المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآية الثالثة عشرة - ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل - جـ ١

[ابن الزبير الغرناطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌سورة أم القرآن

- ‌سورة البقرة

- ‌الآية التاسعة:

- ‌الآية الحادية عشرة

- ‌الآية الثانية عشرة:

- ‌الآية الثالثة عشرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم

- ‌قوله عز وجل: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يأت أحدا من العالمين

- ‌الآية الثالثة عشرة: وهى تمام ما قبلها:قوله تعالى: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم

- ‌قوله تعالى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم

- ‌سورة الأنعام

- ‌قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون

- ‌الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "إن هو إلا ذكرى للعالمين

- ‌الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة

- ‌الآية الموفية عشرينقوله تعالى: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل

- ‌قوله تعالى: "ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون

- ‌الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى: "كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون

- ‌الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى: "ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون

- ‌الآية السادسة والعشرون قوله تعالى: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا كذلك كذب الذين من قبلهم

- ‌الآية التاسعة والعشرون: قوله تعالى: "وأنا أول المسلمين "، وفى سورة الأعراف: "وأنا أول المؤمنين "، يسأل عن الفرق

- ‌سورة الأعراف

- ‌الآية الرابعة من سورة الأعرافقوله جل وتعالى: " وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ

- ‌الآية الخامسة قوله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون

- ‌الآية الحادية عشرة من سورة الأعرافقوله تعالى فى قصة صالح: " قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

- ‌الآية الرابعة عشرة من سورة الأعرافقوله تعالى: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ

- ‌الآية السادسة عشرة قوله تعالى: " تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ

- ‌الآية السابعة عشرة قوله تعالى: " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون

- ‌الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى: " قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌الآية الثالثة قوله تعالى: " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

- ‌سورة يونس

الفصل: ‌الآية الثالثة عشرة

مرتكباتهم ولم يقع بعده ذكر علة منوطة بجزاء ما وقع منهم وإذا تأملت آية الأعراف وجدتها جارية على منهج ما ورد فى سورة البقرة

وان أول وصفهم المبنى جزاء على مرتكباتهم قولع: "فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون " ثم قال تعالى: "واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر " إلى قوله تعالى: "كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " فطابق هذا ما ورد فى البقرة من تقدم وصفهم أولا بالظلم ثم بعد ذلك بالفسق ووضح الاتفاق فى ختام القصة فى السورتين من غير اختلاف فيهما.

‌الآية الثالثة عشرة

من البقرة:

قوله تعالى: "فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا " وفى الأعراف: "فابجست " مع ان المعنى واحد فمعنى الانبجاس الانفجار يسأل عن وجه اختصاص كل من الموضعين بما ورد فيه.

والجواب والله أعلم ان الفعلين وان اجتمعا فى المعنى فليسا على حد سواء بل الانبجاس ابتداء الانفجار والانفجار بعدة غاية له قال القرطبى: "الانحباس أول الانفجار "، وقال ابن عطيه:"انبجست انفجرت لكنه أخف من الانفجار " وإذا تقرر هذا فأقول أن الواقع فى الأعراف طلب بنى إسرائيل من موسى عليه السلان السقيا قال تعالى: "وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه " والوارد فى سورة البقرة طلب موسى عليه السلام من ربه قال تعالى: "واذ استسقى موسى لقومه " فطلبهم ابتداء فناسبه الابتداء وطلب موسى عليه السلام غاية لطلبهم لأنه واقع بعده ومرتب عليه فناسب الابتداء الابتداء والغاية الغاية، فقيل جوابا لطلبهم:"فانبجست " وقيل اجاية لطلبه: "فانفجرت " وتناسب ذلك وجاء على ما يجب ولم يكن ليناسب العكس. والله أعلم.

الآية الرابعة عشرة من سورة البقرة:

قوله تعالى: "وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله " وفى سورة آل عمران: "ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة " فأخر فى سورة آل عمران ما قدم ذكره فى سورة البقرة فيسأل عن ذلك ووجهه والله أعلم أنهم لما سألوا فى البقرة عن مأكلهم ما فيه خسة وما يستلزم الذلة والصغار والمهنة فى التوصل إلى الانتفاع به وذلك ما طلبوه فى قولهم: "فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها " عوضا مما لا تكلف فيه ولا مشقة من المن والسلوى الذى كان ينزل عليهم عند الحاجة بغير

ص: 40

مؤنة ولهذا قيل لهم: "أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير " فلما سألوا ما يستلزم مهنة النفس ودناءة الحال لما أجرى به الله تعالى العادة من أن الذى سألوه لا يتوصل إليه الا بتكلف ومشقة فلما سألوا ما حاصله خسة وامتهان ناسب ذلك أن يناط به وينبئ عليه ذكر ضرب الذلة والمسكنة عليهم ثم أعقب ذلك ما باؤوا به من غضب الله الذى سبق به القدر عليهم ونعوذ بالله من غضبه.

ولما تقدم فى آل عمران قوله تعالى: "لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون " ناسب هذا تقديم ما لا نصرة لهم معه ولا فلاح وهو ما باؤوا به من غضب الله عليهم فقال تعالى: "وباؤوا بغضب من الله " فجاء كل على ما يناسب ويلائم والله أعلم بما أراد.

الآية الخامسة عشرة:

قوله تعالى: "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بالله ويقتلون النبيين بغير الحق " وفى سورة آل عمران: "إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق " وفيها بعد: "لن يضروكم إلا أذى " إلى قوله تعالى: "ذلط بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق " بتنكير حق فى هذين الموضعين وتعريفه فى البقرة واختصاص الآية الأخيرة بجمع التكسير فيما جمع فى الآيتين جمع سلامه فقيل: "النبيين فى الآيتين وقيل فى هذه الأخيرة الأنبياء مكسرا فهذان سؤالان.

والجواب عن الأول والله أعلم، بعد العلم بأن المذكورين فى الآيات الثلاث من بنى إسرائيل قد اجتمعوا فى الكفر والاعتداء أن هذه الآية الأخيرة لما كانت فيمن شاهد منهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وعاين تلك البراهين واستوضح أنه الذى أخبر به موسى وغيره صلى الله عليهم أجمعين وتكاثرت الأدلة فى أمره ثم لم يجد ذلك عليهم إلا التمادى فى الكفر والعناد من بعد ما تبين لهم الحق كان الأنسب لمرتكبهم فى كفرهم أن يعبر عنهم أنهم ارتكبوه بغير سبهة ولا سبب يمكن التعلق به فقوله تعالى:"بغير حق " كأنه مرادف لأن لو قيل: بغير سبب ولا سبهة وذلك أوغل فى ذمهم وسوء حالهم لأنهم لا يمكنهم فى مرتكبهم تعلق بشئ البتة ولا أدنى شبهة ولما كانت الأولى فى سورة البقرة إنما هى فى سلفهم ممن لم يشاهد أمر محمد صلى اله عليه وسلم وقد وقع الافصاح فيها بكفرهم بعد تعريفهم بذكر آلاء ونعم وقد ورد فيها أن بعض تلك المرتكبات أو أكثرها قد عفى عنهم فيها ولا شك أن بعضهم قد سلم مما وقع فيه الأكثر من كفرهم

ص: 41

وقد أفصحت آي بذلك فيما ذكر عقبها من أن الكفر السابق عمومه فى جميعهم ليس على ما يبدو منه والله أعلم وإنما هو راجع إلى أكثرهم فقد دخله خصوص يدل عليه قوله تعالى: "فبدل الذين ظلموا منهم قولا " وقوله تعالى: "وأكثرهم فاسقون "، فهم وإن وصفوا من الكفر والاعتداء بما وصفوا ليسوا فى ارتكاب البهت والمجاهرة بالباطل وموالاة التمرد والاعتداء وحال معاينة البراهين كحييى بن أخطب وأشباهه من المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم والمشاهدين أمره فناسب حال أولئك الذين لم يشاهدوه ما وقع التعبير به من قوله تعالى:"بغير الحق " إذ ليس المعرف فى قوة المنكر المرادف لقولك بغير سبب وأيضا فقد تقر عندهم من كتابهم أن مسوغ قتل النفس تقدم قتل النفس بغير حق قال تعالى: "وكتبنا عليهم فيها - أى فى التوراة - أن النفس بالنفس " وتقرر أيضا فى كتابهم رجم الزانى المحصن وقد عرفنا ذلك من دينهم

بالخبر الصحيح وأنهم اعترفوا بذلك عند النبى صلى الله عليه وسلم بعد إنكارهم وقوله تعالى فى خطاب موسى عليه السلام لهم بقوله: "ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " فعرف بعظيم جريمة الارتداد والظاهر أن حكم المرتد عندهم القتل كحكمه عندنا وكيف ما كان فقد استقر عندهم ما يسوغ القتل ويوجبه بعد الإيمان وقد علموا أن الاتبياء عليهم السلام مبرؤون من ذلك كله فقوله تعالى: "بغير الحق " أى بغير وجه الحق المبيح للقتل فالألف واللام للعهد فى المسوغ المتقرر فى شريعتهم فقد افترق مقصد الآيتين وأما الأولى من آيتى آل عمران فخاصة بالمتمادين منهم على الكفر ولا تتناول الآية من أولها إلى آخرها خلافه فهى كالآية الثانية فيما أعطته ودلت عليه من التمرد والتمادى على الضلال فناسبها التذكير كالتى بعدها وهما معا بخلاف آية البقرة إذ لم يتقدم فى هاتين ما تقدم فى تلك ولا حال المذكورين فى هاتين كحال من ذكر فى تلك والله أعلم بما أراد.

والجواب عن السؤال الثانى: أن جمع التكسير يشمل أولى العلم وغيرهم وجمع السلامة يختص فى أصل الوضع بأولى العلم وإن وجد فى غيرهم فبحكم الالحاق والتشبيه كقوله تعالى: "إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين " وما يلحق بهذا.

وإذا تقرر هذا فورود جمع السلامة فى قوله فى سورة البقرة: "ويقتلون النبيين بغير الحق " مناسب من جهتين: إحداهما شرف الجمع لشرف المجموع والثانية مناسبة زيادة المد لزيادة أداة التعريف فى لفظ الحق وأما الآية الأولى من سورة آل عمران فمثل الأولى فى مناسبة الشرف ومناسبة زيادة المد للزيادة فى الفعل

ص: 42

العامل فى اللفظ المجموع فى قراءة من قرأ: "يقاتلون " ولما لم يكن فى الآية الثالثة سوى شرف المجموع وكانت العرب تتسع فى جموع التكسير فتوقعها على أولى العلم وغيرهم أتى بالجمع هنا مكسرا لتحصل اللغتان حتى لا يبقى لمن تحدى بالقرآن حجة إذ هم مخاطبون بما فى لغاتهم فلا يقصر فى شئ من خطابهم على أحد الجائزين دون الآخر إلا ألا يتكرر فإذ ذلك يرد على وجه واحد مما يجوز فيه فتفهم ما أجملته فسوف يتضح لك به إذا استوفيته ما يعينك على فهم الإعجاز.

الآية السادسة عشرة

قوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وقال فى المائدة: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وفى سورة الحج: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله بفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد ".

فيها أربع سؤالات: تقديم النصارى فى سورة البقرة وتأخيرهم فى المائدة وتخصيص آية البقرة بقوله تعالى: "فلهم أجرهم عند ربهم " ورفع "الصابئون "فىالمائدة ولم يتبع وانفراد سورة الحج بسياقها وزيادة ذكر المجوس والذين أشركوا.

فأقول وأسأل الله توفيقه: إن المؤمنين أحق بالتقديم وهم أهل الخطاب والمتكلم معهم فى الآى قبل، فهم من حيث أحوالهم معظم من قصد بالخطاب والتأنيس ثم إن أهل الكتابين يلون المؤمنين فإنهم ليسوا كافرين بكل الرسل ولا منكرين بكل الرسل ولا منكرين لكل ما أنزل من الكتب فقد كانوا أقرب شئ لولا التبديل والتغيير والتحريف المقدر وقوعه عليهم، فإنهم قد قدم إليهم فنكثوا ونقضوا وكفروا بمن قدم إليهم من أمره، واليهود أقدم تعريفا وأسبق زمانا فلما اجتمع الأصناف الثلاثة فى أنهم أهل الكتاب والمقرون بالبداءة والعودة وإرسال الرسل على اختلاف حالاتهم فى ذلك وأزمانهم كان تقديمهم على غيرهم أوضح شئ على الوارد فى سورة البقرة إلا أن ذكرهم لم يقع بحرف مرتب بل وقع الاكتفاء يترتيب الذكر لاستوائهم فى الغايات من استواء العواقب وإن الفائز من الكل إنما هو من كانت خاتمته فى دار التكليف الموافاة على الإيمان والإسلام وإن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن الموافى فى الكل على المفر والكفر فى النار ثم عذابهم بحسب جرائمهم جزاء وفاقا فرتبوا ذكرا بحسب حالهم الدنياوى ولم يتقعد الترتيب بالحرف المرتب لحظا

ص: 43

لحالهم الاخراوى فجرى ذكرهم فى سورة البقرة على هذا وأخر ذكر الصابئين لتأخرهم عن هؤلاء الأصناف فى أنهم ليسوا من أهل الكتاب أو ليسوا مثلهم فى ما وراء ما ذكر من أحوالهم فإيراد ذكرهم على ما في سورة البقرة بين، ثم قدم ذكر الصابئين فى سورة المائدة وزيادة بيان للغرض المذكور من أنه لا ترتيب فى الغاية الأخراوية إلا بنظر آخر لا بحسب الدنياوى والاشتراك فيما قبل الموافاة بل المستجيب المؤمن من الكل مخلص والمكذب متورط ثم مراتب الجزاء بحسب الأعمال فأوضح تقديم ذكر الصابئين فى سورة المائدة ما ذكرناه فإن قلت لم لم يقدم ذكرهم على الكل؟ قلت: لا وجه لهذا لمكانة المؤمنين وشرفهم فإن قلت فهلا قدموا على يهود قلت: قد كانت يهود أولى الناس بأن يكونوا فى رعيل من

المستجيبين ومعهم جرى الكلام قبل هذا نعيا عليهم وبيانا لمرتكباهم ولعظيم ما جرى على من لم يؤمن منهم وترددت فيهم عدة آيات وذلك مما يوجب تقديم ذكرهم على من عدا المؤمنين.

فإن قلت فالنصارى مثلهم: قلت النصارى أقرب إلى الصابئين من حيث التثليث وسوء نظرهم فى ذلك وتصورهم ثم إنهم لم يجر لهم ذكر فيما تقدم هذه الآية بخلاف يهود فبان من هذه الجهة تقديم يهود عليهم وإن كان يهود شر الطائفتين.

السؤال الثانى: وهو ورود اسم الصابئين فى المائدة بالرفع والجواب عنه أنه لما ورد مرفوعا تنبيها على الغرض المذكور وتأكيدا للتسوية فى الحكم وإذا اتفقوا فى الموافاة على الإيمان فنبه التقديم على هذا كما تقدم وزاد القطع على الرفع تأكيدا لأن قطع اللفظ عن الجريان على ما قبله محرك للفظ توجيهه عند سيبويه رحمه الله مقدم من تأخير وكأنه لما ذكر حكم المذكورين سواهم قيل والصابئون كذلك أى لا فرق بين الكل فى الحكم الأخراوى وهو على هذا التقدير أوضح شئ فيما ذكر، وأما على طريقة الفراء ومن قال بقوله من حمله على الموضع ففيه التقديم وأن التحريك القطعى فى اللفظ وإن لم يكن مقطوعا فى المنعنى لا يكون إلا لإحراز معنى وليس إلا ما تقدم.

والجواب عن السؤال الثالث: إن قوله تعالى فى سورة البقرة: "فلهم أجرهم " قد تقدم فى المائدة ما يعطيه ويحرزه فاكتفى به ألا ترى أن قوله تعالى: "ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم " تفسير بين للأجر الاخراوى المجمل فى قوله تعالى فى سورة البقرة: "فلهم أجرهم عند ربهم " إلى آخر الآية فقد حصل ما فى سورة المائدة مفصلا مبينا ما ورد

ص: 44

فى البقرة مجملا فلو قيل فى آية المائدة فلهم أجرهم لكان تكرارا ورجوعا إلى الإجمال بعد التفصيل وذلك عكس ما ينبغى.

والجواب عن السؤال الرابع: أن آية سورة الحج إنما وردت معرفة بمن ورد فى القيامة على ما كان من يهودية أو نصرانية أو غير ذلك والآي الآخر فيمن ورد مؤمنا فافترق القصدان واختلف مساق الآى بحسب ذلك.

الآية السابعة عشرة:

قوله تعالى: "وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ".

وفى الآية الأخرى مما بعد: "وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا " للسائل أن يقول: إن الخطاب فى الآيتين لبنى إسرائيل وهم المخبر عنهم بما بعد والمقول لهم: "خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون " وهو بأعيانهم المقول لهم فى الآية بعد: "واسمعوا "، فما وجه تخصيص كل من الآيتين بما أعقبت به؟ وهل كان يمكن تعقيب الأولى بقوله واسمعوا وتعقيب الثانية بقوله: واذكروا ما فيه الآية؟

والجواب: أنه لا يناسب كل آية منهما إلا ما به أعقبت، ووجه ذلك أن الآية الأولى تقدم قبلها قوله تعالى:"وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان " والكتاب: التوراة وقد سمعوه وعنه قيل وإليه أشير بقوله تعالى: "خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه "، وقد زاد هذا إيضاحا قوله فى سورة الأعراف:"وإذ نتقنا فوقهم الجبل كأنه ظلة وظنوا أنهم واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة " والاشارة بالقوة إلى عظيم تخويفهم برفع الجبل فوقهم كالظلة فقوله تعالى: "خذوا ما آتيناكم " عقب ذكر كتابهم أوضح شئ وأنسبه ولما تقدم قبل الآية الثانية قوله تعالى: "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم " وهذا الكتاب هو الكتاب العزيز واليه الإشارة بقوله: "وإذ قيل لهم آمنوا بما أنزل الله " بدليل قولهم - حيدة عن إيمانهم -: "نؤمن بما أنزل علينا " قال تعالى: "ويكفرون بما وراءه " أى يكفرون بالقرآن، قال تعالى:"وهو الحق " والاشارة للقرآن: "مصدقا لما معهم أى من التوراة فلما تقدم هنا ذكر القرآن وخلف يهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلممعرضون الا القليل عن الإيمان وسماع القرآن فناسب إعراضهم عن سماعه تخصيصه هذا الموضع من المقول لسلفهم بقوله للخلف: "واسمعوا " ليكون إخبارا عن سلفهم وتعريضا لخلفهم، فوضح التناسب وأن العكس لا يناسب.

ص: 45

الآية الثامنة عشرة:

قوله تعالى: "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " وفى سورة آل عمران: "ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات " فأفرد فى البقرة الوصف وجمع فى آل عمران فقيل معدودات والجارى عليه الوصف فى السورتين قوله تعالى: "أياما " بلفظ واحد فيسأل عن موجب اختلاف الوصف فأقول: إن المجموع بالألف والتاء منحصر فى أربعة أضرب: ثلاثة متفق علها والرابع مختلف فيه.

فأما الثلاثة فكل علم لمؤنث نحو: هند ودعد، وكل ما فيه تاء التأنيث لمذكر كان أو لمؤنث عاقل أو غير عاقل نحو: طلحة وحوزة وشجرة، وكل مصغر لغير العاقل نحو دريهمات وما أشبه ذلك، فهذه الضروب الثلاثة متفق عليها وضرب رابع مختلف فيه وهو كل اسم مكبر لغير العاقل مذكرا كان أو مؤنثا لم يسمع فيه عن العرب جمع تكسير نحو حمام وحمامات وسبطر وسبطرات وجمل سبحل وسبحلات وسرادق وسرادقات وايوان وايوانات وربحل وربحلات فإن سمع من العرب شئ من هذا جمع جمع تكسير لم يجز جمعه بالألف والتاء.

قال سيبويه رحمه الله: "قالوا جوالق وجواليق فلم يقولوا جوالقات حين قالوا جواليق يعنى حين كسروا وقالوا فى المؤنث عيدات حين لم يكسروها على بناء يكسر عليه مثلها ".

ثم إن صفة كل مؤنث جارية عليه فى حكمه من التأنيث إلا أربعة أضرب وهى: فعلى وأفعل، وفعلى فعلان، وما يشترك فيه المذكر والمؤنث من الصفات كمعطار ومذكار وميناث، وما ينفرد به المؤنث كحائض وطامث، فهذه الضروب الأربعة لا يجمع شئ منها بالألف والتاء وسائر ما يجرى على المؤنث من الصفات لا يمتنع من ذلك.

ثم إن ما يجمع جمه التكسير من مذكر غير عاقل قد يتبع بالصفة المفردة مؤنثه بالتاء كما يفعل فى الخبر تقول: ذنوب مغفورة وأعمال محسوبة، وقال تعالى:"فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابى مبثوثة " ومنه قوله تعالى مخبرا عن يهود: "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة "، ثم قد يجمع هذا الضرب بالألف والتاء رعيا لمفرده وان لم يكثر الا أنه فصيح ومنه:"واذكروا الله فى أيام معدودات ".

وإذ تبين ما ذكرناه وانه الجارى الكثير مع ما وقع فى آية البقرة من الإيجاز وفى الأخرى من الاطالة ألا ترى قوله تعالى: "فى آية آل عمران: "ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات " وفى البقرة: "وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " واخباره تعالى باغترارهم

ص: 46

بقوله: "وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون "، وهذا بسط لحالهم الحامل على سوء مرتكبهم ولم يقع فى سورة البقرة تعرض لشئ من ذلك بل أوجز القول ولم يذكر سببه فناسب الإفراد الإيجاز وناسب الجمع الاسهاب ولو جمه فى سورة البقرة وأفرد فى سورة آل عمران أو أفرد فيهما أو جمع فيهما لما ناسب فورد كل على ما يناسب ويجب. والله أعلم.

الآية التاسعة عشرة:

قوله تعالى: "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم " وفى سورة الجمعة: "ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم " فيسأل عن تخصيص آية البقرة بقوله: "ولن يتمنوه " وآية الجمعة بقوله: "ولايتمنونه " مع اتحاد الاخبار؟ ووجه ذلك والله أعلم أن آية البقرة لما كان الوارد فيها جوابا لحكم أخراوى يستقبل وليس فى الحال منه إلا ما زعم مجرد واعتقاد أن الأمر يكون كذلك ناسبه النفى بما وضعه من الحروف لنفى المستقبل لأن لن يفعل جواب سيفعل، ولما كان الوارد فى سورة الجمعة جوابا لزعمهم أنهم أولياء الله من دون الناس وذلك حكم دنياوى ووصف حالى لا استقبال فيه ناسبه النفى بلا التى لنفى ما يأتى من غير اختصاص الا بغير الماضى وقد تتعاقب مع ما التى لنفى الحال.

فإن قلت: فإن ما النافية أخص بالحال فهى أنسب قلت: قد يفهم من ما نفى مجدد للحال دون ما يتصل به فقد يقول القائل: ما يقوم زيد، يريد ما يقوم اليوم ولا يريد أنه لا يقوم غدا وما صالحة لهذا المعنى وهم إنما أرادوا أنهم أولياء مستمرون على ذلك وان تلك صفتهم فى الحال وما يليه إلى آخر حياتهم إذ ذلك هو الموجب أن تكون لهم الدار الآخرة خالصة من دون الناس كما زعموا فلما كان زعمهم هذا ناسبه نفى دعواهم زتكذيب زعمهم بحرف أنص فى نفى ذلك وانه لا يقع منهم التمنى فى حالهم ولا فيما بعده أبدا.

فإن قلت: ان قوله "أبدا " قد أحرز هذا قلت: تأكيد ذلك أبلغ فنغى بلا وأكد بالتأبيد فجاء كل على أعلى البلاغة والله أعلم.

الآية الموفية عشرين: قوله تعالى: "ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذى جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا نصير " وورد فيما بعد: "ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين " وفى الرعد: "وكذلك أنزلناه حكما عربيا وائن اتبعت أهواءهم بعد الذى جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا واق ".

ص: 47

للسائل أن يسأل عما اختلف فى هذه الآى مع اتفاقها فى مطالعها ومعناها؟ والجواب عن ذلك والله أعلم بما أراد: ان الوارد فى سورة الرعد لم يتقد قبله من متكبات أهل الكتاب فى كفرهم وعنادهم مثل ما تقدم قبل الآية الأولى من سورة البقرة ألا ترى أنه لم يذكر قيل آية الرعد من أمرهم فى ذلك مفصحا به إلا قوله تعالى: "ومن الأحزاب من ينكر بعضه " على قول من قال ان المراد بالأحزاب هنا أهل الكتاب وهذا بعد مدحه من آمن منهم بقوله تعالى: "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك " وهو: عبد الله بن سلام رضى الله عنه وأمثاله ممن آمن منهم ثم اتبع بقوله تعالى: "ومن الأحزاب من ينكر بعضه " يريد - والله أعلم - ومن أحزابهم على من قال ذلك كما تقدم فلما لم يتقدم بسط ذكرهم وأوجز الكلام واكتفى بالايماء ناسبه ايجاز التحذير من حالهم فقال تعالى: "ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا واق "، فجئ "بما "وهو أوجز من "الذى "لفظا ما لم يقترن بها ما يقتضى التوسعة فى معناها حسبما يتبين بعد، وقيل:"ولا واق " وذلك أوجز من قوله فى آية البقرة: "ولا نصير " لفظا ومعنى فورد هذا كله موجزا ليناسب ما قبله ولما تقدم قبل الآية الأولى من سورة البقرة عدة آيات فى بسط أحوالهم وقبيح مرتكباتهم ولقرب ذلك إلى الآية المقصودة توجب الوارد فيها قوله تعالى عنهم: "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية " إلى قوله: "يوقنون "، ثم عرف من حال أهل

الكتابين وبعدهم عن الإيمان بقوله: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم "، فبعد هذا الاطناب فى وصفهم قال تعالى:"ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذى جاءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا نصير " وهذا مناسب لما قبله من الاطناب لفظا كما أن آية الرعد مناسبة لما قبلها لإيجاز لفظ "ما "فإنها على حرفين وأما "الذى " فعلى خمسة أحرف، ثم إن معنى نصير أوسع من حيث أن فعيلا من أبنية المبالغة فيعطى كثرة وفاعل ليس كذلك ثم إن لفظ واق أوجز فقد تبين فرقان ما بينهما وناسب الاسهاب الاسهاب والايجاز الايجاز.

ولما ذكر بعد هذه الآية من مرتكبات أهل الكتاب وعنادهم ما بسطته الآى بعد وجاء قوله بعد: "ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين " بعد إطناب زائد وتعريف بأكثر مما تقدم وردت الآية المتكررة مراعى فيها ذلك فجئ فيها بـ "من " التى للغاية أو لابتداءها والمقصود أوفى وأمعن، وجئ بـ "ما " عوضا من الذى لأنها هنا بسياقها بعد من كيف ما قدرتها من موصولية أو موصوفية

ص: 48

تعطى الاستيفاء وتقتضيه فروعى هنا معناها وروعى فيما تقدم لفظها وقوله سبحانه: "إنك إذا لمن الظالمين " يتضمن من أشد مما يتضمن نفى الولى والواقى والنصير ألا ترى قوله تعالى: "والظالمون ما لهم من الله من ولى ولا نصير ".

فقد انتفى هنا الولى والنصير مع زيادة الوصف بالظلم وليس نفى الظلم حاصلا من انتفاء الولاية والنصرة حصوله بالذكر والتنصيص فهذه الآية أبلغ من الآيتين فناسب ذلك زيادة الاطناب فيما قبلها ولشدة موقعها قدم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تنزيهه عن اتباع أهواءهم فقال: "وما أنت بتابع قبلتهم "، فقد وضح افتراق المقاصد المقاصد فى إفراد هذه الآى على الانحاء الثلاثة.

ويحتمل ذلك توجيها آخر ان ثبت أن آية الرعد من المكى وذلك أن المنزل بعد المكى زاده صلى الله عليه وسلم فى علم أحكام شريعته وغير ذلك مما لم يكن عنده فترتيب الآى الثلاث بحسب الحاصل عنده صلى الله عليه وسلم فكانت آية الرعد أوجزها مناسبة للحاصل قبل نزول سورة البقرة ثم كانت آية البقرة الأولى أبلغ فى الاسهاب لما زاد أيضا ويمكن التقاء التوجيهين وربنا أعلم بما أراد.

الآية الحادية والعشرون: قوله تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا يتى للطائفين والعاكفين والركع السجود " وفى سورة الحج: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع والسجود ".

للسائل أن يسأل عن تخصيص سورة البقرة بقوله: "والعاكفين " وتخصيص سورة الحج بقوله: "والقائمين " مع اتحاد الأمر بتطهير البيت لمن ذكر فى الموضعين.

والجواب عن ذلك والله أعلم ان المراد بالقائمين هنا ذوو الاقامة والملازمة على صفة مخصوصة وإذا أريد بالقائمين هذا فهو والعكوف مما يصح أن يعبر بأحدهما عن الآخر مع أن لفظ العكوف أخص بالمقصود فيكون خصوص آية الحج بقوله: "والقائمين " لتقدم ذكر العكوف فى قوله تعالى قبل الآية: "سواء العاكف فيه والباد "، فلما تقدم ذكر العكوف متصلا بالآية وقع الاكتفاء بذلك وعدل عن التكرار الذى من شأن العرب العدول عنه الا حيث يراد تعظيم أو تهويل نحو قوله تعالى:"الحاقة ما الحاقة " وشبه ذلك.

ولما لم يقع ذكر العكوف قبل آية البقرة ولا بعدها - وهو مراد لكونه أخص بالمقصود - لم يكن بد من الإفصاح وكأن قد قيل فى سورة الحج:

ص: 49

والقائمين معتكفين فأغنى ذكرهم متقدما عن الإتيان به حالا مبينه، وأغنى قوله فى آية البقرة:"والعاكفين " عن قوله: "القائمين " لأن العكوف الملازمة وهو المراد بالقيام فورد كل على ما يجب وينسب، وقوله:"والركع السجود " يراد به المصلون ومن قال ان المراد بقوله: "والقائمين " المصلون فوجهه أن ذكر العكوف قد حصل فيما تقدم فأكتفى به ولم يكن وقع قبل آية البقرة ولا بعدها فلم يكن بد من ذكره وعبر عن المصلين بالركع السجود وتحصل أنه المقصود فى الآيتين ووردتا على ما يجب ويلائم والله أعلم بما أراد.

الآية الثانية والعشرون: قوله تعالى: "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا " وفى سورة إبراهيم: "رب اجعل هذا البلد آمنا "، فنكر فى سورة البقرة وعرف فى سورة إبراهيم بأداة العهد فيسأل عن ذلك.

ووجهه والله أعلم أن اسم الإشارة الذى هو "هذا "فى سورة البقرة لم يقصد تبعيته اكتفاء بالواقع قبله من قوله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا "، وقوله: " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى للطائفين والعاكفين والركع السجود ....

الآية "وتعريف البيت حاصل منه تعريف البلد لا سيما بما تقدم من قول إبراهيم عند نزوله بولده بحرم الله ودعائه أولا بقوله: "ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ....

الآية "، فتعرف البيت تعريف للبلد فورد اسم الإشارة غير مفتقر إلى التابع المبين جنسه كالجارى فى أسماء الإشارة اكتفاء بما تقدمه مما يحصل منه مقصود البيان، فانتصب بلدا مفعولا ثانيا وآمنا نعتا له واسم الإشارة مفعولا أول غير محتاج إلى تابع لقيام ما تقدم مقامه ولو تعرف لفظ بلد بالألف واللام وجرى على اسم الإشارة لم يكن ليحرز بيانا زائدا على ما تحصل مما تقدم بل كان يكون كالتكرار.

فورد الكلام على ما هو أحرز للإيجاز وأبلغ فى المقصود مع حصول ما كانت التبعية تعطيه فجاء على ما يجب

وأما سورة إبراهيم فلم يتقدم فيها ما يقوم لاسم الإشارة مقام التابع النعرف بجنس ما يشار إليه فلم يكن بد من إجراء البلد عليه تابعا له بالألف واللام على المعهود الجارى فى أسماء الإشارة من تعيين جنس المشار إليه باسم جامد فى الغالب عطف بيان على قول الخليل.

أو نعتا على الظاهر من كلام سيبويه، وانتصب اسم الإشارة المتبع على أنه مفعول أول و"آمنا " على أنه مفعول ثان ولم يكن عكس الوارد ليحسن ولا ليناسب وقيل فى الوارد فى سورة البقرة أنه أشار إليه قبل استقراره {بلدا} فأراد اجعل هذا الموضع أو هذا المكان بلدا آمنا واكتفى عن ذكر الموضع بالإشارة إليه

واسم الإشارة على هذا

ص: 50

مفعول أول و"بلدا "مفعول ثان و"آمنا "نعت له، وأشار إليه فى سورة إبراهيم بعد استقراره {بلدا} فجرى البلد على اسم الإشارة نعتا له وآمنا مفعول ثان قاله صاحب كتاب الدرة وهو عندى بعيد إذ ليس بمفهوم من لفظ الآى وهو بعد ممكن والله أعلم.

الآية الثالثة والعشرون: قوله تعالى: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " وفى آل عمران: "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " وفى الجمعة: "هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة "، فقدم فى الأولى "ويعلمهم الكتاب والحكمة " وأخر "ويزكيهم " وورد فى السورتين بعد على العكس من ذلك فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك.

والجواب عنه - والله أعلم - أنه لما كانت دعوة إبراهيم عليه السلام قبل وجود الضلال فى الذرية المدعو لها وانما تحصل لهم من تزكيتهم ورفع ضلالهم المتوقع وقوعه بما يمنحونه من التعليم وما يتلى عليهم من الآيات لأن ذلك هو السبب فى حصول التزكية والسلامة من الضلال إذا وفقوا للانقياد له ألا ترى أن ارتباط التزكية بأعمال الطاعات قال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " وانما كانت تزكية لهم بانقيادهم للطاعة فيما يطالبهم به من ذلك ويأخذه منهم فتأخر ذكر التزكية المسببة عما به تحصل وذلك بعد هدايتهم للإيمان فجاء على الترتيب من بناء المسبب على سببه.

ولما كان مقصود الآيتين الأخيرتين إنما هو ذكر الامتنان عليهم بهدايتهم بعد الضلال الذى كان قد وجد منهم والتعريف بإجابة دعوة إبراهيم عليه السلام أخر ذكر تعليمهم الكتاب والحكمة المزيلين لضلالهم ليكون تلوه ذكر الضلال الذى أنقذهم الله منه بما علمهم وأعطاهم وأمتن عليهم وهو ثانى المسببين، فكان الكلام فى قوة أن لو قيل: ويعلمهم ما به زوال ضلالهم، وأخر فى هاتين الآيتين ذكر السبب ليوصل بمسببه الأكيد هنا الذى كان قد وقع وهو رفع ضلالهم من عظيم محنته ولو أخر ذكر التزكية لما أحرز هذا المعنى المقصود هنا فاختلاف الترتيب إنما هو بحسب اختلاف المقصدين ورعى ما ذكر فورد كل على ما يجب ويناسب والله أعلم بما أراد.

الآية الرابعة والعشرون: قوله تعالى: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ".

للسائل أن يسأل عن وجه تكرر هذه

ص: 51

الآية بنصها فيما بعد؟ ووجه ذلك والله أعلم انهم لما تعلقوا بأسلافهم ممن كان على سنة إبراهيم واسماعيل ومن كان فيهم من الأنبياء عليهم السلام وظنوا أن تعلقهم بهم نافع لهم قيل لهم لن ينفعكم الا عملكم وأما التعلق بأولئك من غير اقتداء بهم ولا اهتداء بهديهم فليس بنافع بل لهم أعمالهم ولكم أعمالكم "تلك أمة قد خلت

الآية " ثم لما قرروا على ما يعتقدونه فيهم وقيل لهم: أتقولون إنهم كانوا على كذا، ليسوا على ما ظننتم أأنتم أعلم أم الله؟ فهل أظلم منكم إذ قد علمتم تحريفكم واجترامكم؟ وبعد هذه فكل مطلوب بنفسه وما اجترحه: "تلك أمة قد خلت

الآية ".

فتكريرها لتنوع ما نص عليه من مرتكباتهم الدائرة على جامع واحد من تخيل التعلق بهم مع مخالفتهم فيما كانوا عليه وسنزيد هذا بيانا ان شاء الله.

الآية الخامسة والعشرون: قوله تعالى: "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم " وفى سورة آل عمران: "قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم ".

فى هذه ثلاث سؤالات: قوله "قولوا آمنا بالله " وفى الثانية "قل آمنا بالله "، وقوله "وما أنزل الينا " وما عدى بعده بعلى، الثالث قوله "وما أوتى النبيون من ربهم " وفى الثانية "والنبيون من ربهم "

والجواب عن الأول: إن قوله تعالى "قولوا " أمر لجميع المخاطبين المقصودين بهذا وأما قوله "قل " فأمر للنبى عليه السلام فلحق ضمير الجمع أولا لخطابهم ولم يلحق ضمير فى الثانى لإفراد الخطاب وضمير الواحد لا يبرز.

والجواب عن الثانى: إن قوله فى البقرة "وما أنزل الينا " لما قيل قبله "قولوا ".

وهو أمر للرسول ومن اتبعه على التشريك كالوارد فى قوله تعالى "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون " ثم قال "وقالوا سمعنا وأطعنا " فشرك بينهم وأخبر سبحانه أن الجميع قالوا ذلك وكذا أمر هنا جميعهم فقال "قولوا ".

وإذا كان الأمر للجميع وجرى على حقيقته فإنما أنزل إليهم لأن المنزل عليه حقيقة هو الرسول لا المؤمنون وإذا قلنا أنزل على المؤمنين فمجاز كما أنا إذا قلنا أنزل إلى

ص: 52

الرسول لم يقع موقع أنزل عليه وان كان كل منهما جائزا إلا أنا إذا اخذنا الكلام على أن لا تضمين ولا تقدير فإنما نقول: أنزل على الرسول وأنزل المؤمنين مع فصاحة أنزل إلى الرسول ووروده فى القرآن فلما قال فى سورة البقرة "قولوا " وأمر الجميع ناسبه الينا كما ورد فى قوله تعالى "وقولوا آمنا بالذى أنزل الينا وأنزل عليكم " حين خوطب الجميع ولما قال فى آل عمران "قل " وكان الخطاب للرسول ناسبه: علينا لأنه أنزل عليه فجاء كل على ما يجب.

والجواب عن السؤال الثالث: أى زيادة قوله فى البقرة "وما أوتى النبيون من ربهم " وسقوط ذلك فى السورة الأخرى ووجه ذلك أن الأمر فى البقرة لما كان للرسل وللمؤمنين ناسبه تأكيد ذكر الانزال على النبين لأن المؤمنين لا يفرقون بين أحد منهم وقد فرق غيرهم فناسب حالهم وسجل إيمانهم بالجميع تأكيد مقالهم وتثبيت اعتقادهم فقالوا "وما أوتى النبيون من ربهم " ولما كان توجه الأمر فى السورة الأخرى ببادى الخطاب من قوله "قل " خاصا به وبعد ذلك زقع التعميم ناسبه عدم التأكيد لتنزه الرسول عليه السلام حالا ومقاما عن التفريق بين أحد من الرسل.

الآية السادسة والعشرون: قوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره "، وقال بعد:"ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وانه للحق من ربك وما الله بغفل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجهك شطره " للسائل أن يسأل عن الوجه فى ما تكرر فى هذه الآيات من الأمر يالتولى وهل ذلك لحامل من المعنى أم لا؟

والجواب عن ذلك والله أعلم: إن كل قضية تكليفية إذا كانت مما يتأكد فانها ترد ملحوظة الجهات منبها على ما يحرز مطلوبها على الكمال مدفوعا عنها وان ضعفت طوارق الاحتمال اعتناء منه سبحانه بهذه الأمة لتحصيل سلامتها من الأمر المحمول على من قبلها.

ألا ترى أن بنى إسرائيل إنما لحقهم الامتحان فى أمر البقرة من جهة الاكلاق فى قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " فورد الأمر مطلقا مع ما جبلت عليه نفوسهم من التثاقل فى تلقى الطاعات من المأمورات فتابعوا لتحرير المطلوب وشددوا فشدد عليهم وهذا مما حفظت منه هذه الأمة.

ألا ترى قوله تعالى فى فرضية الصيام: "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم

ص: 53

الآيات " كيف حدد بشهر وعين بالتسمية وبين وقت الامساك بضبط طرفيه وبين لهم حال المرض وحال السفر وأمروا بتميل العدة على مأ أوضح الشرع إلى غير ذلك مما يحصل به على المطلوب فيرفع حكم الإطلاق الداخل منه الاختلاف للحتمال وكل هذا أو أكثره قبل أن يسألوا وكذا قبل أن يسألوا وكذا جرى فى أمر القبلة عند التحويل.

فقوله تعالى فى أول الأمر بالتوجه قبل البيت "فول وجهك شطر المسجد الحرام " وان كان قد تقيد بالأداة المعينة للجهة فإن فيه احتمالا أن يكون خاصا به صلى الله عليه وسلم أو عاما له ولأمته.

فإن قيل قد علم من قبله صلى الله عليه وسلم أن حكمه على الواحد حكم على الجميع وأن الخطاب له خطاب له ولأمته وذلك كله ما لم يرد تخصيص.

فجوابنا عن هذا أن الكلام فى هذه الآية ليس خاصا بمن سلم بالقواعد المستقرات من الكتاب والسنة وإنما كلامنا معتمد فيه القطع بذوى الزيغ والارتياب ممت يتعلق بما تشابه منه طعنا فى الدين واتباعا لسبيل الملحدين وشأن هؤلاء التعلق بأدنى احتمال من غير تسليم لما وراء ذلك.

وعلى هذا نقول ان قوله تعالى: "فول وجهك شطر المسجد الحرام " أمر يدفع احتمال خصوصه صلى الله عليه وسلم دون أمته بالأمر بالتولى ثم تحصل مع هذا من قوله "وحيث ما كنتم " أن ذلك لا يختص بمكان دون مكان ثم يبقى احتمال نذكره وما يزيله بعد.

وأما قوله تعالى "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام " فإعلام له صلى الله عليه وسلم بتسوية حالى الظعن والاقامة ونه خرج عن المدينة مسافرا فحاله حيث توجه كحاله فى المدينة مقيما ولم يكن هذا ليحصل نصا لا احتمال فيه مما تقدم من الامر فقد حصل من هذا ما لم يتحصل نصا مما تقدم.

وقوله بعد: "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام " هذا مما كرر لا لمجرد التوكيد وان كانت القصة لها تعلق بيهود وانكارهم التحويل فالتأكيد يلائم ولكن ذكر ليحصل منه التوكيد وبناء ما بعده عليه من قوله "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " والمراد بهذا وحيث ما كنتم من البلاد والمواضع التى خرجتم اليها حيث كانت من الارض كلها فإن قيل أن هذا قد تقدم حيث ذكر هذا اللفظ بعيه الذى هو "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " فالجواب أن ذلك محتمل أن يراد به وحيث ما كنتم من نواحى المدينة وما يرجع اليها إذ لم يتقدم ذكر الخروج عنها كما تقدم هنا

ص: 54

فارتفع بهذا التكرار ذلك الاحتمال المتقدم مع انجرار التوكيد فإن قيل فقد تكرر قوله أخيرا "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام " قلت: لما أغقب قوله أولا " ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام " بقوله تعالى "وانه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون " زجاءت هذه الآية بين آية الأمر من قوله "فول وجهك شطر المسجد الحرام " وبين ما شأنه أن يكون مبنيا عليها من قوله تعالى "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره "، فلما تباعد عنها كرر توكيدا ولينبنى عليه ما ينبغى اتصاله به وهذا كقوله تعالى "أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا ةعظاما أنكم مخرجون " فأعيدت "أنكم "تأكيدا ولينبنى عليه الخبر وكذا أعيد قوله تعالى "ومن حيث خرجت " لينبنى عليه "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ".

وبهذا اللحظ لم يتكرر شئ من الآية لمجرد توكيد بل كل مما يظن تكرارا مفيد معنى لم يحصل محرزا مما قبله ووضح التناسب فى ذلك كله والله أعلم.

الآية السابعة والعشرون: - قوله تعالى: "إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ".

وفى سورة العنكبوت: "ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ".

وفى سورة الجاثية: "واختلاف اليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ".

للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص آية العنكبوت بمن دون الأخريين وعن قوله فى سورة الجاثية: "وما أنزل الله من السماء من رزق " فسمى الماء النازل من السماء رزقا بخلاف ما فى آيتى البقرة والعنكبوت.

والجواب عن الأول: أن زيادة "من " فى قوله فى العنكبوت: "من بعد موتها " زيادة بيان وتأكيد نوسب به ما تقدم من قوله "من نزل " فإن بنية فعل للمبالغة والتكثير وذلك مما يستجر البيان والتأكيد فنوسب بينهما ولما لم يقع فى الآيتين الأخرتين إلا لفظ "أنزل " ولا مبالغة فيها ولا تأكيد ولا انجر فى الكلام ما يعطيه لم يكن فيهما ما يستدعى زيادة "من " ليناسب بها فلم تقع فى الآيتين ولو قدر ورود عكس الواقع بزيادة "من " فى آيتى البقرة والجاثية وسقوطها فى آية البقرة لما ناسب ذلك أصلا فوضح تناسب الوارد وامتناع خلافه.

والجواب عن السؤال الثانى: إن آية الجاثية لما تأخرت فى الترتيب الذى استقر

ص: 55

عليه القرآن كانت مظنة لبيان أن الرزق عن الماء قال تعالى: "ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات " وقال تعالى: "ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد "، فقال فى سورة الجاثية:"من رزق " تسمية للماء بما عنه يتسبب وتكون مبالغة فى بيان ما تقدم كما قال تعالى "وفى السماء روقكم وما توعدون ".

الآية الثامنة والعشرون: قوله تعالى: "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا " وفى سورة لقمان: "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا " فللسائل أن يسأل عن الفرق ووجه اختصاص كل من الموضعين بالواو فيه؟

والجواب: أنه لا يقال ألفى بمعنى وجد التى فى قولهم: وجدت الضالة فتتعدى إلى واحد ولا يقال ألفى بمعنى وجد التى بمعنى علم متعديا إلى اثنتين وما يقع منتصبا بعد مفعوله فى مثل قولك: ألفيت زيدا عالما فإنما انتصابه على الحال بدليل أنه لا يوجد إلا نكرة.

فوجد لفظ مشترك يقال بمعنى العلم وبمعنى العثور على الشئ والذى هو الوجدان تقول من هذا وجدت الضالة أى عثرت عليها وإذا تقرر هذا فنقول إنه قد تقدم قبل آية البقرة قوله تعالى: "يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان "، ثم قال:"إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " وخطوات الشيطان وأمره أهواء مضلة، وذلك كله فى طرف نقيض من مقتضى العلم وحصل من هذا أن الشيطان هو الذى يأمرهم ويدعوهم إلى أن يقولوا على الله ما لا يعلمون فحصل من هذا أنه لا علم عندهم ولا توهم علم، وإنهم اعتمدوا اتباع آبائهم فيما يأمر به الشيطان فناسب هذا قولهم "بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا " لأن ما ألفوا عليه آباءهم وجدان لا علم معه حاصلا ولا متوهما فناسب جوابهم ما عليه حالهم وما هم عليه ولما تقدم فى سورة لقمان قوله تعالى:"ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير " فحصل ذكر "علم " وإن كان منفيا ولأن جدالهم ينبئ أنهم توهموا أن ذلك علم وأنهم على شئ فقد حصل من مجادلتهم أنهم يظنون أنهم على علم كما قال تعالى: "يحسبون أنهم على شئ " ولا يجادل إلا متعلق بشبهة يظن أنها علم فناسبه قوله تعالى مخبرا عنهم: "بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا " لاشتراك لفظ وجد إذ يكون بمعنى العلم.

ص: 56

وجواب ثان: هو أن ألفى أكثر حروفا من وجد فناسب لفظ ألفى طول آية البقرة وناسب لفظ وجد إيجاز آية لقمان مراعاة لفظية ملحوظة فى البلاغة فحصل التناسب فى اللفظ والمعنى والله أعلم بما أراد.

الآية التاسعة والعشرون: قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم "، وجاء فى ثلاثة مواضع "وما أهل لغير الله به " أولها فى سورة المائدة:"حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به "، والثانى فى سورة الانعام:"قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به "، والثالث فى سورة النحل:"فكلوا مما رزقناكم حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ".

يتعلق بهذه الآى الأربع خمسة سؤالات: أحدها تقديم المجرور الذى هو "به " فى سورة البقرة وتأخيره فيما سواها الثانى تخصيص آية البقرة بقوله تعالى: "فلا إثم عليه "، الثالث: تخصيص آية الانعام بقوله "فإن ربك غفور رحيم "، الرابع: زيادة ما زيد فى آية المائدة من المحرمات، الخامس: تخصيص آية المائدة بقوله تعالى "فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم ".

والجواب عن الأول: أن العرب مهما اعتنت بشئ أو قصدت به قصد زيادة من تأكيد أو تشريف قدمته أو قدمت ضميره وليس من كلامهم إجراء هذه الاغراض مجرى غيرها فلكل مقام مقال ألا ترى قول قائلهم: إياك أعنى وقول مجاوبه: وعنك أعرض وأنشد سيبويه رحمه الله:

لتقربن قربا جلديا ما دام فيهن فصيل حيا

فتقديم فيهن يحرز معنى لا يحرزه التأخير وقال تعالى: "ولم يكن له كفوا أحد " وبسط هذا فى مظانه وقال تعالى: "فبذلك فليفرحوا " وقال تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين " وهو كثير فى

ص: 57

المضمرات والظروف والمجرورات ومن نحوه قوله تعالى: "وكانوا فيه من الزاهدين " وقوله تعالى: "إنى لعملكم من القالين " ولكون هذا فى صلة الموصول تكلف بعض النحويين فى تعلقه تقدير اسم فاعل يفسره ما بعد الموصول وإذا حقق رجع إلى الأول قال سيبويه رحمه الله: "كأنهم يقدمون الذى هو أهم لهم وهم ببيانه أعنى ".

وآية البقرة قد تقدم قبلها قوله تعالى: "يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض " وقوله نعالى: "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم "، فورد تعريفهم بذكر ما أبيح لهم وورد ما يقصد إيجابه وندبيته وإن كان إنما يراد بها هنا الاباحة مفتتحا بنداء المخاطبين ومعقبا فيه ما أعملوا بإباحته لهم بالأمر بالشكر الجليل تلك النعمة وعظيم التوسعة فيها من قوله تعالى:"مما فى الأرض " وقوله "من طيبات ما رزقناكم " فلتوسعة الإحسان والإنعام ما أمروا بالشكر.

فلما تحصل بهذه المقاصد الجليلة ما ليس فى شئ من تلك المواضع والآيات الأخر وخص ما ذكره بعد بما حرم عليهم بكلمة "إنما " المقتضية الحصر والرافعة لضعف المفهوم حسب ما تقرر من الأصول إذ ليس قوله "إنما الولاء لمن أعتق " مثل قوله "فيما سقت السماء العشر "، "وفى سائمة الغنم الزكاة " فى قوة المفهوم المسمى بدليل الخطاب فلما تحصل فى هذه الآية ما أشير إليه من تأكيد هذا المحرم ما ليس فى الآى الأخر ناسبه تقديم المضمر المجرور فى قوله "وما أهل به لغير الله " ليكون الكلام بتقديم المجرور بقوة أن لو قيل: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير والمهل به لغير الله وهذا مقصود الكلام ولم يكن تأخير المجرور ليحرز هذا الذى قدرناه ولا ليناسب ما تقدم فجرى الكلام كله من أول القصة إلى آخرها على أسلوب من البلاغة ملحوظ فى آخره وأوله.

أما الآى الأخر فليس

فيها ما ما فى هذه فتأخر الضمير المجرور إلى محله الذى هو موضعه إذ لم يقصد هذا القصد ولم يكن ليلائمه التقديم ولهذا المجموع وما جرى فى الآية من الإطناب الجليل أعقب هذا الكلام بقوله "فلا إثم عليه " ليناسب ما ذكر ووقع الاكتفاء فى غيرها بما فيها كل ذلك على ما يناسب وهذا هو الجواب عن السؤال الثانى.

والجواب عن السؤال الثالث: إن الله سبحانه وتعالى لما قدم فى آية الأنعام وجرى من قدم ذكره وتعنيفهم بقوله "أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ".

أتبعه بقوله " قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير " ثم قال "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك

" وهذا

ص: 58

التفات لأن الجارى على لا أجد فيما أوحى إلى أن لو قيل فإن ربى أو فإن الله فعدل الخطاب التفاتا فقيل "فإن ربك " لأن الكلام إذا تنوع حرك الخواطر إلى تفهمه فقال تعالى: "فإن ربك " ومع قصد الالتفات لم يعدل فيه عند تخصيص الخطاب لأنه موضع تعنيف وزجر لمن تقدم فورد الالتفات باسم الربوبية مع الإضافة إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم ولم يقل: فإن الله وكان يكون فيه الالتفات لما قصد فيه من نحو الوارد فى قوله: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم "، وما ورد من مثله ليكون ذلك معرفا بمكانته عليه السلام وتحكيما للإعراض عنهم وعدم التفاتهم وتناسب آخر الكلام وأوله.

والجواب عن السؤال الرابع والخامس: أن آية المائدة من آخر ما نزل فورد فيها استيفاء ما حكم سبحانه بتحريمه وإلحاقه بالميتة والدم ولحم الخنزير أعقب الكلام بقوله "فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم " تتميا لبيان حال المضطر ومظنة الاضطرار زيادة على ما ورد فى الآى الأخر ليرتفع ما عسى أن يكون باقيا فيها من إجمال أو إشكال ليجرى مع قوله "اليوم أكملت لكم دينكم ..

الآية ".

الآية الموفية ثلاثين قوله تعالى: "إن الذبن يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون "، وبعد هذه الآية بأزيد من عشرة آيات:"إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون فى بطونهم الا النار ولا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب عظيم "، وفى سورة آل عمران:"إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم فى الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ".

للسائل أن يسأل عن تخصيص آيتى البقرة بذكر الكتم بقوله فى الآيتين: "ان الذين يكتمون " وهؤلاء بالسابق من ظاهر الآية هم المذكورون فى آية آل عمران ولم يذكر من الآى الثلاث من الوعيد مع البادى من اتحاد مرتكبهم وعن تخصيص كل موضع من هذه بما ورد فيه مرتكبا وجزاء فهذه ثلاثة أسئلة.

والجواب عن الآيتين الأوليين والله أعلم أنه لما تقدم قبلهما فى السورة نفسها قوله

ص: 59

تعالى: "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ".

فنهاهم الله بسحانه ولم يجر مع هذا النهى ذكر جزاء فى هذه الآية بل تذكير ودعاء إلى ما به نجاتهم واستلطف فى الدعاء ألا ترى أنه تعالى أمرهم بسلوك طريق المتقين قال تعالى: "وأقيموا الصلاة

" إلى مابعدها فتضمن من التلطف فى الدعاء مع الايماء إلى مرتكباتهم والاضراب عما يستوجب فاعل ذلك ما يوضح للمعتبر عظيم رفقه سبحانه وجليل حلمه فلما لم يجد ذلك عليهم وكتموا بعد أن حذروا عن الكتم وردت الآية بعد معرفة بجزاء من كتم بعد أن حذر فقال تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب ....

الآية "، فذكر حال الكاتمين وجزاءهم المترتب على فعلهم من استحقاق اللعن من الله سبحانه وممن ذكر من عباده واللعن الطرد والابعاد ثم إنه سبحانه تدارك من تاب منهم وأصلح وبين بعد أن كان كتم فلما بين فى هذه الآية أمر هؤلاء أعقب فى الأخرى بعد ذكر حال المتمادين على مرتكبهم من الكتم وما زادوا إلى ذلك من اشترائهم به ثمنا قليلا وحظا من دنياهم لا خطر له وذكر ما زيدوا فى الجزاء من العقاب موازنة لزيادة المرتكب فقيل: " أولئك ما يأكلون فى بطونهم الا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم "، ولم يذكر لهؤلاء حال توبة إن تابوا لسوء المرتكب، وليس المراد أنهم لا توبة لهم ولكن عدم ذكرها أوقع فى الاغلاظ لما ذكر من سوء مرتكبهم ليجرى مع قوله تعالى: "ولا يزكيهم "، فإن التزكية تطهير من الاثم ومحوله وذلك هو الذى تثمره التوبة النصوح فلم يكن ليلائم هنا ذكر التوبة وليناسب بذلك أيضا ما عرفت به الآية بعد من حالهم الاخراوى فى قوله تعالى: "أولئك الذين استروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار "، فلما عرف بهذه الغاية من جزائهم لم يكن ليناسب

ذلك ذكر التوبة.

ووجه المراد فى هذه الآية من قوله: "أولئك ما يأكلون فى بطونهم الا النار " وتخصيصها بهذا إنما هو لما تقدم من قوله تعالى قبل هذه الآية: "يأيها الناس كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا " وقوله: "يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم "، ذكر تعالى لهؤلاء ما أحل لهم أكله وما حرم عليهم، فلما تقدم هذا أتبعه بإعلام هؤلاء الآكلين بالتحريف والتبديل بخبث مأكلهم وشنيع مشتراهم، وأنه لو كشف عن أبصارهم لرأوا أنهم إنما يأكلون نارا.

وقيل: "وفى بطونهم " لأن الأكل كأنه ضمن معنى الجعل إذ النار فى المعهود المعلوم لا تؤكل فكأن قد قيل:

ص: 60

"انما يجعلون بذلك المأكل الخبيث فى بطونهم نارا كما ورد فى قوله تعالى: "إن الذين يأكلون مال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا "، فالأكل المقصود ملفوظ به ودل عليه السياق.

وقوله: "فى بطونهم " على الجعل وكأنه من باب التضمين فدل اللفظ على ما وضع له من المعنى وعلى ما يعطيه من حيث ما يتم به المعنى ويعضده السياق.

ومن هذا النحو من دلالة اللفظ على ما تحته من المعنى وعلى غيره من معناه مما يتم المعنى ويحصل المقصود قوله تعالى: "وما نقموت منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ".

المعنى والله أعلم: وما فعلوا ذلك وما يفعلونه الا لإيمانهم ألا ترى أن "أن " فى قوله "أن يؤمنوا " من حيث أن مقتضاها الاستقبال لابد من تعلقها بفعل مناسب ولا يتعلق بالماضى فلابد من تقدير فعل مستقبل يدل عليه الماضى الملفوظ به فكأن قد قيل: ولا ينقمون الا لأجل أيمانهم، وعلى هذا هو المعنى لأن المراد تماديهم على ذلك الفعل وبذلك يحصل ذمهم على مرتكبهم ومن نحو هذا قول الشاعر [برج بن مسهر الطائى]:

وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت إذا تغورت النجوم

إنما يريد سقيت وأسقيه لأن إذا من حيث هى ظرف زمان مستقبل لا يعمل فيها الا فعل مستقبل وبذلك يتم المعنى إذ لم يرد أنه فعل ذلك مرة إذ لا يمتدح بذلك وانما يريد أن ذلك دأبه وعادته وقد شهد المعنى للمقدر من اللفظ ومن هذا قول الكندى:

تجاوزت أحراسا وأهوال معشر علي حراصا لو يشرون مقتلى

ثم قال:

إذا ما الثريا فى السماء تعرضت [تعرض أثناء الوشاح المفصل]

ولا يعمل تجاوزت فى إذا لما تقدم فالتقدير تجاوزت وأتجاوز حتى يعلم أن تلك عادته ودأبه وبه يحصل ما أراد وهذا كثير بديع، وفى القرآن منه كثير، وقد خرج من الكلام وحصل الجواب عن السؤالين.

والجواب عن السؤال الثالث: أن آية عمران إنما وردت فى مرتكب مخصوص غير الكتم وقد يكون من غير الكاتمين وإن كان أنسب لحالهم وجرى مع مرتكبهم فهو يقع منهم ومن غيرهم انفرد هذا المرتكب الشنيع بما توعدوا عليه، ولكونه أجرى فى مرتكبات من قدم فى آيتى البقرة اشتد فيه الوعيد، واتبعت الآية بما يشعر أتهم الأهلون لهذا المرتكب فقال تعالى: "وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب

ص: 61

وما هو من الكتاب ....

الآية "، فليهم أسنتهم من ضرب الكتم وبالجملة فالآية مرتبطة بما يفصلها عن آيتى البقرة ومناسبتها موضعها بين لما تقدمها من قوله: "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومن من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك الا ما دمت عليه قائما "الى ما يتلو هذا فخصوص هذه الآية بموضعها أوضح شئ وكل من هذه الآيات جار على أوضح مناسبة والله أعلم.

الآية الحادية والثلاثون: قوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها " وفيما بعد من هذه السورة: "تلك حدود الله فلا تعتدوها ".

للسائل أن يسأل عن الفرق الموجب لقوله فى الأولى: "فلا تقربوها " وفى الثانية: "فلا تعتدوها ".

وقد يجاب عن هذا والله أعلم بأن يقال: أن النهى عن مقاربة الشئ عنوان على تأكيد التحريم وتغليظه ولما كان قرب المساء بالمباشرة بالأجساد وما يجارى ذلك داعيا إلى المواقعة، وقل من يملك فى ذلك نفسه ويغلب هواه ولهذا قالت عائشة رضى الله عنها: "وأيكم يملك أربه ..

الحديث "، والمقصود منعه فى أمثال هذه المواطن إنما هو الجماع وهو مؤكد التحريم نهى عما هو أقرب شئ وأدعاه إليه تحذيرا من مواقعته وتعريفا بتأكيد تحريمه، وتأمل إطراد ذلك فبما يرجع إلى نحو هذا كقوله تعالى فى الحيض: "ولا تقربوهن حتى يطهرن " وانما المحرم الجماع وقال تعالى: "ولا تقربوا الزنى "، ومن هذا منع الطيب للمحرم لأنه داعية إلى الجماع ففى هذا الضرب وما يلحق به مما يراد شدة تحريمه من مآل مرتكب محرم مؤكد التحريم يرد النهى عن المقاربة وإذا نهى عن مقاربة محرم ما علم من ذلك تأكيد ذلك المحرم فأما إذا قصد بيان عام وفارق بين ما يحل ويحرم، فلا يقع النهى عن مقاربة إذ لم يقصد الا فرقان حاجز بين ما يحل ويحرم ولم يقصد بيان حال محرم ما من شدة أو خفة فإنما النهى فى مثل هذا عن تجاوز حد مضروب بين محرم ومحلل ومن هذا قوله تعالى: "الطلاق مرتان " إلى قوله تعالى: "فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " ثم قال: "تلك حدود الله فلا تعتدوها " فحصل من الآية الكريمة أنه سبحانه حرم أموالهن على الأزواج بغير حق ما لم يقع منهن نشوزا أو اباية عن القيام بما يجب عليهن أو يطلبن به من حقوق الأزواج واقامة الحدود فإن أبين وخيف منهن أن لا يقمن حدود الله أو خيف ذلك منهما معا برئت ذمة الرجل من الاضرار جاز له إذ ذاك ما يأخذه مما تعطيه المرأة من مالها مفتدية به قال تعالى: "فلا جناح عليهما فيما افتدت

ص: 62

به "، فليس هنا الا حلال أو حرام لا واسطة بينهما ولا ما هو مسبب للحرام قصد تحريمه لتغليظ ما يتسبب عنه مثل هذا إنما يرد النهى فيه عن الاعتداء الذى هو مجازاة ما يحل إلى ما

يحرم وتأمل الضربين يلح لك ما ذكرته وورود كل منهما على ما يجب ويناسب.

الآية الثانية والثلاثون: قوله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين " وفى سورة الاتفال: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير ".

للسائل أن يسأل عن تخصيص آية الانفال يالتأكيد الحصرى فقيل: "كله " تأكيدا ولم يرد ذلك فى آية البقرة وعن تعقيب آية البقرة بقوله: "فلا عدوان الا على الظالمين " وآية الانفال بقوله: " فإن الله بما تعملون بصير " فهذان سؤالان.

والجواب عنهما معا أن آية البقرة نزلت لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض بالظلم والتنكيل لمن آمن به صلى الله عليه وسلم وطردوهم كل مطرد فأذن الله لرسوله فى قتالهم لظلمهم إياهم فقال تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ".

وهى أول آية أنزلت فى سورة القتال وقال تعالى: "وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم " فقيد قتالهم بمن قاتلهم وقال تعالى: "ولا تعتدوا " فأكد ما تقدم من التخصيص وقال تعالى: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم " والضمير للمذكورين ويعضد ذلك ويبين خصوصه بمن ذكر قوله تعالى: "وأخرجوهم من حيث أخرجوكم " وانما أخرجهم أهل مكة وقال تعالى: "والفتنة أشد من القتل "، فأشعر بأن قتالهم جزاء على فتنتهم إياهم وأنهم قد بدؤوا المؤمنين بالفتنة كما قال:"وهم بدؤوكم أول مرة "، وفتنتهم المؤمنين فى دينهم أشد من قتال المؤمنين إياهم ثم حذر المسلمين من قتالهم عند المسجد الحرام حتى يبدأهم المشركون بذلك ثم قال:"فإن قاتلوكم " أى عند المسجد الحرام فاستحلوا حرمته فاقتلوهم فقد علموا صنع الله بمن استحل ذلك وهتك حرمة بيته فإن فعلوا فقاتلوهم عنده جزاء على فعلهم ثم قال نهاية الآية: "فإن انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين "، باستحلال قتالهم وفتنة المسلمين وتعذيبهم بحرم الله وبيته فالآية هنا واردة فى مخصوصين والكلام مقيد فلم

ص: 63

يكن ليناسبه الإطلاق والتعميم الحاصل من التأكيد بكل المحرزة للعموم زالمقتضية الاحاطة والاستغراق.

وأما آية الانفال فقد قال قبلها: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " وهذا بمقتضى اللفظ فى كل كافر ومثل هذا وإن ورد على سبب خاص فإن وروده على ذلك السبب غير مانع من دعوى العموم فيه هذا وهذا متفق عليه فى فن الاصول وقد استقر معلوما فى السريعة أن كل كافر بأى كفر كفر فانه إذا أسلم فإن إسلامه يجب ما قبله ويمحوه فلما اقتضت الآية الاستغراق والعموم ناسب ذلك التأكيد المعمم فقال تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين الدين كله لله "، ثم لما قال كان قتال عامة الكفار على أن يدخلوا فى الدين وينبذوا ما سوى دين الإسلام وكان الحاجز عن قتالهم تظاهرهم بالاسلام ونطقهم بالشهادتين وتوكل سرائرهم إلى الله أغقبت الآية بما يشير إلى ذلك فقال تعالى:"فان انتهوا " أى عن كفرهم "فإن الله بما تعملون بصير " أى لا تخفى عليه أعمالهم وليس لك أن تنقب عن قلوبهم فجرت الآية مع الحديث المفسر لها من قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دمائهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله "، فلما اختلف المقصد فى الآيتين أعقبت كل واحدة منهما بما يناسب مقصودها على ما يجب والله أعلم.

الآية الثالثة والثلاثون: قوله تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب "، وقال فى سورة آل عمران:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين "، وفى سورة براءة:" أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة " ففى البقرة وآل عمران: " أن تدخلوا الجنة " وفى براءة: " أن تتركوا " وفى سورة البقرة: " ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " وفى آل عمران وبراءة: " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " وسورة آل عمران: "ويعلم الصابرين " وفى براءة: " ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة " فهذه ثلاث سؤالات.

والجواب عن جميعها على الجملة أن وجه اختلافهما والله أعلم ورودها أعقاب

ص: 64

قصص مختلفة وقضايا متغايرة فآية البقرة واردة على ما تقدمها من خطاب المؤمنين على العموم والتسوية فى قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة " ثم حذرهم بقوله: "فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ".

الآية وأشار الواقع جوابا من قوله: "إن الله عزيز حكيم " إلى قدرته تعالى على من زل فحاد وتنكب بعد وضوح الأمر فكان الكلام فى قوة أن لو قيل بحسب أفهامنا القاصرة: فإن زللتم فحدتم وتنكبتم عن سلوك المنهج الذى أمرتم به بعد بيان الأمر فاعلموا أنه قادر على أخذكم وعقابكم لا يفوته هاربكم ولا يخرج عن قهره أحد منكم عليم بما تخفونه وتسرونه ثم ذكرهم بحال غيرهم فقال تعالى: "سل بنى إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ..

الآية "، ثم عرفهم بتزيين الدنيا للكافرين تسلية للمؤمنين فيما حف بمطلوبهم الأخروى من المكاره وأخبرهم بما لهم فى الآخرة إن صبروا واتقوا فقال: "والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة "، ثم أخبرهم بما كان الأمر عليه أولا من كون الناس أمة واحدة ثم اختلفوا فبعث الله النبيين.

الآية فلما خاطبهم بهذا كله وحصل من ذلك ومن إحالة الآى على أحوال من تقدم وإشارتها إلى ما ابتلوا به مما وضح منه صعوبة التخلص إلا بعد الصبر وتحمل المشقة مع سبقية التوفيق أعقب بقوله إشارة إلى تسلية المؤمنين فيما يصيبهم فقال: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة

الآية " فعرفهم أنه لابد من الابتلاء والاختبار: "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " وأتبع بقوله تعالى: "مستهم البأساء والضراء " إلى ما ذكر سبحانه فى قوله: "ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء " فهذه الآية أعنى آية البقرة لم يقع فيها تخصيص بغير المستجيبين المحسنين فى إجابتهم لا من وجهة اللفظ ولا من وجهة المعنى فناسبها الإطناب وذكر حال من تقدم من الأمم فى ابتلائهم.

وأما آية آل عمران فخوطب بها أهل أحد تسلية فيما أصابهم وخص فيها ذكر الجهاد والصبر ولم يقصد فى الآية أخبار بغير ذلك لأنها ترتيب واقعة مخصوصة فهذا ما انفردت به واختصت عن آية البقرة فقال تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " فلم يذكر هنا غير الجهاد والصبر.

أما آية براءة فخطاب المؤمنين ممن شاهد فتح مكة وإعلام لهم بأنهم لا يكمل

ص: 65

إيمانهم إلا بمطابقة ظواهرهم بواطنهم فى ألا يقع منهم صغو إلى غير ما بايعوا الله عليه من الإخلاص فلا يجحدون ولا يعتمدون من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين ما يعتمدونه موئلا أو مرجعا فإنه سبحانه لا يخفى عليه ما أسروه وتحوم الآية على ذم من اتصف بصفة النفاق فأظهر خلاف ما أبطن، وقد تقدم قبلها ما يدل على ذلك من قوله تعالى:"يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم " فحذر المؤمنون من هذه الصفة وعرفوا أنه لابد من ابتلائهم واختبارهم لتخلص أحوالهم وتمتاز من أحوال المنافقين وأنهم لم يتركوا دون ابتلاء واختبار ليميز الله الخبيث من الطيب وهذا من بعضهم لبعض أعنى الاطلاع بعد الاختبار والله سبحانه غنى عن هذا وعليم بما تنطوى عليه كل نفس وما تكنه الضمائر وإنما ثمرة الابتلاء والاختبار عائدة علينا ليطلع بعضنا من بعض على ما لم يكن ليطلع عليه لولا الاختبار وعلمه سبحانه لا يتوقف على ابتلائنا ولا يتجدد عليه شئ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فالمراد بالآية: أم حسبتم أن تتركوا دون اختبار يفصل بين أحوالكم وأحوال المنافقين المذكورين فيما قبل ولم تتعرض الآيتان من سورة البقرة وآل عمران لذكر نفاق بالافصاح ولا بإيماء بخلاف آية براءة فلما اختلفت المقاصد اختلفت العبارات فى مطلع الآى وختامها بحسب ذلك والله أعلم.

فتأمل اتحاد الوليجة وقوله: "والله خبير بما تعملون " وتخصيص اسمه سبحانه: "الخبير " يلح لك ما قصد بهذه الآية.

فصل: واعلم أن "أم " الواقعة فى هذه الآى هى الواردة فى قولهم: "إنها لابل أم شاء " أخبر المتكلم بهذا من العرب أنها ابل ثم لحقه الشك فأضرب عما أخبر به واستفهم عما بعد أم فكأنه قال: بل أهى شاء فمعناها الاضراب عما قبلها والاستفهام عما بعدها فلقطعها ما بعدها عما قبلها يسميها النحويون المنقطعة والمنفصلة وأما المتصلة فهى الواقعة فى العطف والوارد بعدها وقبلها كلام واحد والمراد بها الاستفهام عن التعيين لهذا تقدر بأى والمنقطعة خلافها وهى المتقدمة فى الآى وان الواقعة بعدها سادة مسد مفعولى حسبت عند سيبويه رحمه الله.

وأبو العباس [المبرد] يراها سادة مسد المفعول الواحد والثانى عند مقر ويشهد لسيبويه أن العرب لم يسمع من كلامهم نطق بما ادعاه ولو كان على ما يقوله لنطقوا به يوما ما وبسط الرد عليه فى غير هذا.

الآية الرابعة والثلاثون: - قوله تعالى: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن

ص: 66

بمعروف أو سرحوهن بمعروف " وفى سورة الطلاق: "فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ".

للسائل أن يسأل عن الفرق بين قوله " أو سرحوهن " وقوله " أو فارقوهن " واختصاص كل من الموضعين بما اختص به من ذلك.

والجواب والله أعلم أن آية البقرة قد اكتنفها النهى عن مضارة النساء وتحريم أخذ شئ منهن ما لم يكن منهن ما يسوغ ذلك من ألا يقيما حدود الله، فلما اكتنفها ما ذكر وأتبع ذلك بالمنع عن عضلهن وتكرر أثناء ذلك ما يفهم الأمر بمجاملتهن والإحسان إليهن حالى الاتصال والانفصال لم يكن ليناسب ما قصد من هذا أن يعبر بلفظ أو فارقوهن لأن لفظ الفراق أقرب إلى الاساءة منه إلى الإحسان فعدل إلى ما يحصل منه المقصود مع تحسين العبارة وهو لفظ التسريح فقال تعالى:" فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف " وليجرى مع ماتقدم من قوله تعالى: "الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان "، وقيل هنا "بإحسان " ليناسب ما به تعلق المجرور من قوله "أو تسريح " وقد روعى فى هذه الآى كلها مقصد التلطف وتحسين الحال فى المحبة والافتراق ولما لم يكن فى سورة الطلاق تعرض لعضل ولا ذكر مضارة لم يذكر ورود التعبير بلفظ "أو فارقوهن " عن الانفصال ووقع الاكتفاء فيما يراد من المجاملة فى الحالين بقوله "بمعروف " وبان افتراق القضيتين فى السورتين، وورد كل من العباراتين على ما يجب من المناسبة والله أعلم.

الآية الخامسة والثلاثون قوله تعالى: "ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر " وفى سورة الطلاق: "ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " فقال فى آية البقرة "ذلك " فأفرد الخطاب وقال "منكم " وفى آية الطلاق "ذلكم " بأداة خطاب الجميع ولم يقل "منكم ".

ووجه ذلك والله أعلم: أن آية البقرة ترتبت على تصنيف المضرين بالزوجات واحتيالهم على أخذ أموالهن بغير حق

ألا ترى إلى ما تقدمها من قوله تعالى "ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " وقوله بعد ذلك "ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " وقد بالغت الآية فى زجرهم حين قال تعالى "ولا تتخذوا آيات الله هزؤا " وهذا من أشد شئ فى تعنيف المضرين بهن ثم نهى سبحانه عن عضل النساء وهو من فعله من الضرار والاعتداء ومناسب لأخذ أموالهن لأنه

ص: 67

قطع عن قصد شرعى به قوام دينهن ودنياهن إذا نكحن من يقدرن فيه ذلك فعضلها ظلم لها، فحصل من مجموع هذا أن المنهى المتوعد عليه فى سورة البقرة أبلغ من التعدى وأسوأ فى المرتكب من الواقع عليه الزجر فى آية الطلاق، ومن المعلوم أن المطلب إذا اعتاص كانت السلامة فيه أعز وسالك طريق النجاة فيه أقل.

والخطاب وإن عم فأولى المخاطبين بأهليته والذين هم كأنهم هم المعنيون به على الخصوص إنما هم الممتثلون وكأن غير الممتثل غير داخل تحت الخطاب فعلى ذلك روعى هذا

ورد إفراد الخطاب فى البقرة فقيل "ذلك " بحرف الخطاب الذى للواحد إشارة لتقليل المستجيبين المتورعين عن الطمع فى أموال الزوجات والإضرار بهن عضلا أو احتيالا على ما لديهن وعلى هذا الرعى ورد فى هذه الآية "منكم " يشعر أن المستجيبين ليسوا الكل بما يعطيه مفهوم منكم،

ولما كان الوارد فى سورة الطلاق أخف فى المطلب وأيسر فى التكليف ترى أن الأحكام المتعلقة بالطلاق وهى التى دارت عليها آى هذه السورة كلها فروع ثوان فالسلامة فيها أيسر وسالك طريقها أكثر فناسب ذلك ورود الخطاب بالحرف الذى يخاطب به الجميع ويشملهم فقيل "ذلكم " وقيل "من كان مؤمنا " ولم يرد هنا "من كان منكم ".

لم يرد هنا إشعار بتبعيض وهو الذى يعطيه المفهوم فروعى فى كل من السورتين ما بنيت عليه القصة فى الأخرى والله سبحانه أعلم.

الآية السادسة والثلاثون: قوله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف " وفى الآية الأخرى بعد: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم " فيهما ثلاث سؤالات.

الأول: ما وجه التعريف فى قوله "بالمعروف " والتنكير فى الثانية فى قوله "من معروف "؟ والثانى: ما وجه خصوص الأول بالباء والثانى بمن؟

والثالث: ما وجه تعقيب الأولى بقوله "والله بما تعملون خبير " والثانية بقوله "والله عزيز حكيم "؟

والجواب عن الأول: أن الواقع فى الآية الأولى من قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن فى أنفسهن أربعة أشهر وعشرا " ثم قال "فإذا بلغن أجلهن " أى باستيفائهن أربعة أشهر والعشر والمراد يخرجن عند ذلك من تمام الأجل المضروب لعدتهن فهذا كله بما تقتضيه "إذا " قد أحرز أمدا محدودا معلوم القدر معروف

ص: 68

الغاية يتقيد به خروجهن فناسبه التعريف فى قوله تعالى "فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف " أن المعلوم من موجب الشرع.

وأما قوله تعالى فى الآية الأخرى "فإن خرجن " ولم يذكر بلوغ الأجل وليس التقييد الحاصل من "إن " بلوغ الأمد المضروب قبل وهو الحول مثل التقييد الحاصل من الظرف المستقبل الذى هو "إذا " إذ ليست "إن "كـ "إذا "، ألا ترى أنك تقول: أقوم إذا قام زيد فيقتضى من قيامك هذا أن قيامك مرتبط بقيامه ولا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه بل يعاقبه على الاتصال وأما إذا قلت: أقوم إن قام زيد فأقصى ما يقتضى هذا أن قيامك بعد قيامه وقد يكون عقبه وقد يتأخر عنه فإنما يحصل من "أن " التقييد بالاستقبال دون اقتضاء تعقيب أو مباعدة فحصل فى ظاهر اللفظ إبهام من جهتين:

إحداهما كون الأجل لم يذكر بلوغه والثانية ما تقتضيه "إن " على ما بين فناسبه التنكير فى قوله "من معروف ".

فإن قيل: الحول المذكور فى قوله تعالى فى أول الآية "متاعا إلى الحول " معلوم التوقف وهو كأن الأجل المضروب لهن فى العدة قبل أن ينسخ الأربعة أشهر والعشر وقد اتصل بقوله "فإن خرجن " قوله "فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن " وذلك منبئ أعنى قوله "فلا جناح عليكم " برفع الحرج وأنهن لم يقع منهن معصية فى الخروج وإنما ذلك لخروجهن عند الأمد فقد تقيد خروجهن بوقت معلوم وهو تمام الحول فارتفع الإبهام

قلت: بقى رعى المناسبة مما يتأكد التفاته فوضح ورود كل من العبارتين على مايجب من المناسبة.

وجواب ثان وهو أن قوله فى الآية الأولى "بالمعروف "المراد به الوجه الذى لا ينكره الشرع ولا يمنعه ولهذا وصل الفعل ههنا بالباء والإحالة على متقرر معلوم وهو الشرع فورد معرفا بأداة العهد وعدى "فعلن " بالباء ثم جاءت الآية الثانية لتأخرها فى التلاوة مشيرة إلى تفصيل ما يفعلن فى أنفسهن من التزين والتعرض للخطاب وما يجارى ذلك من معروف مما ليس بمنكر شرعا والتنكير هنا محرز للمعنى المقصود ومن للتبعيض وهو تفسير وكأن قد قيل فى الوجه المباح لهن الذى لا يمنعه الشرع فجووب بتفصيل مشير إلى أنه ليس وجها واحدا لا يتعدينه بل لهن أن يتزين ويتعرض للخطاب ويفصحن بما يطلبنه من صداق وغير ذلك من مصالحهن المباحة لهن شرعا فهذا موضع من وموضع التنكير والأول موضوع الباء والتعريف بحسب ما قصد فى كل من الموضعين على ما تقدم وقد وضح جواب السؤالين.

والجواب عن السؤال الثالث أن تعقيب الأولى بقوله تعالى "والله بما تعملون خبير "

ص: 69

مناسب لما قبله من تأمينهن على أنفسهن فيما يلزمهن فى مدة العدة المذكورة من إحداد وما يتعلق به وفيما يفعلن بعده فإن أضمرن أو كتمن شيئا لا يجوز فعلم الله سبحانه محيط بذلك وهو الخبير به ولما وقع فى الآية بعد قوله "فإن خرجن " وقام فيه احتمال أن يخرجن غير طائعات فيستعجلن أو يتعدين ناسبه ذكر قدرته سبحانه عليهن بالمعاقبة بما شاء أو العفو عن مرتكبهن فهو العزيز الذى لا مغالب له والذى لا يفوته هارب ولا يغيب عنه شئ.

الآية السابعة والثلاثون: قوله تعالى: "مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حية " وقال تعالى فى سورة يوسف: "وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر " فالمعدود واحد والعدد واحد وقد اختلف المفسر للمعدود فورد فى سورة البقرة "سنابل " وبنيته فعائل من أبنية جمع الكثرة وفى سورة يوسف "سنبلات " وباب ما يجمع بالألف والتاء أن يكون للقيل ما لم يقتصر عليه أو يعرض عارض.

فللسائل أن يسأل عن الفرق الموجب لتخصيص كل من الموضعين بما ورد فيه؟

والجواب: أن آية البقرة مبنية على ما أعد الله للمنفق فى سبيله وما يضاعف له من أجر إنفاقه وان ذلك ينتهى إلى سبعمائة ضعف وقوله "والله يضاعف لمن يشاء " قد يفهم الزيادة على ما نص عليه من العدد كما أشارت إليه آيات وأحاديث فبناء هذه الآية على التكثير فناسب ذلك ورود المفسر على ما هو من أبنية الجموع للتكثير لحظا للغاية المقصودة ولم يكن ما وضعه للقيل فى الغالب ليناسب ما تلحظ فيه الغية من التكثير.

أما آية يوسف فإنما بناؤها على إخبار الملك عن رؤياه سبع سنبلات فلا طريق هنا للحظ كثرة ولا قلة لأنه إخبار برؤيا فوجهه الاتيان من أبنية الجموع بما يناسب المرئى وهو قليل لأن ما دون العشرة قليل فلحظ فى آية البقرة ما بعده مما يتضاعف إليه هذا العدد وليس فى آية يوسف ما يلحظ فافترق القصدان وجاء كل على ما يجب ويتاسب والله أعلم.

الآية الثامنة والثلاثون: قوله تعالى: "يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم "، وفى سورة النساء:"إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل "، وفى موضع ثان بعد:"إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما " وفى سورة الحديد: "والله لا يحب كل محتال فخور الذين يبخلون ".

ص: 70

للسائل أن يسأل فى هذه الآى عن شيئين أحدهما: ما وجه اختصاص كل آية من هذه الأربع بالوصف المذكور فيها الموجب لكونه تعالى لا يحب المتصف به؟

الثانى: ان تلك الأوصاف إذا كانت موجبة لما حكم به تعالى عليهم من أنه لا يحبهم وقد استوت فى إيجاب هذا الحكم فما وجه اختصاص آيتى النساء منها بتأكيد ذلك الحكم بأن ورود آية البقرة وآية الحديد معطوف فيهما ما ورد فى آيتى النساء مؤكدا بـ "إن " وهل ذلك لموجب يقتضيه؟.

والجواب عن الأول: أن وجه اختصاص كل آية منها بما ورد فيها من الوصف الموجب لكونه تعالى لا يحب المتصف به مناسبة كل آية منها لما تقدمها.

أما آية البقرة فإن قبلها قوله تعالى: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا "

فوصفهم بأكل الربا حتى أعقبهم ذلك تخبطهم فى قيامهم كفعل المجانين وأنهم سووا بين البيع المشروع والربا الممنوع وذلك كفر وتكذيب فوصفوا بما يقتضى المبالغة فى مرتكبهم من منع حب الله تعالى إياهم فقال تعالى: "والله لا يحب كل كفار أثيم "، وفعال وفعيل أبنية للمبالغة وهو وصف مناسب لحالهم.

وورد قبل آية النساء قوله تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم "

فأمرهم سبحانه بعبادته وتوحيده وبالإحسان إلى المذكورين فى الآية ومن الإحسان إليهم خفض الجناح ولين المقال والإنصاف بما وصف الله به من يحبهم فى قوله: "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين "، والاختلال والفخر مضاده لهذه الأوصاف الحميده مانعة منها ولا يمكن معها الإحسان المطلوب فى الآية فلهذا أعقبت بقوله تعالى:"إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا "

فان المنصف بهذا متصف بنقيض الإحسان فمناسبة هذا بينة.

وأما الآية الثانية من سورة النساء فقد تقدمها قوله تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما "، ثم قال:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم "، قدم الخائنين وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم من معاونتهم والجدال عنهم وأعقب بأنه لا يحب من اتصف بصفاتهم فقال تعالى:"إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما "، وتناسب هذا أوضح شئ.

ص: 71

وأما آية الحديد فإن قبلها قوله تعالى: "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم

الآية " فناسب هذا قوله تعالى: "والله لا يحب كل مختال فخور "

فقد وضحت مناسبة كل آية من هذه لما اتصلت به وإن كان كل آية من هذه المعقبات لا يلائمها غير ما اتصلت به والله أعلم.

وقد وضع فى هذا الجواب جواب السؤال الثانى وهو أن آية البقرة إنما ترتبت على آكلى الربا والمسوين بينه وبين البيع المشروع وهؤلاء صنف واحد ومرتكبهم واحد وأن آية الحديد ترتبت على حكم الخيلاء والفخر وذلك إذا تحقق أيضا راجع إلى الكبر فالمادة واحدة.

أما آية النساء فإن الأولى منها تقتضى بحسب من ذكر فيها واختلاف أحوالهم تفصيل المرتكب وتعداد المطلوب فيها وقد اشتملت على أمر ونهى فناسب اتباع المطلب تأكيد الخبر المترتب عليه من الجزاء فأكد بأن المقتضية تأكيد الخبر وكذلك الآية الثانية لأن خيانة النفس تنتشر مواقعها فتارك الطاعة قد خان نفسه وفاعل المعصية كذلك وأفعال الطاعة كثيرة لا تنحصر وكذلك المخالفات فناسب الكثرة التأكيد وهذا كله بخلاف آية البقرة وآية الحديد فى المرتكب فيهما كما تقدم فجاء كل على ما يناسب والله أعلم.

الآية التاسعة والثلاثون: - قوله تعالى: "لله ما فى السماوات وما فى الارض وان تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " وفى سورة آل عمران: "قل ان تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله " فتقدم فى هذه الآية ذكر الاخفاء وتأخر فى آية البقرة والحاصل من الآيتين تعريف تاعباد باحاطة علمه سبحانه بما ظهر وما بطن على حد سواء كما قال تعالى: "سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " فللسائل أن يسأل عن وجه الخلاف فى الآيتين.

والجواب عنه والله أعلم: أن ابداء الشئ واخفاء خلافه فى المعتقدات صفة المنافقين وبها امتيازهم من غيرهم من الكفرة قال تعالى: "يخفون ما فى أنفسهم ما لا يبدون لك "، وقال تعالى:"واذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا انا معكم "، وهذا كثير فى القرآن وقد أعلم سبحانه أن المنافقين هم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتوعدهم على ذلك بأليم العذاب قال تعالى:"بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "، فحذر المؤمنين من ذلك فقال: "يأيها الذين آمنوا

ص: 72

لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " وقال تعالى: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء " إلى غير هذه من الآى فلما تقرر هذا النهى وتكرر وقد تقدم آية آل عمران قوله ناهيا وزاجرا: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "، وحذر تعالى من ذلك أشد التحذير الا عند التقية فقال تعالى: "ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شئ الا أن تتقوا منهم تقاة "، ثم أتبع تعالى بتأكيد التحذير فقال: "ويحذركم الله نفسه " ثم قال: "والى الله المصير " فلما نهاهم عن المرتكب الذى امتياز المنافقين كان آكد شئ وأهمه إعلامهم بانه سبحانه يعلم ما يخفون كعلمه ما يبدون لبناء المنافقين كفرهم على ما جهلوه من عليه سبحانه بخفيات ضمائرهم والحادهم فى ذلك جهلا بما يجب لله سبحانه وتكذيبا لرسوله ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وان الله علام الغيوب فهذا وجه تقديم الاخفاء فى آية آل عمران وتأمل تقديمه فى الجارى مجرى هذه الآيات كقوله تعالى فى قصة حاطب بن أبى بلتعه رحمه الله: "تسرون إليهم بالمودة وأن أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم "

أما آية البقرة فلم يجر فيها ذكر النفاق ولا صفة أهله وانما الخطاب فيها وفى آية الدين قبلها وقيما أعقبت به بعد للمؤمنين فيما يخصهم من الاحكام فورد فيها قوله تعالى: "وان تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " مقدما فيها بادى أعمالهم بناء على سلامة بواطنهم وتنزههم عن صفة المنافقين ومنه قوله تعالى: "ما على الرسول الا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون "، فتقدم ذكر ما يبدو لأنه خطاب للمؤمنين ومنه قوله تعالى:"ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " والخطاب للمؤمنين وهذا جار مطرد فيما يلحق بهذا الضرب كما أطرد البدء بالاخفاء على الاعلان حيث يتقدم ذكر أهل الكفار أو ينتظم الكلام بذكرهم كقوله تعالى: "يعلم سركم وجهركم " بعد قوله تعالى: "ثم الذين كفروا برهم يعدلون " وكقوله تعالى: "ويعلم ما تسرون وما تعلنون " بعد قوله تعالى: "هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " وكقوله تعالى: "وان ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون " وقد تقدمها قوله تعالى: "أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون "، فاطرد ما ذكرناه فى الطرفين على رعى الإيمان والنفاق وجاء كل على ما يناسب والله أعلم.

ص: 73

الآية الموفية أربعين: وهى من تمام ما قبلها

قوله تعالى: "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وفى سورة آل عمران: "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وفى المائدة قوله تعالى: "وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وفى سورة الفتح: "ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " فورد فى هذه الآى الأربع تقديم الغفران وتأخير التعذيب وورد فى سورة المائدة: "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء " بتقديم التعذيب وتأخير المغفرة على خلاف ما ورد فى الآى الأربع المذكورة.

فللسائل أنه يسأل عن ذلك.

والجواب عنه والله أعلم أن هذه الآية لما تقدمها قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الحياة الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " ثم بعد ذلك قوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم "، فقدم فى هاتين القصتين من خبر المحاربين والسارقين أمر تعذيبهم جزاء على فعلهم ثم ذكر المغفرة لهم إن تابوا وأتبع ذلك بقوله تعالى: "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض

الآية " وبناؤها على ما تقدمها قبلها ويليها كما تبن فقدم ذكر العذاب على المغفرة لمناسبته لما اتصلت به وبقيت عليه.

وأما الآى الأربع فلم يقع قبل شئ منها ذكر الواقع فى سورة المائدة وإنما تقدمها ما يفهم قوة الرجاء لمن أحسن وأناب كقوله تعالى فى آية البقرة: "وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه " والخطاب للمؤمنين وورد قبل الآية الثانية من الأربع قوله تعالى: "ليس لك من الأمر شئ "، وقبل الثالثة:"وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه "الى قوله تعالى: "بل أنتم بشر ممن خلق "، وفى هذا وإن كان خطابا لأهل الكتابين تنبيه لهم وأنهم إن أسلموا وأنابوا لربهم رجوا عفوه ومغفرته وقبل الآية قوله تعالى: "إن الذين يبايعونك إنما

ص: 74

يبايعون الله "، ولم يخرج الكلام إلى غير هذا من تعريف نبيه صلى الله عليه وسلم بعلي حاله وما منحه والإعلام بحال المخلفين من الأعراب وما جرى فى ظنهم وكل ذلك تثبيت للمؤمنين ومنبئ بما تعقبهم الاستجابة لله ولرسوله ثم أتبع ذلك بالإعلام بأنه سبحانه المالك للكل والمتصرف فيهم بما يشاء فقال تعالى: "ولله ملك السماوات والأرض " وأفهم ذلك أن فعل المخلفين من الأعراب غير خارج عما أراده وقدره وأن مخالفتهم لا تضره تعالى وأنها صادرة عن قضائه فناسب هذه الأربع بجملتها تقديم ذكر المغفرة وجاء كل على ما يناسب والله أعلم.

ص: 75