الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: رد اليمين
ش: أي هذا باب في بيان رد المدعى عليه اليمين على المدعي، هل يجوز ذلك أم لا؟
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: اختلف الناس في المدعى عليه يرد اليمين على المدعي. فقال قوم: لا يستحلف المدعي. وقال آخرون: بل يستحلف، فإن حلف استحق ما ادعى بحلفه وإن لم يحلف لم يكن له شيء.
ش: أراد بالقوم: النخعي وابن سيرين وابن أبي ليلى في قول وسوَّار بن عبد الله العنبري وعبيد الله بن الحسن العنبري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأبا عبيد وإسحاق -في قول- وأهل الظاهر، فإنهم قالوا: لا يستحلف المدعي، ولا يرد عليه اليمين.
قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي وشريحًا القاضي وابن أبي ليلى -في قول- وإسحاق -في قول- ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: يستحلف المدعي ويرد عليه اليمين، فإن حلف استحق ما ادعاه به، وإن لم يحلف فلا شيء له، وقال ابن حزم: قال مالك: ترد اليمين في الأموال ولا نرى ردها في النكاح ولا في الطلاق ولا في العتق، وقال الشافعي وأبو ثور وسائر أصحابه: ترد اليمين في كل شيء؛ في القصاص في النفس فما دونها، وفي النكاح، والطلاق، والعتاق، فمن ادعت عليه امرأته أنه طلق، أو عبده وأمته أنه أعتق، ومن ادعى على امرأته النكاح أو ادعته عليه ولا شاهد لهما ولا بينة؛ لزمه اليمين أنه ما طلق ولا أعتق، ولزمه اليمين أنه ما نكحها، ولزمتها اليمين كذلك فأيهما بكل حلَّف الآخر المدعي، وصح العتق والنكاح والطلاق، وكذلك في القصاص.
ص: واحتجوا في ذلك بما قد روينا في غير هذا الموضع عن سهل بن أبي حثمة في القسامة: "أن رسول الله عليه السلام قال للأنصار: "أتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟ فقالوا:
كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فقال رسول الله عليه السلام: أتحلفون وتستحقون؟ " قالوا: فقد رد رسول الله عليه السلام الأيمان التي جعلها في البدء على المدعى عليهم، فجعلها على المدعيين بعد أن جعلها على المدعى عليهم، فدل على جواز رد اليمين على المدعي.
ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث سهل بن أبي حثمة.
أخرجه في باب "القسامة": عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، سمع بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة قال:"وجد عبد الله بن سهل قتيلًا في قليب من قلب خيبر. . . . الحديث" على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وجه استدلالهم به: أن رسول الله عليه السلام رد الأيمان على المدعيين بعد أن جعلها على المدعى عليهم، فدل على جواز رد اليمين على المدعي.
ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى: أن رسول الله عليه السلام لما قال: "أتبرئكم يهود خمسين يمينًا" لم يكن من اليهود رد الأيمان على الأنصار فيردها النبي عليه السلام، فيكون ذلك حجة لمن يرى رد اليمين في الحقوق، إنما قال:"أتبرئكم يهود خمسين يمينًا" فقالت الأنصار: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فقال النبي عليه السلام: أتحلفون وتستحقون؟ " فقد يجوز أن يكون كذلك حكم القسامة، ويجوز أن يكون على النكير منه عليهم إذ قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فقال لهم: أتحلفون وتستحقون"، كما يقال: أيدعون ويستحقون، فلما احتمل الحديث هذين الوجهين لم يكن لأحد أن يحكمه على أحدهما دون الآخر إلا ببرهان يدله على ذلك، فنظرنا فيما سوى هذا الحديث من الآثار المروية في هذا فإذا ابن عباس رضي الله عنهما قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه".
فثبت بذلك أن المدعي لا يستحق بدعواه دمًا ولا مالًا وإنما يستحق بها يمين المدعى عليه خاصة، هذا حديث ظاهر المعنى وأولى بنا أن نحمل ما خفي علينا معناه من الحديث الأول على ذلك.
ش: أي فكان من الدليل والبرهان على الآخرين لأهل المقالة الأولى وأراد بذلك الجواب عما احتجوا به من حديث سهل بن أبي حثمة وهو ظاهر.
وقال ابن حزم: وأما حديث القسامة فاحتجاجهم به إحدى فضائحهم؛ لأن المالكيين والشافعيين مخالفون لما فيه، أما المالكيون فخالفوه جملة، وأما الشافعيون فخالفوا ما فيه من إيجاب القود، فكيف يستحلون الاحتجاج بحديث قد هان عليهم خلافه فيما فيه وزادوا من ذلك تثبيت الباطل الذي ليس في الحديث منه شيء أصلًا، وإنما في هذا الخبر تحليف المدعيين أولًا خمسين يمينًا بخلاف جميع الدعاوى، ثم رد اليمين على المدعى عليهم بخلاف قولهم، فمن أين رأوا أن يقيسوا عليه ضده من تحليف المدعى عليه أولًا فإن نكل؛ حلف المدعي، ولم يقيسوا عليه في تبرئة المدعي في سائر الدعاوى وأن يجعلوا الأيمان في كل دعوى خمسين يمينًا، فهل في التخليط وخلاف السنن وعكس القياس وضعف النظر أكثر من هذا النهي؟!
وقال أبو عمر: في حديث القسامة أن المدعيين الدم يبدءون بالأيمان في القسامة، وهذا في القسامة خاصة، وهو يخص قول النبي عليه السلام:"البينة على المدعي واليمين على ما أنكر".
وقد روي عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله عليه السلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة"(1).
قلت: ابتداء المدعيين الدم بالأيمان لا يستلزم جواز رد اليمين على المدعي ولا فيه دلالة على هذا، وحديث عمرو بن شعيب في إسناده مقال.
فإن قيل: روى الحكم في "مستدركه"(2): من حديث سليمان بن عبد الرحمن، ثنا محمَّد بن مسروق، عن إسحاق بن الفرات، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام رد اليمين على طالب الحق".
(1)"المحلي"(9/ 379).
(2)
"المستدرك على الصحيحين"(40/ 113 رقم 7057).
وروى البيهقي في "سننه"(1): من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال:"اليمين مع الشاهد، وإن لم يكن له بينة فاليمين على المدعى عليه إذا كان قد خالطه فإن نكل حلف المدعي".
قلت: سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ابن بنت شرحبيل قد تفرد به، قال أبو حاتم: هو صدوق مستقيم الحديث ولكنه أروى الناس عن الضعفاء والمجهولين وكان عندي في حد لو أن رجلًا وضع له حديثا لم يفهم وكان لا يميز وابن ضميرة ضعيف، قال ابن حزم: الرواية عن علي رضي الله عنه ساقطة؛ لأنها عن الحسين ابن ضميرة، عن أبيه، وهو متروك ابن متروك لا يحل الاحتجاج بروايتهما فلم يصح في هذا عن أحد من الصحابة كلمة.
فإن قيل: أخرج ابن وهب في "مسنده": عن حيوة بن شريح أن سالم بن غيلان التجيبي أخبره أن رسول الله عليه السلام قال: "من كانت له طلبة عند أحد فعليه البينة والمطلوب أولى باليمين فإن نكل حلف الطالب وأخذ".
قلت: قال ابن حزم: هذا مرسل ولا حجة في مرسل عندنا ولا عند الشافعيين، ثم لو صح لكان حجة على المالكيين؛ لأنهم مخالفون لما فيه من عموم رد اليمين في كل طلبة طالب.
قوله: فإذا ابن عباس. . . . إلى آخره.
أخرجه مسلم (2):
حدثني أبو الطاهر [أحمد](3) بن عمرو بن سرح قال: أنا ابن وهب، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، أن النبي عليه السلام قال:"لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 184 رقم 20530).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1336 رقم 1711).
(3)
في "الأصل، ك": "حرملة"، وهو سبق قلم أو تحريف، والمثبت من "صحيح مسلم"، و"تهذيب الكمال".
وأخرجه البخاري (1) أيضًا، والطحاوي على ما يأتي.
ص: وأما وجه ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا المدعي الذي عليه أن يقيم الحجة على دعواه لا تكون حجته تلك جارة إلى نفسه مغنمًا، ولا دافعة عنها مغرمًا، فلما وجبت اليمين على المدعى عليه فردها على المدعي فإن استحلفنا المدعي جعلنا يمينه حجة له فحكمنا له بحجة كانت منه هو بها جار إلى نفسه مغنمًا، وهذا خلاف ما تُعبد به العباد فبطل ذلك.
ش: أي: وأما وجه رد اليمين على المدعي من طريق النظر والقياس فإنا رأينا المدعي الذي عليه أن يقيم الحجة أن البينة على دعواه لا يكون هو بتلك الحجة جارًّا إلى نفسه مغنمًا ولا دافعًا عنها مغرمًا.
فإن قيل: اليمين أيضًا حجة مثل البينة فلا يكون أيضًا إذا حلف جارًّا إلى نفسه مغنمًا فكيف الفرق بينهما؟
قلت: ظهور المغنم له عند إقامة البينة بواسطة البينة وليس له في ذلك عمل بخلاف ما إذا حلف عند الاستحلاف؛ لأنه حينئذ يكون هو الذي أظهر ذلك المغنم بإقدامه على اليمين وهو عمل ينسب إليه فيكون بذلك جارًّا إلى نفسه مغنمًا فافهم فإنه موضع دقيق.
ص: فإن قال قائل: إنا إنما نحكم له بيمينه وإن كان بها جارًّا إلى نفسه؛ لأن المدعى عليه قد رضي بذلك.
قيل له: وهل يوجب رضى المدعى عليه زوال الحكم عن جهته؟
أرأيت لو أن رجلًا قال: ما ادعى على فلان من شيء فهو مصدق فادعى عليه درهمًا فما فوقه هل يقبل ذلك منه؟ أرأيت لو قال: قد رضيت بما يشهد به زيد علي لرجل فاسق أو لرجل جار إلى نفسه بتلك الشهادة مغنمًا فشهد زيد عليه بشيء هل
(1)"صحيح البخاري"(4/ 1656 رقم 4277).
يحكم بذلك عليه؟ فلما كانوا قد اتفقوا أنه لا يحكم عليه بشيء من ذلك وإن رضي به، وأن رضاه في ذلك وغير رضاه سواء، وأن الحكم لا يجب في ذلك -وإن رضي بذلك- إلا بما كان يجب لو لم يرضى كان كذلك أيضًا يمين المدعي لا يجب له بها حق على المدعى عليه وإن رضي المدعى عليه بذلك، وحكم يمينه بعد رضاه بها كحكمها قبل ذلك، فثبت بما ذكرنا بطلان رد اليمين على المدعى عليه وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: تقرير السؤال أن يقال: إن المدعي إذا حلف عند الاستحلاف فهو وإن كان بيمينه جارًّا إلى نفسه مغنمًا ولكنه برضى المدعى عليه فلا يضره حينئذ ذلك، فبطل بذلك ما قلتم من قولكم: فإن استحلفنا المدعي جعلنا يمينه حجة له -أي للمدعي- فحكمنا له بحجة كانت منه -أي من المدعي- هو بها -أي بتلك الحجة التي هي اليمين- جارًّا إلى نفسه مغنمًا. وهذه جملة وقعت حالًا بدون الواو كما في قوله: كلمته فوه إلى في.
فأجاب عن ذلك بقوله: "قيل له:. . . ." إلى آخره وهو ظاهر.
قوله: "أرأيت" أي أخبرني.
قوله: "فهو مصدق" بفتح الدال المشددة.
قوله: "فلما كانوا" أي أهل المقالتين جميعًا.