المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة البقرة غ - قوله سبحانه: "الم ". أقول وأسأل الله توفيقه: إن - ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل - جـ ١

[ابن الزبير الغرناطي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌سورة أم القرآن

- ‌سورة البقرة

- ‌الآية التاسعة:

- ‌الآية الحادية عشرة

- ‌الآية الثانية عشرة:

- ‌الآية الثالثة عشرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم

- ‌قوله عز وجل: "وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يأت أحدا من العالمين

- ‌الآية الثالثة عشرة: وهى تمام ما قبلها:قوله تعالى: "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم

- ‌قوله تعالى: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم

- ‌سورة الأنعام

- ‌قوله تعالى: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون

- ‌الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: "إن هو إلا ذكرى للعالمين

- ‌الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة

- ‌الآية الموفية عشرينقوله تعالى: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل

- ‌قوله تعالى: "ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون

- ‌الآية الثالثة والعشرون قوله تعالى: "كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون

- ‌الآية الرابعة والعشرون قوله تعالى: "ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون

- ‌الآية السادسة والعشرون قوله تعالى: "سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا كذلك كذب الذين من قبلهم

- ‌الآية التاسعة والعشرون: قوله تعالى: "وأنا أول المسلمين "، وفى سورة الأعراف: "وأنا أول المؤمنين "، يسأل عن الفرق

- ‌سورة الأعراف

- ‌الآية الرابعة من سورة الأعرافقوله جل وتعالى: " وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ

- ‌الآية الخامسة قوله تعالى: "فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون

- ‌الآية الحادية عشرة من سورة الأعرافقوله تعالى فى قصة صالح: " قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

- ‌الآية الرابعة عشرة من سورة الأعرافقوله تعالى: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ

- ‌الآية السادسة عشرة قوله تعالى: " تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ

- ‌الآية السابعة عشرة قوله تعالى: " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون

- ‌الآية الخامسة والعشرون قوله تعالى: " قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌الآية الثالثة قوله تعالى: " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

- ‌سورة يونس

الفصل: ‌ ‌سورة البقرة غ - قوله سبحانه: "الم ". أقول وأسأل الله توفيقه: إن

‌سورة البقرة

غ - قوله سبحانه: "الم ".

أقول وأسأل الله توفيقه:

إن القول الوارد عنهم فى هذه الحروف المقطعة الواردة فى أوائل السور على كثرته وانتشاره منحصر فى طرفين أحدهما: القول بأنها مما ينبغى أن لايتكلم فيه ويؤمن بها كما جاءت من غير تأويل

والثانى: القول بتأويلها على مقتضى اللسان وهذا مسلك الجمهور، وهذا الذى نعتقد أنه الحق لأن العرب تحديت بالقرآن وطلبت بمعارضته أو التسليم والانقياد وبمعرفتهم أنه بلسانهم ومعروف تخاطبهم وعجزهم مع ذلك عنه قامت الحجة عليهم وعلى كافة الخلق، وإذا سلم هذا فكيف يرد فى شئ منه خطابهم بما لا طريق لهم إلى فهمه، فلو كان هذا لتعلقوا به ووجدوا السبيل إلى التعلل فى العجز عنه وهذا مبسوط فى كتب الناس وغير خاف وقد انتشرت تأويلات المفسرين وتكاثرت والملائم بما نحن بسبيله ما أذكره مما لم أر من تعرض له وهو اختصاص كل سورة من المفتتحة بهذه الحروف بما افتتحت به منها فهذا ما يسأل عنه ولم أر من تعرض وهو راجح إلى ما قصدته هنا وما سوى هذا مما يتعلق بالسؤال على الحروف كورودها على حرف وعلى حرفين إلى خمسة وتخصيص هذه الحروف الأربعة عشرة وكثرة الوارد منها على ثلاثة إلى غير هذا فليس من مقصدنا فى هذا الكتاب أما الأول فمن شرطنا.

والجواب عنه: أن وجه اختصاص كل سورة منها بما به اختصت من هذه الحروف حتى لم يكن ليرد "الم " فى موضع "الر " ولا "حم " فى موضع "طس " ولا "ن " فى موضع "ق " إلى سائرها، أن هذه الحروف لافتتاح السور بها ووقوعها مطالع لها كأنها أسماء لها بل هى جارية مجرى الأسماء من غير فرق وهذا إذا لم نقل بقول من جعلها أسماء للسور والعرب تراعى فى الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون فى المسمى من خلق أو صفة تخصه أو تكون فيه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائى للمسمى، ويسمون الجملة من الكلام والقصيدة الطويلة من الشعر بما هو أشهر فيها أو بمطلعها إلى أشباه هذا وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لغريب قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فى أمرها وتسمية سورة الأعراف بالأعراف لما لم يرد ذكر الأعراف فى غيرها وتسمية سورة النساء بهذا الاسم

ص: 22

لما تردد فيها وكثر من أحكام النساء وتسمية الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها وان كان قد ورد لفظ الأنعام فى غيرها إلا أن التفصيل الوارد فى قوله تعالى: "ومن الأنعام حمولة وفرشا " إلى قوله "أم كنتم شهداء " لم يرد فى غير هذه السورة كما ورد ذكر النساء فى سور إلا ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد فى غير سورة النساء وكذا سورة المائدة لم يرد ذكر المائدة فى غيرها فسميت بما يخصها.

فإن قلت: قد ورد فى سورة هود ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام ولم تختص باسم هود وحده عليه السلام فما وجه تسميتها بسورة هود على ما أصلت وقصة نوح فيها أطول وأوعب؟

قلت: تكررت هذه القصص فى سورة الأعراف وسورة هود وسورة الشعراء بأوعب مما وردت فى غيرها ولم يتكرر فى واحدة من هذه السور الثلاث اسم هود عليه السلام كتكرره فى هذه السورة فإنه تكرر فيها عند ذكر قصته فى أربع مواضع والتكرر من أعمد الأسباب التى ذكرناها.

فإن قيل: فقد تكرر اسم نوح فى هذه السورة فى ستة مواضع وذلك أكثر من تكرر اسم هود

قلت: لما أفردت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة برأسها فلم يقع فيها غير ذلك كانت أولى بأن تسمى باسمه عليه السلام من سورة تضمنت قصته وقصة غيره من الأنبياء عليهم السلام وإن تكرر اسمه فيها أكثر من ذلك.

أما هود عليه السلام فلم يفرد لذكره سورة ولا تكرر اسمه مرتين فما فوقها فى سورة غير سورة هود فكانت أولى السور بأن تسمى باسمه عليه السلام.

وتسمية سائر سور القرآن جار فيها من رعى التسمية ما يجاريها فأقول: - وأسأل الله عصمته وسلامته -

إن هذه السور إنما وضع فى أول كل سورة منها ما كثر ترداده فيما تركب من كلمها ويوضح لك ما ذكرت أنك إذا نظّرت سورة منها بما يماثلها فى عدد كلمها وحروفها وجدت الحروف المفتتح بها تلك السور إفرادا وتركيبا أكثر عددا فى كلمها منها فى نظيرتها ومماثلتها فى عدد كلمها وحروفها فإن لم تجد سورة منها ما يماثلها فى عدد كلمها ففى اطراد ذلك فى المتماثلات مما يوجد له النظير ما يشعر بأن هذه لو وجد مماثلها لجرى على ما ذكرت لك وقد اطرد هذا فى أكثرها فحق لكل سورة منها أن لا يناسبها غير الوارد فيها فلو وقع فى موضع "ق " من سورة "ق ""ن " من سورة "ن والقلم " وموضع ن ق لم يمكن لعدم المناسبة المتأصل رعيها فى كتاب الله تعالى فإذا أخذت كل افتتاح منها معتبرا بما قدمته لك لم تجد: "كهيعص " يصح فى

ص: 23

موضع "حم عسق " ولا العكس ولا "حم " فى موضع "طس " ولا العكس ولا "المر " فى موضع "الم " ولا عكس ذلك، ولا "المر " فى موضع "المص " بجعل الصاد فى موضع الراء ولا العكس فقد بان وجه اختصاص كل سورة بما به افتتحت، وأنه لا يناسب سورة منها ما افتتح غيرها، والله أعلم بما أراد.

الآية الثانية:

قوله تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " فوصفه سبحانه بكونه هدى للمتقين وقال تعالى فى وصف التوراة والإنجيل فى أول سورة آل عمران: "وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس " ولم يقل هنا هدى للمتقين فللسائل أن يسأل عن الفرق الموجب اختصاص كل من الموضعين بما ورد فيه وهل كان يحسن ورود الناس فى موضع المتقين وورود المتقين فى موضع الناس؟

والجواب: أن الملائم المناسب ما ورد وأن عكسه غير ملائم ولا مناسب ووجه ذلك أن الكتاب المشار إليه هو الكتاب العزيز على ما فى مآخذ المفسرين من التفصيل وهو مما خصت به هذه الأمة، والتوراة كتاب موسى عليه السلام لبنى إسرائيل والإنجيل كتاب عيسى عليه السلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم الفضل المعلوم فأشير بالمتقين إلى حال المخصوصين به، وقيل فى الآخرين: هدى للناس ليشعر بحال أهل الكتابين وفضل أهل الكتاب العزيز عليهم فلا يلائم كل موضع إلا بما ورد فيه.

فإن قيل: إنما صح لهم الوصف بالتقوى بعد اهتدائهم بالكتاب وتصديقهم به والتزامهم ما تضمنه.

قلت: لحظ فى ذلك الغاية فهو من باب التسمية بالمآل وهو باب واسع ومنه: "إنى أرانى أعصر خمرا " وإذا تقرر ما ذكرناه فعكس الوارد غير ملائم، والله أعلم بما أراد.

الآية الثالثة: قوله تعالى: "يخادعون الله والذين ءآمنوا وما يخدعون الا أنفسهم وما يشعرون " وقال بعد: "ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يشعرون ".

ثم قال بعد: "ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون " فنفى عنهم هنا العلم وفى الآيتين قبل الشعور فيسأل عن الفرق الموجب لهذا التخصيص.

والجواب عن ذلك: إن الشعور راجع إلى معنى الإحساس مأخوذ من الشعار وهو ما يلى الجسد ويباشره فيدرك ويحس من غير افتقار إلى فكر أو تدبر، فيشترك فى مثل

ص: 24

هذا الإدراك العاقل من الحيوان وغير العاقل وأما العلم فلا يكون إلا عن فكر ونظر يحصله، وقد تكون مقدماته حسية أو غير حسية على قول المحققين من أرباب النظر فهو مما يخص العقلاء ولما كان الإيمان وهو التصديق لا يحصل إلا عن نظر وفكر يحصل العلم بالمصدق به، ولا يكون النظر والفكر إلا من عاقل يعرف الصواب من الخطإ وقد نفى المنافقون ذلك عن المؤمنين ونسبوهم إلى السفه وهو خفة الحلم وعدم التثبت فى الأمور وذلك فى قولهم:"أنؤمن كما آمن السفهاء " فرد الله ذلك عليهم بقوله: "ألا إنهم هم السفهاء " ونفى عنهم العلم فنفى عنهم ما نفوه عن غيرهم ووصفوا بما نسبوه لغيرهم ولما كان الفساد فى الأرض وروم مخادعة من لا ينخدع منتحل لا يخفى فساده على أحد ويوصل إلى ذلك بأول إدراك ناسبه أيضاً نفى الشعور ولم يكن ليناسبه نفى العلم فجاء كل على ما يناسب ويلائم.

وتعرض أبو الفضل بن الخطيب لما ورد فى هذه الآية فقال: إنما قال فى آخر هذه الآية "لا يعلمون " وفيما قبلها "لا يشعرون " لوجهين: أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلى نظرى وأما أن النفاق وما فيه من البغى يقضى إلى الفساد فى الأرض فضرورى جار مجرى المحسوس

والثانى أنه لما ذكر السفه وهو جهل كان ذكر العلم أحسن طباقا له والله أعلم انتهى، وما ذكرته أجرى مع لفظ الآي وأبين.

الآية الرابعة:

قوله تعالى: "وتركهم فى ظلمات لا يبصرون صم بكم عمى فهم لا يرجعون " وورد فيما بعد: "ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لايسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون " ففى الأولى "لا يرجعون " وفى الثانية "لا يعقلون " مع اتحاد الأوصاف الواردة مورد التسبب والعلة فيما نسب لهم.

والجواب عنه: أنه لما مثل حال المنافقين بحال مستوقد النار لطلب الإضاءة وأنه لما أضاءت ما حولها أذهبها الله وطفيت فلم يكن له ما يستضئ به ويرجع إليه فنفى عنهم وجود ما يرجعون إليه من ضياء يدفع حيرتهم وهذا بين.

أما الآية الثانية فإنه مثل حال الكافرين فيها بحال الغنم فى كونها يصاح بها وتنادى فلا تفهم عن راعيها ولا تسمع إلا صوتاً لا تعقل معناه ولا نفهم ما يراد به كذلك الكفار

ص: 25

فى خطاب الرسل إياهم فلا يجيبونهم ولا يعقلون ما يراد بهم وهذا مناسب وكل على ما يجب.

فإن قيل أما تمثيل الكفار وتشبيههم بالغنم فيما ذكر فقد أفصح ذلك قوله تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام " فقد وضح هذا ما ذكرته إلا أن آية البقرة إنما ورد فيها ببادى سياق الكلام وظاهره تشبيه الكفار بالنعاق بالغنم لا بالغنم فكيف يرجع تقدير الآية إلى ما ذكرت؟

فالجواب: أن إيجاز الكلام يقتضى حذف ما يفهمه السياق اختصاراً فالتقدير فى الآية ما مر من الإشارة إلى التشبيه بالطرفين ومنه قول الشاعر:

وإنى لتعرونى لذكراك فترة كما انتفض العصفور بلله القطر

فشبه فى ظاهر الكلام ما يعروه من الفترة بانتفاض العصفور وليس مراده هذا وإنما يريد تشبيه ما يعروه بما يعرو العصفور بعد ما يدركه من بل المطر من الفترة وأنه ينتفض عندها كما ينتفض العصفور فحذف فى كل من الطرفين ما أثبت نظيره.

فالتقدير فى البيت: وإن لتعرونى لذكراك فترة فانتفض كما تعرو العصفور فترة فينتفض فشبه ما يعروه بما يعرو العصفور والانتفاض بالانتفاض وعلى هذا حمل سيبويه الآية قال: "لم يشبهوا بما ينعق وإنما شبهوا بالمنعوق به " وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذين لا يسمع.

قال [سيبويه]: "ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى " وهذا تقدير معنى الآية.

فإن قلت فكيف تقدير الإعراب؟

قلت: الأقرب فيه أن يكون على حذف مضاف أى ومثل داعى الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع وعلى هذا حمله أكثر الناس وان شئت جعلت ما قدرنا عليه المعنى تقديراً للمعنى والإعراب وقد أخذه على ذلك جملة من شيوخنا ومن قبلهم.

الآية الخامسة:

قوله تعالى: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) " وفى سورة يونس: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين "، وفى سورة هود:"أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ".

يسأل عن قوله فى الأولى: "من مثله " وفى الثانية: "مثله " وما الفرق بين الموضعين؟ ولم قيل فى سورة هود بعشر سور؟ ولم وصف بمفتريات؟ ولم قال فى البقرة: "فادعوا شهدائكم " وفى الموضعين الآخريين: "من استطعتم " فهذه أربع سؤالات.

ص: 26

والجواب عن السؤال الأول: أن المراد إراءتهم ما يرفع شكهم فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكأن قد قيل: إن شككتم فى نبوته وتخصيصنا إياه بذلك فلتأتوا برجل منكم غيره يصدر عنه أو يأتى بسورة واحدة من نمط طا سمعتم من محمد صلى الله عليه وسلم وائتوا بشهداء يشهدون أن غيره قد سمع منه ما طلبتم به فإذا عجزتم عن ذلك مع التماثل فى الخلق والعلم بمقادير الكلام، إذ ليس بغير لسانكم المألوف عندكم فإذا عجزتم عن ذلك ولابد من عجزكم فاتخذوا وقاية تنجيكم من النار التى يخبركم أنها معدة لمن يكذبه فلما كان المراد هنا ما ذكرناه من التعيضية فى قوله تعالى:"من مثله " وأما الوارد فى سورة يونس فإنما أريد به ما يجرى مع قوله تعالى: "أم يقولون افتراه ".

فقيل لهم: إذا كان مفترى كما تزعمون فما المانع لكم عن معارضته فائتوا بسورة مماثلة للقرآن، فالمراد هنا نفى كلام مماثل للقرآن وإقامة الحجة عليهم بعجزهم عن ذلك والمراد فى البقرة نفى شخص يماثله صلى الله عليه وسلم فى أن يسمع منه ما يماثل سورة واحدة من مثل القرآن فى فصاحته وعجائبه، فاختلف المقصدان فى السورتين مع الائتلاف فى تعجيزهم عن هذا وهذا فلما اختلفا لم يكن بد من "من " فى الأولى لإحراز معناها ولم يأت فى يونس لحصول المعنى المقصود فيها دون من.

فإن قلت فإن "من " لا تمنع هذا المعنى المقصود فى يونس قلت: إذا كان المعنى يحصل بثبوتها وسقوطها على السواء فقد بقى رعى الإيجاز وهو مقتض سقوطها، أما المعنى المقصود فى البقرة فلا يحصل الا بمن فلم يكن بد منها هنا، فورد ذلك كله على ما يجب ويناسب.

والجواب عن السؤال الثانى: وهو قوله تعالى فى سورة هود: "بعشر سور " فإنه والله أعلم لما قيل مفتريات فوسع عليهم ناسبة التوسعة فى العدد المطلوب لأن الكلام المفترى أسهل فناسبته التوسعة.

أما الوارد فى السورتين قبل فلم يذكر لهم فيها أن يكون مفترى بل السابق من الآيتين الممثالة مطلقا فذلك أصعب وأشق عليهم مع عجزهم فى كل حال، فوقع الطلب حيث التضييق بسورة واحدة وحيث التوسعة بعشر سور مناسبة جليلة واضحة وقد جاوب بما هذا معناه بعض المفسرين.

والجواب عن الثالث: أنه وصف لهم المطلوب منهم هنا بأن يكون مفترى ليحصل عجزهم بكل جهة فلا يقدرون على وجود شخص مماثل له صلى الله عليه وسلم فى ظاهر الصورة الجنسية سمع منه ما يسمع من محمد صلى الله عليه وسلم ولا يقدرون على مثل سورة واحدة من سور القرآن.

ولما كان ظاهر هاتين الآيتين المماثلة مطلقا قيل بعد ذلك:

ص: 27

"ائتوا " بكلام مفترى على سهولة ما لا يتقيد بسوى الفصاحة وجاء ذلك من طلبهم بالتدريج، فأولا بالممثالة من غير ذكر:"مفترى " ثم قيل لهم: جيئوا بمفترى فلم يبق لهم عذر إلا العناد.

والجواب عن الرابع: أن قوله تعالى فى سورة البقرة: "وادعوا شهدائكم " المراد به من يشهد لكم أن شخصا مثله صلى الله عليه وسلم قد سمع منه ما طلب منكم إذ لا يكتفى فى مثل هذا بمجرد دعوى المدعى فقيل لهم: ائتوا بسورة من شخصه مثله فى الجنسية وبمن يبتعد لكم بأن قد فعلتم.

وقيل لهم فى سورة يونس فئتوا بسورة مثل القرآن واستعينوا عى ذلك بمن قدرتم فلم يطلبوا هنا بمن يشهد لهم وانما قيل لهم: استعينوا فى النظم والتأليف بمن قدرتم لأن سماع ذلك منهم أن لو كان ولا سبيل إليه لا يحتاج معه إلى شهادة شاهد، أما لو ادعوا أن أحداً سمع منه مثل القرآن لما قتع منهم بمجرد دعواهم ألا ترى استرواحهم إلى اقناع جهلتهم بما حكى سبحانه وتعالى عنهم بقوله:"لو نشاء لقلنا مثل هذا " والوارد فى هود كالوارد فى يونس.

الآية السادسة: هى أول آية تعرض لها صاحب كتاب الدرة وأجاب بغير ما هنا والله ينفع جميعنا بفضله.

وما يقع بعد مما لم يتعرض له صاحب كتاب الدرة من الآيات فننبه عليه بعلامة: ليعلم أنه من المفل كما تقدم.

قوله تعالى: "وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة " وفى سورة الأعراف: "ويآدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة "، فى هذا سؤالان:

الأول: ورود أمرهما بالأكل فى البقرة بواو النسق المقتضية عدم الترتيب ما لم يفهم من غيرها، وفى الأعراف: بالفاء المقتضية الترتيب والتعقيب والأمر واحد والقصة واحدة.

والثانى: وصف الأكل فى البقرة بالرغد ولم يقع هذا الوصف فى الأعراف مع اتحاد الأمر كما ذكرنا.

والجواب عن السؤال الأول: والله أعلم أن الوارد فى الآيتين مختلف فى الموضعين أما الوارد فى البقرة فقصد به الإخبار والإعلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما جرى فى قصة آدم صلوات الله وسلامه عليه وابتداء خلقه وأمر الملائكة بالسجود له وما جرى من إبليس عن السجود ثم ما أمر آدم من سكنى الجنة والأكل منها ولم يقصد غير التعريف بذلك من غير ترتيب زمانى أو تحديد غاية فناسبه الواو وليس

ص: 28

موضع الفاء، وأما آية الأعراف فمقصودها تعداد نعم الله جل وتعالى على آدم وذريته ألا ترى ما تقدمها من قوله تعالى:"ولقد مكناكم فى الأرض " وما اتبع به هذا من ذكر الخلق والتصوير وأمر الملائكة بالسجود لآدم ثم قوله مفردا لإبليس: "اخرج منها مذءوما مدحورا " ثم بعد ذلك أمر آدم عليه السلام بالهبوط متبعاً بالتأنيس له ووصية ذريته فى قوله تعالى: "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان " فتاسب هذا القصد العطف بالفاء المقتضية الترتيب والواو لا تقتضى ذلك وإنما بابها الجمع حيث لا يراد ترتيب وليس موضع شرط وجزاء فيكون ذلك مسوغاً لدخول الفاء، وإنما ورد هنا لما ذكرته من قصد تجريد التفصيل المحصل لتعداد النعم، ولما اختلف القصدان اختلفت العبارة عنهما، فورد كل على ما يناسب. والله أعلم.

وأما السؤال الثانى فالجواب عنه: أن ورود الرغد فى آية البقرة وسقوط ذلك فى الأعراف إنما ذلك لأن المعنى من هنا التبعيض ومعناها بما هو تبعيض قد يسبق منه إرادة التقليل وهو غير مراد هنا، وإنما مصرف التبعيض هنا إلى المأكول منه، فإن ما اشتملت عليه الجنة من ذلك إذا أكلت منه ذرية آدم بأجمعها فإنما تأكل بعضا إذ فيها من كل متنعم به ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاجتمع هنا أن البعضية مرادة بالنظر إلى ما انطوت عليه الجنة وإباحة التوسعة فى أكلها مقصودة وليس ثم ما يحرزها فقال تعالى:"رغداً " ليحصل المعنى التوسعة وتجردت "من " لإحراز معناها ولم يكن هنا بد إذ ليس فى السياق ما يحرز ذلك المعنى من التوسعة وذلك قوله تعالى: "من حيث شئتما " لإباحة ما فى أماكنها ومن المحال أن يباح لهما الأكل من حيث شاءا منها على اتساع المساحة وكثرة المآكل ثم يحجر عليهما التوسع فى الأكل والرغد فيه، هذا متناقض.

فإن قيل: قد وقع فى سورة البقرة: "حيث شئتما " وتلك توسعة فى الأماكن

قلت: ليس موقع حيث شئتما " موقع "من حيث شئتما " لأن "من حيث شئتما " يحرز ويعطى إباحة الأكل من ثمر كل موضع فيها.

أما حيث إذا لم يكن معها "من " فإنها تعطى بأظهر الاحتمالين إباحة الأكل فى كل موضع لا من ثمر كل موضع فقد يقال للشخص كل هذا العنقود حيث شئت من هذا البستان فإنما أبيح له أكل عنقود معين مخصوص حيث شاء من أماكن ذلك البستان ولم يتعرض بهذه العبارة لإباحة أكل ما فى كل موضع منه الا باحتمال ضعيف.

أما إذا قيل له كل من حيث شئت من مواضع هذا البستان فقد أبيح له الأكل من كل ما فى مواضعه، وحصلت التوسعة فى المأكل ولم يحصل ذلك عند سقوط "من " على ما تقدم

ص: 29

آنفا، فقد وضح افتراق الموضعين، وتعين ورود رغداً فى البقرة إذ ليس ثم ما يحرزه وتعين سقوطه فى الأعراف لوجود ما بحرزه. والله أعلم بما أراد.

الآية السابعة:

قوله تعالى: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى ".

وفى الأعراف "قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو " وفى سورة طه "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ".

ويسأل عن أى شئ لم ترد هذه الزيادة فى قوله فى البقرة: "قلنا اهبطوا منها جميعا "؟

والجواب عن ذلك: أنه لم يرد ذلك هنا اكتفاء بما فى الآية قبلها وهو قوله: "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ".

فلو قيل ذلك فى الآية بعدها مع الاتصال والتقارب لكان تكرارا لا يحرز فائدة لم تحصل بخلاف ما فى سورة الأعراف وسورة طه فورد كل على ما يجب ويناسب والله أعلم.

الآية الثامنة:

قوله تعالى فى البقرة: "فمن تبع هداى " وفى سورة طه: "فمن اتبع هداى ".

هنا سؤالان: ما فائدة اختلافهما وما وجه تخصيص كل موضع منهما بما اختص به؟

والجواب عنه والله أعلم: أن تبع واتبع محصلان للمعنى على الوفاء، و"تبع " فعل وهو الأصل و"اتبع " فرع عليه لأنه يزيد عليه وهو منبئ عن زيادة فى معنى فعل بمقتضى التضعيف فعلى هذا وبحسب لحظة ورعيه ورد فمن تبع وفمن اتبع وتقدم فى الترتيب المتقرر فمن تبع لإنبائه عن الاتباع من غير تعمل ولا تكلف ولا مشقة، وأما اتبع فإن هذه البنية أعنى بنية افتعل تنبئ عن تعمل وتحميل للنفس فقدم ما لا تعمل فيه وأخر اتبع لما يقتضيه من الزيادة ولم تكن إحدى العباراتين لتعطى المجموع فقدم ما هو أصل وأخر ما هو فرع عن الأول وكلاهما هدى ورحمة وورد كل على ما يناسب ويلائم.

وجواب ثان ينبئ عليه ما تقدم فيكون جوابا واحدا وهو ان اتبع مزيد منبئ عن التعمل والعلاج كما تقدم ولا يفهم ذلك من تبع الذى هو الأصل وانما ينبئ فى الأظهر عن قضية يتلو فيها التابع المتبوع متقيدا به فى فعله من غير كبير تعمل ولا علاج وكل من العبارتين أعنى تبع واتبع إنما يستعمل فى الغالب حيث يراد مقتضاه مما بينا، ألا ترى قول الخليل عليه السلام فى اخبار الله تعالى عنه:"فمن تبعنى فانه منى " حين أشار بقوله "فانه منى " إلى الخاصة من سالكى سبيله باتباعه القديم، فعبر بما يشير إلى غاية التمسك والقرب حين قال:"منى " فناسب ذلك قوله: "تبعنى " يريد الجرى على

ص: 30

مقتضى الفطرة وميز الحق بديها بسابقة التوفيق من غير إطالة نظر من حال هؤلاء من قيل فيه: "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله " وهذه الآية وأمثالها مراد بها من تعامى عن النظر فى الدلالات وترك واضح الاعتبار وحمل نفسه بقدر الله على ما لا يشهد له نظر ولا يقوم عليه برهان فكأن هؤلاء تعلموا فى ذلك وعالجوا أنفسهم حتى انقادت طباعهم إلى غير ما تشهد به من الفطرة ولذلك استعير لمن جرى على حال هؤلاء البيع والشراء فقيل: "أولئك الذين اشروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم " لما كان ما بسط من الدلائل ونصب من الآيات والشواهد واضحا وكانوا ذوى أسماع وأبصار وأفئدة فما اعتبروا ولا أجدت عليهم كان سلوكهم سبل الغى والضلال تعملا وتركا للرشد على بصيرة ولذلك أخبر الله تعالى عن حال هؤلاء فى فعلهم ومرتكبهم بالجحود فسماه بهذا فى قوله تعالى: "فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله ".

ولا يقال جحد إلا فيمن كتو معلوما بعد حصوله وتظاهر بباطل فقد اعتمل نفسه غى ذلك فعبر عن مثل هذا بأتبع ولم يكن موضع "تبع " وكذلك قيل لمن وسم بالاسراف فى المخالفات من عصاة الموحدين فقيل لهم: "واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم " وذلك لإلفتهم المخالفات وانقياد نفوسهم لها

حتى احتاجوا فى الإقلاع عن ذلك والأخذ فى خلاف حالهم إلى التعمل والعلاج، وكذا قيل لمن ألف الطاعات وارتاض لالتزامها:"لا تتبعواخطوات الشيطان " لإلفة نفوسهم الطاعات حتى انهم وقعت منهم مخالفة فبتعمل وعلاج لأنها خلاف المألوف فتأمل ما يرد هذا فانه يوضح بعضه، وإذا تقرر هذا فتأمل ما بين القضيتين، فأقول: لما تقدم فى آية البقرة قوله تعالى: " وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما " إلى قوله: "فمن تبع هداى " ولم يرد فيها مما كان من إبليس سوى ما أخبر به تعالى عنه من قوله: "فأزلهما الشيطان عنها " من غير تعرض لكيفية تناوله ما فعل ولا ابداء علة ولا كبير معالجة ناسب هذا: "تبع "، ولما ورد فى آية طه ذكر الكيفية فى إغوائه بقوله له:"هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " وقد حصل فى هذا الإشارة إلى ما بسط من قوله فى الأعراف: "ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " وقسمه على ذلك فكان هذه كله قد تحصل مذكورا فى آية طه بما تضمنته من الإشارة إليه، فأفهمت الآية قوة كيد اللعين واستحكام حيلته حتى احتنك الكثير من ذريته

ص: 31