الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: العمرى
ش: أي هذا باب في بيان أحكام العُمْرى، وهو على وزن فُعلى بضم الفاء، وهو اسم من أعمرته الدار عمري أي جعلتها له يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت إلى، وكذا كانوا يفعلون في الجاهلية.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله عليه السلام قال:"المسلمون عند شروطهم".
ش: إبراهيم بن حمزة بن محمَّد بن حمزة بن مصعب بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي الزبيري المدني، شيخ البخاري وأبي داود.
وعبد العزيز بن [أبي حازم سلمة](1) بن دينار، روى له الجماعة، وكثير بن زيد الأسلمي المدني، فيه مقال، فقال النسائي: ضعيف. وعن يحيى: ليس بذاك. وعنه: صالح. وعن ابن حبان: ثقة.
والوليد بن رباح الدوسي المدني، وثقه ابن حبان، استشهد به البخاري.
وأخرجه أبو داود (2) بأتم منه: ثنا سليمان بن داود، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان بن بلال (ح).
وحدثنا أحمد عبد [الواحد](3) الدمشقي، قال: ثنا مروان -يعني ابن محمَّد- قال: ثنا سليمان بن بلال -أو عبد العزيز الشك من أبي داود- قال: نا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "الصلح جائز بين المسلمين" زاد أحمد: "إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا"، وزاد سليمان: قال رسول الله عليه السلام: "المسلمون على شروطهم".
(1) في "الأصل، ك": "أبي سلمة حازم"، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله.
(2)
"سنن أبي داود"(3/ 304 رقم 3594).
(3)
في "الأصل، ك": "الواهب"، وهو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود" ومصادر ترجمته.
وقال ابن حزم: هذا خبر فاسد، لأنه إما عن كثير بن زيد وهو هالك، وإما مرسل.
قلت: لما أخرجه أبو داود سكت عنه، وذا دليل رضاه به، وكثير بن زيد قد وثقه ابن حبان كما ذكرنا، وقال أبو حاتم: صالح ليس بالقوي، يكتب حديثه. وقال أحمد: ما أرى به بأسًا. وقال يعقوب بن شيبة ليس بذاك الساقط وإلى الضعف ما هو.
قوله: "المسلمون عند شروطهم" يعني المسلمون هم الذين يَثْبتُون عند شروطهم، وأراد بالشروط: الشروط الجائزة في الدين لا الشروط الفاسدة.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى إجازة العمري، وجعلوها راجعة إلى المُعْمِر بعد موت المُعْمَر، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: القاسم بن محمَّد ويزيد بن قسيط ويحيى بن سعيد الأنصاري، والليث بن سعد ومالكًا؛ فإنهم قالوا: العمرى جائزة، ولكنها ترجع إلى الذي أعمرها.
قال أبو عمر: قال مالك: الأمر عندنا أن العمري ترجع إلى الذي أعمرها إذا لم يقل: لك ولعقبك إذا مات المُعْمَر، وكذلك لو قال: هي لك ولعقبك ترجع إلى صاحبها أيضًا بعد انقراض عقيب المعمَر.
وقال ابن حزم: قالت طائفة: العمرى راجعة إلى المعمِر أو إلى ورثته على كل حال، فإن قال: أعمرتك هذا الشيء لك ولعقبك كانت كذلك، فإذا انقرض المعمَر وعَقِبَه؛ رجعت إلى المعمِر أو إلى ورثته، وهو قولٌ روي عن القاسم بن محمَّد ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو قول مالك والليث.
قوله: "راجعة إلى المعمِر" بكسر الميم الثانية على صيغة الفاعل.
وقوله: "بعد موت المعمَر" بفتح الميم الثانية على صيغة المفعول.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إنما وقع قول رسول الله عليه السلام هذا على الشروط التي قد أباح الكتاب اشتراطها وجاءت بها السنة وأجمع عليها المسلمون، وما نهى عنه الكتاب ونهت عنه السنة فهو غير داخل في ذلك.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: طاوسًا ومجاهدًا والنخعي والثوري والأوزاعي والحسن بن حي والزهري في رواية وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد وبعض الظاهرية وعبد الله بن شبرمة وأبا عبيد؛ فإنهم قالوا: العمرى هبة مقبولة يملكها المعمَر ملكًا تامًّا، رقبتها ومنافعها، واشترطوا فيها القبض على أصولهم في الهبات.
وقال ابن حزم في "المحلي": العمرى والرقبى هبة صحيحة ثابتة يملكها المعمَر والمرقَب كسائر ماله يبيعها إن شاء وتورث عنه، ولا يرجع إلى المعمِر ولا إلى ورثته شَرَطَ أن ترجع إليه أو لم يشترط، وشرطُه لذلك ليس بشيء، والعمرى هي أن يقول: هذه الدار [طمس بالأصل مقدار لوحة].
والطحاوي أيضًا في باب: البيع يشترط فيه شرط بوجوه كثيرة وطرق متعددة.
قوله: "ولكان هذا الحديث معارضا لذلك" أراد بهذا الحديث حديث النهي عن الشرطين في البيع، وأشار بقوله:"لذلك"، إلى حديث أبي هريرة:"المسلمون عند شروطهم" وجه المعارضة بينهما ظاهر، ودفعها بما ذكره آنفًا.
قوله: "ولقوله: كل شرط" أي: ولكان هذا الحديث أيضًا معارضًا لقوله عليه السلام: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" ووجه المعارضة بينهما أيضًا ظاهر على تقدير عموم قوله عليه السلام: "المسلمون عند شروطهم" فإذا جعل معناه: الشروط التي أباحها الكتاب والسنة أو إجماع الأمة تندفع تلك المعارضة.
قوله: "لمن هي لهم عليه نقضها" الضمير في "هي" و"نقضها" للشروط، وفي "لهم" للأصحاب الشروط، وفي "عليه" يرجع إلى مَنْ، فافهم.
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام ما قد دل على ذلك أيضًا:
حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي، قال: ثنا عبد الله بن نافع الصائع، قال: ثنا كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المسلمون عند شروطهم إلا (شرط) (1) أحل حرامًا أو حرم حلالًا".
فدل هذا أن الشروط التي المسلمون عندها هي بخلاف هذه الشروط المستثناة.
ش: أي قد روي عن النبي عليه السلام ما قد دل على أن المراد [من](2) الشروط هي الشروط التي تكون في كتاب أو سنة أو من أمر مجمع عليه.
وقوله: "حدثنا. . . ." إلى آخره: بيان لذلك.
وأحمد بن داود المكي شيخ الطبراني.
وإبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن مغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام القرشي الأسدي الحزامي بالزاي المعجمة -المدني، شيخ البخاري في غير الصحيح، وثقه يحيى والنسائي.
وعبد الله بن نافع الصائغ المدني، روي له الجماعة، البخاري في غير الصحيح.
وكثير بن عبد الله المزني البصري، فيه مقال كثير، فعن أحمد: منكر الحديث ليس بشيء. وعن يحيى: ليس بشيء. وعن أبي داود: كان أحد الكذابين. وعن أبي زرعة: واهي الحديث ليس بقوي. وعن النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال ابن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب وروى له أبو داود والترمذي والنسائي.
وأبوه: عبد الله بن عمرو المزني المدني، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
(1) كذا في "الأصل"، وفي "شرح معاني الآثار":"شرطًا".
(2)
تكررت في "الأصل".
وجده: عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني المدني الصحابي.
والحديث أخرجه ابن ماجه (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا خالد بن مخلد، ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "الصلح جائز بين المسلمين إلا (صلح) (2) حرم حلالًا أو أحل حرامًا".
وأخرجه البيهقي (3): من حديث أبي يحيى بن أبي ميسرة، ثنا ابن زبالة، نا كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده. . . . إلى آخره نحوه.
ثم قال: وكذا رواه العقدي عن كثير بن عبد الله وعليه الاعتماد؛ لأن محمَّد بن الحسن بن زبالة واهٍ، ورواية كثير بن عبد الله إذا انضمت إلى ما قبلها قويت.
قلت: رواه الترمذي (4) عن الحسن بن علي الخلال، عن أبي عامر العقدي، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الصلح جائز بين المسلمين إلا (صلح) (5) حرم حلالًا أو أحل حرامًا، والمسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا".
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وكذا أخرجه الطبراني (6): عن محمَّد بن إسحاق بن راهويه، عن أبيه، عن أبي عامر العقدي. . . . إلى آخره نحوه.
ص: وكانت الشروط في العمرى قد وَقَفَنَا رسول الله عليه السلام على بطلانها في آثار قد
(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 788 رقم 2353).
(2)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "سنن ابن ماجه":"صلحًا".
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 65 رقم 11134).
(4)
"جامع الترمذي"(3/ 634 رقم 1352).
(5)
كذا في "الأصل، ك"، وفي "جامع الترمذي":"صلحًا".
(6)
"المعجم الكبير"(17/ 22 رقم 30).
جاءت عنه مجيئًا متواترًا، فمنها: ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو عن سليمان بن يسار: "أن أميرًا كان على المدينة يقال له: طارق قضى بالعمرى للوارث عن قول جابر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام.
حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن حجر، عن زيد ابن ثابت:"أن النبي عليه السلام قضى بالعمرى للوارث" فجعل رسول الله عليه السلام العمري للوارث فقطع بذلك شرط المُعْمِر.
ش: "وَقَفَنَا" بفتح الفاء فعل ومفعول.
وقوله: "رسول الله" فاعله، وأراد بالمتواتر: المتكاثر المتظاهر الصحيح، ولم يرد به المتواتر المصطلح عليه.
وأشار بهذا الكلام إلى أن الشروط في العمرى باطلة وليست بداخله. تحت قوله عليه السلام: "المسلمون عند شروطهم" الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وذلك لما ذكرنا أن المراد منه هي الشروط الجائزة في الدين، وشروط العمرى شروط باطلة؛ لأحاديث وردت ببيان بطلانها، منها:
ما أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سليمان بن يسار الهلالي المدني:"أن أميرًا كان على المدينة يقال له طارق -وهو طارق المكي، قاضي مكة- قضى بالعمرى للوارث عن قول جابر بن عبد الله عن النبي عليه السلام".
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لأبي بكر، قال إسحاق: أنا، وقال أبو بكر-: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو ابن دينار، عن سليمان بن يسار:"أن طارقًا قضى بالعمرى للوارث بقول جابر عن رسول الله عليه السلام".
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1247 رقم 1625).
ومنها ما أخرجه بإسناد صحيح أيضًا، عن يونس أيضًا، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس بن كيسان، عن حجر بن قيس الهمداني المدري، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود (1) بأتم منه: ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، قال: قرأت على مَعقل، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن حجر، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعمر شيئًا فهو لمعمَرِهِ محياه ومماته، ولا ترقبوا، ومن أرقب شيئًا فهو سبيله".
وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا هشام بن عمار، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن حجر المدري، عن زيد بن ثابت:"أن النبي عليه السلام جعل العمري للوارث".
وأخرجه النسائي (3) أيضًا:
ص: فقال الأولون: فلم يبين رسول الله عليه السلام في هذا الحديث ذلك الوارث وارث من هو؟ فقد يجوز أن يكون أراد وارث المُعْمِر.
قيل له: هذا عندنا محال؛ لأنه إنما كان الذكر على شيء، قد جعل للمُعْمَر حياته على أن يعود بعد موته إلى المُعْمِر، فجعل رسول الله عليه السلام ذلك للوارث أي جعله لوارث المعمَر ما كان ليشترط فيه المعمر إلا أن يكون ميراثًا.
ش: أي قال القوم الأولون وهم أهل المقالة الأولى الذين قالوا: إن العمرى راجعة إلى المعمِر -بكسر الميم الثانية- بعد موت المعمَر -بفتح الميم الثانية- وهذا اعتراض من جهتهم على ما قاله أهل المقالة الثانية، بيانه أن يقال: إن قوله: "قضى
(1)"سنن أبي داود"(3/ 295 رقم 3559).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 796 رقم 2381).
(3)
"المجتبى"(6/ 271 رقم 3721).
بالعمرى للوارث" لا يدل على مدعاكم، لأنه عليه السلام لم يبين لنا ذلك للوارث من هو، فهل هو وارث المعمَر أو وارث المعمِر؟ فقد يجوز أن يكون أراد وارث المعمِر -بكسر الميم الثانية.
قوله: "قيل لهم. . . ." إلى آخره: جواب عن هذا الاعتراض، وهو ظاهر.
قوله: "قد جعل المعمَر" بفتح الميم الثانية.
قوله: "بعد موته إلى المعمِر" بكسر الميم الثانية.
وقوله: "لوارث المعمَر" بفتح الميم الثانية.
وقوله: "اشترط فيه المعمِر" بكسر الميم الثانية.
ص: والدليل على ذلك أن محمَّد بن بحر بن مطر حدثنا، قال: ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، قال: ثنا محمَّد بن مسلم الطائفي، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن زيد بن ثابت، أن رسول الله عليه السلام قال:"من أعمر شيئًا حياته فهو له ولوارثه".
فدل قول رسول الله عليه السلام هذا على الوارث المحكوم بها له في هذا الحديث الذي ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا أنه وارث المعمَر.
ش: أي الدليل على ما ذكرنا أن المراد من الوارث هو وارث المعمَر -بفتح الميم الثانية- أن محمَّد بن بحر بن مطر البغدادي حدثنا، قال: ثنا أبو النضر -بالنون والضاد المعجمة-.
وهذا إسناد صحيح وأخرجه النسائي نحوه بإسناده، عن طاوس، عن زيد بن ثابت.
قوله: "فدل قول رسول الله عليه السلام. . . ." إلى آخره: أراد أن هذا الحديث قد فسر قوله: "للوارث" في الحديث الأول أن المراد منه هو وارث المعمَر -بفتح الميم الثانية- والأحاديث يفسر بعضها بعضًا.
ص: وقد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو ابن دينار، عن طاوس، أن حجر بن قيس أخبره، أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله عليه السلام:"العمرى ميراث".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن حجر المدري، عن زيد بن ثابت أن رسول الله عليه السلام قال:"سبيل العمرى سبيل الميراث".
فهذا أيضًا معناه مثل معنى ما قبله.
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، شيخ البخاري -عن عبد الملك بن جريج المكي. . . . إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الرزاق وأبي بكر، قالا: ثنا ابن جريج (ح).
وثنا روح قال: ثنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، أن طاوسًا أخبره، أن حجرًا المدري أخبره، أنه سمع زيد بن ثابت رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرى في الميراث".
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن المنهال شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم العنبري البصري. . . . إلى آخره.
وأخرجه الطبراني (2): ثنا معاذ بن المثنى، ثنا محمَّد بن المنهال، ثنا يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن حجر المدري، عن زيد بن ثابت، عن النبي عليه السلام قال:"العمري سبيلها سبيل الميراث".
(1)"مسند أحمد"(5/ 189 رقم 21692).
(2)
"المعجم الكبير"(5/ 162 رقم 4950).
قوله: "المَدَرِّي" بفتح الميم والدال المهملة وتشديد الراء، نسبة إلى مدر موضع بقصور اليمن، ذكرها الرشاطي في "الأنساب" وقال: ينسب إليها من الرواة حجر المَدَرِّي الهمداني روى عن: زيد بن ثابت، روى عنه: طاوس.
قوله: "فهذا أيضًا معناه مثل معنى ما قبله" أراد أن قوله عليه السلام: "العمرى ميراث" وقوله: "سبيل العمرى سبيل الميراث" مثل الحديث الذي رواه طارق عن جابر، وحجر عن زيد بن ثابت في أنه مجمل يتناول وارث المعمر والمعمر، وأنه مفسر بالحديث الذي رواه طاوس عن زيد، وقد مَرَّ تحقيقه.
ص: وقد حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن معاوية، عن النبي عليه السلام قال:"العمرى جائزة لأهلها".
فقال أهل المقالة الأولى: أهلها هم الذي أعمروها.
ش: هذا من الأحاديث الدالة على صحة العمرى، واحتج به أهل المقالة الأولى أن أهلها هم الذين أعمروها، فإذا كان كذلك تعود العمرى بعد موت المعمَر -بفتح الميم الثانية- إلى المعمِر -بكسر الميم الثانية- أو إلى ورثته.
وأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل بن أبي طالب، فيه مقال، فعن البخاري: مقارب الحديث. وعن النسائي: ضعيف.
عن محمَّد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا أبو خليفة الفضل بن حباب، قال: ثنا أبو الوليد الطيالسي، عن حماد بن سلمة. . . . إلى آخره نحوه.
(1)"المعجم الكبير"(19/ 323 رقم 733).
ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك: أن فهدًا قد حدثنا، قال: ثنا عبيد بن يعيش، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: أنا محمَّد بن إسحاق، عن عبد الله بن محمَّد ابن عقيل، عن محمَّد بن الحنفية، قال: قال معاوية: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "من أعمر عمرى فهي له، يرثها من عقبه من ورثه".
فدل هذا الحديث على أن أهلها الذين جازت لهم هم المعُمَرون لا المُعْمِرون.
ش: أي فكان من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى، وأراد بهذا منع ما قالوا من قولهم:"أهلها هم الذين أعمروها" بيان ذلك أن حديث معاوية الآخر يدل صريحًا على أن المراد من قوله عليه السلام: "لأهلها" هم المعمَرون -بفتح الميم الثانية- لا المعمِرون -بكسر الميم الثانية- بأنه صرح فيه بقوله: فهي له يرثها من عقبة من ورثه".
أخرجه عن فهد بن سليمان، عن عبيد بن يعيش المحاملي العطار شيخ مسلم، والبخاري في غير الصحيح، عن يونس بن بكير الشيباني، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل. . . . إلى آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن يعلى، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل. . . . إلى آخره نحوه.
قوله: "فهي له" أي: فالعمرى للمُعْمَر -بفتح الميم الثانية.
قوله: "يرثها" أي العمرى، وهي جملة من الفعل والمفعول. وقوله:"من ورثه" فاعلها، والضمير المنصوب في "ورثه" يرجع إلى "مَنْ" في قوله:"من أعمَر".
قوله: "من عقبه" أي من بعده، أي من بعد موته.
ص: وقد حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبي عليه السلام قال:"العمرى لمن وُهِبَتْ له".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 510 رقم 22631).
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن هشام بن عبد الله، عن يحيى. . . . فذكر مثله بإسناده.
حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله عليه السلام: "أمسكوا عليكم أموالكم لا تعمروها، فمن أُعْمِر شيئًا فهو له".
حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا عمرى، فمن أُعْمِر شيئًا فهو له".
ش: من الأحاديث الدالة على صحة العمرى: ما روي عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم.
أما حديث جابر فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن جابر.
وأخرجه أبو داود (1): عن أحمد بن أبي الحواري، عن الوليد، عن الأوزاعي .. إلى آخره نحوه.
والنسائي (2): عن عيسى بن مساور، عن الوليد، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة. . . . إلى آخره.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 294 رقم 3552).
(2)
"المجتبى"(6/ 275 رقم 3741).
الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى القطان، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة.
وأخرجه مسلم (1): ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله عليه السلام: "العمرى لمن وهبت له".
الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر. . . . إلى آخره.
وأخرجه مسلم (2): عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه.
وأما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد [الحميد](3) الحماني، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف. ثقة، روى له الجماعة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا ابن أبي زائدة، قال: ثنا حجاج، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام: "العمرى جائزة لمن أعمرها".
وأخرجه النسائي (5): عن أحمد بن حرب، عن أبي معاوية، عن حجاج. . . . إلى آخره نحوه.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1246 رقم 1625).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1247 رقم 1625).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من مصادر ترجمته.
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 509 رقم 22616).
(5)
"المجتبى"(6/ 269 رقم 3710).
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد الرقي، عن إسماعيل بن أبي كثير المدني قارئ أهل المدينة، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن ابن عوف المدني، عن أبي هريرة.
وأخرجه النسائي (1): أنا علي بن حجر أنا إسماعيل، عن محمَّد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا عمرى، فمن أُعْمِر شيئًا فهو له".
وأخرجه ابن ماجه (2): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، به.
وقال ابن عساكر في "الأطراف": المحفوظ رواية أبي سلمة عن جابر، كذلك رواه الزهري ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة.
واعلم أن الطحاوي قد أخرج أحاديث هذا الباب عن زيد بن ثابت ومعاوية وجابر وابن عباس وأبي هريرة وسمرة بن جندب على ما يأتي.
ولما أخرج الترمذي حديث سمرة قال: وفي الباب عن زيد بن ثابت وجابر وأبي هريرة وعائشة وابن الزبير ومعاوية.
قلت: وفي الباب أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
أما حديث عائشة فأخرجه البزار في "مسنده": ثنا إبراهيم بن هانئ، ثنا محمَّد بن يزيد بن سنان، عن يزيد بن سنان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله عليه السلام: "لا تُعمروا شيئًا ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئًا فهو لمن أُعْمِرَه أو أُرْقِبَهُ".
(1)"المجتبى"(6/ 27 رقم 3752).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 796 رقم 2379).
وقد رواه غيره، عن هشام، عن أبيه مرسلًا، وقال فيه: حفص بن ميسرة، عن هشام، عن أبيه، عن أبي الزبير.
وأما حديث عبد الله بن الزبير فالآن ذكرناه عن البزار.
وأخرجه الطبراني أيضًا: ثنا عبد الله بن محمَّد بن سعيد بن أبي مريم، نا عمرو ابن أبي سلمة التنيسي، ثنا حفص بن ميسرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله عليه السلام: "العمرى جائزة لمن أُعْمِرَها والرقبي لمن أُرْقِبَهَا، سبيلها سبيل الميراث".
وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه النسائي (1): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، عن عطاء، أنا حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا عمرى ولا رقبي، فمن أُعْمِرَ شيئًا أو أُرْقِبَهُ فهو له حياته ومماته".
ص: فقال أهل المقالة الأولى: فنحن لا ننكر أن تكون العمرى لمن أُعمِرَها، وإنما قلنا: إنها ترجع إلى المُعْمِر بعد موت المُعْمَر، فكان من حجتنا عليهم في ذلك أن رسول الله عليه السلام نهى فيما ذكرنا من الآثار عن العمرى، فاستحال أن يكون ينهى عنها وهي تجري كما عُقدت؛ ولكنه نهى عنها لأنها تجرى على خلاف ذلك، ثم قال:"من أُعْمِرَ شيئًا فهو له" فأرسل ذلك ولم يقل: فهو له ما دام حيًّا، فدل ذلك على أنها له كسائر ماله في حياته وبعد موته، وهذا معنى ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه جعلها جائزة، أي جعلها جائزة للمُعْمَر، لا حق فيها للمُعْمِر بعد ذلك أبدًا.
ش: حاصل هذا الكلام أن أهل المقالة الأولى قالوا لأهل المقالة الثانية: كل ما ذكرتم من الحجج لا تضرنا؛ لأنَّا لا ننكر أن تكون العمرى لمن أُعْمِرَهَا، فتكون العمرى لمن أُعْمِرها ولكنها ترجع إلى المُعْمِر -بكسر الميم الثانية- بعد موت المُعْمَر -بفتح الميم- فأجاب الطحاوي عن هذا بقوله: فكان من حجتنا عليهم في ذلك أي
(1)"المجتبى"(6/ 273 رقم 3732).
فيما قالوا: أن رسول الله عليه السلام نهى في الأحاديث المذكورة عن العمرى، فمن المحال أن يكون النبي عليه السلام ينهى عن العمرى والحال أنها تجري مثل ما عقدت، ولكنه إنما نهى عنها لأنها تجرى على خلاف ذلك، ثم قال:"من أُعْمِرَ شيئًا فهو له" فأرسل أي: أطلق، أراد أنه لم يقيده بحياته ولم يقل: ما دام حيًّا، فدل إطلاقه ذلك على أن العمرى له كسائر ماله في حياته وبعد موته، فإذا كان كذلك تكون من بعده لورثته، وهذا مستفاد من معنى قوله عليه السلام:"العمرى جائزة لأهلها" ومعنى جوازها لأهلها أن تكون للمُعْمَر -بفتح الميم الثانية- لا حق فيها للمُعْمِر -بكسر الميم الثانية- بعد ذلك أبدًا.
ص: فمما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعلها جائزة: ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرى جائزة".
ش: أي: فمن الأحاديث التي رويت عن رسول الله عليه السلام أنه عليه السلام جعلها جائزة حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.
أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن همام بن يحيى .. إلى آخره.
وأخرجه الترمذي (1): ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن النبي عليه السلام قال:"العمرى جائزة لأهلها، أو ميراث لأهلها".
وأخرجه ابن أبي شيبة (2): عن محمَّد بن سعيد، عن سعيد، عن قتادة. . . . إلى آخره.
فإن قيل: قد روي عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام أنه قال:"لا عمرى" كما مَرَّ
(1)"جامع الترمذي"(3/ 632 رقم 1349).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 509 رقم 22617).
ذكره يعارض هذا الحديث، وكذلك يعارض حديث أبي هريرة الآخر الذي رواه عنه بشير بن نهيك.
قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن معنى قوله: "لا عمرى" بالشروط الفاسدة نفي لا تجري العمرى كما هي عقدت كما أشار إليها الطحاوي فيما مضى، ومعنى قوله:"العمرى جائزة" يعني قد جازت على المُعْمِرَ، وجازت على المُعْمِر في حياته ولورثته بعد مماته كسائر أمواله.
ص: والدليل على ذلك أيضًا: أن ابن أبي داود وأحمد بن داود قد حدثانا، قالا: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، قال: قال لي سليمان بن هشام: "ما تقول في العمرى؟ فقلت له: حدثني النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال: "العمرى جائزة". قال الزهري: إنها لا تكون عمرى حتى تجعل له ولعقبه، فقال لعطاء بن أبي رباح: ما تقول؟ فقال: حدثني جابر، أن رسول الله عليه السلام قال: "العمرى ميراث".
فهذا عطاء وقتادة قد جعلاها جائزة للمُعْمَرِ موروثة عنه، ولم ينكر ذلك عليهما الزهري، وإنما قال: لا تكون عمرى فيكون هذا حكمها حتى تجعل للمُعْمَر ولعقبه، فتكون كماله، وتكون موروثة عنه كما يورث عنه سائر ماله، وإن كان من يرثها عنه فيهم خلاف عقبه على ما حدثه أبو سلمة، وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى.
ش: أي: الدليل على ما ذكرنا من أن العمرى جائزة وأنها تكون للمُعْمَرِ في حياته وبعده لورثته: أن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وأحمد بن داود المكي، قالا: حدثنا أبو عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود .. إلى آخره.
وهذا إسناد صحيح.
وبشير -بفتح الباء- بن نهيك السدوسي روي له الجماعة، وسليمان بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، كان أميرًا في عهد أبيه هشام.
وأخرجه البيهقي مطولًا (1): من حديث الأصم: ثنا عباس الدوري، ثنا الحوضي، ثنا همام، ثنا قتادة قال: قال لي سليمان بن هشام: إن هذا لا يدعنا -يعني الزهري- نأكل شيئًا إلا أمرنا أن نتوضأ منه، قلت: سألت عنه سعيد بن المسيب فقال: إذا أكلت وهو طيب فليس عليك فيه وضوء، وإذا خرج فهو خبث عليك فيه الوضوء، فقال: ما أراكما إلا قد اختلفتما فهل في البلد أحد؟ قلت: نعم، أقدم رجل في جزيرة العرب، قال: من؟ قلت: عطاء، فأرسل إليه، فجيء به، فقال: إن هذين قد اختلفا عَلَيَّ، فما تقول؟ قال: حدثني جابر بن عبد الله أنهم أكلوا مع أبي بكر رضي الله عنه خبزًا ولحمًا، ثم قام فصلى ولم يتوضأ، فقال لي: ما تقول في العمرى؟ قلت: حدثني النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، أن النبي عليه السلام قال: العمرى جائزة، قال: وقال الزهري: إنها لا تكون عمرى حتى تجعل له ولعقبه، قال: فقال لعطاء: ما تقول؟ قال: حدثني جابر، أن رسول الله عليه السلام قال: العمرى جائزة. قال الزهري: إن الخلفاء لا يقضون بذلك، قال عطاء: بلى؛ قضى به عبد الملك بن مروان في كذا وكذا.
ورواه البخاري (2) دون القصة.
ص: ومما يدل أيضًا على صحة ما ذكرنا: أن يونس حدثنا، قال: ثنا سفيان، [عن ابن جريج عن عطاء](3)، عن جابر قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تعمروا ولا ترقبوا، فمن أُعْمِر شيئًا أو أُرْقبَه فهو للوارث إذا مات".
حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله عليه السلام: "أمسكوا عليكم أموالكم لا تفسدوها، فإنه من أُعْمِرَ فهي له حيًّا وميتًا ولعقبه".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 174 رقم 11758).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 925 رقم 2483).
(3)
سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا وهب بن جرير قال: ثنا هشام، [عن أبي الزبير] (1) عن جابر قال: قال رسول الله عليه السلام: "من أُعْمِر عمرى حياته فهي له في حياته ولورثته بعد موته".
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن حبيب بن أبي ثابت، عن حميد، عن جابر قال:"نحل رجل منا أمه نحلى لها حياتها، فلما ماتت قال: أنا أحق بنحلي، فقضى النبي عليه السلام أنها ميراث".
قال ابن أبي شيبة: حميد هذا رجل من كندة.
فقد كشفت لنا هذه الآثار مراد رسول الله عليه السلام في الآثار التي قبلها، وأنها على ما وصفنا من التأويل الذي ذكرنا.
ش: أي: ومن الذي يدل على صحة ما ذكرنا من أن العمرى جائزة، وأنها لا تكون عمرى حتى تجعل له ولعقبه؛ حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
أخرجه من أربع طرق:
الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح.
وأخرجه النسائي (2): عن محمَّد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان، عن ابن جريج عن عطاء، عن جابر .. إلى آخره نحوه.
قوله: "لا تعمروا" من الإعمار، "ولا ترقبوا" من الإرقاب، والاسم: الرقبي وهي فُعلى -بالضم- من المراقبة، وهي أن يقول الرجل لآخر: قد وهبت لك هذه الدار، فإن مُتَّ قبلي رجعت إلي، وإن مُتُّ قبلك فهي لك.
وقد اختلف العلماء فيها، فأجازها أبو يوسف والشافعي وأحمد، وأبطلها القاضي شريح وأبو حنيفة ومحمد رحمهم الله.
الثاني: أيضًا إسناده صحيح.
(1) تكررت في "الأصل".
(2)
"المجتبى"(6/ 272 رقم 3731).
وأخرجه مسلم (1): عن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه.
الثالث: أيضًا صحيح:
وأخرجه النسائي (2): أنا محمَّد بن عبد الأعلى، ثنا خالد، عن هشام، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله عليه السلام قال:"أمسكوا عليكم أموالكم ولا تعمروها، فمن أُعْمِر شيئًا حياته فهو له حياته وبعد موته".
الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة، عن يحيى بن أبي زكرياء بن أبي زائدة، عن أبيه، عن حبيب بن أبي ثابت، عن حميد الكندي -وليس هو بحميد الطويل، ولم أر أحدًا تكلم فيه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3).
قوله: "فقد كشفت لنا هذه الآثار" أي الأحاديث المروية فيما مضى.
ص: وقد رويت في العمرى أيضًا آثار بغير هذا اللفظ، فمنها: ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه السلام قال:"أيما رجل أُعْمِر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي يعطاها، لأنه أعطي عطاء وقعت فيه المواريث".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا الليث بن سعد، عن ابن شهاب (ح).
وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا؟ ليث، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "من أعمر رجلًا عمرى له ولعقبه، فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أُعْمِرَها ولعقبه".
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1246 رقم 1625).
(2)
"المجتبى"(6/ 274 رقم 3737).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 10 رقم 29073).
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله قال:"قضى رسول الله عليه السلام فَمَن أُعْمِرَ عمرى فهي له ولعقبه بتَّةٌ، لا يجوز للمعطِي فيها شرط ولا ثُنْيا".
ففي هذه الآثار: من أُعْمرَ عمرى له ولعقبه، فهي للذي أُعْمِرَها لا ترجع إلى المعطي بشرط ولا ثنيا؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث.
ش: أي: قد رويت عن النبي عليه السلام أيضًا أحاديث بغير لفظ الأحاديث المذكورة عن جابر وغيره فيما مضى.
قوله: "فمنها" أي فمن هذه الآثار المروية: ما حدثنا يونس بن عبد الأعلى .. إلى آخره.
وأخرجه من أربع طرق صحاح:
الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح.
وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري.
وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.
وأخرجه مالك في "موطإه"(1).
ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري -عن الليث بن سعد، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله، عن جابر.
وأخرجه النسائي (3): أنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن
(1)"موطأ مالك"(2/ 756 رقم 1441).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1245 رقم 1625).
(3)
"المجتبى"(6/ 275 رقم 3744).
أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جبار، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "من أعمر رجلًا. . . ." إلى آخره نحوه.
الثالث: عن ربيع المؤذن -صاحب الشافعي- عن أسد بن موسى، عن ليث بن سعد. . . . إلى آخره.
الرابع: عن ربيع أيضًا، عن أسد، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله، عن جابر.
وأخرجه مسلم (1): نا محمَّد بن رافع، نا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله:"أن رسول الله عليه السلام قضى فيمن أُعْمِرَ عمرى له ولعقبه فهي له بتلة لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا، قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، فقطعت المواريث شرطه".
قوله: "بتة" أي قاطعة من البت وهو القطع، وكذلك البتل، ومنه ما جاء في الحديث:"بتل رسول الله صلى الله عليه وسلم العمرى".
أي أوجبها وملكها ملكًا لا يتطرق إليه نقض، يقال: بتَلَه يَبْتِلُه بَتْلًا إذا قطعه، وانتصاب "بَتَّةً" على المصدرية.
قوله: "ولا ثنيا" بضم الثاء المثلثة وسكون النون، وهو بمعنى الاستثناء.
ص: فقال الذين أجازوا الشرط في العمرى: بهذا نقول، إذا وقعت فيه العمرى على هذا لم ترجع إلى المعطي أبدًا، وإذا لم يكن فيها ذكر العقب فهي راجعة إلى المعطي بعد زوال المُعْمَر.
قالوا: وهذا أولى مما روى عطاء وأبو الزبير، عن جابر؛ لأن هذا قد زاد عليهما قوله:"ولعقبه" وليس هو بدونهما، فالزيادة أولى.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1246 رقم 1625).
ش: أي: فقال القوم الذين أجازوا الشرط في العمرى بقوله عليه السلام: "المسلمون عند شروطهم" وهم أهل المقالة الأولى، ومنهم: مالك والليث بن سعد كما قد ذكرنا، والحاصل أنهم قالوا: نحن نقول مثلكم من كون العمرى للمُعْمَر ولعقبه بتة إذا وقعت معقبة على ما وصف في حديث أبي سلمة عن جابر، وأما إذا لم يكن فيها ذكر العقب فهي راجعة إلى المعطِي -بكسر الطاء بعد زوال المُعْمَر-بفتح الميم الثانية- قالوا:"وهذا أولى" أي الذي رواه أبو سلمة أولى مما رواه عطاء بن أبي رباح وأبو الزبير محمَّد بن مسلم عن جابر، وهو الذي ذكر فيما قبل هذا؛ "لأن هذا" أي أبا سلمة "قد زاد عليهما" أي على عطاء وأبي الزبير. قوله:"لعقبه" حيث قال في روايته: "أيما رجل أُعْمِرَ عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها. . . ." الحديث. "وليس هو" أي أبو سلمة "بَدونهما" أي بدون عطاء وأبي الزبير في ارتفاع الشأن وجلالة القدر "فالزيادة أولى" لأنها من الثقة الثبت والعمل بالزيادة أكثر فائدة وأشد إيضاحًا وأقوى بيانًا في الحكم.
ص: فكان من حجتنا للآخرين في ذلك: أنه لو لم يكن روي عن رسول الله عليه السلام في العمرى حديث غير حديث أبي سلمة هذا؛ لكان فيه أكبر الحجة للذين يقولون أن العمرى لا ترجع إلى المُعْمِر أبدًا ولا يجوز شرطه، وذلك أن العمرى لا تخلو من أحد وجهين:
إما أن تكون داخلة في قول النبي عليه السلام: "المسلمون عند شروطهم" فينفذ للمُعْمِر فيها الشرط على ما شرطه لا يبطل من ذلك شيء، كما تنفذ الشروط من الموقف فيما يوقف.
أو تكون خارجة من ملك المُعْمِر داخلة في ملك المُعَمر فتصير بذلك في سائر ماله.
ويبطل ما شرطه عليه فيها، فنظرنا في ذلك، فإذا العمرى إذا أوقعت على أنها للمُعْمَر ولعقبه فمات وله عقب وزوجة أو أوصى بوصايا، أو كان عليه دين؛ أن
تلك الأشياء تنفذ فيها كما تنفذ في ماله، ولا يمنعها الشرط الذي كان من المُعْمِر في جعله إياها له ولعقبه، وزوجته ليست من عقبه ولا غُرَمَاؤه ولا أهل وصاياه، وكذلك لو مات المُعْمَر ولا عقب له لم يرجع بشيء من ذلك إلى المُعْمِر، فلما كان ما وصفنا كذلك كانت كذلك أبدًا تجوز على ما جعلها عليه المعمَر، ويبطل شرطه الذي اشترطه فيها فلا ينفذ منه قليل ولا كثير، وتخرج من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"المسلمون عند شروطهم" فتكون شروطها ليست من الشروط التي عناها النبي عليه السلام.
وهذا القول الذي صححناه هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي: فكان من دليلنا وبرهاننا لأهل المقالة الثانية في ما ذكروا: أنه أي أن الشأن لو لم يكن روي عن النبي عليه السلام غير حديث أبي سلمة عن جابر هذا المذكور أي لكان فيه أكبر الحجة لأهل المقالة الثانية، ثم بين ذلك بقوله:"وذلك أن العمرى. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر.
قوله: "لا ترجع إلى المُعْمِر" بكسر الميم الثانية.
قوله: "في الموقف" بكسر القاف، فاعل من الإيقاف، من أوقفَ، وهذه لغة ردية، واللغة الفصيحة: يوقف يقف وقفًا، قال الجوهري: وقفت الدار للمساكين وقفًا وأوقفتها -بالألف- لغة ردية، وليس في الكلام "أوقفت" إلا حرف واحد، وأوقفت عن الأمر الذي كنت فيه أي أقلعت.
قوله: "من ملك المُعْمِر" بكسر الميم الثانية.
قوله: "داخلة في ملك المُعْمَر" بفتح الميم الثانية، وكذلك قوله:"على أنها للمُعْمَر"، والميم تكسر وتفتح بحسب المعنى ولا يظهر ذلك إلا بالتأمل.
ص: وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما مثل ذلك:
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت ابن عمر وسأله رجل عن رجل وهب لرجل ناقة حياته فنتجت، فقال: هي له وأولادها، فسألته بعد ذلك فقال: هي له حيًّا وميتًا".
ش: أي قد روي عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مثل ما ذكرنا من أن العمرى تكون للمُعْمَر حياته وبعده لعقبه.
وأخرجه بإسناد صحيح.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر قال:"أتاه أعرابي، فقال: إني أعطيت ابن أختي ناقة حياته، فنمت حتى صارت إبلًا، فما ترى فيها؟ قال: هي له حياته وموته، فقال الأعرابي: إنما جعلتها صدقة، قال: ذاك أبعد لك منها".
وأخرجه البيهقي (2): من حديث ابن عيينة، عن عمرو، عن حميد الأعرج، عن حبيب بن أبي ثابت قال:"كنت عند ابن عمر رضي الله عنهما، فجاءه رجل من أهل البادية، فقال: إنى وهبت لابني ناقة حياته، وإنها نتجت إبلًا، فقال ابن عمر: هي له حياته وموته، فقال: إني تصدقت عنه بها، فقال: ذاك أبعد لك منها".
وأخرج (3) أيضًا من حديث ابن عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين قال:"حضرت شريحًا قضى لأعمي بالعمرى، فقال له الأعمى: يا أبا أمية، بم قضيت لي؟ فقال شريح: لست أنا قضيت لك، ولكن محمَّد صلى الله عليه وسلم قضى لك منذ أربعين سنة، قال: من أُعْمِر شيئًا حياته، فهو لورثته إذا مات" والله أعلم.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 510 رقم 22624).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 174 رقم 11762).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 175 رقم 11765).