الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة آل عمران
الآية الأولى منها: قوله تعالى: "نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه "، ثم قال:"وأنزل التوراة والإنجيل "، فليسأل عن تخصيص الكتاب بلفظ "نزل " المضعف وتخصيص التوراة والإنجيل بلفظ "أنزل "؟
والجواب عن ذلك أن لفظ نزل يقتضى التكرير لأجل التضعيف تقول ضرب مخففا لمن وقع ذلك عليه مرة واحدة ويحتمل الزيادة والتقليل أنسب وأقوى.
أما إذا قلنا ضرب بتشديد الراء فلا يقال الا لمن كثر ذلك منه فقوله تعالى: "نزل عليك الكتاب " مشير إلى تفصيل المنزل وتنجيمه بحسب الدعاوى وأنه لم ينزل دفعة واحدة أما لفظ أنزل فلا يعطى ذلك إعطاء نزل وان كان محتملا وكذا جرى فى أحوال هذه الكتب فإن التوراة إنما أوتيها موسى صلى الله عليه وسلم جملة واحدة فى وقت واحد وهو المراد بقوله تعالى: "وكتبنا له فى الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة "الآية أى المجموع وأما الكتاب العزيز فنزل مقسطا من لدن ابتداء الوحى وقوله سبحانه وتعالى: "إقرأ باسم ربك الذى خلق " إلى آخر عمره صلى الله عليه وسلم ونزول قول الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا " وقوله تعالى: "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " ولنزوله مقسطا ما قال الكفار: "لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " فقال تعالى: "لنثبت به فؤادك " وقال تعالى: "يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله " وهو القرآن ثم قال: "والكتاب الذى أنزل من قبل " والمراد التوراة فورد ذكر التوراة فجاء كما ورد حين أفصح بذكر أسمائهم فى قوله: "نزل عليك الكتاب " ثم قال: "وأمزل التوراة والإنجيل " وحيث يذكر أحد هذه الكتب مفردا عن غيره أو بغير الألف واللام العهدية فيأتى بلفظ "أنزل " فيهما وان أريدا معا كقوله تعالى: "وما أنزل الينا وما أنزل من قبل " ومنه: "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك "، وهذا كثير فى القرآن حيث يعبر عن ذلك بما وان كانت موصولة فليس فيها من العهد
ما فى الذى وفى الألف واللام ولا وقع الافصاح باسم المنزل وهذا فرق واضح لأن ما تفارق الموصولية فتخرج إلى الابهام فلا تكون فيها عهدية أما الذى فلا تفارق ولا تخرج فالعهدية فيها لازمة وكذا
اذا ذكر أحد هذه الكتب مفردا عن غيره لم ينكر وروده بلفظ أنزل ونزل لأنهما يكونان بمعنى واحد كقوله تعالى: "الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب "، وأما حيث يجتمع ذكرهما مفصحا باسم كل واحد أو بأداة العهد كما تقدم فلا يكون الا على ما تقرر من حيث أن لفظ التضعيف أقوى من اعطاء معنى التنجيم والتفصيل كما تقدم وهذا مطرد على كثرة ما ورد منه وتكرر.
ولم يرد إنزال التوراة بالتضعيف الا فى قوله تعالى: "من قبل أن تنزل التوراة ".
وله وجه وهو أن المراد ثبوت أحكامها وتقعيدها وذلك أن بنى إسرائيل لما حرم عليهم ببغيهم وظلمهم ما حرم فى قوله تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عايهم طيبات أحلت لهم
…
الآية " وقوله تعالى: "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ..
الآية " وعرف الله سبحانه نبيه والمؤمنين بذلك أمكرت بنو إسرائيل تخصيصهم بذلك وزعموا أنهم لم يخصوا به وأنه قد كان محرما على نوح وابراهيم وكل من تقدم بنى إسرائيل من الأمة فأكذبهم الله تعالى فى ذلك وقال: "كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " أى من قبل حصولها منزلة وتقعيد حكمها وثبوتها فلما قصد معنى استقرارها وتقعيد حكمها ورد اللفظ مضعفا ليشير إلى حكم ثبوتها واستقرارها والله أعلم بما أراد ولهذا والله أعلم لم يرد من غير هذا الموضع ذكر إنزالها بالتضعيف وقد تعرض أبو الفضل بن الخطيب لقوله تعالى: "نزل عليك الكتاب
…
وأنزل التوراة والإنجيل " ووجه ذلك على ما ذكرته ثم اعترض على ذلك بقوله تعالى: "الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب " ولم يفصل وقال إنه مشكل وقد بينا أنه لا إشكال فى ذلك على ما تقعد قبل والحمد لله.
الآية الثانية: قوله تعالى: "كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب "، وفى سورة الأنفال:"كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب "، وبعدها:"كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ".
للسائل أن يسأل عن هذه الآى فى ستة مواضع: السؤال الأول: الإخبار عنهم فى
آية آل عمران وفى ثانية الأنفال بقوله "كذبوا " وقال فى الأولى من الأنفال "كفروا ".
ما وجه ذلك؟ والثانى: ما وجه اختلاف الإضافة فى كذبهم وتكذيبهم؟ ففى آل عمران "بآياتنا " وفى الأولى من الأنفال "بآيات الله " وفى الثانية "بآيات ربهم "، والثالث: قوله فى ثانية الأنفال "فأهلكناهم بذنوبهم " وفى الأخريين "فأخذهم الله بذنوبهم "، والرابع: قوله فى سورة آل عمران "والله شديد العقاب "، وفى الأولى من الأنفال "إن الله قوى شديد العقاب " ولم يرد فى الثانية هذا الوصف، والخامس: تفصيل العقاب فى ثانية الأنفال ولم يرد فى الآخريين ذلك التفصيل، والسادس: تعلق المجرور من قوله "كدأب آل فرعون " وليس هذا مما بنى عليه هذا الكتاب إلا أنه تتمة.
والجواب عن الأول: أن آية آل عمران لما تقدم قبلها ذكر تنزيل الكتب الثلاثة والإشارة إلى ما تضمنته من الهدى والفرقان وإنما أتى على من كفر بصده عنها وتكذيبه ناسب ذلك قوله تعالى: "كذبوا بآياتنا " ولما لم يقع فى سورة الأنفال من أولها إلى الآية الأولى من الآيتين ذكر شئ من الكتب المنزلة ولا ذكر إنزالها وإنما تضمنت حال المسلمين مع معاصريهم من كفار العرب ومعظم ذلك فى قتالهم وحربهم ناسب ذلك التعبير بالكفر فقال تعالى "كفروا بآيات الله " ثم لما تلتها الآية الأخرى من غير طول بينهما وقع التعبير فيها بالتكذيب فقال "كذبوا بآيات ربهم " وعدل عن لفظ كفروا لثقل التكرر مع القرب وليحصل وسمهم بالكفر والتكذيب.
والجواب عن السؤال الثانى: أن الآية الأولى من سورة الأنفال إنما جئ فيها بالاسم الظاهر فقيل "كفروا بآيات الله "، لتقدم ذكر الملائكة فى قوله "ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم " بنسبة الفعل للملائكة وتقدم أيضا " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم " ولم يتقدم فى آل عمران ذكر فعل لغير الله تعالى ولا نسبة شئ لسواه فجئ بآيات مضافة إلى ضميره تعالى فقال "كذبوا بآياته " على طريقة الالتفات وجاء فى الأنفال "كذبوا بآيات الله " بالإضافة إلى الاسم الظاهر ليعلم أن الأمر له عز وجل وأنه مريهم الآيات ولا فعل إلا له وأن الملائكة مسخرون بأمره وفعلهم من خلقه وتزيين الشيطان لهؤلاء الكفار إنما هو بقدر الله وسابق مشيئته وكل ذلك خلقه وملكه والآيات آياته وله المثل الأعلى وقيل فى الثانية "بآيات ربهم " ليجرى مع ما تقدمه متصلا به من قوله تعالى:"ذلك بأن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم " فذكر ابتداءه بالنعم فناسبه ذكر ملكيته سبحانه لهم
بقوله "بآيات ربهم " فهو المحسن والمالك ثم جرى القدر بما سبق لهم فإيراد قوله "كذبوا بآيات ربهم " مع ما تقدم أوقع فى نفوسهم وأشد فى تحسرهم وندامتهم إذا شاهدوا الأمر فعلموا أنه مالكهم وأنه ابتدأهم بالنعم فغيروا فحصل من ذلك أنهم قابلوا نعم ربهم بالكفر مع بيان الأمر ووضوحه ولو قيل: بآيات الله لما أحرز هذا المعنى المعرف بملكيته لهم والمشير لندامتهم وتحسرهم ولا خفاء بالفرق بين قول القائل لمن كفر بنعمة الله: إنما كفرت بنعمة مالك المحسن إليك ومبتديك بالنعم وبين أن لو قيل له: إنما كفرت بنعمة الله فتأمل ما بينهما ولهذا ابتدئ دعاء الخلق فى سورة البقرة إلى الإيمان بقوله: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم " إلى آخر الآية.
والجواب عن السؤال الثالث: أنه قصد فى الآية الثانية من الأنفال تفصيل عقابهم بإغراق آل فرعون وأخذ من عداهم بغير ذلك وقال "فأهلكناهم بذنوبهم " ليخالف قوله تعالى فى الآية قبل: "فأخذهم الله بذنوبهم " لاسثقال لفظ التكرار فيما تقارب ولما قصد من التفصيل وقد ضم الفريقين من المهلكين بذنوبهم والمغرقين فى قوله: "وكل كانوا ظالمين ".
وعن الرابع أن قوله تعالى فى الآية الأولى من الأنفال: "إن الله قوى شديد العقاب " مقابل به قول الشيطان لمن قدم ذكره من الكفار: "لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم " فقوبل قوله المضمحل بإسناد القوة لله عز وجل كما قال تعالى: "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا ..
الآية "، ولما لم يرد فى سورة آل عمران مثل هذا وقع الاكتفاء بقوله "والله شديد العقاب " وزيد التأكيد فى أول الأنفال بـ "إن " وزيادة اسمه سبحانه القوى لما ذكرنا آنفا من رعى التقابل.
والجواب عن السؤال الخامس ما قيل فى الجواب عن السؤال الثالث من قصد التفصيل ثم إن الوجه فى تخصيص هذا الموضع بذلك أنه آخر موضع وقع التذكير فيه بعبادة آل فرعون فى تكذيبهم وأخذهم بكفرهم والترتيب الذى استقر عليه الكتاب العزيز متوقف على الآتى به صلى الله عليه وسلم وقد بينا ذلك فى غير هذا وأن من ظن أن الترتيب من قبل الصحابة فقد غفل وذهب عما بنى عليه من جليل الاعتبار وسنذكر ذلك فى سورة القمر إن شاء الله.
والجواب عن السؤال السادس: أن الكاف متعلقة بمحذوف هو الخبر للمبتدأ
المقدر إذ التقدير دأبهم أو دأب هؤلاء أو هذا كدأب آل فرعون وما قدر الناس من التعلق بقوله: وأولئك هم وقود النار أو غير هذا من التقدير لا يرجح عند الاختبار ويضعف تقدير ذلك فى ثانية الأنفال ويتكلف فى الأولى منها ولا يحسن معه المعنى ولا يفوز وفى استقلال الجملة من قوله "كدأب آل فرعون " وعدم التعلق الإعرابى بما قبله فى جملة أخرى جزالة النظم وقوة المعنى فتأمله.
الآية الثالثة: قوله تعالى: "تولج الليل فى النهار وتولج النهار فى الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى "، وكذلك فى سورة يونس:"أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى "، وكذا فى سورة الروم وحيث وقع ورود فى سورة الأنعام:"إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى " فوقع هنا اسم الفاعل موقع الفعل وعاقبه فقال "ومخرج "فيسأل عن هذا؟
ووجه ذلك والله أعلم: أن بناء آية الأنعام على آية بنيت على اسم الفاعل وان كان خبرا وهو قوله تعالى: "إن الله فالق الحب والنوى " ثم أعقب ذلك بقوله "فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا "، فلما اكتنفت الآية أسماء فاعلين جئ فيها باسم الفاعل فى قوله "ومخرج الميت من الحى " ليناسب ذلك فعطف "ومخرج " على "فالق " إذ هو معطوف على ما عطف عليه فهو معطوف عليه ثم جئ بعد باسم فاعل وهو قوله تعالى:"فالق الإصباح " فتناسب هذا ولم يقع فى الأخر المتضمنة إخراج الحى من الميت والميت من الحى مثل هذا فلذلك لم يعدل إلى اسم الفعل والله سبحانه أعلم.
فإن قلت فما بال قوله يخرج الحى من الميت فى هذا الموضع ورد بالفعل وقد اكتنفه قوله: "فالق الحب والنوى ومخرج الميت من الحى ".
وهما اسما فاعلين؟
فالجواب عن ذلك ما قاله الزمخشرى قال: "موقع قوله "يخرج الحى من الميت " موقع الجملة المبينة لقوله "فالق الحب والنوى " لأن فلق الحب والنوى بالنبات والثمر اليابس من جنس إخراج الحى من الميت لأن اليابس فى حكم الحيوان ألا ترى قوله "يحيى الأرض بعد موتها "، انتهى قوله، ذكر هذا عقب قوله "ومخرج الميت من الحى " أنه معطوف على فالق الحب والنوى كما تقدم وهذا من حسناته.
الآية الرابعة: قوله تعالى: "ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير " ث
م قال فى الآية الأخرى بعد: "ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ".
للسائل أن يسأل عن وجه تعقيب الأولى بقوله: "والى الله المصير " وتعقيب الثانية بقوله: "والله رؤوف بالعباد ".
والجواب عن ذلك والله أعلم أنه لما تقدم قبل الأولى قوله تعالى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " فنهاهم سبحانه عن ذلك ثم أردف بالتحذير بقوله: "ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شئ " ثم استثنى سبحانه من ذلك حال التقاة فقال: "إلا أن تتقوا منهم تقاة " ثم قال: "ويحذركم الله نفسه - أى عذابه - وإلى الله المصير - أى ومرجعكم إليه فلا يفوته هارب فهذا كلام ملتحم جليل النظم والتنضيد ثم أتبع هذا بإعلامه أنه سبحانه لا يخفى عليه شئ مما أكنوه أو أظهروه فقال: "قل إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما فى السماوات وما فى الأرض والله على كل شئ قدير "، فأعلم فيها بعلمه المحيط بالأشياء والعلم والقدرة هما القاطعان بمنكرى العودة وعلى إنكارهما بنى المنكرون حشر الأجساد شنيع مقالهم وبثباتهما اضمحل باطلهم وقد أشارت هذه الآية العظيمة إلى علمه سبحانه بالجزئيات وقدرته عليها وفى ذلك الشأن كله ولعل الكلام يعود بنا إلى مقصود هذه الآية العظيمة فنبسط من ذلك ما يشفى صدر المؤمن ويقطع بالملحدين وإن كان أئمتنا من أهل الفن الكلامى قد شفوا فى ذلك رضى الله عنهم فعرف سبحانه بالرجوع الأخروى إليه ثم أخبر بأنه لا يغادر من أفعال عباده صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فقال: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا "الآية ثم قال معيدا ومحذرا: "ويحذركم الله نفسه " وأعقب بقوله: "والله رؤوف بالعباد "، لما تقدم من التذكير والوعظ والبيان والتحذير المبنى على واضح الأمر والتبيان وذلك إنعام منه سبحانه وإحسان يستجر خوف المؤمنين العابدين، فناسبه التعقيب بذكر رأفته بعباده رفقا بهم وإنعاما وتلطفا
فقال: "والله رؤوف بالعباد "، ولم يتقدم قبل الأولى ما تقدم قبل هذه متصلا بها وانما تقدمها النهى عن موالاة الكفار والتبرى من مواليهم بالكلية فناسبه ما أعقب به وناسب هذه ما أعقبت به والله أعلم.
الآية الخامسة: قوله تعالى فى قصة زكريا عليه السلام: "أنى يكون لى غلام وقد بلغنى الكبر وامرأتى عاقر " وفى سورة مريم: "أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا " للسائل أن يسأل عن اختلاف السياق فى الآيتين مع اتحاد معناهما.
والجواب عن ذلك والله أعلم: أن المعنى وإن كان فى السورتين واحدا وفى قضية واحدة فإن مقاطع آى وسورة مريم وفواصلها استدعت ما يجرى على حكمها ويناسبها من لدن قوله تعالى فى افتتاح السورة: "ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا " إلى قوله فى قصة عيسى عليه السلام: "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا "، لم تخرج فاصلة منها عن هذا المقطع ولا عدل بها إلى غيره ثم عادت إلى ذلك من لدن قوله تعالى:"واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا " إلى آخر السورة فاقتضت مناسبة آى هذه السورة ورود قصة زكريا عليه السلام على ما تقدم ولم يكن غير ذلك ليناسب أما آية آل عمران فلم يتقيد ما قبلها من الآى وما بعدها بمقطع مخصوص فجرت هى على مثل ذلك والله أعلم.
الآية السادسة: قوله تعالى: "قال ربك اجعل لى آية " يريد والله أعلم آية على الحمل ليستعجل البشارة فقيل له: "آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " وفى سورة مريم: "آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " مع اتحاد القصة فيسأل عن ذلك.
والجواب والله أعلم: أنه لما كان الإخبار مقصودا به التعريف بمنعه الكلام ثلاثة أيام بليالهن منصوصا على ذلك حتى لا يقع احتمال أن يكون المنع فى الليالى دون الأيام أو الأيام دون الليالى، وهذا كما فى قوله تعالى:"سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " فوقع التنصيص على الوقتين ليرتفع توهم أفراد أحد الوقتين دون الآخر وكذا فى آية آل عمران بذكر الأيام ليناسب قوله "إلا رمزا " إذ الرمز ما يفهم المقصود دون نطق كالإشارة بالعين وباليد وقال مجاهد بالشفتين وكيفما كان فإنما يدرك بالعين ولما لم يذكر الرمز فى آية مريم ذكر فيها الليل.
وحصل التعريف باستيفاء الوقت الممنوع فيه الكلام وما جعل له عوضا منه وهو الرمز وزيد فى آية مريم التعريف باستواء الليالى فى ذلك فالمراد مستويات فسويا من صفة ليال انتصب على الحال أو يكون المراد لا خرس بك ولا مرض فيكون سويا حالا من الضمير فى تكلم فورد هنا سويا مناسبا للفواصل ومقاطع الآى وليس فى آية آل عمران ما يستدعى ذلك فورد كل على ما يجب ويناسب والله أعلم.
الآية السابعة: قوله سبحانه: "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا
إلى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم ما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم "، وقال فى المائدة: "وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرئ الأكمه والأبرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى ..
الآية "، للسائل أن يسأل عن تذكير الضمير وتأنيثه وعن وجه تكرير قوله تعالى: "بإذنى " فى آية المائدة مضافا إلى ضميره سبحانه فى أربعة مواضع مع وجازة الكلام وتقارب ألفاظ الآية وقد جرى هذا الغرض فى آية آل عمران فورد فيها ذلك في موضعين خاصة مضافا من اسمه سبحانه؟
والجواب عن السؤال الأول بعد تمهيد الجواز فى تذكير الضمير فى قوله "فأنفخ فيه " فى الآية الأولى وتأنيثه فى الآية الثانية "فأنفخ فيها " مع اتحاد ما يعود عليه.
فأقول وأسأل الله توفيقه: قال الزمخشرى فى الأولى: "الضمير للكاف أى فى ذلك الشئ المماثل لهيئة الطير فيكون طيرا أى فيصير طائرا كبقية الطيور، وقال فى قوله: "فتنتفخ فيها " الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التى كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه فى شئ قال وكذلك الضمير فى تكون انتهى نص كلامه وهو بين.
وبقى السؤال عن وجه تخصيص كل من الموضعين بالوارد فيه وهو مقصودنا فى هذا الكتاب، وعن وجه التكرار فى قوله تعالى فى سورة المائدة "بإذنى " فى أربعة مواضع مع وجازة الكلام وتقارب ألفاظ الآية؟
الجواب عن وجه التخصيص والله أعلم: أن الترتيب الذى استقر عليه القرآن فى سوره وآياته أصل مراعى وقد تقدم بعض إشارة إلى ذلك ولعلنا سنزيد فى بيانه إن شاء الله وعودة الضمير على اللفظ وما يرجع إليه أولى وعودته على المعنى ثان عن ذلك وكلا التعبيرين عال فصيح فعاد فى آية آل عمران على الكاف لأنها تعاقب مثل وهو مذكر فهذا لحظ لفظى ثم عاد فى آية المائدة إلى الكاف من حيث هى فى المعنى صفة لأن المثل صفة فى التقدير المعنوى فحصل مراعاة المعنى ثانيا على ما يجب كما ورد فى قوله تعالى: "ومن يقنت منكن لله ورسوله " بعودة الضمير من يقنت مذكرا رعيا للفظ "من "، ثم قال: وتعمل بالتاء رعيا للمعنى وهو كثير وقد بينا أن رعى اللفظ فى ذلك هو الأولى فجرى فى آية آل عمران على ذلك لأنها
متقدمة فى الترتيب وجرى فى آية المائدة على ما هو ثان إذ هى ثانية فى الترتيب وذلك على ما يجب.
وجواب ثان: وهو أنه قد ورد قبل ضمير آية آل عمران من لدن قوله تعالى: "وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم " إلى قوله: "فأنفخ فيه " نحو من عشرين ضميرا من ضمائر المذكر فورد الضمير فى قوله "فأنفخ فيه " ضمير مذكر ليناسب ما تقدمه ويشاكل الأكثر الوارد قبله.
أما آية العقود فمفتتحة بقوله تعالى: "اذكر نعمتى عليك " وخلقه الطائر ونفخه فيه من أجل نعمه تعالى عليه لتأييده بذلك فناسب ذلك تأنيث الضمير ولم تكثر الضمائر هنا ككثرتها هناك فجاء كل من الآيتين على أتم مناسبة.
والجواب عن السؤال الثانى: وهو تكرر قوله تعالى "بإذنى " فى آية المائدة أربع مرات مع تقارب الألفاظ؟ ووجه أن آية آل عمران إخبار وبشارة لمريم بما منح لبنها عيسى عليه السلام وبمقاله عليه السلام لبنى إسرائيل تعريفا برسالته وتحديا بمعجزاته وتبرئا من دعوى استبداد أو انفراد بقدرة فى مقاله: " أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله " إلى قوله تعالى "إن فى ذلك لآية لكم " إلى ما بعده ولم تتضمن هذه الآية غير البشارة والإعلام وأما آية المائدة فقصد بها غير هذا وبنيت على توبيخ النصارى وتعنيفهم فى مقالهم فى عيسى عليه السلام فوردت متضمنة عده سبحانه إنعامه على نبيه عيسى عليه السلام على طريقة تجارى العتب وليس بعتب تقريرا يقطع بمن وقع فى العظيمة ممن عبده ومثل ذلك فيما يجرى بيننا ولكلام الله سبحانه وتعالى المثل الأعلى قول القائل لعبده الأحب إليه المتبرئ من عصيانه: ألم أفعل لك كذا ألم أعطك كذا ويعدد عليه نعما ثم يقول: أفعل لك ذلك غيرى؟، هل أحسنت إلى فلان إلا بما أعطيتك؟، هل قهرت عدوك إلا بمعونتى لك؟ فيقصد السيد بهذا قطع تخيل من ظن أن ما كان من هذا العبد من إحسان إلى أحد أو إرغام عدو أن ذلك من قبل نفسه مستبدا به وليس من قبل سيده فإذا قرره السيد على هذا واعترف العبد بأن ذلك كما قال السيد انقطعت حجة من ظن خلافه وتوهم استقلال العبد فعلى هذا النحو والله أعلم وردت الآية الكريمة ولذلك تكرر فيها ما تكرر مع الآيات قوله تعالى:"بإذنى " وتكرر ذلك أربع مرات عقب أربع آيات مما خص به عليه السلام من خلق الطير والنفخ فيه فيحيا
وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وهى من الآيات التى ضل بسببها من ضل من النصارى وحملتهم على قولهم بالتليث تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " فأعلم الله سبحانه وتعالى أن تلك الآيات بإذنه وأكد
ذلك تأكيدا يرفع توهم حول أو قوة لغير الله سبحانه أو استبداد ممن ظنه ونزه نبيه عيسى عليه السلام عن نسبة شئ من ذلك لنفسه مستقلا بإيجاده أو ادعاء فعل شئ إلا بقدرة ربه سبحانه وإذنه وبرأه من شنيع مقالتهم.
ويزيد هذا الغرض بيانا ما أعقبت به هذا الآية من قوله تعالى: "وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهيين من دون الله
…
الآيات " فهل هذا للنصارى إلا أعظم توبيخ وتقريع والمقصود منه جواب عيسى عليه السلام بقوله فى إخبار الله سبحانه عنه: "ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق " فافتتح بتنزيه ربه ثم نفى عن نفسه ما نسبوا إليه وأتبع بالتبرى والتسليم لربه فقال: "إن كنت قلته فقد علمته " فآية آل عمران بشارة وإخبار لمريم وآية المائدة واردة فيما يقوله سبحانه لعيسى عليه السلام توبيخا للنصارى كما بينا فلما اختلف القصدان اختلفت العبارتان.
الآية الثامنة قوله تعالى: مخبرا عن عيسى عليه السلام: "إن الله ربى وربكم فاعبدوه "، وفى سورة مريم:"وإن الله ربى وربكم فاعبدوه "، فعطف الآية على ما قبلها بواو النسق وفى سورة الزخرف:"إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه " بغير حرف النسق مع زيادة الفصل بالضمير من قوله "هو " ولم يقع ذلك فى الآيتين قبل كما لم يقع العطف فى الأولى والثالثة فانفردت كل آية من الثلاث بما وردت عليه مع اتحاد المقصد فيما أعطته كل واحدة منها فللسائل أن يسأل عن ذلك؟
والجواب والله أعلم: أن آية مريم لما تضمنت مقالة عيسى عليه السلام وآية كلامه فى المهد مخبرا عن حاله النبوية وما منحه الله من الخصائص الاصطفائية فقال: "إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا " إلى ما أعقب به هذا من الخصائص الجليلة منسوقا بعضها على بعض ليبين تعداد تلك النعم إلى قوله: "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا "، فذكر ما حفظ الله عليه من كرامته فى هذه الأحوال الثلاثة البشرية وهى: حال الولادة وحال الموت
وحال البعث بعده وهذه أحوال تتنزه الربوبية عنها وتتعالى عن تجويزها عليه سبحانه وإذا صحبتها العادة لم تكن نقصا فى البشرية إذ بها امتيازها وهى من حيث الحيوانية الحادثة فصلها.
ثم لما كان من تمام إخبار عيسى عليه السلام وتعريفه بما عرف به وتكميل ما قصد به إقراره لله سبحانه بالربوبية للكل فى قوله: "وإن الله ربى وربكم فاعبدوه " وكان متصلا بما تقدم وكأن قد قال: إنى عبد الله ومخصوص منه بكذا وكذا ومعترف بانفراد خالقى بملك الكل وقهرهم وخلقهم فهو ربهم ومالكهم والمعبود الحق فلما كان الكلام من حيث معناه متصلا وقد ورد أثناءه ما يعطى بظاهره حين أخبر تعالى عنه بقوله عليه السلام: "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا "
إن كلام عيسى عليه السلام قد تم وانقضى وشرع فى قضية أخرى من التعريف بحقيقة أمر عيسى عليه السلام فقال تعالى: "ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " فورد هنا مورد الجمل التى كأنها مفصولة مما قبلها مع الحاجة إليها واتصال ما بعدها بما قبلها لك يكن بد من حرف النسق ليحصل منه أنه كلام غير منقطع بعضه من بعض ولا مستأنف بل هو معطوف على ما تقدمه من كلام عيسى عليه السلام فلم يكن بد من حرف النسق لإحراز هذا الالتحام إذ لم يكن ليحصل دون حرف النسق حصوله معه فقيل: "وإن الله ربى وربكم " وهو حكاية قول عيسى
متصلا من حيث معناه بقوله: "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " فالوجه عطفه عليه مع الحاجة إلى ما توسط الكلامين فهذا وجه ورود الواو هنا ولم يعرض فى آية آل عمران فصل بين الآية وما قبلها يوهم انقطاعا فيحتاج إلى الواو فهذا وجه دخولها فى هذه الآية والله أعلم.
وأما زيادة الضمير الفصلى فى سورة الزخرف فيحرز بمفهومه معنى ضروريا دعا إليه ما تقدم فى الآية قبله وذلك ما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى: "ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " إلى ما يتلو هذه ففى التفسير أنه لما نزل قوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الآية تعلق بها الكفار وقالوا قد عبدت الملائكة وعبد المسيح وأنت يا محمد تزعم أن عيسى نبى مقرب وأن الملائكة عباد مقربون فإذا كان هؤلاء مع آلهتنا فى النار فقد رضينا وجادلوا بهذا فأنزل الله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " وهذا مبسوط فى كتب التفسير فلما كان قد تقدم فى سورة الزخرف ذكر آلهتهم وقولهم: "
ءآلهتنا خير أم هو " يعنون المسيح ناسبه ما أعقبه به من قوله تعالى حاكيا عن المسيح عليه السلام: "إن الله ربى وربكم " فكأن قد قيل: هؤلاء غيره فأحرز "هو " هذا المعنى ولم يرد فى آية آل عمران وآية مريم من ذكر آلهتهم ما ورد هنا فلم يحتج إلى الضمير المحرز لما ذكرناه وسنورد إن شاء الله فى قوله تعالى فى سورة النجم: "وأنه أضحك وأبكى وأنه أمات وأحيا " قوله بعد: "وأنه هو أغنى وأقنى وأنه هو رب الشعرى " بإثبات هذا الضمير فى أربعة مواضع وكونه لم يثبت فى قوله: "وأنه خلق الزوجين " ولا فى قوله: "وأن عليه النشأة الأخرى " ولا فى قوله: "وأنه أهلك عادا الأولى " وتوجيه ذلك والفرق بين ما ورد فيه منها الضمير وما لم يرد فيه ما يوضح وجه وروده فى آية الزخرف وسقوطه فى الآيتين قبلها أتم إيضاح وأشفاه، ومن هذا قوله تعالى: "فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " فـ "أنت " هنا كـ "هو " فيما ذكر
ومحرزة ذلك المعنى من إفراد المشار إليه بالضمير بما حصله الخبر فتأمله فإنه بين فيما ذكرناه والله أعلم.
الآية التاسعة: قوله تعالى: "فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون "، وفى سورة المائدة:"وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " فحذفت النون من "أنا "فى آية آل عمران تخفيفا وثبتت فى آية المائدة فقيل: "أننا " مع أن التخفيف بالحذف جائز فيهما والإثبات جائز وهو الأصل فللسائل أن يسأل عن وجه تخصيص كل من الموضعين بما ورد فيه؟
والجواب عن ذلك والله أعلم أن آية المائدة لما ورد فيها التفصيل فيما يجب الإيمان به وذلك قوله: "أن آمنوا بى وبرسولى " فجاء على أتم عبارة فى المطلوب وأوفاها ناسب ذلك ورود "أننا " على أوفى الحالين وهو الورود على الأصل، ولما لم يقع إفصاح بهذا التفصيل فى آية آل عمران حين قال تعالى:"قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله " فلم يقع هنا "وبرسوله " إيجازا للعلم به وشهادة السياق ناسب هذا الإيجاز كما ناسب الإتمام فى آية المائدة الإتمام فقيل هنا: "واشهد بأنا مسلمون " وجاء كل على ما يجب ولو قدر ورود العكس لما ناسب والله سبحانه أعلم بما أراد.
الآية العاشرة: قوله تعالى: "كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق "، وفى سورة براءة:"ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " إن قيل إن الآيتين قد اتفقتا فى أن المذكورين فيهما قد وقع منهما كفر بعد إباحة وإذعان فلم عبر عنه فى آية آل عمران بالإيمان وفى آية التوبة بالاسلام؟
والجواب أن ذلك لاختلاف حال من عنى بهما وقد ذكر المفسرون أن آية آل عمران نزلت فى الحارث بن سويد الأنصارى وكان قد أسلم ثم ارتد ولحق بالكفار ثم ندم فأرسل إلى قومه ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل له من توبة فسألوا فنزلت الآية فكتبوا بها إليه فأسلم وحسن اسلامه ولم يكن فى اسلامه أولا من عرف بنفاق ولا أنه أبطن خلاف ما ظهر منه من اسلامه فكانت حاله حال إيمان وتصديق صحيح لم يظهر خلافه وذلك هو الإيمان فناسب حاله وصفه بالايمان وهو التصدي بالقلب.
أما آية التوبة فنزلت فى الجلاس حين قال فى غزوة تبوك لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمر فنمى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعاه فحلف ما قال وكان منافقا معروف النفاق يتظاهر بالاسلام ويبطن خلافه فأنزل الله فى قضيته: "يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " فقيل هنا "بعد إسلامهم " مناسبة للحال إذ الإسلام يقع فى الغالب على الانقياد فى الظاهر وقد لايكون المتصف به مصدقا بقلبه قال تعالى: "قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم ".
وروى أن الجلاس أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه فاختصاص كل آية منها بالوصف الوارد فيها بين لاختلاف الحالين وفى كل من السببين قصة ذكرها المفسرون وأهل السير.
الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: "وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "، وفى النحل:"ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ".
للسائل أن يسأل عم ورود كان الناقصة فى آية النحل وعرو آية آل عمران عنها مع اتحاد المعنى المقصود فى الموضعين لاجتماع المذكورين فيهما فى ظلمهم أنفسهم.
والجواب عن ذلك والله أعلم أن آية آل عمران إنما نزلت فى المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحاضرين عند نزول الآية فورد الاخبار مساوقا لحالهم فى وقت نزول الآية وما يلى ذلك متصلا به من الزمان فلم يكن لدخول كان التى تقتضى وقوع
الشئ فيما تقدم من الزمان معنى تحرزه وأما آية النحل فاخبار عمن تقدم زمانهم وعظ به غيرهم يبين ذلك قوله تعالى: "كذلك فعل الذين من قبلهم "، ثم قال:"وما ظلمهم الله " فالاخبار عن هؤلاء القبليين المشبه بهم من بعدهم من معاصريه صلى الله عليه وسلم فأحرزت كان هذا المعنى ولاءمت الموضع ولم تكن لتلائم آية آل عمران ولا الوارد في آية آل عمران ليناسب ما قصد فى آية النحل فجاء كل على ما يجب والله أعلم.
الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: "وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم " وفى سورة الأنفال: "وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ".
للسائل أن يسأل فيقول: مقصود الآيتين واحد فى الموضعين من حيث المعنى وهما لقوم بأعيانهم وهم أهل بدر رضى الله عنهم فما وجه زيادة "لكم " فى آية آل عمران ولم تزد فى الأخرى؟ وتقديم القلوب على المجرور هنا وتأخيرها عنه فى آية الأنفال؟ واستئناف تأكيد الإخبار بالصفتين العليتين فى سورة الأنفال بـ "إن " ولم تردا جاريتين على اسم الله سبحانه كما فى آل عمران؟ فهذه ثلاث سؤالات.
والجواب عم الأول والثانى والله أعلم: أن آية آل عمران لما تقدم فيها قوله تعالى: "ويأتوكم من فورهم " والإخبار عن عدوهم فاختلط ذكر الطائفتين وضمهما كلام واحد فجردت البشارة لمن هدى منهما وانها لأولياء الله المؤمنين فجيئ بضمير خطابهم متصلا بلام الجر المقتضية الاستحقاق فقيل "بشرى لكم " وبين أن قلوبهم هى المطمأنة بذلك فقيل "ولتطمئن قلوبكم به "، فقدمت القلوب على المجرور اعتناء وبشارة ليمتاز أهلها ممن ليس لهم نصيب.
أما آية الأنفال فلم يتقدم فيها ذكر لغير المؤمنين فلم يحتج إلى الضمير الخطابى فى لكم وأيضا فإن آية الأنفال قد تقدم قبلها قوله تعالى: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم " فأغنى عن عودته فيما بعده اكتفاء بما قد حصل مما تقدم من تخصيصهم بذلك.
والجواب عن السؤال الثالث: أن آية الأنفال تقدم فيها أوعاد جليلة كقوله تعالى: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين انها لكم " ثم قال: "ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين " ثم قال: "ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون " فهذه أوعاد علية لم يتقدم إفصاح بمثلها فى آية آل عمران فناسبها تأكيد
الوصفين العظيمين من قدرته جل وتعالى على كل شئ وحكمته فى أفعاله فقال: "إن الله عزيز حكيم "، ولما لم يقع فى آية آل عمران إفصاح بما فى آية الأنفال وردت الصفتان تابعتين دون تأكيد وجاء كل على ما يناسب ولم يكن عكس الوارد فى تعقيب الآيتين ليناسب وذلك واضح والله أعلم.
الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض ..
الآية "، وفى سورة الحديد: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ..
الآية "، والمراد فى الموضعين الحث على المبادرة إلى أفعال البر وجزيل الثواب للممتثل وقد اختلفت عبارة الأمر بذلك فى الموضعين فحذف المضاف فى الأولى وجئ فى الثانية بكاف التشبيه عوضا منه وقيل فى الأولى: "عرضها السماوات " على الجميع وأفرد فى الثانية فقيل: "عرضها كعرض السماء والأرض " فيها ثلاثة أسئلة.
والجواب عن الأول والله أعلم: أن المسارعة إلى الشئ قبل مسابقته قال تعالى: "أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون " وقد أوضحنا فى كتاب البرهان أن ترتيب السور بتوقيف على أصح المأخذين وأما ترتيب الآى فلا توقف فيه وأن ذلك كله معتمد على فيه غير ترتيب النزول، وإذا ثبت هذا فوجه تقديم لفظ "سارعوا " تقديم المسارعة ووجه تأخير سابقوا بناء المسابقة على المسارعة، ألا ترى أن المسارع إلى الشئ قد يحصل له ما سارع إليه وقد لا يحصل ولا يقال فى الغالب سبق إلا فيمن تحصل له مطلوبه هذا هو الأكثر والمسارعة متقدمة فى الرتبة قال تعالى:"أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون " وقال تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " أى ثبتت وحقت لهم وعن على رضى الله عنه: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وثنى أبو بكر وثلث عمر
…
، وقيل فى قوله تعالى:"فالسابقات سبقا " أنها الملائكة تسبق الجن [إيصال الوحى إلى الأنبياء] فلما كانت المسارعة والمسابقة على ما ذكرنا ورد المتقدم فى الترتيب أولا والمتأخر ثانيا مراعاة للترتيب.
والجواب عن الثانى: أن آية آل عمران على حذف المضاف كما تقدم أى عرضها مثل عرض السماوات والأرض وقد أفصحت آية الحديد بما يقوم مقام هذا المضاف ويحصل معناه وهو كاف التشبيه إذ معناها معنى مثل وحذف المضاف مما يكون كثيرا عند قصد المبالغة وكذا جعل الشئ نفس الشئ وهو مما يتقدم فى آية آل عمران وهو نحو قول الشاعر
[رؤبة]:
إن الربيع الجود والخريفا يدا أبى العباس والصيوفا
وهذا كثير واليه يرجع الوارد فى قولهم: نهارك صائم وليلك قائم وباب ذلك مما يقصد به المبالغة فيجعل نفس الشئ وأنشد سيبويه رحمه الله نحوا من ذلك.
أما النهار ففى قيد وسلسلة والليل فى بطن منحوت من الساج
فجعل النهار فى قيد وسلسلة وجعل الليل فى بطن منحوت من السج مبالغة وانما المجعول الشخص وقوله تعالى: "عرضها السماوات والأرض " يمكن إلحاقه بهذا القبيل وإن ظن أنه يباينه.
والجامع قصد المبالغة كأن السماوات والأرض إذا أوصل بعضها ببعض مصطفا نفس عرض الجنة ومن أبيات الكتاب:
لقد لمتنا يا أم غيلان فى السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
فنفى النوم عن الليل حين جعله نفس الشخص مبالغة كما فى البيت قبل ويمكن فى هذا كله حذف المضاف أى ذو ليل المطى وذو النهار وذو الليل.
قال الإمام [سيبويه] رحمه الله لما أنشد هذا البيت جعله للاسم ومن هذا الضرب ما يتخرج على حذف المضاف ويمتنع ما سواه نحو قوله [النابغة الجعدى]:
كأن غديرهم بجنوب سلى نعام قاق فى بلد قفار
أى كأن غديرهم غدير نعام قاق، والغدير الصوت
وتخريج آية آل عمران على هذا أوضح وكلا الضريبن يحرز المبالغة وبالجملة فقصد المبالغة فى مثل ما تقدم يستلزم فى الغالب الإيجاز إما بالحذف وإما بجعل الشئ نفس الشئ أو بتكرر لفظ يفهم بتكرره التهويل والتعظيم ويقوم مقام أوصاف وذكر أهوال كقوله تعالى: "الحاقة ما الحاقة " و"القارعة ما القارعة "، وقد ذكر
سيبويه رحمه الله هذه الضروب فى أبواب شتى لافتراقها فى أحكام تقتضى تفصيل التبويب مع اتفاقها فى ما ذكرنا وفى جرى الإيجاز فى جميعها ولما اتصل بقوله "عرضها " فى آية آل عمران وهو مبتدأ والخبر عنه مجموع فقيل "السماوات " فأفصح الجمع ما مهدناه من قصد المبالغة والتعظيم ثم أتبع ذلك ما يحرز مقصود ذلك من التعظيم والمبالغة أيضا وهو وصف من أعدت له الجنة الموصوفة ووسمهم بالمتقين وهو الذين وفوا بالإيمان وتوابعه التى بها يكمل مما ذكر فى آية "ليس البر " من لدن قوله تعالى: "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " إلى قوله "أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون "، ولم يكن قوله تعالى:"عرضها السماوات " بالجمع كقوله فى آية الحديد "كعرض السماء " فأفرد ولا قوله "أعدت للمتقين " كقوله فى آية الحديد "أعدت للذين آمنوا بالله ورسله " فلما تضمنت آية آل عمران من قصد المبالغة من هذه الجهات والقرائن التى ذكرنا ما لم تتضمن آية الحديد ناسب ذلك جعل العرض نفس السماوات والأرض من غير إفصاح بالمضاف المقدر الذى لابد منه عند بيان المعنى على ما تقدم ولما لم يقصد فى آية الحديد ذلك أفصح فيها بما يعطى معنى مثل وهى كاف التشبيه وورد كل على ما يناسب ويلائم.
فإن قيل: لم خصت آية آل عمران بما تمهد من قصد المبالغة والتعظيم دون آية الحديد قلت: لبنائها على الحض على الجهاد وعظيم فضله وذكر قصة بدر واحد من لدن قوله "وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " إلى ما بعد الآية المتكلم فيها ولما يكن فى آية الحديد شئ من ذلك ناسب كلا ما ورد فيه والله أعلم.
الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: "أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين "، وفى سورة العنكبوت:"لنبوئنهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين ".
للسائل أن يسأل عن وجه العطف فى الأولى وقوله فى الثانية: "نعم أجر العاملين " غير معطوف على ما قبله.
ووجه ذلك والله أعلم أن الآية الأولى لما وقع فيها ذكر الجزاء مفصلا معطوفا فقيل: " أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها " ناسبه أن عطفت الجملة الممدوح بها الجزاء فقيل: "ونعم أجر العاملين " ولما لم يفصل
الجزاء فى سورة العنكبوت ولا وقع فيه عطف جاءت جملة المدح غير معطوفة ليتناسب النظم والله أعلم.
الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " وفى الجمعة: "هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم ".
للسائل أن يقول: إن مقصد الآيتين الإخبار بامتنانه تعالى على العرب بأن بعث فيهم رسولا منهم ولم يكن من غيرهم ثم اختلفت العبارة فى البيان فقيل فى الأولى "من أنفسهم " وفى الثانية "منهم " فيسأل عن وجه ذلك؟
والجواب عن ذلك: أن قولك فلان من أنفس القوم أوقع فى القرب من قولك فلان منهم فإن هذا قد يراد للنوعية فلا يتخلص لتقريب المنزلة والشرف إلا بقرينة
أما "من أنفسهم " فأخص فلا يفتقر إلى قرينة ولذلك وردت حيث قصد النعريف بعظيم النعمة به صلى الله عليه وسلم على أمته وجليل إشفاقه وحرصه على نجاتهم ورأفته ورحمته بهم فقال تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم " وقال تعالى فيمن كان على الضد من حال المؤمنين المستجيبين "ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه " فتأمل موقع قوله هنا "منهم " لما قصد أنه إنعام عليهم لم يوفقوا لمعرفة قدره ولا للاستجابة المثمرة النجاة فقيل هنا "منهم " فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت " بأنه لما لم يكن رضى الله عنه من قريش وأراد عليه السلام تقريبه وتشريفه عبر بما يعطى ذلك ولا يخص خصوص قوله: من أنفسنا وإنما تخلص لحرف الخصوصية بقرينة قوله عليه السلام "سلمان منا أهل البيت " وأما قوله عليه السلام فى فاطمة " إنما هى بضعة منى "فقد تحصل فيه أتم خصوص من وجهين:
أحدهما قوله عليه السلام "منى " وهذا أخص من قوله عليه السلام "منا " فتأمله فهو مناف للشياع الداخل فى قوله "منا " والثانى قوله "بضعة " فجعلها عليه السلام جزءا منه وذلك أعلى خصوص.
وأما قوله عليه السلام "مولى القوم منهم " فالمراد منه تقريب الولاء من النسب وليس من أنفسهم وقد تقدم أن قوله "من أنفسهم " فى مقابلة "منهم " وأن "منا " دونه فى الشياع و"منى "أخص وأبعد فى الشياع فتأمل هذا ولما كان لفظ الآيتين يتناول قريشا وغيرهم من العرب ممن ليس من أهل الكتاب قيل "منهم " فناسب هذه الكناية بما فيها من الشياع الذى مهدناه عموم المؤمنين من العرب ممن أسلم ومن لم يسلم ولما قال فى آية آل عمران: "لقد من الله على المؤمنين " فخص من أسلم ناسب ذلك قوله "من أنفسهم " لخصوصه كما تقدم ولم يكن العكس ليناسب والله أعلم.
الآية السادسة عشرة:
قوله تعالى: "يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم " وفى سورة الفتح: "يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم "، للسائل أن يسأل فيقول: إن مقصود الآيتين قد اتحد لأن حاصله التعريف بأن كلا من المذكورين فى الآيتين أظهر خلاف ما أبطن فلم قيل فى الأولى "بأفواههم " وفى الثانية "بألسنتهم " مع اتحاد المعنى؟
والجواب عن ذلك والله أعلم أن قوله فى الأولى "بأفواههم " ينبئ عن مبالغة واستحكام وتمكن فى اعتقاد أو قصد لا يحصل من قوله "بألسنتهم " ألا ترى قولهم: تكلم بملء فيه حين يريدون المبالغة وقال تعالى: "اليوم نختم على أفواههم " والمراد المبالغة فى منعهم من الكلام وإذا ختم على الأفواه امتنعت الألسنة عن النطق وكان أحكم فى المنع ولما كان المراد بالآية الأولى الإخبار عن المنافقين كعبد الله بن أبى وأصحابه ممن استحكم نفاقه وتقرر فقال يوم أحد ما حكى الله تعالى من قولهم فى المخالفين لهم من الأنصار ممن أكرمه الله بالشهادة فى ذلك اليوم: "لو أطاعونا ما قتلوا " إلى ما قالوه من هذا ثم وروا عنه بقولهم لصالحى المؤمنين: "لو نعلم قتالا لاتبعناكم " فأخبر تعالى عنهم بما أكنوه من الكفر فقال تعالى: "هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم " فناسب الإبلاغ فى قوله تعالى: "بأفواههم " ما انطووا عليه واستحكم فى قلوبهم من الكفر وأما آية الفتح فإخبار عن أعراب ممن قال تعالى فيهم: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " وهؤلاء لم يستقر نفاقهم كالآخرين وإنما أخل بهم قرب عهدهم بالكفر وإن لم يتقرر الإيمان فى قلوبهم لكن لا عن نفاق كنفاق الآخرين قال تعالى مخبرا عن هؤلاء الأعراب: "سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا " فعن هؤلاء قال تعالى: "يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم "، فعبر بالألسنة إشعارا بأن حال هؤلاء ليس كحال المنافقين المقصودين فى آية آل عمران.
فلاختلاف الطائفتين
اختلفت العبارة عما صدر منهم وورد كل على ما يناسب ولم يكن عكس الوارد ليناسب والله أعلم.
الآية السابعة عشرة:
قوله تعالى: "فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير " وفى سورة الملائكة [فاطر]: "وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور "، ورد فى هاتين الآيتين المفعول المقام مقام الفاعل وهو رسل مكسر والاسم المجموع جمع تكسير يجوز فيه التذكير
والتأنيث فورد فى الآية الأولى "فقد كذب " على رعى التذكير ولم يقرأ بغيره وفى الآية الثانية "فقد كذبت " على معنى التأنيث لزوما أيضا مع وحدة اللفظ فى المرفوع المفعول وما يجوز فيه من التذكير والتأنيث فيسأل عن ذلك.
والجواب عن ذلك والله أعلم أن كلا الآيتين مراعى فيه ما يلى تابعا للمرفوع من الوصف فى الأولى وما عطف فى الثانية.
أما الأولى فقال تعالى "جاؤوا بالبينات ".
ولا يمكن هنا إلا هذا فجرى على ما هو الأصل فى جمع المذكر المكسر من التذكير فلم تلحق الفعل علامة التأنيث، وأما آية الملائكة فلحقت التاء الفعل رعيا لما عطف على الآية من قوله تعالى:"وإلى الله ترجع الأمور " فليس فى هذا إلا التأنيث سواء بنى الفعل للفاعل أو للمفعول فنوسب بين الآيتين فقيل "كذبت " على الجائز الفصيح فى تأنيث المجموع المكسر ليحصل التناسب ولا يمكن عكس الوارد فى الآيتين والله أعلم.
الآية الثامنة عشرة: قوله تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " وفى سورة لقمان: "واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " بغير لام فى خبر إن فى الآيتين وفى سورة الشورى: "ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " فزيد فى هذه الآية اللام المذكورة فى الخبر فقيل: "لمن عزم الأمور " فللسائل أن يسأل عن الفرق.
والجواب والله أعلم اختلاف ما وقع الحض على الصبر عليه فى هذه الآيات وأشير إليه بذلك وأنه من عزم الأمور أما الأولى فإن قبلها: "لتبلون فى أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " فوقع الاخبار بالابتلاء فى الأموال والأنفس وسماع الأذى ممن ذكر فعرفوا بثلاث ضروب وأمروا بالصبر عليها وهو أربعة أشياء بالتفت التفصيل فى المسموع منه الأذى واعلموا أن الصبر عليها من عزم الأمور وأما آية لقمان فأشير فيها بذلك إلى أربع خصال أمر بها لقمان لبنه وذلك قوله: "يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك " وأتبعت بقوله تعالى: "إن ذلك من عزم الأمور " والأربعة فى الآيتين من العدد القليل وأما آية الشورى فالاشارة فيها بقوله "إن ذلك " إلى اثنى عشر مطلوبا من لدن قوله تعالى: "فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا " وهذه اشارة إلى التنزه عن ذلك ثم قيل للذين آمنوا: "وعلى ربهم يتوكلون " فالاشارة إلى الإيمان والتوكل والتزام ذلك ثم قال تعالى: "والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون " فهذه التزامات
ثلاثة ثم قال: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون " فهذه التزامات أربع ثم قال: "والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون " فأشار إلى أن هؤلاء لا يظلمون أحدا وان أقصى ما يقع منهم الانتصار ممن يظلمهم وذلك مباح لهم غير قبيح وقد قيل بقوله بعد: "وجزاء سيئة سيئة مثلها " ثم عرف بحال أجل من ذلك وأعلى عملا فقال: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله " وأعلم مع علو هذا الملتزم أن المنتصر من ظلمه ما عليه من سبيل وانما السبيل إنما هو على ظالمى الناس والباغين، وبعد هذه الخصال النيفة على العشر قال تعالى فى التزام جميعها:"إن ذلك لمن عزم الأمور " فناسب كثرة هذه الخصال الجليلة زيادة اللام المؤكدة فى قوله "إن ذلك لمن عزم الأمور " ولم يكن فى الآيتين
قبلها كثرة فناسبها عدم زيادة اللام على أن ما ختمت به آية الشورى من قوله: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله " وهى الخصلة الشاهدة بكمال الإيمان للمتصف بها فلو لم يكن قبل قوله: "إن ذلك لمن عزم الأمور " غيرها لكانت بمعناها أعم من الخصال المذكورة فى آية آل عمران إذ تلك الخصال داخلة تحت هذه الخصلة الجليلة ومن منطوياتها فناسب ذلك أتم المناسبة ولم يكن العكس ليناسب والله سبحانه أعلم.