الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجل واسع العلم والدراية من مشايخ علماء الأندلس فقالت: إن ابني أسره الروم، ولا أقدر على أكثر من دويرة لي لا أقدر على بيعها؛ فلو أشرت على من يفديه بشيء؛ فإنه ليس لي ليل ولا نهار ولا نوم ولا قرار. فقال: نعم، أنظريني حتى أنظر في أمره إن شاء الله سبحانه. ثم أطرق الشيخ وحرَّك شفتيه، وجاءت المرأة بعد مدَّةٍ ومعها ولدها، فجعلت تدعو وتقول: حدث خبرك له. فقال: كنت أسيرًا عند بعض ملوك الروم، وكان له إنسان يستخدمنا ويؤذينا وعلينا قيودنا، فجئنا ليلة من العمل فانحل القيد من رجلي ووقع على الأرض. ووصف ذلك اليوم، فوافق الوقت الذي دعا فيه الشيخ، قال: فصاح عليَّ الذي يستخدمني وقال: كسرت القيد؟ قلت: لا؛ إلا أنه سقط من رجلي، فاستحضروا الحداد وقيدوني. فلما مشيت خطوات سقط القيد من رجلي، فتحيروا ودعوا برهبانهم فقالوا: ألك والدة؟ قلت: نعم. قالوا: وافق دعاؤها الإجابة، أطلقك الله فلا نمسك. فزودوني وصحبوني إلى ناحية المسلمين» (1).
* * *
قصة الغلامين
عن إبراهيم بن جابر قال: كنت أجلس في حلقة إبراهيم
(1) الدعاء المأثور وآدابه للحافظ أبي بكر الطرطوشي، ص42.
الحربي (1)، وكان يجلس إلينا غلامان وكأنهما روح في جسد؛ إن قاما قاما معًا وإن حضرا فكذلك، فلما كان في بعض الجمع حضر أحدهما وقد بان الاصفرار بوجهه والانكسار في عينيه
…
فلما كانت الجمعة الثانية حضر الغائب، ولم يحضر الذي جاء في الجمعة الأولى منهما، وإذا الصفرة والانكسار في لونه
…
وقلت: إن ذلك للفراق الواقع بينهما، وذلك للألفة الجامعة لهما، فلم يزالا يتسابقان في كل جمعة إلى الحلقة، فأيهما سبق صاحبه إلى الحلقة لم يجلس الآخر
…
فلما كان في بعض الجمع حضر أحدهما فجلس إلينا، ثم جاء الآخر فأشرف على الحلقة، فوجد صاحبه قد سبق، وإذا المسبوق قد أخذته العبرة، فتبيَّنتُ ذلك منه في دائرة عينيه، وإذا في سيراه رقاع صغار مكتوبة فقبض بيمينه رقعة منها وحذف بها في وسط
(1) الإمام الحافظ العلامة إبراهيم بن إسحاق البغدادي الحربي: مولده في سنة ثمان وتسعين ومئة. قال أبو بكر الخطيب: كان إمامًا في العلم رأسًا في الزهد عارفًا بالفقه بصيرًا في الأحكام حافظًا للحديث مميزًا لعلله قيمًا بالأدب جمَّاعة للغة، وأصله من مرو، قال أبو العباس ثعلب: ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو من خمسين سنة. قال الحاكم: سمعت محمد بن صالح القاضي يقول: لا نعلم بغداد أخرجت مثل إبراهيم الحربي في الأدب والفقه والحديث والزهد. قلت - والكلام للذهبي: يريد من اجتمعت فيه هذه الأمور الأربعة وكان صدوقًا عالمًا فصيحًا جوادًا عفيفًا زاهدًا عابدًا ناسكًا، وكان مع ذلك ضاحك السن ظريف الطبع
…
ولم يكن معه تكبر ولا تجبر، وربما مزح مع أصدقائه بما يستحسن منه ويستقبح من غيره، مات سنة خمس وثمانين ومئتين. [السير للذهبي (13/ 356 - 372)].
الحلقة، وانساب بين الناس مستخفيًا وأنا أرمقه.
وكان ثمَّ أبو عبيدة بن حربويه فنشر الرقعة وقرأها
…
وفيها دعاء؛ أن يدعو لصاحبها مريضًا كان أو غير ذلك ويؤمِّن على الدعاء من حضر، فقال الشيخ: اللهم اجمع بينهما وألِّف قلوبهما، واجعل ذلك فيما يقرب منك ويزلف لديك. وأمَّنوا على دعائه
…
ثم طوى الرقعة وحذفني بها، فتأمَّلْتُ ما فيها
…
فإذا فيها مكتوب:
عفا الله عن عبد أعان بدعوة
…
لخلَّين كانا دائمَيْن على الود
إلى أن وشى واشي الهوى بنميمة
…
إلى ذاك من هذا فحالا عن العهد
فلما كان في الجمعة الثانية حضرا جميعًا، وإذا الاصفرار والانكسار قد زال، فقلت لابن حربويه: إني أرى الدعوةَ قد أجيبت، وأن دعاء الشيخ كان على التمام
…
فلما كان في تلك السنة كنت فيمن حجَّ، فكأنِّي أنظر إلى الغلامين محرمين بين منى وعرفة، فلم أزل أراهما متآلفين إلى أن تكهَّلا (1).
* * *
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي (13/ 365 - 366). (بتصرف).