الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنجيل أو أنجيل
(1) *
تحزيف للكلمة اليونانية إياكيليوس، ويبدو لنا من القرآن ومن مصنفات كثير من الكتاب المسلمين أن المسلمين كانوا على شئ من العلم بالإنجيل. ومن اليسير أن نبين مدى علمهم هذا بإيراد بعض الشواهد. على أنه من العسير فى كثير من الأحيان أن نحدد بشكل قاطع -وليس عن طريق الاستنباط فحسب- كيفية وقوفهم على تلك المعلومات.
وليس من شك فى أن بعض ما وقفوا عليه وصل إليهم شفاها فى المناظرات أو المحادثات الودية التى كانت تجرى بين المسلمين والنصارى. ولم يسجل التاريخ إلا القليل عن نقل المعلومات إلى المسلمين بهذه الطريقة. وهناك وسيلة أخرى لمعرفة المسلمين بالإنجيل، فإن النصارى الذين أسلموا أدخلوا فى الإسلام بعض الآراء النصرانية التى ظلت عالقة فى أذهانهم. ونلمس للنصرانية تأثيرًا آخر ظهر فى التصوف عند نشأته الأولى، ففى تعاليمه المبكرة آثار منها. (انظر - D' Ohs son الغزالى، طبعة باريس سنة 1902). وقد يصح لنا أن نقول إنه كان بين مسلمى العرب من كانوا ينشدون المعرفة للمعرفة، وأنهم جريا وراء هذه المعرفة قرءوا ترجمات عربية للإنجيل قام بها النصارى. وسنذكر فى إيجاز ما عرفناه عن هذه الترجمات، ثم نتبع هذا بما ورد من الإنجيل فى القرآن أو فى مصنفات المؤلفين:
ترجم نصارى العرب الإنجيل عن اليونانية والسريانية والقبطية.
والترجمة التى عملت عن اليونانية تمت فى عهد متقدم جدًا، كما يدل على هذا قدم المخطوطات الخاصة بها (مكتبة الفاتيكان؛ - Arab 13 and Museo Borgiano propaganda) والتي يرجع عهدها إلى القرن الثامن الميلادى، ويذكر ابن العبرى أن هناك ترجمة أقدم من هذه الترجمات قام بها البطريق يوحنا -وهو من القائلين بالطبيعة الواحدة- وكان ذلك بأمر الأمير العربى عمرو بن سعد بين سنتى 631 و 640 (2)
وكتب جرجس أسقف القبائل العربية فى بابل -وكان معاصرًا
(*) الهوامش فى التعليقات التى تلى المقال.
وصديقا ليعقوب الرهاوى - تعليقات على الكتب المقدسة. ويرى شبرنكر Sprenger أن فى كتاب محمد بن إسحاق، (طبعة فستنفلد، ص 149 وما بعدها) فقرة مأخوذة من ترجمة للإنجيل تمت قبل الإسلام (انظر Das Leben des Mohammed ، جـ 1، ص 113 - 132). وهذه الفقرة تتضمن الفقرات 23 - 27 من الإصحاح الخامس عشر من إنجيل يوحنا. وكلمة "المنحمنا" التى وردت فيها -ويقابلها فى اليونانية كلمة باراكليتوس- ليست عربية ولا سريانية، وإنما هى من اللغة الفلسطينية القديمة (3).
على أننا إذا كنا لا نستطيع أن نقول إن هذه الترجمات ترجع إلى مثل هذا العهد القديم، فإنا نرى أن الترجمات الأولى التى نقلت عن اليونانية ترجع على الأقل إلى ما بعد الفتح الإسلامى وما تلاه من انتشار اللغة العربية.
وهناك ترجمة أخرى للإنجيل قديمة جدًا نقلت عن السريانية، ويوجد مخطوط لها محفوظ فى ليبسك. ويذهب كلدميستر Gidemeister إلى أنها عملت بين سنتي 750 و 850 م (انظر: Des Evangeliis، ص 35). وعلى هذا نستطيع أن نقول إن المسلمين عرفوا منذ عهد متقدم أهم كتب العهد الجديد من ترجمات عربية لها.
وفى اللغة العربية، إلى جانب الأناجيل "الصحيحة" كتب منحولة وهى: إنجيل الصبوة، وإنجيل القديس يعقوب ورؤيا القديس بولس وعظة القديس بطرس وأخرى لسيمون ورسالة فى استشهاد القديسين يعقوب وسيمون. هذا إلى رسائل أخرى صغيرة يظهر أن المسلمين لم يكونوا على علم بها. ويقول ديفال R. Duval فى كتابه المسمى La Lit terature Syriaque، (طبعة ياريس 1899، 96) إن رؤيا القديس بطرس وضعت باللغة العربية فى القرن الثالث عشر الميلادى.
وكان محمد صلى الله عليه وسلم أكثر معرفة بالأناجيل
…
ولم تصل إليه تلك المعرفة من مصادر مسيحية خالصة، وإنما نقلت إليه على يد يهود اعتنقوا النصرانية، ويستدل على هذا بنوع القصص الذى ورد فى القرآن وقد
تكيف بقصص أولئك الذين سماهم محمد "الحنيفيين" وقيل إنهم كانوا على دين إبراهيم. وهذا الموضوع ليس إلا مسألة فرعية من المسألة العامة الخاصة بأصل الإسلام ومصادره.
وكان الشعر أيضًا وسيلة من الوسائل التى انتقلت بها آراء النصارى إلى المسلمين. فعند ظهور الإسلام كان الشعراء يترددون على الحيرة، وكانت تربطهم بنصارى العرب خير الصلات، فنقبوا إلى بلاد العرب ما سمعوه من القصص فى حانات الحيرة. نذكر من هؤلاء: زيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن أبي الصلت الذى كان واسع العلم بالقصص اليهودى أيضًا (4).
وظل الشعر أمدًا طويلًا همزة الوصل بين المسلمين والنصارى. ولسنا نجهل الحفاوة التى قوبل بها الأخطل الشاعر النصراني فى بلاط الأمويين.
وكان الطب وأعمال الحكومة من الوسائل التى وثقت الصلات بين المسلمين والنصارى. وحسبنا أن نذكر هنا اسم سرجيوس منصور الذى كان كاتبًا لأربعة من الخلفاء، وهو أبو يوحنا الدِّمشقيّ، وكذلك كتاب النصارى الذين استخدمهم حكام المسلمين، وظلوا كذلك إلى أن منعهم الوليد بن عبد الملك من الكتابة باليونانية. ولنعد الآن إلى ما كنا بسبيله من كلام عن القرآن.
يرد كثيرًا فى القرآن ذكر عيسى ومريم والإنجيل؛ ومحمد [صلى الله عليه وسلم] يعرف الفرق الجوهرى بين الإنجيل والقرآن فى مسائل الأخلاق، وبخاصة فى الرأفة والرحمة (انظر سورة الحديد، آية 27). وعنده فكرة ما عن التشبيه الخاص بالزارع الذى يبذر البذور (5)(سورة الفتح، آية 29)، وعما جاء فيه من الوعد بإرسال رسول آخر (انظر سورة الأعراف، آية 157، وإنجيل يوحنا، الإصحاح السادس عشر، فقرة 7)، وأن الإنجيل جاء مصدقا للتوراة (انظر سورة المائدة، آية 46). وذكر من معجزات عيسى إبراءه للأعمى والأبرص وبعثه للموتى. والأخبار الإنجيلية التى يظهر أنها كانت أكثر شيوعًا فى البيئة التى شب فيها النبى هى الروايات الخاصة بالبشارة (6). وجاء فى القرآن أن
الملائكة قالت: {يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} انظر سورة آل عمران، آية 42 وانظر أيضًا إنجيل لوقا، الإصحاح الأول، فقرة 28). وجاء فيه أيضًا تصديق بأن المسيح ولد من أم عذراء (انظر سورة الأنبياء، آية 91). والقرآن فى إنكاره لصلب المسيح يقول قول الطائفة النصرانية التى تسمى الدوسيتية. (انظر فى ذلك سورة النساء، آية 157؛ سورة آل عمران، آية 55)، والقصة الموجزة التى وردت فى القرآن عن رفع المسيح تجعل حياته منتهية فى اللحظة التى تجعلها الأناجيل بدءًا لآلامه (انظر الزمخشري، طبعة ليس، جـ 1، ص 169)[وطبعة مصطفى محمد، جـ 1، ص 192].
وقد ذكر القرآن دعوة الحواريين فى سورة آل عمران (آية 52)، ولهذه الدعوة صلة بالرهبانية (انظر سورة الحديد، آية 27) التى نجد شبها لها فى رسائل إخوان الصفاء. وذكر القرآن عجيبة من العجائب التى جرت على أيدى الحواريين عند ما أنزل المسيح لهم مائدة مغطاة من السماء {(113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} سورة المائدة، آية 114، وانظر كذلك، أعمال الرسل، الإصحاح العاشر، الفقرة التاسعة وما بعدها]. وذكر القرآن كذلك قصة خلق المسيح لطير من الطِّين، (سورة آل عمران، آية 49 وسورة المائدة، آية 110) وهذه القصة مأخوذة من إنجيل صبوة المسيح. أما تسمية المسيح بآدم الثانى فنجد فى القرآن ما يقرب منها وذلك فى سورة آل عمران، آية 59 (7). وعبارة {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} التى وردت فى سورة البقرة، آية 87 فيها خلط بين روح القدس وبين جبريل (8).
وفوق هذا فإن المفسرين قد أفاضوا فى الكلام على القصص الذى ورد فى القرآن متصلا بالعهد الجديد وبخاصة ما كان منه متصلا بطفولة مريم. وصور القرآن العذراء فى صورة جذابة لا تكاد تختلف كثيرًا عن تصوير النصارى لها. أما كلامه عن المسيح فعلى عكس هذا لم يكن قاطعًا كل
القطع، وقد جعله فى صورة أقل من الصورة التى نجدها له فى الإنجيل، فهو فى القرآن لا يعدو أن يكون نبيًا صالحًا. على أن محمدًا لم يجرده من اسم "المسيح"(سورة النساء، آية 171 - 172) ، ولم يرد فى القرآن ذكر للشخصيات الأخرى التى جاءت فى العهد الجديد اللهم إلا يحيى [يوحنا المعمدان] وزكريا.
ونجد أن كثيرًا من مؤرخى المسلمين كانوا على علم واسع بالأناجيل. فقد ذكر اليعقوبى شيخ مؤرخى العرب فقرات من الأناجيل فى كتابه. ولم يخف المسعودى -الذى كان شغوفا بالبحث والتنقيب- صلته بالنصارى، وهو يروي لنا أنه زار فى الناصرة كنيسة يقدسها النصارى حيث أخذ عنهم كثيرًا من القصص الواردة فى الإنجيل.
وكان المسعودى يعرف شيئًا عن ميلاد المسيح فى بيت لحم، وطفولته فى الناصرة، وما جاء فى إنجيل متى (الإصحاح الثالث، فقرة 17) من أن صوتا من السموات كان يقول "هذا هو ابنى الحبيب". وقد ذكر هذه الرواية فى شئ من الاختلاف. وسمع كذلك قصة زيارة المجوس للمسيح عندما كان طفلا كما وردت فى الإنجيل وغيره من المصادر. وأورد قصة دعوة الحواريين كما هى، وذكر أسماء أصحاب الأناجيل الأربعة وتحدث عن هذه الأناجيل كأنه رآها وذكر خلاصة دقيقة لها.
ومع هذا فإن المسعودى يشك بعض الشك فى هذه الأناجيل بينما يتحدث عنها القرآن فى احترام عميق. وكان المسعودى كذلك محيطا كل الإحاطة بسيرة الحواريين، وذكر مرتين استشهاد القديس بطرس والقديس بولس، ولكنه ذكر أن بولس استشهد على نحو لم يستشهد عليه إلا بطرس وحده. ويقول المسعودى إن القديس توما كان الحوارى الذى ذهب إلى الهند. ويظهر أن المسلمين كانوا يعرفون توما أكثر من غيره من الحواريين ما عدا بطرس. وعلمهم بالقديس بولس نفسه أقل من علمهم بسيرة بطرس (9).
أما البيرونى فكان أكثر معرفة من المسعودى. وقد أخذ عن النساطرة عندما صنف كتابه "الآثار الباقية عن القرون الخالية". وكان يعرف كثيرًا من
نصوص الأناجيل وكذلك تفسير الإنجيل لداذيشوع (10) Dadjesu (ورد هذا الاسم Jesudad، انظر Litt. syriaque: Duvat، الطبعة الثَّانية، ص 84) وهو يتحدث عن هذه النصوص فى شئ من النقد.
ويرى البيرونى أن الأناجيل الأربعة عبارة عن أربع نسخ، وهو يوازن بينها وبين نسخة التوراة عند اليهود ونسختها عند النصارى، ونسختها عند السامرة، ويلاحظ أن هناك خلافًا كبيرا بين هذه الأناجيل الأربعة. ويورد البيرونى نسب يوسف بالتفصيل كما ورد فى إنجيل متى وفى إنجيل لوقا، ويبين فى عبارة شائقة كيف يعلل النصارى الاختلاف بين الروايتين. ويذكر بعد ذلك أن أصحاب مَرْقِيون وأصحاب ابن ديصان وأصحابَ مانى كانت عندهم أناجيل أخرى.
ويرى أن أناجيل أصحاب مرقيون وأصحاب ابن ديصان تخالف فى بعض أجزائها أناجيل النصارى، أما إنجيل أصحاب مانى فيشتمل على خلاف ما عليه النصارى من أوله إلى آخره. وإزاء هذه الخلافات الكثيرة يقول البيرونى إنه "لا يوجد من الأناجيل إذن من كتب الأنبياء ما يعتمد عليه"(*)
وتحتوى الترجمة الفارسية لتاريخ الطبرى على قصص من العهد الجديد مذكورة فى توسع أكثر من نصها العربى، وهى تشابه ما جاء عنها فى قصص الأنبياء، وفيها بعض تفصيلات عن الآلام مثل قصة سيمون وخيانة واحد من الحواريين لم يذكر اسمه، ووقوف مريم تحت الصليب (11). ويحتفظ المؤلف فى بقية روايته برأى المسلمين الذى يذهب إلى أن شخصًا آخر اسمه يهوذا Josua صلب مكان المسيح. وأورد فى كلامه عن الحواريين الرواية التى تقول إن يوحنا ذهب إلى الرها.
ونجد فى كتب التصوف إشارات عدة إلى الإنجيل، بل نجد فيها أيضًا أن أصحاب هذه الكتب كانوا على علم بتفسير آباء الكنيسة لبعض أجزاء الإنجيل. على أن ما يذكره متصوفة المسلمين من أقوال المسيح لا يطابق ما جاء فى الإنجيل.
نضرب لذلك مثلًا مما ذكره الغزالى من الأقوال المنسوبة إلى المسيح؛ بينما
أن السهروردى قد أورد نصا كاملا دقيقا عن التشبيه الخاص بالزارع الذى يبذر البذور.
وقد اشتملت رسائل إخوان الصفاء على فقرات ممتعة عن صلب المسيح يفترضون صحتها، وكذلك عن البعث واجتماع الرسل فى العشاء الأخير وانتشارهم فى الأرض. وذكروا صراحة أفعال الرسل باسم أفعال الحواريين (12).
والمؤلفات الفلسفية تحتوى كذلك على طائفة كبيرة من المناظرات التى جرت بين المسلمين والنصارى. وحسبنا أن ذكر هنا أَبا على عيسى بن زرعة الذى كتب فى سنة 387 هـ ردا على أبى القاسم عبد الله بن أحمد البلخي، وكذلك يحيى ابن عدي وهو من علماء النصارى وكان من تلاميذ الفارابى، فإنه كتب دفاعا عن المسيحية أهداه إلى الشيخ أبى عيسى محمد بن الوراق. كما رد على اعتراض الكندى على القول بالتثليث.
والمسلمون على وجه عام يحترمون الأناجيل ويبجلون عيسى [عليه السلام] ومريم.
المصادر:
يمكن الرجوع إلى المصادر التالية فيما يختص بالترجمات العربية النصرانية:
(1)
Verions arabes des Evan-: Guidi giles فى - Atti de l'Acade. de: Lincen Sci philosophiques ences morales et، المجموعة الرابعة، جـ 4، سنة 1888.
(2)
Die christilch arabische: G. Graf Literatur bis zur frankischen Zeit فرايبورغ سنة 1905.
(3)
Beitr zur christl. -: H. Goussen .arab Literaturgesch.، Die christlarab Litt. der Mozoraber جـ 4 ليبسك سنة 1909.
(4)
Die Uberlieferung: S.Euringer -der arab. Ubers des Diatessarons، Bib lische Studien جـ 17، الكتاب الثانى، برلين سنة 1912.
(5)
K.Vollers et E.von Dobschutz: . Ein. spanisch - arab. Evangelienfrag فى - Zeitschrift der Deutsch. Morgenl Ge sellsch، جـ 56، ص 633؛ وانظر كذلك مادة "ابن العسال".
(6)
De Evangelis in: Gildemeister arabicum et Simplici Syriaca translatis commentatio academica، بون 1865.
ويمكن الرجوع إلى المصادر التالية فيما يختص بالمناقشات حول الإنجيل:
(1)
Disputatio Pro-: Van den Ham religione Mohammedanorum adversus Christianos ليدن سنة 1890.
(11)
Uber Mu-: Goldziher -hammedanische Polemik gegen Ahl al Kitab فى. Zeitschr. d. Deutsch. Morgenl، . Gesells جـ 32 ، ص 341.
ويمكن الرجوع إلى المصادر التالية عن أثر العهد الجديد فى الحديث:
(1)
Mohammedanische: Goldziher Studien جـ 2، ص 382 ومابعدها، Ha- dith und Neues Testament.
(1)
المؤلف نفسه Neutestamentl Ele- mente in der Traditionslitt. des Islam فى Oriens christianus 1902، ص 390 وما بعدها.
ويرجع إلى المصادر التالية عن الأناجيل المنحولة:
(1)
إنجيل الصبوة، Evang. In- fantiae طبعة سيك H.Sike ، أترخت سنة 1697.
(2)
Codex apocrnov Test: Thilo، الطبعة الثانية، باريس سنة 1863.
(3)
Les Evangiles ap-: G. Brunet ocryphes الطبعة الثانية، باريس 1763.
(4)
Litt. Syriaque: R.Duval، الطبعة الثانية، باريس 1900.
(5)
P.Dib فى La Revue de l'Orient Chretien سنة 1905، ص 418 - 423 وهو يستشهد بالترجمات العربية للعهد الجديد المنقولة عن القبطية والسريانية.
ويرجع إلى المصادر التالية عن الشعراء:
(1)
Poetes arabes: P.L.Cheikho Chretiens، بيروت سنة 1890 - 1891.
(2)
Le chantre des Om-: Lammens iades فى. Journ Asiat، المجموعة التاسعة جـ 4، عام 1894.
(3)
Une nouvelle: Clement Huart source du Qoran فى Journ. Asiat المجموعة العاشرة، عام 1904.
(4)
Umaiya ibn Abi-S.Salt: Power فى faculte Orientale Melanges de la جـ 1، ص 197 وما بعدها، بيروت سنة 1906.
المصادر المذكورة فى صلب المادة:
(1)
اليعقوبى، طبعة هوتسما، جـ 1، ص 74 - 89.
(2)
Der Auszug aus den: Klamroth -Ya ،Evangelien bei dem arab. Historiker -kubi، Festschrz. Einweihung des Wilhelm Gymnasium، همبورغ سنة 1885.
(3)
G.Smit: bij Bijbel en Legende schrijver Yakubi den Arabischen، ليدن سنة 1907.
(4)
المسعودى، ترجمته وطبعه Pavet de Courteille و Bardier de Meynard .
(5)
البيرونى: الآثار الباقية عن القرون الخالية، Chronology ترجمة Sa- Chau.
(6)
تاريخ الطبرى، ترجمة Zo- tendberg 1867 - 1874.
(7)
السهروردى: عوارف المعارف على هامش إحياء علوم الدين للغزالى، القاهرة سنة 1312 هـ.
(8)
Die Abhandlunhen der Ichwan es-Safa طبعة Dieterici، برلين سنة 1886، ص 594 وما بعدها.
[كارا ده فو B.Carra De Vaux]
تعليق على مادة "إنجيل"
مما لا ريب فيه أن القرآن حاج اليهود والنصارى حجاجا دينيًا قويًا فى مواضع كثيرة، وصحح لهم كثيرًا من عقائدهم وسلوكهم التى كانوا يظنونها دينا، وأبان لهم عن وجه الحق فيها.
وإن هذا الموقف الدينى الذى وقفه القرآن لا يستطيعه إلا أحد رجلين: إما رجل عكف طيلة حياته على درس الشئون الدينية والكتب السماوية ورأى أقوال أساطين الدين والشراح، وساير العقيدة وتطورها فى عصورها المختلفة،
وما دخل عليها من التشويه والتحريف وكان له مع ذلك بصر نافذ، يبطل الباطل، ويحق الحق. وهذا أيضًا ربما لا يقارب ما وصل إليه القرآن الكريم، لأن هذا الحق الذى أظهره فى الدينين اليهوديّ والمسيحى قد غشيته سحب كثيرة من الأباطيل، وطال عليه الأمد، فظن دينا، وقد حالت هذه الغواشى بين الناظر وبين الوصول إلى هذا الحق.
وإما رجل ينطق عن الله العالم بكل شئ، الذى رأى شرعه قد تلاعبت به ظلمات البشر، وغشيه سحاب مركوم، فنطق على لسان من أيده بإرجاع الحق إلى نصابه والنظرية الإسلامية تعتقد الثانى، والمخالفون يعتقدون الأول، وقد حاول المخالفون أن يرجعوا ما جاء فى القرآن الكريم إلى تعليم، وما فى هذا الفصل بعض هذه المحاولات.
ونحن نلاحظ أنه لما أعجز الكاتبين أن يثبتوا أن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] قد درس الإنجيل جمعوا بينه وبين المسلمين، وأخذوا يثبتوا أنهم كانوا على علم بالإنجيل.
وكل ما أتوا به من أدلة لا يثبت أن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] كان يعلم الإنجيل، وإنما يثبت أن بعض المسلمين فى عصور متأخرة كانوا يعلمونه؛ لأن أقدم ترجمة عربية باعترافهم -وهى أقدم من تلك الترجمة التى تمت فى عهد متقدم جدا- كانت كما نقلوا عن ابن العبرى بين سنة 631 وسنة 641، ومحمد [صلى الله عليه وسلم] ولد فى يوم 20 أبريل سنة 571 م وتوفى يوم 8 يونيو سنة 632 م، فالترجمة التى ذكروها لم تتم فى عهده ولم ينتفع بها فى الجدال الذى احتدم بينه وبين أهل الأديان المخالفة طول عمره.
وكل ما شككوا به ليصلوا إلى أن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] كان يعلم الإنجيل تدفعه سيرته وحياته التى عرفت بالتفصيل لا بالجملة. فقد نشأ أميًا بين أميين لا علم يدرسونه، ولا كتب يقرءونها، ولا أساتذة تثقفهم، ولا فلاسفة تعلمهم، ثم قال لهؤلاء الدارسين الكاتبين أهل الذكر والعلم: إلىّ إلىّ، أصحح لكم عقائدكم، وأنقح لكم تاريخكم، وأهذب لكم علومكم، وأضعكم على الجادة التى
كنتم عليها يوم نزل دينكم. وقد وفى بما قال وكان عندما وعد، وما ذاك إلا أنه من عند مَن علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
محمد عرفة
تعليقات على مادة "إنجيل"
(1)
أى بفتح الهمزة وبكسرها، أما الكسر فإنه اللغة المعروفة والقراءة المشهورة فى القرآن. وأما الفتح فإنه روى عن الحسن أنه قرأ (وليحكم أهل الأنجيل [5: 47]. قال الزمخشري فى الكشاف (1: 342 طبعة مصطفى محمد): "فإن صح عنه فلأنه أعجمى خرج لعجمته عن زنات العربية".
وقال صاحب اللسان: "وليس هذا المثال فى كلام العرب. قال الزجاج: ولقائل أن يقول: هو اسم أعجمى، فلا ينكر أن يقع بفتح الهمزة، لأن كثيرا من الأمثلة العجمية يخالف الأمثلة العربية".
وهذه القراءة المنسوبة للحسن فى الكشاف واللسان لم أجد لها إسنادًا يؤيد صحة روايتها، وليست فيما حكى من القراءات الشاذة التى اطلعنا عليها، فهى لغة ضعيفة وقراءة غير جائزة. والعرب إذا عرّبت الأعلام اجتهدت فى صوغها على أوزان كلماتها، أو تصرفت فى كثير من حروفها حتى تدمجها فى لغتها، إنقاء للعربية من لكنة اللغات الأعجمية، وحرصا على ألسنة العرب أن تشيع فيها الرطانة الأعجمية. خلافا للقاعدة التى وضعها مجمع اللغة العربية (انظر مجلة الرسالة فى السنة الرابعة ص 558) وهى قاعدة ظاهرة الغلط، ولعلنا نوفق إلى تفصيل ذلك فى مقام آخر إن شاء الله. فهذه الكلمة بكسر الهمزة ليست تحريفًا للكلمة اليونانية كما زعم الكاتب، وغنما هى نقل عنها على ما اعتاده العرب فى نقل الأعلام.
(2)
لم نجد فيما بين أيدينا من كتب التاريخ أميرا يسمى "عمرو بن سعد"، ونقل ابن العبرى لا يكفى فى إثبات مثل
هذا إذا لم يوجد ما يؤيده من المصادر الأخرى الموثوق بها.
(3)
يريد الكاتب بكتاب ابن إسحاق: سيرة ابن هشام التى روى فيها كتاب ابن إسحاق، والعبارة التى أشار إليها لا يمكن أن يفهم منها أنها منقولة من ترجمة تمت قبل الإسلام، بل الراجح من فهمها أنها قطعة ترجمها بعض الناس ولم ينقلها من كتاب مكتوب مترجم، لأنه يقول بالحرف الواحد:"وقد كان فيما بلغني عما كان وَضَعَ عيسى بن مريم فيما جاءه من الله فى الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مما أثبت يُحَنَّس الحوارى لهم حين نسخ لهم الإنجيل من عهد عيسى ابن مريم فى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه قال" إلخ. فهذا التعبير- عند من يفهم العربية ويعرف طرق المتقدمين فى الرواية والنقل- يعلم منه أن بعض الناس نقل من الإنجيل البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى العربية فى عصر ابن إسحق، وبلغ ذلك ابن إسحق، إما من المترجم وإما من غيره نقلا عنه. ولذلك لم بسم الذى أبلغه، إذ كانوا لا يحتجون فى كتبهم وروايتهم إلا بأهل العدالة والثقة من المسلمين، فهؤلاء الذين يذكرون من شيوخهم فى الرواية بأسمائهم. ولو كانت كما يزعم شبرنكر منقولة من ترجمة للإنجيل قبل الإسلام لما تحرج ابن إسحق من ذكر ذلك صريحا، إذ يراه برهانا أقوى وتأييدًا كاملًا للبشارة الصحيحة بالنبى عليه السلام. وكلمة "المُنْحَمنّا" ضبطت فى طبعة وستنفلد بضم الميم الأولى وبفتحها مع إسكان النون وفتح الحاء المهملة وفتح الميم الثانية وتشديد النون، ولسنا نجزم بصحة هذا الضبط أو خطئه.
(4)
دعوى الكاتب أن زيد بن عمرو ابن نفيل كان يسمع من القصص فى حانات الحيرة- دعوى لم نجد ما يؤيدها، ولم نر نقل ذلك فيما بين أيدينا من المصادر، فلا ندرى من أين جاء بها، ولعلها من إلقاء القول على عواهنه. وانظر ترجمته فى الإصابة (3: 31 - 32) والأغانى (3: 123 - 128 طبعة دار الكتب المصرية)(5) هذه هى الترجمة الحرفية لكلام الكاتب، ولسنا نعرف ماذا يريد بهذا
الكلام ولا إلام يشير من مواضع الأسفار التى يسمونها الأناجيل. وأما الآية التى أشار إليها فنصها: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . والشطء -بفتح الشين وإسكان الطاء، وبفتح الطاء أيضًا مع المد وبدون المد: هو فراخ السنبلة أو النخلة التى تنبت حول الأصل.
(1)
هذا الكلام مبهم وغير محدود المعنى، إنما هو ادعاء أن هناك أشياء من الإنجيل كانت شائعة فى العصر الذى نشأ فيه النبى [صلى الله عليه وسلم] ولن يستطيع الكاتب ولا غيره أن يقيم أى برهان تاريخى يؤيد هذا الذى يدعيه.
ثم ماذا يريد بالأخبار الخاصة بالبشارة؟ أيريد بها بشارة المسيح عليه السلام بمحمد [صلى الله عليه وسلم]؟ ! أم يريد شيئًا آخر عجز عن الإفصاح عنه؟ ! اللهم غفرا.
(7)
ليس فى القرآن الكريم تسمية المسيح عليه السلام بآدم الثانى، ولا ما يقرب من هذا المعنى. ويظهر أن الكاتب لم يفهم معنى الآية التى يشير إليها، ونصها:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فهذا تشبيه عيسى بآدم فى بدء خلق كل منهما، إذ خلق آدم من غير أبى ولا أم، وخلق عيسى من غير أب وإن كان له أم. فعيسى يشبه آدم من وجه دون وجه فى هذا المعنى، ولا يكون ذلك إشارة إلى تسميته "آدم الثانى" ولا مسوغا لها.
وإنما الآية جاءت فى الرد على النصارى الذين غلوا فى عيسى وادعوا أنه ابن الله، وجعلوا له شيئًا من صفات الألوهية، وغلوا فى دينهم كما قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ .. }، سورة النساء الآية 171. فأقام الله عليهم الحجة ورد عليهم حين غلوا فى شأنه إذ ولد من غير فحل، بأن آدم -وهم يؤمنون به وببدء خلقه-: شأنه أغرب، لأنه خلق من غير فحل ومن غير وعاء.
(8)
لا ندرى ماذا يريد الكاتب بهذه العبارة الخارجة عن حدود البحث العلمى.
فإن "جبريل" عَلَم على ملك كريم، آمن المسلمون بوجود. عن إخبار الله لهم فى كتابه، وعن أخبار رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من الغيب الذى أمروا بالإيمان به، وكذلك آمن به أهل الأديان السماوية الأخرى. والقرآن الكريم نزل بلغة العرب، والرسول خاطب الناس بها، وفى لغة العرب كلمة "روح" وكلمة "قدس" وهما معروفتا المعنى عندهم، وتأتى كلمة "القدس" وصفا لغيرها، وقد يضاف الموصوف إلى صفته فى لغة العرب، وبذلك كان معنى "روح القدس": الروح المقدسة الطاهرة أو نحو ذلك. قال الزمخشرى فى الكشاف (1: 80 طبعة مصطفى محمد): "بروح القدس: بالروح المقدسة، كما تقول حاتم الجود، ورجل صدق، ووصفها بالقدس كما قال: وروح منه: فوصفه بالاختصاص والتقريب -: للكرامة". فإطلاق هذا التعبير على جبريل لا يزيد على أنه وصف له بأنه روح مقدسة مطهرة، بمقتضى وضع العرب الألفاظ للمعانى، وليس فى هذا الإطلاق أى تداخل بين المعاني حتى يسيغ الكاتب لنفسه أن يعبر عن الرسول الكريم هذا التعبير السيئ المنكر، وكأنه يزعم لنفسه -وهو الأجنبى عن لغة العرب- أنه أعلم بها من أهلها، وليس بنافعه ذلك شيئًا إلا أن يدل القارئين على مقدار علمه بما يكتب، كما فعل أخ له من قبل، رددنا عليه فيما مضى.
وأما الاصطلاح المسيحى فى إطلاق كلمة "روح القدس" فإنه استعمال خاطئ، لا يكون حجة على القرآن الكريم، ولا على لغة العرب، وذلك: أن النصارى يزعمون أن إلههم ثلاثة أقانيم -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا- ولهذه الأقانيم فى لغاتهم - العبرية أو
السريانية أو اللاتينية أو اليونانية أو ما شئت من لغات- ألفاظ تدل على هذه المعاني التى يريدونها، فجاء منهم الذين ترجموا أقوالهم وكتبهم وعلومهم وترجموا هذه المعاني المدلول عليها بألفاظ أعجمية، فأطلقوا عليها ألفاظا عربية لها معان أخرى فى لغة العرب. فسموا هذه "الأقانيم":"الأب والابن وروح القدس"، وكانت هذه الترجمة، وكان هذا الإطلاق بعد ظهور الإسلام وانتشاره، وكان ذلك من أناس ليسوا من العرب الخلص، وليسوا حجة فى اللغة العربية، فلا يكون عملهم أكثر من أنه خطأ صرف، ولا يكون حجة على لغة العرب، ولا على الاستعمال العربى للألفاظ، فضلًا عن أن يكون حجة على القرآن الكريم، وعلى سيد العرب وأفصحهم محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا واضح بديهى لا يحتاج إلى شرح وتفصيل: لغة أطلق فيها ألفاظ على معان، ثم يأتي ناس من غير أهلها ويطلقون بعض ألفاظها على معان أخرى غير ما دلت عليه فى تلك اللغة: أيكون ذلك دليلا على خطأ اللغة الأصلية؟ أم يكون دليلا على جهل الناقل وخطئه فقط؟ !
وأكثر من هذا: إذا فرضنا صحة ما يحاول الكاتب وأمثاله ادعاه من نقل كتبهم وأقوالهم إلى لغة العرب قبل الإسلام: هل يكون تعبير الناقلين من اللغات الأعجمية وإطلاقهم الألفاظ على المعانى حجة على الاستعمال العربى الصحيح؟ الجواب بالقول الصريح: كلا. لأن الناقل إلى لغة العرب إن كان أعجمى الأصل فإنه لا يحتج بكلامه عند العرب، وإن كان عربى الأصل كان غير حجة أيضًا، لاختلاط لغته بغيرها من اللغات، فإن علماء العربية لا يحتجون بغير العربى الخالص الذى لم تخالط لغته لكنة أعجمية، سواء ذلك فى المفردات أم فى التركيب -أعنى فى إثبات اللفظ العربى- أم فى قواعد النحو والصرف والبلاغة وغيرها، ولذللُ رفضوا الاحتجاج بالشعر والنثر من أقوام نشئوا فى الحواضر بعد اتصال الأعجام بالمسلمين، ثم رفضوا الاحتجاج بكلام المولدين مطلقا.
(9)
أما أن اليعقوبى والمسعودى وغيرهما من علماء المسلمين كانوا على علم بهذه المؤلفات التى تسمى "الأناجيل" فهذا شئ معروف مشهور، نسلم به، ونزيد عليه أنهم كانوا يعرفون كل المعرفة كيف ألفت هذه الكتب، ويعرفون قيمتها التاريخية، كما سنذكر قريبًا إن شاء الله. ولكن تعبير الكاتب عن المسعودى قد يوهم بعض القراء أن له صلة حقيقية بالنصارى والكنائس من الوجهة الدينية، وهذا ما لا أصل له ولا شبهة. وانظر نص كلام المسعودى فى تاريخه بعد ذكر مولد المسيح عليه السلام، قال (1: 29 - 30 طبعة بولاق): وكان من أمره ما ذكره الله عز وجل فى كتابه، واتضح على لسان نبيه محمد [صلى الله عليه وسلم]، وقد زعمت النصارى أن أشيوع الناصرى -يريد المسيح- أقام على دين من سلف من قومه يقرأ التوراة والكتب السالفة فى مدينة طبرية من بلاد الأردن فى كنيسة يقال لها المدراس ثلاثين سنة، وقيل تسعا وعشرين سنة، وأنه فى بعض الأيام كان يقرأ فى سفر أشعياء، إذ نظر فى السفر إلى كتاب من نور فيه: أنت نبيى وخالصتى، اصطفيتك لنفسى. فأطبق السفر ودفعه إلى خادم الكنيسة، وخرج وهو يقول: الآن تمت المشيئة لله فى ابن البشر. وقد قيل: إن المسيح عليه السلام كان بقرية يقال لها ناصرة من بلاد اللجون من أعمال الأردن، وبذلك سميت النصرانية. ورأيت فى هذا القرن -كذا فى الأصل، ولعله فى هذه القرية- كنيسة تعظمها النصارى، وفيها توابيت من حجارة فيها عظام الوتى، يسيل منها زيت ثخين كالُّرب، تتبرك به النصارى. وأن المسيح مر ببحيرة طبرية وعليها أناس من الصيادين والقصارين. وقد ذكر أن ميروحنا وشمعون وبولس ولوقا هم الحواريون الأربعة الذين تلقوا الإنجيل، فألفوا خبر عيسى عليه السلام وما كان من أمره وخبر مولده، وكيف عمده يحيى بن زكريا، وهو يحيى المعمدانى، فى بحيرة طبرية، وقيل فى بحر الأردن الذى يخرج من بحيرة طبرية ويجرى إلى البحيرة المنتنة، وما فعل من الأعاجيب، وأتى من المعجزات، وما قالت اليهود إلى أن رفعه الله عز وجل إليه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وفى
الإنجيل خطب طويل فى أمر المسيح ومريم عليه السلام ويوسف النجار: أعرضنا عن ذلك، لأن الله عز وجل لم يخبر بشئ من ذلك فى كتابه، ولا أخبر به محمد نبيه [صلى الله عليه وسلم]. هذا نص كلام المسعودى الذى يكاد الكاتب يصوره بصورة مريبة فى نظر المسلمين، وهو من ذلك برئ.
وانظر إلى مقدار الثقة بنقل هذا الكاتب إذ ينسب إلى المسعودى أنه نقل عن الإنجيل أن صوتا من السماء كان يقول: "هذا هو ابنى الحبيب" فى حين أن الذى نقله المسعودى عن بعض نصارى عصره أن عيسى رأى وهو يقرأ فى السفر كتابًا من نور فيه "أنت نبيى وخالصتى" إلخ، ثم لا يتحرج أن يسمى هذا التناقض البين بين الروايتين "شيئًا من الاختلاف" فأين إذن كل الاختلاف؟ ! والذى نقلناه عن المسعودى هو كل ما ذكره فى "مروج الذهب" عن الأناجيل، وهو الذى سماه الكاتب "خلاصة دقيقة لها"! ! !
(10)
لم يفهم الكاتب كلام البيرونى لوقوع خطأ فيه من الناسخ أو المصحح.
فإنه قال فى (ص 9) ما نصه: "وذكره داذ يشوع فى ترجمته للإنجيل شعيا. والله أعلم". وهذا كلام غير واضح ولا مفهوم، ولا متصل بالسياق الذى قبله ولا بالذى بعده، فإن أصل الباب هو فى المواسم أو الأعياد التى يستعملها "النصارى الملكائية فى المشهور السريانية"(ص 288) فأخذ يسرد كل شهر من هذه المشهور ويذكر فى كل منها أيام المواسم بأسماء أصحابها عندهم، ويسمى هذه المواسم "الأعياد والذكارين"(ص 288 س 17) ويسمى كل واحد منها باسم "ذكران" فيقول مثلا "ذكران حنين الأسقف الشَّهيد تلميذ بولس، ومن رسومهم فى هذه الذكارين أنهم يذكرون صاحبه ويدعون له ويثنون عليه، ويتضرعون إلى الله باسمه، ويسمون كل مولود يولد فيه وبعده إلى الذكران الآخر باسمه، وربما قسم الذكارين بعضهم على بعض، فيقولون: فلان صاحب ذكران فلان فإذا كان الذكران اجتمعوا عنده فأضافهم وأطعمهم"(ص 288 س 19 - 23). ففى هذا الموضوع الذى نقل منه الكاتب فلم يفهم ما نقل: تجد
البيرونى يذكر شهر "أيار"(ص 296) ويذكر أيامه إلى أن يقول (ص 298 س 22): "وفى اليوم التاسع ذكران أشعيا النَّبِيّ" ثم يذكر فى أول (ص 299) العبارة التى أوهم فيها الكاتب، ثم يقول:"وفى العاشر ذكران ديونسيوس الأسقف". فهذا السياق كله يدل على أن كلمة "وذكره داذ يشوع" محرفة عن "وذكران يشوع" وأن كلمة "فى ترجمته للإنجيل شعيا" محرفة أيضاً، ولعل صوابها "فى ترجمة الإنجيل لشعيا" أو نحو ذلك. وعلى كل حال فإن هذا ينفى قطعًا وجود ترجمة أو تفسير للإنجيل لشخص اسمه "داذ يشوع" وأن البيرونى اطلع عليه. وإنما أتى الكاتب من تحريف النسخة المطبوعة، ومن عدم تحققه بما يكتب أو تفهمه لما يقرأ.
ثم إن الكاتب ادعى أن البيرونى "أخذ عن النساطرة عندما صنف كتابه الآثار الباقية"، وأنا آسف إذ أقول: إن هذا غير صدق.
(11)
ليس لهذا شئ من الأهمية، وهو لا يدل إلا على أن المترجم إلى الفارسية لا ثِقَة به، وأنه لم يكن أمينًا فى ترجمته.
(12)
مما يؤسف له أن الكاتب صدق هذه المرة فى نقله عن "رسائل إخوان الصفا" فإنهم ذكروا أكذوبة صلب المسيح [عليه السلام] فى الرسائل (ج 4 ص 97 طبعة مصطفى محمد) فخرجوا بذلك من عداد المسلمين، لأنهم نقلوا على سبيل الجزم شيئًا نفاه الله سبحانه فى القرآن الكريم، وكذب قول من ادعاه:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} سورة النساء الآية 157، 158.
تعليق ونقد على مقال "إنجيل" بعد نقد أغلاطه تفصيلا فى مواضعها
لم أقرأ فيما قرأت من مقالات "دائرة المعارف الإسلامية" مقالا مضطربًا كهذا المقال.
فإن كاتبه خلط فيه خلطا غريبًا، فشرّق وغرب، وأسهب وأوجز، وأشار وصرح، وهو يدور فى حلقة مفرغة
لا يدرى أين طرفاها، ولا يعرف كيف يخرج منها، وقد وضع نصب عينيه غاية يرجو الوصول إليها، ثم يعجز عن إدراكها، إذ كانت خيالا يضطرب فى ذهنه، ليس لها وجود فى حقائق التاريخ. فهو يحاول أن يثبت أن الدين الإسلامى مقتبس من الكتب التى يسمونها عندهم "أناجيل"، وأن النبى [صلى الله عليه وسلم] كان على علم بها أو بشئ منها، فجاءت فى القرآن الكريم أشياء من الإنجيل كما يزعم، وأن المسلمين عرفوا هذه الكتب فذهبوا ينقلون عنها علومهم ودينهم، ويزعم أن النبى [صلى الله عليه وسلم]"كان أكثر معرفة بالأناجيل المخولة منه بالأناجيل، ولم تصل إليه تلك المعرفة من مصادر مسيحية خالصة، وإنما نقلت إليه على يد يهود اعتنقوا النصرانية" وأن الشعراء عند ظهور الإسلام كانوا يترددون على الحيرة، "فنقلوا إلى بلاد العرب ما سمعوه من القصص فى حاناتها"، إلى آخر ما تهافت فيه ليرجعه إلى شئ واحد سماه:"المسألة العامة الخاصة بأصل الإسلام ومصادره".
ثم ذهب يضطرب به القول الكريم، فتارة يشير إلى بعض آيات من القرآن فيها ذكر مريم وعيسى وغير ذلك مما يظن أنه يتفق والمروى عندهم أو يخالفه، وتارة يذكر "الطب وأعمال الحكومة" وأنها من الوسائل التى وثقت الصلات بين المسلمين والنصارى، وتارة يذكر بعض معجزات النبى [صلى الله عليه وسلم] الثابتة بالأحاديث الصحيحة ليحاول أن ينسبها إلى أصول عندهم، حتى يتهيأ له أن يشكك القارئ ثم يوهمه أن المسلمين أخذوها عن النصارى ونسبوها إلى نبيهم على أنها معجزات له، ثم يزداد اضطرابا، فيذكر بعض مؤرخى المسلمين ويصفهم بأنهم "كانوا على علم واسع بالإنجيل" ويحرف فى تلخيص كلامهم حتى يوقع فى نفس القارئ أنهم كانوا يحتجون بهذه الأسفار، ويعتبرونها مصادر صحيحة لبعض التاريخ، ثم يناقض نفسه فينقل عن البيرونى أنه قال:"لا يوجد من الأناجيل إذن من كتب الأنبياء ما يعتمد عليه". ويغلبه ما يجد فى نفسه من الحرص على رأيه حتى
يغفل عن خطأ من الناسخين فى نسخة البيرونى فينسب إليه أنه كان يعرف تفسير الإنجيل لرجل اسمه "داذ يشوع"، وهو شخص لم يوجد قط، وإنما أتى من خطأ النسخة، ولو حرص على التحقيق العلمى ما وقع فى هذه الغلطة الشنيعة.
ولكنه نسى بجوار هذا أن يذكر كثيرًا من علماء المسلمين الذين اطلعوا على هذه الأناجيل وأبانوا فيها من اختلاف وأخطاء وألفوا فى ذلك كتبًا وافية، كابن حزم وابن تيمية وابن قيم الجوزية والقرافى، وغيرهم ممن قبلهم وممن بعدهم.
وأخيرًا يدعى أن المسلمين على وجه عام يحترمون الأناجيل، وأن الترك يسمونها "الإنجيل الشريف" وأن كثيرًا منهم "يؤثرون الإنجيل على القرآن الكريم دون أن يجهروا بهذا الرأى" ويحتج لذلك برجل تركى ارتد عن الإسلام فى عهد سليمان الأول فحكم بقتله جزاء ردته.
وهى كما ترى أقوال متهاترة، لا يأخذ بعضها بناصية بعض، ولا يدل مجموعها على شئ له قيمة علمية.
وهذه مسائل شائكة، الخوض فيها قد يثير النفوس، ويوغر الصدور، ولو شاء القائل منا أن يقول، لوجد مجال القول ذا سعة، ولكنا لسنا من دعاة الفتنة، ولا ممن يحرصون على الجدال. وقد دأب أمثال هذا الكاتب على مهاجمة الإسلام والعدوان عليه فى عقائده، ومحاولة إثارة الشكوك فى الحقائق التاريخية الثابتة، التى تتعلق بالإِسلام. وليس علينا من بأس أن نقف موقف الدفاع بالقول الرقيق المؤدب، لإقرار الحق فى نصابه، وخدمة خالصة للعلم الصحيح.
أن الاتصال العقلى والفكرى بين
المسلمين وبين أهل الكتاب -من اليهود والنصارى- لا يستطيع أحد أن ينكره، وقد كان اليهود بجوار المسلمين فى المدينة حتى أجلاهم عنها عمر، وكان المسلمون قد فتحوا مصر والشام وغيرهما من الأقطار التى كان يدين أهلها بالنصرانية، وكان أهل الكتاب أهل ذمة للمسلمين وفى حمايتهم، يرفرف عليهم عدل الإسلام ونصفته، وكانوا يدخلون فى دين الله أفواجا راضين مختارين، مما رأوا من كرم المسلمين،
بعد أن ذاقوا ألوان الظلم والعذاب من زعمائهم ورؤسائهم. ولكنه كان فى أول أمره اتصالا فى الشئون العامة الدنيوية، ولم يوجد اتصال علمى بالمعنى المفهوم إلا فى أواخر القرن الثانى للهجرة تقريبًا عند البدء فى نقل كتب الأوائل إلى اللغة العربية، وكان ذلك مقصورا على الفلسفة وفروعها والطب وما أشبه هذا، ولم تترجم إلى اللغة العربية الكتب الدينية ولا القصص (الروايات)، ولعله قد ترجم شئ من التوراة والأناجيل تراجم نادرة محصورة بين اليهود والنصارى الذين نشئوا فى الدولة العربية، ليسهل عليهم معرفة دينهم إذا عسر عليهم قراءتها باللغات التى كانت بها، وأما أن تكون هذه التراجم معروفة لعلماء المسلمين ودهمائهم، كما يريد الكاتب وأمثاله أن يرجفوا به: فذاك شئ غير ثابت ولا معروف فى التاريخ الإسلامى. ولذلك لم يجد كاتب هذا المقال سندًا يؤيد به وجود تراجم للإنجيل إلا الترجمة التى قال عنها إنها نقلت عن السريانية، ونقل عن "كلدميستر" أنه يرى أنها ترجمت بين سنتي (750 و 850) أى بين سنتي (132 و 235 هجرية) ويظهر من هذا أنها غير ثابتة التاريخ، وأن هذا التاريخ الذى نسبت إليه ظن فقط، ونحن لم نر هذه النسخة المترجمة فلا نستطيع الجزم بشئ فى صحة هذا النقل وهذا التاريخ أو عدم صحتهما. وأما الترجمة التى يدعى ابن العبرى أنه "قام بها البطريق يوحنا بأمر الأمير عمرو بن سعد بين سنتى 631 و 640 م" -أى ما يوافق السنة التى قبل الهجرة إلى السنة 18 هـ-: فهذا شئ لا سند له ولا قيمة، وأبو الفرج بن العبرى ليس حجة فى مثل هذا النقل، ولا يوثق بشئ ينقله عن عصر بينه وبينه أكثر من (600 سنة) ولم يسنده إلى نقل يقارب العصر المنقول عنه، فإنه عاش بين سنتي 623 و 685 هـ، ثم هذا ابن العبرى رجل متعصب معروف بالتحامل على العرب وعلى المسلمين، وهو صاحب الحكاية الباطلة التى نقلها عن حرق عمرو بن العاص مكتبة الإسكندرية، حتى إن الدكتور (بتلر) صرح بأنه "ليس من دليل على أصل
هذه الرواية أقدم من أيام أبى الفرج" (انظر فتح العرب لمصر تعريب الأستاذ فريد أبو حديد ص 350 طبعة سنة 1933) فمثل هذا الرَّجل غير ثِقَة ولا مأمون على النقل، حتى لو نقل شيئًا عن عصره أو ما يقاربه، فضلا عن تفرده بنقل يستند إلى ما قبل عصره بمئات السنين.
وأما كل ما أرجف به الكاتب ليصل إلى ما يدعيه من معرفة النبى صلى الله عليه وسلم بما يسمونه "الأناجيل" وبأن "هذا الموضوع ليس إلا مسألة فرعية من المسألة العامة الخاصة بأصل الإسلام ومصادره" فإنه شئ لا يثبت أمام النقد، ولا تؤيده آية حقيقة من حقائق التاريخ. وقد كان النصارى من قبل الإسلام بمئات السنين مختلفين فى صحة الكتب التى يطلقون عليها اسم "الأناجيل" وهى أكثر من سبعين كتابًا، حتى تحكم فيهم الزعماء والرؤساء فى مجمع "نيقية" فى القرن الرابع الميلادى، فاعتبر"المجمع أن هذه الكتب الأربعة المعروفة الآن هى الأناجيل الصحيحة. وبذلك صارت الكتب الرسمية للدين المسيحى، واعتبر ما عداها منحولا أو غير صحيح، وهذه الكتب التى اعتبرت منحولة غير مشتهرة وغير معروفة تفصيلا إلا قليلا، فمن أين يعرفها العرب قبل الإسلام وعند بدء ظهوره؟ !
وكان النبى [صلى الله عليه وسلم] رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، كما ثبت بالتواتر الصحيح فى التاريخ، وكما نص الله عليه فى القرآن الكريم، وقد أقمنا الحجة على ذلك فيما مضى من الدائرة ثم أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة، وبعثه إلى الناس كافة بهذا القرآن الكريم، وجعله مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء السابقين، إجمالا لها من غير تفصيل، وجعل كتابه "مهيمنا" على هذه الكتب، أى رقيبًا عليها كلها، كما قال تعالى فى سورة المائدة (آية 48):{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} : وهذا الرَّجل الأمى لم يقرأ شيئًا من كتبهم، ولم يبلغه من الكتب التى فى أيدى النصارى -مع ما فيها من الاختلاف- قليل ولا كثير، ومع ذلك
فإنه لا يذكر إنجيل عيسى عليه السلام فى القرآن إلا باللفظ المفرد "إنجيل" فلو كان هذا القرآن من عند غير الله، وكان النبى [صلى الله عليه وسلم] عرف هذه الروايات: لجاء التعبير عنها فى القرآن ولو مرة واحدة بلفظ الجمع "أناجيل" وهى التى كانت ولا تزال معروفة عند النصارى، من صحيح فى زعمهم ومنحول. ثم انظر فى شأن هذا الرجل الأمى [صلى الله عليه وسلم] لو كان يعرف هذه العشرات من الكتب التى تسمى"أناجيل" وأراد أن يحقق أمرها، ويعرف الزيف منها من الصحيح، ويحكم فيها حكما قاطعًا صحيحًا، ويأتي بكتاب ثبت مهيمن عليها رقيب: فإلى أى أنواع من الثقافة والعلوم الدينية والتاريخية والأثرية يحتاج؟ ! .
وهل كانت هذه العلوم كلها موجودة فى كتب مؤلفة قبل بدء الإسلام، سواء باللغة العربية أم بغيرها من اللغات؟ ! وكم من السنين يستغرق تعلم ذلك ومعرفته فقط؟ !
وأين كان أعداؤه من المشركين وأهل الكتاب، إذا كان قد تعلم كل هذه العلوم، ودرسها الدراسة الكاملة التى تمكنه من الحكم بتحريف كتبهم ونسيانهم {حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} ؟ !
نعم إن بعض المشركين زعم أنه تعلم بعض الشيء من غيره، وقد حكى الله ذلك فى القرآن عنهم، ثم ردّ عليهم قولهم بأقوى رد، فخرست ألسنتهم وألسنة غيرهم، فلم يدع ذلك أحد منهم ولا من أهل الكتاب بعد ذلك، مع كفرهم به وعداوتهم له، وتربصهم به وبالمسلمين أن يجدوا حجة تنصرهم عليهم، إذ علموا أنهم لو عادوا إلى هذه الدعوى لكانت حجتهم داحضة، ودعواهم كاذبة، فإنه نشأ بينهم وعرفوا تاريخ حياته وأحواله تفصيلا وإجمالا، ولم يجدوا من يصدقهم من أهل عصرهم المشاهدين الحاضرين فى أنه تعلم كل هذه العلوم والشرائع من بعض القارئين والكاتبين فى مكة.
وقد اتصل المسلمون بالنصارى واليهود بعد الفتح العربى للبلاد اتصالا وثيقًا، وقامت فى بعض الأوقات حرب الجدال الدينى بين الفريقين واحتدمت، ومع ذلك فإنه لم يزعم أحد -فيما نعلم- من أعداء المسلمين أن القرآن
مقتبس كله أو بعضه من التوراه أو الأناجيل أو الآراء المسيحية، إلا فى هذه العصور المتأخرة، حينما ضعف شأن الدول الإسلامية ماديا، وقام المستشرقون - وفى أعقابهم المبشرون- بالهجوم العلمى على المسلمين، بعد إن وضعوا أيديهم على أكثر بلاد الإسلام، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} سورة التوبة الآية 32 و 33.
وبعد: فإن الله تعالى يقول فى
سورة النحل، الآية 103 - 105 وهى سورة مكية:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ. إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .
قال الفخر الرازى فى تفسير هذه الآيات (ج 4، ص 185 - 186 الطبعة الأولى ببولاق): "اعلم أن المراد من هذه الآية حكايته شبهة أخرى من شبهات منكرى نبوة محمد [صلى الله عليه وسلم]. وذلك أنهم كانوا يقولون إن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه - ثم ذكر اختلاف الروايات فى اسم هذا البشر وقال: وبالجملة فلا فائدة فى تعديد هذه الأسماء والحاصل أن القوم إتهموه بتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحى وهو كاذب فيه، ثم إنه تعالى أجاب عنه بأن قال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}. ثم قال فى تقرير أوجه الرد عليهم وتكذيبهم: "الأول: أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون، ومتى كان الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول [صلى الله عليه وسلم]، وكلام العدى ضرب من الهذيان، ولا شهادة لمتهم. الثانى: أن أمر التعليم لا يتأتى فى جلسة واحدة، ولا يتم فى الخفية، بل التعلم إنما ينم إذا اختلف المتعلم إلى المعلم أزمنة متطاولة ومددًا متباعدة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن محمدًا عليه السلام
يتعلم العلوم من فلان وفلان. الثالث: أن العلوم الموجودة فى القرآن كثيرة، وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم فى غاية الفضل والتحقيق، فلو حصل فيهم إنسان بلغ فى التعليم والتحقيق إلى هذا الحد لكان مشارًا إليه بالأصابع فى التحقيق والتدقيق فى الدنيا! ! فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية والمباحث النفسية من عند فلان وفلان؟ ! واعلم أن الطعن فى نبوة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بأمثال هذه الكلمات الركيكة يدل على أن الحجة لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] كانت ظاهرة باهرة، فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها، ولأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكة".
إن محمدًا [صلى الله عليه وسلم]-وقد ثبت لك أنه لم يتعلم شيئًا من كتب الأديان السابقة، ولم يدرس شيئًا من العلوم والمعارف- يخبرنا عن الله سبحانه أنه يقول فى شأن النصارى وكتبهم:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة، الآية 14]. أيمكنك أن تتصور أن هذا الأمى يحكم الحكم القاطع الصريح البين بأن النصارى نسوا الكثير مما ذكرهم به عيسى عليه السلام من نفسه ومن علمه بدون وحى من الله؟ !
إن الذى يأتى بهذا القرآن وبما فيه من تشريع تقطعت دونه أعناق الأمم وبما فيه من توحيد وتمجيد لله، وبما فيه من القصص والأخبار الصادقة، وبما فيه من المواعظ والحكم، وبما فيه من مكارم الأخلاق، هذا القرآن الذى أعجز الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، وهو الهدى ودين الحق- أقول: إن الذى يأتى بكل هذا فى كتاب واحد لن يعقل أن يكون تعلمه من كتب يحكم هو عليها بأنها محرفه مبدلة، أو كلمات يسمعها عرضًا على ألسنة بعض أهل الكتاب فى جزيرة العرب، أو نقلا عن بعض الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، وهم فى كل واد يهيمون، وهم يقولون ما لا يفعلون.
ومن المضحك، بل مما يؤسف له، أن كاتب المقال لم يصن قلمه فى مثل هذا
البحث -الذى يزعمه بحثًا علميا- عن ذكر الحانات.
وكان الأجدر به أن يفقه أن ما يتحدث به السكارى فى الحانات، وخاصة الشعراء منهم، لا يصلح أن يكون أساسا لدين عظيم يهدى إلى الله، ويعلم الناس الشرائع والمكارم، ويدعو إلى إعلاء كلمة الله، وإلى نشر الفضيلة وحرب الرذيلة، هالى النهي عن الخمر والميسر وغيرهما من المنكرات، ويصفها بأنها رجس من عمل الشيطان.
وقد كان الأولى به، وهو يشرح مادة "إنجيل"، أن يذكر تاريخ هذه الكتب التى بأيديهم أولا، ثم يدعى بعد ذلك ما شاء من الدعاوى، ولكنه -فيما نظن- أحجم عن ذلك لئلا يكون نقضا لكل ما يدعيه.
وقد ذكر أستاذنا الإِمام العلامة السيد محمد رشيد رضا الكثير من تاريخها فى مواضع متعددة من تفسيره، وكان رحمة الله من أعلم الناس فى هذا العصر بتاريخها وبدراستها، هو وأستاذنا العلامة الكثير الشيخ عبد الوهاب النجار. وهاك قطرة من
غيث مما قاله السيد رشيد (جـ 6، ص 287 - 288 من التفسير): "بيّن الله لنا أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود، وسبب ذلك أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتمجيده والإرشاد لعبادته، وكان من اتبعوه من العوام، ومثلهم حواريوه، وهم من الصيادين، وقد اشتد اليهود فى عداوتهم ومطاردتهم، فلم تكن لهم هيئة اجتماعية ذات قوة وعلم، تدوّن ما حفظوه من إنجيل المسيح وتحفظه. ويظهر من تاريخهم وكتبهم المقدسة أن كثيرًا من الناس كانوا يبثون بين الناس فى عصرهم تعاليم باطلة عن المسيح، ومنهم من كتب فى ذلك، حتى إن الذين كتبوا كتبا سموها الأناجيل كثيرون جدا، كما صرحوا به فى كتبهم المقدسة وتواريخ الكنيسة. وما ظهرت هذه الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح عند ما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين فى النصرانية، وإدخاله إياها فى طور جديد من الوثنيه. وهذه الأناجيل عبارة عن تاريخ ناقص للمسيح، وهى متعارضة متناقضة
مجهولة الأصل والتاريخ، بل وقع الخلاف بينهم فى مؤلفيها واللغات التى ألفوها بها. وقد بيّنا فى تفسير أول سورة آل عمران حقيقة إنجيل المسيح، وكون هذه الكتب لم تحو إلا قليلا منه، كما تحتوى السيرة النبوية عندنا على القليل من القرآن والحديث. وهذا القليل من الإنجيل قد دخله التناقض والتحريف" ثم ذكر الأدلة على ذلك تفصيلا، ثم قال (ص 301 - 302): "فثبت بهذا البيان الوجيز صدق قول القرآن المجيد: فنسوا حظا مما ذكروا به. وثبت به أنه كلام الله ووحيه، إذ ليس هذا مما يعرف بالرأى حتى يقال إن النبى [صلى الله عليه وسلم] قد اهتدى إليه بعقله ونظره. كيف وقد خفى هذا عن أكثر علمائنا الأعلام عدة قرون لعدم اطلاعهم على تاريخ القوم".
وقال أيضًا فى تفسير قوله تعالى فى سورة آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (جـ 3، ص 158): "أما لفظ الإنجيل فهو يونانى الأصل، ومعناه البشارة، وهو يطلق عند النصارى على أربعة كتب، تعرف بالأناجيل الأربعة، وهى ما يسمونه العهد الجديد، وهو هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل، أى الحواريين، ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا، أى على المجموع، فلا يطلق على شئ مما عدا الكتب الأربعة بالانفراد. والأناجيل الأربعة عبارة عن كتب وجيزة فى سيرة المسيح عليه السلام وشئ من تاريخه وتعليمه، ولهذا سميت أناجيل. وليس لهذه الكتب سند متصل عند أهلها، وهم مختلفون فى تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة، ففى السنة التى كتب فيها الإنجيل الأول تسعة أقوال، وفى كل واحد من الثلاثة عدة أقوال أيضًا، على أنهم يقولون إنها كتبت فى النصف الثانى من القرن الأول للمسيح، لكن أحد الأقوال فى الإنجيل الأول أنه كتب سنة 37 ومنها أنه كتب سنة 64 ومن الأقوال فى الرابع أنه كتب فى سنة 98 للميلاد، ومنهم من أنكر أنه تصنيف يوحنا، وإن خلافهم فى سائر كتب العهد الجديد لأقوى وأشد".
"وأما الإنجيل فى عرف القرآن فهو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى ابن مريم عليه السلام من البشارة بالنبى [صلى الله عليه وسلم] الذى يقيم الشريعة والحكم والأحكام، وهو ما يدل عليه اللفظ، وقد أخبرنا سبحانه أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود، وهم أجدر بذلك، فإن التوراة كتبت فى زمن نزولها، وكان الألوف من الناس يعلمون بها، ثم فقدت، والكثير من أحكامها محفوظ معروف، ولا ثقة بقول بعض علماء الإفرنج من أن الكتابة لم تكن معروفة فى زمن موسى عليه السلام. وأما كتب النصارى فلم تعرف ولم تشتهر إلا فى القرن الرابع للمسيح عليه السلام، لأن أتباع المسيح عليه السلام كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، فلما أمنوا باعتناق الملك قسطنطين النصرانية -سياسة- ظهرت كتبهم، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذى هو إنجيله، وكانت كثيرة، فتحكم الرؤساء حتى اتفقوا على هذه الأربعة، فمن فهم ما قلناه فى الفرق بين عرف القرآن الكريم وعرف القوم فى مفهوم التوراة والإنجيل تبين له أن ما جاء فى القرآن هو الممحص للحقيقة التى أضاعها القوم، وهى ما يفهم من لفظ التوراة والإنجيل. ويصح أن يعد هذا التمحيص من آيات كون القرآن موحى به من الله، ولولا ذلك ما أمكن ذلك الأمى الذى لم يقرأ هذه الأسفار والأناجيل المعروفة ولا تواريخ أهلها - أن يعرف أنهم نسوا حظا مما أوحى إليهم وأوتوا نصيبًا منه فقط، بل كان يجاريهم على ما هم عليه ويقول الأناجيل لا الإنجيل. ثم إن من فهم هذا لا تروج عنده شبهات القسيسين الذين يوهمون عوام المسلمين أن ما فى أيديهم من التوراة والأناجيل هى التى شهد بصدقها القرآن".
"وقال الأستاذ الإِمام -يريد الشيخ محمد عبده- فى تفسير هذه الجملة: المتبادر من كلمة "أنزل" أن التوراة نزلت على موسى مرة واحدة، وإن كانت مرتبة فى الأسفار المنسوبة إليه فإنها مع ترتيبها مكررة، والقرآن لا يعرف هذه الأسفار ولم ينص عليها. وكذلك الإنجيل نزل مرة واحدة، وليس هو هذه الكتب التى يسمونها أناجيل، لأنه لو أرداها لما أفرد الإنجيل دائما مع
أنها كانت متعددة عند النصارى حينئذ".
وقال الأستاذ العلامة الشيخ عبد الوهَّاب النجار في كتاب قصص الأنبياء (ص 465 - 466 طبعة ثانية: "أين يوجد اليوم إنجيل المسيح عليه السلام الذي ذكره القرآن الكريم؟ إن الإنجيل الذي أتى به المسيح وسلمه إلى تلاميذه وأمرهم أن يبشروا به لا يوجد الآن، وإنما توجد قصص ألفها التلاميذ وغير التلاميذ، لم تسلم من المسخ والتحريف بالزيادة والحذف".
وإن شئت معرفة تاريخ هذه الأسفار الأربعة التي تسمى الأناجيل ومقدار ما فيها من التناقض والاختلاف، ومقدار الوثوق بها من الوجهة التاريخية، ثم قيمتها العلمية عند علماء الإِسلام فاقرأ الجزء الثاني من كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) للإمام الحافظ الحجة أبي محمَّد بن حزم المتوفى سنة 456 وكتاب (الجواب الصحيح) لشيخ الإِسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728 وكتاب (هداية الحيارى) للإمام المحقق ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 وكتاب (الأجوبة الفاخرة) للعلامة الكبير شهاب الدين القرافي المتوفى سنة 684 وكتاب (الفارق بين المخلوق والخالق) لصاحب السعادة الحاج عبد الرَّحْمَن بك أفندي باجه جى زاده، وكتاب (دين الله في كتب أنبيائه) للعلامة الدكتور محمَّد أفندي توفيق صدقى رحمه الله، وكتاب (قصص الأنبياء) لأستاذنا، الشيخ عبد الوهَّاب النجار، وما كتبه المرحوم الإِمام السيد محمَّد رشيد رضا في التفسير والمنار، وأخيرًا كتاب (الإنجيل والصليب) تأليف الأب عبد الأحد داود الأشورى العراقي، وقد ترجمه عن التركية أحد الأفاضل من مسلمى العراق وطبع في القاهرة سنة 1351.
وإذا كانت عقيدة المسلمين من عصر النبوة إلى الآن أن هذه الكتب محرفة مبدلة، أو مصنوعة موضوعة، فكيف يتصور ذو عقل أنَّهم يأخذون عنها دينهم؟ ! أو أن يدخل في أذهانهم وآرائهم بعض ما يقرءونه أو يسمعونه منها، وهم يرون رسولهم [صلى الله عليه وسلم] قد جاءهم بالدين الحق، وترك في أيديهم كتابًا جعله إمامًا لهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأبان لهم في
سنته كل ما احتاجوا إليه في شئون دينهم ودنياهم، وهم يسمعون حكم الله في الكتب التي عند أهل الكتاب أنها محرفة لا يوثق بها، ويسمعون قول النَّبِيّ [صلى الله عليه وسلم]:"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم" وهذا حديث صحيح رواه البُخَارِيّ من حديث أبي هريرة (انظر فتح الباري 8: 129 و 13: 282 و 430 طبعة بولاق)، ويقرءون حديث جابر ابن عبد الله:"أن عمر أتى النَّبِيّ [صلى الله عليه وسلم] بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال: لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به. والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حيا ما وسعه إلَّا أن يتبعنى". رواه الإِمام أَحْمد وابن أبي شيبة والبزار، وإسناده صحيح (انظر الفتح 13: 281). وهذا المعنى متواتر عند المسلمين معلوم من الدين بالضرورة.
وكان المسلمين في تشريعهم وفقههم مستقلين تمام الاستقلال بكتابهم وسنة نبيهم [صلى الله عليه وسلم]، لم يتأثروا في شيء من ذلك بكتب النصارى ولا بقوانين الرومان، ولا بغيرها من آراء من سبقهم، يعرف ذلك من توسيع في دراسة الشريعة الإِسلامية وأصولها من الكتاب والسنة، وقد يخفى على من قصر دراسته ومعرفته على كتب الفروع الفقهية فيخدعه ما يرى فيها من شبه ببعض القواعد القانونية عند غير المسلمين.
وبعد هذا البيان الموجز لا أراني في حاجة إلى مناقشة الكاتب تفصيلا في المواضع التي زعم أن القرآن اتفق مع الأناجيل فيها أو خالفها، وأن للعهد الجديد أثرًا في الحديث، أو في كتب الصوفية أو غيرها، وقد دمرنا الأساس الذي بنيت عليه هذه الدعاوى الباطلة:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} سورة المائدة، الآية 15 و 16.
أَحْمد محمَّد شاكر