الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجواب عن السؤال الثالث أنه لما تقدم هذه الآية من مؤثرات الخوف والجهل ومهيجات الرهب واالخشية ما اقتضاه الاخبار بغيبة للقدر وجهل للمشيئة فى قوله: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك. .. "الآية
وقوله: "ولو شاء ربك لأمن من فى الأرض كلهم جميعا " وعظم موقع ذلك على المؤمنين وكان مع ذلك للوفاء بمزدلفات الأعمال مما لا يحصل بالآمال أنسهم سبحانه بذكر الصفتين العليتين فقال: "وهو الغفور الرحيم " فناسب ورود الوصفين ما تقدم والله أعلم بما أراد.
الآية السادسة
قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون
" وقال فيما بعد من هذه السورة: قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ " وفى سورة الأعراف: قوله تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون " وفى سورة العنكبوت: قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه " وفى سورة الصف: قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام " وفى هذه الآيات سؤالان: أحدهما وجه ورود الآيات فى هذه المواضع بهذا النص من قوله "فمن أظلم ممن افترى على كذبا " وتعقيب كل آية منها بما اتصل بها والسؤال الثانى: تعريف الكذب فى سورة الصف وتنكيره فيما عداها.
والجواب عن الأول: أن الأولى تقدمها قوله: "فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا يستهزئون " ثم قال تعالى بعد: "ولو أنزلنا عليك كتابا فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين " فحصل من هذا افتراؤهم وفى قولهم: إنه سحر.
وتكذيبهم قال تعالى: "فقد كذبوا بالحق لما جاءهم " وجعلهم مع الله آلهة سواه فجمعوا بين الشرك والتكذيب فناسب هذا ورود قوله تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " على طريقة التعجب من مرتكبهم وسوء حالهم أى: من أظلم يا محمد من هؤلاء الجامعين بين الافتراء والشرك والتكذيب مع وضوح الشواهد وكثرة الدلائل الواردة أثناء هذه الآى مما لا يتوقف فيه معتبر فقد وضح تناسب هذا كله وحق لمرتكبه الوصف بالظلم الذى لا يفلح المتصف به وهو ظلم الافتراء على الله والشرك والتكذيب.
وأما الآية الثانية من سورة الأنعام فإن قبلها ذكر الرسل عليهم السلام وتعقيب ذكرهم بقوله: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " ثم قال تعالى: "وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ " فأعظم تعالى مرتكبهم فى هذا وفى تعاميهم عن التوراة وما تضمنته من الهدى والنور ثم أعقب ذلك بقوله تنزيها للرسل عليهم السلام عن الافتراء على الله سبحانه وادعاء الوحى فصار الكلام بجملته فى قوة أن لو قيل: ألا ترون ما تضمن كتاب موسى من الهدى والنور والبراهين الواضحة وهل يمكن أحد أعظم افتراء من هذا ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه بشئ " فهذا أوضح شئ ولما لم يتقدم فى الآية الأولى ذكر الأنبياء والوحى إليهم كما فى هذه لم يناسبها ما ورد هنا فجاء كل على ما يجب ويناسب والله أعلم.
وأما آية الأعراف فتقدمها وعيد من كذب بآيات الرسل واستكبر عنها وأنهم أهل الخلود فى النار فناسب هذا قوله تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على كذبا أو كذب بآياته ..
"الآية.
وأما آية يونس فتقدم قبلها قوله تعالى: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله " إلى آخر الآية ولا أظلم ممن قال من فصحاء العرب العالمين بمقاطع الكلام وجليل النظم وعلى البلاغة: "ائت بقرآن غير هذا " أو بدله مع علمهم بعلى فصاحته واعترافهم بالعجز عنه فجمعوا بين إنكار ما علموا صدقه ممن عرفوا على حاله وجليل منصبه فإخباره تعالى عنهم بقوله: "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " فجمعوا بين الانكار وبين وقولهم فى إنكارهم "أو بدله " فلا أظلم من هؤلاء ثم فى إنكارهم وقولهم "أو بدله " أعظم إقدام وأوضح إجرام لأنه كفر على علم فلهذا أعقبت الأية هنا بقوله: "إنه لا يفلح المجرمون " ولم يقع قبل التى فى سورة الأنعام وقبل آية الأعراف مثل هذا الاقدام على مثل هذه الجريمة فى القول وإنما تقدم عداوتهم زظلمهم أنفسهم فى مرتكباتهم وتعاميهم فناسبه قوله: "إنه لا يفلح الظالمون " وأما آية العنكبوت وآية الصف فجوابهما بين مما تقدم.
وجواب ثان: وهو أنه قد تقدم مما به الاعتبار فى الأولى من آيتى الانعام وآية يونس ما فيه كفاء وإن تنوع فقد جنعه جامع الاعتبار وفى كل شفاء لمن وفق للاعتبار به
فمن عدل عنه فظالم إلا أن الاجترام يبنى على أشد من الظلم وإن كان قد أجرى مع الظلم عدم الفلاح إلا أن الجرم أنبأ بالشدة وأخص بالاشعار بشناعة المرتكب وتقدم أن ترتيب السور والآى مراعى وعظيم الموقع وأنه لا يعارضه ترتيب النزول فإذا تقرر هذا فنقول: قدم وصفهم بالظلم ثم تكرر ذلك ممن افترى أو كذب وقد وصف أولا بالظلم فوصف ثانيا بالاجترام ترقيا فى الشر كما يترقى فى الخير وأيضا ليناسب ما وقع فى يونس متقدما من قوله: "وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزى القوم المجرمين ".
والجواب عن السؤال الثانى أن آية الصف قد انفردت عن كل ما تقدم من هذه الآى بذكر تعيين المفترى فيه الكذب منطوقا به من غير الإجمال الوارد فى الآى الأخر بل ورد على التفصيل والتعيين وذلك بين من قوله تعالى: "وإذ قال عيسى بن مريم يا بنى إسرائيل إنى رسول الله اليكم لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد " ثم قال: "فلما جاءهم بالبينات " أى فلما جاءهم الرسول الذى سماه لهم عيسى بالبينات والدلائل القاطعة والتصديق لما بين يديه من التوراة قالوا هذا سحر مبين فافتروا الكذب وارتكبوا البهت فيما لا توقف فيه ولا اشكال فقيل متعجبا من حالهم على الجارى فى لسان العرب: "ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب " معرفا بأداة العهد ليقوم مقام الوصف حتى كأن قد قيل هذا الكذب الذى لا امتراء فيه ولا توقف ولما لم يرد فى الآى الأخر ما تقدم هنا كان الوجه أن يرد منكرا كما ثبت فورد على ما يناسب ويجب والله أعلم.
الآية السابعة: قوله تعالى: "ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها
…
"الآية وفى سورة يونس: "ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كلنوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون " فورد الفعل فى الأولى مسندا إلى ضمير المفرد وفى الثانية إلى ضمير جماعة مع استوائهم فى الجمعية ومع اتفاق الغايتين فى أن استماعهم مع قصدهم إياه لا يجب عليهم فللسائل أن يسأل فيقول: لم ورد فى الأولى "ومنهم منيستمع إليك " وفى الثانية "ومنهم من يستمعون إليك " مع اتفاق الآيتين فيما ذكر؟
والجواب والله أعلم: أن نقول "من " لفظ مفرد ويصلح للاثنين والجميع.
على هذا وضعه فإذا ورد فى تكيب كلامهم فأول ما يحمل على السابق من حكمه اللفظى من
الافراد فلهذا ترد صلته إن كان موصولا أو صفته إن كان موصوفا أو خبره إن كان شرطا أو استفهاما كصلة "الذى "
…
الواقع على المفرد فتقول فى الصلة والصفة: من الناس من يفعل كذا وتقول فى الاستفهام: من يفعل ذلك؟ فيرفع الفعل ضميرا مفردا وسواء كان المراد فى المعنى واحدا أو أكثر قم قد يكون فيما اتصل بالكلام بعد ضمير أو غيره يراعى فيه معنى من حيث يراد أكثر من واحد فيأتون بع على معنى "من " لا على لفظها كقولك: "من الناس من يفعل كذا ويخطئون فى ذلك ومنهم من يفعل كذا مستمرين على فعلهم يبين ضمير الجمع فى قولك: وهم يخطئون والحال فى قوله: مستمرين على فعلهم أن المراد أكثر من واحد وعلى هذا كلام العرب فى الكثير المطرد وعيه جاء القرآن قال تعالى: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " ثم قال: "وما هم بمؤمنين " فعاد الضمير مجموعا فى قوله "وما هم " بعد عودته مفردا وهذا كثير وقال تعالى: "ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ندخله جنات تجرى من تحتها الأنهار " فعاد الضمير من ندخلع مفردا على لفظ "من " ثم قال "خالدين " وهو حال من الضمير قتبين بهذا الجمع أن المراد جميع، وقد يجرى الكلام على أوله فى الإفراد كقوله تعالى: "ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا
…
"الآيات، فورد فيها ضمائر ثمانية كلها عائدة على لفظ "من " ولم يرجع منها شئ على معنى "من " مع أن المعنى على الكثرة ثم أعلم بعد أن المراد بما يبينه ما يأتى بعد الضمير المفرد المحمول على لفظ "من " إنما هو أعنى المبين كثرة أو وحدة أما إبهام التعيين فمقصود لا يرتفع فإن إبهام الصلة أو الخبر فى هذا أبلغ فى تكميل فائدة الكلام وإحرازها ألا ترى أن قول الملك لخاصته: إن منكم من يفعل كذا أهيج لنفوس السامعين وأبلغ فى التحريض على الشئ أو الزجر عنه بحسب
المرتكب فإن كان مما يحبه الملك تشوقت نفوس المخاطبين إليه وإن كان على الضد من ذلك اشتد خوف جنيعهم وحذرهم وهذا يستدعى طولا قد يخرجنا عن مقصودنا والوارد من هذا فى الكتاب العزيز كثير.
ونرجع إلى مقصودنا فنقول: إن آية الأنعام وردت على الأكثر المطرد وقد ورد فيما انتظم بالآية بيان كون المستمعين جماعة وذلك قوله: "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا " فبين أن المراد جماعة وارتفع الاحتمال ولما لم يرد فيها انتظم مع آية سورة يونس ضمير ولا غير ذلك مما يبين المستمعين جماعة وكان بيان ذلك مرادا مقصودا أتى الضمير أولا ضمير جمع حملا على معنى "من " ولم
يحمل على لفظها فيفرد لئلا يوهم أن المستمع واحد وذلك غير مقصود فقيل: "ومنهم من يستمعون إليك " إذ ليس فى الكلام بعد ما يبين ذلك.
فإن قيل فإن "من " قد تقرر حكمها أنها يراد بها الكثير وإن كانت مفردة اللفظ وصالحة له وإذا كانت فى الأكثر من كلامهم مراد بها الكثير فذلك يرفع إيهام إرادة واحد؟ فالجواب أن إرادة الواحد بها - وإن كان الأقل - مبق حكم الايهام قال تعالى: "ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا
…
"الآيات إلى قوله "ولبئس المهاد " نزلت هذه الآى فى الأخنس بن شريق وقد تكرر الضمير فيها ثمانى مرات ضمير مفرد وتأكد بذلك أن المعنى بها واحد كما قال المفسرون وقال تعالى: "منهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى " نزلت فى الجد بن قيس لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الروم وقال: هل لك فى جلاد بنى الأصفر وقصته مشهورة وقال تعالى: "ومنهم من عاهد الله
…
"الآية نزلت فى ثعلبة بن حاطب إلى غير هذا من المواضع وقد تقدم أيضا أنها تصلح للاثنين وأنشد سيبويه رحمه الله.
[الفرزدق]
تعال فإن عاهدتنى لا تخوننى نكن مثل من ياذيب يصطحبان
فإذا ثبت أن "من " تصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث وقد ذكر المفسرون وأهل السير أن المعترضين لسماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم كانوا جماعة سماهم المفسرون فتحرير المراد فى الآية محرز للمعنى المقصود ومتأكد إذ ليس فيما بعد مما فى المنتظم مع الآية ما يبين المراد كما فى غيرها فوجب رعى ذلك فقيل: "ومنهم من يستمعون " ولزم ذلك ليرتفع الإيهام.
فإن قيل: فإن قوله تعالى فى آية يونس "أفأنت تسمع الصم " يبين ذلك كما بيبنه فى آية الأنعام قوله تعالى: "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه " وما بعد إذ الارتباط حاصل فى الآيتين ونظام الكلام ملتئم؟ فالجواب أن ارتباط قوله تعالى: "أفأنت تسمع الصم " بما قبله صحيح كارتباط قوله تعالى "وجعلنا على قلوبهم أكنة " بما قبله إلا أن قوله تعالى "وجعلنا على قلوبهم أكنة " مبين أن ما وقعت عليه "من " جماعة وكأن الكلام فى قوة أن لو قيل: وجعلنا على قلوب السامعين إذ لا يراد بالضمير غير ما وقعت عليه أما قوله تعالى: "أفأنت تسمع الصم " فليس كذلك بل المراد بلفظ الصم جنس الصم، والمستمعون بعض ذلك فحصل الارتباط بهذا الوجه لا أن الصم يراد بهم من وقعت عليه "من " فقط وهذا كقولهم: زيد نعم الرجل فإن الرجل لم يرد به زيد وحده إنما
أريد به جنس الرجال وإنما زيد واحد منهم فحصل الارتباط بهذا الوجه فليس كقوله "وجعلنا على قلوبهم " وبهذا يتم المعنى المقصود من تسلية نبينا صلى الله عليه وسلم، وكأن قد قيل له عليه السلام: إن الصم الذين لا يعقلون لم تكلف أسماعهم وهؤلاء منهم فلا درك عليه فيهمن صلى الله عليه وسلم فانفصلت آية يونس من آية الأنعام وورد كل على ما يجب.
فإن قيل إذا كان الأكثر فى "من " وقوعها على الكثير فقد وردت آية يونس على ما هو قليل فى كلامهم وفى هذا ما يسأل عنه؟ قلت ذلك كله فصيح ومعروف من كلامهم ولا يلزم من كون الوارد أقل أن يكون دون الكثير فى الفصاحة بل كل فصيح، وقد بوب سيبويه رحمه الله على حال "من " فى وقوعها على من ذكر فقال فى كتابه:"هذا باب إجرائهم صلة من وخبرها إذا عنيت اثنين كصلة اللذين وإذا أرادت جماعة كصلة الذين ثم ذكر الآية: ومنهم منيستمع إليك " وأنشد بيت الفرزدق وقد تقدم.
تعال فإن عاهدتنى لا تخوننى ..... البيت
وقد تقدم ذكر ما أجريت فيه مجرى التى كقول العرب: ومن كانت أمك وأيهن كانت أمك، وأورد عن [بياض] قراءة من قرأ:"ومن تقنت منكن لله ورسوله " فقد ذكر سيبويه رحمه الله أن هذا كله من كلام العرب ودل قوله فى الترجمة: هذا باب إجرائهم بالاضافة إلى ضمير الجمع وإنما يريد العرب وهذا مشير إلى أن العرب تتكلم به كثيرا وأنه ليس فى كلام بعضهم دون بعض ووضح من جملة هذا أن قوله تعالى فى آية يونس "ومنهم من يستمعون " بضمير الجماعة لا يلائم الموضع سواه إذ ليس بعده ما يبين أن المراد جمع أما آية الأنعام فقد ورد فى المنتظم بها مما بعد ما يبين المراد فجاء كل على ما يحب والله أعلم.
الآية الثامنة:
قوله تعالى: "وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين " وفى سورة المؤمنون: "إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " وفى الجاثية: "وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نمةت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. "الآية.
للسائل أن يسأل فيقول: إن هذه الآى الثلاث قد اتحد محصولها من إنكارهم البعث الأخراوى أن لا حياة بعد هذه الحياة الدنياويه ولم يرد فيها عدول عن هذا من قولهم فما وجه الاقتصار فى آية الأنعام؟ وزيادة نموت ونحيا فى الأخريين؟ وانففراد آية الجاثية بقولهم: "وما يهلكنا إلا الدهر " عوض قولهم فى الأوليين "وما نحن بمبعوثين "؟
فالجواب عن ذلك والله أعلم: أن آية الأنعام لم يرد فيما تقدمها زيادة على ما أخبروا به من حالهم فى إنكارهم البعث ألا ترى أن بنيت الآية على ما تقدمها من قوله تعالى: "ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد
…
"الآية فكأن قد قيل لهم: إنكم كنتم تنكرون البعث ووجود هذه الحياة الأخراوية ولم يرد أثناء هذا ما يستدعى زائدا.
أما آية المؤمنين فترتب الوارد فيها من قولهم "نموت ونحيا " على ما تقدم من دعاء الرسل إياهم، وقد ذكر الامداد فى دنياهم الحامل على عتوهم وقولهم فى المرسل إليهم:"ما هذا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون " فلما طال هذا الكلام بما أغروا به سفهاءهم ناسب هذا الطول ما زيد هنا من قوله "نموت ونحيا " أى طائفة تموت وطائفة توجد.
وشأن ما يرد فى الكتاب العزيز مما ظاهره التكرر زيادة فائدة أو تتميم معنى أو لبناء غيره من الكلام عليه حتى لا يكون تكرارا عند من وفق لاعتباره.
وأما آية الجاثية فهى المفصحة بمرتكبهم الشنيع من إنكارهم فاعلا مختارا حين قالوا: "وما يهلكنا إلا الدهر " فزادوا إلى إنكارهم البعث الأخراوى إنكارهم توقف الموت على آجال محدودة للخلائق ووقوعه بإرادة وتقدير من الموحد سبحانه ثم أتبعوا شنيع مرتكبهم هذا بقولهم للرسل تحكيما لإنكارهم البعث: "فأتوا بآياتنا إن كنتم صادقين " أى إن كنتم صادقين فى أنا نحيى بعد الموت فأرونا دليلا على ذلك بإحياء من مات من آبائنا وبما ورد هنا من هذه الزيادة حصل التعريف بجملة مقالهم الشنيع واستوفته هذه الآية ما لا يتأتى فى غير هذا مما يتكرر.
الآية التاسعة قوله تعالى: "وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " وهذه الآية الأولى مغفلة وفى هذه السورة أيضا "وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت " وفى الأعراف: "قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا " وفى سورة العنكبوت: "وما هذا الحياة الدنيا إلا فلهو ولعب " وفى سورة القتال: "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " وفى سورة الحديد: "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو " ففى آيتى الأنعام وسورة القتال وسورة الحديد تقديم اللعب على وعطف اللهو علي عليه وثبت فى الأعراف والعنكبوت بالعكس فقدم فيهما اللهو على اللعب والواو وان
كانت لا ترتب فانه لا يتقدم اللفظ فى الكتاب العزيز ذكرا أو يتأخر الا لموجب فوجه تقديم اللعب فى الأنعام أنه المتقدم فى الوجود الدنياوى على اللهو ولأن أول ابتداء تعقل الإنسان وميزه حاله حال اللعب وهو المطابق لسن الابتداء فإذا استمر ألهى عن التدبر والاعتبار وشغل تمادية عن التفكر فيما به النجاة والفوز وقد ينضاف إلى اللعب شاغل غيره أو يعاقبه فيحصل بالمجموع الغفلة عن النظر فى الآيات فيعقب الهلاك، قال تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس.
…
" الآية فلما لم يبرح هؤلاء عن الجرى على مهيع الصم والبكم الذين لا يعقلون جرى الإخبار عنهم فى الآية الثانية من الانعام بمقتضى أحوالهم فى أعمارهم التى لم تخرج عن أحوال البهائم فأول أعمارهم لعب وعقب ذلك لهو فورد الاخبار على حسب جرى الأعمار وانهم اعتمدوا البقاء مع مقتضى الطبع الانسانى إذ لم يصغ المكلف إلى داع ولا تكلف الخروج عن مقتضى هواه ولا جنح إلى مفارقة مألوف الطباع قال تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " فأمر تعالى نبيه عليه السلام بالاعراض عنهم فقال: "وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " على مقتضى الهوى والطبع وهذه الحال هى التى نبه سبحانه عباده المؤمنين على
أنها حال الحياة الدنيا وصفتها التى تمتاز بها فأعلم بذلك ليجتنبوها ويحذروا غرورها فقال تعالىفى الآية الأولى من هذه السورة: "وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " وقال فى سورة القتال: "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " ألا ترى أن الخطاب قبل هذه الآية خطاب للمؤمنين بالأمر بالطاعة لله ورسوله ووصية لهم وإعلام بحال عدوهم من الكفار وذلك قوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
…
" الآية، وفى سورة الحديد: "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو " فعرف عباده المؤمنين منها بالصفة التى هى فضلها وبها امتيازها على الترتيب الذى وجودها عليه من تقديم اللعب فى هذه الآى الأربع.
أما آية الأعراف فإنها قول المؤمنين أهل الجنة إخبارا عن حال الكافرين الموجبة لتعذيبهم فقدموا فى الذكر اللهو الشاغل عن الاستجابة الجارى مع سن التكليف والمساوق له الثانى عن اللعب إذ وجود اللعب أولى فى السن التى معظمها غير سن التكليف وجرى الأقلام بالتزام الطاعة واجتناب المخالفة فقصدوا أن يخصوا موجب التعذيب من الأعمال فذكروا مساوقه ومظنته وهو معاقب اللعب والذى اتخذه الكافر بالقصد والاختيار عوضا عن شاق التكاليف، ولم يذكر اللعب أولا لأنه جار فى البدأة وحين لا تكليف
فكأن الكلام فى قوة أن لو قيل: ان الله محرم نعيم الجنة على من تأبط الكفر واعتمده واتبع اللعب واللهو من كفره فلم يبرح عن ملازمة الطبع والهوى.
وأما آية العنكبوت فإنها تقدم قبلها قوله تعالى: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله "، ولا يسأل عن هذا ويجيب الا من جاوز سن اللعب وبلغ سن التى فيها ينعلق التكايف بالمخاطب ويصح خطابه وعتابه على تفريطه.
فناسب ذلك من ذكر الحياة الدنيا تقديم ما يساوق تلك السن فقدم ذكر اللهو والتلى اللعب ليناسب وايحصل ذكر مانعهم من الاستجابة وتكميل النظر المخلص لهم وآخر ذكر اللعب الذى لا يساوق مع أنه متبوع اللهو لزوما لمن لم تسبق له سابقة سعادة فهذا وجه التقديم والتأخير فيما ذكر ولو ورد على العكس لما كان ليناسب والله أعلم.
الآية العاشرة قوله تعالى: "وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " وفى سورة الأعراف: "والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " وفى سورة يوسف: "ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون " فى هذه الآى ثلاثة أؤولة والآية الأولى من مغفلات صاحب كتاب الدرة أحدها قوله فى الأنعام "وللدار "باللام الموطية للقسم، وفى الأعراف "والدار " بغير تلك اللام والثانى جرى الأخرة على الدار نعتا لها فى السورتين وفى سورة يوسف "ولدار الآخرة " على الإضافة والثالث قوله فى السورتين "للذين يتقون " وفى سورة يوسف "للذين اتقوا ".
والجواب عن الأول: أن آية الأنعام تقدمها قوله تعالى معرفا بحال الدنيا "وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " ومعنى التأكيد فى هذا حاصل من جرى الكلام وسياقه لأنك إذا قلت: ما المال إلا الإبل فكأنك نفيت عن غير الإبل أن يكون مالا وأثبت ذلك لها ثباتا مؤكدا وانها المال حقيقة وكأن ما سواها ليس بمال وعلى هذا يجرى ما دخلته الا بعد ما النافية من مثل هذا ومثل هذا هو المعنى الحاصل من لفظ القسم الصريح فناسبه هذا مجئ اللام الموطية للقسم داخلة على المبتدأ فى الآية المعرفة لحال الدار الأخرى فى قوله: "وللدار الآخرة " وكأنه نص قولك والله للدار الآخرة خير، وتناسب هذا مع ما تقدم قبله من تقدير القسم المؤكد كما تبين، وليس فى آية الأعراف ما يقتضى هذا لأنها مناطة بقوله تعالى:"فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى "
ثم قال: "والدار الآخرة خير "، على هذا نظم هذا الكلام وليس فيه ما يقتضى قسما فلم تدخله تلك اللام.
والجواب عن السؤال الثانى: أن جرى النعت بلفظ الآخرة على الدار فى الآيتين وجهه مطابقة ما تقدم قبل كل واحدة من الآيتين أما فى آية الأنعام فقوله تعالى مخبرا عنهم: "وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا " فطابق هذا قوله تعالى: "وللدار الآخرة خير " وأما آية الأعراف فقوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى " المراد به الدار الدنيا فقوبل بقوله: "والدار الآخرة خير " وهذا بين ولما لم يتقدم مثل ذلك قبل آية يوسف ورد لفظ الدار مضافا بغير الألف واللام فيه فقيل: "ولدار الآخرة خير " وجاء كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثالث: ان قوله تعالى فى سورة يوسف: "ولدار الآخرة خير للذين اتقوا " قد تقدم قبله قوله تعالى: "أولم يسيروا فى الأرض
…
" الآية، والحاصل منه انهم ظلموا أنفسهم فأهلكوا ولو اتقوا لنجوا فناسب هذا المعنى المقدر ورود الماضى فى قوله تعالى: "للذين اتقوا " أوضح مناسبة.
الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: "وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه " وفى سورة العنكبوت: "وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه " فى قراءة نافع وأبى عمرو وحفص ولمك يختلف فى توحيد لفظ آية فى الأنعام والمقصود واحد؟
ووجه ذلك والله أعلم أن لولا فى الآيتين تحضيض وإنما يجرى فى كلامهم عندما يراه المتكلم به أولى أو أهم فى مقصود ما أو أتم فى مطلب ما إلى أشباه هذا مما يستدعى التحضيض ولما تقدم قبل آية الأنعام ذكر دلائل من خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور بحال من كذب وعاند إلى ما تبع ذلك من الآيات التى يحتاج فيها إلى النظر وإعمال الفكر والاعتبار وكان مظنه لتغبيط الجاحد، فطلبوا آية تبهر ولا يحتاج معها إلى كبير نظر كناقة صالح عليه السلام أو شبه ذلك فافتتحوا فيما ذكره سبحانه عنهم بأداة لولا التحضيضية حرصا على ما طلبوه، وأتوا بالفعل مضعفا لما أرادوه من التأكيد فقالوا: نزل وأفردوا آية لما قصدوه من أنه عليه السلام جاءهم بآية واحدة من الضرب الذى طلبوه، وهذا مناسب وقد صرحوا بما طلبوه من هذا الضرب بالذى ذكرنا
فى قولهم: "لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب
…
" الآية، وفى قولهم: "لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا " إلى ما أشبه هذا فقال تعالى: قل لهم يا محمد إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون أى لا يعلمون ما كان يعقبهم ذلك لو وقع على وفق اقتراحهم من تعجيل أخذهم وهلاكهم كما جرى لغيرهم من الأمم كقوم صالح عليه السلام وغيرهم وقد قدم لهؤلاء التنبيه على ذلك فى قوله تعالى: "ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون " وأيضا ففى ذلك من الحكمة ما سبق فى علمه تعالى من هداية من شاء واضلال من شاء وليرفع بالعلم والنظر من هداه إليه ووفقه فلو ورد هذا الفعل غير مضعف ولم تفرد آية لما أحرز هذا المعنى.
أما آية العنكبوت فقد تقدم قبلها قوله تعالى: "بل هو آيات بينات فى صدرو الذين أوتوا العلم " ثم قال تعالى: "وما يجحد بآياتنا " وتأخر بعدها قوله تعالى: "قل إنما الآيات عند الله " فلم يكن ليناسب بعد اكتناف هذه الجموع توحيد آية ثم ان هذه الآية لم يتقدمها من التهديد وشديد الوعيد ما تقدم آية الأنعام فناسب ذلك ورودالفعل غير مضعف وجاء ذلك كله على ما يجب ولم يكن عكس الوارد ليناسب والله أعلم.
الآية الثانية عشرة قوله تعالى: "قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين "، ثم قال بعد:"قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم " ثم قال بعد: "قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون " وفى سورة يونس: "قل أرأيتكم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون " ففى هذه الآى الأربع أربعة أسؤلة: الأول ما وجه التكرار فى الواردة فى سورة الأنعام؟ والثانى: ما وجه اختصاص بعضها يتأكيد الخطاب الحاصل من الضمير بالإتيان بالأداة بعد فى قوله: "قل أرأيتم " وسقوط ذلك من بعضها؟.
الثالث: ما وجه تخصيص كل آية منها بما اتبعت به؟، الرابع: ما وجه الترتيب فى الآيات الثلاث وهو قوله فى التنبيه أولا: "إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة " وتأخير التنبيه بمثل ذلك من ذكر العذاب فى قوله: "قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة
…
" الآية وتسيط التنبيه بقوله: "قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم "؟
والجواب عن الأول: أنه إنما أعيد لفظ التنبيه لتسويغ معتبرات كل منها كاف فى الدلالة لمن وفق ونظير هذا ما ورد فى قوله تعالى: "قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما يشركون " ثم قال: "أمن خلق السماوات والأرض " أمن فعل كذا فهذه الدلالات التى نبهوا على الاعتبار بها نظائر الآى الواردة فى آية الأنعام وأما الإتيان بأداة الخطاب بعد الضمير المحصل لذلك فتأكيد فى إيقاظ المنبه إنباء باستحكام غفلته كما يحرك النائم باليد والمفرط الغفلة باليد واللسان وشبه هذا ألا ترى وصفهم قبل هذا بقوله تعالى: "والذين كفروا بآياتنا صم وبكم فى الظلمات " فذكروا أولا تذكير الصم والبكم، وإنما يذكر هؤلاء بأبلغ ما يقع به التحريك والتنبيه، ثم لما بسط الكلام وامتد الوعظ إلى الآية الأخرى قيل لهم:"قل أرأيتم " فلم يحتج إلى التأكيد، وذكروا بأمر مشاهد فى كثير من الخلق فقيل لهم:"إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم " ثم لما أخذوا بكل وجهة يحصل منها الإتعاظ اتبع ذلك بذكر العذاب وسوء الجزاء لمن لم يتعظ وكررت أداة الخطاب وأكد كما يقال لمن نبه فلم ينتبه ولا أجدى عليه التذكار كيف رأيت؟ ويحرك تجريك المتمادى على غيه بتكرر الخطاب فقد حصل الجواب عن الكل.
وأما آية يونس فمنفردة ولم يتقدم قبلها ذكر صم ولا بكم يوجب تأكيد الخطاب وقد تقدم قبلها قوله تعالى: "قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار " إلى ما بعد هذا فحصل تحريكهم وتنبيهم بما لم يبق لعده الا التذكير بعذابهم ان لم يجد ذلك عليهم فالتدريج هنا حاصل كما هناك لكن بطريقة أخرى والله أعلم بما أراد.
فصل: واعلم أن من جعل الأداة المؤكد بها الخطاب فى أرأيتكم ضميرا لم يلزمه اعتراض بتعدى فعل المضمر المتضل إلى مضمره المتصل لأن ذلك جائز فى باب الظن وفى فعلين من غير باب ظننت وحسبت وهما: فقدت وعدمت، وكذلك تعدى فعل الظاهر إلى مضمره المتصل جائز فى الأفعال المذكورة والآيات المتكلم فيها من باب الظن لأن المراد برأيت رؤية القلب فهى من الباب المستثنى وإنما الممتنع مطلقا تعدى فعل المضمر المتصل إلى ظاهره فلا اختلاف فى منع هذا فى كل الأفعال وأما من جرد أداة الخطاب المؤكد بها للحرفية وهو قول الجمهور فلا كلام فى ذلك.
الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: "فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون "
وفى سورة الأعراف: "وما أرسلنا فى قرية من نبى إلا أخذنا أهلاه بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون " بإدغام تاء التفعل فى فاء الكلمة مع اتحاد المرمى فى الآيتين فيسأل عن وجه ذلك؟
والجواب والله أعلم: أن العرب تراعى مجاورة الألفاظ فتحمل اللفظ على مجاوره لمجرد المضارعة اللفظية وان اختلف المعنى ومنه الاتباع فى ينوؤك ويسوؤك قال سيبويه رحمه الله وقد ذكر بعض ما تتبع فيه العرب وتحمل اللفظ على ما قرن به لول أفرد عنه لم ينطق به كذلك فقال: كما أن يتوؤك يتبع يسوؤك يريد أنك تقول: ينيئك بضم الياء وكسر النون متعديا على مثال يزيلك وزنا وتعدية إلى المفعول فإذا ذكرته بعد يسوؤط ابعته إياه فقلت يسوؤك وينوؤك مع اختلاف المعنى فهم فيما اتفق معناه من هذا أحرى أن يفعلوا فيه ذلك.
وماضى الفعل من الضراعة لا إدغام فيه إنما تقول تضرع إذ لا حرف مضارعة فيه يسوغ الإدغام فلما ورد الماضى فيما بنى علي آية الأنعام من قوله: "فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا " ولا ادغام فيه لما ذكرنا ورد الأول مفكوكا غير مدغم فقيل يتضرعون رعيا للمناسبة، أمأ آية الأعراف فلم يرد فيها ما يستدعى هذه المناسبة فجاء مدغما على الوجه الأخف إذ لا داعى لخلافه والله أعلم.
الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: "قل لا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك " بتكرير ضمير الخطاب المجرور من قوله "لكم " وفى سورة هود: "ولا أقةل لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك " بغير تكرير الخطاب فللسائل أن يسأل عن ذلك؟
والجواب والله سبحانه أعلم أن الوارد فى سورة هود إنما هو حكاية قوله نوح عليه السلام متلطفا ومشفقا من حال قومه ألا ترى استفتاح خطابه لهم بقوله: "أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتانى رحمة من عنده
…
" الآية وقوله: "ويا قوم لا أسألكم عليه مالا
…
" الآية وقوله: "يا قوم من ينصرنى من الله " إلى قوله "إنى إذا لمن الظالمين " فتأمل جليل ملاطفته عليه السلام وما يفهم من كلامهم من عظيم الإشفاق من حالهم وإرادته ما به نجاتهم من العذاب ومن أخذهم بمرتكباتهم فهذا كله استلطاف فى الدعاء لا يلائمه تكرار كلمة تفهم تعنيفا أو توبيخا والتأكيد والتكرار يفهم ذلك ويردان حيث يقصد.
وأما قوله تعالى فى آية الأنعام: "ولا أقول لكم إنى ملك " فوارد طى كلام أمره صلى الله عليه وسلم بتبليغه عتاة