الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الصدقات الموقوفات
ش: أي: هذا باب من بيان أحكام الصدقات الموقوفة.
الوقف في اللغة: الحبس، يقال: وقفت الدابة إذا حبستها على مكانها، وفي الشرع: الوقف حبسُ عينٍ على ملك الواقف وتصدق بالمنفعة، وقد ذكرنا في الباب السابق أن اللغة الفصيحة وقفت، ولا يقال: أوقفت بالهمزة إلا على لغة ردية.
ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، وسعيد بن سفيان الجحدري، قالا: ثنا ابن عون، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر:"أن عمر رضي الله عنه أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي عليه السلام فقال: إنى أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالًا قط أحسن منها، فكيف تأمرني؟ فقال: إن شئت حبست أصلها لا تباع ولا توهب -قال أبو عاصم: فأراه قال: ولا تورث- فتصدق بها في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها غير متمول. قال: فذكرت ذلك لمحمد فقال: غير متأثل".
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا عمي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن عبد العزيز بن مطلب، عن يحيى بن سعيد، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر:"أن عمر رضي الله عنه استشار النبي صلى الله عليه وسلم في أن يتصدق بماله بثمغ، فقال رسول الله عليه السلام: تصدق به، يقسم تمره ويحبس أصله، لا يباع ولا يوهب".
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن يزيد بن سنان القزاز عن أبي عاصم النبيل الضحاك ابن مخلد شيخ البخاري، وعن سعيد بن سفيان الجحدري نسبة إلى جحدر اسم رجل، وهو ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكانة بن معبد بن علي بن بكر بن وائل البصري، قال أبو حاتم: محله الصدق. روي له الترمذي.
وهما يرويان عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، روي له الجماعة.
عن نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وأخرجه البخاري (1): نا مسدد، ثنا يزيد بن زريع، قال: نا ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أصاب عمر رضي الله عنه بخيبر أرضًا، فأتى النبي عليه السلام فقال: أصبت أرضًا لم أصب مالًا قط أفضل منه، فكيف تأمرني؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر رضي الله عنه أنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث، في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه.
وأخرجه (2) عن أبي عاصم، عن ابن عون أيضًا مختصرًا.
وأخرجه مسلم (3): عن يحيى بن يحيى، قال: أنا سليم بن جعفر، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال:"أصاب عمر رضي الله عنه أرضًا بخيبر، فأتى النبي عليه السلام يستشيره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر رضي الله عنه أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه". قال: فحدثت بهذا الحديث محمدًا، فلما بلغت هذا المكان "غير متمول" قال محمَّد:"غير متأثل مالًا"، قال ابن عون: وأنبأني من قرأ هذا الكتاب أن فيه: "غير متأثل مالًا".
وأخرجه النسائي (4): عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي داود الحفري عمر بن سعد، عن الثوري، عن ابن عون، عن نافع.
(1)"صحيح البخاري"(3/ 1019 رقم 2620).
(2)
"صحيح البخاري"(3/ 1020 رقم 1621).
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1255 رقم 1632).
(4)
"المجتبى"(6/ 230 رقم 3597).
وعن هارون (1) بن عبد الله، عن معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن ابن عون، عن نافع.
وعن إسماعيل (2) بن مسعود، عن بشر، عن ابن عون، عن نافع.
وعن إسحاق (3) بن إبراهيم، عن أزهر السمان، عن ابن عون، عن نافع.
الطريق الثاني: عن أحمد بن عبد الرحمن، عن عمه عبد الله بن وهب المصري. . . . إلى آخره.
وأخرجه البيهقي (4): من حديث ابن وهب: أخبرني إبراهيم بن سعد إلى آخره نحوه.
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(5): ثنا محمَّد بن عبد الله بن زكرياء، نا أبو عبد الرحمن النسائي، نا محمَّد بن مصفى بن بهلول، نا بقية، عن سعيد بن سالم المكي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنه قال:"سألت رسول الله عليه السلام عن أرض من ثمغ فقال: حَبِّس أصلها وَسبِّل ثمرها".
قوله: "بخيبر" هي بلد بين عنزة في جهة الشمال والشرق عن المدينة على نحو ستة مراحل. "وخيبر" بلغه اليهود: الحصن، وقيل: أول من سكن فيها رجل من بني إسرائيل اسمه خيبر فسميت به، ولها نخيل كثير وكان في صدر الإِسلام دارًا لبني قريظة والنضير، وحكي عن الزهري أن خيبرًا فتحت في سنة ست من الهجرة، والصحيح أن ذلك كان في أول سنة سبع من الهجرة.
قوله: "فأراه" أي أظنه.
(1)"المجتبى"(6/ 230 رقم 3598).
(2)
"المجتبى"(6/ 231 رقم 3600).
(3)
"المجتبى"(6/ 231 رقم 3601).
(4)
"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 160 رقم 11672).
(5)
"سنن الدارقطني"(4/ 193 رقم 5).
قوله: "والقربى" على وزن فُعْلى -بالضم- مصدر في الأصل، تقول: بيني وبينه قرابة وقربي وقرب ومَقْرَبة ومَقْرُبة وقُرْبَة وقُرْبة بضم الراء وسكونها، قال الله تعالى:{وَلِذِي الْقُرْبَى} (1) أراد به هاهنا القرابة في الرحم.
قوله: "والرقاب" جمع رقبة، وفي معناها قولان:
أحدهما: أنهم المكاتبون يدفع إليهم شيء من الوقف تفك به رقابهم، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وجماعة.
والثاني: أنه العتق وذلك بالابتياع مَنْ بالوقف ثم العتق.
ويكون ولاؤهم لأصحاب الوقف إن كان له أهل.
قال مالك: سبيل الله كثيرة، وقال أبو يوسف، سبيل الله منقطع الغزاة، وقال محمَّد: منقطع الحاج، وبه قال أحمد وإسحاق.
قوله: "وابن السبيل" وهو الذي انقطعت به الأسباب في سفره، وغاب عن بلده وماله بحيث لا يقدر عليه.
قوله: "لا جناح على من وليها" أي لا إثم على من ولي الأرض الموقوفة وأراد به القَيِّم عليها والناظر في أمرها من جهة الواقف أو من جهة الإِمام.
قوله: "غير متمول" نصب على الحال، يقال: مال الرجل وتمول إذا صار ذا مال، وقد مَوَّله غيره، ويقال: رجل مال أي كثير المال، كأنه قد جعل نفسه مالًا، وحقيقته: ذو مال.
قوله: "غير متأثل" أي غير جامع، يقال: مال مؤثل، ومجد ماثل، أي مجموع ذو أصل، وأثلة الشيء أصله، ومنه ما جاء في حديث أبي قتادة أنه لأول مالٍ تأثلته.
قوله: "فذكرت ذلك لمحمد" أراد به محمَّد بن سيرين، والذاكر هو ابن عون.
قوله: "بثمغ" أي في ثَمَغ، وهو بفتح الثاء المثلثة والميم، وفي آخره غين معجمة، وهي بقعة على نحو ميل من المدينة، وكان بها مال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(1) سورة الحشر، آية:[7].
ويستنبط منه أحكام:
الأول: فيه أن الوقف مشروع؛ خلافًا لمن يبطله جملة، وهو قول شريح، ولا خلاف بين الجمهور في جواز الوقف في حق وجوب التصدق بالفرع ما دام الواقف حيًّا حتى إن من وقف داره أو أرضه يلزمه التصدق بغلة الدار والأرض، ويكون ذلك بمنزلة النذر بالتصدق بالغلة.
ولا خلاف أيضًا في جوازه في حق زوال ملك الرقبة إذا اتصل به قضاء القاضي، أو أضافه إلى ما بعد الموت بأن قال: إذا مُتُّ، فقد جعلت داري أو أرضي وقفًا على كذا، أو قال: هو وقف في حياتي صدقة بعد وفاتي.
واختلفوا في جوازه مزيلًا لملك الرقبة إذا لم توجد الإضافة إلى ما بعد الموت، ولا اتصل به حكم حاكم، فقال أبو حنيفة: لا يجوز حتى كان للواقف بيع الموقوف وهبته، وإذا مات يصير ميراثًا لورثته.
وقال أبو يوسف ومحمد وعامة العلماء: يجوز حتى لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ثم في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة لا فرق بينهما إذا وقف في حالة المرض حتى لا يجوز عنده في الحالين جميعًا إذا لم توجد الإضافة ولا حكم الحاكم، وروى الطحاوي عنه أنه إذا وقف في حالة المرض جاز عنده ويعتبر من الثلث، ويكون بمنزلة الوصية بعد وفاته، وأما عندهما فهو جائز في الصحة والمرض، وعلى هذا الخلاف إذا بنى رباطًا أو خانًا للمسافرين أو سقاية للمسلمين، أو جعل أرضه مقبرة، لا تزول رقبة هذه الأشياء عن ملكه عند أبي حنيفة إلا إذا أضاف إلى ما بعد الموت أو حكم به حاكم وعندهما يزول بدون ذلك، لكن عند أبي يوسف بنفس القول وعند محمَّد بواسطة التسليم، وذلك تسليم المسافرين في الرباط والخان واستسقاء الناس في السقاية والدفن في المقبرة، وأجمعوا على أن من جعل داره أو أرضه مسجدًا يجوز، وتزول الرقبة عن ملكه، لكن عزل الطريق وإفرازه والإذن للناس بالصلاة فيه والصلاة شرط عند أبي حنيفة ومحمد حتى كان له أن يرجع قبل
ذلك، وعند أبي يوسف تزول الرقبة عن ملكه بنفس قوله: جعلته مسجدًا وليس له أن يرجع عنه.
الثاني: احتج به الجمهور وأبو يوسف ومحمد على ما ذهبوا إليه، وقد ذكرناه مفصلًا.
الثالث: فيه أن الوقف لا يجوز بيعه ولا هبته ولا يصير ميراثًا؛ لأنه صار لله تعالى وخرج عن ملك الواقف، واختلفوا: هل يدخل في ملك الموقوف عليه أم لا؟
فقال أصحابنا: لا يدخل، لكنه ينتفع بغلته بالتصدق عليه؛ لأن الوقف حبس الأصل وتصدق بالفرع، والحبس لا يوجب ملك المحبوس كالرهن، وعن الشافعي ومالك وأحمد: ينتقل إلى ملك الموقوف عليه لو كان أهلًا له، وعن الشافعي في قول: ينتقل إلى الله تعالى. وهو رواية عن أصحابنا، وعن الشافعي أن الملك في رقبة الوقف لله تعالى، وذكر صاحب "التحرير" أنه إذا كان الوقف على شخص، وقلنا الملك للموقوف عليه افتقر إلى قبضه كالهبة، وقال النووي في "الروضة": هذا غلط ظاهر.
الرابع: فيه أن الوقف يجوز بلفظ: حبست، بل الأصل هذه اللفظة؛ لأن الوقف في اللغة الحبس.
وفي "الروضة": لا يصح الوقف إلا بلفظ، فلو بنى على هيئة المساجد أو على غير هيئتها وأذن في الصلاة فيه لم يصر مسجدًا وألفاظه على مراتب:
إحداها: قوله: وقفت كذا أو حبست أو سبَّلت، أو أرضي موقوفة، أو محبسة أو مسبلة، فكل لفظ من هذا صريح، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور وفي وجهٍ: هذا كله كناية، وفي وجه: الوقف صريح والباقي كناية.
الثانية: قوله: حرمت هذه البقعة للمساكين أو أَبَّدْتُها، أو داري محرمة، أو مؤيدة، كناية على المذهب.
الثالثة: تصدقت بهذه البقعة، ليس بصريح فإن زاد معه صدقة محرمة أو محبسة أو موقوفة؛ التحق بالصريح، وقيل: لابد من التقييد بأنها لا تباع ولا توهب، وقال الحنابلة: يصح الوقف بالقول، وفي الفعل الدال عليه روايتان، وألفاظه الصريحة: وقفت وحبست وسلبت، والكناية: تصدقت وحرمت وأبدت، وتحتاج الكناية إلى نية أو زيادة حكم الوقف، وإن كان على -أو من- معيَّن افتقر إلى قبول، كالوصية والهبة.
وقال القاضي: منهم لا يفتقر إلى قبوله كالعتق.
الخامس: فيه أن قيم الوقف له أن يتناول من غلة الوقف بالمعروف، ولا يأخذ أكثر من حاجته، هذا إذا لم يعين الواقف له شيئًا معينًا، فإذا عَيَّنَهُ، له أن يأخذ ذلك قليلًا أو كثيرًا. والله أعلم.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا وقف داره على ولده وولد ولده ثم من بعدهم في سبيل الله أن ذلك جائز، وأنها خرجت بذلك من ملكه إلى الله عز وجل، ولا سبيل له بعد ذلك إلى بيعها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وممن قال ذلك: أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وهو قول أهل المدينة والبصرة.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، منهم: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأهل الظاهر.
وممن قال بقولهم: أبو يوسف ومحمد، وروي ذلك عن عثمان وعلي بن أبي طالب والزبير وطلحة وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وخالد بن الوليد رضي الله عنهم.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، منهم: أبو حنيفة وزفر بن الهذيل فقالوا: هذا كله ميراث لا يخرج من ملك الذي أوقفه بهذا السبب.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: شريحًا وعطاء بن السائب وأبا بكر بن محمَّد وأبا حنيفة وزفر؛ فإنهم قالوا: الوقف غير لازم، وهو ميراث لا يخرج عن ملك الواقف.
ص: وكان من الحجة لهم في ذلك، أن رسول الله عليه السلام لما شاوره عمر رضي الله عنه في ذلك، قال له:"حَبِّس أصلها وَسبِّل الثمرة" فقد يجوز أن يكون ما أمره به من ذلك تخرج به من ملكه، ويجوز أن يكون ذلك لا يخرجها من ملكه ولكنها تكون جارية على ما أجراها عليه من ذلك ما تركها، ويكون له فسخ ذلك متى شاء، كرجل جعل لله عليه أن يتصدق بثمرة نخله ما عاش، فيقال له: أنفذ ذلك ولا يجبر عليه، ولا يؤخذ به إن شاء وإن أبى، ولكن إن أنفذ ذلك فحسن فإن منعه لم يجبر عليه وكذلك ورثته من بعده إن أنفذوا ذلك على ما كان أبوهم أجراه عليه فحسن، وإن منعوه ذلك كان ذلك لهم وليس في بقاء حبس عمر رضي الله عنه إلى غايتنا هذه مما يدل على أنه لم يكن لأحد من أهلهم نقضه فإنما الذي يدل على أنه ليس لهم نقضه لو كانوا خاصموا فيه بعد موته فمنعوا من ذلك، فلو كان ذلك لكان فيه لعمري ما يدل على أن الأوقاف لا تباع ولكن إنما جاء في تركهم لوقف عمر رضي الله عنه يجرى على ما كان عمر أجراه عليه في حياته ولم يبلغنا أن أحدًا منهم عرض فيه بشيء.
ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه؛ وأراد به: أن الذي احتج به أهل المقالة الأولى من قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه في لزوم الوقف غير تام، وبين ذلك بقوله: فقد يجوز أن تكون. . . . إلى آخره وهو ظاهر.
قوله: "لَعَمْرِي" بفتح اللام، وهو قسم في محل الرفع على الابتداء، وخبره محذوف تقديره لعمري قسمي أو ما أقسم به، وكذلك لعمرك قسمي.
ص: وقد روي عن عمر رضي الله عنه ما يدل على أنه قد كان له نقضه.
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن زياد بن سعد، عن ابن شهاب، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله عليه السلام-أو نحو هذا- لرددتها".
فلما قال عمر رضي الله عنه هذا، دل أن نفس الإيقاف للأرض لم يكن يمنعه من الرجوع فيها وأنه إنما منعه من الرجوع فيها أن رسول الله عليه السلام أمره فيها بشيء وفارقه
على الوفاء به، فكره أن يرجع عن ذلك كما كره عبد الله بن عمرو أن يرجع بعد موت رسول الله عن الصوم الذي كان فارقه عليه أنه يفعله، وقد كان له أن لا يصوم.
ش: ذكر هذا شاهدًا لما قاله من الكلام فيما تقدم.
وأخرجه بإسناد صحيح مرسل: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن زياد بن سعد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . . إلى آخره.
فإن قلت: قال ابن حزم: الخبر الذي ذكروه عن مالك منكر وبليَّة من البلايا، وكذب بلا شك، وما ندري من رواه عن يونس، ولا هو معروف من حديث مالك وَهَبْكَ لو سمعناه من الزهري لما وجب أن نتشاغل به، ولقطعنا بأنه سمعه ممن لا خير فيه كسليمان ابن أرقم وضربائه، ونحن نثبت ونقطع بأن عمر رضي الله عنه لم يندم على قبوله أمر رسول الله عليه السلام وما اختاره له من حبس أرضه وتسبيل ثمرتها، والله تعالى يقول:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) وليت شعري إلى أي شيء كان يصرف عمر تلك الصدقة لو ترك ما أمره عليه السلام فيها؟! حاشى لعمر من هذا.
قلت: هذا تهافت عظيم وكيف يكون هذا كذبًا ورواته من رجال الصحيح؟ وكيف لا يكون معروفًا من حديث مالك وقد روى عنه مثل عبد الله بن وهب، وروى عن عبد الله مثل يونس بن عبد الأعلى أحد مشايخ مسلم في "صحيحه"، وقد روى عن يونس مثل الطحاوي الإِمام؟!
قوله: "ونقطع بأن عمر لم يندم. . . ." إلى آخره. كلام صادر من غير رويّ لأنه ما ادعى أحد أن عمر رضي الله عنه ندم لأجل أمر رسول الله عليه السلام إياه بالصدقة والتحبيس، وإنما كان تدارك لنفسه ما صدر منه من ذكره صدقته لرسول الله عليه السلام؛ لأنه بعد ذكره له
(1) سورة الأحزاب، آية:[36].
لم يكن له رجوع عمَّا فارقه عليه، وذلك كما أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كره أن يرجع عن الصوم الذي فارق رسول الله عليه السلام عليه ومع هذا كان له أن لا يصوم، وهو صوم ثلاثة أيام من كل شهر.
ص: ثم هذا شريح رضي الله عنه وهو قاضي عمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قد روي عنه في ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف، عن عطاء بن السائب قال:"سألت شريحًا عن رجل جعل داره حبسًا على الآخر فالآخر من ولده فقال: إنما أقضي ولست أفتي، قال: فناشدته فقال: لا حبس عن فرائض الله".
فهذا لا يسع القضاة جهله، ولا يسع الأئمة تقليد من يجهل مثله، ثم لا ينكر عليه منكر من أصحاب رسول الله عليه السلام ولا من تابعيهم.
ش: ذكر هذا أيضًا تأييدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية.
وأخرجه بإسناد صحيح.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1) بأتم منه من حديث الحميدي: ثنا سفيان، ثنا عطاء بن السائب، قال:"أتيت شريحًا في زمن بشر بن مروان، فقلت: يا أبا أمية أفتني، فقال: يا ابن أخي إنما أنا أقضي ولست بمفت، قلت: إني والله ما جئت أريد خصومة، إن رجلًا من الحي جعل داره حبسًا، قال عطاء: فدخل من الباب الذي في المسجد في المقصورة فسمعته حين دخل وتبعته وهو يقول: فحسب الرجل تقدم إليه الخصومة، أجب الرجل، إنه لا حبس عن فرائض الله".
قوله: "لا حبس عن فرائض الله" أراد أنه لا يوقف مال ولا يزول عن ورثته ولا يمنع عن القسمة بينهم، والحبس بضم الحاء وفتحها، فبالضم الاسم، وبالفتح المصدر، يقال: حَبَسْتُ أَحبْسُ حَبْسًا وأَحْبَسْت أَحْبِسُ إحْبَاسًا، أي وقفت.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 162 رقم 11689).
فإن قيل: قال ابن حزم: قوله: لا حبس عن فرائض الله قول فاسد؛ لأنهم لا يختلفون في جواز الهبة والصدقة في الحياة، والوصية بعد الموت، وكل هذه مسقطة لفرائض الورثة.
قلت: لا نسلم أن هذه الأشياء تسقط فرائض الورثة، أما الهبة والصدقة فإنهما تكونان في حياة الرجل ففي ذلك الوقت لا فرائض للورثة، فكيف تسقطها؟.
وأما الوصية فإنها لا تنفذ إلا في الثلث، ففرائض الورثة في الثلثين؛ فافهم، بخلاف الحبس فإنه إذا حبس ماله ومات، فلو فرضنا لزوم هذا الحبس لكان قد أسقط فرائض الورثة.
ص: ثم قد روي عن ابن عباس عن النبي عليه السلام في ذلك أيضًا ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أخي عيسى، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"سمعت رسول الله عليه السلام-بعدما أنزلت سورة النساء وأنزل فيها الفرائض- نهى عن الحبس".
حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير وعمرو بن خالد، قالا: ثنا عبد الله بن لهيعة. . . . فذكر بإسناده مثله.
حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة. . . . فذكر بإسناده مثله.
حدثنا روح ومحمد بن خزيمة، قالا: قال لنا أحمد بن صالح: هذا حديث صحيح وبه أقول.
قال روح: قال لي أحمد: وحدثنيه الدمشقي -يعني عبد الله بن يوسف- عن ابن لهيعة.
فأخبر ابن عباس أن الأحباس منهي عنها غيره جائزة ولذا قد كانت قبل نزول الفرائض بخلاف ما صارت عليه بعد نزول الفرائض؛ فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.
ش: ذكر ما روي عن ابن عباس؛ تأييدًا لما قاله شريح رضي الله عنه.
وأخرجه من أربع طرق:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن أخيه عيسى بن لهيعة، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث يحيى بن يحيى، عن ابن لهيعة، عمن سمع عكرمة يحدث، عن ابن عباس أنه قال:"لما أنزلت الفرائض في سورة النساء قال رسول الله عليه السلام: لا حبس بعد سورة النساء".
الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن يحيى بن عبد الله بن بكير وعمرو بن خالد الحراني شيخ البخاري، كلاهما عن ابن لهيعة، عن أخيه، عن عكرمة.
وأخرجه ابن حزم (2) من طريق العقيلي، عن روح بن الفرج. . . . إلى آخره نحوه.
الثالث: عن عبد الرحمن بن الجارود بن عبد الله الكوفي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن ابن لهيعة إلى آخره.
وأخرجه الدارقطني (3): عن عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، عن كامل بن طلحة، عن ابن لهيعة، نحوه.
الرابع: عن روح بن الفرج، عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن يوسف الدمشقي، عن ابن لهيعة.
وأخرجه ابن حبان (4) في ترجمة عيسى بن لهيعة نحوه.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 162 رقم 11686).
(2)
"المحلى"(9/ 177).
(3)
"سنن الدارقطني"(4/ 68 رقم 3).
(4)
"الثقات"(7/ 234)، وكذا أخرجه العقيلي في ترجمة عيسى في "الضعفاء الكبير" (3/ 397) وقال: لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به.
فإن قيل: قال ابن حزم (1): هذا حديث موضوع، وابن لهيعة لا خير فيه وأخوه مثله وبيان وضعه: أن سورة النساء نزلت أو بعضها بعد أحد -يعني آية المواريث- وحُبْس الصحابة بعلم رسول الله عليه السلام بعد خيبر، وبعد نزول المواريث في سورة النساء وهذا أمر متواتر جيلًا بعد جيل، ولو صح هذا الخبر لكان منسوخًا باتصال الحبس بعلمه عليه السلام إلى أن مات. انتهى.
وقال الدارقطني: لم يسند هذا الحديث غير ابن لهيعة عن أخيه، وهما ضعيفان، وقال البيهقي في "الخلافيات" والمشهور أنه قول شريح، وابن لهيعة وأخوه ضعيفان.
قلت: قوله: هذا حديث موضوع عَسْفٌ عظيم غير مقبول منه، وكيف يكون موضوعًا وليس في رواته من يتهم بالوضع، ولا فيه أمارة من الأمارات التي يثبت بها الوضع؟! فإن كان هذا من أجل ابن لهيعة عن أخيه فابن لهيعة في نفسه صادق، فقد قال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقًا، وقال في موضع آخر: وحدثني الصادق البار والله ابن لهيعة.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة.
وعنه: من مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه. ولهذا حدث عنه أحمد في "مسنده" بحديث كثير.
وقال ابن حبان: كان صالحًا، غاية ما في الباب أنه قد اشتهر بالضعف عند أكثر الناس؛ لأنه كان يدلس عن الضعفاء واحترقت كتبه.
وكان ابن حبان يقول: كان أصحابنا يقولون: سماع من سمع منه قبل احتراق كتبه مثل العبادلة: عبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد، وعبد الله بن مسلمة القعنبي صحيح، وقد قال مثل أحمد بن صالح المعروف بابن الطبري الحافظ الكبير المشهور المصري أحد مشايخ البخاري وأبي داود: هذا حديث
(1)"المحلى"(9/ 178).
صحيح وبه أقول. وكفى به شهيدًا، ولو لم تثبت عنده صحة هذا الحديث ووضوح طريقه وسلامة إسناده من الكدر لما حكم فيه بالصحة.
وإن كان هذا من أجل أخيه عيسى بن لهيعة فإن ابن حبان ذكره في الثقات وأدخله بينهم، وروى هذا الحديث عند ترجمته.
وإن كان ذلك من أجل قوله: "بيان وضعه أن سورة النساء. . . ." إلى آخره.
فنقول: نعم إن آية المواريث نزلت بعد أُحُد، كما روي في حديث جابر بن عبد الله الطويل (1): "فجاءت المرأة بابنتين لها إلى رسول الله عليه السلام، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل معك يوم أحد، وقد استفى عمهما مالهما وميراثهما كله، فلم يدع لهما مالًا إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فوالله لا ينكحان أبدًا إلا ولهما مال، قال رسول الله عليه السلام: يقضي الله في ذلك، فنزلت سورة النساء:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (2).
وأما حبس الصحابة بعلم رسول الله عليه السلام بعد خيبر وبعد نزول آية المواريث فلا نسلم صحة ذلك أن يكون كذلك؛ فإنه يحتمل أن يكون قد كان قبل نزول ذلك فلم يقع حبسًا عن فرائض الله.
فإن قيل: فما تقول في وقف رسول الله عليه السلام وفي أوقاف الصحابة بعد موت رسول الله عليه السلام؟.
قلت: أما وقف رسول الله عليه السلام فإنما جاز لأن المانع من وقوعه حبسًا عن فرائض الله، ووقفه عليه السلام لم يقع حبسًا عن فرائض الله، لقوله عليه السلام:"إنَّا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة"(3).
(1) رواه أبو داود (3/ 120 رقم 2891)، والترمذي (4/ 414 رقم 2092)، وابن ماجه (2/ 908 رقم 2720)، وأحمد (3/ 352 رقم 14840).
(2)
سورة النساء، آية:[11].
(3)
رواه النسائي في "الكبرى"(4/ 64 رقم 6309) وقال الحافظ في "تلخيص الحبير"(3/ 100): وإسناده صحيح على شرط مسلم. =
وأما أوقاف الصحابة رضي الله عنهم بعد موته فاحتمل أن ورثتهم أمضوها بالإجازة، هذا هو الظاهر، والله أعلم.
وأما قوله: "ولو صح هذا الخبر لكان منسوخًا" فغير صحيح أيضًا؛ لأنه مجرد دعوى، والنسخ لا يثبت إلا بدليل، ولم يبين دليله في ذلك ولا الناسخ ما هو، فَخَلُص الحديث حينئذ عما ذكره، وصح على ما قاله أحمد بن صالح المصري على ما ذكرنا، ولئن سلمنا أنه ضعيف على ما ذهب إليه الأكثرون، ولكن لا نسلم أنه موضوع لما ذكرنا، والضعيف يصلح للاستشهاد والمتابعة، فإنه لما روى هذا الحديث عن شريح بطرق صحيحة رواه أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا مسندًا تأييدًا لذلك وتأكيدًا لصحته، على أنه يفهم من كلمته أيضًا أنه يذهب مذهب أحمد بن صالح في هذا الحديث.
ص: وأما وجهه من طريق النظر فإن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر رحمهم الله وجميع المخالفين لهم والموافقين قد اتفقوا أن الرجل إذا وقف داره في مرضه على الفقراء والمساكين ثم توفي في مرضه ذلك، أن ذلك جائز من ثلثه، وأنها غير موروثة عنه، فاعتبرنا ذلك هل يدل على أحد القولين؟
وكان الرجل إذا جعل شيئًا من ماله من دنانير أو دراهم صدقة فلم ينفذ ذلك حتى مات أنه ميراث، وسواء جعل ذلك في مرضه أو في صحته، إلا أن يجعل ذلك وصية بعد موته فينفذ ذلك بعد موته من ثلث ماله كما تنفذ الوصايا.
فأما إذا جعله في مرضه ولم ينفذه للمساكين بدفعه إياه إليهم فهو كما جعله في صحته وكان جميع ما يفعله في صحته فينفذ من جميع ماله ولا يكون له عليه بعد ذلك ملك، مثل العتاق والهبات والصدقات هو الذي ينفذ إذا فعله في مرضه من ثلث مال.
= قلت: والحديث متفق عليه من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بلفظ:"لا نورث، ما تركنا صدقة" بدون لفظ: "إنا معشر الأنبياء" البخاري (3/ 1126 رقم 2926)، ومسلم (3/ 1380 رقم 1759).
وكان الواقف إذا وقف في مرضه داره أو أرضه وجعل آخرها في سبيل الله كان ذلك جائزًا باتفاقهم من ثلث ماله بعد وفاته، لا سبيل لوارثه عليه، وليس ذلك بداخل في قول النبي عليه السلام:"لا حبس عن فرائض الله".
فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك سبيله إذا وقف في الصحة، فيكون نافذًا من جميع المال ولا يكون له عليه سبيل بعد ذلك. قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا.
وإلى هذا أذهب وبه أقول من طريق النظر لا من طريق الآثار؛ لأن الآثار في ذلك قد تقدم وصفي لها وبيان معانيها وكشف وجوهها.
ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس. . . . إلى آخره وهو ظاهر.
قوله: "على أحد القولين" أراد بهما قول أهل المقالة الأولى وقول أهل المقالة الثانية.
ص: فإن قال قائل: أفتخرج الأرض بالوقف من ملك ربها بوقفه إياها لا إلى ملك مالك؟
قيل له: وما تنكر من هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها صاحبها مسجدًا للمسلمين، ويخلي بينها وبينهم؛ أنها قد خرجت بذلك من ملكه لا إلى ملك مالك، ولكن إلى الله عز وجل، فالذي يلزم مخالفك فيما احتججت عليه بما وصفنا يلزمك من هذا مثله.
ش: تقرير السؤال أن يقال: إن الوقف إذا صح يخرج من ملك الواقف بلا خلاف، ولكن هل يدخل في ملك الموقوف عليه أم يصير إلى ملك مالك، وهو معنى قوله: أفتخرج الأرض -بهمزة الاستفهام- وعند الشافعي وأحمد وآخرين: ينتقل إلى ملك الموقوف عليه وإلا يلزم أن يكون ملكًا بلا مالك.
وأشار إلى الجواب عن ذلك بقوله: "قيل له" أي لهذا القائل: "وما تنكر من هذا" أي من خروج الوقف عن ملك الواقف لا إلى ملك مالك، وبَيَّنَ صورة ذلك ونظيره بأرض يجعلها صاحبها مسجدًا ليصلي فيه المسلمون، فإن تلك الأرض تخرج بذلك
من ملكه لا إلى ملك مالك؛ لأنها تنتقل إلى الله تعالى، وهذا لا خلاف فيه، ولهذا نظيرٌ أحسن من هذا؛ وهو العبد المشتري لخدمة الكعبة، فإنه ملك بلا مالك، وكذا كسوة الكعبة ملك بلا مالك، ولما كان الشافعي يعترض على الحنفي بأنه لا يوجد ملك بلا مالك، كيف يقول يخرج الوقف من ملك الواقف ولا يدخل في ملك الموقوف عليه، أجاب عن ذلك بقوله:"كالذي يلزم مخالفك فيما احتججت عليه بما وصفنا" أراد به قوله: "أفتخرج الأرض بالوقف من ملك ربها لا إلى ملك مالك" حاصلة: إن ألزمتنا أنت بهذا الذي ذكرته؛ يلزمك أنت أيضًا في هذا مثله، وهو ما ذكره من قوله:"وقد اتفقت أنت وخصمك. . . ." إلى آخره، حاصله: أن ما كان جوابك في مسألة المسجد فهو جوابنا فيما سألت، فافهم.
ص: فإن قال قائل: فما معنى نهي رسول الله عليه السلام عن الحبس الذي رويته عنه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما؟
قيل له: قد قال الناس في ذلك قولين:
أحدهما: القول الأول الذي ذكرناه عند روايتنا إياه.
والآخر: أن ذلك أريد به ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فكانوا يُحَبِّسون ما يجعلونه كذلك، فلا يورثونه أحدًا، فلما أنزلت سورة النساء وبين الله عز وجل فيها المواريث، وقسم الأموال عليها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا حبس".
ش: لما بين أن الوقف صحيح نافذ، فإن كان في الصحة فمن جميع المال، وإن كان في المرض فمن الثلث، ولا سبيل للورثة عليه، وأقام عليه دليلًا من السنة والقياس انتهض سائل فقال: إذا كان الأمر كذلك، فما يكون معنى نهيه عليه السلام عن الحبس الذي روي عن ابن عباس مرفوعًا، وعن شريح موقوفًا عليه؟!
فأجاب عن ذلك بقوله: "قيل له. . . ." إلى آخره، بيانه: أن العلماء أجابوا عن ذلك بجوابين: منهم من قال: إن هذا كان قبل نزول الفرائض، وقد مضى الكلام فيه.
ومنهم من قال: "إن ذلك أريد به ما كان أهل الجاهلية. . . ." إلى آخره، وهذا القول منقول عن الشافعي ومالك، فقال البيهقي في "الخلافيات": أنا أبو عبد الله الحافظ محمَّد بن عبد الله والأستاذ أبو الطاهر محمَّد بن محمش الفقيه من أصل كتابه، قالا: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، قال: سمعت محمَّد بن عبد الله ابن عبد الحكم يقول: سمعت الشافعي يقول: قال مالك: "الحبس الذي جاء محمَّد عليه السلام بإطلاقه هو الذي في كتاب الله عز وجل {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (1) قال محمَّد بن عبد الله: كَلَّم به مالك أبا يوسف عند أمير المؤمنين".
وأخرجه في "سننه الكبرى"(2): من حديث ابن عبد الحكم أيضًا، سمعت الشافعي يقول: "اجتمع مالك وأبو يوسف عند أمير المؤمنين، فتكلما في الوقوف وما يحبسه الناس، فقال يعقوب: هذا باطل، قال شريح: جاء محمَّد صلى الله عليه وسلم بإطلاق الحبس، وقال مالك: إنما جاء محمَّد صلى الله عليه وسلم بإطلاق ما كانوا يحبسونه لآلهتهم من البحيرة والسائبة.
فأما الوقوف فهذا وقف عمر رضي الله عنه حيث استأذن النبي عليه السلام فقال: "حَبِّس أصلها وَسبِّل ثمرتها"، وهذا وقف الزبير رضي الله عنه. فأعجب الخليفة ذلك منه وبقي يعقوب" قلت: يعني انقطع.
و"البحيرة" من البحر وهو الشق، كانوا إذا ولدت إبلهم سَقْبًا بحروا أذنه -أي شقوها- وقالوا: اللهم إن عاش فَفَتِيّ، وإن مات فَذَكِيّ، فإذا مات أكلوه وسموه البحيرة.
وقيل: البحيرة هي بنت "السائبة"، كانوا إذا تابعت الناقة بين عشر إناث لم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، وتركوها مسيَّبَة لسبيلها،
(1) سورة المائدة، آية:[3].
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 163 رقم 11692).
وسموها السائبة، فما ولدت بعد ذلك من أنثى شقوا أذنها وخلوا سبيلها وحرم منها ما حرم من أمها وسموها البحيرة.
وقيل: السائبة كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر أو شفاء من مرض أو غير ذلك قال: ناقتي سائبة، فلا تمنع من ماء ولا مرعى، ولا تحلب ولا تركب، وكان الرجل إذا أعتق عبدًا فقال: هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث، وأصله من تسييب الدواب وهو إرسالها تذهب وتجئ كيف شاءت.
"والوصيلة": هي الشاة ولدت ستة أبطن اثنين اثنين وولدت في السابعة ذكرًا أو أنثى قالوا: وصلت أخاها فأحلوا لبنها للرجال، وحرموه على النساء.
وقيل: إن كان السابع ذكرًا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاه ولم يذبح، وكان لبنها حرامًا على النساء.
"والحام": هو الفحل من الإبل الذي طال مكثه عندهم. قال الفراء: إذا لقح ولد وَلَدَهُ فقد حمى ظهره، فلا يركب، ولا يجزّ له وبر، ولا يمنع من مرعى، فهو فاعل من حمَى يحمي حماية، إذا وقيت عنه.
ص: ثم تكلم الذين أجازوا الصدقات الموقوفات فيما بعد تثبيتهم إياها على ما ذكرنا، فقال بعضهم: هي جائزة قبضت من المتصدق بها أو لم تقبض، وممن قال بذلك: أبو يوسف.
وقال بعضهم: لا تنفذ حتى يخرجها من يده ويقبضها منه غيره، وممن قال بهذا القول ابن أبي ليلى ومالك بن أنس ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ش: أراد بالذين أجازوا الصدقات أهل المقالة الأولى، وأنهم بعد اتفاقهم على صحة الوقف وجوازه، اختلفوا في القبض هل هو شرط فيه كالهبة، أم ليس بشرط كالعتق؟ فقال بعضهم وأراد بهم: الشافعي -في قول- وأحمد وإسحاق: القبض ليس بشرط، وممن قال بهذا القول: أبو يوسف.
وقال بعضهم: وأراد بهم: طائفة من فقهاء المدينة والكوفة يشترط القبض، حتى إنه لا ينفذ حتى يقبضها منه غير الواقف.
وممن قال بذلك: محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، ومالك بن أنس ومحمد بن الحسن والشافعي في أصح أقواله.
ص: فاحتجنا أن ننظر في ذلك لنستخرج من ذلك القولين قولًا صحيحًا، فرأينا أشياء يفعلها العباد على ضروب:
فمنها: العتاق ينفد بالقول؛ لأن العبد إنما يزول ملك مولاه عنه إلى الله عز وجل.
ومنها: الهبات والصدقات لا تنفذ بالقول حتى يكون معه القبض من الذي مَلَّكها له.
فأردنا أن ننظر حكم الأوقاف بأيهما هي أشبه فنعطفه عليه؟ فرأينا الرجل إذا وقف أرضه أو داره فإنما ملك الذي أوقفها عليه منافعها ولم يملكه من رقبتها شيئًا، إنما أخرجها من ملك نفسه إلى الله عز وجل، فثبت أن ذلك نظير ما أخرجه من ملكه إلى الله عز وجل.
فلما كان ذلك لا يحتاج فيه إلى القبض مع القول؛ كان كذلك أيضًا الوقف لا يحتاج فيه إلى القبض مع القول.
ش: أشار بهذا الكلام إلى ترجيح قول من لا يشرط القبض، وَبَيَّنَ وجه الترجيع بقوله:"فرأينا أشياء. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر.
قوله: "على ضروب" أي على أنواع وهو جمع ضرب.
قوله: "بأيهما" أي بأي الضربين "أشبه فنعطفه عليه" أي فنضمه إليه ونجعل حكمه كحكمه.
ص: وحجة أخرى: أن القبض لو أوجبناه؛ فإنما لأن القابض يقبض ما لم يملك بالوقف، فقبضه إياه وغير قبضه إياه سواء.
فثبت بما ذكرنا ما ذهب إليه أبو يوسف رحمه الله.
ش: أي دليل آخر لمن لا يشترط القبض، حاصله: أن اشتراط القبض لا يفيد، لأن الموقوف عليه يقبض حينما يقبض ما لم يملكه؛ لأنه لا يملك رقبته، فإذا كان كذلك فقبضه وعدم قبضه سواء، فظهر بذلك قول أبي يوسف على قول غيره، والله أعلم بالصواب.