الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاريخها
استقرار الإنسان فى هذا الموقع ظل يحكمه الرى خمسة آلاف عام، والأصل فيه يعود إلى أزمان ضاربة فى القدم. وكانت حمص فى الألف الثانية قبل الميلاد لا يزال شأنها ضئيلا، ذلك أن المدن الكبرى فى هذا الإقليم كانت هى قادش التى احتلها الحيثيون أيام الملك رمسيس الثانى، وقتنة التى هى مشرفة حاليًا. ويذكر ياقوت أن نسبة المدينة ترجع إلى حمص بن المَهْر بن هاف بن مكنيف العمالقى، وأن الذى أسسها هم الأغريق القدماء الذين زرعوا فيها الزيتون الفلسطينى. وما من ريب فى أن حمص كانت من المدائن التى أنشأها سلوق نيكاتور أو قل إنها من المدن التى سماها هو بأسماء إغريقية، ولكن هذه المدن لم تحقق هويتها حتى اليوم. ودخلت حمص فى فلك الإمبراطورية الرومانية حين جعل بومبى سورية ولاية رومانية. ولا شك فى أن فن تخطيط المدن عند الرومان قد ترك آثاره على حمص، ذلك أن المرء يستطيع بعد أن يتتبع آثار مدينة شيدت على خطة مربعة تقوم قلعة فى ركنها الجنوبى الغربى، ولكن يندر أن نستطيع أن نميز فى شبكة طرقاتها بوابات المعسكرات الرومانية والمفارق. وقد نزل عرب كثيرون هذا الصقع قبل الإسلام بمدة طويلة، وقامت فيما بين سنة 81 ق. م و 96 م أسرة محلية حكمت حمص، وكان ألمع أمير من هذه الأسرة هو سامبسيجراموس الذى آثر أن يقيم فى رستان (Arethusa) ومنها تحكم فى الطرق القائمة على نهر العاصى. والضريح الهرمى الذى شيده هذا الأمير فى حمص سنة 78 م تخرب سنة 1911. وكان معبد الشمس الذى كان يتعبد الناس فيه على صورة كتلة من البازلت الأسود ينافس بعلبك فى العصور القديمة.
ونهضت حمص، مفترق طرق الإمبراطوريات، من غمرتها فى أيام دوميتيان وحملت اسم إيمسا، وبدأت تضرب السكة فى القرن الثانى للميلاد أيام انطونينوس بيوس، ولكنها لم تصبح لها المكانة الأولى بين مدائن الشرق الرومانية حتى جاءت سنة
217 م. ونادى جنود الكاهن الأكبر للشمس هليو جابالوس إمبراطورًا. وحكم هذا الإمبراطور باسم مرقس أوريليوس أنطونينوس، وكان له وريث للعرش مواطن آخر من حمص هو ابن عمة إسكندر سفروس الذى قاتل الساسانيين. وشهدت حمص سنة 272 م هزيمة زنوبيا ملكة تدمر على يد الكتائب الرومانية.
وقد رسخت أقدام المسيحية فى حمص منذ بداية القرن الخامس، وكان فيها مقر أبرشية فى الولاية اللبنانية الكنسية فينيقيا التى كانت تتبع دمشق ثم اكتشف رأس القديس يوحنا المعمدان بالقرب من حمص (سنة 452) فأصبحت المدينة بذلك مقر مطرانية. وكان بنو تنوخ من القبائل العربية التى نزلت آنئذ بهذا الإقليم.
وفى أيام الفتح العربى جاءت عدة قبائل عربية شبه متبدية من الجنوب لتنزل هذه المنطقة، ومن ثم أصبحت حمص مركزًا يمنيًا هامًا ودخلت فى أرض بنى كلب الذين كانوا مهرة فى تربية الخيل. وهجر الإمبراطور هرقل حمص بعد وقعة اليرموك. ولما ظهر جيش المسلمين بقيادة أبى عبيدة بن الجراح وفى صحبته خالد بن الوليد أمام أسوار حمص، طلب أهلها الأمان ورضوا بأن يؤدوا فدية قدرها 71،000 دينار. ودخل المسلمون حمص دون إراقة الدماء سنة 16 هـ (367 م) وجعلوا كنيسة القديس يوحنا التى كانت من أكبر الكنائس فى الشام، مسجدًا، ويروى أن خمسمائة صحابى تقريبًا قدموا للعيش فى المدينة المفتوحة حديثًا وكان واليها فى عهد الخليفة عمر سعيد بن عامر. وفى سنة 26 هـ (647) استولى معاوية على حمص وقنسرين وأدخلهما فى ولايات الشام. ولما قسمت هذه الولايات خمسة أجناد أصبحت حمص قصبة واحد من هذه الأجناد. وفى هذه الفترة من أيام حكم المسلمين أصبح هذا الجند يشمل الإقليم الذى إلى الشمال من حمص حيث تقوم قنسرين والعواصم. وكان خراج حمص يدر على بيت المال 800،000 دينار.
وأقام الخليفة واليا عليه الأمير شرحبيل، وبدأ هذا الأمير يوزع البيوت فاحتل المسلمون الأحياء والمساكن التى هجرها النصارى. وفى وقعة صفين سنة 37 هـ (657 م) انضم أهل حمص إلى على، وظل المذهب الشيعى مدة طويلة هو المذهب السائد فى هذه المنطقة.
وفى سنة 41 هـ (661 م) أى فى عهد يزيد بن معاوية انتقص من جند حمص إقليمه الشمالى لإقامة جند جديد دخلت فيه قنسرين وحلب ومنبج، إذ أصبحت هذه المدائن مراكزه الرئيسية. والظاهر أن الحدود بين الجندين كانت خطًا يمر ببانياس، وطرطوس وجسر الشُغُر ومعرة النعمان، وأفامية، وشيزر، وحماة، ورستان، وسلمية، وقريتين، وتدمر.
ويقال إنه لما مات يزيد آل جند حمص إلى النعمان بن بشير المتوفى سنة 65 هـ (684 م)، على أن كثيرًا من الكتاب يقولون إنها كانت من نصيب ابنه خالد بن يزيد الذى كان قد بنى قصرًا فى حمص. وبموت يزيد الثالث حدث أن تدخل مروان الثانى فى شئون الشام بتأييد من القيسية، وهاجم سليمان بن هشام الذى كانت تؤيده الكلبية. وهزم سليمان سنة 127 هـ (754 م) وفر إلى حمص ومنها إلى الكوفة. وثبتت حمص مدة لمروان الثانى، وانتهى الأمر باستيلائه على هذه المدينة. وأراد مروان هذا أن يحول دون استخدام حمص، التى كان جندها يبلغ عشرين ألفا من اليمنيين، قاعدة عسكرية للكلبية فهدم أسوارها. وفى سنة 128 هـ (746) استعيد الأمن فى حمص.
وفى سنة 132 هـ (750 م) ظهر فى الشام عبد الله بن على العباسى الذى قدر له أن يطيح بآخر الخلفاء الأمويين مروان الثانى. ومن وقتها خضع الشام لسيطرة العراق. وفى سنة 137 هـ (745 م) ولى الخليفة العباسى أمر حلب وقنسرين وحمص صالحًا بن على ابن عبد الله بن العباس، وكان عمر العباسيين عصرًا مظلمًا فى تاريخ
حمص. فقد انتقض أهلها، ومعظمهم من أصل يمنى، على القيسية واستدعى ذلك إنفاذ عدة حملات تأديبية عليهم منذ أيام هارون الرشيد (170 - 193 هـ = 786 - 809 م) وكانت حمص فى تلك الأيام تنعم بالرخاء، ذلك أن خراجها بلغ فى قول الجهشيارى 320،000 دينار وحمل ألف جمل من العنب، وكانت آخر حملة تأديبية شنت عليها فى عهد المستعين، ذلك أنه عمد سنة 250 هـ (864 م) إلى وضع حلب وقنسرين وحمص فى ولاية والٍ واحد.
فلما ضعفت الخلافة العباسية مَدَّ أحمد بن طولون والى مصر سلطانه إلى الشام سنة 264 هـ (878 م) وظل سلطان الطولونيين يمكن لنفسه حتى سنة 282 هـ (896 م) وفى سنة 269 هـ (883 م) أقام أحمد نائبًا له الأمير لؤلؤًا ففرض لؤلؤ سلطان مولاه على حمص وحلب وقنسرين وديار مضر. وظهر القرامطة فى هذه الأيام وبذروا بذور الفتنة فى أرجاء هذا الإقليم وبلغ زعيمهم حسين الملقب بصاحب الشامة حمص سنة 290 (903 م) قادمًا من دمشق، وأراد أهل المدينة أن يتحاشوا أعمال الغصب والابتزاز فقبلوا أن تكون الخطبة باسم السيد الجديد، واستولى هذا السيد على حماة وسلمية ومعرة النعمان قبل أن يبلغ حلب، حيث امتشق الحمدانيون الحسام فى وجهه.
وفى منتصف القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى) سعت حمص إلى الاستعانة بالحمدانيين أصحاب حلب تحاشيًا لوقوعها فى سلطان الإخشيديين أصحاب دمشق. وفى سنة 333 هـ (944 م) انتصر الحمدانيون فى وقعة رستان على نهر العاصى، واستولى سيف الدولة على حمص وظلت فى حكم أسرة الحمدانيين حتى سنة 406 هـ (1016 م). وفى سنة 356 هـ 967 م) توفى سيف الدولة، فحكم حمص سنة أبو فراس. وحاول هذا الشاعر الفحل أن يشعل فتنة على سعد الدولة ولكنه هزم وأسر وقتل فى الثانى من جمادى الأولى سنة 357 (4 أبريل سنة 969).
وفى السنة التالية احتل نقفور فوكاس حمص فى حملته الظافرة على الشام، وجعل المسجد الجامع كنيسة وأقام القداس فيها ثم أشعل فيها النار. وفى سنة 362 هـ (973 م) رحل نقفور وعاد الحمدانيون إلى حكم المدينة. وفى رجب من سنة 364 (مارس - أبريل سنة 975) نجح القائد البوزنطى يوحنا تزيمسكس فى احتلال جزء كبير من الشام، وحصّل الجزية من حمص، ودمشق، وبيروت وبعلبك. وهنالك ظهر أمير تركى هو ألبتكين بكجور الذى انتقض فى حمص على الحمدانيين أصحاب حلب. وخاب فأله فى تلقى الإمدادات البوزنطية التى كان يعول عليها فأجبر على الانسحاب. وبعد ذلك بثلاث سنوات أقطعه سعد الدولة حمص. وقد خلد ذكر هذا الأمير بنقش بالخط الكوفى، وهو الأثر الباقى الوحيد لمنارة خرِّبت سنة 1912. وظلت حمص رهينة المنافسة بين العرب والروم، وأشعل الإغريق فيها النار فى ربيع الثانى سنة 373 (سبتمبر سنة 983).
وفى سنة 385 هـ (995 م) مكّن الإمبراطور بازيل الثانى لسلطانه على حلب وشيزر وحمص. ولم تؤخذ هذه المدينة إلا بعد مقاومة عنيدة. وأعملت فيها يد التخريب ثم وضعت فى حكم دوق أنطاكية البوزنطى. وفى سنة 381 هـ (999 م) أحرقت بأمر من باسليوس.
وفى سنة 406 هـ (1016 م) ولّى سلطان الحمدانيين، ووقعت حلب فى قبضة المرداسيين وبعد ذلك بعشر سنوات كانت حمص فى حكم صالح بن مرداس أمير بنى كلاب، ثم حدث سنة 420 هـ (1029 م) أن صارت حمص فى حكم شبل الدولة نصر بن مرداس.
ومنذ منتصف القرن الخامس الهجرى (الحادى عشر الميلادى) مَدَّ الفاطميون سلطانهم إلى الشام ولم تفلت حمص من أيديهم وكان الأمر فى حمص سنة 475 هـ (1082 م) لأمير مشايع للفاطميين هو خلف بن ملاعب وقد أثار هذا الأمير كثيرًا من الاضطراب بقطعه الطرق وغارات السلب والنهب التى كان يشنها. وفى
سنة 483 هـ (1090 م) قدمت فى حقه شكوى من الأمراء والقادة السلاجقة فى الشام، فاستجاب لها السلطان ملك شاه وكتب إليهم يأمرهم بمهاجمته والتخلص منه. وأخذت حمص بعد حصار وقبض على خلف وحمل إلى إصفهان. وولى على حمص تاج الدولة تتش، ثم انتقلت سنة 487 (1094 م) إلى يد ابنه رضوان والى حلب. وتشاحن الأمير جناح الدولة حسين أتابك رضوان مع حراسه فالتجأ إلى حمص واستقل بأمرها سنة 490 هـ (1097 م) فلما قدم الفرنجة من بعد، لم يجد بدًا من الانضمام إلى دقاق لحربهم.
واستولى الصليبيون على انطاكية سنة 491 هـ (1098 م) فاتجهوا فى هجمتهم الأولى صوب الجنوب، ونهبوا معرة النعمان، وحاصروا حمص بلا طائل. وكان يحكم المدينة وقتذاك الأمير قرجه الذى كان مملوكًا للملكشاه، بوصفه نائبًا لجناح الدولة، وأمر حمص كان مخالفًا للأسطورة التى أخذ بها دربلو d'Herbellot ثم بوكوك Pococke وله سترانج Le Strange من بعده، ذلك أن الفرنجة فشلوا فى الاستيلاء على حمص التى أطلقوا عليها اسم "الناقة". وكل ما استطاعوه أنهم عزلوا ثغر طرطوس. وفى منتصف سنة 496 هـ (مايو سنة 1103) اغتيل جناح الدولة على يد ثلاثة من الإسماعيلية فى المسجد الجامع بحمص. واتخذ أمير دمشق إجراءات سريعة تحسبًا لمحاولة يبذلها الفرنجة لاستغلال هذا الموقف بمهاجمة حمص فوضع حمص تحت ولاية دمشق. أما رواية ابن الأثير التى تجعل مقتل جناح الدولة سابقًا بسنة لجميع التواريخ التى حددتها المصادر الأخرى، ومن ثم يحدد تاريخها باللحظة التى كان فيها جناح الدولة يتأهب لمهاجمة رايموند ده سانت جيل، ويقرن ذلك بالهجوم المباشر لرايموند على حمص، فرواية يجوز لنا أن ننكرها. وفى السنة التالية توفى دقاق وخلفه ظهير الدين طغتكين وترك قرجه واليًا على حمص. ومن هذا الوقت أصبحت حمص معسكرًا ضخمًا يناهض الفرنجة، ومجمعًا للجنود، ودار صناعة، ومخزنًا لأدوات الحصار الثقيلة ثم إنها
فوق ذلك كانت تمد جهاز الحرب بعدد كبير من المقاتلين.
وفى سنة 506 هـ (1112 م) خلف خيرخان (قراخان) أباه فى الولاية على حمص. وبعد ذلك ظهر نجم الدين إيلغارى خارج حمص، ولكن خيرخان تغلب على خصمه فى شعبان سنة 508 (يناير سنة 1115)
وفى سنة 512 هـ (1118 م) استولى ظهير الدين بن بورى على حمص وفرض سلطانه على خيرخان. وبعد ذلك بخمس سنوات هاجم أتابك دمشق حمص مرة أخرى، ولكنه أجبر على الانسحاب أمام خيرخان الذى كان قد تلقى مددا.
وفى ربيع الثانى من سنة 520 (مايو سنة 1126) غزا الفرنجة منطقة حمص وخربوها، ولكن عز الدين مسعود بن آق سنقر أقبل من حلب وخلّص المدينة. وكان زنكى قد جعل فى صفوف جيشه الأمير خيرخان سنة 524 هـ (1129 م)، ولكنه طرده وقبض عليه وحاصر حمص وطلب من أهل حمص أن يستسلموا. وأراد أن يشجعهم على التسليم بعد إذ حاصرهم، فقسا أشد القسوة فى تعذيب أميرهم خيرخان أمام أعينهم، ولكن المدينة لم تستسلم. وبعد ذلك بسنوات قلائل حدث أن كان الأمير خُمَرتاش يحكم حمص نائبًا عن أبناء خيرخان، فقدم زنكى مرة أخرى لحصار المدينة التى كانت من خير المدن تحصينًا كما كانت قلعتها لا تُنال، وهنالك استنجد خمرتاش بأمير دمشق شهاب الدين محمود. وتفاوض أبناء خيرخان لتسليم المدينة إلى أمير دمشق فى ربيع الأول سنة 530 (ديسمبر سنة 1135) فما كان من هذا الأمير إلا أن منح ولايتها للحاجب يوسف بن فيروز.
وفى رمضان سنة 531 (مايو سنة 1137) عاد زنكى إلى صف جنده خارج حمص فقاومه أنر مقاومة شديدة وحدث بعد ذلك بأشهر قلائل إبان حصار آخر لحمص دام ثلاثة أشهر، أن تبادل الرسائل زنكى وشهاب الدين
محمود وانتهت بحلف يقوم على المصاهرة، فقد تزوج أمير دمشق ابنة زنكى وتزوج زنكى صفوت الملك الملكة الأم لأمير دمشق فأهدته حمص صداقا لها. وتلقى والى هذه المدينة معين الدين أنر بارين ولكمة وحصن الشرقى على سبيل التعويض. وتوفى زنكى بعد ذلك بسنتين فبادر أنر إلى التمكين لسلطانه على والى حمص، وكانت الرحبة على نهر الفرات، وتدمر تعتمدان على حمص. وكانت حمص من المعاقل الهامة التى دار حولها الصراع مع الفرنجة، ومجمعًا لجنود المسلمين تحميها من الهجمات المباغتة الضفة اليمنى لنهر العاصى، ومن ثم أصبحت من قواعد الحرب تتوسط خطًا يسير من الشمال إلى الجنوب، من حلب مارًا بشيزر وحماة إلى دمشق وبصرى وصلخد. وقد عسكر نور الدين هناك سنة 544 هـ (1149 م). ولما حوصرت دمشق على يد الفرنجة فى الحرب الصليبية الثانية أصبحت حمص معقلا تتجمع فيه جنود نور الدين وسيف الدين غازى.
وقد وصف الإدريسى الجغرافى المعاصر لتلك الأيام حمص فقال إنها مدينة عامرة الأسواق طرقاتها مبلطة، ولاحظ أنه يقوم فيها أكبر مسجد جامع، ويذكر بصفة خاصة القنوات الكثيرة التى تروى البساتين والحدائق. وفى سنة 548 هـ (1153 م) عسكر نور الدين فى حمص ومنع المؤن من أن تحمل إلى دمشق آملا أن تستسلم هذه المدينة. ونجح نور الدين بعد أشهر قلائل فى الاستيلاء على دمشق فى 10 صفر سنة 549 هـ (25 أبريل سنة 1154)، فمنح مجير الدين أبق الأمير المهزوم حمص تعويضًا له عن دمشق، إلا أن مجير الدين لم يحتفظ بها إلا مدة قصيرة.
وابتليت حمص وغيرها من مدن شمالى الشام بلاء شديدًا بالزلازل المتصلة التى وقعت سنة 552 هـ (1157 م) فلما جاءت هزة سنة 565 هـ (1170 م) أصابت حصونها التى قد وهنت بفعل الزلازل الأولى بأضرار فادحة.
وبعد وقوع الحملة الأولى للجنود الشآمية على مصر سنة 559 هـ (1164 م) أقطع نور الدين الأمير إسفهسلار أسد الدين شيركوه حمص هى والرحبة وتدمر، وكان ذلك هو منشأ الأسرة الأسدية الحاكمة فى حمص. وتوفى شيركوه سنة 564 هـ (1169 م) واسترجع نور الدين المدينة من ابنه ناصر الدين محمد ومنحها أميرًا آخر.
وفى منتصف سنة 570 هـ (أوائل سنة 1175 م) استولى صلاح الدين على حمص وحماة. وأعاد صلاح الدين تنظيم شمالى الشام بعد ذلك بأربع سنين فردّ حمص لابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه. وبعودة الأسرة الأسدية إلى حكم حمص أخذت على عاتقها رد فرنجة طرابلس الذين كانوا يزيدون من غاراتهم على الإقليم الغنى بالمزارع حول حمص حيث كانوا يفرون إليه بجيادهم. ولاحظ ابن جبير الذى مر بحمص سنة 580 هـ (1185 م) أن الأسوار المحيطة بحمص كانت فى حالة جيدة.
وفى سنة 581 هـ (1186 م) خلف الملك المجاهد أسد الدين شيركوه الثانى أباه فى حمص. وفى سنة 602 هـ (1205 م) قاتل هذا الملك المجاهد الاسبتارية فرسان حصن الأكراد وفى سنة 604 هـ (1207 م) لم يجد بدًا من الاستنجاد بأمير حلب الأيوبى الملك الظاهر غازى. وفى السنة التالية تولّى الملك المنصور إبراهيم القيادة فى حمص، فاضطر عدة مرات إلى رد البروفنساليين أصحاب طرابلس واسبتارية حصن الأكراد، وأراد أن يزيد دفاعه تمكينًا فأشرف على دعم أسوار المدينة ورمم الباب المسدود.
وفى سنة 623 هـ (1226 م) شاركت حمص فى الصراع الذى دار بين الأمراء الأيوبيين، فكان إبراهيم حليفًا للملك الأشرف صاحب حلب. وهوجمت المدينة على يد المعظم عيسى أمير دمشق.
وفى سنة 640 هـ (1242 م) استعان إبراهيم بجنود من حمص للتغلب على الخوارزمية الذين قدموا من
الشرق. وأدركته المنية فى دمشق سنة 644 هـ وحملت رفاته إلى حمص وخلفه ابنه الأشرف موسى فى الولاية عليها. وفى سنة 646 هـ (1248 م) استولى الملك الناصر الأيوبى صاحب حلب على حمص وقطع إلى حين سيادة الأسرة الأسدية عليها. وفى صفر سنة 658 (فبراير سنة 1260) استولى المغول عليها، واستعاد موسى أملاكه وحارب فى صفوف هولاكو فى وقعة عين جالوت وبعد هزيمته فى 25 رمضان سنة 658 (3 سبتمبر سنة 1260) منحه قطز الأمان وعاد إلى موقعه فى حمص. وبعد ذلك بمدة قصيرة أطيح بجيش مغولى بالقرب من حمص فقد أنزل به أميرها بمعاونة أمير حماة هزيمة منكرة. واستولى بيبرس على مقاليد الحكم فى القاهرة سنة 659 هـ (1261 م) وأصلح القلعة فى حمص وزودها بالمئونة حتى تستطيع ردّ أى هجمة للمغول إذا عاودوا الهجوم فجأة. وتوفى الأشرف موسى سنة 661 هـ (1262 م) ودالت بموته دولة الأسرة الأسدية التى حكمت حمص قرابة قرن من الزمان. وفقدت المدينة استقلالها. فقد حكمها من يومها نائب أمير فكانت تتبع حينًا أمير حماة وتتبع حينًا أمير دمشق.
وفى سنة 680 هـ (1282 م) شهدت حمص انتصار قلاوون على حلف من الأرمن والمغول، ومنذ عهد محمد بن قلاوون لم يصبح لحمص أى شأن سياسى آخر. فقد كان يحكمها أمير ألف، ثم عهد بالقيادة إلى أمير الطبلخانة، وما من واحد من هؤلاء الحكام ترك أثرًا فى تاريخ المدينة. وكان النائب على القلعة مملوكًا من مماليك سلطان القاهرة. وفى تلك الأيام أقيمت دار رسمية للحمام فى حمص لتحقيق الاتصال بين قرا فى الجنوب وحماة فى الشمال. وفى ربيع الأول سنة 699 (ديسمبر سنة 1299) حطم غازان المماليك فى حمص ولكنه لم يبق فى الإقليم. ويروى الجغرافى الدمشقى أن حمص كانت فى ذلك الوقت أصغر ولاية فى الشام وشملت شمسين وشُمَيمس وسلمية، وألحقت نيابة
حمص بنيابة دمشق. والظاهر أن الفوضى التى سادت الشام فى القرن التاسع الهجرى (الخامس عشر الميلادى) لم توقف الحياة الاقتصادية فى حمص إذا أخذنا بالمرسومين المملوكيين اللذين صدرا سنة 817 هـ (1414 م) وسنة 844 هـ (1440 م) ذلك أنهما يدلان على الشأن الهام للنساجين فى حمص حيث ظلوا قرونا ينسجون الصوف عامة والحرير خاصة منافسين الإسكندرية فى قيمة منسوجاتهم وجمالها. وعمد تيمورلنك بعد استيلائه على حلب سنة 803 هـ (1400 م) إلى الاستيلاء على حماة وحمص قبل أن يحتل دمشق. وفى القرن التالى لم يقع حادث له شأن فى حمص، وتعرضت منطقتها لغارات السلب والنهب يشنها البدو. وفى سنة 916 هـ (1510 م) وقعت حمص تحت تهديد قبيلة آل فضل بن نُعَيْر القوية الشوكة. وأنقذت من هذا التهديد بمعونة سيباى أمير دمشق، واغتنم سيباى هذه الفرصة وغنم غنائم وافرة من الجمال والأغنام وأخضع السلطان سليم العثمانى الشام سنة 922 هـ (1516 م) فأصبحت حمص لواء من الألوية الخمسة الملحقة بطرابلس. وتوفى السلطان سليم سنة 926 هـ (1520 م) فنادى جانبر دى الغزالى أمير دمشق بنفسه أميرًا مستقلا واستولى على طرابلس وحمص وحماة. ومنح منصب والى حمص للمقدم ابن حرفوش. وبين أيدينا صورة لحمص فى القرن العاشر الهجرى (السادس عشر الميلادى) دبجها قلم بيير بلون Pierre Belon، إذ قال فى وصفها إنها مدينة جيدة الأسوار من الحجر المنحوت وقلعة بناها الرومان فى قوله. والأسوار المحيطة بها بقيت كما هى لم تمس. أما داخل الأسوار فإن المدينة فى رواية هذا الرحالة الفرنسى "ليس فيها شئ جميل يشاهد إلا السوق والبزستان اللذين شيدا على الطراز التركى. وحدث فى عهدى سليمان الأول وسليم الثانى أن توفرت عدة مساحات للأراضى، وإحصاءات لعدد الذكور البالغين من السكان وخراج المكوس والرسوم التى جبيت من مدن الشام وولاياته" (انظر عن حمص:
The Ottoman archives as a: B. Lewis source for the history of Arab Lands فى مجلة الجمعية الملكية الآسيوية، سنة 1951، ص 152 - 153). ونستطيع أن نستخلص من اللوائح المالية العثمانية معلومات عن النشاط الاقتصادى فى حمص لذلك العهد، وأصبح اليوغورت الذى جلبه التركمان إلى حمص يصدر حتى بلغ دمشق وكانت الطواحين المائية التى تطحن الحنطة والسمسم كثيرة، كما كانت عصارات الزيت ناشطة كل النشاط. وظلت الأعناب من أهم موارد حمص وكان يتوفر لها محصولات جيدة من الأرز تضاف إلى محصولات البطائح المزروعة لتوفير الغذاء للمدينة وكانت الصناعة الأولى هى النسيج. وكانت حمص من أهم المراكز التى يصنع فيها الحرير، ذلك أن أشجار التوت التى تقوم فى جوارها كانت تغذى ديدان القز، وكان ينسج فى حمص المنسوجات المرقشة تتخللها خيوط الذهب وتصدّر حتى بلغت استانبول وكانت تتجمع فى حمص الإبل والماشية العابرة من دمشق إلى حلب، فتلقى قطعان الأغنام والماعز القادمة من حلب وحماة إلى دمشق.
ودمر العثمانيون خلال القرون أبواب الأسوار فى حمص واحدًا بعد الآخر، مما حمل فولنى Volney على وصف حمص سنة 1875 قائلا إنها: "مدينة كانت من قبل منيعة عامرة بالسكان ولم تعد بعد إلا قرية خربة واسعة بعض الاتساع لا يسكنها أكثر من ألفى نفس بعضهم من الإغريق وبعضهم من المسلمين. وفى البلدة يقيم أغا يلى من باطن باشا دمشق جميع أراضى الريف حتى تدمر.
وكان إيجار المزارع يعطى للباشا وقدره 400 كيس أو 500،000 ليرة، ولكنها كانت تدر أربعة أضعاف ذلك" (انظر Volney، طبعة سنة 1823، جـ 3، ص 18 - 19). وكان الأغا ينتسب إلى أسرة من أهل حمص.
وفى سنة 1246 هـ (1831 م) وقعت حمص فى يد المغامرين، ثم خضعت لسلطان إبراهيم باشا الذى ظل حتى سنة 1256 هـ (1840 م) ممثلا لسلطان محمد على فى الشام. وفى تلك
الأيام قامت فى المدينة فتنة خطيرة بنوع خاص حتى أن الجنود المصريين لقوا صعوبة فى إخمادها. وكان من آثار هذه الفتنة تدمير القلعة كلها تقريبًا. وبعد سنة 1840 عادت المدينة فخضعت للحكم العثمانى.
وحمص مركز زراعى هام ومدينة صناعية ناشطة، وبها مدرسة حربية، وهى قصبة محافظة وقد بلغ عدد سكانها سنة 1920: 50،000 نسمة، زادوا على 130،000 نسمة سنة 1962 خمسهم من النصارى ومعظم هؤلاء من الأروام الأرثوذكس. وسهل حمص ينتج الحبوب وخاصة الشعير والحنطة، وفيه مزارع مترامية الأطراف فى شرقيه. وتحيط بحمص من جميع النواحى آثار عدة لقنوات تشهد بالجهود التى بذلها الإنسان قرونًا لإستغلال الأرض وأقيمت بتشجيع الدولة عدة قرى جديدة على محلات قديمة، ومن السمات الأصلية لإقليم حمص ملكية الفلاحين، ذلك أن المزارع هو مالك الأرض التى يعمل فيها. زد على ذلك أن أصول الاقتصاد الزراعى تبلغ شأوًا عظيمًا من الكمال. فتجد هناك علاوة على الشعير والحنطة الأذرة (وهى تنحدر منذ سنة 1940) والعدس والقطن (تشجع زراعته منذ سنة 1940) وكذلك سكر البنجر الذى زرع منذ سنة 1949. أما الأشجار التى تنمو فهى الجوز والزيزفون والسرو، وأشجار الفاكهة كالمشمش والرمان والكمثرى والتفاح والبرقوق. وقد ظلت الأعناب تنمو شرقى حمص فيما وراء البطيحة وفى منطقة وأر البازلتية على الضفة اليسرى لنهر العاصى من أهم موارد البلاد منذ القدم. وقد امتدح خمرها الأخطل أيام الأمويين، وهو محصول اقتصادى على أعلى درجة، ذلك أن الكروم لا تعالج بسلفات النحاس أو تخمّر، وهى لا ترفع مستندة إلى حوامل بل إن الفروع تنمو مفترشة الأرض وتباع الأعناب طازجة أو مجففة أو محولة إلى دبس.
وتمتد حول حمص البطائح وبساتين التسويق شاغلة مساحة تقرب من
1،200 هكتار، وهى أكبر رقعة خضراء فى وادى العاصى، وأكبر جزء فى منطقة الوادى المروية تكثفت فيه الزراعة إلى أقصى حد، وهذه البساتين عمادها الآن ملكيات صغيرة (صيفية) تبلغ مساحة كل منها فى المتوسط 30 دونمًا ومعظمها تملكه أسرة واحدة، وهى ثمرة من ثمار إنسان دؤوب استفرغ الجهد فى عمل دام قرونًا. وحمص سوق هامة. ولا تربط أهلها بالهضبة الغربية إلا صلات قليلة، فهم يؤثرون الاتجار مع القبائل البدوية، إذ لا توجد عوائق تفصلهم عن الصحراء ففى الصيف يقبل البدو مصعدين إلى نهر العاصى يشترون من الأسواق، على حين يتلقى أهل حمص منهم منتجات الألبان ويعهدون إلى هؤلاء البدو رعى قطعانهم. وحمص مركز هام للاستهلاك تأخذ المحصولات الزراعية وتعطى البلاد الملابس والأمتعة المصنوعة. وقد ظلت الصناعة فيها قرونًا. فالحنطة والشعير تعالجان ليستخرج منهما النشا اللازم لصقل المنسوجات وفيها صناعة كبيرة للدبس، وبقيت حتى تاريخ حديث ست عشرة معصرة. وكان فى حمص سنة 1949 مصنعان لمعالجة السمسم واستخراج السراج أو الطحينة. على أن النسيج ظل أهم صناعاتها وعماد تجارتها. ذلك أن أقمشة حمص وحرائرها اشتهرت منذ أوائل القرون الوسطى فى أسواق العالم وقبل سنة 1914 كان فى حمص 4،000 نول تستخدم 30،000 عامل. والمدينة تصدر اليوم منسوجاتها من القطن والحرير إلى مصر والعراق. وأقيمت مصانع حديثة فى حمص ومنطقتها، وهناك مطحنتان للدقيق (1938) ومعصرة، ومصانع للنشا، ومصنع للدبس، ومصنع للسكر، ومصنع للزيت النباتى يستخرجه من بذرة القطن وعباد الشمس (1951). ثم نذكر أخيرًا أن المرء يستطيع أن يرى على مسافة بعيدة خزانات البترول تتألق فى الشمس، على حين تفصح المداخن الطويلة عن وجود معمل هام لتكرير الزيت وينقل الزيت فى خط من