عن الأول: إن قوله تعالى "إن تبدوا خيرا أو تخفوه " مقصود به خصوص طرف الخير وعمل البر جريا على ما دارت عليه سورة النساء وتردد فيها من إصلاح ذات البين والندب إلى العفو والتجاوز عن السيئات ألا ترى قوله تعالى لمقتسمى الميراث فيمن حضره من ذوى القربى وذوى الحاجات "فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " وقوله فى الآيتين الفحشة "فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " وقوله فى النساء "وعاشروهن بالمعروف " وقوله "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " وقوله "فأعرض عنهم وعظهم " وقوله "وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما " إلى أمثال هذه الآى مما يطول ذكره ولا يكثر فى غير هذه السورة ككثرته فيها ومن هنا لم يتعرض فيها لأحكام الطلاق وان كانت السورة مبنية على أحكام النساء لكن خص من ذلك ما فيه التآلف والإصلاح وما يرجع إلى ذلك ولم يرد فيها من أحكام الطلاق الا ما أشار إليه قوله تعالى "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " فذكر هذا القدر عند استدعاء معنى الكلام وتمام المقصود به إليه بأوجز لفظ وبما يؤنس الفريقين ولم يذكر فيها اللعان ولا الظهار ولا الخلع ولا طلاق الثلاث بل ذكر فيها استحاب العشرة

ص: 113

إلى التوارث فلما كان مبنى السورة على هذا ناسب لك طرف الخير غير مشار إلى ضده الا بالعفو عما وقع بالمكلف فيه فقال تعالى: "إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء " فنوسب بهذا الخصوص خصوص ما تكرر فى السورة بما ذكر من العفو وما يحرزه وفى سورة البقرة: "وأن تعفوا أقرب للتقوى " وذلك فى مثل ما تقدم هنا من أحكام النساء.

وأما آية الأحزاب فمقصود بها ما يعم الطرفين من الخير والشر ألا ترى ما تقدمها من قوله تعالى "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا " وما تقدم فى هذه السورة من ذكر المنافقين وسوء مرتكبهم فى قصة الأحزاب وقولهم "ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا " وقولهم فى الاستئذان "إن بيوتنا عورة " وكذبهم فى ذلك فحذر الله

المؤمنين من مرتكبات المنافقين وأعلمهم أنه تعالى لا يخفى عليه شئ "سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " فقال تعالى "إن تبدوا شيئا أو تخفوه " فلما قصد فى هذه الآية عموم الطرفين ورد بلفظ مطلق يعم الخير والشر فقال تعالى: "إن تبدوا شيئا " والشئ يقع على كل موجود من ذات أو معنى حتى أن بعض المتكلمين يطلقه على المعدوم المقدر الوجود فيقول بشيئة المعدوم وليس هذا من قولنا ولكن الإطلاق حاصل كيفما قيل والشئ المخفى المشار إليه فى الآية إنما هو عمل قلبى موجود بمحله فلا اعتراض علينا به والخير والشر داخلان تحت ذلك وأما لفظ خير فى آية النساء فقد تقدم خصوصه ومناسبته فورد كل على ما يجب ويناسب ولا يمكن فيه العكس.

والجواب عن السؤال الثانى: ان اختلاف جواب الشرط فى الآيتين إنما هو بحسب ما يستدعيه فقوله تعالى فى الأحزاب: "فإن الله كان بكل شئ عليما " يبين الجوابية لقوله تعالى: "إن تبدوا خيرا أو تخقوه " وأم قوله فى آية النساء "فإن الله كان عفوا قديرا " فمنزل على قوله "أو تعفوا عن سوء "فندب سبحانه العباد إلى العفو بمفهوم هذه الكلام بإعلامهم أن تلك سنة فى خلقه من عفوه عن المسئ مع القدرة على أخذه والانتقام منه "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " وهذا الجواب لقوله تعالى: "أو تعفوا عن سوء " يفهم جواب الأمرين من إبداء الخير وإخفائه وان ذلك يحبه تعالى ويثيب عليه فقد بان التناسب فى هذا كله فى كل واحد من الشرطين وجوابهما.

والجواب عن السؤال الثالث: ان قوله تعالى: "أو تعفوا عن سوء " من تمام ما

ص: 114

قصد بالآية من الندب إلى تحصيل أفعال البر وان العفو عن السوء من أجلها وبذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: "فاعف عنهم واصفح " فى غير ما آية فقد بان التاسب فى هذا كله.

ووضح أن كل ما ورد فى الآيتين لا يلائمه غير موضعه والله أعلم بما أراد.

ص: 115