الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الوليد يدعيه رجلان كيف حكمه
؟
ش: أي هذا باب في بيان حكم الولد الذي يدعيه الرجلان أنه ولد لهما يعني أن كل واحد منهما يقول أنه ولده، كيف يكون حكمه؟.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"دخل مجزز المدلجي على رسول الله عليه السلام، فرأى أسامة وزيدًا عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فدخل رسول الله عليه السلام مسرورًا".
حدثنا يونس، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت:"دخل عَليَّ رسول الله عليه السلام مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض؟ ".
ش: هذان إسنادان صحيحان ورجالهما كلهم رجال الصحيح.
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير.
وأخرجه الجماعة: فالبخاري (1) عن قتيبة، عن الليث .. إلى آخره.
وأخرجه مسلم (2): عن يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح وقتيبة، كلهم عن الليث.
وأبو داود (3): عن مسدد وعثمان بن أبي شيبة وابن السرح، عن سفيان، عن الزهري، به.
(1)"صحيح البخاري"(6/ 2486 رقم 6388).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 1082 رقم 1459).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 280 رقم 2267).
والترمذي (1): عن قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، به.
والنسائي (2): عن قتيبة عن ليث، وعن إسحاق بن إبراهيم عن سفيان، جميعًا عن الزهري، نحوه.
وابن ماجه (3): عن أبي بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار ومحمد بن الصباح، عن سفيان، عن الزهري.
قوله: "دخل مُجَزز" بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاي الأولى، وهو مجزز بن الأعور بن جعدة بن معاذ بن غثوارة بن عمرو بن مدلج الكناني المدلجي، وإنما قيل له: مجزز، لأنه كان كلما أسر أسيرًا جَزَّ ناصيته، وهو معدود في الصحابة.
قوله: "تبرق أسارير وجهه" يعني الخطوط التي في جبهته مثل التكسر، واحدها سر وسرر، والجمع أسرار، وأسارير جمع الجمع، قال القاضي: ومعنى ذلك مثل قوله في الرواية الأخرى: مسرورًا، لأن المسرور ينطلق وجهه ويجري ماء البشر فيه ويحسن، بخلاف المقطب والحزين.
وقال ابن الأثير: الأسارير: الخطوط التي تجتمع في الجبهة وتتكسر، واحدها سر وسرر، وجمعها أسرار وأسره، وجمع الجمع أسارير.
ثم سبب هذا ما ذكره المحدثون: أنه كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض من القطن، كذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح، فلما قضي هذا القائف بإلحاق هذا النسب مع اختلاف اللون، وكانت الجاهلية تصغي إلى قول القافة؛ سُرَّ بذلك عليه السلام لكونه كافًّا لهم عن الطعن فيه.
(1)"جامع الترمذي"(4/ 440 رقم 2129).
(2)
"المجتبى"(6/ 184 رقم 3493).
(3)
"سنن ابن ماجه"(2/ 787 رقم 2349).
وقال القاضي: قال غير أحمد: كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الأدمة، وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب، أصابه سباء فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، فوهبته للنبي عليه السلام فتبناه، فكان يدعى زيد بن محمَّد، حتى نزلت:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (1) فقيل: زيد بن حارثة، وابنه أسامة أمه أم أيمن بركة وتدعى أم الظباء مولاة عبد الله بن عبد المطلب ورابَّة النبي عليه السلام، ولم يقل أحد أنها كانت سوداء إلا أن أحمد بن سعيد الصدفي ذكر في تاريخه من رواية عبد الرزاق، عن ابن سيرين: "أن أم أيمن هذه كانت سوداء فلهذا خرج أسامة، لكن لو كان هذا صحيحا لم ينكر الناس لونه لمعرفتهم أسامة، إذْ لا يُنكر أن يلد الأبيض أسود من سوداء.
وقد نسبها الناس فقالوا: أم أيمن بركة بنت حصين بن ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سليمان بن عمرو بن النعمان.
وذكر مسلم (2) في كتاب الجهاد: عن ابن شهاب أن أم أيمن كانت من الحبش وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب أبي النبي عليه السلام، وكذا ذكر الواقدي.
وأما زوجها عبيد قبل ذلك فكان حبشيًّا، إلا أن يكون معنى قول ابن شهاب: حبشية: أي من مهاجرة الحبشة فيحتمل؛ فقد كانت منهن كما قال عمر رضي الله عنه لأسماء بنت عميس: الحبشية هذه.
والمعروف أنه كانت للنبي عليه السلام بركة أخرى حبشية، كانت تخدم أم حبيبة، فلعله اختلط أمرهما لاشتباه اسمهما، وقد قال أبو عمر بن عبد البر: وأظنها أم أيمن.
وذكر بعض المؤرخين أن أم أيمن هذه من سبي حبش أبرهة صاحب الفيل، لما انهزم عن مكة أخذها عبد المطلب، من فل عسكره، والله أعلم.
وهذا يؤكد أيضًا ما ذكره ابن سيرين.
(1) سورة الأحزاب، آية:[5].
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1391 رقم 1771).
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فاحتج قوم بهذا الحديث، فزعموا أن فيه ما قد دلهم أن القافة يحكم بقولهم وتثبت به الأنساب، قالوا: ولولا ذلك لأنكر النبي عليه السلام على مجزز ولقال له: وما يدريك، فلما سكت ولم ينكر عليه؛ دل أن ذلك القول مما يؤدي إلى حقيقة يجب بها الحكم.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح والأوزاعي ومالكًا والشافعي وأحمد ابن حنبل وداود وسائر الظاهرية وأكثر أهل الحديث؛ فإنهم حكموا بقول القافة في تمييز الأنساب إذا اشتبهت، وقال الخطابي: في حديث عائشة دليل على ثبوت أهل القافة وصحة الحكم بقولهم في إلحاق الولد، وذلك أنه عليه السلام لا يظهر السرور إلا بما هو حق عنده، وممن أثبت الحكم بالقافة: عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال مالك والشافعي، وعليه أهل الحديث.
وقال ابن حزم في "المحلي"(1): والحكم بالقافة في لحاق الولد واجب في الحرائر والإماء، وهو قول الشافعي وأبي سليمان، وقال مالك: يحكم بشهادتهم في ولد الأمة ولا يحكم به في ولد الحرة، وهذا تقسيم بلا برهان.
وقال عياض: اختلف الناس في القول بالقافة، فنفاه أبو حنيفة وأثبته الشافعي، ونفاه مالك في المشهور عنه في الحرائر وأثبته في الإماء، وقد روى الأبهري، عن الرازي، عن ابن وهب، عن مالك أنه أثبته في الحرائر والإماء جميعًا.
ثم اختلفوا: هل يحتاج فيه إلى اثنين وأنه بمعنى الشهادة -وهو قول مالك والشافعي- أم يكتفى فيه بواحد -وهو قول القاسم من أصحابنا-؟.
واختلفوا إذا ألحقته القافة بمدعييه معًا، هل يكون ابنًا لهما؟
وهو قول سحنون وأبي ثور. وقيل: يترك حتى يكبر فيوالي من شاء منهما، وهو قول عمر بن الخطاب، وقاله مالك والشافعي، وقال عبد الملك ابن الماجشون ومحمد بن مسلمة: يلحق بأكثرهما له شبهًا، قال ابن مسلمة: إلا إن علم الأول
(1)"المحلى"(2/ 169).
فيلحق به، والقافة جمع قائف، وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف بشبه الرجل بأخيه وأبيه، من قَافَ يقُوفُ، يقال: فلان يقوف الأثر ويقتافه قيافة مثل قفا الأثر واقتفاه.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز أن يحكم بقول القافة في نسب ولا غيره.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: سفيان الثوري والنخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر وإسحاق؛ فإنهم منعوا الحكم بقول القافة.
ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى أن سرور النبي عليه السلام بقول مجزز المدلجي الذي ذكروا في حديث عائشة رضي الله عنها ليس فيه دليل على ما توهموا من وجوب الحكم بقول القافة؛ لأن أسامة قد كان نسبه ثبت من زيد قبل ذلك ولم يحتج النبي عليه السلام في ذلك إلى قول أحد، ولولا ذلك لما كان دعى أسامة فيما تقدم إلى زيد، وإنما تعجب النبي عليه السلام من إصابة مجزز كما تعجب من ظن الرجل الذي يصيب بظنه حقيقة الشيء الذي ظنه، ولا يجب الحكم بذلك، وترك رسول الله عليه السلام الإنكار عليه؛ لأنه لم يتعاطى بقوله ذلك إثبات ما لم يكن ثابتًا فيما تقدم، فهذا ما يحتمله هذا الحديث.
ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عما احتجوا به من حديث مجزز، وهو ظاهر.
قوله: "وتَرْكُ رسول الله عليه السلام. . . ." إلى آخره جواب عن قوله: "فلما سكت ولم ينكر عليه".
قوله: "لأنه لم يتعاطى" أي لم يتناول ولم يأخذ بقوله ذلك.
ص: وقد روي في أمر القافة عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على غير هذا:
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أصبغ بن الفرج، قال: ثنا ابن وهب، قال:
أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي عليه السلام أخبرته "أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء، فمنه أن يجتمع الرجال العدد على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا، وكن ينصبن على أبوابهن رايات، فيطأها كل من دخل عليها، فهذا حملت ووضعت حملها جمع لهم القافة، فأيهم ألحقوه به صار أباه ودعي بأبيه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله عز وجل محمدًا بالحق هدم نكاح أهل الجاهلية وأقر نكاح أهل الإِسلام".
ففي هذا الحديث أن إثبات النسب بقول القافة كان من حكم الجاهلية، وأن رسول الله عليه السلام هدم ذلك النكاح الذي كان يكون فيه ذلك الحكم، وأقر الثاني على النكاح الذي لا يحتاج فيه إلى قول القافة، وجعل الولد لأبيه الذي يدعيه، فيثبت نسبه بذلك، ونسخ الحكم المتقدم الذي كان الحكم فهي بقول القافة، وقد كان أولاد البغايا الذين ولدوا في الجاهلية من أدعى أحدًا منهم في الإِسلام ألحق به.
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد (ح).
وحدثنا يونس، نا أبي، ثنا أنس، عن يحيى بن سعيد -قال مالك في حديثه: عن سليمان بن يسار وقال أنس: أخبرني سليمان بن يسار: "أن عمر رضي الله عنه كان يليط أهل الجاهلية بمن ادعاهم في الإِسلام، فدل ذلك أنهم لم يكونوا يلحقون بهم بقول القافة، فيكون قولهم كالبينة التي تشهد على ذلك، فلو كان قولهم مستعملًا في الإِسلام كما كان مستعملًا في الجاهلية إذا لم قالت عائشة رضي الله عنها:إن ذلك مما هدم، إذًا كان يجب به علم أن الصبي ممن وطئ أمه من الرجال، ففي نسخ ذلك دليل على أن قولهم لا يجب به حكم ثبوت النسب.
ش: هذا في الحقيقة جواب آخر عما احتج به أهل المقالة الأولى، بيانه أن حديث عائشة الذي احتج به هؤلاء منسوخ، والدليل عليه ما روي عن عائشة أيضًا، لأن في حديثها هذا يخبر أن إثبات النسب بقول القافة، كان من حكم الجاهلية، وأنه عليه السلام هدم النكاح الذي كان يكون فيه الحكم بالقافة، وأقر النكاح الذي لا يحتاج فيه إلى قول القافة؛ فثبت بذلك انتساخ إثبات النسب بالقافة.
ومما يدل على ذلك أيضًا أنه عليه السلام حكم باللعان في قصة العجلاني، ولم يؤخر حتى تضع ويرى الشبه.
وأيضًا فقد ذكر في قصة المتلاعنين: إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان، ثم لم ينقضي حكمه لما جاءت به على الصفة المكروهة، ولا حَدَّهَا؛ فدل ذلك على أن الشبه غير معتبر.
ثم إسناد حديث عائشة رضي الله عنها صحيح.
وابن أبي داود إبراهيم البرلسي.
وأصبغ بن الفرج أبو عبد الله الفقيه القرشي الأموي مولى عبد العزيز بن مروان المصري وراق عبد الله بن وهب وشيخ البخاري، وابن وهب هو عبد الله ابن وهب.
ويونس هو ابن يزيد الإيلي، روي له الجماعة.
وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري.
وأخرجه البخاري (1) بأتم منه من حديث عائشة: "أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرَّ ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحببت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع الرجل،
(1)"صحيح البخاري"(5/ 1970 رقم 4834).
ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا ينصبن على أبوابهن الرايات وتكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جُمِعُوا لها، ودعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بُعث محمَّد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم".
وأخرجه أبو داود (1): ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عنبسة بن خالد، قال: حدثني يونس بن يزيد، قال: قال محمَّد بن مسلم بن شهاب:
أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي عليه السلام أخبرته:"أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء. . . ." إلى آخره نحوه، إلا أنه قدم الرابع فجعله أولًا.
قوله: "أنحاء" جمع نحو، وأراد به على أربعة ضروب.
قوله: "من طمثها" أي من حيضها.
قوله: "فاستبضعي منه" من الاستبضاع وهو استفعال من البضع وهو الجماع، والبضع يطلق على عقد النكاح والجماع معًا، وعلى الفرج.
قوله: "يجتمع الرهط" قال أبو عبيدة: هو ما دون العشرة من الناس وكذلك النفر، وقيل: من ثلاثة إلى عشرة، وقال غيره: الرهط من الرجال ما دون العشرة لا يكون فيهم امرأة قال الله تعالى: {وَكَانَ في الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} (2) وليس له واحد من لفظه كذَوْد وقيل: هو من ثلاثة إلى الأربعين ولا يكون فيهم امرأة.
قوله: "وهن البغايا" جمع بَغِيّ، وهي الزانية.
قوله: "فالتاط به" أي استلحقه، من اللوط وهو الإلصاق.
قوله: وقد كان أولاد البغايا. . . ." إلى آخره ذكره تأييدًا لقوله: "إن إثبات النسب بقول القافة كان من حكم الجاهلية، ولم يبق له حكم في الإِسلام.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 281 رقم 2272).
(2)
سورة النمل، آية:[48].
قوله: "حدثنا يونس. . . ." إلى آخره، بيان لقوله:"وقد كان أولاد البغايا".
وأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة، عن سليمان بن يسار المدني.
الثاني: عن يونس أيضًا، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار.
قوله: "كان يليط" من أَلاط إلاطة إذا أَلصق، والظاهر أنه من لاط يليط وهو يتعدى بنفسه، وجاء لاط يلوط، ومنه حديث أشراط الساعة:"وليقومن وهو يلوط حوضه"، وفي رواية "يليط حوضه" والله أعلم.
ص: واحتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا: بما حدثنا يونس، قال: أنا أنس، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار:"أن رجلين أتيا عمر رضي الله عنه كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعى لهما رجلًا من بني كعب قائمًا، فنظر إليهما فقال لعمر رضي الله عنه: قد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، ودعى المرأة فقال: أخبريني بخبرك، فقالت: كان هذا -لأحد الرجلين- يأتيها وهي في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يطأ ويظن أن قد استمر بها حمل ثم ينصرف عنها، فأهراقت عنه دمًا، ثم خلفها هذا -تعنى الآخر- فلا يفارقها حتى استمر بها حمل، فلا تدري ممن هو، فكبَّر الكعبي، فقال عمر رضي الله عنه للغلام: "والي أيهما شئت" (1).
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثنا، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان، مثله.
حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن حاطب، عن أبيه قال: "أتى رجلان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختصمان في غلام من ولادة الجاهلية، يقول هذا: هو ابني،
(1) أخرجه أحمد في "مسنده"(2/ 166 رقم 6550)، وابن حبان في صحيحه (15/ 259 رقم 6845) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ويقول هذا: هو ابني، فدعى لهما عمر رضي الله عنه قائفًا من بني المصطلق، فسأله عن الغلام، فنظر إليه المصطلقي، ثم نظر، ثم قال لعمر رضي الله عنه:
والذي أكرمك، ليس لأحدهما، قد اشتركا فيه جميعًا، فقام إليه عمر بالدرة فضربه حتى اضطجع، ثم قال: والله لقد ذهب بك النظر إلى غير مذهب، ثم دعى أم الغلام فسألها ، فقالت: إن هذا -لأحد الرجلين- قد كان غلب على الناس حتى ولدت له أولادًا، ثم وقع بي على نحو ما كان يفعل، فحملت فيما أرى، فأصابتني هراقة من دم حتى وقع في نفسي أن لا شيء في بطني، ثم إن هذا الآخر، وقع بي فوالله ما أدري من أيهما هو، فقال عمر رضي الله عنه للغلام: اتبع أيهما شئت، فاتبع أحدهما، قال عبد الرحمن بن حاطب: فكأني أنظر إليه متبعًا لأحدهما فذهب به، فقال عمر رضي الله عنه: قاتل الله أخا بني المصطلق".
قالوا: ففي هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه حكم بالقافة، فقد وافق ما تأولنا من حديث مجزّز المدلجي.
ش: أي احتج أهل المقالة الأولى أيضًا لما ذهبوا إليه بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سليمان بن يسار المدني.
وأخرجه البيهقي في "الخلافيات" من حديث يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإِسلام، قال سليمان: فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائفًا فنظر إليهما، فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر رضي الله عنه بالدرة، ثم قال للمرأة: أخبريني خبرك، فقالت: كان هذا -لأحد الرجلين- يأتيها وهي في إبل أهلها، فلا يفارقها حتى يظن أنه قد استمر بها حمل، ثم انصرف
عنها فأهريقت دمًا، ثم خلف هذا -تعنى الآخر- فلا أدري من أيها هو، فكبَّرَ القائف، ثم قال عمر بن الخطاب للغلام: وَالِ أيهما شئت".
الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار.
وأخرجه مالك في "موطإه"(1)، والبيهقي في "سننه"(2) من حديث مالك.
الثالث: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة ابن الزبير بن العوام، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه عبد الرحمن ابن حاطب.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(3) من حديث ابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن، عن أبيه:"أتى رجلان يختصمان في غلام من ولاد الجاهلية، يقول هذا: ابني، ويقول هذا: ابني، فدعى عمر رضي الله عنه قائمًا من بني المصطلق. . . ." إلى آخره نحوه.
وأخرجه الشافعي أيضًا (4): عن أبي ضمرة، عن هشام، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن، نحوه.
قوله: "قالوا" أي أهل المقالة الأولى "ففي هذا الحديث" أراد به أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ص: فكان من الحجة عليهم للآخرين: أن في هذا الحديث ما يدل على بطلان ما قالوا، وذلك أن فيه أن القائف قال: هو منهما جميعًا، فلم يجعله عمر رضي الله عنه كذلك،
(1)"موطأ مالك"(2/ 740 رقم 1420).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 263 رقم 21048).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 263 رقم 21050).
(4)
"الأم"(6/ 344).
وقال له: "وَالِ أَيهما شئت" على ما يجب في صبي ادعاه رجلان، فإن أقر أحدهما كان ابنه، فلما رَدَّ عمر رضي الله عنه حكم ذلك الصبي إلى الصبي المدعى إذا ادعاه رجلان ولم يكن بحضرة الإِمام قائف لا إلى قول القائف؛ دل ذلك على أن القافة لا يجب بقولهم ثبوت نسب من أحد.
ش: أي: فكان من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى للجماعة الآخرين، وأراد بها الجواب عن أثر عمر رضي الله عنه المذكور الذي احتج به هؤلاء فيما ذهبوا إليه، وهو ظاهر.
قوله: "على ما يجب في صبي ادعاه رجلان" أراد أن عمر رضي الله عنه حكم في الأثر المذكور بقول الصبي بأن يختار أيهما شاء، كما هو الحكم في الصبي الذي يدعيه اثنان كل واحد يقول: إنه ابنه، فإن الصبي لا يكون إلا لمن أقرّ أنه ابنه، وهاهنا تفصيل: وهو أن الغلام إذا كان في يد إنسان وادعى صاحب اليد أنه ابنه ولدته أمَّه هذه في ملكه، وأقام البينة على ذلك، وادعى خارج أن الغلام ابنه ولدته الأمة في ملكه، وأقام البينة، فإن كان الغلام صغيرًا لا يتكلم يقضى لصاحب اليد لاستوائهما في البينة، فترجح صاحب اليد باليد كما في النكاح، وإن كان كبيرًا يتكلم فقال: أنا ابن الآخر؛ يقضى بالأمة والغلام للخارج؛ لأن الغلام إذا كان كبيرًا يتكلم كان في يد نفسه.
فالنسبة التي يدعيها الغلام أولى، وكذلك لو كان الغلام ولد حرة وهما في يد رجل، فأقام صاحب اليد البينة على أنه ولد على فراشه، والغلام يتكلم ويدعي ذلك، وأقام خارج البينة على مثله؛ يقضي بالمرأة والولد للذي هما في يده لما قلنا، وإن كان الذي في يديه من أهل الذمة والمرأة ذمية، فأقام شهودًا مسلمين، يقضى بالمرأة والولد للذي هما في يده؛ لأن شهادة المسلمين حجة مطلقة، وهاهنا مسائل كثيرة طوينا ذكرها.
ص: وقد روي عن عمر رضي الله عنه من وجوه صحاح أنه جعله ابن الرجلين جميعًا: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن توبة العنبري،
عن الشعبي، عن ابن عمر:"أن رجلين اشتركا في طهر امرأة فولدت، فدعى عمر رضي الله عنه القافة، فقالوا: أخذ الشبه منهما جميعًا، فجعله بينهما".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر رضي الله عنه، نحوه، قال: فقال لي سعيد، لمن ترى ميراثه؟ قال: هو لآخرهما موتًا".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا عوف بن أبي جميلة، عن أبي المهلب:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في رجل ادعاه رجلان كلاهما يزعم أنه ابنه -وذاك في الجاهلية- فدعى عمر أم الغلام المدعى، فقال: أذكرك بالذكر هداك للإسلام، لأيهما هو؟ فقالت: لا والذي هادني للإسلام ما أدري لأيهما هو؛ أتاني هذا أول الليل، وأتاني هذا آخر الليل، فما أدري لأيهما هو، قال: فدعى عمر رضي الله عنه من القافة أربعة، ودعى ببطحاء فغشوها، فأمر الرجلين المدعيين فوطئ كل واحد منهما بقدم، وأمر المدعى فوطئ بقدم ثم أراها القافة فقال: انظروا فهذا أثبتُّم فلا تتكلموا حتى أسألكم، قال: فنظر القافة فقالوا: قد أثبتنا، ثم فرق بينهم ثم سألهم رجلًا رجلًا قال: فتقادعوا -يعني فتتابعوا- أربعتهم كلهم يشهد أن هذا لَمِنْ هذين، فقال عمر رضي الله عنه: يا عجبًا لما يقول هؤلاء، قد كنت أعَلم أن الكلبة تلقح بالكلاب ذوات العدد ولم أكن أشعر أن النساء يفعلن ذلك قبل هذا، إني لأرى ما يرون، اذهب فهما أبواك".
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: "أن رجلين اشتركا في طهر امرأة، فولدت لهما ولدًا، فارتفعا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعى لهما ثلاثة من القافة، فدعى بتراب فوطئ فيه الرجلان والغلام، ثم قال لأحدهم: انظر، فنظر فاستقبل واستعرض واستدبر، ثم قال: أُسِرُّ أم أُعْلِن؟ قال عمر رضي الله عنه: بل أَسِرَّ، قال: لقد أخذ الشبه منهما جميعًا، فما أدري لأيهما هو، فأجلسه، ثم قال للآخر: انظر، فنظر
واستقبل واستعرض واستدبر ثم قال: أُسِرُّ أم أُعْلن؟ قال: لا، بل أَسِرَّ، قال: لقد أخذ الشبه منهما جميعًا فلا أدري لأيهما هو، فأجلسه، ثم أمر الثالث، فنظر فاستقبل واستعرض واستدبر، ثم قال: أُسِرُّ أم أُعْلن؟ قال: أَعْلِنْ، قال: لقد أخذ الشبه منهما جميعًا فما أدري لأيهما هو، فقال عمر رضي الله عنه: إنا نقوف الآثار ثلاثًا بقولها، وكان عمر رضي الله عنه، فجعله لهما يرثانه ويرثهما، فقال لي سعيد: أتدري مَنْ عصبته؟ قلت: لا، قال: الباقي منهما".
قال أبو جعفر رحمه الله: فليس يخلو حكمه في هذه الآثار التي ذكرنا من أحد وجهين: إما أن تكون بالدعوى؛ لأن الرجلين ادعيا الصبي وهو في أيديهما، فألحقه بهما بدعواهما.
أو يكون فعل ذلك بقول القافة، وكان الذين يحكمون بقول القافة لا يحكمون بقولهم إذا قالوا: هو ابن هذين، فلما كان قولهم كذلك ثبت على قولهم أن يكون قضاء عمر رضي الله عنه بالولد للرجلين كان بغير قول الفاقة، وفي حديث سعيد بن المسيب ما يدل على ذلك؛ وذلك أنه قال: فقال القافة: لا ندري لأيهما هو، فجعله عمر رضي الله عنه ابنهما، والقافة لم يقولوا: هو ابنهما، فدل ذلك أن عمر رضي الله عنه أثبت نسبه من الرجلين بدعواهما ولما لهما عليه من اليد، لا بقول القافة.
ش: لما أدعت أهل المقالة الأولى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم بقول القافة عند اشتباه الأنساب، وذكروا في ذلك ما مَرَّ ذكره عن قريب، وأجاب عنه الطحاوي بما أجاب من نفي حكم عمر رضي الله عنه بقول القافة، وأن بقولهم لا يجب ثبوت النسب؛ شرع فذكر هاهنا ما هو شاهد على ذلك، وأنه صح عن عمر رضي الله عنه أنه لم يرجع إلى قول القافة في الصورة المتنازع فيها، بل هو جعل الولد بين المدعيين، وذلك لأن حكم عمر في الآثار المذكورة لم يكن بقول القافة ، لأنهم قالوا: لقد أخذ الشبه منهما جميعًا فما ندري لأيهما هو، ولم يقولوا: هو لهما وأنه ابنهما، ومع هذا كان عمر رضي الله عنه أيضًا قائفًا فلم يلتفت إلى ذلك بل حكم بالنسب بين الرجلين بسبب
تساويهما في الدعوى، ولأجل أن لهما عليه من اليد، فلم يكن ذلك بقول القافة، ومن الدليل القاطع على ذلك أن أهل المقالة الأولى لا يقولون بالحكم بقول القافة إذا قالوا: هو ابن الاثنين، إذا ادعياه جميعًا.
ثم إنه أخرج عن عمر رضي الله عنه من أربع وجوه صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن توبة العنبري البصري، عن عامر الشعبي، عن عبد الله بن عمر.
وأخرجه ابن حزم (1) ثم طعن فيه لترويج مذهبه، فقال: توبة العنبري ضعيف متفق على ضعفه.
قلت: هذا غير صحيح، فإن توبة روى عنه الحفاظ الأجلاء نحو الثوري وشعبة وهشام بن حسان وحماد بن سلمة وغيرهم، ووثقه يحيى بن معين وأبو حاتم، وروى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، وقال ابن حزم أيضًا: قول ابن عمر: "جعله بينهما" ليس فيه أنه ألحقه بنسبهما، لكن الظاهر أن معناه: وقفه بينهما حتى يلوح له فيه وجه حكم، ولا يجوز أن يظن بعمر رضي الله عنه غير هذا.
قلت: هذا غير صحيح، بل معناه أنه جعله بينهما وألحقه بنسبهما، والدليل عليه ما في رواية سعيد بن المسيب:"وكان عمر رضي الله عنه قائفًا؛ فجعله لهما يرثانه ويرثهما" على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
والثاني: أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر رضي الله عنه.
وأخرجه البيهقي (2): من حديث همام، عن قتادة، عن ابن المسيب: "أن رجلين اشتركا في طهر امرأة، فولدت ولدًا، فارتفعوا إلى عمر رضي الله عنه، فدعي لهم ثلاثة من القافة فدعوا بتراب فوطأ فيه الرجلان والغلام، ثم قال لأحدهم:
(1)"المحلي"(10/ 151).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 264 رقم 21054).
انظر، فنظر فاستقبل واستعرض واستدبر وقال: أُسِرُّ أم أُعْلن؟ [قال: بل أَسِرَّ](1) فقال: لقد أخذ الشبه منهما، فلا أدري لأيهما هو، فقال عمر: إنا نقوف الآثار -ثلاثًا يقولها- وكان عمر رضي الله عنه قائفًا، فجعله لهما يرثانه ويرثهما، فقال سعيد: أتدري من عصبته؟ قلت: لا، قال: الباقي منهما".
فإن قيل: قال البيهقي: هذه رواية منقطعة. وقال ابن حزم: هذه رواية ساقطة عن عمر رضي الله عنه؛ لأنها مرسلة من طريق سعيد بن المسيب عن عمر، ولم يحفظ سعيد من عمر شيئًا إلا نعي النعمان بن مقرن على المنبر مع أن فيها حكم مع القافة.
قلت: الشافعي يحتج بمرسل سعيد بن المسيب في مثل هذه الصورة فما للبيهقي يتبرأ عن هذه الرواية وهي عند إمامه مقبولة؟! وقول ابن حزم مع أن فيها حكم بالقافة غير صحيح، لأنه لو حكم بقول القافة لألحق الولد بأحدهما؛ لأن القافة لم يقولوا: هو ابنهما، وقد مر تحقيق الكلام فيه آنفًا.
الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن عوف الأعرابي، عن أبي المهلب الجرمي البصري عم أبي قلابة، وقال النسائي: أبو المهلب عمرو بن معاوية، وقال غيره: اسمه معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النضر بن عمرو، روى له الجماعة؛ البخاري في غير الصحيح.
وأخرج البيهقي (2) نحوه من حديث مبارك بن فضالة، عن الحسن، وفيه:"وكان عمر رضي الله عنه قائفًا، فقال: قد كانت الكلبة ينزو عليها الكلب الأسود والأصفر والأحمر فتؤدي إلى كل كلب شبهه، ولم أكن أرى هذا في الناس حتى رأيت هذا، فجعله عمر لهما يرثانه ويرثهما وهو للباقي منهما".
قوله: "ودعى ببطحاء" البطحاء الحصى الصغار اللين في بطن الوادي.
قوله: "فنثرها" من نثرت النثار.
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "السنن الكبرى".
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 264 رقم 21056).
قوله: "فتقادعوا" قد فسره في الحديث بقوله: "يعني فتتابعوا". قال الجوهري: التقادع: التتابع والتهافت في الشيء، كأن كل واحد منهما يدفع صاحبه لكي يسبقه، وتقادعوا بالرماح تطاعنوا.
قلت: مادته: قاف، ودال وعين مهملتان.
قوله: "تلقح بالكلاب" وأصله من ألقح الفحل الناقة إلقاحًا ولقاحًا إذا أولدها، كما يقال: أعطى إعطاء وعطاء، والأصل فيه للإبل، ثم استعير للناس وغيرهم.
الرابع: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون -شيخ أحمد- عن همام بن يحيى، عن قتادة بن دعامة، عن سعيد بن المسيب. . . . إلى آخره.
قوله: "إنا نقوف الآثار" من قاف الأثر يقوفه ويقتافه قيافة، وقد ذكرنا معناه مرة.
ص: فإن قال قائل: فإذا كان ذلك كما ذكرت فما كان احتياج عمر رضي الله عنه إلى القافة حين دعاهم؟
قيل له: يحتمل عندنا ذلك -والله أعلم- أن يكون عمر رضي الله عنه وقع بقلبه أن حملًا لا يكون من رجلين ليستحيل إلحاق الولد بمن يعلم أنه لم يلده، فدعى القافة ليعلم منهم: هل يكون ولد يحمل من نطفة رجلين أم لا؟ وقد بين ذلك ما ذكرنا من حديث أبي المهلب، فلما أخبره القافة بأن ذلك قد يكون وأنه غير مستحيل؛ رجع إلى الدعوى التي كانت بين الرجلين فحكم بها، فجعل الولد ابنهما جميعًا يرثهما ويرثانه، فذلك حكم بالدعوى لا بقول القافة.
ش: تقرير السؤال أن يقال: إذا كان إثبات عمر رضي الله عنه نسب الولد من الرجلين فيما ذكر بدعواهما لا بقول القافة كما ذكرت، فما كان احتياج عمر إلى القافة حتى طلبهم؟
والجواب ظاهر.
قوله: "في حديث أبي المهلب" وهو الذي أخرجه عن أبي بكرة، عن سعيد بن عامر، عن عوف عنه.
وقد اعترض ابن حزم هاهنا وقال: وما نعرف إلحاق الولد باثنين عن أحد من المتقدمين إلا عن إبراهيم النخعي ولا حجة في أحد دون رسول الله عليه السلام، والثابت عنه عليه السلام يكذب جواز كون ولد من مني أبوين.
وهو الذي رويناه من طريق مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: ثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: ثنا الأعمش، عن زبد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل الملك فينفخ فيه الروح. . . ." الحديث فصح يقينًا أن ابتداء العدد من حين وقوع النطفة وبلا شك أن الدقيقة التي تقع فيها النطفة في الرحم هي غير الدقيقة التي تقع فيها نطفة الواطئ الثاني فلو جاز أن يجمع الماءين فيصير منهما ولد واحد لكان العد مكذوبًا فيه؛ لأنه إن عد في حين وقوع نطفة الأولى فهو للأول وحده فلو استضاف إليه الثاني لابتداء العدد من وقت حلول المني الثاني فكان يكون في الأربعين يومًا نقص وزيادة بلا شك.
قلت: هذا تخبيط ولا يلزم من اجتماع الماءين في رحم المرأة كون العد مكذوبًا فيه؛ لأنه لا شك أن ابتداء العد من حين وقوع النطفة في الرحم، فإذا وقعت نطفة الأول في ساعة مثلًا ووقعت نطفة الثاني عقيب تلك الساعة صار كله ماءً واحدًا فلم يتعلق الخلق بالماء الأول وحده، بل إنما تعلق به العد، وذا لا يضر ولا ينافي أن يكون الولد من ماءين أو أكثر، ولو لم يكن هذا جائزًا لما حكم به عمر رضي الله عنه حيث جعل الولد فيما ذكرنا بين الاثنين، وكذلك على بن أبي طالب رضي الله عنه حكم كذلك، على ما يأتي الآن.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 2036 رقم 2643).
ص: وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ذلك أيضًا: ما حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن مولى لبني مخزوم قال:"وقع رجلان على جارية في طهر واحد، فعلقت الجارية، فلم يُدر من أيهما هو، فأتيا عمر رضي الله عنه يختصمان في الولد، فقال عمر رضي الله عنه: ما أدري كيف أقضي في هذا، فأتيا عليًّا رضي الله عنه، فقال: هو بينكما يرثكما وترثانه، وهو للباقي منكما".
فهذا علي رضي الله عنه قد حكم بالولد لمدعييه جميعًا فجعله ابنهما، ولم يَحْتَجْ في ذلك إلى قول القافة، فبهذا نأخذ.
وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: إسناده فيه مجهول، والباقي ثقات.
ويوسف بن عدي شيخ البخاري، وأبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، وسماك هو ابن حرب.
وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن الثوري، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه:"أنه أتاه رجلان وقعا على امرأة في طهر واحد، فقال: الولد بينكما، وهو للباقي منكما".
ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن حسين بن علي، عن زائدة، عن سماك، عن حنش، عن علي رضي الله عنه.
وهذا السند على شرط مسلم، وإليه ذهب الكوفيون، وأكثر أهل العراق، وعمل بذلك أبو ثور فقال: إذا قال القافة: الولد بينهما؛ لحق بهما وورثهما وورثاه.
وقال الشافعي: إذا كبر الولد قيل له انتسب إلى أيهما شئت.
فهذا الشافعي لم يعمل هاهنا بقول القافة.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(7/ 359 رقم 13473).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 286 رقم 31466).