الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقابل به قولهم لنوح عليه السلام: "إنا لنراك فى ضلال مبين " فقيل لهم بل أنتم قوم عمون فأنى لكم بالتفريق بين الهدى والضلالة.
وأما قوله فى الأعراف: "فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " فليجرى مع آية الأعراف فيما ورد فيها من التعريف بإنذارهم فى قوله: "أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم " فوقع هنا التعريف بإنذارهم ثم ورد فى يونس بقوله: "فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " فحصل التعريف فى الآيتين بإنذارهم وعاقبة من أنذر فلم يرجع عن غيه.
الآية الحادية عشرة من سورة الأعراف
قوله تعالى فى قصة صالح: " قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
" وفى سورة هود: " وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ " وفى سورة الشعراء: " قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ "
فاختلف الوصف لمختوم به فى الآى الثلاث فقد يسأل عن ذلك؟
والجواب: مثل هذا ليس بخلاف ولا مشكل لأن وصف العذاب بالإيلام لا ينافى وصفه بالقرب وإنما وصف فى سورة هود بالقرب ليجرى مع قوله بعد: "تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام " فجرى فى الوصف رعى هذا ولا ينافى ذلك الإيلام وأما الوصف فى سورة الشعراء بعظيم فمن صفة اليوم لما فيه من الأهوال لا من صفة العذاب فلا إشكال فى شئ من هذا.
الآية الثانية عشرة قوله تعالى فى قصة صالح: "فأخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين " وكذا فى قصة شعيب فى السورة فيما بعد وفى سورة هود فى القصة المذكورة قبل: "فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام " وقال فى قصة شعيب فى سورة هود أيضا: "وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين " فورد فى هذه الآية الأخيرة تسمية عذابهم بالصحية وجمعه اسم الدار وفى الآيات قبل "بالرجفة " وإفراد الدار.
فأقول إن وجه اختصاص كل سورة بما خصت به أن اسم الدار لفظ يقع على المنزل الواحد والمسكن المفرد ويقع على مساكن القبيلة والطائفة الكبيرة وإن اتسعت وافترقت وتعددت مساكنها وديارها إذا ضمها إقليم واحد واجتمعت فى
حكم أو مذهب، وإذا تقرر هذا فوجه اختيار لفظ الجمع فى الآية من سورة هود مناسبة ما اقترن به من لفظ الصيحة وهى عبارة هنا عن العذاب مطلقا دون تقييد بصفة وهو من الألفاظ الكلية فإن لم يكن عاما فانتشار مواقعه من حيث الكلية حاصلة.
وأما الرجفة الزلزلة فلهذا اللفظ خصوص وهو جزئى ومن المعلوم بالضرورة انحصار الألفاظ فى الضربين فإن اللغة لا تختلف فى ذلك فالصيحة من حيث الكلية تطلق على ما كان من العذاب بالرجفة وغيرها وإذا عبرنا بالرجفة لم يتناول لفظها إلا ما كان عذابا بها فناسب عموم الصيحة جمع الديار مناسبة تركيب النظم وناسب خصوص الرجفة إفراد الدر.
ثم إن وجه تخصيص سورة هود بما وقع فيها أنه ذكر قبلها من مرتكبات قوم شعيب وسوء ردهم على نبيهم عليه السلام ما لم يرد مثله فى آية سورة الأعراف وتأمل قولهم له: "ما نفقع كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز "، فتأمل ما فى ردهم هذا من الاستهزاء والإساءة وشنيع المقابلة لجليل وعظه عليه السلام، لهم ورأفته فى دعائهم إياهم بقوله:"إنى أراكم بخير وإنى أخاف عليكم عذاب يوم محيط " وقوله: "بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ " وقوله: "أرأيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقنى منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " وقوله: "ولا يجرمنكم شقاقى أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح " وقوله: "واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود ".
فما أجل تلطف هذا النبى الكريم فى دعائه إياهم وما أشنع ردهم عليه فلهذا ما عبر عن عذابهم وأخذهم هنا بأعم مما ورد فى غير هذه الآية ولما لم يرد فى غيرها مثل هذا فى الدعاء والجواب ناسبه اللفظ الأخص رعيا لإحراز النظم الجليل وعلى تناسبه مع أن لا كبير اختلاف فى المعنى الحاصل عن العبارتين والله أعلم.
وجواب ثان فى اختلاف الوارد فيما أخذ به قوم شعيب وهو أن يكون المراد أخذهم بضروب من العذاب لقبيح مرتكبهم وسوء ردهم على نبيهم فبين ذلك قوله تعالى فى سورة الشعراء: "فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة " والظلة غيم تحته سموم فهذا ولا غير الرجفة لأنها زلزلة فعلى هذا يكونون قد أخذوا بعذاب الزلزلة
وعذاب الصيحة وهو عذاب يصحبه صوت وعذاب الظلة فورد ذلك على التدريج والتناسب بحسب ما ذكر قبل كل من هذا من مرتكباتهم وقد ذكر المفسرون تنوع عذابهم بالرجفة والصيحة والظلة كما امتحن آل فرعون بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة.
الآية الثالثة عشرة من سورة الأعراف
قوله تعالى فى قصة صالح: "فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين " وقال فى قصة شعيب عليه السلام: "الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين قتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين "
للسائل أن يسأل ويقول: إذا كان كل من الرسل عليهم السلام قد أبلغ قومه ما أرسل به وكلهم فى أداء تلك الأمانة وحفظها على نهج سواء من غير تفاضل فى هذا - أعنى الأمانة والإبلاغ والعصمة فى ذلك - وإنما التفاضل بأشياء غير ما ذكر فإذا تساووا فيما ذكر وكلهم أمر بإفراد الله سبحانه بالعبادة واتقاء عذابه بالتزام الطاعات وامتثال الأوامر والنواهى وكلهم أمر ونهى وأوضح لقومه طريق النجاة وحذرهم من المهالك ووصف كل واحد منهم ربسول ووصف ما جاء به بالرسالة فالإفراد محصل للمقصود فما وجه الجمع فى قوله فى قصة شعيب عليه السلام: "أبلغتكم رسالات ربى " ولم لم يرد على الإفراد كما ورد فى قصة صالح؟
والجواب: أن العرب تراعى فى أجوبتها ما نيتها عليه من سؤال أو غيره، إن إطالة فإطالة أو إيجاز فإيجاز فأجوبتهم مراعى فيها المعنى ملحوظ فيما وردت جوابا له ولما ورد فى دعاء شعيب عليه السلام تفصيل فى الأمر والنهى والتحذير ألا ترى قوله بعد أمرهم بتوحيد الله:"قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها " ثم قال: "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا " وذكرهم بتكثيرهم بعد القلة فقال: "واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " وإن يتذكروا حلا من تقدمهم ممن كذب فقال: "وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " وورد عقب هذا من قول قومه له فى قوله تعالى حاكيا
عنهم: "لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودون فى ملتنا " وقولهم: "لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون " وقد انطوى هذا الكلام من التعريف بقبيح ردهم وشنيه مرتكبهم فى مجاوبتهم على أعظم اجترام، فحصل فى هذا من خطابه إياهم وما ردوا به وجاوبوه عليه السلام إطناب فى العبارة وإمعان فيما تحتها من المعانى فى كلا الضربين فناسب ذلك الجمع فى قوله:"أبلغكم رسالات ربى " أما قصى صالح عليه السلام فلم يقع فيها بعد أمرهم بالعبادة غير تعريفهم بأمر الناقة وأمرهم برعيها وتذكيرهم بقوم هود فى قوله: "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد
…
"الآية ولم تنفصل مكالمته إياهم كتفصيل ما تقدم وأما المحكى عنهم من جوابهم فقوله تعالى مخبرا عنهم من قول كافريهم لمن آمن منهم: "إنا بالذى آمنتم به كافرون " وقولهم: "ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين " فليس هذا مثل المتقدم من جواب قوم شعيب له فى المحكى من العبارة ولا فيما تحتحته من المعنى فناسبه الإفراد الوارد فى قوله: "أبلغتكم رسالة ربى ".
فإن قلت فقد ورد: "أبلغكم رسالات ربى " بالجمع فى قصة نوح وهود عليهما السلام، ولم يتقدم فى القصتين إطناب ولا إطالة تقتضى ذلك فإن الوارد فى قصة نوح من قول قومه له قوله تعالى:"قال الملأ من قومه إنا لنراك فى ضلال مبين " وهذا ليس كجواب قوم شعيب عليه السلام فى إطالته وإذا لم يكن فى ذلك طول فما وجه الجمع فى قوله: "رسالات ربى "؟ ولم لم يفرد كما فى قصة صالح إذ هى شبيهتها فى الإيجاز؟ فالجواب أن افظ الضلال وإن كان هنا لا يرادف الكفر حسبما تقدم وما يأتى فإنه يقتضى بحسب كليته وانتشار مواقعه مقتضيات عدة، وأنهم لم يريدوا تخصيصه بقوله بعينه من قوله عليه السلام بل أرادوا أقوالا كثيرة مما أمرهم به ونهاهم عنه ومما حذرهم وأنذرهم من عذاب الآخرة حين قال لهم:"إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " فلانسحاب اسم الضلال على مسميات شتى كان فى وزان ما طال من الكلام فأشبه الواقع فى قصة شعيب عليه الصلاة والسلام قال الزمخشرى: "الضلال الذهاب عن طريق الصواب والحق "فكأنهم قد فصحوا بأن قالوا لا نعتمد قولك فى شئ ولا نعول عليه لأنك ذاهب فيه عن طريق الصواب والحق ويشهد لإرادتهم هذا التفصيل قول نوح عليه السلام فى رد مقالتهم: "ليس بى ضلالة " ولم يقل ليس بى ضلال فينفى عين ما قالوه بل عدل إلى ما يدفع قليل
ذلك وكثيره فى كل قضية قضية، وإذا نفى وجود الضلال فى كل واحدة من تلك القضايا بعد انتفاء الضلال عن كلها وبرئت ذمته الرفيعة عن الاتصاف بشئ مما رموه به ومثله الزمخشرى بجواب من قيل له:"ألك ثمر فقال ولا ثمرة واحدة " وهو تنظير حسن فقد حصل إطناب وتفصيل فى المعنى ولطول المجاورة بينه وبين قومه ما قالوه له فى آخر مقالهم: "قد جادلتنا فأكثرت جدالنا "فلهذا قال: "أبلغكم رسالات ربى " فجمع فكأنه عليه السلام يقول: كل قضية أبلغتكم إياها فربى أرسلنى بها وكل منها رسالة أرسلت بها إليكم محفوظا فى ذلك بعصمة الله إياى منزها عما توهمتم من الضلال ثم أتبع
بقوله: "وأعلم من الله مالا تعلمون " يريد مما منعكم من تصديقى فيه ما رميتمونى به من الضلال فرد عليه السلام قولهم بألطف رد وأرفقه بقوله: "وأنصح لكم وأعلم من الله مالا تعلمون " وفى طى هذا الكلام ما يفهم توبيخهم ويشير إلى تعاميهم وجهلهم فهو يرمى ما تمهد موضع جمع رسالة لما تحصل مما يفهمه النظم الجليل من التفصيل الذى به يتم المعنى المقصود فكلامه عليه السلام مع ما بنى عليه من التفصيل الذى تضمنه جوابهم فليس كالوارد فى قصة صالح عليه السلام فى قضية خاصة والله أعلم.
ألا ترى قول ملإ قومه من كفارهم لمن آمن منهم: أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه فقصروا سؤالهم وخصوه بصحة الرسالة ثم قالوا للملإ من المؤمنين: "إنا بالذى آمنتم به كافرون " ثم بنوا على هذا سائر ما كان منهم من الكفر والعتو وعقر الناقة وإنما سألوا أولا ودار أمرهم على صحة إرساله عليه السلام فطابق ذلك الإفرد فى قوله: "أبلغتكم رسالة ربى " واما قول قوم هود فى جوابهم لنبيهم: "إنا لنراك فى سفاهة " والسفاهة الطيش وقلة الحلم فحال من اتصف بذلك كحال من اتصف بالضلال فلا يثبت على قول ولا يعتمد عليه فهذه كقضية قوم نوح فالجواب عنها كما تقدم فى تلك وكل وارد على ما يجب ويناسب والله سبحانه أعلم بما أراد.
فصل: قد تقدم لنا فى هذه الآية وفيما قبلها أن الضلال يقع ما دون الكفر فيكون مع شناعة فيما يقتضيه بوصفه وإن لم يرد به الكفر دون الإفصاح بلفظ الكفر إذ يصح أن يطلق على متصف بالإيمان برئ من الكفر وقد قال تعالى مخبرا عن إخوة يوسف فى قولهم لأبيهم عليه السلام: "إنك لفى ضلالك القديم " وإنما أرادوا ما يرجع إلى خاطره عليه السلام برجائه يوسف وما يرجع إلى هذا وقد