الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: التخيير بين الأنبياء عليهم السلام
-
ش: أي هذا باب في بيان حكم التخيير بين الأنبياء عليهم السلام، وذلك أن يقول: النبي الفلاني خير من فلان النبي عليه السلام.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد قال: ثنا سفيان، عن المختار بن فلفل، قال: سمعت أنسًا رضي الله عنه يقول: "جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: يا خير البرية، فقال: ذاك أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن المختار بن فلفل، عن أنس، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا إبراهيم بن مرزوق وإبراهيم بن محمَّد بن يونس، قالا: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان. . . . فذكر بإسناد مثله.
ثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، عن المختار بن فلفل، عن أنس، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذه أربع طرق صحاح:
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي شيخ أحمد، روى له الجماعة. عن سفيان الثوري، عن المختار بن فلفل القرشي المخزومي الكوفي وثقه يحيى والعجلي والنسائي وروى له مسلم، وفي الأربعة غير ابن ماجه.
وأخرجه مسلم (1): عن محمد بن مثني، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن المختار، عن أنس. . . . إلى آخره نحوه.
الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري، عن يحيى القطان، عن سفيان. . . . إلى آخره.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1839 رقم 2369).
وأخرجه الترمذي (1): ثنا بندار، قال: نا ابن مهدي، عن سفيان، عن المختار. . . . نحوه. وقال: حديث حسن صحيح.
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، وإبراهيم بن محمَّد بن يونس بن مروان، كلاهما عن أبي حذيفة موسي بن مسعود، شيخ البخاري، عن سفيان. . . . إلي آخره.
وأخرجه أبو داود (2): ثنا زياد بن أيوب، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن مختار ابن فلفل، فذكر عن أنس قال: قال رجل لرسول الله عليه السلام: "يا خير البرية، فقال رسول الله عليه السلام: ذلك إبراهيم".
الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، عن المختار. . . . إلى آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة (3): ثنا علي بن مسهر، وابن فضيل، عن المختار بن فلفل، عن أنس قال:"جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: يا خير البرية، فقال رسول الله عليه السلام: ذلك إبراهيم".
وأخرجه مسلم (4) أيضًا: عن أبي بكر بن أبي شيبة.
قوله: "يا خير البرية" أي: يا خير الخلق، تقول: براه الله يبروه بروًا: أي خلقه، وتجمع على البرايا والبريات، من البَرَى وهو التراب، هذا إذا لم يُهْمزْ ومن ذهب إلي أن أصله الهمز أخذه مِن برأ الله الخلق يبرؤهم أي خلقهم، ثم ترك فيها الهمز تخفيفًا، ولم تستعمل مهموزة.
قوله: "فقال ذاك" إشارة إلى خير البرية.
قوله: "أي إبراهيم" وهو إبراهيم الخليل بن آزر عليه السلام ولا شك أن أصل النبي عليه السلام
(1)"جامع الترمذي"(5/ 446 رقم 3352).
(2)
"سنن أبي داود"(4/ 218 رقم 4672).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 329 رقم 31816).
(4)
"صحيح مسلم"(4/ 1839 رقم 2369).
من ذرية إسماعيل كما هو مقرر في نسبه الشريف، وإسماعيل هو ابن إبراهيم عليهما السلام، وقال المنذري في شرح هذا الحديث: قيل: يحتمل أنه قاله قبل أن يوحى إليه بأنه خير منه، أو يكون علي جهة التواضع وكَرِهَ إظهار المطاولة على الآباء.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلي أنه لا بأس بالتخيير بين الأنبياء عليهم السلام، فيقال: إن فلانًا خير من فلان علي ما جاء مما كان في كل واحد منهم.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من أهل الحديث؛ فإنهم قالوا: لا بأس أن يقال: إن فلانًا النبي خير من فلان النبي بحسب ما جاء عن كل واحد منهم مما يوجب ذلك.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا التخيير بين الأنبياء عليهم السلام.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير أهل الحديث والفقه، فإنهم يكرهون التخيير بين الأنبياء عليهم السلام علي وجه يؤدي إلى الإزراء بالمخير عليه؛ لأنه ربما أدى ذلك إلى إفساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم، وليس معنى ذلك أن هذه التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه وتعالي، قد أخبر أنه فاضل بينهم فقال:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. . . .} (1). الآية، وقال عليه السلام:"أنا سيد ولد آدم"(2).
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال:"لا تخيروا بين أنبياء الله تعالى".
حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام مثله.
(1) سورة البقرة، آية:[253].
(2)
أخرجه مسلم في "صحيحه"(4/ 1782 رقم 2278)، وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا إبراهيم، قال: ثنا سفيان. . . . فذكر بإسناده مثله.
ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه؛ بحديث أبي سعيد الخدري.
وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلي المصري، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي الفارض الأعور، شيخ البخاري في المقرنات، وثقه العجلي ويحيى. عن عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، روى له الجماعة، البخاري مقرونًا بغيره.
عن عمرو بن يحيى المازني، وثقه أبو حاتم.
عن أبيه يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني، روى له الجماعة. عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا وهيب، قال: نا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروا بين الأنبياء".
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، شيخ البخاري، عن وكيع، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره.
وأخرجه البخاري (2).
الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، شيخ البخاري، عن الثوري. . . . إلي آخره.
وأخرجه مسلم بأتم منه (3).
(1)"سنن أبي داود"(6/ 2534 رقم 6518).
(2)
"صحيح البخاري"(3/ 1245 رقم 3217).
(3)
"صحيح مسلم"(4/ 1845 رقم 2374).
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا الماجشون، عن عبد الله بن الفضل، قال: أخبرني الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام. . . . مثله، في حديث طويل غير أنه قال:"لا تفضلوا".
فنهى رسول الله عليه السلام أن يُفَضَّل بين الأنبياء عليهم السلام.
ش: إسناده صحيح، والوهبي هو أحمد بن خالد بن موسى الوهبي الكندي، شيخ البخاري في غير الصحيح، وثقه يحيى وأبو زرعة.
والماجشون هو عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، روى له الجماعة.
وعبد الله بن الفضل بن عباس بن ربيعة المدني، روى له الجماعة.
والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز، روى له الجماعة.
وأخرجه مسلم (1): نا زهير بن حرب، قال: ثنا حجين بن المثني، قال: نا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال:"بينما يهودي يعرض سلعة له أعطي بها شيئًا كرهه لم يَرْضَهُ -شك عبد العزيز- قال: لا، والذي اصطفى موسى على البشر، قال: فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه، وقال: تقول والذي اصطفى موسى على البشر ورسول الله عليه السلام بين أظهرنا؟! قال: فذهب اليهودي إلى رسول الله عليه السلام فقال: يا أبا القاسم إن لي ذمةً وعهدًا، وقال: فلان لطم وجهي، فقال رسول الله عليه السلام: لم لطمت وجهه؟ قال: قال يا رسول الله: والذي اصطفى موسى على البشر، وأنت بين أظهرنا، قال: فغضب رسول الله عليه السلام حتى عُرف الغضب في وجهه ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور، فَيُصْعَق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، قال: ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول مَنْ بعث -أو في أول من بُعث- فإذا موسى عليه السلام آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب لصعقته يوم الطور أو بُعث قبلي، ولا أقول أن أحدًا أفضل من يونس بن متى".
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1843 رقم 2373).
وأخرجه البخاري (1): عن يحيى بن بكير، عن ليث، عن عبد العزيز بن أبي سلمة. . . . إلى آخره نحوه.
وأخرجه أبو داود (2) عن حجاج ومحمد بن يحيى، عن يعقوب، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة والأعرج، كلاهما عن أبي هريرة نحوه.
وفيه: "لا تخيروني علي موسى" موضع: "لا تفضلوا بين أنبياء الله تعالى".
قوله: "فسمعه رجل من الأنصار" وقد قيل: إنه كان أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
قلت: هذا لا يصح؛ إلا أن تكون قضيتان والله أعلم.
واسم اليهودي: فنحاص.
ص: وروي عنه أنه قال: "لا تفضلوني علي موسى":
حدثنا بذلك ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد يحدث، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا تخيروني علي موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى عليه السلام باطش بجانب العرش، فلا أدري أصَعِق فيمن كان صعق فأفاق قبلي، أو كان فيمن استثنى الله عز وجل".
فنهى رسول الله عليه السلام أن يفضلوه علي موسى، وقال لهم:"إني أول من يُفِيق من الصعقة، فأجد موسى قائمًا، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان فيمن استثنى الله عز وجل؟ ".
فكان ذلك عندنا على أنه جاز عنده أن يكون فيمن استثنى الله عز وجل فلم تصبه الصعقة ففضل بذلك، أو صُعِقَ فأفاق قبله فكان في منزلته؟ لأنهما قد صعقا جميعًا، فكره النبي عليه السلام لذلك تفضيله عليه لمَّا احتمل تَخَطيِّ الصعقة إياه.
(1)"صحيح البخاري"(3/ 1254 رقم 3233).
(2)
"سنن أبي داود"(4/ 217 رقم 4671).
ش: أي: وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: "لا تفضلوني علي موسي"، أشار بهذا إلى أنه عليه السلام قد نهى أمته عن التفضيل بين الأنبياء عليهم السلام مطلقًا، ونهى أيضًا عن تفضيلهم إياه علي موسي عليه السلام خصوصًا، وجاء كلاهما في حديث أبي هريرة.
فالأول: رواه الأعراج، عنه، عن النبي عليه السلام.
والثاني: رواه سعيد بن المسيب، عنه، عن النبي عليه السلام.
وكلا الإسنادين صحيح.
وأخرجه مسلم (1) أيضًا: عن الدارمي، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
وعن محمَّد بن حاتم، عن يزيد بن هارون، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وعن زهير بن حرب وأبي بكر بن النضر، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة والأعرج، عن أبي هريرة قال:"استبَّ رجلان: رجل من اليهود ورجل من المسلمين، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين. قال اليهودي: والذي اصطفى موسي على العالمين. قال: فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله، فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فقال رسول الله عليه السلام: لا تخيروني علي موسى؛ فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يُفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله؟ ".
قوله: "فإن الناس يصعقون يوم القيامة" الصعق: أن يغشى على الإنسان من صوت شديد يسمعه، وربما مات منه، ثم استعمل في الموت كثيرًا، وليس المراد به هاهنا إلا المعنى الأول؛ وذلك لأن الناس لا يموتون يوم القيامة، وإنما يصعقون، أي يغشى عليهم من شدة الأهوال حتي يصيرون كالموتى، ثم يُفيقون، للحساب، فيكون أول من يُفيق منهم رسول الله عليه السلام، فيرى موسي عليه السلام باطشًا بجانب العرش أي متعلقًا به بقوة.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1844 رقم 2373).
و"البطش": الأخذ القوي الشديد.
ثم إنه عليه السلام أخبر أنه لا يدري أكان موسى عليه السلام صعق فيمن كانوا صعقوا، فأفاق قبله عليه السلام أو كان فيمن استثنى الله عز وجل من الملائكة ممن لا يصعقون؛ وذلك لأجل مجازاته بصعقة الطور كما جاء في رواية أبي سعيد الخدري.
أخرجها البخاري (1) ومسلم (2): "لا تخيروني من بين الأنبياء؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يُفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور؟ ".
فإذا كان الأمر كذلك يكون تفضيله عليه السلام إياه لهذا المعنى الخاص، ولا يلزم من تفضيل أحد علي أحد في صفة خاصة أن يكون أفضل منه في جميع الصفات، ويقال: وجه نهيه عليه السلام عن تفضيلهم إياه علي موسى عليه السلام كان لما ذكر من النزاع الكائن بين الأنصاري وبين اليهودي اللذين تنازعا عنده في الفضل عليهم والإخلال، بالواجب في حقه، في هذه القضية حين تنازع إليه الأنصاري واليهودي:"لا تفضلوا بين أنبياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من أبعث، فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور أم بعث قبلي؟ ولا أقول أن أحدًا أفضل من يونس بن متى".
وهاهنا قد نهاهم أن يفضلوا بين الأنبياء كلهم لما ذكرنا من المعني، ثم خصص موسى بالذكر قطعًا لمادة النزاع وتطييبًا لقب اليهودي، ثم عمم نفي تفضيل الأنبياء كلهم علي يونس بن متى عليه السلام، ولكن هذا له تأويلان:
أحدهما: أن يكون أراد من سواه من الأنبياء دون نفسه.
والثاني: أن يكون ذلك مطلقًا فيه وفي غيره من الأنبياء عليهم السلام فيكون هذا
(1)"صحيح البخاري"(3/ 1245 رقم 3217).
(2)
"صحيح مسلم"(4/ 1845 رقم 2374).
القول علي سبيل الهضم من نفسه وإظهار التواضع لربه عز وجل حتى قال في رواية أخرى: "لا ينبغي لي أن أقول: أنا خير منه"؛ لأن الفضيلة التي بيننا كرامة من الله سبحانه وخصوصية منه لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بحولي وقوتي؛ فليس لي أن أفتخر بها، وإنما يجب علينا من شأنه و [ما](1) كان من قلة صبره علي أذى قومه فخرج مغاضبًا ولم يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، وبهذا حصل التوفيق أيضًا بين قوله عليه السلام:"أنا سيد ولد آدم"، قوله:"لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى".
والجواب القاطع الفاصل في هذا الباب: أن الأنبياء كلهم سواء في حق النبوة والرسالة، ولا نفضل بعضهم علي بعض في هذا المعنى، وإنما التفاضل في زيادات الأحوال والكرامات، ونفي النبي عليه السلام تفضيل نفسه علي موسي أو علي غيره، وتفضيل الأنبياء علي يونس ونحو ذلك كله يرجع إلى تفضيل في حق النبوة، وقد يقال: إن هذا كله يحتمل أن يكون قبل أن يوحى إليه بأنه خير الأنبياء وأفضلهم. والله أعلم.
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام أيضًا أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام قال:"لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت حميد بن عبد الرحمن يحدث عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"قال الله عز وجل: ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى".
(1) في "الأصل، ك": "من".
حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث، عن علي رضي الله عنه كأنه عن الله عز وجل-فذكر مثله، وزاد:"قد سبح الله في الظلمات".
فنهى رسول الله عليه السلام في هذه الآثار عن التخيير بينه وبين أحد من الأنبياء بعينه، وأخبر بفضيلة لكل من ذكره منهم لم تكن لغيره.
ش: هذا أيضًا من جملة الحجج التي يحتج بها في النهي عن التخيير بين الأنبياء عليهم السلام، وعن التخيير بين نبينا محمَّد عليه السلام وبين أحد منهم بعينه، وأخرج في ذلك عن ثلاثة من الصحابة:
الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما أخرج عنه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن قتادة عن أبي العالية رُفَيع بن مهران الرياحي البصري.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام قال:"ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى".
وأخرجه مسلم (2): عن محمد بن مثنى وابن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا العالية يقول: حدثني ابن عم نبيكم -يعني ابن عباس- عن النبي عليه السلام قال: "ما ينبغي لعبد يقول: أنا خير من يونس بن متى. ونسبه إلى أبيه".
وكذا أخرجه البخاري (3).
(1)"سنن أبي داود"(4/ 217 رقم 4669).
(2)
"صحيح مسلم"(4/ 1846 رقم 2377).
(3)
"صحيح البخاري"(3/ 1244 رقم 3215).
ورواية البخاري ومسلم ترد على من يقول: إن متى اسم أم يونس، وأنه لم يشتهر من الأنبياء باسم أمه إلا يونس وعيسى عليهما السلام.
ومَتَّي: بفتح الميم وتشديد التاء المثناة من فوق.
الثاني: عن أبي هريرة بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.
وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا محمَّد بن المثني، قال: ثنا محمَّد بن جعفر، نا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى".
الثالث: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإسناد صحيح -عن سليمان بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زياد، عن شعبة، عن عمرو بن مرة الجملي الكوفي الفقيه الأعمى، عن عبد الله بن سَلِمة -بكسر اللام- المرادي الكوفي، عن علي رضي الله عنه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا غندر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمَة، عن علي قال:"قال -يعني الله عز وجل: ليس لعبدٍ لي أن يقول: أنا خير من يونس بن متَّى؛ سبَّح الله في الظلمات".
وروي في هذا الباب عن عبد الله بن مسعود أيضًا:
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا الفضل، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن مَتَّى".
(1)"مسند البزار"(5/ 105 رقم 1683)، وهو في "صحيح البخاري"(3/ 1255 رقم 3234)، و"صحيح مسلم"(4/ 1846 رقم 2376) كلاهما من طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم به.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 377 رقم 318163).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 377 رقم 318164).
وروي عن عبد الله بن جعفر أيضًا:
أخرجه أبو داود (1): ثنا عبد العزيز بن يحيى، قال: حدثني محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن إسماعيل بن حكيم، عن القاسم بن محمَّد، عن عبد الله بن جعفر قال:"كان رسول الله عليه السلام يقول: ما ينبغي لنبي أن يقول: إني خير من يونس بن متَّى عليه السلام".
ص: فإن قال قائل: أفتجعل هذا مضادًّا لحديث المختار بن فلفل؟
قلت: ليس هو عندي بمضادٍّ له؛ لأن حديث المختار إنما هو عن أنس رضي الله عنه: "أن إبراهيم خير البرية" فلم يقصد في ذلك إلي أحد دون أحد، وفي الآثار الأُخر تفضيل نبى علي نبي، ففي تفضيل أحدهم بعينه على الآخر بعينه منهم إزراء على المفضول، وليس في تفضيل رجل على الناس إزراء علي أحد منهم، هذا يحتمل أن يكون هو [المعنى](2) حتى لا تتضاد هذه الآثار ، وقد يحتمل أن يكون الله عز وجل أطلع رسوله علي أن إبراهيم عليه السلام خير البرية، ولم يطلعه علي تفضيل بعض الأنبياء غيره علي بعض، فوقف فيما لم يطلعه الله عز وجل عليه، وأمر بالوقف عنده، وأطلق الكلام فيما أطلعه الله عز وجل عليه.
ش: تقرير السؤال أن يقال: بين حديث أنس الذي رواه عنه المختار بن فلفل وبين الأحاديث التي وردت في حق يونس عليه السلام تعارض ظاهر أو تضاد؛ لأن حديث أنس أخبر أن إبراهيم عليه السلام هو خير البرية، وهذه الأحاديث منعت أن يقال: إن أحدًا خير من يونس.
والجواب ظاهر، والسؤال المذكور يَرِدُ أيضًا في قوله عليه السلام:"أنا سيد ولد آدم" فإنه يعارض الأحاديث التي وردت في يونس عليه السلام.
والجواب عنه ما ذكرناه فيما مضى. والله أعلم.
(1)"سنن أبي داود"(4/ 217 رقم 4670).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".