الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: رواية الشعر هل هي مكروهة أم لا
؟
ش: أي هذا باب في بيان حكم رواية الشعر وإنشاده، هل يباح أم يكره؟ والشعر في الاصطلاح: كلام موزون مقفي مقصود به، واحترزنا بالمقصود عما إذا وقع اتفاقًا لما في قوله عليه السلام:
هل أنت إلا أصبع دميت
…
وفي سبيل الله ما لقيت
فإنه لا يسمي شعرا؛ لأنه وقع اتفاقًا لا قصدًا، والشعر يطلق علي بيت واحد بخلاف القصيدة؛ فإنها لا تطلق إلا علي عشرة أبيات، وقيل: أقلها سبعة أبيات.
ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن ومحمد بن سليمان الباغندي، قالا: ثنا خلاد بن يحيي، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عمرو بن حريث، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن رسول الله عليه السلام قال:"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا".
ش: رجاله ثقات. وعمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المدني المخزومي، ذكره ابن حبان في التابعين الثقات، وذكره ابن الأثير في الصحابة.
وأبو حريث بن عمرو صحابي بالاتفاق.
وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا زهير بن محمد وأحمد بن إسحاق -واللفظ لزهير- قالا: ثنا خلاد بن يحيي، قال: ثنا سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد. . . . إلى آخره نحوه سواء.
وقال البزار: وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن إسماعيل، عن عمرو بن حريث، عن عمر رضي الله عنه، موقوفًا، ولا نعلم أسنده إلا خلاد عن سفيان.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2) موقوفًا: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن
(1)" مسند البزار"(1/ 368 رقم 247).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 281 رقم 26089).
أبي خالد، عن عمرو بن حريث، قال: قال عمر رضي الله عنه: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا خير [من] (1) أن يمتلئ شعرًا".
قوله: "لأن يمتلئ" في محل الرفع على الابتداء، و"أن" مصدرية، و"اللام" فيه للتأكيد.
قوله: "خير" خبر المبتدأ، والتقدير: لامتلاء جوف أحدكم قيحًا خير له من امتلائه شعرًا.
ص: حدثنا محمَّد بن إسماعيل الصائغ، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن محمد بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله عليه السلام: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَهُ، خير له من أن يمتلئ شعرًا".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن شعبة. . . .، فذكر بإسناد مثله، غير أنه لم يقل:"حتى يَرِيه".
ش: هذان طريقان صحيحان، ورجالهما رجال الصحيح ما خلا شيخي الطحاوي:
الأول: عن محمَّد بن إسماعيل الصائغ شيخ أبي داود، وعبد الرحمن بن أبي حاتم وقال: صدوق.
ومحمد بن سعد بن أبي وقاص يروي عن أبيه سعد بن أبي وقاص -أحد العشر المبشرة- رضي الله عنهم.
وأخرجه مسلم (2): ثنا محمَّد بن مثني ومحمد بن بشار، قالا: ثنا محمَّد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن محمَّد بن سعد، عن سعد، عن النبي عليه السلام قال:"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا يَرِيَه، خير من أن يمتلئ شعرًا".
(1) تكررت في "الأصل".
(2)
"صحيح مسلم"(4/ 1769 رقم 2258).
وأخرجه ابن ماجه (1): عن محمد بن بشار، عن يحيي بن سعيد ومحمد بن جعفر، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه.
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن شعبة. . . . إلى آخره.
وأخرجه الترمذي (2): عن محمد بن بشار، عن يحيي بن سعيد، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه. وقال: حديث حسن صحيح.
قوله: "قيحًا" نصب على التمييز، وهو الصديد الذي يسيل من الدمَّل والجرح.
قوله: "حتى يَريَه" من الوَرْي وهو الداء، يقال: وُرِيَ يُوري فهو مَوْرِيّ إذا أصاب جوفه الداء.
قال الأزهري: الوَريْ مثال: الرمْي: داء يدخل الجوف، يقال: رجل مَوْرِيّ. غير مهموز.
وقال الفراء: هو الوَرَي بفتح الراء، وقال ثعلب: هو بالسكون المصدر، وبالفتح الاسم.
وقال الجوهري: وَرَى القيح جوفه، يَرِيَه وَرْيًا: أكله.
وقال قومٌ: معناه حتى يصيب رئته، وأنكره غيرهم؛ لأن الرئة مهموزة وإذا بَنَيْتَ منه فعلًا قلت: رآه يَرْأَه فهو مَرْئ.
وقال الأزهري: إن الرئة أصلها من وَرَى وهي محذوفة منه، تقول: رويت الرجل فهو مَوْريّ إذا أصبت رئته، والمشهور في الرئة الهمز.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت حنظلة، قال: سمعت سالم بن عبد الله، يقول: سمعت عبد الله بن عمر يحدث، عن رسول الله عليه السلام مثله.
ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.
(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 1237 رقم 3760).
(2)
"جامع الترمذي"(5/ 141 رقم 2852).
وحنظلة: هو ابن أبي سفيان الجمحي المكي.
وأخرجه البخاري (1) بإسناده عن ابن عمر، أن رسول الله عليه السلام قال:"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا أبو جعفر الرازي، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبى هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا محمَّد بن إسماعيل، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله. وزاد:"حتى يَرِيَه".
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا".
ش: هذه ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن الجعد الجوهري -شيخ البخاري وأبي داود- عن أبي جعفر الرازي -مولى بني تيم، قيل: اسمه عيسي بن أبي عيسى، وقيل: عيسى بن ماهان، وقيل: عيسى بن عبد الله، وقيل غير ذلك. وثقه يحيي وأبو حاتم، وروي له الأربعة.
عن عاصم بن بهدلة المقرئ الكوفي -قال يحيي: لا بأس به، روي له الجماعة- الشيخان مقرونًا بغيره.
عن أبي صالح ذكوان الزيات.
وأخرجه أبو داود (2) نحوه، وليس في روايته "حتى يَرِيَه".
الثاني: عن محمَّد بن إسماعيل الصائغ، عن مسلم بن إبراهيم القصاب -شيخ البخاري- عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة.
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2279 رقم 5802).
(2)
"سنن أبي داود"(4/ 302 رقم 5009).
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو سعيد الأشج، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا حتى يَرِيَه؛ خير من أن يمتلئ شعرًا".
الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح ذكوان، عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (2) والترمذي (3) نحوه.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عوف بن مالك، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى رهابته قيحًا يتمخض مثل السقاء؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا".
ش: رجاله ثقات، غير أن عبد الله بن لهيعة فيه مقال.
وأخرجه الطبراني: ثنا يحيي بن عثمان بن صالح، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة. . . . إلى آخره نحوه سندًا ومتنًا.
قوله: "إلي رهابته" قال ابن الأثير: الرَّهابة -بالفتح- غضروف كاللسان معلق في أسفل الصدر مشرف على البطن، قال الخطابي: ويروى بالنون وهو غلط.
وقال الجوهري: الرهابة مثل السحابة: عظم في الصدر مشرف على البطن، مثل اللسان.
قوله: "يتمخض" بالخاء والضاد المعجمتين، من المخض: وهو تحريك السقاء الذي فيه اللبن لتخرج زبده.
و"السقاء" بكسر السين: الدلو.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1769 رقم 2257).
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2279 رقم 5803).
(3)
"جامع الترمذي"(5/ 140 رقم 2851).
وهذا -كما قد رأيت- أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن خمسة أنفس من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وعوف بن مالك، رضي الله عنهم.
ولما أخرج الترمذي حديث سعد بن أبي وقاص قال: وفي الباب عن أبي سعيد وأبي الدرداء.
قلت: وفي الباب عن عائشة أيضًا.
أما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه مسلم (1): حدثني قتيبة بن سعيد الثقفي، قال: ثنا ليث، عن ابن الهاد، عن يحنس مولى مصعب بن الزبير، عن أبي سعيد الخدري قال:"بينا نحن نسير مع رسول الله عليه السلام بالعرج، إذْ عرض علينا شاعر يُنْشِد، فقال رسول الله عليه السلام: خذوا الشيطان -أو أمسكوا الشيطان- لأن يمتلئ جوف رجل قيحًا؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا".
وأما حديث أبي الدرداء فأخرجه الطبراني (2): ثنا أبو الزنباع ويحيي بن أيوب، قالا: ثنا يوسف بن عدي، ثنا بشر بن عمارة، عن الأحوص بن حكيم، عن خالد بن معدان، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله عليه السلام: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا".
وأما حديث عائشة فأخرجه البيهقي في "سننه"(3) من حديث الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، قيل لعائشة:"أكان ينشد عند رسول الله عليه السلام الشعر؟ فقالت: كان أبغض الحديث إليه" قال الذهبي: قيل: فيه انقطاع.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فكره قوم رواية الشعر، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1769 رقم 2259).
(2)
عزاه له الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 223)، وقال: رواه الطبراني، وفيه بشر بن عمارة، وهو ضعيف.
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 245 رقم).
ش: أراد بالقوم هؤلاء: مسروق بن الأجدع وإبراهيم النخعي وسالم بن عبد الله والحسن البصري وعمرو بن شعيب، فإنهم قالوا: تكره رواية الشعر وإنشاده، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا بأس برواية الشعر الذي لا قذع فيه.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي وعامر ابن سعد البجلي ومحمد بن سيرين وسعيد بن المسيب والقاسم والثوري والأوزاعي وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا يوسف ومحمدًا وإسحاق بن راهويه وأبا ثور وأبا عبيد؛ فإنهم قالوا: لا بأس برواية الشعر الذي ليس فيه هجاء ولا نكب عرض أحد من المسلمين ولا فحش.
وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب والبراء بن عازب وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس وعمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير ومعاوية بن أبي سفيان وعمران بن الحصين والأسود بن سريع وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم.
قوله: "لا قَذْع فيه" أي لا فحش، ولا خني فيه، وهو بفتح القاف وسكون الذال المعجمة وفي آخره عين مهملة، يقال: قذعته وأقذعته إذا رميته وشتمته، وفي الحديث:"مَن قال في الإِسلام شعرًا مُقَذَّعًا فلسانه هَدَرٌ"(1).
ص: وقالوا: هذا الذي روي عن رسول الله عليه السلام إنما هو علي خاصٍّ من الشعر، فذكروا في ذلك ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني إسماعيل بن عياش، عن محمَّد بن السائب، عن أبي صالح قال: "قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا.
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(4/ 276 رقم 5088) من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه به. وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 227) للبزار، وقال: ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف.
فقالت عائشة رضي الله عنها: يرحم الله أبا هريرة، حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره؛ إن المشركين كانوا يهاجون رسول الله عليه السلام فقال: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير من أن يمتلئ شعرًا من مهاجاة رسول الله عليه السلام".
حدثنا علي بن عبد العزيز البغدادي، قال: ثنا أبو عبيدة، قال: سمعت يزيد يحدث، عن الشَّرقي بن القَطَامي، عن مجالد، عن الشعبي، أن النبي عليه السلام قال:"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا -يعني من الشعر الذي هُجِيَ به النبي عليه السلام".
ش: أي قال هؤلاء الآخرون، وهذا جواب عن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، بيانه أن هذه الأحاديث واردة علي نوع مخصوص من الشعر، وهو الذي يكون فيه هجاء أو فحش وليس ذلك بممنوع مطلقًا؛ والدليل علي ذلك ما روي عن عائشة وعامر الشعبي فإنهما قد بَيَّنَّا أن المراد من الشعر الممنوع هو الشعر الذي فيه هجاء وثلب عرض وفحش، ألا ترى كيف أنكرت عائشة علي أبي هريرة حيث قالت:"يرحم الله أبا هريرة؛ حفظ أول الحديث ولم يحفظ آخره" أرادت أن مَوْرِد هذا الحديث الذي رواه هو أن المشركين كانوا يهاجون رسول الله عليه السلام، فقال النبي عليه السلام ما قال من ذلك؛ ردعًا لهم وزجرا لغيرهم عن أن يأتوا بمثل ذلك، وكذلك قال الشعبي، فإنه فسر الشعر في قوله:"خير له من أن يمتلئ شعرًا" بالشعر الذي هُجِيَ به النبي عليه السلام، وليس المراد مطلق الشعر فافهم.
أما ما روي عن عائشة: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلي شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن إسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة- بن سُليم الشامي الحمصي، فيه مقال، وعن دحيم: هو غاية في الشاميين وخلط عن المدنيين.
وهو يروي عن محمَّد بن السائب، ضعفه يحيي، وعنه: ليس بشيء. روي له الترمذي وابن ماجه.
وهو يروي عن أبي صالح باذان -ويقال: ماذان- مولى أم هانئ بنت أبي طالب،
قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بثقة. وعن يحيى: ليس به بأس، وإذا روي عنه الكلبي فليس بشيء.
وأما ما روي عن عامر الشعبي: فأخرجه عن علي بن عبد العزيز الحافظ شيخ الطبراني، وثقه ابن حبان والدارقطني، عن أبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي الفقيه القاضي، الأديب المشهور، صاحب التصانيف المشهورة والعلوم المذكورة. عن يزيد بن هارون -شيخ أحمد، روى له الجماعة.
عن الشَّرَقِي بن قَطَامي الكوفي واسمه: الوليد، واسم أبيه: الحُصين، وثقه ابن حبان، وضعفه الساجي.
عن مجالد بن سعيد الهمداني ضعفه يحيى بن معين، ووثقه النسائي، وروي له مسلم مقرونًا بغيره، واحتجت به الأربعة، عن عامر الشعبي.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1) من حديث شَرَقِي بن قَطَامي، عن مجالد، عن الشعبي، أن النبي عليه السلام قال:"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه؛ خير له من أن يمتلئ شعرًا -يعني من الشعر الذي هُجي به النبي-عليه السلام".
قال أبو عبيد: الذي فيه عندي غير هذا؛ لأن ما هُجي به الرسول لو كان شطر بيت لكان كفرًا؛ ولكن وجهه عندي: أن يمتلئ قلبه حتى يغلب عليه، فيشغله عن القرآن والذكر.
قلت: فيما ذكر أبو عبيد نظر؛ لأن الذين هجوا النبي صلى الله عليه وسلم كفار وهم في حال هجوهم موصوفون بالكفر من غير هجو، غاية ما في الباب قد زاد كفرَهم هجوُهم (2)، والصواب هو الذي قاله الطحاوي في آخر الباب، ولكن الذي يؤيد هذا ما روي عن عائشة رضي الله عنها.
(1)"سنن البيهقي الكبري"(10/ 244 رقم 20935).
(2)
في هذا النظر نظر، وذلك أن أبا عبيد إنما قصد أن المسلم إذا ملئ فمه هجوا للنبي يكون بذلك كفرا، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار قطعا، لأنه قال:"أحدكم" أي المؤمنون، فيكون رأيه أصوب والله أعلم.
ص: قالوا: وقد روي في إباحة الشعر آثار، فمنها: ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال: ثنا مَعْن بن عيسى، قال: حدثني عبد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لما دخل رسول الله عليه السلام عام الفتح رأى نساءً يلطمن وجوه الخيل بالخُمُر، فتبسم فقال: يا أبا بكر، كيف قال حسان بن ثابت؟ فأنشده أبو بكر رضي الله عنه:
عَدِمْتُ بنيَتي إن لم
…
تَرَوْها تثير النقع مِنْ كتفي كداء
ينازعن الأعنة مسرعات
…
يَلطمهن بالخمر النساء
هكذا حدثنا أحمد بن داود، وأهل العلم بالعربية، يروون البيت الأول علي غير ذلك: تثير النقع موعدها كداء. حتى تستوي قافية هذا البيت مع قافية البيت الذي بعد. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدخلوها من حيث قال".
ش: أي قال أهل المقالة الثانية: قد روي في إباحة قول الشعر وإنشاده أحاديث وآثار كثيرة، فمن ذلك حديث عبد الله بن عمر.
أخرجه بإسناد صحيح، وعبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
وهذا الحديث فيه دلالة صريحة علي إباحة إنشاد الشعر وروايته وسماعه، ألا تري كيف قال عليه السلام:"يا أبا بكر، كيف قال حسان بن ثابت؟ " ثم أنشد أبو بكر رضي الله عنه ما قاله حسان، في قوله: عَدِمْتُ بنيتي. . . . إلى آخره. وهذان البيتان من قصيدة ساقها كلها مسلم في "صحيحه"(1): ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث، قال: أخبرني أبي، عن جدي، قال: حدثني خالد بن يزيد، قال: حدثني سعيد بن أبي هلال، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اهجوا قريشًا؛ فإنه أشد عليها من رشق بالنبل، فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجهم، فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه،
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1935 رقم 249).
قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بِذَنَبِه، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأقرينهم بلساني قري الأديم، فقال رسول الله عليه السلام: لا تعمل؛ فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسبًا يُلَخِّص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلَّنك منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين، قالت عائشة رضي الله عنها: فسمعت رسول الله عليه السلام يقول لحسان: إن رُوح القدس لا تزال تؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله.
وقالت: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: هجاهم حسان فشفي واستشفى، قال حسان:
هجوت محمدًا فأجبت عنه
…
وعند الله في ذاك الجزاءُ
هجوت مباركًا برًّا حنيفًا
…
رسول الله شيمته الوفاءُ
فإن أبي ووالده وعرضي
…
لعرض محمد منكم وقاءُ
ثكلتُ بنيتي إن لم تروها
…
تثير النقع من كنفي كداء
ينازعن الأعنة مصعداتٍ
…
علي أكتافها الأسُل الظماءُ
تظل جيادنا متمطرات
…
تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتم عنا اعتمرنا
…
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يومٍ
…
يعز الله فيه من يشاءُ
وقال الله قد أرسلت عبدًا
…
يقول الحق ليس به خفاءُ
وقال الله قد أرسلت جندًا
…
هم الأنصار عزمتها مضاءُ
لنا في كل يوم من معد
…
سباتٌ أو قتالٌ أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منكم
…
ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا
…
وروح القدس ليس لنا كفاء
وهذه القصيدة من بحر الوافر، وأصله مفاعلتن ست مرات، وله عروضان وثلاثة أضرب:
الأولى: مقطوفة: ولها ضرب واحد مثلها.
والثانية: مجزوة: ولها ضربان، أحدهما مجزوء مثلها والآخر معصوب، والقصيدة من العروض الأولى التي لها ضرب واحد فافهم، فإنه لا يخفي عليك أن اطلعت في علم العروض، وتقطيع البيت الأول هكذا:
هجوت محم/ مدًا فأجب/ ت عنه
…
وعند اللا/ـه في ذاك الـ/ جزاء
مفاعلتن/ مفاعلتن/ فعول
…
مفاعلتن/ مفاعلتن/ فعول
وفيه العصب والقطف "العصب" بالمهملتين هو تسكين الخامس المتحرك فيبقي مفاعللِن بسكون اللام فينقل إلي مفاعِلِن، و"القطف": الحذف بعد العصب حتي يصير مفاعل فيرد إلى فعولن.
قوله: "هجوت مباركًا برًّا" وفي بعض الروايات: هجوت محمدًا برًّا، والبرُّ: الصادق.
قوله: "حنيفًا" أي: مائلًا عن الأديان إلى دين الإِسلام.
قوله: "شيمته" بكسر الشين المعجمة أي: خُلُقُه.
قوله: "وقاء" بكسر الواو وفتحها، وهو ما وقيت به شيئًا، من وَقَي يَقِي، يقال: وقاه الله وقاية -بالكسر- أي: حفظه. قوله: "ثكلت بنيتي" من الثكل، وهو فقدان المرأة وَلَدَها، وكذلك الثكَل بالتحريك، وامرأة ثاكل وثكلي، وثكلته أمه ثكلًا، وأثكله الله أمه. وفي رواية الطحاوي:"عَدِمْتُ بنيتي" ومعناهما واحد. والبنية: تصغير بنت.
قوله: "إن لم تروها" وهي الخيول.
"تثير النقع"، أي الغبار، وإثارته نشره وإظهاره في الجوِّ.
قوله: "من كنفي كَدَاء" أي من ناحية كداء -وهو بفتح الكاف وبالمد- بأعلي مكة عند المقبرة، ويسمى الناحية المعلى وهنالك المحصب، وليس بمحصب مني، وكان باب بني شيبة بإزاء، وكدا بالقصر والضم مصروفًا، هو بأسفل مكة، وهو بقرب شعب الشافعيين، وابن الزبير عند قُعَيْقِعَان، وهناك موضع آخر يقال له: كُدي مصغر، وإنما هو لمن خرج من مكة إلى اليمن، فهو في طريقه، وليس من هذين المقدمين في شيء.
ثم اعلم أن هذا البيت إذا قرئ هكذا: تثير النقع من كنفي كداء؛ يكون فيه إقواء وهو من عيوب الشعر. والإقواء هو اختلاف المجري الذي هو حركة الروي بالضم والكسر والفتح؛ وذلك لأن أواخر أبيات القصيدة كلها مرفوع ما خلا قوله: من كنفي كداء، فإنه مجرور بالإضافة، وهذا اختلاف كما ترى، وقد نبه الطحاوي على الصحيح من الرواية بقوله: وأهل العلم بالعربية يَرْوُون البيت الأول علي غير ذلك. . . . إلى آخره، فإنهم يروون هكذا.
ثكلت بنيتي إن لم تروها
…
تثير النقع موعدها كداء
فإنه علي هذه الرواية تستقيم أبيات القصيدة، ويرتفع الإقواء؛ لارتفاع كداء بالخبرية عن قوله:"موعدها" أي موعد الخيول، أراد موعد دخولها ناحية كداء.
قوله: "ينازعن الأعنة" وفي بعض الرويات: "يبارين الأعنة" من المباراة وهي المجاراة والمسابقة، وفي رواية البيهقي في "سننه" (1):"تنازعن الأسنة" وهي جمع سنان الرمح، و"الأعنة" جمع عنان الفرس، والضمير في تنازعني يرجع إلى الخيول.
قوله: "مشرعات" حال من الضمير الذي في تنازعن، وفي رواية:"مصعدات"، وهي "الصحيحة" ومعناه مقبلات متوجهات نحوكم، يقال صعد إلي فوق صعودًا إذا طلع، وأصعد في الأرض إذا مضي وسار.
قوله: "بالخُمر" بضم الخاء المعجمة: جمع خمار المرأة.
(1)"السنن الكبري"(10/ 238 رقم 20895).
وقوله: "النساء" مرفوع على أنه فاعل لقوله: "يلطمهن".
قوله: "على الأسل الظماء" الأسل: الرماح، وهو في الأصل نبات له أغصان دقاق طوال، والظماء جمع ظامئ وهو العطشان، جعل الرماح عطاشًا إلى ورود الدماء، استعارة فهي إلي ذلك أسرع، كمسارعة العطشان إلى ورود الماء.
قوله:"تُظِلُّ جيادنا" أي تقبل وتدنو منكم كأنها ألقت عليكم ظلها، والجياد: الكرام من الخيول، قال الجوهري: جاد الفرس أي صار رائعًا، يَجُودُ جُودَة -بالضم- فهو جواد، للذكر والأنثي، وخيل جياد وأجياد وأجاويد.
قوله: "متمطرات" نصب على الحال من جيادنا وهو من تمطر تمطرًا إذا أسرع، وكذا يقال: مَطَرَ الفرس يمْطُر مَطرًا ومُطورًا.
قوله: "عرضتها اللقاة" وفي بعض الروايات الصحيحة: عرضتها اللقاء، يقال: فلان عرضة لكذا إذا كان مستعدًّا له متعرضًا له.
قوله: "روح القدس" يقال لجبريل عليه السلام: روح القدس؛ لأنه خلق في طهارة، لأنه من التقديس وهو التطهير، ومنه: الأرض المقدسة قيل: هي الشام وفلسطين، وسمي بيت المقدس؛ لأنه الموضع الذي يُتَقَدَّس فيه من الذنوب، ومن أسماء الله تعالي: القدوس، وهو الطاهر المنزَّه عن العيوب والنقائص.
قوله: "كفاء" بكسر الكاف، يقال: لا كفاء له: أي لا نظير له. ومنه الكفيء وهو النظير، وكذلك الكُفُؤ والكفوء علي وزن فُعُل وفَعُول، والمصدر الكفاءة بالفتح والمد.
ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا يعقوب ابن عبد الرحمن الزهري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر حكمة".
ش: إسناده صحيح.
وعمرو بن خالد بن فروخ الحراني، شيخ البخاري.
والحديث أخرجه غير واحد عن هشام، عن أبيه مرسلًا.
فقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، أن رسول الله عليه السلام قال:"إن من الشعر حكمة".
وقال البزار في "مسنده": ثنا علي بن حرب الموصلي، ثنا عبد الله بن إدريس، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي عليه السلام قال:"إن من الشعر حكمة".
وهذا الحديث رواه غير واحد عن ابن إدريس، وعن غيره عن هشام، عن أبيه مرسلًا، وأسنده يعقوب بن عبد الرحمن، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.
قوله: "إن من الشعر حكمة" معناه: إن من الشعر كلامًا يمنع من الجهل والسفه وينهى عنهما، ويقال: أراد بها المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس، ويروي: إن من الشعر حُكْمًا، والحُكم هو العلم، والفقه، والقضاء بالعدل، وهو مصدر حَكَمَ يَحْكُم، والحكمة أيضًا بمعنى الحكم.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه قال:"قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: نعم، من شعر ابن رواحة، وربما قال هذا البيت: ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد".
ش: إسناده صحيح.
وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري.
وأخرجه الترمذي (2): ثنا علي بن حجر، قال: ثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة قال: قيل لها: "هل كان النبي عليه السلام يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر ابن رواحة، ويتمثل ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 271 رقم 26006).
(2)
"جامع الترمذي"(5/ 135 رقم 2848).
وأخرج ابن أبي شيبة (1) نحوه عن ابن عباس: ثنا أبو أسامة، عن زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"كان رسول الله عليه السلام يتمثل من الأشعار: ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّد".
وكلام الترمذي يشعر أن هذا البيت لابن رواحة، وإنما البيت لطرفة [بن العبد] (2) وقد صرَّح بذلك ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3) وقال: ثنا محمَّد بن الحسن، قال: ثنا أبو عوانة، عن إبراهيم بن معاذ، عن عامر، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله عليه السلام إذا استراب الخبر، يتمثل ببيت طرفة: ويأتيك بالأخبار مَن لم تُزَوِّد".
وتمام البيت (4):
........
وهو من قصيدة طويلة وأولها هو قوله (5):
........
وابن رواحة: هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، من بني الحارث، يكنى أبا محمَّد، ويقال: أبا رواحة، ويقال: أبا عمرو، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج، شهد بدرًا وأُحدًا والخندق والحديبية وخيبر وعمرة القضاء والمشاهد كلها مع رسول الله عليه السلام إلا الفتح وما بعده، وهو
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 272 رقم 26014).
(2)
بيض له المؤلف، وهو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو البكري الوائلي شاعر جاهلي من الطبقة الأولى.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 278 رقم 26060).
(4)
بيض له المؤلف رحمه الله، وتمام البيت هو:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
(5)
بيض له المؤلف أيضًا وأولها قوله:
لِخَوْلَةَ أَطْلالٌ ببُرْقَةِ ثَهْمَدِ
…
تلوحُ كباقي الوَشْمِ في ظاهرِ اليدِ
أحد الأمراء في غزوة مؤتة، وهو خال النعمان بن بشير، وكان من الشعراء الذين يناضلون عن رسول الله عليه السلام، ومن شعره في النبي عليه السلام:
إني تفرست فيك الخير أعرفه
…
والله يعلم أنْ ما خانني البصر
أنت النبي ومَن يحرم شفاعته
…
يوم الحساب فقد أزرى به القدر
فثبتَ الله ما آتاك من [حُسْنِ
…
تثبيتٍ لموسى] (1) نصرًا كالذي نُصِرُوا فقال النبي عليه السلام: "وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة" قال هشام بن عروة: فثبته الله أحسن ثبات، فقتل شهيدًا، وفتحت له أبواب الجنة فدخلها شهيدًا، وكان قتله في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة، قال الواقدي: في جمادى الأولى منها، وقال عروة بن الزبير: لما ودع المسلمون عبد الله بن رواحة في خروجه إلى مؤته، ودَعَوْا له ولمن معه من المسلمين أن يردهم الله سالمين، فقال ابن رواحة:
لكنني أسألُ الرحمنَ مَغفْرَةً
…
وطعنة ذاتِ فَزْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدا
أو طعنةً بيدَيْ حَرَّانَ مُجهزةً
…
بحربةٍ تَنفُدُ الأحشاءَ والكَبِدا
حتى يقولوا إذا مرُّوا علي جَدَثي
…
يا أرشدَ الله مِنْ غازٍ وقد رَشَدا
ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا يحيي بن معين، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"استأذن حسان النبي عليه السلام في هجاء المشركين قال: "فكيف تنسبني فيهم؟ قال: أسُلُّكَ منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين".
ش: إسناده صحيح.
وأخرجه البخاري (2): ثنا محمَّد، ثنا عبدة، أنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. . . . إلى آخره نحوه.
(1) كذا في الأصل ويروى البيت:
فثبت الله ما آتاك من حَسَنٍ
…
تثبيتَ موسى ونصرًا كالذي نُصِروا
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2278 رقم 5798).
ومسلم أيضًا (1): ثنا يحيى بن يحيي، قال: أنا يحيي زكرياء، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "قال حسانٌ: يا رسول الله، ائذن لي في أبي سفيان، قال: كيف بقرابتي منه؟ قال: والذي أكرمك لأسُلَّنَّكَ منهم كما تُسَلُّ الشعرة من الخمير، فقال حسان بن ثابت:
كأنَّ سنامَ المجدِ من آل هاشمٍ
…
بنو ابنةِ مخزومٍ ووالدكَ العَبْدُ
ثنا عثمان بن أبي شيبة (2) قال: ثنا عبدة، قال: ثنا هشام بن عروة. . . . بهذا الإسناد، وقالت:"استأذن حسان بن ثابت النبي عليه السلام في هجاء المشركين" ولم يذكر "أبا سفيان"، وقال بدل "الخمر":"العجين".
ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيي بن حسان، قال: ثنا إبراهيم بن سليمان التيمي، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي قال:"كنا جلوسًا بفناء الكعبة -أحسبه قال: مع ناس من أصحاب رسول الله عليه السلام، فكانوا يتناشدون الأشعار، فوقف بنا عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فقال: في حرم الله وحول كعبة الله تتناشدون الأشعار؟! فقال رجل منهم: يا ابن الزبير، إن رسول الله عليه السلام إنما نهى عن الشعر إذا أُبنَتْ فيه النساء، وتُزدرى فيه الأموات".
فقد يجوز أن يكون الشعر الذي قال فيه رسول الله عليه السلام ما ذكرنا في أول هذا الباب، من الشعر الذي نهى عنه في هذا الحديث.
ش: يحيي بن حسان التنيسي شيخ الشافعي، روى له الجماعة سوى ابن ماجه.
وإبراهيم بن سليمان بن رزين التيمي أبو إسماعيل المؤدب، قال أحمد ويحيي بن معين: لا بأس به.
ومجالد بن سعيد الهمداني، ضعفه يحيي وغيره، وعن النسائي: ثقة.
والشعبي هو عامر بن شراحبيل.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1934 رقم 2489).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 273 رقم 26018).
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): أنا ابن بشران، أنا ابن السماك، ثنا حنبل، ثنا إبراهيم بن نصر، ثنا أبو إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي قال:"كنا نتناشد الأشعار عند الكعبة، فأقبل ابن الزبير إلينا، فقال: أفي حرم الله وعند كعبة الله؟! فأقبل رجل من الأنصار كان معنا من أصحاب النبي عليه السلام فقال: يا ابن الزبير إنه ليس بك بأس إن لم تفسد نفسك، إن نبي الله عليه السلام إنما نهي عن الشعر إذا أُبِنَتْ فيه النساء، وتذرُّ فيه الأموال".
قوله: "كنا جلوسًا" أي جالسين.
قوله: "يتناشدون" من النشيد، وهو الشعر المتناشد بين القوم.
قوله: "إذا أبِنَتْ فيه النساء" من أَبِنَه يأْبِنُه إذا رماه بخلة سوء، فهو مأبون.
قوله: "تُزدري فيه الأموات" أي تنتقص وتعاب فيه الأموات والازدراء: الاحتقار والانتقاص.
وفي رواية البيهقي: "تذر فيه الأموال" أي تفرق فيه الأموال.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا قيس قال: ثنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عَبِيدَة، عن عبد اللهَ.
وعن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللهَ قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن من الشعر حكمًا".
ش: هذان إسنادان:
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيي بن عبد الحميد الحماني الكوفي، عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي، فيه مقال، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عَبيدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- بن عمرو السلماني -عن عبد الله بن مسعود.
(1)"سنن البيهقي الكبري"(10/ 243 رقم 20930).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا طلق بن غنام، عن قيس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام قال:"إن من الشعر حكمًا وإن من البيان سحرًا".
الثاني: عن إبراهيم، عن الحماني، عن قيس، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، عن عبد الله.
وأخرجه الترمذي (2) من غير هذا الوجه: ثنا أبو سعيد الأشج، قال: ثنا يحيي بن عبد الملك بن أبي غنية، قال: حدثني أبي، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن من الشعر حكمة".
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه، إنما رفعه أبو سعيد الأشج، عن ابن أبي غنية، وروى غيره عن ابن أبي غنية هذا الحديث موقوفًا، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن عبد الله بن مسعود، عن النبي عليه السلام.
قوله: "حِكمًا" أي حكمة، وقد فسرناه.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن مروان، عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، عن أُبي بن كعب، أن رسول الله عليه السلام قال:"إن من الشعر حكمًا".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: عن عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث.
حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا إبراهيم بن سعد. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: عن عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 272 رقم 26011).
(2)
"جامع الترمذي"(5/ 137 رقم 2844).
ش: هذه ثلاث طرق صحاح:
الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني -أحد الفقهاء السبعة، قيل: اسمه محمَّد، وقيل: اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن اسمه وكنيته واحد، وهو يروي عن مروان بن الحكم بن أبي العاص، ولد بعد الهجرة بسنتين ولم يصح له سماع من النبي عليه السلام ولا رآه، وهو يروي عن عبد الرحمن بن الأسود بن [عبد](1) يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة القرشي، أدرك النبي عليه السلام ولا تصح له رؤية ولا صحبة.
وأخرجه البخاري (2): ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن، أن مروان بن الحكم أخبره، أن عبد الرحمن بن الأسود ابن عبد يغوث أخبره، أن أبي بن كعب أخبره، أن رسول الله عليه السلام قال:"إن من الشعر حكمة".
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن عمر بن مطرف بن أبي الوزير الهاشمي المكي، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن. . . . إلى آخره نحوه، غير أنه قال في هذه الرواية: عن عبد الله بن الأسود عوض عبد الرحمن بن الأسود، قال ابن حبان: ومن قال عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث فقد وهم، قاله إبراهيم بن سعد.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(3) نحوه: ثنا عبد الرحمن بن مهدي وأبو كامل،
(1) ليست في الأصل، وهي مثبتة في المتن، ومصادر الترجمة.
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2276 رقم 5793).
(3)
"مسند أحمد"(5/ 125 رقم 21193).
قالا: ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري -قال أبو كامل في حديثه: ثنا ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن مروان بن الحكم، عن عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث، عن أبي بن كعب أن رسول الله عليه السلام قال:"إن من الشعر حكمة".
قال عبد الرحمن: هكذا يقول إبراهيم بن سعد في حديثه: عبد الله بن الأسود، وإنما هو عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث.
الثالث: عن حسين بن نصر، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن إبراهيم بن سعد الزهري، عن محمَّد بن مسلم الزهري. . . . إلي آخره، فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال في روايته: عن عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث.
وأخرجه أبو داود (1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري. . . إلى آخره نحوه. وفيه: عن عبد الله بن الأسود بن عبد يغوث.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا ابن فضيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "من يحمي أعراض المسلمين؟ قال كعب: أنا، قال ابن رواحة: أنا، قال: إنك لتحسن الشعر، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: إنا إذًا، قال: اهجهم؛ فإنه سيعينك عليهم روح القدس".
ش: رجاله ثقات، غير أن مجالد بن سعيد فيه مقال.
وابن فضيل: هو محمَّد بن فضيل الضبي.
وأخرجه البزار في "مسنده": نا يوسف بن موسى، نا محمَّد بن فضيل، نا مجالد، عن عامر، عن جابر قال:"قال رسول الله عليه السلام لحسان: اهجهم -أو هاجهم- اللهم أيده بروح القدس". وهذا الحديث لا نعلم رواه عن مجالد إلا محمَّد بن فضيل.
(1)"سنن أبي داود"(4/ 303 رقم 5010).
وأخرجه ابن أبي شيبه في "مصنفه"(1) مرسلًا: ثنا عيسى بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي أن رسول الله عليه السلام قال:"اهج المشركين؛ فإن روح القدس معك".
قوله: "قال كعب" هو كعب بن مالك بن أبي كعب السلمي المدني الشاعر، صاحب النبي عليه السلام، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم وأنزل فيهم:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (2)، وهو أحد السبعين الذي شهدوا العقبة.
قوله: "قال ابن رواحة" هو عبد الله بن رواحة، وقد ذكرناه عن قريب.
قوله: "روح القدس" أراد به جبريل عليه السلام.
ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا أبو إبراهيم الترجماني، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رسول الله عليه السلام وضع لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد ينشد عليه الشعر".
ش: ابن أبي عمران هو أحمد بن موسى، الفقيه البغدادي، أحد أصحاب أبي حنيفة.
وأبو إبراهيم اسمه إسماعيل بن إبراهيم بن بسام، قال يحيي وأبو داود: لا بأس به.
والترجماني -بفتح التاء المثناة من فوق وضمها- نسبة إلى الترجمان أحد أجداده.
وابن أبي الزناد هو عبد الرحمن بن أبي الزناد، فيه مقال؛ فعن يحيي: لا يحتج بحديثه.
وأبو الزناد -بالنون- اسمه عبد الله بن ذكوان.
والحديث أخرجه أبو داود (3): ثنا محمَّد بن سليمان المصيصي لُوَيْن، قال ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، وهشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها،
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 273 رقم 26020).
(2)
سورة التوبة، آية:[118].
(3)
"سنن أبي داود"(4/ 304 رقم 5015).
قالت: "كان رسول الله عليه السلام يضع لحسان منبرًا في المسجد فيقوم عليه يهجو مَنْ قال في رسول الله عليه السلام، فقال رسول الله عليه السلام: إن روح القدس مع حسان، ما نافَحَ عن رسول الله عليه السلام".
وأخرجه الترمذي (1): ثنا إسماعيل بن موسى الفزاري وعلي بن حجر -المعنى واحد- قالا: نا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يضع لحسان بن ثابت منبرًا في المسجد يقوم عليه، قائمًا يفاخر عن رسول الله عليه السلام أو قال: ينافح عن رسول الله عليه السلام، ويقول رسول الله عليه السلام: إن الله تبارك وتعالي يؤيد حسان بن ثابت بروح القدس ما يفاخر -أو ينافح- عن رسول الله عليه السلام".
وهذا كما ترى عن ابن أبي الزناد، عن هشام، وليس بينه وبين هشام ذكر أبيه كما في رواية الطحاوي، وفي رواية أبي داود: عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، وقد ذكرناه.
وكذا أخرجه الترمذي (2) أيضًا من طريق آخر؛ ثنا إسماعيل وعلي بن حجر، قالا: نا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام مثله.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، وهو حديث ابن أبي الزناد.
وأخرجه البخاري أيضًا.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن حميد، قال: ثنا محمَّد بن فضيل. . . . فذكر مثل حديث ابن أبي داود -الذي قبل هذا الحديث- عن ابن نمير، عن ابن فضيل.
ش: هذا طريق آخر في حديث جابر المذكور آنفًا، عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن حميد الطريْثيثي الكوفي شيخ البخاري، عن محمَّد بن فضيل الضبي، عن مجالد، عن عامر الشعبي، عن جابر رضي الله عنه.
(1)"جامع الترمذي"(5/ 138 رقم 2846).
(2)
"جامع الترمذي"(5/ 138 رقم 2846).
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان (ح).
وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج وعبد الله بن وهب، قالوا: ثنا شعبة، قال: أخبرني عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء رضي الله عنه، يقول:"سمعت رسول الله عليه السلام[يقول] (1) لحسان: اهجهم -أو هاجهم- وجبريل معك".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عيسى بن عبد الرحمن، قال: حدثني عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء بن عازب، قال:"سمعت رسول الله عليه السلام يقول لحسان بن ثابت: لا تزال معك روح القدس ما هجوت المشركين".
ش: هذه ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء.
وأخرجه البخاري (2): ثنا سليمان بن حرب، نا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء:"أن النبي عليه السلام قال لحسان: اهجهم -أو قال: هاجهم- وجبريل معك".
الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال وعبد الله بن رجاء كلاهما عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء.
وأخرجه مسلم (3): ثنا عبيد الله بن معاذ، قال: نا أبي، قال: ثنا شعبة. . . . إلى آخره نحوه.
الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الكوفي، عن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، عن عدي بن ثابت، عن البراء.
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2279 رقم 5801).
(3)
"صحيح مسلم"(4/ 1933 رقم 2486).
وأخرجه أحمد (1): ثنا أبو معاوية، ثنا الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن البراء ابن عازب قال:"قال رسول الله عليه السلام لحسان بن ثابت: اهج المشركين؛ فإن جبريل معك".
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مرَّ علي حسان بن ثابت وهو ينشد في مسجد رسول الله عليه السلام ، فانتهره عمر رضي الله عنه، فأقبل عليه حسان، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، فانطلق عنه عمر رضي الله عنه، فقال حسان لأبي هريرة: يا أبا هريرة، أما سمعت رسول الله عليه السلام يقول: يا حسان، أجب عن رسول الله عليه السلام، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: اللهم نعم".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا عبد الأعلي، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عدي بن ثابت. . . . ثم ذكره مثله، غير قوله:"قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك" فإنه لم يذكره.
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . . إلى آخره. وهذا كما تري مرسل.
وكذا أخرجه النسائي (2)، وأبو داود (3) في رواية عن ابن المسيب مرسلًا، وفي رواية أخرى (4) أخرجه عن ابن المسيب، عن أبي هريرة.
وكذا أخرجه مسلم (5): ثنا عمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر،
(1)"مسند أحمد"(4/ 286 رقم 18549).
(2)
"المجتبى"(2/ 48 رقم 716).
(3)
"سنن أبي داود"(4/ 303 رقم 5013).
(4)
"سنن أبي داود"(4/ 303 رقم 5014).
(5)
"صحيح مسلم"(4/ 1932 رقم 2485).
كلهم عن سفيان -قال عمرو: حدثنا سفيان بن عيينة- عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة:"أن عمر رضي الله عنه، مرّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه، فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلي أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله عليه السلام يقول: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: اللهم نعم".
وأخرجه البخاري (1) أيضًا نحوه.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء ابن مقدم المقدمي البصري شيخ البخاري ومسلم، عن عبد الأعلي بن عبد الأعلي، عن معمر بن راشد، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام. . . . إلي آخره.
وأخرجه عبد الرزاق (2) عن معمر نحوه.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهرى، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن: "أنه سمع حسان بن ثابت رضي الله عنه يستشهد أبا هريرة رضي الله عنه. . . . فذكر مثله.
ش: إسناده صحيح.
وأبو اليمان الحكم بن نافع، شيخ البخاري.
وشعيب هو ابن أبي حمزة.
وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.
وأخرجه مسلم (3): ثنا عبد الله بن عبد الرحمن، قال: أنا [أبو](4) اليمان، قال:
(1)"صحيح البخاري"(3/ 1176 رقم 3040).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(1/ 439 رقم 1716).
(3)
"صحيح مسلم"(4/ 1933 رقم 2485).
(4)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".
أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن: "أنه سمع حسان ابن ثابت الأنصاري يقول لأبي هريرة: أنشدك الله، أسمعت رسول الله عليه السلام يقول: يا حسان، أجب عن رسول الله عليه السلام، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم".
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن عبد الواحد بن عنبسة القرشي، قال: حدثني جدي عنبسة، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن الأسود بن سريع -وكان شاعرًا- أنه قال:"يا رسول الله، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي؟ قال له النبي عليه السلام: أما إن ربك يحب الحمد، وما استزاده علي ذلك شيئًا".
حدثنا محمَّد بن خزيمة قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن الأسود بن سريع. . . . مثله، غير أنه قال:"فجعلت أنشده".
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن عبد الواحد، عن جده عنبسة بن عبد الواحد بن أمية بن عبد الله بن سعيد بن العاص القرشي الأموي، وثقه يحيى وغيره.
وأخرجه الطبراني في الكبير (1): ثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، ثنا محمَّد بن أبي بكر المقدمي، ثنا عامر بن صالح، ثنا يونس، عن الحسن، عن الأسود بن سريع قال:"قلت: يا رسول الله، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي؟ قال: أما إن ربك يحب الحمد، وما استزادني".
الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان البصري المكفوف، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة -واسم أبي بكرة نفيع بن الحارث، صحابي، عن الأسود بن سريع.
(1)"المعجم الكبير"(1/ 283 رقم 824).
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عفان، ثنا حماد بن سملة، أنا علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن الأسود بن سريع قال:"أتيت رسول الله عليه السلام، فقلت: يا رسول الله، إني قد حمدت الله ربي بمحامد، قال: هات ما حمدت به ربك، قال: فجعلت أنشده، فجاء رجل أدلم فاستأذن، قال: فقال النبي عليه السلام: بين بين، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثًا، قال: قلت: يا رسول الله من هذا الذي استنصتني له، قال: هذا عمر بن الخطاب، هذا رجل لا يحب الباطل".
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو مسهر، قال: حدثني عبد الرحمن بن محمَّد بن أبي الرجال، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة [قالت] (2):"قال عبد الله بن رواحة فأحسن، ثم قال كعب فأحسن، ثم قال حسان فشفي واستشفى".
ش: أبو مسهر عبد الأعلي بن مسهر الغساني، شيخ البخاري في غير الصحيح، ثقة ثبت.
وعبد الرحمن بن محمَّد بن أبي الرجال الأنصاري المدني، وثقه يحيى القطان وأحمد. وعبد الرحمن بن أبي الزناد، فيه مقال.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "صَدّق رسول الله عليه السلام أمية بن أبي الصلت في شعره وقال:
رجلٌ وثَورٌ تحت رِجْلِ يَمينِه
…
والنَّسْرُ للأخرى وليثٌ مُرْصَدُ
فقال رسول الله عليه السلام: صدق. قال:
والشمسُ تَطْلُعُ كل آخر ليلةٍ
…
حتى الصباحِ ولونُها يَتَوَرَّدُ
(1)"مسند أحمد"(3/ 435 رقم).
(2)
تكررت في "الأصل".
فقال النبي عليه السلام: صدق. فقال:
تَأْبَي فما تطلعْ لنا في رِسْلِها
…
إلا مُعذَّبةً وإلَّا تُجْلَدُ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق".
ش: إسناده صحيح.
ويعقوب [بن](1) عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفي المدني، وثقه أبو حاتم والدارقطني.
وأخرجه الدارمي في "سننه"(2): أنا محمَّد بن عيسى، ثنا عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "صَدَق أمية بن أبي الصلت في بيتين من شعره، فقال:
رجلٌ وثَورٌ تحتَ رِجْلِ يمينِهِ
…
والنَسْرُ للأخرى وليث مرصدُ
. . . . إلى آخره، مثل رواية الطحاوي.
وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده"(3).
وأمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن غِيَرَة بن ثقيف أبو عثمان، ويقال: أبو الحكم الثقفي، شاعر جاهلي، قال ابن عساكر: قدم دمشق قبل الإِسلام وقيل: إنه كان صالحًا، وأنه كان في أول أمره على الإيمان ، ثم زاغ عنه، وأنه هو الذي أراد الله بقوله:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} (4) الآية. وذكر السهيلي أن أمية بن أبي الصلت أول من قال: بسمك اللهم وذكر فيه قصة غريبة ذكرناها في تاريخنا (5).
(1) في "الأصل، ك": "عن"، وهو تحريف.
(2)
"سنن الدارمي"(2/ 383 رقم 2703).
(3)
"مسند أحمد"(1/ 256 رقم 2314).
(4)
سورة الأعراف، آية:[175].
(5)
"تاريخ ابن عساكر"(9/ 255).
قوله: "رجل وثور. . . ." إلي آخره، من بحر الكامل وأصله في الدائرة متفاعلن ست مرات، وأشار بذلك إلي حملة العرش وهم أربعة: أحدهم في صورة بني آدم، أشار إليه بقوله:"رجل"، والثاني: في صورة ثور أشار إليه بقوله: "وثور"، والثالث: في صورة النسر، أشار إليه بقوله:"والنسر للأخرى"، والرابع: في صورة الأسد أشار إليه بقوله: "وليث مرصد"، فلأجل ذلك صدقه النبي عليه السلام.
قوله: "رجل" مبتدأ ويجوز لوقوعه مبتدأ كونه معطوفًا عليه؛ لأن قوله: وثور عطف عليه، وقد ذكرت النحاة أن العطف من مجوزات وقوع المبتدأ نكرة، والخبر قوله:"تحت رجل يمينه" أي يمين العرش، أراد: وملكٌ في صورة رجل، وآخر في صورة ثور تحت قائمتي العرش من اليمين، وملكٌ آخر في صورة النسر، وآخر في صورة الليث تحت قائمته من اليسار، فقوائمه الأربعة علي كواهل الأربعة من الملائكة بهذه الصورة.
قوله: "والنسر للأخرى" جملة من المبتدأ والخبر أي للِّرجْل الأخرى، أراد بها القائمة الأخري من اليسار.
قوله: "وليث" عطف علي ما قبله.
وقوله: "مرصد" صفة من أرصد إذا أُعِدَّ للترقب.
قوله: "يتورد" أي يحمر ويصير مثل الورد الأحمر.
قوله: "تأبى" أي تمتنع من الطلوع والعود إلى الدنيا، ولا تطلع إلا بنخس من الملائكة، وهذا صحيح؛ فلذلك صدقه النبي عليه السلام، والدليل علي ذلك ما رواه ابن عساكر في حديثه الطويل بإسناده إلى ابن عباس أنه قال:"إن الشمس لا تطلع حتى يتنخسها سبعون ألف ملك، يقولون: اطلعي اطلعي، فتقول: لا أطلع علي قوم يعبدونني من دون الله، فإذا همت بالطلوع أتاها شيطان يريد أن يثبطها فتطلع بين قرنيه وتحرقه، فإذا تضيفت للغروب غربت على السجود، فيأتيها شيطان يريد أن يثبطها عن السجود، فتغرب بين عينيه وتحرقه".
وقد أشار أمية بن أبي الصلت إلى هذا المعنى بقوله: "تأبي فما تطلع لنا في رسلها" أي في فورها إلا معذبةَ من جهة الملائكة.
قوله: "فما تطلع" بالجزم للضرورة.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا أبو معشر البراء، عن صدقة بن طيلسة، قال: حدثني معن بن ثعلبة، قال: حدثني أعشى المازني، قال: أتيت النبي عليه السلام فأنشدته:
يا مالكَ النَّاسِ وديَّانَ العربْ
…
إني لَقِيتُ ذربة من الذَّرَبْ
كالذئبة العَمْساء في ظل السَّرَبْ
…
خرجتُ أبْغيها الطعامَ في رجبْ
فخَلَّفَتْني بنِزاعٍ وهَرَب
…
أخْلَفَتِ الوَعْد ولَطَّتْ بالذَّنَبْ
وقَذَفتني بين عَصْرِ ونَشَب
…
وهنَّ شرٌّ غالبٌ إن غَلَبْ
قال: فجعل رسول الله عليه السلام يقول: وهن شر غالب لمن غلب".
ش: إسناده صحيح.
والمقدمي هو محمَّد بن أبي بكر بن علي بن مقدم، شيخ البخاري، وأبو معشر البراء: اسمه يوسف بن يزيد بن العطار البصري، كان يبري النبل، وقيل: كان يُبْري العود، روي له البخاري ومسلم.
وصدقة بن طيلسة، وثقه ابن حبان.
ومعن بن ثعلبة المازني ذكره ابن حبان في التابعين الثقات.
وأعشى المازني الصحابي اسمه عبد الله بن الأعور، من بني مازن بن عمرو بن تميم، سكن البصرة.
والحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(1): ثنا المقدمي، ثنا أبو معشر يوسف بن
(1)"مسند أبي يعلي"(12/ 289 رقم 6871).
يزيد، حدثني صدقة بن طيلسة، حدثني معن بن ثعلبة المازني، حدثني الأعشى المازني أنه قال:"أتيت النبي عليه السلام فأنشدته. . . ." إلى آخره نحوه.
وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه"(1) من طريق المقدمي نحوه.
ثم قال: وقال إبراهيم بن عرعرة: ثنا أبو معشر البراء يوسف بن يزيد، ثنا طيلسة المازني، حدثني أبي والحيّ، عن أعشي بن ماعز بنحوٍ منه. وقال غيره: طيلسة بن صدقة.
قوله: "يا مالك الناس. . . ." إلي آخره، من بحر الرجز، وأصله في الدائرة مستفعلن ست مرات، وفي بعض الروايات:"يا سيد الناس".
قوله: "وديَّان العرب"، يعني يا مالكها وسايسها، قال الحُطيئة:
لقد دينت أمر بنيك حتى
…
تركتهم أدق من الطحين
يعني ملكت، ويروي: سُوِّست.
قوله: "إنى لقيت ذربة"، وفي بعض الرويات: إليك أشكو ذربةً من الذرب أي امرأة ذربة -بكسر الذال المعجمة وسكون الراء- وهو الفحش في اللسان، وقال ابن الأثير: كنى الأعشي عن فساد امرأته وخيانتها بالذربة، وأصله من ذَرَبِ المعدة وهو فسادها، وذِرْبَة منقولة من ذَرِبَة كمِعْدَة من مَعِدَة. وقيل: أراد سلاطة لسانها وفساد منطقها، من قولهم: ذرب لسانه إذا كان حاد اللسان لا يبالي ما قال.
قوله: "كالذئبة العساء"، أي الشديدة، الجريئة.
"في ظل السرَب"، والسَّرَب -بفتح السين والراء المهملتين وفي آخره باء موحدة- وهو البيت في الأرض.
قوله: "خرجت أبغي الطعام"، أي أبغي لها الطعام، أي أطلب.
قوله: "فخلفتني"، أي تركتني. "بنزاع" أي خصومة. "وهرب" أي فرار.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 240 رقم 20904).
قوله: "ولطت بالذنب"، أراد أنها سارت في الأرض مسرعة وملازمة بذنبها وهو كناية عن توليها وجَعْلِها ورائها إليه، يقال: لط بالأمر يلط لطًّا إذا لزمه، وهو بالطاء المهملة، وكذلك ألظ بالشيء يلظ إلظاظًا، وهو بالظاء المعجمة، وقال ابن الأثير: أراد توارت واختفت بتخفيها عنه، كما تخفي الناقة فرجَها بذَنَبِها.
قوله: "وقذفتني" أي: رمتني. "بين عصر ونشب"، أراد بالعصر الشدة، والنشب -بفتح النون والشين المعجمة- من نَشِب بعضهم ببعض أي تعلق، وسبب هذه الأبيات أن الأعشي كانت عنده امرأة اسمها معاذة، فخرج يمير أهله من هَجَر، ففرت امرأته بعده ناشزًا عليه، فعاذت برجل يقال له: مطرف بن هصل، فلما قدم الأعشي لم يجدها في بيته، وأُخْبِر أنها نشزت عليه، وأنها عاذت بمطرف، فأتاه فقال له: عندك امرأتي فادفعها إليّ، قال: ليست عندي ولو كانت عندي لم أدفعها إليك، وكان مطرف أَعزَّ منه، فسَار إلى النبي عليه السلام فعاذبه وقال الأبيات، وشكى إليه امرأته وما صنعت، وأنها عند مطرف، فكتب النبي عليه السلام إلى مطرف: انظر امرأة هذا معاذة، فادفعها إليه، فأتاه كتاب النبي عليه السلام، فقُرِئَ عليه، فقال: يا معاذة هذا كتاب النبي فيك، وأنا دافعك إليه، قالت: خذ لي العهد والميثاق وذمة النبي عليه السلام أن لا يعاقبني فيما صنعت، فأخذ لها ذلك ودفعها إليه، فأنشأ يقول:
لعمركَ ما حبي معاذة بالذي
…
يغيره الواشي ولا قِدم العهد
ولا سوء ما جاءت به إذْ أزلَّهاَ
…
غواة الرجال إذا ينادونها بعدي
ص: حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن من الشعر حكمًا".
ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد، قال: أنا أبو عوانة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"جاء أعرابي إلى النبي عليه السلام فجعل يتكلم بكلام، فقال رسول الله عليه السلام: إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حُكمًا".
وقد مرّ تفسير الحكم وهو بمعني العلم والفقه والقضاء بالعدل.
ص: حدثنا أبو بشر الرقي؛ قال: ثنا الفريابي، عن سفيان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال:"استنشدني النبي عليه السلام شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته، فكلما أنشدت بيتًا قال: هيه حتى أنشدته مائة قافية، قال: كاد ابن الصلت يسلم".
ش: أبو بشر: عبد الملك بن مروان الرقي.
والفريابي: هو محمَّد بن يوسف شيخ البخاري.
وسفيان هو الثوري.
وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الطائفي أبو يعلى، قال أبو حاتم: ليس بالقوي في الحديث. وقال ابن معين: صالح. روى له النسائي، ومسلم في المتابعات.
وعمرو بن الشريد روى له الجماعة.
وأبوه: شريد بن سويد الثقفي الصحابي.
وأخرجه مسلم (2): حدثني زهير بن حرب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه. . . . إلى آخره نحوه.
قوله: "هيه" يعني إيه، فأبدل من الهمزة هاء، وإيه اسم سمي به الفعل، ومعناه الأمر، يقول للرجل: إيه بغير تنوين إذا استزدته من الحديث المعهود بينكما، فإن
(1)"سنن أبي داود"(4/ 303 رقم 5011).
(2)
"صحيح مسلم"(4/ 1767 رقم 2255).
نونت استزدته من حديث ما غير معهود؛ لأن التنوين للتكثير، فإذا أسكته وكففته قلت: إيهًا بالنصب.
قوله: "مائة قافية" أي مائة بيت مقفي.
قوله: "كاد ابن أبي الصلت يُسْلِمُ" أي قرب إسلامه بهذه الأبيات، وقد عُلِمَ أن "كاد" من أفعال المقاربة، وخبره في الغالب يكون فعلًا مضارعًا مجردًا من "أن" كما في قوله تعالي:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (1) و {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ} (2) ، و {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} (3)، وخبره هاهنا قوله: يُسْلِم، وقد يجيء بـ "أن" نثرًا ونظمًا، فمن النثر: قول عمر رضي الله عنه: "ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب" وقول أنس بن مالك: "فما كدنا أن نصل إلى مباركنا"، وقول جبير بن مطعم:"كاد قلبي أن يطير"، ومن النظم قول الشاعر:
فما اجتمع الهلباخ في بطن حرة
…
مع التمر إلا كاد أن يتكلما
الهلباخ: اللبن الخاثر.
ص: حدثنا محمَّد بن داود، قال: ثنا معلي بن عبد الرحمن الواسطي، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمر بن الحكم، عن جابر بن عبد الله، قال: قال الأقرع بن حابس لشباب من شبابهم: "قم فاذكر فضلك وفضل قومك، فقام فقال:
نحن الكرام فُلا حيٌّ يعادلنَا
…
نحنُ الكرامُ وفينا يُقسمُ الرُّبُعُ
ونَطْعِمُ النَّاس عِنْدَ القَحْطِ كُلَّهُمُ
…
من السديف إذا لم يؤنس القَزَعُ
فإذا أَبينَا فلا يعدل بنا أحد
…
إنا كرامٌ وعندَ الفَخْرِ نَرْتَفِعُ
(1) سورة البقرة، آية:[71].
(2)
سورة النساء، آية:[78].
(3)
سورة التوبة، آية:[117].
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان أجبه فقال:
نَصَرْنَا رسولَ الله والدينَ عَنْوَةً
…
علي رغم عاتٍ من معدٍ وحَاصِرٍ
بضَرْبٍ كإيزاع المخاض مُشَاشُهُ
…
وطعن كأفواه اللقاح الصوادر
ألسنا نخوض الموتَ في حومةِ الوغَى
…
إذا صار بَرْدُ الموت بين العَسَاكِرِ
ونَضْربُ هَامَ الدَّارعِينَ ونَنتمِي
…
إلى حَسَبٍ من جِزْمِ غسان بَاهِرِ
ولولا حَبِيبُ الله قلنا تَكَرُّمًا
…
على الناس بالحيَّينِ هلْ مِنْ مُفَاخِرِ
فأحياؤنا مِنْ خَيِرِ مَنْ وَطِئَ الحَصَى
…
وأمواتُنَا مِنْ خَيِرْ أهلِ المقَابرِ
ش: معلي بن عبد الرحمن الواسطي، قال ابن المديني: ضعيف الحديث. وذهب إلى أنه كان يضع الحديث.
وعبد الحميد بن جعفر بن عبد الله الأنصاري أبو حفص المدني، قال أحمد: ثقة، ليس به بأس. وعن يحيى: ثقة وكان يرى القدر. روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا.
وعمر بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري أبو حفص المدني، واستشهد به البخاري، وروى له الباقون سوي ابن ماجه، وأخرج هذا أصحاب السير.
قوله: "نحن الكرام. ." إلى آخره من بحر البسيط، وأصله في الدائرة مستفعلن فاعلن ثمان مرات. والكرام جمع كريم.
قوله: "يعادلنا" أي يساوينا ويقاربنا.
قوله: "يقسم الرُبْع" بضم الراء والباء، أراد به رُبُع الغنيمة، وهو واحد من أربعة، يقال: رُبعُ ورُبعْ، بتسكين الباء وضمها.
قوله: "من السديف" أراد به شحم السنام، وقال الجوهري: والسديف: السنام، ومنه قول الشاعر:
إذا ما الخَصِيفُ العوبَثَانِي سَاءَنا
…
تَرَكنَاهُ واخْتَرْنَا السَّدِيفَ المُسَرْهَدَا
ومادته: سين ودال -مهملتان- وفاء.
قوله: "إذا لم يؤنس القَزَع" بالقاف والزاي المعجمة المفتوحتين، وهو السحاب، والمعنى: نطعم الشحم في المَحِلّ.
قوله: "فلا يعدل" بالجزم لأجل الوزن.
قوله: "نصرنا رسول الله. . . ." إلى آخره. من بحر الطويل، وأصله في الدائرة: فعولن مفاعيلن، ثمان مرات.
قوله: "عنوة" أي قهرًا وغلبة، من عَنَي يَعْنوُا: إذا ذَلَّ وخَضَعَ، والعنوة: المرة منه، كأن المأخوذ بها يخضع ويذل، وانتصابها علي أنها صفة لمصدر محذوف أي نَصَرْنَا نَصْرًا عنوة، أي: نصرًا قاهرًا للمشركين، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير الذي في "نَصَرْنَا" والمعنى: نصرنا قاهرين غالبين عليهم، والمصدر مستغنٍ عن التثنية والجمع.
قوله: "علي رغم عاتٍ" أي علي ذل عاتٍ وقهره، يقال: رَغِمَ يَرْغَمُ ورَغَمَ يَرْغِمُ -من باب علم يعلم، وضرب يضرب رَغْمًا ورِغْمًا ورَغِمًا، وأرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام وهو التراب، هذا هو الأصل، ثم استعمل في العجز والذل، والانقياد على كره.
و"العاتي" من عَتَى يَعْتُو عتوًا فهو عاتٍ، وهو التجبر والتكبر، وفي بعض الروايات: علي رغم باد من معدٍ وحاضرٍ، وهذه هي الأصح؛ لأن الباد هو اللائق بالذكر في مقابلة الحاضر، وأراد بالمعد: معد بن عدنان وهو أبو العرب، وأراد بالباد: الذي يسكن البادية وهم أهل الوبر، وبالحاضر: الذي يسكن المدن والقري، وهم أهل المدر، ولا شك أن النبي عليه السلام انتصر على العرب كلهم من أهل البادية والحضر جميعًا.
قوله: "بِضَرْتٍ". متعلق بقوله: نصرنا.
قوله: "كإيزاع المخاض مُشَاشة" ذكر الإيزاع وأرد به التوزيع وهو التفريق، والمعني كتفريق المخاض مشاشة أي بولد، والمُشَاش -بضم الميم وبالشينين
المعجمتين: البول، والمخاض اسم للنوق الحوامل، واحدتها خَلِفَةً من غير لفظه، وبنت المخاض وابن المخاض ما دخل في السنة الثانية؛ لأن أمه [لحقت](1) بالمخاض أي الحوامل وإن لم تكن حاملًا، وفي بعض الرواية:"كإيزاغ المخاض" بالغين المعجمة، وهو أيضًا بمعنى الإيزاع بالمهملة، وثلاثته وَزِعَ يَزَعُ وَزْعًا، والإيزاع أصله الأَوْزاغ، قلبت الواو ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها، وهو مصدر مضاف إلي فاعله، ومشاشة مفعوله؛ والضمير فيه يرجع إلى المخاض.
وقوله: "وطعن" عطف علي قوله: و"ضرب" الضرب بالسيوف وما أشبهها، والطعن بالرماح وما أشبهها.
قوله: "كأفواه اللقاح الصوادر" اللقاح -بكسر اللام: ذوات الألبان، الواحدة لقوح، و"الصوادر" جمع صادرة، وهي التي تصدر عن الماء ريّا، فلا تحتاج إلي المقام لأجل الماء، وشبه الضرب بإيزاع الإبل عن الماء بالطعن بأفواهها حتى تصدر؛ لأنه أراد الضرب بالمتابعة في زمن طويل كبول الإبل، فإنه يبول شيئًا فشيئًا ويمده زمانًا، وأراد بالطعن الواسع فيه؛ لأنه هو المهلك، شبه بأفواه الإبل الصوادر؛ لأنها حينئذ تفتح فاها بخلاف وقت الإيراد.
قوله: "في حومة الوَغَي" أي في معظم القتال، وكذلك حومة الماء والرمل وغيرهما: معظمها، و"الوغي" بالغين المعجمة: الحرب، والوغي في الأصل مثل الوعي بالمهملة، ومنه قيل: الحرب وغي؛ لما فيه من الضرب والجلبة.
قوله: "ونضرب هام الدارعين" الهام جمع هامة، وهي الرأس، والدراعين جمع دارع وهو الذي عليه الدرع، وهو الزَّرَدِيَّةَ.
قوله: "وننتمي" أي ننتسب "إلي حسب" وهو الشرف في الآباء وما يعده الإنسان من مفاخرهم، وقيل: إن الحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء لهم شرف، والشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء.
(1) في "الأصل": "لحق"، والمثبت من "النهاية"(4/ 306).
قوله: "من جِذم غسان" جِذم الشيء بالكسر أصله، وغسان اسم قبيلة، قال الجوهري: غسان: اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، منهم بنو حنيفة رهط الملوك.
قوله: "باهر" صفة للجذم، أي ظاهر، يقال: بهرت الشمس الأرض: أتي عليها نورها وضوءها، وفي بعض الرواية:"قاهر" من القهر وهو من الغلبة، والأول أصح.
ص: فلما جاءت هذه الآثار متواترة بإباحة قول الشعر ثبت بأن ما نهي عنه في الآثار الأُوَل ليس لأن الشعر مكروه، ولكن لمعنى كان في خاصٍّ من الشعر قصد بذلك النهي إليه.
ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي ذكرها، وأراد بالتواتر التكاثر لا التواتر المصطلح عليه، وأراد بالآثار الأُوَل: الأحاديث التي ذكرها في أول الباب التي احتجت بها أهل المقالة الأولى.
قوله: "قصُدِ بذلك" أي بالمعنى الذي كان في خاصٍّ من الشعر، وقوله:"النهيُ" بالرفع مسندٌ إلى قوله: قُصِدَ.
قوله: "إليه" أي إلى المعنى المذكور.
ص: وقد ذهب قوم في تأويل هذه الآثار التي ذكرناها عن رسول الله عليه السلام في أول هذا الباب إلي خلاف التأويل الذي وصفنا، فقالوا: لو كان أريد بذلك ما هُجِي به رسول الله عليه السلام من الشعر لم يكن لذكر الامتلاء معني؛ لأن قليل ذلك وكثيره كفر، ولكن ذكر الامتلاء يدل علي معنى في الامتلاء ليس فيما دونه، قالوا: فهو عندنا على الشعر الذي يملأ الجوف فلا يكون فيه قرآن ولا تسبيح ولا غيره، فأما من كان في جوفه القرآن والشعر مع ذلك فليس ممن امتلأ جوفه شعرًا؛ فهو خارج من قول رسول الله عليه السلام:"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا؛ خيرًا من أن يمتلئ شعرًا".
حدثنا ابن أبي عمران، قال: سمعت عبيد الله بن محمد بن عائشة يفسر هذا الحديث علي هذا التفسير.
وسمعت ابن أبي عمران أيضًا وعلي بن عبد العزيز يذكران ذلك عن أبي عبيد أيضًا.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبيد الله بن محمَّد البصري شيخ أبي داود وغيره، وأبا عبيد القاسم بن سلام ومن تبعهما في هذه المقالة؛ وباقي الكلام ظاهر.
وابن أبي عمران أحمد بن موسى الفقيه البغدادي، أحد الأئمة الحنفية.
وعلي بن عبد العزيز البغدادي الحافظ صاحب "المسند" والتصانيف.
وأبو عبيد هو القاسم بن سلام صاحب التصانيف أيضًا. والله أعلم.