المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآية الخامسة قوله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون - ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل - جـ ١

[ابن الزبير الغرناطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌سورة أم القرآن

- ‌سورة البقرة

- ‌الآية التاسعة:

- ‌الآية الحادية عشرة

- ‌الآية الثانية عشرة:

- ‌الآية الثالثة عشرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم

- ‌قوله عز وجل: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يأت أحدا من العالمين

- ‌الآية الثالثة عشرة: وهى تمام ما قبلها:قوله تعالى: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم

- ‌قوله تعالى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم

- ‌سورة الأنعام

- ‌قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون

- ‌الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "إن هو إلا ذكرى للعالمين

- ‌الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة

- ‌الآية الموفية عشرينقوله تعالى: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل

- ‌قوله تعالى: "ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون

- ‌الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى: "كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون

- ‌الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى: "ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون

- ‌الآية السادسة والعشرون قوله تعالى: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا كذلك كذب الذين من قبلهم

- ‌الآية التاسعة والعشرون: قوله تعالى: "وأنا أول المسلمين "، وفى سورة الأعراف: "وأنا أول المؤمنين "، يسأل عن الفرق

- ‌سورة الأعراف

- ‌الآية الرابعة من سورة الأعرافقوله جل وتعالى: " وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ

- ‌الآية الخامسة قوله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون

- ‌الآية الحادية عشرة من سورة الأعرافقوله تعالى فى قصة صالح: " قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

- ‌الآية الرابعة عشرة من سورة الأعرافقوله تعالى: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ

- ‌الآية السادسة عشرة قوله تعالى: " تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ

- ‌الآية السابعة عشرة قوله تعالى: " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون

- ‌الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى: " قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌الآية الثالثة قوله تعالى: " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

- ‌سورة يونس

الفصل: ‌الآية الخامسة قوله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون

والجواب عن ذلك والله أعلم: أن المذكورين قبل آية الأعراف المقول لهم فذوقوا العذاب قد خالفت حالهم حال المذكورين فى آية الأنفال وذلك أن آية الأنفال فى قوم بأعيانهم وهم كفار قريش من أهل مكة وحالهم معلومة إنما كانوا عبدة أوثان ولم تتكرر فيهم الرسل ولا كفروا بغير التكذيب به صلى الله عليه وسلم وبتصميمهم على عبادة آلهتهم أما آية الأعراف ففى أخلاط من الأمم وأصناف من المكذبين تنوع كفرهم وتكذيبهم ضروبا من المخالفات وافتروا على الله سبحانه قال تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته

"الآية

وفيها: "قال ادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس فى النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا " ثم قال: "وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ".

فلشتى مجترحات هؤلاء واتساع مرتكباتهم وأنهم ضلوا وأضلوا ناسب ما وقع جزاؤهم عليه ذكر الاكتساب لا سيما على القول بأن الكفار مخاطبون بالفروع وهو قول حذاق الأصوليين وقول مالك رحمه الله، ولما انحصر مرتكب الأخرين فيما ذكر وكان مدار أمرهم على الكفر بما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم ناسب ما وقع جزاؤهم عليه تخصيص ايم الكفر فكل من الاطلاقين جار على ما يجب ويناسب والله سبحانه أعلم.

‌الآية الخامسة قوله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون

" وفى سورة هود: "ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون " فزيد فى هذه الآية ضمير الفصل ولم يزد فى الأولى فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك؟

وجوابه والله أعلم: أن ابتداء الإخبار فى الأعراف بحال هؤلاء الملعونين فى الآيتين هو قوله تعالى فى الأولى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " وابتداء الاخبار عنهم فى سورة هود قوله تعالى: "أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " ففى هذا اطناب وتأمل ورود الظاهر فى موضع المضمر من قوله "على الظالمين " ولم يقل عليهم، فناسب زيادة ضمير الفصل وفى آية الأعراف إيجاز ناسبه سقوطه ولو لم يكن ما بين "أن "

ص: 181

و "ألا " فإن ذلك مراعى فيما قصدناه فـ "أن "أوجز من "ألا " و"أن " هنا حرف عبارة وتفسير وهى كالواردة فى قوله: "ونودوا أن تلكم الجنة " وفى قوله "وانطلق الملأ منهم أن امشوا "، وتقع بعد ما يراد به القول وليس بلفظه وتفسر بـ "أى " وأما "ألا " فاستفتاح وكل من الموضعين على ما يجب ويناسب ولو فرض العكس لما ناسب والله أعلم.

الآية السادسة قوله تعالى: " وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ "، وفى سورة الفرقان: " وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)" وقال فى سورة الروم: " اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)"، وقال فى سورة الملائكة [فاطر]: " وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) ".

وقع فى هذه الآى اختلاف مع تشابهها فى اللفظ وتقارب مقاصدها فأول ذلك اختلاف مطالعها بورود يرسل وأرسل، الثانى وصف الرياح وإتباعها بقوله فى الأعراف والفرقان:"نشرا بين يدى رحمته " ولم يرد ذلك فى سواهما الثالث ما يكون عن إرسال الرياح ففى آية الأعراف: "حتى إذا أقلت سحابا "، وفى سورة الروم وسورة الملائكة:"فتثير سحابا " ولم يذكر ذلك فى الفرقان وفى سورة الأعراف بعد ذكر إقلال الرياح السحاب: "سقناه لبلد ميت "، وفى سورة الاملائكة:"فسقناه إلى بلد " وفى سورة الروم بعد إثارة الريح السجاب: "فيبسطه فى السماء "، "ويجعله كسفا "، وفى الأعراف:"فأنزلنا به الماء "، وفى الفرقان:"وأنزلنا من السماء ماء طهورا "" وفى الروم: "فترى الودق يخرج من خلاله " ولم يرد فى الملائكة ذكر لإنزال الماء ولا كيفيته وفى الأعراف: "فأخرجنا به من كل الثمرات "، وفى الفرقان: "لنحيى به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسى كثيرا " وفى الروم: "فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون " وفى سورة الملائكة "كذلك النشور " ولم يقع فى الأخيرتين إحالة التشبيه، وفى الأعراف "لعلكم تذكرون " ولم يقع فى سورة الأعراف مثل هذا الترجى فهذه جملة سؤالات.

والجواب عن السؤال الأول: " أن آية الأعراف لما تقدمها قوله تعالى: "إن ربكم

ص: 182

الله الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش " فذكر سبحانه ما تقرر وتحصل من خلق السماوات والأرض مما لا تكرر فيه وهما أعظم آياته وأعقب سبحانه بقوله: "ثم استوى على العرش " محمولا على ما تقرر بثم المقتضية التنبيه على جليل الحال فيما يعطف بها والتحريك للاعتبار بذلك وموقعه ورتبته حيث لا يراد مهلة الترتيب الزمانى لأن موضوع ثم فى اللسان قصد الترتيب الزمانى مع المهملة حيث يراد ذلك وقصد الترتيب الاعتنائى والتنبيه على حال ما عطف بها حيث لا يقصد زمان ولا يلحظ كقوله تعالى: "إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر " فهذا وارد مورد الدعاء على من يخاطب به البشر كما يرد التعجب والترجى وربنا المنزه عن ذلك كله ولكن خوطب البشر على ما يتعارفون ويجرى بينهم فلما قال سبحانه: "ثم استوى على العرش " فذكر ما هو تعالى عليه منزها عن الآنية والتمكن المكانى والمناسبة والحلول جل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، فلما ذكر تعالى من هذه الأفعال العظيمة ما ذكر مما لا يتكرر أعقب سبحانه بما يتكرر ويتوالى من إنعامه على الخليقة مما به قوام أحوالهم ومصالح عيشهم، فقال سبحانه: "يغشى الليل النهار " وأورد ما يتوالى بطول نواله العالم بمشيئته ويتجدد عليهم مما به قوام حالهم إلى انقضاء الأمد المحدود ومجئ اليوم الموعود واتبع هذا التعريف بما يجارى الجمل الاعتراضية حال الكلام مما يلائم ويناسب ذلك تعريفه بقوله: "ألا له الخلق والأمر "، فأعلم باعتراضه لخلق ذلك كله وتصرف أمره فى الجميع بما شاء وأخبر بتعاليه وعظمته فقال: "تبارك الله رب العالمين "، وأمر عباده بالدعاء والتضرع إليه وحذرهم وذكرهم باستصحاب الخوف وتلك حال الموقنين إذ لا يؤمن مكره ولا ييأس من روحه، ثم رجاهم بقرب رحمته ممن أحسن ثم عاد الكلام إلى التذكير بجليل المتوالى من إنعامه وعظيم ألطافه فقال: "وهو

الذى يرسل الرياح نشرا بين يدى رحمته " فانتظم آخر الكلام بأوله وارتبط عوده ببدئه وتناسب أوضح تناسب بما يفهمه الفعل المضارع من التكرر من حيث لا يمنع ذلك ولو ورد هنا بلفظ الماضى لما ناسب لما يقتضيه الانقطاع إلا لحامل والله أعلم.

وعلى هذا النحو جرى الوارد فى سورة الروم فإنه ورد قبل الآية قوله تعالى: "ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات " فذكر من آياته وإنعامه بإرسال الرياح وإجراء الفلك ليبتغى فضله ويطلب الرزق منه حال الظعن والإقامة ثم اعترض بقوله تأنيسا لرسوله ووعدا بنصره: "ولقد أرسلنا من قبله رسلا إلى قومه فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا

ص: 183

علينا نصر المؤمنين " ثم عاد الكلام إلى إتمام ما تقدم مما يرسل سبحانه به ولا جله الرياح فقال بصورة الاستئناف لأجل آية الاعتراض: "الله الذى يرسل الرياح " وأورد من النعم بها ما ذكر قبل وجاء بلفظ الاستقبال لأنه من تتميم ما تقدم وليناسبه ولو جاء بلفظ الماضى لما ناسب والله أعلم.

وأما آية الفرقان فقد تقدمها قوله تعالى: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وهو الذى جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا " فورد قبلها ذكر هذه الدلالات وواضح هذه الشواهد وقد تقيد زمان خلقها بالماضى فى خمس كرات مع أنها مما يتكرر فى الآيات ويتوالى وكذا فى مطلع السورة وما وقع بعده مما يعتبر به وليس بإخبار أخراوى فأتبع سبحانه ذلك بموافق مناسب فقال: "وهو الذى أرسل الرياح نشرا " ولم يكن ورود المستقبل هنا ليناسب فجاء على ما يجب.

وأما آية سورة الملائكة فمبنية على مطلع السورة وذلكم قوله تعالى: "الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة " و"فاطر "و "جاعل "هنا بمعنى المضى ولا يمكن فيهما غير ذلك ولم يقع بعد هذا ذكر مقصود به الاعتبار من مخلوقاته سبحانه مما نصبه دالا عليه إلا قوله: "الله الذى أرسل الرياح " فجاء ذلك مناسبا لقوله: "فاطر السماوات والأرض "و " جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة " لموافقة الفعل الماضى اسم الفاعل معنى ومناسبته ولا يناسبه المستقبل وأما ما وقع بين الآية وبين ما بنيت عليه مما ذكرنا فليس من قبيل المذكور فيه ما نصبه سبحانه دليلا للاعتبار لذوى الافتكار كخلق السماوات والأرض وإرسال الرياح فهذه المذكورات الثلاث هى المقصودة هنا للاعتبار.

أما قوله: "يزيد فى الخلق ما يشاء " إلى ما بعده إلى آية إرسال الرياح مع جليل إلتحامه بما اتصل به فليس من قبيل ما ذكرناه ولا يمنع من حمل الآية المتكلم فيها على نحو ما ذكر وجملها عليه ولا يناسب المستقبل هنا ما تقدمه مما بينا حمله عليه وأنه لا يصح حمله على غير ما ذكر والله أعلم بما أراد.

والجواب عن السؤال الثانى: إن آية الأعراف قد تقدمها قوله تعالى: "إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض " ثم قال: "ادعوا ربكم تضرعا وخفية " وقال: "وادعوه خوفا وطمعا " ثم قال: "إن رحمة

ص: 184

الله قريب من المحسنين " وفى هذا كله استلطاف وتعطف ترج ومن نحو هذا الاستلطاف ومجاريه فى قوة الترجى قوله سبحانه فى سورة الفرقان: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا

"الآية، ثم قال: "هو الذى جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا " فهذا أعظم استلطاف فناسب الوارد فى السورتين من هذا قوله تعالى عقب إرسال الرياح قوله: "نشرا بين يدى رحمته " ولما يرد فى سورة الروم ولا فى سورة الملائكة مثل ذا الاستلطاف ولا بعضه لم يتبع ذكر إرسال الرياح بما اتبع فى آيتى الأعراف والفرقان إذ لم يكن ذلك ليناسب فجاء كل على ما يجب ويناسب والله أعلم.

والجواب عن السؤال الثالث: أن آية الأعراف لما قيل فيها: "فأخرجنا به من كل الثمرات " فعم بكل وهى من نصوص ألفظ العموم ناسب ذلك ورود ما يفهم كثرة ماء السحاب إذ لا يحصل منه إخراج ما يقدر إخراجه من كل الثمرات الا بكثرته فذكر استقلال السحاب الكثير وهو الذى يعطيه قولا "ثقالا " وانما تثقل بكثرة مائها وذلك يثقلها ولا يكون استقلالها بما يثقلها من الماء الا بعد إشارتها فكأن قد قيل: أثارت الرياح السحب فأثقلتها بالماء الكثير فناسب هذا كله ولم يكن مجرد ذكر إثارة السحاب ليعطى كثرة مائها وتكثير الثمر المخرج به مع أن الإثارة مفهومة فحصل فى هذا النظم العلى الإيجاز والوفاء بالتوسعة والتعميم المقصود ولما لم يقع فى الآى الأخر توسعة فى المخرج بالماء وقع الاكتفاء بذكر إثارة السحاب وحصل إرسالها الماء مما بعد.

فإن قلت: فقد ورد فى سورة الملائكة: "فأحيينا به الأرض بعد موتها " وذلك تعميم ومع ذلك فقد وقع الاكتفاء فيها بقوله: "فتثير سحابا " قلت لفظ الأرض لا يعم فى كل موضع إذ ليس من ألفاظ العموم بدليل قوله تعالى: "إن فرعون علا فى الأرض " وهو لم يستول إلا على بعضها وبدليل قوله تعالى: "أو ينفوا من الأرض " وبالجملة فليست الألف واللام هنا للعموم ولا هى حيث تفهم العموم بمنزلة كل وطرأ وأجمعين ولا نزاع فى هذا فالاكتفاء فى سورة الملائكة بذكر الاثارة فقط بين.

وأما سورة الروم فليس فيها عموم بل فيها خصوص حاصل من التقييد بقوله: "فإذا أصاب له به من يشاء من عباده "، والاكتفاء فيها بذكر إثارة الرياح السحاب أبين شئ فجاء كل على ما يناسب ولا يمكن خلافه.

ص: 185

ولم يرد فى سورة الفرقان ذكر إثارة الرياح السحاب اكتفاء ببشارة قوله: "بين يدى رحمته " لأنه قصد هنا ذكر الإنعام ولم ينط بذلك ما يقصد به امتداد الاعتبار ألا ترى قوله قبل الآية: "وهو الذى جعل لكم الليل لباسا وجعل النهار نشورا " فقصد ذكر الإنعام ثم الاعتبار جار مع ذلك ثان عن المقصود من ذكر الإنعام فلم يذكر الا بادئ الإنعام، فجاء كل على ما يناسب ولا يمكن خلافه والله سبحانه أعلم.

والجواب عن السؤال الرابع: وهو الفرق بين ما فى الأعراف وسورة الملائكة من سوق الرياح السحاب إلى البلد الميت وما فى سورة الروم من قوله: "فيبسطه فى السماء كيف يشاء ويجعله كسفا " بزيادة ذكر سوقه إلى بلد ميت فى آيتى الأعراف والملائكة وسقوط ذلك فى سورة الروم مع زيادة بيان حال السحاب وانتشارها فى السماء وتقطيعها لانبعاث المطر فيقول السائل: إن كان الكلام مقصودا به قصد الإطالة فلم يرد فيها الوارد فى الأخريين من قوله: "فسقناه إلى بلد ميت " وإن كان قد قصد به الإيجاز فلم ورد هذا الإطناب هنا بما بسط من حال السحاب؟

والجواب عن ذلك: ان الآيات الثلاث محرزة أجل إيجاز وأبلغه، وان آية الروم لم يسقط منها شئ من التعريف بسوق السحاب إلى البلد الميت وإنما الحاصل على ما زيد فيها من بيان حال السحاب ما قصد من تحريك المعتبر وتنبيهه على ما فيه أعظم دلالة وأوضح برهان، ألا ترى تقديم قوله:"ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته " وجليل موقع هذه الاستعارة وقوله: "ولتجرى الفلك بأمره " ثم أشير إلى تسخير الفلك بقوله: "ولتبتغوا من فضله " فقد ورد هنا تعداد نعم جليلة فلما عاد الكلام إلى ارسال الرياح وذكر إثارتها السحاب اتبع ذلك بما يناسب فقال تعالى: "يبسطه فى السماء كيف يشاء "والإشارة إلى ما تؤمه السحاب ببسطه سبحانه إياها فتوارى من أقطار الأرض وجهاتها ما يشاء سبحانه إحياءه وسقيه ويجعلها سبحانه كسفا أى قطعا متخلخلة لنفوذ ما تحملت من الماء فينبعث الماء من تلك المسام كانبعاث العرق من مسام الأجساد: "فترى الودق يخرج من خلاله " وبحسب ما حملها سبحانه أو ثقلها من الماء يكون المرسل عنها فى الكثرة وما دونها: "فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون " فلما انبنت هذه الآية على ما قصد من زيادة التنبيه وتوفيه الاعتبار خصت بما لم يقع فى آيتى الأعراف

ص: 186

والملائكة وإنما لم يذكر هنا سوقها للبلد الميت لحصول ذلك من قوله بعد: "فتنظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها " فلو قيل أولا: "فسقناه إلى بلد ميت " لكان تكرارا فإذا تأملت ما ذكرناه وعظيم التنبيه مع جليل الإيجاز بحسب ما قصد وعلى البلاغة وموجب المزيد فى آية الروم وما يستدعيه المكتنفان لهما من قوله قبلها: "ومن آياته أن يرسل الرياح " وقوله بعدها: "فانظر إلى أثر رحمة الله

"الآية وتحريك المعتبر ولم يذكر ذلك فى الأخريين ويتبين لك أنه لم ينقص منها شئ وإن كلا منها وارد على ما يجب ولم يكن ليناسب خلافه والله أعلم.

والجواب عن السؤال الخامس: أن قوله فى الأعراف: "سقناه لبلد ميت " وفى سورة الملائكة: "فسقناه إلى بلد ميت " لفارق بين الموضعين هو أن قوله تعالى فى الأعراف: "حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " كلام يستدعى جوابا ألا ترى أنه فى قوة قول القائل: فلما استقلت السحاب بما فيها من الماء ومثل هذا فى استدعاء الجوابية لا توقف فيه وليس مما يجاوب بالفاء وإنما جواب ذلك مثل هذا مجردا فيه الفعل عن الفاء وغيرها قال تعالى: "حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم ريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف " فالجواب هنا قوله: "جاءتها ريح عاصف " وقال تعالى: "فلما جاءتهم ما عرفوا كفروا به " ومنه آية الأعراف المذكورة لا مدخل فيها للفاء لا التى تقع جوابا ولا العاطفة إذ ليس قوله تعالى: "فسقناه لبلد ميت " معطوفا على ما قبله أما قوله تعالى فى سورة الملائكة: "الله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها " فكلام معطوف بعضه على بعض بالفاء المقتضية الترتيب والتعقيب ليطابق اللفظ ما تحته من المعنى فلزمت الفاء هنا لاحتراز معناها وقد تقرر انها لا مدخل لها فى آية الأعراف فورد كل على ما يجب ولما استدعى لفظ "سقناه "المكان المسوق إليه وإنما يصل إليه بلام الجر أو بإلى عدى فى الإعراب بلام الجر فقيل "لبلد " ليناسب المجرور فعله الذى استدعاه فى الوجازة ولما طال الفعل فى الآية الأخرى بما لزمه من حرف التعقيب ناسبه تعديته بإلى إسهابا وإيجازا مقابل إيجاز وأما آية الروم ففيها زيادة التعريف بكيفية انفصال الماء من السحاب وانه يخرج من خلاله مقسطا على الأرض مجزءا ليستوى اليقى ويتناسب كسريان الغذاء فى الأبدان بعد تهيئته ولو صب من جانب دون ما أشار إليه التخلل لأضر ولم تحصل به المنفعة وهو زيادة فى الاعتبار وإطلاق على عظيم

ص: 187

الحكمة زكل هذه الآى متلائمة متعاضدة لا تعارض فيها ولا إشكال وقد تضمن هذا الجواب أجوبة عن مواضع من هذه الآى وقوله فى

الأعراف: "فأخرجنا به من كل الثمرات " مناسب لقوله: "حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " لما تقدم ما يشير إلى كثرة مائها ناسبه التعريف بكثرة ما يخرج سبحانه به من مختلف الثمرات ولما قصد فى آية الفرقان سقى الحيوان العاقل وغير العاقل ناسبه ما تقدم من وصف الماء بالطهورية والطيب وقد حصل إخراج الثمرات بقوله لنحيى به بلدة ميتا وأما قوله فى سورة الروم: "فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم مستبشرون " فجار مع قوله قبل الآية: "ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات " لما ذكر سبحانه إرسالها مبشرات اتبع ذلك ما به البشارة وهو الودق المرسل من السحاب المشار بها والاخبار بمن المبشر بها وهو من يشاء تخصيصه من عباده بتلك الرحمة فأوضح آخر الآية المجمل قبلها وحصلت ما قصد بها على أكمل تناسب وأما قوله فى سورة الملائكة: "فأحيينا به الأرض بعد موتها " فمبنى على قوله: "يأيها الناس إن وعد الله حق " والمراد بهذا العودة الأخراوية فأرى سبحان مثالا يوضحها لمن تدبر وعقل فقال تعالى: "سقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها " ثم قال: "كذلك النشور " والآى قبلها لم يتقدمها مثل ما تقدم هذه من تحريك الخلق وتخويفهم بالوعد الأخراوى فلم تعقب بمثل ما أعقبت به من هذه من تحرير التشبيه وان كان فى أكثرها التشبيه على إحياء الموتى ولكنه ليس كالواقع هنا.

والجواب عن قوله فى سورة الأعراف: "كذلك نخرج الموتى " أنه مقابل بقوله: "فأخرجنا به من كل الثمرات " ولم يرد هكذا فى سائر الآيات أعنى التعبير بلفظ الإخراج لما ينبت المطر وما يخلق سبحانه فى الأرض ولما ورد فى سورة الملائكة قوله سبحانه: "فأحيينا به الأرض بعد موتها " قوبل تشبيها بقوله: "كذلك النشور " ولم يكن ليتحر المراد لو قيل: كذلك الإحياء ولو قيل: كذلك إحياء الموتى لاجتمع فيه الطول مع مخالفة الفواصل فيما قبل الآية وما بعدها، ألا ترى قوله تعالى:"ولا يغرنكم بالله الغرور " قوله بعد الآية: "ومكر أولئك هو يبور " وما تخلل الآيتين وما ورد بعدها ثم إن النشور هو إخراج الموتى وإحياؤهم مع أنه أوجز وأطبق للفواصل فجاء كل على ما يناسب واما سائر الآي فلم تبن على قصد التشبيه ولا جرى فيها ذلك فوقع الاكتفاء فيها بمجرد الإيماء والإحالة على غير طريقة التشبيه.

ص: 188

والجواب عن تعقيب آية الأعراف بترجى التذكير من قوله: "لعلكم تذكرون " مناسب لقوله: "فأحيينا به من كل الثمرات " لأن الماء المنزل من السماء واحد لا يختلف وان اختلفت أحواله فى الكثرة والقلة وطول زمن الانزال وقصره فالمذاق والطعم والصفة لا تختلف والمخرج به بإذن الله من ضروب الثمرات مختلف فى الطعم واللون والرائحة إلى غير ذلك من صفاته قال تعالى: "تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الأكل " ففى هذا أعظم عبرة لمن استبصر وأدل دليل على القدرة التى تجل عن الحد والغاية وأعظم شاهد على إحياء الموتى فلهذا أعقبت برجاء التذكير فقيل: "لعلكم تذكرون ".

الآية السابعة قوله جل وتعالى: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) "، وفى سورة هود:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) "، وفى سورة المؤمنون:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) ".

فى هذه الآى ست سؤالات: السؤال الأول فوله فى سورة الأعراف: "لقد أرسلنا " غير منسوق بواو العطف وفى السورتين الأخيرتين: "ولقد أرسلنا " بواو العطف والثانى اختلاف مقاله عليه السلام لهم والثالث وجه اختصاص الواقع فى كل سورة من الثلاث من مقاله بتلك السور والرابع وجه اختلاف ما خوفهم به وأنذرهم إثر أمرهم بالعبادة فى كل واحدة والخامس وجه ندائهم لهم فى السورتين وسقوط ذلك فى سورة هود والسادس وجه افتتاح أمرهم بالعبادة فى السورتين وقوله فى سورة هود قبل أمره إياهم: "إنى لكم نذير مبين " فهذه ست سؤالات.

الجواب عن الأول: أن آية الأعراف لم يتقدمها ذكر إرسال ولا أمر بدعاء الخلق ولا جملة يناسبها عطف إرسال الرسل إلى الأمم ودعاء الخلق إلى الإيمان إنما تقدم قبلها ذكر أصحاب الأعراف ثم قوله تعالى: "إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض " إلى قوله: "لقوم يشكرون " ثم ابتدأت قصص الرسل مع أممهم فقال تعالى: "لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " وتتابع قصصهم.

أما آية هود فقد تقدم قبلها ذكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبذلك افتتحت السورة قال تعالى: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله "

ص: 189

ثم استمر ذكر دعائهم وتحذيرهم من التولى وما يعقبه إن وقع منهم ثم ذكر تحديه عليه السلام إياهم بالقرآن وطلبهم بمعارضته والإتيان بعشر سور مثله فى البلاغة وعلى النظم وان كان ما يأتون به مفترى ليكون أسهل عليهم ولم يعدل بالآى عن هذا الغرض وما يرجع إليه إلى ذكر إرسال نوح عليه السلام فوردت الآى بذلك منسوقة فقد ورد قبلها ما يناسب عطفها عليه قال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة

"الآيات وبعدها: "ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق

"الآيات، فذكرهم بإيجادهم وانتقالهم متقلبين فى أطوار مكتنفين بتوالى إنعامه منسوقا بعض ذلك على بعض مفتتحة المطالع بما يتأتى به القسم من قوله تعالى تحكيما وإظهارا للظاهر من اكتناف إنعامه وإحسانه ثم عطف على ذلك ما أنعم به من إرسال الرسل فذكر أولهم إرسالا إلى الخلق ليناسب ما بدأوا به من النعم الأولية فقال: "ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه " وكل ما ذكر فى هذه الآى نعم متناسبة والآء متوالية ولهذا لم يذكر فى هذه الآية ذكر عذاب الا بالإيماء الوجيز وخصت بقوله عقب الأمر بالعبادة: "أفلا تتقون " فذكرهم بالتقوى المجردة لنجاتهم وتخلصهم من العذاب ولم يكن ليلائم ذكر العذاب والإفصاح به ما تقدم من التذكير بإحسانه سبحانه وإنعامه من أول السورة إلى هنا.

والجواب عن السؤال الثانى: ان دعاء الرسل أممهم مما يتكرر ويتوالى فى أوقات مختلفة محال متباينة فمرة يرغبون ومرة يخوفون وينذرون وذلك بسبب حال حال ولكل مقام مقال.

فاختلاف المحكى من مقالهم إنما هو بحسب اختلاف الأوقات وما يناسب كل وقت وقت وما يجرى فيه ويشاهد من أقوال المدعوين وأحوالهم وكل المحكى من معنى مقالاتهم لا إشكال فيه، ألا ترى أن نبيا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين كان يدعوا قبائل العرب إذا وفدوا على مكة ويقف على كل قبيلة قبيلة فيكلمهم ويسمعهم القرآن ويدعوهم إلى الله بما يناسب أحوالهم ومقالهم ألا ترى قوله عليه السلام لقبيلة كانت تعلاف ببنى عبد الله "يا بنى عبد الله ان الله قد حسن اسم ابيكم " فكان يفتتح دعاء كل طائفة بمثل هذا فلكل مقام مقال، فلا سؤال فى المحكى من قول نوح عليه السلام، لقومه واختلاف ذلك وإنما السؤال فى اختصاص كل سورة بالوارد فيها من حكاية كلامه عليه السلام إذ لا يذكر فى كل سورة الا ما يناسب وهو السؤال الثالث.

ص: 190

والجواب عنه: أنه لما تقدم ذكر اليوم الآخر فى غير ما آية من أول هذه السورة إلى ابتداء قصة نوح وقد تضمن ما ذكر من ذلك من أهوال ذلك اليوم ما يعظم أمره كقوله: "والوزن يومئذ الحق

"الآية، وقوله: "قال ادخلوا فى أمم من قبلكم من الجن والإنس فى النار "الى قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون " وقوله: "إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء

"الآية قوله: "ونادى أصحاب الجنة

"الآية وقوله: "إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار "الى قوله: "ولا أنتم تحزنون " وقوله: "ونادى أصحاب النار

"الآية

وقوله: "هل ينظرون إلا تأويله " فلما تقدم من أهوال هذا اليوم ما لم يتقدم فى السورتين الأخريين ناسبه من مقالات نوح لقومه: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وناسب قوله: "ما لكم من إله غيره " قول الممتحنين: "فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " وأما افتتاح الآية بأمرهم بالعبادة فبين وأما آية هود فافتتاح دعاء نوح قومه فيها بقوله: "إنى لكم نذير مبين " يناسب قول نبينا صلى الله عليه وسلم للعرب فى إخبار الله تعالى عنه: "إننى لكم منه نذير بشير " قوله سبحانه: "إنما أنت نذير " وأما قوله: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم " فمناسب لقوله تعالى على لسان نبينا عليه السلام لقومه ممن خاطبه وشافهه: "وإن تولوا فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير "وقوله: "ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم "وقوله: "ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده "فتكرر ذكر العذاب يناسبه ما ختمت به آية دعاء نوح عليه السلام من قوله: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم "وأما آية المؤمنين فالجواب عنها ما تقدم منجرا فى الجواب عن السؤال الأول وتحصل من أنه حكى من مقالاته عليه السلام فى كل سورة من هذه الثلاث ما يجرى مع ما اتصل به ويناسبه حسبما تبين ولم يكن ليناسب ورود ما فى سورة منها ما ورد من ذلك فى الأخرى والله أعلم بما أراد.

والجواب عن السؤال الرابع: قد انجر فيما تقدم وعن الخامس أن ندائهم فى السورتين لا كلام فيه لجريانه على ما ينبغى فإنما يسأل عن سقوط ذلك فى سورة هود؟ ووجهه أن ذلك جار مع ما افتتحت به السورة من قوله على لسان نبينا عليه السلام: "ألا

ص: 191

تعبدوا إلا الله " فدعاهم عبادة الله وأن يفردوه بها ولم ينادهم لأن ذلك لم يكن ليلائم مطلع السورة إذ لم يجر ذكره عليه السلام منطوقا به فينزل عليه نداؤهم بل قيل له: "الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير "ثم اتبع هذا بأمرهم مبتدئا بحرف العبارة والتفسير وهو أن الحرف الواقع بعد ما ينبئ ويحصل منه معنى القول وليس بصريح قول ولا مرادف الا أنه يفهمه كقوله تعالى: "وانطلق الملأ منهم أن امشوا " فأن الواقعة حرف عبارة وتفسير المقدرة بأى إنما تأتى بعد ما يفهم القول فكما يقع بعدها ما يدل على تقدير القول وليس بقول كذلك يقع بعد مالا يلتئم معه ذكر القول ويكون مع ذلك مغنيا عنه ومنه مطلع هذه السورة بعد التنبيه بالحروف المقطعة فقيل: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله "كما قيل فى آية ص: "ان امشوا واصبروا "فليس موضع صريح القول الذى يقصد به الحكاية ورد دون صريح قول ثم وردت قصة نوح عليه السلام على هذا المنهج للمناسبة ثم جئ بقصة هود وصالح بعد هذا مفتتحين بالقول على ما يجب والله أعلم.

والجواب عن السؤال السادس: ان افتتاح أمرهم بعبادة الله فى سورتى الأعراف والمؤمنين لا سؤال فيه أول ما يطلب به الخلق وإنما يسأل عن افتتاح مكالمتهم فى سورة هود بقوله: "إنى لكم نذير مبين "؟ وجه ذلك مطابقته لما افتتحت به السورة من قول محمد صلى الله عليه وسلم بأمر ربه مخاطبا بكلامه تعالى: "إننى لكم منه نذير وبشير ".

الآية الثامنة

قوله تعالى: " قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) "، وقال فى سورة هود:" فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا " وقال فى سورة المؤمنين: " فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ".

قلت هذه أجوبة فى مقامات شتى وأحوال مختلفة فلا سؤال فى اختلافها وإنما السؤال عن وجه الواقع فى كل سورة إذ لا يكون الا لمناسبة وقد تقدم بيان هذا فى الآية قبلها فيسأل عن ذلك؟ وعن ثبوت الفاء فى قوله: "فقال " فى سورة هود وسورة المؤمنين وسقوطها فى سورة الأعراف؟ وعن وصف الملإ بالكفر فى السورتين وسقوط هذا الوصف من آية الأعراف؟ فهذه ثلاثة أسئلة.

ص: 192

والجواب عن الأول والله أعلم: إن تقول: أن تخصيص الواقع من الملأ من قوم نوح عليه السلام جوابا له عند دعائهم فى سورة الأعراف إلى عبادة الله مناسب لما تقدم فيها من قول مكذبى الرسل حين تتوفاهم الملائكة قال تعالى: "حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا "وقول أخراهم لأولاهم عند دخولهم النار وتداركهم فيها جميعا: "ربنا هؤلاء أضلونا " فصار هذا مألوفا من كلامهم وجوابا متكررا منهم ثم قد جرى على هذا إخبار الله سبحانه عنهم عند تمنيهم الشفعاء أو الرد إلى الدنيا ليعملوا غير عملهم قال الله تعالى: "قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " ولم يتقدم فى السورتين بعد مثل هذا فناسب هذا ما تقدم.

وأما فى سورة هود من قول الملأ المذكورين من قوم نوح فقد تقدم فى صدر السورة قوله تعالى مخبرا عن كفار قريش وغيرهم من معاندى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم " فأعلم سبحانه بطغيانهم وتمردهم فى كفرهم فناسب هذا قول المتمردين من قوم نوح: "ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ".

وأما الوارد فى سورة المؤمنين فإنه تقدم فيها قوله تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين "، فذكر سبحانه تطور الإنسان فى تقلبات وأحوال تشهد بحاله الحضيضه ومهانته الأوليه إلى أن تلحقه العناية الربانية والاختصاص الاصطفائى فيعز بإعزاز موجده ويختص باختصاص التقريب والتشريف فتتفاوت أقدار الخلق عند ذلك فمنهم اللاحق بأشراف المقامات وأسنى الحالات ومنهم الباقى فى حضيضيته من غير ترق لما فوقها من الانتقالات ولما لم يتلمح الملأ من قوم نوح جليل مزية التشريف وما منحه هذ النبى الكريم من على قدره المنيف، وظنوا التساوى على مقتضى الحاله الأوليه قالوا يخاطبون أتباعهم وجوابا لنبيهم عليه السلام: "ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم

" الآية.

وتأمل مقال الملأ هنا ومناسبته لما قدم من خلق الإنسان تجده أنسب شئ ولم يكن مقالهم فى كل موضع من هذه ليناسب غير ما وقع فيه والله أعلم.

والجواب عن السؤال الثانى: أن الواقع فى سورة هود من قوله تعالى مخبرا عن

ص: 193

جواب قوم نوح: "ما نراك إلا بشرا مثلنا "إلى آخر كلامهم كلام لا يستقل مبتدأ به بل يستدعى ما يبنى عليه إذ لا يفتتح أحد أحدا مبتدئا بمثل هذا وإنما يتكلم بهذا جوابا ولما قال لهم نوح عليه السلام: "يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " إلى ما عرفهم به مما حصل منه الإعلام بمقامه النبوى جاوبوه بعدا عن تعرف صدقة ومعرفة حقه بقولهم: "ما نراك إلا بشرا مثلنا "، أى لو كنت كما تزعم لكنت من جنس الملائكة ولم تكن من جنس البشر وقد أفصحوا بهذا فى سورة المؤمنين وتكرر هذا المرتكب من غيرهم فى غير ما آية فلبناء هذا الكلام على ما قبله وتمحض الجوابية فيه ورد بالفاء المقتضية السببية والمبنية للجوابية ومثل هذا من غير فرق هو والوارد من جوابهم فى سورة المؤمنين من قولهم:"ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم "، ثم قالوا:"ولو شاء الله لأنزل ملائكة " وهذا هو الذى أشرنا إليه من مقالهم فى هاتين السورتين بالفاء لربط الجوابية وضوح السببية وأما قوله فى سورة الأعراف: "قال الملأ من قومه إنا لنراك فى ضلال مبين " فإن هذا وإن تضمن الجوابية فإنه كلام يستأنف ويبتدأ بمثله ولا يفتقر إلى ما يبنى عليه فناسب ذلك وروده بغير الفاء وحصلت الجوابية من حيث المعنى مع رعى ما يناسب فى النظم ونظير هذا فى وروده بغير الفاء لما ذكر قوله تعالى فى قصة هود عليه السلام: "قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك فى سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين " فتأمل جوابهم هنا لما كان الوارد فى قصة نوح عليه السلام فى أنه يبتدأ بمثله ولا يفتقر إلى ما يبنى عليه كيف ورد بغير الفاء فهذا يزيدك وضوحا فيما قدمناه والله سبحانه أعلم.

والجواب عن السؤال الثالث: ويتنزل على تمهيد هو أن الله تعالى أمر رسله عليهم السلام بالرفق فى دعاء الخلق وحضهم على التلطف بهم والصبر على آذاهم فقال: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن " وقال تعالى: "واصبر على ما يقولون " وقال: "لست عليهم بمصيطر " وقال تعالى: "ودع أذاهم " وقال تعالى: "إن عليك إلا البلاغ "وقال: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " وهذا كثير وقال تعالى لموسى وهارون: "اذهبا إلى فرعون أنه طغى فقولا له قولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " وعلى هذا جرى دعاء الرسل أممهم فى إخبار الله تعالى عنهم وتأمل ما تحمل من التلطف والرفق بالعباد قول الله سبحانه:

ص: 194

"يأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم " إلى قوله: "ولا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " وعلى هذا المنهج جرى ما ورد فى الكتاب العزيز من دعاء الرسل أممهم: "يا قوم استغفروا ربكم إنه كان غفارا

"الآيات إلى قوله: "لتسلكوا منها سبلا فجاجا " ثم اختلف جواب الأمم فمن مسرع فى الإجابة بهداية الله تعالى ومن مبطئ ومن مصمم على ضلاله: "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " ثم لكل نبى مقامات ومقالات بحسب اختلاف الموطن والمجتمعات ولكل مقام مقال يناسبه فجرى اختلاف ما ورد جوابا بنسبة ما وقع الجواب عليه مع إحراز الأنبياء عليهم السلام ما أمروا به من الصبر والتلطف فى أكثر أحوالهم متوقفين فيما وراء هذا على ما يرد منه تعالى كما قيل لنوح عليه السلام: "إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن "فقطع عليه السلام رجاءه منهم وفهم من ربه تعالى جواز دعائه عليهم واستشعر انتقامه منهم فقال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " وذلك بعد مبالغتهم فى البعد عن الاستجابة وقولهم: "قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " قال تعالى فيمن سلك مسلكهم فى التكذيب: "فلما آسفونا انتقمنا منهم " وقال تعالى: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم

قد كذبوا جاءهم نصرنا

"الآية.

فأقول بناء على ما تمهد أن قوم نوح لما ذكر تعالى عنهم فى سورتى هود والمؤمنين إساءة فى جوابهم لنبيهم وإطالة فى المرتكب حين قالوا فى سورة هود: "ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين " فجمعوا فى هذه الإطالة توهمهم مساواته عليه السلام، فيما رآه البادى من البشؤية والصورة الإنسانية إلى استرذال أتباعه كما قالوا فى الموضع الآخر:"أنؤمن لك واتبعك الأرذلون "وإلى التعامى عن فضله عليه السلام عليهم وظنهم كذبه وقد نزهه الله من ذلك كله فإذا تأملت مجموع هذا استطلعت منه مكنون كفرهم ومثل هذا من غير فرق قولهم فى آية المؤمنين: "ما هذا إلا بشر مثلكم "إلى قولهم: "إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين " فلإساءتهم فيما ذكر من الوارد عنهم فى الموضعين وصفوا بالكفر فقال تعالى: "فقال الملأ الذين كفروا من قومه " فوصفهم

ص: 195

بالكفر فى السورتين وأما آية الأعراف فقولهم فيها: "إنا لنراك فى ضلال مبين " ليس كجوابهم فى السورتين الأخريين لا من جهة الطول ولا من جهة المعنى لأن لفظ الضلال ليس بنص فى الضلال عن الدين لأنه يقال ضل بمعنى تحيز وجار عن دين أو طريق ويتسع فى إطلاق لفظ الضلال على غير ما ذكرنا وقد قال بعض المفسرون هنا فى تفسير الضلال: "إنه الذهاب عن طريق الصواب والحق " وبالجملة فإنهم لم يريدوا هنا الضلال الذى هو الكفر وإن كان قد يقع إذا تقدمته قرينة على أعظم من الكفر وأما هنا فليس كذلك فلما لم يكن فى الوارد فى سورة الأعراف من الإطالة فى العبارة والإبلاغ فيما قصدوه من المعنى مثل ما فى السورتين ناسبه الإيجاز وإن لم يوصفوا هنا بالكفر فقال تعالى: "قال الملأ من قومه "ومما يشهد أن قوم هود عليه السلام لما بلغوا فى إساءة جوابهم لنبيهم فى قولهم: "إنا لنراك فى سفاهة " وأرادوا فى قلة علم وخفة حلم قاله الغرنوى: وقال غيره: فى خفة حلم

وسخافة عقل، فلما أساؤوا فى مقالهم هذا عبر عنهم بقوله تعالى:"قال الملأ الذين كفروا من قومه " فوصفوا بالكفر مناسبة لقولهم ولما لم يقع فى جواب قوم صالح مواجهة نبيهم بمثل هذا بل عدلوا إلى مخاطبة ضعفائهم بقولهم لمن آمن منهم: "أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه "فلما لم يواجهوا نبيهم بما واجه قوم هود عبر عن هؤلاء بقوله تعالى: "قال الملأ الذين استكبروا من قومه ".

فإن قيل قد وصفوا بما يفهم كفرهم وهو الاستكبار قلت قوبل بهذا وصف مخاطبيهم بالاستضعاف وليس كالإفصاح بالكفر فوضح ما بسطناه أولا وجرى كل من ذلك على ما يناسب والله أعلم بما أراد.

الآية التاسعة من سورة الأعراف

قوله تعالى: " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) " وفى قصة هود: " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) " فيهما سؤالان قوله "وأنصح لكم " وفى الأخرى: "وأنا لكم ناصح أمين " والثانى أن كل واحد من هذين النبيين الكريمين يعلم من الله سبحانه ما لا يعلمه قومه فهل فى قصة نوح ما يحمله على قوله لقومه: "وأعلم من الله مالا تعلمون " ما ليس فى قصة هود؟

والجواب عنهما معا: أن قوم نوح عليه السلام لما رموه بالضلال وأكدوا ذلك

ص: 196

وزعموا استحكامه بالوصف فى قولهم له عليه السلام: "إنا لنراك فى ضلال مبين " فزعموا أن ضلاله غير خاف وهو الذهاب عن طريق الصواب ولا يكون إلا عن عدم العلم بما فيه رشاد الضال واستقامة حاله نفى عليه السلام كل ذلك عن نفسه بقوله: "ليس بى ضلالة " ثم أتبع بأوصاف عليع تناقض قولهم وتدفعه وتشهد للمتصف بها ببراءته من ذلك وترد ذلك الوصف عليهم وأنهم الأهلون لما رموه به فقال: "ولكنى رسول من ب العالمين " ولا يرسل رب العالمين المالك للكل العليم بهم إلا من جعله درجات المهتدين العالمين بنصاب الرسالة وما يلزم متحملها ثم بين لهم نصحه واستمراره فى إبلاغهم ونصحهم فقال: "أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم " ثم أتبع تعريفهم بجهلهم بما عنده من ربه ويعلمه هو بذلك فقال: "وأعلم من الله ما لا تعلمون " وإنما قال "وأنصح "، "وأعلم " ليعلم بتماديه على النصح لهم وهم لا يشعرون ولا يهتدون وبإمداده بزيادة علومه بالوحى وهم عن ذلك فى أشنع ضلال وأبعده فجمه عليه السلام فيما خاطبهم به رد مقالهم ورميهم بأكثر مما رموه به ورد ذلك عليهم بألطف رد وأبينه لمن وفق ونزه عليه السلام عبارته المخلصة لذلك على أتم الوجوه عن شنيع عبارتهم وقبح مواجتهم واما جواب هود عليه السلام فإن قومه لما قالوا:"إنا لنراك فى سفاهة " فرموه بخفة الحلم وقلة الثبات وكثرة الطيش نفى عليه السلام ذلك عن نفسه فقال: "ليس بى سفاهة " فرد قولهم ثم عرفهم برسالته وقدم ما ينبغى للرسول أن يكون عليه ثم أتبع بجليل أداء أمانة الرسالة من التبليغ والتمادى عليه فقال "أبلغكم " فجاء بالفعل المشعر بالتكرر والاستمرار قياما بإبلاغ رسالته وحفظا لأمانتها ثم قال: "وأنا لكم ناصح أمين " فعرفهم بصفتين جليلتين قد اكتنفته العصمة فيهما ومن كانت صفتاه اللازمتان له النصح والأمانة فقد تنزه قدره عن الطيش وعدم الحلم: "إلا إنهم هو السفهاء ولكن لا

يعلمون " وإنما أتى فى إخبارهم بنصحه وأمانته بالاسم فقال: "ناصح أمين " وكم يقل: أنصح - فيأتى بالفعل - ليحصل منه أن ذلك الوصف الجليل لازم له غير مفارق ولم يكن الفعل ليعطى ذلك فجاء بالاسم وجعله الخبر عن ضميره الذى هو "أنا " فهذا مقصود ثابت الوصف ولزومه مثل الوارد فى قوله تعالى مخبرا عن المنافقين: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم " فأخبر عن قولهم للمؤمنين "آمنا " بالفعل

ص: 197

الماضى وليس من وضعه إعطاء الدوام فى الأكثر إذ قد يقول فعلت من أوقع الفعل مرة واحدة وأخبر تعالى عن قولهم لإخوانهم وشياطينهم بقولهم: "إنا معكم إنما نحن مستهزئون " فجاؤوا بالاسم إعلاما بصفتهم التى هم عليها مستمرون فكذا هذا الاخبار الواقع هنا فى هذا النقصود من التمادى والاستمرار حين قال هود عليه السلام: "وأنا لكم ناصح أمين " فجاء الاسم فانتفى ما رموه به من السفاه جملة وقابل عليه السلام مقالهم الشنيه بخبره الصادق عن نفسه فرد مقالهم ولم يكن الفعل يحرز هذا القصد كما أحرز قول نوح عليه السلام: "وأعلم من الله مالا تعلمون " الإخبار عن نفى ما رموه به جملة فجاء كل على ما يجب والله أعلم.

ومما يسأل عنه فى هاتين الآيتين أن نوحا وهودا عليهما السلام إنما دعوا إلى العبادة قوما كفارا فى قصة نوح عليه السلام: "قال الملأ من قومه " وفى قصة هود عليه السلام: "فقال الملأ الذين كفروا من قومه " فوسموا بالكفر بخلاف قوم نوح؟ عليه السلام من قوله: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وخوفه من تعذيبهم إنما كان لكفرهم ولم يقع ذلك فى دعاء هود لأن قوله: "أفلا تتقون " ليس فيما يعطيه من التخويف فى قوة: "إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " إذ قد يؤمر بالتقوى المؤمن ويقال للعاصى بصغيرة أفلا تتقى فلما كان فى دعاء نوح ما يشير إلى الكفر ويدل عليه اقتضى الإيجاز الاكتفاء بذلك ويشهد لهذا أن قصة صالح وقصة شعيب الوارد فيهما الدعاء إلى الإيمان على هذا المنهج لما لم يقع فى دعاء هذين النبين عليهما السلام ما وقع فى دعاء نوح عليه السلام مما ينبئ بالكفر ورد فى حكاية مقالة قومهما ما يحصل منه ذلك المقصود وذلك قوله تعالى: "قال الملأ الذين استكبروا من قومه " وذلك جار من الواقع فى قصة هود من غير فرق لأن استكبارهم عن إجابته والإيمان به كفر والله أعلم بما أراد.

الآية العاشرة

قوله تعالى: " فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) " وفى سورة يونس: " فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) "ففيهما أربع سؤالات يذكر كل سؤال منها متصلا به فى جوابه.

الأول قوله "فأنجيناه "وفى الثانية "فنجيناه "فاختلف نقل الفعل بالهمزة فى

ص: 198

الأولى وفى الثانية بالتضعيف وفى الأولى "والذين معه " وفى الثانية "ومن معه " فاختلف الموصول أيضا.

والجواب عن هذين السؤالين والله أعلم: أنا قد وضحنا فى كتاب البرهان أن ترتيب السور مراعى وترتيب الآى فى هذا الحكم أولى وأبين، وإذا تقرر هذا فاعلم أيضا أن لفظ الذى وما تصرف منه للمثنى والمجموع أصل فى الموصولات إذ لا يخرج لفظ الذى عن الموصولية أما من فإنها تخرج إلى الاستفهام والشرط وغيرهما والأصل فى النقل أيضا يكون بالهمزة وأما النقل بالتضعيف والباء وغيرهما فثان عن الأصل ومن يقول بالقياس فى النقل على اختلاف مذاهبهم من أن المقيس فيه النقل من الفعل إنما هو غير المتعدى أو المتعدى إلى واحد مغ غير المتعدى إلى اثنين مع الضربين قبله وهو قول الأخفش فكل هؤلاء إنما المقيس عندهم مما ينقل بالهمزة ويجعلون النقل بالتضعيف وغيره موقوفا على السمع.

فإذا قرر ما ذكرناه فنقول إن سورة الأعراف ورد فيها قوله: "فأنجيناه والذين معه " كل منهما على الأصل فى نقل الفعل وفى الموصول فقيل: "فأنجيناه " وقيل: "والذين معه " وورد ذلك فى سورة يونس على ما هو ثان عن الأصل فى النقل وفى الموصول رعيا للترتيب ولا يمكن العكس على هذا.

ثم انجر مع ذلك رعى تناسب التقارن لما ورد فى الأولى فأنجيناه بزيادة همزة النقل المثبت لها صورة الألف فى الخط ونطق يخصها بحركة الهمزة فطالت الكلمة بالألف خطأ وبالنطق بحركة الهمزة لفظا ناسبها الموصول الذى هو: الذين بزيادة حروفه على حروف "من ".

ولما قيل فى الثانية: فنجيناه فجئ بما هو أخصر فى الخط ناسبه من الموصولات من المفرد فى معنى الذى وهو أخصر.

السؤال الثالث: زيادة "وجعلناهم خلائف " فى سورة يونس وذلك مثال تفصيلى فى طائفة معينة من المجمل الوارد فى أول السورة من قوله تعالى: "ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات " إلى قوله: "ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " وقوم نوح عليه السلام أول أمة أهلكت بتكذيبها ثم خلفها غيرها فذكر من المتقدم مجملا أول واقع منه وأنهم جعلوا خلائف كما جرى فيمن بعدهم.

والسؤال الرابع قوله تعالى: "إنهم كانوا قوما عمين " وذلك

ص: 199