الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: القضاء باليمين مع الشاهد
ش: أي هذا باب في بيان حكم القاضي بيمين المدعي مع الشاهد الفرد هل يجوز أم لا؟
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا زيد بن الحباب، قال: أخبرني سيف بن سليمان المكي، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن النبي صلى الله عليه وسلم: قضى باليمين مع الشاهد".
ش: رجاله ثقات إلا أن النسائي قال: يحيى بن عبد الحميد ضعيف. ووثقه غيره.
وزيد بن الحباب بن الريان الكوفي، روي له الجماعة سوى البخاري، وسيف بن سليمان ويقال: ابن أبي سليمان المكي، روي له الجماعة سوى الترمذي.
وقيس بن سعد المكي مولى نافع بن علقمة، روي له مسلم والأربعة غير الترمذي.
والحديث أخرجه أبو داود (1): ثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي، أن زيد بن الحباب حدثهم، قال: ثنا سيف المكي -قال عثمان: سيف بن سليمان- عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام قضي بيمين وشاهد".
وأخرجه النسائي (2) عن عبيد الله بن سعيد، عن عبد الله بن الحارث، عن سيف. . . . بإسناده نحوه.
وابن ماجه (3) عن إبراهيم بن عبد الله الهروي، عن عبد الله بن الحارث، عن سيف، به نحوه.
فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟
(1)"سنن أبي داود"(3/ 308 رقم 3608).
(2)
"السنن الكبرى"(3/ 490 رقم 6011).
(3)
"سنن ابن ماجه"(2/ 793 رقم 2370).
قلت: قال البيهقي: قال الشافعي: حديث ابن عباس ثابت، ومعه ما يشده.
وأخرجه مسلم في "الصحيح"(1): عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير، عن زيد ابن الحباب.
وقال البيهقي في "الخلافيات": سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: وقد تعرض لهذا الحديث بعض المخالفين ممن ليس بصناعته معرفة الحديث الصحيح من السقيم، واحتج فيه بما روى العباس الدوري، عن يحيى بن معين قال: حديث ابن عباس: "أن النبي عليه السلام قضى بشاهد ويمين" ليس هذا بمحفوظ.
قال أبو عبد الله: فنقول وبالله التوفيق: إن شيخنا أبا زكريا لم يطلق هذا القول على حديث سيف بن سليمان، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. وإنما أراد الحديث الخطأ الذي روي عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس. أو الحديث الذي تفرد به إبراهيم بن محمَّد عن ابن أبي مليكة.
وأما حديث سيف بن سليمان فليس في إسناده من يجرح، ولم تعلم له أيضًا علة يعلل بها الحديث، والإمام أبو زكرياء أعرف بهذا الشأن من أن يظن به يوهن حديثا يرويه الثقات الأثبات، قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد القطان عن سيف بن سليمان، فقال: كان عندنا ثبتًا ممن يصدق ويحفظ.
وعلل الطحاوي هذا الحديث بأنه لا يعلم قيسًا يحدث عن عمرو بن دينار بشيء وليس ما لا يعلمه الطحاوي لا يعلمه غيره، وقد أخبرنا الحسن بن أبي عبد الله الفارسي، أنا أبو حامد بن إسماعيل بن أبي حامد العدل، أنا أبو عبد الله بن مخلد الدوري، ثنا يحيى بن مسلم بن عبد الله الرزاي، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي قال: سمعت قيس بن سعد يحدث عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أن رجلًا وَقَصَتْهُ ناقته وهو محرم" ولا يبعد أن يكون له عن عمرو غير هذا،
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1337 رقم 1712).
وليس من شرط قبول الأخبار كثرة رواية الراوي عن من روى عنه، وإذا روى الثقة عن من لا ينكر سماعه منه حديثا واحدًا وجب قبوله، وإن لم يرو عنه غيره.
قلت: ذكره الترمذي في "علله" وقال: سألت محمدًا عنه -أي عن هذا الحديث- فقال: عمرو بن دينار لم يسمع هذا الحديث من ابن عباس، فعل هذا يُرمى الحديث بالانقطاع في موضعين:
الأول: من البخاري بين عمرو وابن عباس.
والثاني: من الطحاوي بين قيس وعمرو، وطعن البيهقي في كلام الطحاوي لا وجه له؛ لأن أحدًا من أهل هذا الشأن لم يصرح بأن قيس بن سعد سمع من عمرو بن دينار، ولا يلزم من قول جرير: سمعت قيسًا يحدث عن عمرو أن يكون قيس سمع ذلك من عمرو، وقد روى البيهقي في باب فضل التأذين على الإمامة من حديث أبي حمزة السُّكري، سمعت الأعمش يحدث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال عليه السلام: "الإِمام ضامن والمؤذن مؤتمن. . . ." الحديث. ثم لم يجعل البيهقي ذلك سماعًا للأعمش من أبي صالح، بل قال: هذا الحديث لم يسمعه الأعمش من أبي صالح إنما سمعه من رجل عن أبي صالح.
وأما سيف فإن الذهبي ذكره في كتابه في "الضعفاء" وقال: رُمِي بالقدر، وقال في "الميزان": ذكره ابن عدي في "الكامل" وساق له هذا الحديث، وسأل عباس يحيى بن معين عن هذا الحديث، فقال: ليس بمحفوظ.
ثم لو سلمنا ما ذكروا كله وقطعنا بصحة هذا الحديث وخلوه عن العلة، فنقول: إن نص القرآن يرده على ما يجيئ بيانه مستقصًى، إن شاء الله تعالى.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: ثنا سليمان بن بلال والدراوردي. . . . فذكر بإسناده مثله. قال عبد العزيز: فلقيت سهيلًا فسألته عن هذا الحديث، فلم يعرفه.
ش: هذان طريقان:
الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح.
وأخرجه أبو داود (1) قال: ثنا أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري ثنا الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة:"أن النبي عليه السلام قضى باليمين مع الشاهد"، وسيأتي الكلام على هذا الحديث.
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن الحماني، عن سليمان بن بلال وعبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة.
وأخرجه الترمذي (2) بدون قصة السؤال.
ثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال:"قضى رسول الله عليه السلام باليمين مع الشاهد الواحد".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن رسول الله عليه السلام مثله.
ش: هذا مرسل، وجعفر بن محمَّد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 309 رقم 3610).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 627 رقم 1343).
قال أبو عمر (1): هذا الحديث في "الموطإ" عن مالك مرسل عند جميع رواته، وقد رواه عنه مسندًا عثمان بن خالد المديني، قال: ثنا مالك بن أنس، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر:"أن النبي عليه السلام قضى بشاهد ويمين".
هكذا حدث عنه به عثمان مسندًا، والصحيح فيه: عن مالك أنه مرسل في روايته، وقد تابع عثمان على روايته هذه عن مالك: إسماعيل بن موسى الكوفي، فرواه أيضًا عن مالك، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر، وقد أسنده عن جعفر بن محمَّد جماعة حفاظ منهم: عبيد الله بن عمر وعبد الوهاب الثقفي ومحمد بن عبد الرحمن بن رداد المديني ويحيى بن سليم وإبراهيم بن أبي حية، ورواه عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه مرسلًا ابن عيينة كما رواه مالك، وكذلك رواه الحكم بن عتيبة وعمرو بن دينار جميعًا عن محمَّد بن علي مرسلًا.
ص: حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: حدثني عثمان بن الحكم، عن زهير بن محمَّد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله عليه السلام مثله.
ش: عثمان بن الحكم الجذامي المصري، قال أبو حاتم: هو شيخ ليس بالمتقن. روي له أبو داود والنسائي.
وزهير بن محمَّد التميمي العنبري، روى له الجماعة.
وأخرجه البيهقي (2) من حديث ابن وهب، نا عثمان بن الحكم، حدثني زهير بن محمَّد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام قضي بيمين وشاهد".
قال الذهبي: هذا منكر، عثمان متكلم فيه.
(1)"التمهيد"(3/ 134 - 135).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 172 رقم 20457).
ص: حدثنا وهبان بن عثمان، قال: ثنا أبو همام، قال: ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن رسول الله عليه السلام مثله، ولم يذكر جابرًا.
حدثنا بحر، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني عمر بن محمَّد ومالك بن أنس ويحيى بن أيوب، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن رسول الله عليه السلام، مثله.
ش: هذه ثلاث طرق:
الأول: مسند مرفوع، وأبو همام اسمه الوليد بن شجاع الكندي الكوفي نزيل بغداد، وشيخ مسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه.
وأخرجه الترمذي (1): ثنا محمَّد بن بشار ومحمد بن أبان قالا: ثنا عبد الوهاب الثقفي، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر:"أن النبي عليه السلام قضى باليمين مع الشاهد".
وأخرجه ابن ماجه (2): عن محمَّد بن بشار، عن عبد الوهاب. . . . إلى آخره.
الثاني: مرسل، وقد ذكره آنفًا بهذا الإسناد، غير أن هاهنا زاد قوله:"ولم يذكر جابرًا".
الثالث: أيضًا مرسل، عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب، عن عمر بن محمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومالك بن أنس ويحيى بن أيوب الغافقي المصري، ثلاثتهم عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن النبي عليه السلام. وقد تكلمنا فيه عن ابن عمر بما فيه الكفاية.
(1)"جامع الترمذي"(3/ 628 رقم 1344).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 793 رقم 2369).
وهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
ولما أخرج الترمذي حديث أبي هريرة قال: وفي الباب عن علي وجابر وابن عباس وَسُرَّق رضي الله عنهم.
قلت: وفي الباب أيضًا عن سعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو وعمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة ورجل له صحبة وزُبَيْب بن ثعلبة رضي الله عنهم.
أما حديث علي رضي الله عنه فأخرجه الدارقطني (1): ثنا ابن مخلد، ثنا عباس بن محمَّد، ثنا شبابة، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق، وقضى به علي في العراق".
وأما حديث سُرَّق فأخرجه ابن ماجه (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون، أنا جويرية بن أسماء، ثنا عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، عن رجل من أهل مصر، عن سرق:"أن النبي عليه السلام أجاز شهادة رجل ويمين الطالب".
وأما حديث سعد بن عبادة فأخرجه الدارقطني (3): ثنا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، ثنا صلت بن مسعود، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن ابن سعد بن عبادة قال:"وجدنا في كتاب سعد بن عبادة: أن رسول الله عليه السلام قضى باليمين مع الشاهد".
وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البيهقي (4): من حديث مطرف بن مازن، ثنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"قضى النبي عليه السلام بشاهد ويمين في الحقوق".
(1)"سنن الدارقطني"(4/ 212 رقم 31).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 793 رقم 2371).
(3)
"سنن الدارقطني"(4/ 213 رقم 33).
(4)
"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 172 رقم 20455).
وقال الذهبي: مطرف كذبه ابن معين.
وأخرجه (1) أيضًا من حديث النفيلي: ثنا محمَّد بن عبد الله بن عتبة بن عمير، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن رسول الله عليه السلام قضى باليمين مع الشاهد".
وقال الذهبي: محمَّد واهٍ.
وأما حديث عمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة، فأخرجه عبد الله بن وهب في "مسنده": أخبرني ابن لهيعة، ونافع بن يزيد، عن عمارة بن غزية، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل:"أنه وجد في كتاب آبائه: هذا ما رفع -أو ذكر- عمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة، قالا: بينا نحن عند رسول الله عليه السلام، دخل رجلان يختصمان، مع أحدهما شاهد له على حقه، فجعل رسول الله عليه السلام يمين صاحب الحق مع شاهده، فاقتطع بذلك حقه".
وأما حديث رجل له صحبة فأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث الشافعي، أنا إبراهيم بن محمَّد، عن ربيعة بن عثمان، عن معاذ بن عبد الرحمن، عن ابن عباس وآخر له صحبة:"أن رسول الله عليه السلام قضى باليمين مع الشاهد".
وأما حديث زُبَيْب -بضم الزاي، وفتح الباء الموحدة- بن ثعلبة فأخرجه أبو داود (3): ثنا أحمد بن عبدة، قال: ثنا عمار بن شعيث بن عبيد الله بن الزبيب العنبري، قال: حدثني أبي، قال: سمعت جدي الزبيب يقول: "بعث نبي الله عليه السلام جيشًا إلى بني العنبر فأخذوا بركبة -من ناحية الطائف- واستاقوهم إلى نبي الله عليه السلام، فركبت فسبقتهم إلى النبي عليه السلام، فقلت: السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، أتانا جندك فأخذونا، وقد كنا أسلمنا وخضرمنا آذان النعم، فلما قدم
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 172 رقم 20456).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 168 رقم 20430).
(3)
"سنن أبي داود"(3/ 309 رقم 3621).
بلعنبر قال لي نبي الله عليه السلام: هل لكم بينة على أنكم أسلمتم قبل أن تؤخذوا في هذه الأيام؟ قلت: نعم، قال: من بينتك؟ قلت: سمرة رجل من بني العنبر ورجل آخر سماه له، فشهد الرجل وأبي سمرة أن يشهد، فقال النبي عليه السلام: قد أبى أن يشهد لك، فتحلف مع شاهدك الآخر؟ قلت: نعم، فاستخلفني، فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا، وخضرمنا آذان النعم، فقال النبي عليه السلام: اذهبوا فقاسموهم أنصاف الأموال، ولا تمسوا ذرايهم، لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عقالًا. . . ." الحديث.
قلت: زُبيب -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة وفي آخره باء موحدة أيضًا- هو ابن ثعلبة بن عمرو بن سواء بن أبي بن عبدة بن عدي بن جندب بن المعتمر بن عمرو بن تميم التميمي العنبري، وفد على النبي عليه السلام ومسح رأسه ووجهه وصدره، وقيل: هو أحد الغلمة الذين أعتقتهم عائشة رضي الله عنها كان ينزل بالبادية على طريق الناس بين الطائف والبصرة.
وشعيث -آخره ثاء مثلثة-، وابنه عمار، قال أبو محمَّد عبد الحق الأزدي: عمار ابن شعيث لا يحتج بحديثه.
قوله: "خضرمنا آذان الأنعام" يعني قطعنا أطراف آذانها وكان ذلك علامة بين من أسلم ومن لم يسلم، والمخضرمون قوم أدركوا الجاهلية وبقوا إلى أن أسلموا.
قوله: "لا يحب ضلالة العمل" أي بطلانه.
قوله: "ما رزيناكم" قال الخطابي: اللغة الفصيحة: ما رزأناكم يقال: ما أصبنا من أموالكم عقالًا، وقال الخطابي: وفي الحديث استعمال اليمين مع الشاهد في غير الأموال، إلا أن إسناده ليس بذاك، وقد يحتمل أن يكون أيضًا اليمين قصد بها هاهنا المال؛ لأن الإِسلام يعصم المال كما يحمي الدم.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى القضاء باليمين مع الشاهد في خاصٍّ من الأشياء في الأموال خاصة، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: سليمان بن يسار وأبا سلمة بن عبد الرحمن وأبا الزناد وعبد الرحمن بن عبد الحميد ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وداود بن علي؛ فإنهم قالوا: يجوز القضاء باليمين مع الشاهد المفرد في الحقوق المالية.
قال الخطابي: حديث فصل رسول الله عليه السلام بيمين وشاهد خاص في الأموال دون غيرها؛ لأن الراوي وقفه عليها، والخاص لا يعد حجة ولا يقاس عليه غيره، واقتضاء العموم منه غير جائز؛ لأنه حكاه فعلًا، والفعل لا عموم له، فوجب صرفه إلى أمر خاص، ولما قال الراوي: هو في الأموال كان مقصورًا عليه.
وقال ابن حزم: قال الشافعي في بعض الآثار: إن النبي عليه السلام حكم بذلك في الأموال، وهذا لا يوجد أبدًا في شيء من الآثار الثابتة، ورأى مالك والشافعي: أن لا يقضى باليمين والشاهد إلا في الأموال.
وقال مالك: وفي القسامة، وهذا لا معنى له؛ لأنه تخصيص للخبر بلا دليل. وجاء عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قضى بذلك في جراح العمد والخطأ، ويقضي به مالك أيضًا، في النفس ولا يقضي به في العتق.
والشافعي يقضي به في العتق.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وممن روي عنه القضاء باليمين مع الشاهد من الصحابة منصوصًا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو، وإن كان في الأسانيد عنهم ضعف.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجب أن يقضى في شيء من الأشياء إلا برجلين أو رجل وامرأتين، ولا يقضى بشاهد ويمين في شيء من الأشياء.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح والزهري والثوري والأوزاعي والحكم بن عتيبة والليث بن سعد ويحيى بن يحيى وعروة بن الزبير وعبد الله بن شبرمة قاضي الكوفة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا
وزفر رحمهم الله؛ فإنهم قالوا: لا يجوز القضاء في شيء من الأشياء إلا برجلين أو رجل وامرأتين لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (1) فوجب بطلان القول بالشاهد واليمين، فقد ألزم الله الحكام الحكم بالعدد المذكور بالأمر، والأمر للوجوب؛ فلا يجوز العدول عن العدد المذكور، كما لا يجوز الاقتصار على العدد المذكور في قوله {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (2).
وقال ابن حزم: وروينا إنكار الحكم به عن الزهري، وقال: هو بدعة مما أحدثه الناس، أول من قضى به: معاوية.
وقال عطاء: أول من قضى به: عبد الملك بن مروان.
وأشار إلى إنكاره الحَكَم بن عُتيبة، وروي عن عمر بن عبد العزيز الرجوع إلى ترك القضاء به؛ لأنه وجد أهل الشام على خلافه.
ص: وقال: ما رويتموه عن رسول الله عليه السلام مما ذكر فيه أنه قضى باليمين مع الشاهد فقد دخله الضعف الذي لا تقوم معه حجة.
فأما حديث ربيعة عن سهيل؛ فقد سأل الدراوردي عنه سهيلًا فلم يعرفه، ولو كان ذلك من السنن المشهورة والأمور المعروفة إذًا لما ذهب علمه، وأنتم قد تضعفون من الأحاديث ما هو أقوى من هذا الحديث بأقل من هذا.
وأما حديث عثمان بن الحكم، عن زهير بن محمَّد، عن سهيل، عن أبيه، عن زيد بن ثابت؛ فمنكر أيضًا؛ لأن أبا صالح لا تعرف له رواية عن زيد، ولو كان عند سهيل من ذلك شيء ما أنكر على الدراوردي ما ذكره له عن ربيعة ويقول له: لم يحدثني أبي عن أبي هريرة، ولكن حدثني به عن زيد بن ثابت، مع أن عثمان ليس بالذي يثبت مثل هذا بروايته.
(1) سورة البقرة، آية:[182].
(2)
سورة النور، آية:[2].
وأما حديث ابن عباس؛ فمنكر؛ لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو ابن دينار بشيء؛ فكيف تحتجون به في مثل هذا؟!
وأما حديث جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر؛ فإن عبد الوهاب رواه كما ذكرتم، وأما الحفاظ مالك وسفيان الثوري وأمثالهما فرووه عن جعفر، عن أبيه، عن النبي عليه السلام ولم يذكروا فيه عن جابر، وأنتم لا تحتجون بعبد الوهاب فيما يخالف فيه الثوري ومالك.
ش: هذا جواب عن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وهي أربعة أحاديث التي أخرجها عن أربعة أنفس من الصحابة، وهم: ابن عباس وأبو هريرة وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
أما حديث ابن عباس فقد تقدم الكلام فيه مستقصى.
وأما حديث أبي هريرة فإنه معلول أيضًا، لأن عبد العزيز الدراوردي قد سأل سهيلًا عنه فلم يعرفه، وهذا قدح فيه؛ لأن الخصم يضعف الحديث بما هو أدنى من ذلك.
وقال أبو داود -لما أخرج هذا الحديث-: وزادني الربيع بن سليمان المؤذن في هذا الحديث، قال: أنا الشافعي، عن عبد العزيز، قال: فذكرت ذلك لسهيل، فقال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه. قال عبد العزيز: وقد كانت أصابت سهيل علة أزالت بعض عقله؛ فنسي حديثه؛ فكان سهيل بعدُ يحدثه عن ربيعة، عنه، عن أبيه.
وقال أبو داود: ثنا محمَّد بن داود الإسكندراني، ثنا زياد -يعني ابن يونس-، حدثني سليمان بن بلال، عن ربيعة، بإسناد أبي مصعب ومعناه. قال سليمان: فلقيت سهيلًا فسألته عن هذا الحديث؟ فقال: ما أعرفه، فقلت: إن ربيعة أخبرني به عنك قال: فإن كان ربيعة أخبرك به عني، فحدث به عن ربيعة عني. ومثل هذا الحديث لا تثبت به شريعة مع إنكار من روى عنه إياه، وفقد معرفته به.
فإن قلت: يجوز أن يكون رآه ثم نسيه.
قلت: يجوز أن يكون قد وهم في أول الأمر وروى ما لم يكن سمعه، وقد علمنا أن آخر أمره كان جحوده؛ وفقد العلم به، فهو أولى.
وأما حديث زيد بن ثابت؛ فمنكر أيضًا، وقد استوفينا الكلام فيه فيما مضى.
وأما حديث جابر فإنه معلول أيضًا؛ لأن عبد الوهاب هو الذي أوصله وأسنده، وخالف فيه الحافظ مثل مالك والثوري وابن عيينة وعمرو بن دينار والحكم بن عتيبة، فإنهم رووه مرسلًا، والخصم لا يحتج بعبد الوهاب في ما يخالف فيه الثوري وأضرابه، على أن ابن معين قال: اختلط عبد الوهاب في آخر عمره.
وقال ابن سعد: هو ثقة، وفيه ضعف. وقال ابن مهدي: أربعة كانوا يحدثون من كتب الناس ولا يحفظون ذلك الحفظ، فذكر منهم عبد الوهاب.
وقال ابن عبد البر: إرساله أشهر، ورواه الترمذي من حديث عبد الوهاب موصولًا، ثم أخرجه من حديث إسماعيل بن جعفر، عن جعفر، عن أبيه مرسلًا، ثم قال: وهذا أصح.
وكذا روى الثوري عن جعفر عن أبيه مرسلًا. ولهذا ذكر البيهقي في كتاب "المعرفة" أن الشافعي لم يحتج بهذا الحديث في هذه المسألة؛ لذهاب بعض الحفاظ إلى كونه غلطًا.
ص: ثم لو لم ينازع في طريق هذا الحديث، وسلمت على هذه الألفاظ التي قد رويت عليها، لكانت محتملة للتأويل الذي لا يقوم لكم بمثلها حجة معه؛ وذلك أنكم إنما رويتم أن رسول الله قضى باليمين مع الشاهد الواحد، ولم يُبَيِّن في هذا الحديث كما كان ذلك السبب، ولا المستحلف من هو؛ فقد يجوز أن يكون ذلك على ما ذكرتم، ويجوز أن يكون أريد به يمين المدعى عليه، ادعى المدعي ولم يقم على دعواه إلا شاهدًا واحدًا، فاستحلف له النبي عليه السلام المدعى عليه فروى ذلك ليعلم الناس أن المدعي لا يجب له اليمين على المدعى عليه إلا بحجةٍ أخرى غير الدعوى
لا يجب له اليمين إلا بها، كما قال قوم: إن المدعي لا يجب له اليمين فيما ادعى إلا أن يقيم البينة أنه قد كانت بينه وبين المدعي عليه خلطة ولبس؛ فإن أقام على ذلك بَيِّنة استحلف له، ولا لم يستحلف. فأراد الذي روى هذا الحديث أن ينفي هذا القول، ويثبت اليمين بالدعوى وإن لم يكن مع الدعوى غيرها، فهذا وجه.
ش: هذا جواب آخر عن الأحاديث المذكورة بطريق التسليم، تقريره أن يقال: سلمنا صحة هذه الأحاديث وسلامة طرقها عن ما ذكرنا، ومجيئها على الألفاظ التي رويت عليها، ولكنها تحتمل التأويل الذي يدفع به الاحتجاج بها، وذلك أنكم رويتم أنه عليه السلام قضى باليمين مع الشاهد الواحد، ولم يبين فيه كيفية السبب، ولا بين الذي يستحلف من هو؛ فقد يجوز أن يكون المستحلف هو المدعي كما ذهبتم إليه، ويجوز أن يكون هو المدعي عليه إذا لم يقم المدعي إلا شاهدًا واحدًا؛ فيكون النبي عليه السلام قد استحلف المدعي عليه لعدم كمال النصاب في بينة المدعي، فروى الراوي ذلك كذلك حتى يعلم الناس أن اليمين إنما يتعين على المدعي عليه بدعوى المدعي لا بحجة أخرى من غير دعواه، كما ذهبت إليه طائفة من أهل العلم، وهم الشعبي والنخعي وشريح في قول؛ فإنهم قالوا: لا يحب اليمين للمدعي على المدعي عليه فيما ادعاه إلا إذا أقام البينة أنه قد كانت بينهما خلطة، فإن أقام بينة على ذلك استحلف له وإلا لا.
فأراد إذًا الراوي بقوله: "قضى رسول الله عليه السلام بيمين وشاهد" نَفْيَ هذا القول وإثبات اليمين بالدعوى، وإن لم يكن معها غيرها. هذا ما ذكره الطحاوي، وقد يقال يحتمل أن يراد به أن وجود الشاهد الواحد لا يمنع استحلاف المدعي عليه، وأنه يستحلفه مع شهادة شاهد؛ فأفاد أن شهادة الواحد لا تمنع استحلاف المدعي عليه، وأن وجوده وعدمه بمنزلة.
قال الجصاص -في هذا الموضع-: وقد كان يجوز أن يظن ظان أن اليمين إنما يجب على المدعي عليه إذا لم يكن للمدعي شاهد أصلًا؛ فأبطل الراوي بنقله لهذه القضية ظن الظان بذلك.
ص: وقد يجوز أن يكون ذلك أريد به يمين المدعي مع شاهده الواحد؛ لأن شاهده الواحد كان ممن يحكم بشهادته وحده وهو خزيمة بن ثابت رضي الله عنه؛ فإن رسول الله عليه السلام قد كان عدل شهادته بشهادة رجلين.
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني عمارة بن خزيمة الأنصاري، أن عمه حدثه -وهو من أصحاب النبي عليه السلام "أن رسول الله ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي عليه السلام المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس لا يشعرون أن النبي عليه السلام ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه به النبي عليه السلام، فنادى الأعرابي النبي عليه السلام، فقال: إن كنت مبتاعًا لهذا الفرس فابتعْهُ وإلا بعْتَهُ، فقام النبي عليه السلام حين سمع نداء الأعرابي فقال: أو ليس قد ابتعته منك؟ فقال الأعرابي: لا والله ما بعتك، فقال النبي عليه السلام: بلى قد ابتعته منك، فطفق الناس يلوذون بالنبي عليه السلام والأعرابي وهما يتراجعان، وطفق الأعرابي يقول: هَلَمَّ شاهدًا يشهد لك أني قد بايعتك فمن جاء من المسلمين قال: يا أعرابي، ويلك، إن النبي عليه السلام لم يكن يقول إلا حقًّا، حتى جاء خزيمة رضي الله عنه، فاستمع لمراجعة النبي عليه السلام ومراجعة الأعرابي وهو يقول: هلم شهيدًا يشهد لك أني قد بايعتك، فقال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي عليه السلام على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله عليه السلام شهادة خزيمة بشهادة رجلين".
فلما كان ذلك الشاهد الذي ذكرنا قد يجوز أن يكون هو خزيمة بن ثابت، فيكون المشهود له شهادة واحدة مستحقًّا؛ لما شُهِدَ له به كما يستحق غيره بالشاهدين ما شهدا له به، فادعى المدعى عليه الخروج من ذلك الحق إلى المدعى، فاستحلفه به النبي عليه السلام على ذلك، وأريد بنقل هذا الحديث ليعلم أن المدعي إذا أقام البينة على دعواه، وادعى المدعى عليه الخروج من ذلك الحق إليه أن عليه اليمين مع بينته، فهذه وجوه تحملها ما جاء عن النبي عليه السلام من قضائه باليمين مع الشاهد، فلا ينبغي لأحد
أن يأتي إلى خبر قد احتمل هذه التأويلات فيعطفه على أحدها بلا دليل يدله على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع، ثم يزعم أن من خالف ذلك مخالف لما روي عن النبي عليه السلام[وكيف يكون مخالفًا لما قد روي عن رسول الله](1) وقد تأول ذلك على معنى يحتمل ما قال؟! بل ما خالف إلا تأويل مخالفه لحديث رسول الله عليه السلام ولم يخالف شيئًا من حديث رسول الله عليه السلام.
ش: هذا جواب آخر عن الأحاديث المذكورة التي فيها الإخبار عن القضاء بيمين وشاهد واحد، وهو تأويل حسن يقع به التطابق بين الكتاب والسنة، وما ذهب إليه الخصم يؤدي إلى ترك العمل بالكتاب والسنة المجتمع عليها.
بيان ذلك أن يقال: يجوز أن يكون المراد من قوله: "قضي باليمين مع الشاهد" هو يمين المدعي مع شاهده الواحد؛ لأن شاهده الواحد كان يقوم مقام الشاهدين وهو خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه؛ وذلك لأنه عليه السلام قد كان عدل شهادته بشهادة رجلين وذلك فيما أخرجه بإسناد صحيح عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عمارة بن خزيمة ابن ثابت، وثقه النسائي وابن حبان، وروي له الأربعة.
عن عمه خزيمة بن ثابت الصحابي رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، حدثني عمارة بن خزيمة، أن عمه حدثه -وهو من أصحاب رسول الله عليه السلام:"أن النبي عليه السلام ابتاع فرسًا. . . ." إلى آخره.
وأخرج الطبراني (3) من حديث خزيمة بن ثابت، ثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة (ح).
(1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(2)
"مسند أحمد"(5/ 215 رقم 21933).
(3)
"المعجم الكبير"(4/ 87 رقم 3730).
وحدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة (ح).
وحدثنا محمَّد بن عبد الله الحضرمي، ثنا ليث بن هارون العكلي، قالوا: ثنا زيد بن الحباب، حدثني محمَّد بن زرارة بن خزيمة بن ثابت، حدثني عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام اشترى فرسًا من سواء بن الحارث، فجحده، فشهد له خزيمة بن ثابت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا؟! قال: صدقتك لما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلا حقًّا، فقال رسول الله عليه السلام: من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه".
قوله: "ابتاع فرسًا من أعرابي" أي اشترى، واسم هذا الفرس: المترجز، من الارتجاز؛ سُمي بذلك؛ لحسن صهيله، كأنه ينشد رجزًا، واسم الأعرابي سواء بن الحارث، ويقال: هو سواء بن قيس المحاربي، وقد فرق بينهما ابن شاهين فجعل لكل منهما ترجمة وهما واحد، وقد ذكره ابن منده وأبو نعيم في الصحابة.
قوله: "فاستتبعه" أي استتبع النبي عليه السلام الأعرابي بأن قال له: اتبعني حتى أدفع إليك الثمن.
قوله: "فطفق رجال" طفق من أفعال المقاربة ملحق بأخذ وجعل في الدلالة على الشروع، وفيها ثلاث لغات: طَفِقَ بوزن سَمِعَ، قال الله تعالى:{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} (1)، وطَفَقَ بوزن ضَرَبَ، وطَبِقَ بكسر الباء الموحدة.
قوله: "فيساومون الفرس" أي يطلبون منه بيعه.
قوله: "لا يشعرون" جملة وقعت حالًا، أي لا يعلمون.
قوله: "إن كنت مبتاعًا" أي مشتريًا.
قوله: "يلوذون بالنبي عليه السلام" أي ينضمون به وبالأعرابي.
قوله: "هَلُمَّ شاهدًا" أي هات شاهدًا، وهو مركب من "ها" و"لم" من لممت الشيء إذا جمعته، ويستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، ويجيء
(1) سورة الأعراف، آية:[22].
متعديًا ولازمًا، فالمتعدي نحو قوله: هلم شاهدًا، قال الله تعالى:{قُل هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} (1) واللازم نحو: هلم لك وهلم لكما وهلم لكم، قال الله تعالى {هَلُمَّ إِلَينَا} (2).
قوله: "فبم تشهد" أصله: فبما حذفت منه الألف كما في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاَءَلُونَ} (3).
قوله: "فلما كان ذلك الشاهد" أراد به الشاهد المذكور في متن الأحاديث المذكورة.
قوله: "فهذه وجوه يحتملها ما جاء عن النبي عليه السلام" أراد بها الوجوه التي ذكرها من التأويلات في قوله: "قضى باليمين مع الشاهد".
قوله: "فيعطفه على أحدها" أي فيعطف الخبر على أحد التأويلات.
قوله: "على ذلك" أي على التأويل الذي تأوله، والباقي ظاهر.
ص: وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه قال:"إذا بلغكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فَظنُوُّا به الذي هو أهنا، والذي هو أهدى، والذي هو أتقى، والذي هو خير".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وأبو الوليد، قالا: ثنا شعبة، عن عمرو. . . . فذكر بإسناده مثله. غير أنه لم يقل:"والذي هو خير".
فهكذا ينبغي للناس أن يفعلوا، وأن يحسنوا تحقيق ظنونهم، ولا يقولوا على رسول الله عليه السلام إلا بما قد علموه؛ فإنهم منهيون عن ذلك معاقبون عليه، وكيف يجوز لأحد أن يحمل حديث رسول الله عليه السلام على ما حمله عليه هذا المخالف، وقد وجدنا
(1) سورة الأنعام، آية:[150].
(2)
سورة الأحزاب، آية:[18].
(3)
سورة النبأ، آية:[1].
كتاب الله عز وجل لدفعه، ثم السنة المجمع عليها تدفعه أيضًا، فأما كتاب الله عز وجل فإن الله يقول:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (1) وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2)، وقد كانوا قبل نزول هاتين الآيتين لا ينبغي لهم أن يقضوا بشهادة ألف رجل ولا أكثر منهم ولا أقل؛ لأنه لا يوصل بشهادتهم إلى حقيقة صدقهم، فلما أنزل الله عز وجل ما ذكرنا قطع بذلك العذر وحكم بما أمر به على ما تعبد به خلقه، ولم يحكم بما هو أقل من ذلك؛ لأنه لم يدخل فيما تُعبدوا به، وأما السنة المتفق عليها فهي أنه لا يحكم بشهادة جارٍّ إلى نفسه مغنمًا ولا دافع عنها مغرمًا، والحكم باليمين مع الشاهد على ما حمل عليه هذا المخالف لنا حديث رسول الله عليه السلام فيه حكم لمدع بيمينه؛ فذلك حكم لجارٍّ إلى نفسه بيمينه، فهذه سنة متفق عليها تدفع الحكم باليمين مع الشاهد على ما قد دفعه مما قد ذكرنا من كتاب الله والسنة المتفق عليها، لا إلى ما يخالفهما أو يخالف أحدهما.
ش: ذكر أثر علي رضي الله عنه شاهدًا لقوله: "فلا ينبغي لأحد أن يأتي إلى خبر. . . ." إلى آخره.
وأخرجه بإسناد صحيح من طريقين رجالها ثقات:
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري، عن مسعر بن كدام الكوفي، عن عَمرو بن مرة بن عبد الله الكوفي الأعمى، عن أبي البختري -بفتح الباء الموحدة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح التاء المثناة من فوق، وكسر الراء- واسمه سعيد بن فيروز الطائي الكوفي، عن أبي عبد الرحمن السلمي واسمه عبد الله بن حبيب، ولأبيه صحبة.
وأخرجه ابن ماجه (3): عن محمَّد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن. . . . به نحوه.
(1) سورة البقرة، آية:[282].
(2)
سورة الطلاق، آية:[2].
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 9 رقم 20).
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي -شيخ البخاري، كلاهما عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري. . . . إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يحيى بن سعيد، عن مسعر، ثنا عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه قال:"إذا حُدثتم عن رسول الله عليه السلام فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه".
قوله: "فَظُنوا به" أي استيقنوا به؛ لأن الظن يجيء بمعنى العلم، قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
…
سراتهم في الفارسي المسرَّد
أي استيقنوا، وإنما يخوف عدوه باليقين لا بالشك.
قوله: "أهنا" أي أطيب وأقرب إلى الاتباع.
قوله: "وأهدي" أي إلى الصواب.
قوله: "وأتقى" أي في العمل.
فقد دل هذا على أن الواجب على الرجل إذا بلغه الحديث وله تأويلات أو معاني كثيرة لا يصرف تأويله أو معناه إلا إلى معنى يوافق الكتاب أو سنة أخرى أو الإجماع، فإذا صرفه إلى غير ذلك يكون مخالفًا لما قصده النبي عليه السلام، وصارفًا معناه إلى غير ما قصده، فيكون كاذبًا فيه، فيدخل تحت قوله:"من كذب على متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار"(2).
قوله: "هذا المخالف" أراد به الشافعي، والواو في قوله:"وقد وجدنا" للحال.
قوله: "جارٍّ" بتشديد الراء من جَرَّ يَجُرُّ.
(1)"مسند أحمد"(1/ 122 رقم 986).
(2)
متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، البخاري (1/ 434 رقم 1229)، ومسلم (1/ 10 رقم 4).
ص: ولقد روي عن رسول الله عليه السلام ما يدفع القضاء باليمين مع الشاهد على ما أدعى هذا المخالف لنا.
حدثنا إبراهيم بن مرزوق ومحمد بن خزيمة، قالا: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن علقمة، عن وائل بن حجر قال:"كنت عند رسول الله عليه السلام فأتاه رجلان يختصمان في أرض، فقال أحدهما: إن هذا يا رسول الله انتزى على أرضه في الجاهلية -وهو امرئ القيس بن عابس الكندي، وخصمه ربيعة بن عبدان- فقال له: بيِّنتكَ، فقال: ليس لي بَيِّنة، قال: لك يمينه، [قال] (1) إذًا يذهب بها، قال؛ ليس لك منه إلا ذلك، فلما قام ليحلف؛ قال رسول الله عليه السلام: من اقتطع أرضًا ظالمًا لقي الله وهو عليه غضبان".
حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن أبيه قال:"جاء رجل من حضرموت ورجل من كنده إلى رسول الله عليه السلام، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لي، فقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال رسول الله عليه السلام للحضرمي: ألك بيِّنة؟ فقال: لا، فقال النبي عليه السلام: فأحلفه، فقال: إنه ليس له يمين، فقال رسول الله عليه السلام: ليس لك منه إلا ذلك، فانطلق لِيُحْلِفَهُ، فقال رسول الله عليه السلام: أما إنه إن حلف على مالك ظالمًا ليأكله؛ لقي الله عز وجل وهو عنه معرض".
حدثنا فهد، قال: ثنا جندل بن والق، قال: ثنا أبو الأحوص. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي".
قال أبو جعفر رحمه الله: فلما قال رسول الله عليه السلام: بينتك أو يمينه ليس لك منه إلا ذلك، دل على أنه لا يستحق شيئًا بغير البينة، فهذا ينفي القضاء باليمين مع
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
الشاهد، والذي هو أولى بنا أن نحمل وجه ما اختلف فيه تأويله من الحديث الأول على ما يوافق هذا لا على ما يخالفه، وقد قال رسول الله عليه السلام:"لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" فدل ذلك أن اليمين لا يكون أبدًا إلا على المدعى عليه، وقد ذكرنا ذلك بالإسناد فيما تقدم من هذا الكتاب.
ش: ذكر هذا لبيان خطأ ما ذهب أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من جواز القضاء باليمين مع الشاهد، وهو حديث وائل ابن حجر الحضرمي الكندي الصحابي.
وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق ومحمد بن خزيمة، كلاهما عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن عبد الملك بن عمير بن سويد الكوفي، عن علقمة بن وائل، عن أبيه وائل ابن حجر رضي الله عنه.
وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني (1): من حديث علقمة بن وائل، عن أبيه نحوه.
قوله: "فأتاه رجلان يختصمان" وقد بينهما بقوله: "وهو امرئ القيس: بن عابس الكندي، وخصمه ربيعة بن عبدان".
أما امرئ القيس: فهو ابن عابس بن المنذر بن امرئ القيس الكندي، وفد إلى النبي عليه السلام فأسلم وثبت على إسلامه ولم يرتد فيمن ارتد من كندة وكان شاعرًا وله.
وأما ربيعة فهو ابن عبدان بن وائل بن ذي العرف بن وائل بن ذي طوف الحضرمي ويقال: الكندي. قاله ابن يونس، شهد فتح مصر وله صحبة وليست له رواية. وعبدان بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون، وقال عبد الغني: وقيل: عبدان بالباء الموحدة وبكسر العين.
(1)"معرفة الصحابة"(2/ 1099 رقم 2774).
الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن يوسف بن عدي الكوفي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن سماك بن حرب، عن علقمة. . . . إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1) وأبو داود (2) والنسائي (3).
قوله: "فجاء رجل من حضرموت ورجل من كندة" قد بينهما الطبراني (4) في تخريجه: ثنا أحمد بن داود المكي وأبو خليفة، قالا: ثنا إبراهيم بن أبي سويد، ثنا إبراهيم بن عثمان، ثنا عبد الملك بن عمير، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال:"اختصم الأشعث بن قيس الكندي ورجل من حضرموت إلى رسول الله عليه السلام في أرض في يد الأشعث بن قيس الكندي ادعاها الحضرمي، فقال رسول الله عليه السلام للحضرمي: بينتك، قال: ليس لي بينة، قال: فإن لم تكن لك بينة حَلِّف الأشعث، قال: هلك حقي يا رسول الله إن جعلتها يمين الأشعث: فقال رسول الله عليه السلام: من حلف على يمين وهو فيها كاذب ليقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان".
الثالث: عن فهد بن سليمان، عن جندل بن والق بن هجرس الكوفي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن أبي الأحوص سلام، عن سماك، عن علقمة.
وأخرجه الترمذي: (5) ثنا قتيبة، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل بن حجر، عن أبيه قال: "جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي عليه السلام، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرضٍ لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي وليس له فيها حق، فقال النبي عليه السلام للحضرمي:
(1)"صحيح مسلم"(1/ 123 رقم 139).
(2)
"سنن أبي داود"(3/ 221 رقم 3245).
(3)
"السنن الكبرى"(3/ 484 رقم 5989).
(4)
"المعجم الكبير"(22/ 18 رقم 24).
(5)
"جامع الترمذي"(3/ 625 رقم 1340).
ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي ليأكله ظلما على ما حلف عليه، وليس يتورع عن شيء، قال: ليس لك منه إلا ذلك، قال: فانطلق الرجل ليحلف، فقال رسول الله عليه السلام لما أدبر: لئن حلف على مالك ليأكله ظلما ليأتين الله وهو عنه معرض".
قوله: "انتزى على أرضه" أي غلبه عليها وأخذها منه قهرًا، يقال: نزى عليه ينزو إذا تطاول، وأنزى فلان بفلان إذا غلبه وقهره وهو منزٍ بهذا الأمر أي قوي عليه ضابط له.
قوله: "بينتك" بنصب التاء على حذف عامله، والتقدير: هات بينتك.
قوله: "من اقتطع" أي من أخذها لنفسه متملكًا، وهو افتعال من القطع.
قوله: وقد قال رسول الله عليه السلام: "لو يعطى الناس بدعواهم. . . ." الحديث.
أخرجه البخاري (1) ومسلم (2) وأخرجه الطحاوي في باب الرجل يقول عند موته: إن مت ففلان قتلني، على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: كيف قال: "فيما تقدم من هذا الباب" والحال أنه فيما بعد ولم يتقدم؟
قلت: كأن الباب المذكور قد كان متقدمًا في المسودة وأخرّه في المبيضة، أو ترتيب الأبواب يختلف، وهو الظاهر على ما شاهدنا من النسخ والله أعلم.
ص: وأما النظر في هذا فإنه يغنينا عن ذكر أكثره فساد قول الذين ذهبوا إلى القضاء باليمين مع الشاهد فجعلوا ذلك في الأموال خاصة دون سائر الأشياء، فلما ثبت أنه لا يقضى بيمين وشاهد في غير الأموال؛ كان حكم الأموال في النظر كذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي وأما القياس في هذا الباب، فإنه. . . . إلى آخره.
(1)"صحيح البخاري"(4/ 1656 رقم 4277).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1336 رقم 1711).
حاصله أن ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى فاسد من جهة القياس أيضًا؛ لأنهم اتفقوا على بطلان القضاء باليمين والشاهد في غير الأموال، مع أن القصة المروية في الشاهد واليمين ليس فيها أنها كانت في الأموال أو غيرها، كان القياس يقتضي أن يكون حكم الأموال كغيرها، وتخصيصهم إياه بالأموال ترجيح بلا دليل وهو باطل.
فإن قيل: قال عمرو بن دينار: "في الأموال" أخرج البيهقي ذلك في "الخلافيات" وغيرها (1) وقال: أنا أبو عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن القاضي، قالا: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، نا الربيع بن سليمان: ثنا الشافعي، ثنا عبد الله بن الحارث المخزومي، عن سيف بن سليمان، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام قضي باليمين مع الشاهد" قال عمرو: "في الأموال".
قلت: هو قول عمرو بن دينار ومذهبه، وليس فيه أن النبي عليه السلام قضي بها في الأموال.
وقال ابن حزم: قال الشافعي في بعض الآثار أن النبي عليه السلام حكم بذلك في الأموال وهذا لا يوجد أبدًا في شيء من الآثار الثابتة، والواجب أن يحكم بها في الدماء والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة والأموال حاشي الحدود؛ لأن ذلك عموم الأخبار، ولم يأت في شيء من الأخبار منع من ذلك.
وقال الجصاص: فإذا جاز أن [لا](2) يقضى به في غير الأموال، وإن كانت القضية مبهمة ليس فيها بيان ذكر الأموال ولا غيرها ولا ذكر الواقعة ولا بيان أسماء الخصمين فكذلك لا يقضى بها في الأموال، إذا لم يبين كيفيتها، وليس القضاء بها في الأموال بأولى منه في غيرها.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 167 رقم 20422).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 254).
فإن قيل: إنما يقضى به فيما تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وهو الأموال، فتقوم يمين الطالب مقام شاهد واحد مع شهادة الآخر.
قيل له: [هذه](1) دعوى لا دلالة عليها، ومع ذلك فكيف صارت يمين الطالب قائمة مقام شاهد واحدٍ دون أن تقوم مقام امرأة.
ويقال لهم: أرأيت لو كان المدعي امرأة هل يقوم يمينها مقام شهادة رجل؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فقد صارت اليمين آكد في الشهادة لأنكم لا تقبلون شهادة امرأة واحدة في الحقوق، وقبلتم يمينها وأقمتموها مقام شهادة رجل واحد، والله تعالى إنما أمرنا بقبول من نرضى من الشهداء وإن كانت هذه الشهادة لو قامت يمينها مقام شهادة لرجل فقد خالفهم القرآن؛ لأن أحدًا لا يكون مرضيًّا فيما يدعيه لنفسه، ومما يدل على تناقض قولهم: أنه لا خلاف أن شهادة الكافر غير مقبولة على المسلم في عقود المداينات، وكذلك شهادة الفاسق غير مقبولة، ثم إن كان المدعي كافرًا أو فاسقًا وشهد معه شاهد واحد، أيستحلف ويستحق ما يدعيه بيمينه وهو لو شهد مثل هذه الشهادة لغيره وحلف عليها خمسين يمينًا فلم تقبل شهادته ولا أيمانه، وإذا ادعى لنفسه وحلف استحق ما ادعى بقوله، مع أنه غير مرضي ولا مأمون لا في شهادته ولا في أيمانه، وفي ذلك دليل على بطلان قولهم وتناقض مذهبهم.
ص: وقد حدثنا وهبان، قال: ثنا أبو همام، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري:"أن معاوية رضي الله عنه أول من قضى باليمين مع الشاهد، وكان الأمر على غير ذلك".
ش: أشار بذلك إلى أن محمَّد بن مسلم الزهري قد أنكر القضاء باليمين وشاهد حيث قال: "وكان الأمر على غير ذلك" وروى ابن حزم عن الزهري ولفظه قال: "هو بدعة مما أحدثه الناس، أول من قضي به معاوية" وقال عطاء بن أبي رباح "أول من قضي به عبد الملك بن مروان".
(1) في "الأصل، ك": "هذا"، والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص.
وأخرجه الطحاوي عن وهبان بن عثمان، عن أبي همام الوليد بن شجاع شيخ مسلم وأبي داود وآخرين، عن عبد الله بن المبارك، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره.
فإن قيل: كيف قال الزهري إن معاوية أول من قضى باليمين مع الشاهد وقد روي البيهقي في "سننه"(1) من حديث أبي عاصم، عن أبي بكر بن أبي سبرة، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عامر:"حضرت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يقضون بشهادة الشاهد واليمين".
وروي أيضًا (2) من حديث طلحة بن زيد، ثنا جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه "أن رسول الله عليه السلام وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقضون بشهادة الشاهد الواحد ويمين المدعي، قال جعفر: والقضاة يقضون بذلك عندنا اليوم".
قلت: أبو بكر بن أبي سبرة ضعيف قد ضعفه البيهقي في باب وطء أم الولد، وقال أحمد: كان يضع الحديث، وذكره الذهبي في كتاب "الضعفاء"، وقال في "مختصر السنن": أبو بكر تركوه. وكذا قال: وطلحة بن زيد متروك. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج بخبره. وقال الدارقطني: ضعيف الحديث. ومن يكون حاله هذا كيف يجوز الاستدلال به في المذهب؟! فيا للعجب من البيهقي، يستدل في كتابه "السنن" بمن هو ضعيف فيصرح بضعفه في باب ويسكت عنه في باب آخر ويحتج به! ثم هو يحطّ على الطحاوي بأنه يستدل بالضعفاء، ومع هذا لا يذكر الطحاوي أحاديث الضعفاء إلا في الشواهد والمتابعات، أو في احتجاجات الخصوم؛ يظهر ذلك لمن يتأمل كلامه.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 173 رقم 20461).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 173 رقم 20460).