الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الكي هل هو مكروه أم لا
؟
ش: أي هذا باب في بيان حكم الكي بالنار هل يكره أم لا؟ وأصل كي: كوى علي وزن فعل؛ لأنه مصدر من كَوى يكْوِي، اجتمعت الواو الياء وسُبِقَت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء، يقال: كويته فاكتوى.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله:"أن ناسًا أتوا النبي عليه السلام بصاحب لهم، فسألوه: أنكويه؟ فسكت، فسألوه فسكت، فسألوه فسكت، ثم سألوه فقال: ارضفوه أو حرقوه، وكره ذلك".
ش: إسناده صحيح.
وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي.
وأبو الأحوص عوف بن مالك.
وأخرجه البيهقي (1) من حديث معمر، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال:"جاء نفر إلى رسول الله عليه السلام[فقالوا] (2): إن صاحبنا اشتكى أفنكويه؟ فسكت ساعةً، ثم قال: إن شئتم فاكووه، وإن شئتم فارضفوه -يعني بالحجارة".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا محمد بن عبد الله، ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:"أتي النبي عليه السلام برجل نُعِتَ له الكي، فقال له النبي عليه السلام: اكووه أو ارضفوه".
قوله: "ارضفوه" أي كمدوه بالرضف وهو الحجر المحمي، قال الجوهري: الرضف بالحجارة المحماة يوغر بها اللبن، واحدها رضفة.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(9/ 342 رقم 19336).
(2)
في "الأصل، ك": "قال"، والمثبت من "سنن البيهقي".
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 52 رقم 23617).
ص: حدثنا رييع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله رضي الله عنه قال:"أتى رسول الله عليه السلام ثلاثة نفر فقالوا: إن صاحبًا لنا مريض وُصِفَ له الكيّ، أفنكويه؟ فسكت، ثم عادوا، فسكت، ثم قال لهم في الثالثة: اكووه إن شئتم، وان شئتم فارضفوه بالرضف".
ش: هذا طريق آخر وهو أيضًا صحيح.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله:"أن قومًا أتوا النبي عليه السلام فقالوا: صاحب لنا يشتكي، أنكويه؟ قال: فسكت، ثم [قالوا] (2): أنكويه؟ فسكت، ثم قال: أنكويه؟ فسكت فقال: اكووه وارضفوه بالرضف رضفًا".
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: ومعنى هذا عندنا على الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي، كما قال الله عز وجل:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ. . .} (3) الآية، وكقوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (4).
ش: أي معنى هذا الحديث، وأشار به إلى أن الأمر المذكور في حديث عبد الله ليس علي حقيقته، وإنما ظاهره الأمر، ولكن باطنه النهي بطريق الوعيد والتهديد، ذلك كما في قوله تعالى:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} (3)؛ وذلك لأن الله تعالى لا يأمر الشيطان باستفزاز من يستطيعه، والاستفزاز: الاستخفاف، وكذلك في قوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (4) ليس علي حقيقته بأن يكون أمرًا منه بأن يعملوا كل ما يشاءون، ومنه ما يقال لعبد شتم مولاه وقد أدبه: اشتم مولاك؛ فإنه ليس يأمر بالشتم ولكنه تهديد.
(1)"مسند أحمد"(1/ 390 رقم 3701).
(2)
في "الأصل": "قال"، والمثبت من "مسند أحمد".
(3)
سورة الإسراء، آية:[64].
(4)
سورة فصلت، آية:[40].
ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو سعيد محمَّد بن أسعد التغلبي، ثنا زهير بن معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"إن كان في شيء مما تداوون به شفاء ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة نار، وما أحب أن أكتوي".
ش: علي بن عبد الرحمن بن محمَّد الكوفي المعروف بعلَّان.
ومحمد بن أسعد التغلبي أبو سعيد المصيصي، وثقه ابن حبان، وقال أبو زرعة: منكر الحديث.
وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن ابن معين والعجلي: ثقة، وقال ابن عدي: لا بأس به، صدوق في رواياته.
وأخرجه البزار في "مسنده": عن بشر بن خالد العسكري، عن محمَّد بن أسعد التغلبي، عن زهير بن معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع نحوه.
قوله: "شرطة محجم" مِن شرطَ الحجام يَشْرِطُ ويَشْرُط -بضم عين الفعل في المضارع وكسرها- إذا بزغ، ومنه: المِشرط بكسر الميم، وهو المبضع، والمحجم بكسر الميم، والمحجمة: قارورة الحجام.
قوله: "أو لدغة نار" أراد بها الكي بالنار، وهو بالدال المهملة والغين المعجمة (1).
(1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "النهاية"(4/ 247) بالذال المعجمة والعين المهملة، وقال ابن الأثير: فيه "خير ما تداويتم به كذا وكذا أو لَذْعَةٌ بنارٍ تصيب أَلمًا". ثم قال: اللذع: الخفيف من إحراق النار، يريد: الكَيّ.
وفي "لسان العرب"(8/ 317)[مادة: لذع]: اللذْعُ: حُرْقَةٌ كَحُرْقَةِ النار، وقيل: هو مَسُّ النار وحِدَّته ، لَذَعَهُ يلذَعه لَذْعً ، ولَذَعَتْهُ النار لَذْعًا: لفحته وأحرقته، وفي الحديث. . . الخ.
وقال الحافظ في "الفتح"(10/ 141): بذال معجمة ساكنة، وعين مهملة، اللَّذْعُ: هو الخفيف من حرق النار، وأما اللّدْغُ -بالدال المهملة، والغين المعجمة- فهو ضرب أو عضُّ ذات السّم.
وقد ضبطها المؤلف في "عمدة القاري"(21/ 233) على الصواب بالذال المعجمة وبالعين المهملة. . . ثم قال: وأمَّا اللدْغ بالدال المهملة، وبالغين المعجمة: فهو عضّ ذات السم.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن حسان، عن الحسن، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون، وعلي ربهم يتوكلون".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال:"نُهينا عن الكي".
ش: هذان إسنادان صحيحان:
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي. . . إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1): عن يحيى بن خلف، عن المعتمر بن سليمان، عن هشام، عن محمَّد، عن عمران قال: قال رسول الله عليه السلام: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، قيل: مَن هم؟ قال: هم الذي لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون".
وأخرجه ابن أبي شيبة (2): عن الحسن، عن عمران بن الحصين، عن ابن مسعود قال:"تحدثنا عند رسول الله عليه السلام، قال: فقال النبي عليه السلام: سبعون ألفًا يدخلون الجنة لا حساب عليهم: الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلي ربهم يتوكلون".
قوله: "لا يتطيرون" أي لا يتشاءمون بشيء.
قوله: "ولا يسترقون" من الاسترقاء وهو العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات، وكذلك الرقية.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر، شيخ البخاري وأبي داود.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 198 رقم 218).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 53 رقم 23624).
وأخرجه الترمذي (1): عن عبد القدوس بن محمَّد عن عمرو بن عاصم، عن همام، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران قال:"نُهينا عن الكي".
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه أيضًا (2): عن محمَّد بن بشار، عن غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران:"أن النبي عليه السلام نهى عن الكي".
وأخرجه أبو داود (3): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن ثابت، عن مطرف، عن عمران بن حصين، قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن الكي، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا".
وأخرجه ابن ماجه (4) أيضًا.
ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عقبة بن عامر:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن الكي".
ش: ابن لهيعة: عبد الله، فيه مقال.
وابن هبيرة: عبد الله بن هبيرة بن أسعد السبائي الحضرمي البصري، روى له الجماعة سوى البخاري.
وعبد الرحمن بن جبير المصري المؤذن مولى نافع بن عمرو، روى له مسلم.
وأخرجه الطبراني (5):
ثنا يحيى بن أيوب العلاف، نا سعيد بن أبي مريم، ثنا ابن لهيعة، نا الحارث بن يزيد، عن عبد الرحمن بن جبير، أنه سمع عقبة بن عامر يقول: "نهى
(1)"جامع الترمذي"(4/ 389 رقم 2049).
(2)
"جامع الترمذي"(4/ 198 رقم 218).
(3)
"سنن أبي داود"(4/ 5 رقم 3865).
(4)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1155 رقم 3390).
(5)
"المعجم الطبراني"(17/ 338 رقم 932).
رسول الله عليه السلام عن الكي، وكان يكره ماء الحميم، وكان إذا اكتحل اكتحل وترًا، وإذا استجمر استجمر وترًا".
ص: فذهب قوم إلى أن الكي مكروه، وأنه لا يجوز لأحد أن يفعله علي حال من الأحوال، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي وأبا مجلز لاحق بن حميد والحسن البصري ومجاهدًا؛ فإنهم كرهوا الكي ولم يجوزوا لأحد أن يفعله، واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بالكي لِمَا عِلاجُهُ الكيّ.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: قتادة ومحمد بن الحنفية والحسن بن سعد وعطاء بن السائب والثوري والنخعي وأبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنهم (قالوا) (1): لا بأس بالكي للمرض الذي عِلاجُهُ الكي.
ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا محمَّد بن خازم، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه قال:"اشتكي أُبيِّ بن كعب، فأرسل إليه رسول الله عليه السلام طبيبًا فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه".
حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال:"اشتكي أُبىِّ بن كعب، فبعث إليه رسول الله عليه السلام طبيبًا، فَقَدَّ عرقه الأكحَل وكواه".
ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه: حديث جابر رضي الله عنه.
وأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن ربيع، عن أسد بن موسي، عن محمَّد بن خازم -بالخاء والزاي المعجمتين- أبي معاوية الضرير، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر.
(1) تكررت في "الأصل".
وأخرجه أبو داود (1): ثنا محمَّد بن سليمان الأنباري، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال:"بعث النبي عليه السلام إلى أُبيِّ طبيبًا، فقطع منه عرقًا".
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع. . . . إلى آخره.
وأخرجه ابن ماجه (2): عن عمرو بن رافع، عن محمَّد بن عبيد، عن الأعمش، به.
قوله: "اشتكى" أي مَرِضَ.
قوله: "فَقَدَّ عرقه الأكحل". أي قطعه، والأكحل عرق في اليد يفصد، قال الجوهري: لا يقال: عرق الأكحل.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر قال:"رمي سعد بن معاذ في أكحله فَحَسَمَهُ رسول الله عليه السلام بيده بمشقص، ثم وَرِمَتْ فَحَسَمَهُ الثانية".
ش: إسناده صحيح.
وأحمد بن يونس شيخ البخاري ومسلم، وزهير هو ابن معاوية، وأبو الزبير محمَّد بن مسلم المكي.
وأخرجه مسلم (3): ثنا أحمد بن يونس. . . . إلى آخره نحوه.
قوله: "فَحَسَمَهَ" بالحاء والسين المهملتين، أي قطع الدم عنه بالكي.
قوله: "بمشقص" بكسر الميم، وهو نصل السهم إذا كان طويلًا غير عريض، فإذا كان عريضًا فهو المِعْبَلَة.
(1)"سنن أبي داود"(4/ 5 رقم 3864).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1156 رقم 3493).
(3)
"صحيح مسلم"(4/ 1731 رقم 2208).
قوله: "ثم وَرِمَت" بكسر الراء. أي انتفخت.
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه:"أن أُبيِّ بن كعب -أو سعدًا- رمي رمية في يده، فأمر رسول الله عليه السلام طبيبًا فكواه عليها".
حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا شعيب، قال: ثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر قال:"رمي يوم الأحزاب سعد بن معاذ رضي الله عنه فقطعوا أكحَلَهُ، فَحَسَمَهُ رسول الله عليه السلام بالنار، فانتفخت يده، فَحَسَمَهُ مرةً أخرى".
ش: هذان طريقان آخران:
الأول: فيه عبد الله بن لهيعة، فيه مقال.
وأخرجه أبو داود (1): عن موسى، عن حماد، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن النبي عليه السلام كوى سعد بن معاذ من رميته".
الثاني: عن ربيع أيضًا، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن أبي الزبير محمَّد مسلم، عن جابر.
وأخرجه ابن ماجه (2) وأحمد (3).
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس:"أن النبي عليه السلام كوى أسعد بن زرارة (من شوكة) (4) ".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع. . . . فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"من شوصة".
(1)"سنن أبي داود"(4/ 5 رقم 3866).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1156 رقم 3494).
(3)
"مسند أحمد"(3/ 363 رقم 14948).
(4)
تكررت في "الأصل".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن مرزوق، قال: ثنا عمران، عن قتادة، عن أنس قال:"كواني أبو طلحة ورسول الله عليه السلام بين أظهرنا، فما نهيت عنه".
ش: هذه ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد، عن يزيد بن زريع، عن معمر بن راشد، عن محمَّد بن مسلم الزهري.
وأخرجه الترمذي (1): نا حميد بن مسعدة، ثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس:"أن النبي عليه السلام كوى أسعد بن زرارة من الشوكة".
وقال: هذا حديث حسن غريب.
قوله: "من شوكة" هي حمرة تعلو الوجه والجسد، يقال منه: شِيكَ الرجل، فهو مَشُوك، وكذا إذا دخل في جسمه شوكة.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن منهال الحافظ البصري، شيخ البخاري ومسلم، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أنس.
قوله: "من شوصة" وهي وجع الضرس، وقيل: وجع في البطن من ريح ينعقد تحت الأضلاع.
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن عمرو بن مرزوق البصري، شيخ أبي داود والبخاري في التعليقات، عن عمران بن داود القطان البصري، ضعفه أبو داود، ووثقه ابن حبان، وروي له الجماعة غير مسلم، ولكن البخاري مستشهدًا.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال:"كواني أبو طلحة، واكتوى من (اللقوة) (3) ".
(1)"جامع الترمذي"(4/ 390 رقم 2050).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 92 رقم 23611).
(3)
اللَّقْوَةُ: هي مرض يعرض للوجه فيميله إلى أحد جانبيه. انظر "النهاية"(4/ 268).
وقال الجوهري في "الصحاح"(1/ 251): داءٌ في الوجه، يقال منه: لُقِيَ الرجل -بالضم- فهو مَلْقُوّ.
وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري زوج أم أنس بن مالك رضي الله عنهم.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو الزبير، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن بعض أصحاب النبي عليه السلام قال:"كَوَى رسول الله عليه السلام سعدًا -أو أسعد بن زرارة- من الذبحة في حلقه".
ش: إسناده صحيح.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا حسن، ثنا زهير، عن أبي الزبير، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن بعض أصحاب النبي عليه السلام قال:"كوى رسول الله عليه السلام سعدًا -أو أسعد بن زرارة- في حلقه من الذبحة، وقال: لا أدع في نفسي حرجًا من سعد -أو أسعد بن زرارة".
قوله: "من الذُّبَحَةُ" بضم الذال المعجمة وفتح الباء وقد تسكن، وهو وجع يعرض في الحلق من الدم. وقيل: هي قرحة تظهر فيه فينسد معها وينقطع النفس فتقتل.
ص: ففي هذه الأخبار إباحة الكي للداء المذكور فيها، وفي الآثار الأُوَل النهي عن الكي، فاحتمل أن يكون المعنى الذي كانت له الإباحة في هذه الآثار غير المعنى الذي كان له النهي في الآثار الأُوَل؛ وذلك أن قومًا كانوا يكتوون قبل نزول البلاء بهم يرون أن ذلك يَمْنع البلاء أن ينزل بهم كما يفعل الأعاجم، فهذا مكروه؛ لأنه ليس على طريق العلاج، وهو شرك؛ لأنهم يفعلونه لدفع قدر الله عنهم، فأما ما كان بعد نزول البلاء إنما يراد به العلاج، والعلاج مباح مأمور به، وقد بيَّن ذلك جابر بن عبد الله في حديث رواه عن رسول الله عليه السلام:
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن عاصم، عن جابر بن عبد الله، أن النبي عليه السلام قال:"إن يكن في شيء من أدويتكم هذه خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو [لذعة] (2) نار توافق داءً، وما أحب أن أكتوي".
(1)"مسند أحمد"(4/ 65 رقم 16669).
(2)
في "الأصل، ك": "لَدْغَة"، بالدال المهملة والغين المعجمة، وهو خطأ قد نبهنا عليه قريبًا.
فإذا كان في هذا الحديث أن لذعة النار التي توافق الداء مباحة، والكي مكروه، وكانت اللدغة بالنار كيَّةً؛ ثبت أن الكي الذي يوافق الداء مباح، وأن الكي الذي لا يوافق الداء مكروه.
ش: أراد بهذه الأخبار: أحاديث جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وبعض أصحاب النبي عليه السلام، وأشار بهذا الكلام إلى بيان وجه التوفيق بين أحاديث الفصلين؛ لأن أحاديث الفصل الأول تنهى عن الكي، وأحاديث الفصل الثاني تبيحه، فبينهما تعارض ظاهرًا، وجه التوفيق بينها أن يقال: إن المعنى الذي أبيح بسببه الكي غير المعنى الذي نهي عنه من جهة مختلفة، فاندفع التعارض؛ لأن من شرط التعارض اتحاد الجهة، وقد بين الطحاوي ذلك.
وقال الخطابي رحمه الله: الكَيُّ من العلاج الذي يعرفه العامة والخاصة، والعرب تستعمل الكيَّ كثيرًا فيما يعرض لها من الأدواء، ومن أمثالهم: آخر الطب: الكَيَّ.
فأما حديث عمران في النهي عنه فقد يحتمل وجوهًا:
أحدها: أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره ويقولون: آخر الدواء الكي، ويريدون أنه يحسم الداء، وإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك، فنهاهم عن ذلك إذا كان علي هذا الوجه، وأباح لهم استعماله علي معنى التوكل علي الله سبحانه، وطلب الشفاء، والترقي للبرء وما يُحْدِثُ الله من صنعه فيه، وتخلفه من الشفاء علي إثره، وهو أمر قد يكثر شكوك الناس فيه وتخطئ فيه ظنونهم وأوهامهم، فما أكثر ما تسمعهم يقولون: لو أقام فلان في أرضه وبلده لم يهلك، ولو شرب الدواء لم يهلك، ونحو ذلك من تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب دون تسليط القضاء علينا، فتكون الأسباب أمارات لتلك الكوائن لا موجبات لها؛ قال الله تعالى:{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (1)، وقال حكاية عن الكفار:{لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} (2).
(1) سورة النساء، آية:[78].
(2)
سورة آل عمران، آية:[156].
وفيه وجه آخر: وهو أن يكون نهيه عن الكي: هو أن يفعله احترازًا عن الداء قبل وقوع الضرورة ونزول البلية، وذلك مكروه، وإنما أبيح العلاج والتداوي عند وقوع الحاجة والضرورة إليه، ألا ترى أنه كوى سعدًا حين حاق عليه الهلاك من النزف؟ وقد يحتمل أن يكون إنما نهى عمران خاصة عن الكي في علة بعينها لعلمه أنه لا ينجع (1)، ألا تراه يقول:"ما أفلحنا ولا أنجحنا" وقد كان به الناسور، ولعله إنما نهاه عن استعمال الكي في موضعه من البدن، والعلاج إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظورًا، والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره وليس ذلك في بعض الأعضاء، فيشبه أن يكون [النهي](2) منه صرفًا إلى النوع المخوف منه. والله أعلم.
قوله: "وقد بين ذلك" أي ما ذكرنا من أن الكي بعد نزول البلاء لإرادة العلاج والتداوي؛ مباح مأمور به.
وقوله: "حديث جابر" فاعل لقوله: "بيَّن".
وأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن عبد الرحمن بن سليمان -هو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة بن راهب المدني، روى له الجماعة، عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري المدني، روى له الجماعة.
وأخرجه البخاري (3): عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: سمعنا النبي عليه السلام يقول: "إن كان في شيء من أدويتكم -أو يكون في شيء من أدويتكم- خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لَدْغَةٌ بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي".
(1) كذا في "الأصل، ك" بالعين المهملة، وفي "النهاية" (5/ 21): ويقال: نَجَعَ فيه الدواء، ونَجِعَ وأَنْجَعَ: إذا نفعه وعَمِلَ فيه، وقيل: لا يقال فيه: أنجع.
(2)
ليست في "الأصل، ك".
(3)
"صحيح البخاري"(5/ 2152 رقم 5359).
ص: ويحتمل أن يكون الكي منهيًا عنه على ما في الآثار الأُوَل، ثم أبيح بعد ذلك علي ما في هذه الآثار الأُخَر، وذلك أن ابن أبي داود حدثنا، قال: ثنا خطاب بن عثمان، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، عن سليمان بن سليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:"جاء رجل إلي رسول الله عليه السلام يستأذنه في الكي فقال: لا تَكْتَوِ، فقال: يا رسول الله، بلغ بي الجَهْدُ، ولا أجدُ بدًّا من أن أكتوي، قال: ما شئت، أَمَا إنه ليس من جرح إلا هو آتي الله عز وجل يوم القيامة يدمي يشكو الألم الذي كان بسببه، وإن جَرْحَ الكي يأتي يوم القيامة يذكر أن سببه كان من كراهة لقاء الله عز وجل، ثم أمره أن يكتوي".
ففي هذا الحديث نهي رسول الله عليه السلام عن الكي وإباحته إياه بعد ذلك، فاحتمل أن يكون ما في الآثار الأُوَل كان من رسول الله عليه السلام في حال النهي المذكور في هذا الحديث، وما كان من الإباحة في الآثار الأُخَر كان عندما كان منه من الإباحة المذكورة في هذا الحديث، فتكون الإباحة ناسخة للنهي.
ش: هذه إشارة إلى بيان وجه آخر في التوفيق بين أحاديث هذه الباب، وحاصله أن أحاديث النهي عن الكي تكون منسوخة بأحاديث الإباحة، والأصل أن المحرم والمبيح إذا اجتمعا يكون الحكم للمحرم احتياطًا، لكن فيما إذا لم يكن يعلم المتقدم والتأخر، فإذا علم التقدم والتأخر يكون المبيح ناسخًا إذا تقدم، وهاهنا إباحة النبي عليه السلام الكي بعد منعه، فدل علي أنه كان ناسخًا، والدليل علي ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن خطاب بن عثمان الفَوْزي، شيخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش -بالياء المشددة آخر الحروف، وبالشين المعجمة- الشامي الحمصي، قال دحيم: ثقة في الشاميين وخلط عن المدنيين. وقال البخاري: إذا حدث عن أهل بلده فصحيح، وإذا حدث عن غيره ففيه نظر. واحتجت به الأربعة.
عن سليمان بن سليم الكناني الحمصي -قال الدارقطني: ثقة. وروى له الأربعة، عن عمرو بن شعيب، وثقه العجلي والنسائي، عن أبيه شعيب بن محمَّد، وثقه ابن حبان وغيره، عن جده عبد الله بن عمرو وقد مَرَّ الكلام غير مرة في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده.
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام أنه كوى سارقًا بعدما قطعه.
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبو بكر بن علي، قال: ثنا الحجاج بن أرطاة، عن مكحول، عن ابن محيريز قال:"قلت لفضالة بن عبيد: أمِنَ السنة أن تقطع يد السارق وتعلق في عنقه؟ فقال: نعم؛ إن رسول الله عليه السلام أتي بسارق، فأمر به فقطعت يده، ثم حَسَمَهُ، ثم علقها في عنقه".
حدثنا حسين بن نصر، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن يزيد بن خصيفة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال:"أتي النبي عليه السلام برجل سرق شملة، فقال: أسرقت؟ ما إخاله سرق، قال: بلى يا رسول الله، قال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم قال: تب إلي الله".
ففي هذا أيضًا دليل علي إباحة الكيِّ الذي يراد به العلاج؛ لأنه دواء.
ش: ذكر هذين الحديثين شاهدين لما ذكره من أن الكي الذي يوافق الداء مباح.
فالأول: أخرجه عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القطان شيخ البخاري، عن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري، روى له النسائي، عن الحجاج بن أرطاة النخعي القاص، قال أبو حاتم: صدوق يدلس عن الضعفاء. وقال النسائي: ليس بالقوي. روى له الجماعة؛ البخاري في غير "الصحيح" ومسلم مقرونًا بغيره، عن محكول الشامي، عن عبد الرحمن بن محيريز بن جنادة المكي، روى له الأربعة.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا عمر بن علي، قال: ثنا
(1)"سنن أبي داود"(4/ 143 رقم 4411).
الحجاج، عن مكحول، عن عبد الرحمن بن محيريز قال:"سألنا فضالة بن عبيد عن تعليق اليد في العنق للسارق؛ أمِنَ السنة هو؟ قال: أتي رسول الله عليه السلام بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه".
وأخرجه الترمذي (1): ثنا قتيبة، قال: ثنا عمر بن علي .. إلى آخره نحوه.
وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن علي المقدمي، عن الحجاج بن أرطاة، وعبد الرحمن أخو عبد الله بن محيريز.
وأخرجه النسائي (2): أنا ابن بشار، عن عمر بن علي .. إلى آخره نحوه.
ثم قال النسائي: الحجاج بن أرطاة ضعيف لا يحتج بحديثه.
وأخرجه ابن ماجه (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وبكر بن خلف ومحمد بن بشار وأبو سلمة يحيى بن خلف، قالوا: ثنا عمر بن علي. . . . إلى آخره نحوه.
قوله: "أمِنَ السنة" الهمزة فيه للاستفهام.
قوله: "ثم حَسَمَهُ" أي قطع دمه بالكي.
ويستفاد منه أحكام وهي: أن السارق تقطع يده.
وأن يده تحسم بعد القطع لأجل قطع الدم.
وأن يده تعلق في عنقه، قال بعضهم: كأنه من باب التطويف والإشارة بذكره ليرتدع به غيره، ولو ثبت لكان حسنًا صحيحًا ولكنه لم يثبت.
والثاني: أخرجه عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن يزيد بن عبد الله بن خصيفة الكندي المدني، روى له الجماعة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري، روى له الجماعة.
وهذا مرسل.
(1)"جامع الترمذي"(4/ 51 رقم 1447).
(2)
"المجتبى"(8/ 92 رقم 4983).
(3)
"سنن ابن ماجه"(2/ 863 رقم 2587).
وأخرجه البزار في "مسنده" مسندًا متصلًا: ثنا أحمد بن أبان القرشي، ثنا عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن يزيد بن خصيفة، عن محمَّد بن عبد الرحمن ابن ثوبان -ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة- قال:"أتي النبي عليه السلام بسارق، قالوا: سرق، قال: ما إخاله سرق، قال: بلى قد فعلت يا رسول الله، قال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به، فَذُهِبَ به فَقُطِع، ثم حسم ثم أُتي به النبي عليه السلام فقال: تب إلي الله، قال: تُبت إلي الله، قال: تاب الله عليك -أو قال: اللهم تب عليه".
وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
وأخرجه البيهقي في "سننه الكبرى"(1) من حديث الدراوردي، أخبرني يزيد بن خصيفة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة، قالوا: يا رسول الله، إن هذا سرق، فقال رسول الله عليه السلام: ما إخاله سرق، قال السارق: بلي يا رسول الله، فقال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه ثم ائتوني به، فقطع، فأتي به، فقال: تب إلى الله، قال: تبت إلى الله، قال: تاب الله عليك".
كذا رواه (2) يعقوب الدورقي وغيره عنه، ورواه ابن المديني عنه فأرسله، ثم قال عليّ: وحدثنيه عبد العزيز بن أبي حازم، أخبرني يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان، وثنا سفيان، ثنا ابن خصيفة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، فذكره مرسلًا، قال علي: لم يسنده واحد منهم.
قال: وبلغني عن أبي إسحاق أنه رواه عن يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان، عن أبي هريرة. ولا أراه حفظه.
ص: وقد سأل الأعراب رسول الله عليه السلام فقالوا: ألا نتداوى؟ فكان جوابه في ذلك ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال:
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 271 رقم 17031).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 275 رقم 17033).
ثنا زياد بن علاقة، قال: سمعت أسامة بن شريك يقول: "شهدت النبي عليه السلام والأعراب يسألونه فقالوا: هل علينا جناح أن نتداوى؟ فقال: تَدَاوَوْا عباد الله؛ إن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له دواءً إلا الهرم".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أن رسول الله عليه السلام قال:"يا أيها الناس تَدَاوَوْا، فإن الله عز وجل لم يخلق داءً إلا خلق له شفاء إلا السام، والسام: الموت".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله عليه السلام قال:"لكل داءٍ دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله".
فأباح لهم رسول الله عليه السلام أن يتداووا والكَيُّ مما كانوا يتداوون به.
ش: ذكر هذه الأحاديث أيضًا شاهدة لصحة ما ذكره أن الكي إذا كان يوافق الداء يباح استعماله، ألا ترى أن الأعراب سألوا رسول الله عليه السلام فقالوا:"هل علينا جناح أن نتداوى؟ فأمرهم رسول الله عليه السلام بالتداوى وقال: إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا الهرم" وفي رواية: "إلا السام وهو الموت"، فأباح لهم التداوي مطلقًا والكيّ يدخل فيه؛ لأنه من جملة ما كانوا يتداوون به، ولاسيما أهل الوبر؛ فإن غالب الطب عندهم بالنار.
وأخرجها عن ثلاثة من الصحابة:
الأول: عن أسامة بن شريك، وأخرجه بإسناد صحيح، وأخرجه الأربعة:
فأبو داود (1): عن حفص بن عمر النمري، عن شعبة، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، قال:"لقيت النبي عليه السلام وأصحابه كأنما علي رءوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من هاهنا وهاهنا فقالوا: يا رسول الله نتداوى؟ فقال: تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواءٍ غير داءٍ واحد: الهرم".
(1)"سنن أبي داود"(4/ 3 رقم 3855).
والترمذي (1): عن بشر بن معاذ العقدي البصري، عن أبي عوانة، عن زياد بن علاقة. . . . بنحوه. وأوله:"قالت الأعراب: يا رسول الله، ألا نتداوى؟ " وقال: حسن صحيح.
والنسائي (2): عن محمَّد بن عبد الأعلي، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن زياد بن علاقة نحوه مختصرًا.
وابن ماجه (3): عن أبي بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار، عن سفيان بن عيينة، عن زياد بن علاقة نحوه.
الثاني: عن ابن عباس:
أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن طلحة بن عمرو ابن عثمان الحضرمي المكي، قال: يحيى فيه: لا شيء، ضعيف. وقال البخاري: ليس بشيء. وقال: النسائي: متروك الحديث.
وهو يروي عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.
الثالث: عن جابر بن عبد الله:
أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني أخي يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله.
وأخرجه مسلم (4): ثنا هارون بن معروف وأبو طاهر وأحمد بن عيسى، قالوا: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو -هو ابن الحارث- عن عبد ربه بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"لكل داء دواء، فإذا أصيبَ دواءُ الداءِ برأ بإذن الله تعالى".
(1)"جامع الترمذي"(4/ 383 رقم 2038).
(2)
"السنن الكبرى"(4/ 378 رقم 7553).
(3)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1137 رقم 3436).
(4)
"صحيح مسلم"(4/ 1729 رقم 2204).
قوله: "فإذا أصيب دواء الداء" بإضافة الدواء إلى الداء. والدواء بفتح الدال ممدود، وحكي جماعة -منهم الجوهري- فيه لغة بكسر الدال، قال عياض: هي لغة الكلابين وهي شاذة.
وفي هذه الأحاديث:
إثبات الطب والعلاج.
وأن التداوي غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس.
وفيه أنه جعل الهرم داء وإنما هو ضعف الكبر وليس من الأدواء التي هي أسقام عارضة للأبدان من قبل اختلاف الطبائع وتغير الأمزجة؛ وإنما شُبِّة بالداء؛ لأنه جالب للتلف كالأدواء التي يعقبها الهلاك، قال النمر بن تولب:
دعوت ربي بالسلامة جاهدًا
…
ليصحني فإذا السلامة داء
يريد أن العمر لما طال به أداه إلى الهرم فصار بمنزلة المريض الذي قد أدلقه المرض.
قلت: وفي هذا الباب عن أنس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن مسعود وأبي خِزامة عن أبيه، وأبي الدرداء وبريدة.
أما حديث أنس رضي الله عنه فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا يونس بن محمَّد، قال: نا حرب بن ميمون، قال: سمعت عمران العمي يقول: سمعت أنسًا يقول: إن رسول الله عليه السلام قال: "إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء؛ فَتَدَاوَوْا".
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري (2): ثنا محمَّد بن المثني، نا أبو أحمد الزبيري، نا [عمر](3) بن سعيد بن أبي حسين، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".
(1)"مصنفه ابن أبي شيبة"(5/ 31 رقم 23415).
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2151 رقم 5354).
(3)
في "الأصل، ك": "عمرو"، وهو تحريف، والمثبت من "صحيح البخاري"، ومصادر ترجمته.
وأما حديث أبي سعيد فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا هاشم بن القاسم، قال: ثنا شبيب بن شيبة، قال: نا عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام قال:"إن الله لم ينزل داءً -أو لم يخلق داء- إلا وقد أنزل -أو قد خلق- له دواءً، علمه مَن علمه وجهله مَن جهله إلا السام، قالوا: يا رسول الله، وما السام؟ قال: الموت".
وأما حديث ابن مسعود فأخرجه ابن ماجه (2): من حديث ابن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن ابن مسعود يبلغ به النبي عليه السلام قال:"ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له شفاء، عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ".
وأما حديث أبي خِزامة عن أبيه فأخرجه أبو بكر بن أبي عاصم (3) قال: ثنا الحسن بن علي، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، نا أبي، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، أن أبا خزامة -أحد بني الحارث بن سعد هُذَيم- أخبره، عن أبيه:"أنه أتى النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله، أرأيت دواءً نتداوى به وتقاة نتقيها هل يرد ذلك من قدر الله؟ قال: إنها من قدر الله".
قال ابن أبي عاصم: قد اختلفوا فيه، فقالوا: خزيمة وخزينة وأبو خزانة وأبو خزامة وابن أبي خزامة، واختلفوا في الرفع والنصب والخفض، وقال ابن الأثير في ترجمة خزامة بن معمر الليثي، واختلف على الزهري فيه، فقيل: خزامة ابن معمر عن أبيه، وقيل: عن أبي خزامة بن زيد بن الحارث، عن أبيه".
وأخرجه عبد الله بن أحمد (4): حدثني أبي، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي خزامة، عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله -قال سفيان مرة: سألت
(1)"مصنفه ابن أبي شيبة"(5/ 31 رقم 23418).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1138 رقم 3438).
(3)
"الآحاد والمثاني"(5/ 70 رقم 2610)، ورواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"(5/ 2871 رقم 3177).
(4)
"مسند أحمد"(3/ 421 رقم 15510).
رسول الله عليه السلام أرأيت دواءً نتداوى به، ورقي نسترقيها، وتقاة نتقيها، أيرد ذلك من قدر الله؟ قال: إنها من قدر الله".
وأخرجه الترمذي (1): نا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه قال:"سألت رسول الله عليه السلام قلت: يا رسول الله، أرأيت رقاة نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل يرد من قدر الله شيئًا؟ قال: هي من قدر الله" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
ثنا سعيد (2) بن عبد الرحمن المخزومي، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي خزامة، عن أبيه. وقال بعضهم: عن أبي خزامة، عن أبيه. وقد روي غير ابن عيينة هذا الحديث عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه.
وهذا أصح، ولا نعرف لأبي خزامة غير هذا الحديث.
وقال ابن الأثير: يَعْمُر السعدي سعد هذيم، ثم من بني الحارث بن سعد، والحارث أخو عروة بن سعد وكنيته: أبو خرامة، قاله أبو نعيم، وقيل: هو والد أبي خزامة. وهو الصواب، قاله ابن منده.
وقال الحافظ ابن عساكر: يقال: أبو خزامة، ويقال: والد أبي خزامة، ويقال: أبو سعد، ويقال: اسمه الحارث، وهو أحد بني الحارث بن سعد بن هذيم السعدي.
وأما حديث أبي الدرداء: فأخرجه أبو داود بإسناده إليه، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن الله أنزل الداء والدواء، فَتَدَاوَوْا، ولا تداووا بالحرام".
وأما حديث بريدة فأخرجه ابن أبي عاصم بسند صحيح عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "تَدَاوَوْا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء".
(1)"جامع الترمذي"(4/ 399 رقم 2065).
(2)
"جامع الترمذي"(4/ 453 رقم 2148).
ص: وقد اكتوى أصحاب النبي عليه السلام من بعده، فممن روي عنه في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا ابن أبجر، عن أبي حمزة، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير قال:"أقسم عَليَّ عمر رضي الله عنه لأكتوي".
حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو الزبير، قال:"رأيت عبد الله بن عمر اكتوى من اللقوة في أصل أذنيه، اللقوة: مرض يعرض للوجه فيميله إلى أحد جانبيه".
حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا زهير، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن نافع:"أن ابن عمر اكتوى من اللقوة".
حدثنا شعيب بن إسحاق بن يحيى، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا أبو حنيفة، عن نافع:"أن ابن عمر اكتوى من اللقوة، ورقي من العقرب".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن نافع، عن ابن عمر، مثله.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال:"دخلت علي خباب رضي الله عنه وقد اكتوى".
حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا موسى بن أعين، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم، عن خباب:"أنه أتاه يعوده وقد اكتوى سبعًا في بطنه".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن أبيه، قال: سمعت حميدًا -قال ابن مرزوق: أظنه عن مطرف- قال: قال لي عمران بن الحصين رضي الله عنه: "أشعرت أنه كان يُسَلَّمُ عَلَيَّ، فَلَمَّا أكتويت؛ انقطع عني التسليم".
ش: أخرج في ذلك عن جماعة من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله ابن عمر، وخباب بن الأرَت، وعمران بن الحصين رضي الله عنهم:
أما عن عمر رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن عبد الملك بن سعيد بن حيان بن أبجر الهمداني الكوفي، وثقه يحيى والنسائي، وروى له مسلم، وفي الأربعة غير ابن ماجه -عن أبي حمزة، الحاء والزاي- واسمه سَّيار، وثقه ابن حبان، عن قيس بن أبي حازم حُصَين، روى له الجماعة، عن جرير بن عبد الله البجلي الصحابي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبجر، عن سيار، عن قيس، عن جرير قال:"أقسم عَلَيَّ عمر رضي الله عنه لأكتوي".
وأما عن ابن عمر فأخرجه من أربع طرق صحاح.
الأول: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم. . . . إلى آخره.
وأخرجه البيهقي (2) نحوه من حديث الزهري، عن سالم:"أن ابن عمر اكتوى من اللقوة، وكوى ابنه واقدًا".
الثاني: عن فهد أيضًا، عن أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية، عن موسي بن عقبة. . . . إلى آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه اكتوي من اللقوة، واسترقي من العقرب".
الثالث: عن شعيب بن إسحاق بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن زيد القصير المقرئ، شيخ البخاري، عن الإمام أبي حنيفة نعمان بن ثابت، عن نافع. . . . إلى آخره.
(1)"مصنفه ابن أبي شيبة"(5/ 52 رقم 23609).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(9/ 343 رقم 19340).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 52 رقم 23608).
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر نحوه.
الرابع: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع .. إلى آخره.
وأخرجه مالك في "موطإه"(2).
وأما عن خباب فأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن حارثة بن مضرب العبدي الكوفي، وثقه يحيى وغيره.
وأخرجه عبد الرزاق نحوه (3).
الثاني: عن محمَّد بن حميد الرعيني، عن علي بن معبد بن شداد، عن موسى بن أعين، عن إسماعيل بن أبي خالد البجلي، عن قيس بن أبي حازم .. إلي آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا وكيع، قال: ثنا إسرائيل، عن قيس بن أبي حازم قال:"دخلنا علي خباب نعوده، وقد اكتوى سبعًا في بطنه".
وأما عن عمران فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن حميد الطويل، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير. . . . إلى آخره.
قوله: "أَشَعَرْتَ" الهمزة فيه للاستفهام، أي هل علمت "أنه كان يُسَلَّمُ عَلَيَّ" وهو علي صيغة المجهول، وأراد أن الملائكة كانوا يسلمون عليه، فلما اكتوى قطعوا سلامهم عنه؛ وذلك لأنه بالكي كأنه خرج عن حد التوكل.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(9/ 343 رقم 19340).
(2)
"موطأ مالك"(2/ 944 رقم 1691).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(11/ 314 رقم 20635).
(4)
"مصنفه ابن أبي شيبة"(5/ 52 رقم 23607).
ص: فهؤلاء أصحاب رسول الله عليه السلام قد اكْتَوَوْا، وكَوَوْا غيرهم، وفيهم ابن عمر رضي الله عنهما، وقد روينا عنه أن رسول الله عليه السلام قال:"ما أحب أن اكتوي، فدل فعله ذلك علي ثبوت نسخ ما كان النبي عليه السلام كرهه من ذلك، وفيهم عمران بن حصين وهو الذي روى عن النبي عليه السلام مدحه للذين لا يكتوون، فدل ذلك أيضًا علي علمه بإباحة رسول الله عليه السلام لذلك".
ش: أشار بهؤلاء إلى الصحابة الذين أخرج عنهم إباحة الكي.
قوله: "وفيهم عبد الله بن عمر" أي والحال أن فيهم عبد الله بن عمر، والحال أَنَّا قد روينا عنه أن رسول الله عليه السلام قال:"ما أحب أن أكتوي" فمباشرة ابن عمر فعل الكي بعد روايته هذا تدل علي ثبوت نسخ ما روي عنه عليه السلام من كراهته، وكذلك فعل عمران بن حصين؛ فإنه أيضًا قد روى عن النبي عليه السلام مدحه لمن لا يكتوي؛ فدل علي ثبوت النسخ عنده.
ص: فإن قال قائل: فكيف يكون ذلك وقد روي عن عمران بن حصين. . . . فذكر ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أبو جابر، قال: ثنا عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال:"كان عمران بن حصين ينهى عن الكي، فابتلي فكان يقول: لقد اكتويت كيةً بنارٍ فما أبرأتني من إثم ولا شفتني من سقم".
قيل له: يجوز أن يكون الكي الذي كان عمران ينهى عنه [هو](1) الكي يراد به [لا](2) العلاج من البلاء الذي قد حل، ولكن لما يفعل قبل حلول البلاء، مما كانوا يرون أنه يدفع البلاء، فلما ابتلي بما كان ابتلي به؛ اكتوى علي أن ذلك علاج لما به من البلاء، فلما لم يبرأ بذلك، علم أن كيه لم يوافق بلاءه ولم يكن علاجًا له، فأشفق أن يكون بها آثما فقال:"ما شفتني من سقم ولا أبرأتني من إثم"، أي لم أعلم أني بريء من الإثم مع أنه لم يحقق أنه صار آثمًا بها؛ لأنه إنما كان أراد بها الدواء لا غير ذلك، والدواء مباح للناس جميعًا، وهم مأمورون به.
(1) في "الأصل، ك": "هي"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(2)
سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف يجوز ما ذكرت من فعل عمران على انتساخ ما نهى عنه من الكي والحال أنه قد روي عنه أن كان ينهى عن الكي؟!
أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبي جابر محمد بن عبد الملك الأزدي صاحب شعبة، قال أبو حاتم: ليس بقوي.
عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز لاحق بن حميد، ثقة كبير.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال:"كان عمران بن حصين ينهى عن الكي، فابتلي، فاكتوي، فجعل بعد ذلك يعجُّ يقول: اكتويت كية بنارٍ ما أبرأتْ من ألم ولا شفت من سقم".
قوله: "قيل له" جواب عن السؤال المذكور، وهو ظاهر.
قوله: "فأشفق" أي خاف من والإشفاق هو الخوف.
ص: وقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار تنهى عن التمائم، فمما روي في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أم قيس بنت محصن قالت:"دخلت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لي وقد أعلقت عليه من العذرة، فقال: علام تدغرين أولادك بهذا العلاق؟ عليكن بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب، يسعط من العذرة ويُلَدُّ من ذات الجنب".
فقد يحتمل أن يكون ذلك العلاق كان مكروهًا في نفسه؛ لأنه كتب فيه ما لا يحل كتابته؛ فكرهه رسول الله عليه السلام لذلك لا لغيره.
ش: ذكر هذا تأييدًا للجواب المذكور؛ لأنه نظير قضية عمران بن حصين في كون كل منهما فعل قبل نزول البلاء لدفع القدر، وهذا لا يجوز، أما قضية عمران فقد
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 52 رقم 23616).
ذكرناها، وأما قضية أم قيس بنت محصن فإن معناها أنها أعلقت علي ابنها من العذرة قبل نزول البلاء لدفع القدر في نزول البلاء، فافهم.
ورجال حديثها كلهم رجال الصحيح.
وسفيان هو ابن عيينة، والزهري محمَّد بن مسلم، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، وأم قيس بنت محصن أخت عكاشة بن محصن، لها صحبة، أسلمت قديمًا وهاجرت إلى المدينة.
وأخرجه الجماعة، فقال: البخاري (1): ثنا صدقة بن الفضل، أنا ابن عيينة قال: سمعت الزهري، عن عبيد الله، عن أم قيس بنت محصن قالت: سمعت النبي عليه السلام يقول: "عليكم بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفية: يُسعط به من العذرة، ويُلَدُّ به من ذات الجنب. ودخلت على النبي عليه السلام بابن لي لم يأكل الطعام، فبال عليه فدعى بماء، فرش عليه".
وقال أيضًا (2): ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن الزهري، أخبرني عبيد الله، عن أم قيس قالت:"دخلت بابن لي علي رسول الله عليه السلام وقد أعلقت عليه من العذرة، فقال: علي ما تدغرن أولادكن بهذا العلاق، عليكن بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفية منها: ذات الجنب، يُسعط من العذرة، ويُلدُّ من ذات الجنب".
وقال مسلم (3): ثنا حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ابن يزيد، أن ابن شهاب أخبره، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: "إن أم قيس ابنة محصن كانت من المهاجرات الأُول اللاتي بايعن رسول الله عليه السلام، أخت عكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة، قال: أخبرتني أنها أتت رسول الله عليه السلام بابن لها لم يبلغ أن يأكل طعام، وقد أعلقت عليه من العذرة -قال
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2155 رقم 5368).
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2159 رقم 5383).
(3)
"صحيح مسلم"(4/ 1735 رقم 2214).
يونس: أعلقت: غمرت فهي تخاف أن يكون به عذرة- قالت: فقال رسول الله عليه السلام: علامه تدغرن أولادكن بهذه الأعلاق؟! عليكم بهذا العود الهندي -يعني به الكُسْت- فإن فيه سبعة أشفية منها: ذات الجنب. . . ." الحديث.
وقال أبو داود (1): ثنا مسدد وحامد بن يحيى، قالا: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أم قيس. . . . إلى آخره نحوه.
وقال ابن ماجه (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أم قيس. . . . إلى آخره نحوه.
والترمذي (3) والنسائي (4) لم يخرجا إلا قضية البول فقط.
قوله: "وقد أعلقت" من الإعلاق وهو معالجة عذرة الصبي وحقيقة ذلك: أعلقت عنه، أي أزلت العلوق، وهي الداهية.
قال الخطابي: المحدثون يقولون: أعلقت عليه وإنما هو أعلقت عنه أي دفعت عنه، ومعنى أعلقت عليه: أوردت عليه العَلُوق أي ما عَذَّبَتْهُ به من دَغْرها.
ومنه قولهم: أعلقت عليّ: إذا أدخلت يدي في حلقي أتقيأ.
وقال الأصمعي: الإعلاق أن ترفع العذرة باليد.
و"العُذرة" -بضم العين- وجع في الحلق يَهيجُ من الدم، وقيل: هي قرحة تخرج في الخَرْم الذي بين الأنف والحلق تعرض للصبيان عن طلوع العذرة، فتعمد المرأة إلى خِرقة فتفتلها فتلًا شديدًا، وتدخلها في أنفه، فَتَطْعَن ذلك الموضع فينفجر منه دم أسود، وربما أقرحه وذلك الطعن يسمى الدَّغْر، يقال: عَذَرَت المرأة الصبي: إذا غمزت حلقه من العذرة أو فعلت به ذلك، وكانوا بعد ذلك يعلقون عليه علاقًا كالعوذة، وقوله: عند طلوع العذرة هي خمسة كواكب تحت الشِّعْرى
(1)"سنن أبي داود"(4/ 8 رقم 3877).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1146 رقم 3462).
(3)
"جامع الترمذي"(1/ 104 رقم 71).
(4)
"المجتبى"(1/ 157 رقم 302).
العَبُور وتسمى العَذَاري وتطلع في وسط الحرِّ. وفي المحكم: العذرة نجم إذا اطلع اشتد الحر، والعذرة والعاذور داء في الحلق، ورجل معذور: أصابه ذلك.
قوله: "من العذرة" أي من أجلها، وكلمة "من" للتعليل.
قوله: "عَلَام تَدْغَرن أولادكن" أصله: "على ما" حذفت الألف من "ما"، وكلمة "على" تعليل كما في قوله تعالى:{لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (1).
قوله: "تَدْغَرن" خطاب لجمع المؤنث؛ أي عَلي ما تغمزن حلق الصبي بأصابعكن، والدغر هو غمز حلق الصبي بالأصبع وكبسه، قال القرطبي: الرواية الصحيحة بالدال المهملة وغين معجمة، ومعناه رفع اللهاة، واللهاة هي اللحمة الحمراء التي في آخر الفم وأول الحلق، وذكره أبو عبيد في باب الدال المهملة مع الغين المعجمة وقال: الدَّغر: غمز الحلق بالأصبع؛ وذلك أن الصبي تأخذه العذرة وهي وجع يهيج في الحلق من الدم، فتدخل المرأة أُصبعها فتدفع بها ذلك الموضع وتكبسه.
قوله: "بهذا العِلَاق" المعروف الإعْلَاق، وهو مصدر أَعْلَقْت، وأما العِلَاق فهو اسم منه، وأراد به هاهنا ما يعلق على الصغير من تميمة، وهي الخرزة التي تعلق على الصغير لدفع عين أو مرض أو نحو ذلك، أو رقعة مكتوب فيها أشياء من اللسان وغيرها، فكره رسول الله عليه السلام لاحتمال أن يكون كتب فيها ما لا يحل كتابته.
قوله: "عليكن بهذا العود الهندي" وهو القُسْط البحري، وقيل: العود الذي يتبخر به. القسط بضم القاف، قال الجوهري: هو من عقاقير البحر، وقال ابن السكيت: القاف بدل من الكاف، وفي "المنتهى" لأبي المعالي: الكست والقسط والكسط ثلاث لغات وهو جزر البحر، وقال ابن البيطار: أجوده ما كان من بلاد المغرب وكان أبيض خفيفًا وهو البحري، وبعده الذي من بلاد الهند وهو غليظ أسود خفيف مثل القثاء، وبعده الذي من بلاد سوريا وهو ثقيل ولونه لون البقس
(1) سورة البقرة، آية:[185].
ورائحته ساطعة، وأجودها ما كان حديثًا أبيض ممتلئًا غير متآكل ولا زهم يلدغ اللسان وقوته مسخنة مدرة للبول والطمث، وينفع من أوجاع الأرحام إذا استعمل، وشربه ينفع من لدغ الأفعي ويحرك شهوة الجماع، ويخرج حب القرع ويعمل لطوخًا بالزيت لمن نافض قبل أخذ الحمى ولمن به فالج وينقي الكلف ويقلعه إذا لطخ بماء أو بعسل وينفع من العلة المعروفة بالنسا، وهو جيد للزكام البارد إذا بخر به الأنف، ودهنه ينفع العصب والرعشة، وإذا سحق بالعسل أو الماء نفع من التشنج الذي في الوجه والسعفة، وإذا سحق وذُرَّ على القروح الرطبة خففها وهو يفتح السُّدَد الحادثة في الكبد شربًا، وينشف البلغم الذي في الرأس، وينفع من ضعف الكبد والغدة وبردهما، والأبيض فيه منفعة عظيمة من الأوجاع العتيقة التي تكون في الرأس ويطرد الرياح من الدماغ، وإذا دهن به في قمع قتل الولد وأدرَّ الحيض، وبخوره نافع من النزلات ومن الوباء الحادث عن التعفن، وإذا ضمدت به الأوجاع الباردة سكنَّهَا وكذلك دهنه، وإن قطر من دهنه في الأذن سكن أوجاعها الباردة وفتح سددها، وإذا خلط وعجن بالعسل وشرب نفع من أوجاع المعدة والمغص ومن أوجاع ذات الجنب، وهو نافع لكل عضو يحتاج أن يسخن، وينفع من أوجاع الصدر، ومن النهوش كلها.
قوله: "فإن فيه سبع أشفية" الأشفية: جمع شفاء، سمي منها رسول الله عليه السلام اثنين ووكل باقيها إلي طلب المعرفة أو إلى الشهرة فيها، وقد عدَّ الأطباء فيها منافع كثيرة وقد ذكرناها الآن.
فإن قلتَ: إذا كان فيه ما ذكرت من المنافع الكثيرة فما وجه تخصيصه عليه السلام منافعه بسبع؟
قلتُ: هذه السبع هي التي علمها عليه السلام بالوحي وتحققها، وغيرها من المنافع علمت بالتجربة، فذكر عليه السلام ما علمه بالوحي دون غيره.
أو نقول: بيَّن عليه السلام ما دعت الحاجة والضرورة إليه وسكت عن الباقي؛ لأنه لم يُبعث لبيان تفاصيل الطب ولا لتعليم صنعته، وإنما تكلم ما تكلم به منه ليرشد إلى
الأخذ منه والعمل به، وعيَّن من الأدوية والعقاقير التي يُنتفع بها ما دعت حاجتهم إليه في ذلك الوقت وبحسب أولئك الأشخاص.
قوله: "منها ذات الجنب" قال الترمذي: هو السل، وفي "البارع": هو الذي يطول مرضه، وعن النضر: هو الدبيلة، وهي قرحة تثقب البطن، وقيل: هي الشوصة.
وفي "المنتهى": الجُناب -بالضم- داء في الجنب، وأما الأطباء فإنهم يقولون: ذات الجنب: ورم حارٌّ يكون إما في الحجاب الحاجز أو في الغشاء المستبطن للصدر وهما خالصان، وإما في الغشاء المجلل للأضلاع أو العضل الخارج، وهما غير خالصين.
والخالص يلزمه أعراض خمسة: حمى لازمة، ووجع ناخس، وضيق نَفَسٍ مع صفير وتواتر ونبض منشاري، وسعال نافث.
وغير الخالص: ربما أدركه حس الطبيب وقد يكون بلا حمى، وقد يقال لورم الحجاب: برسامًا ، ولورم العضل الخارج: شوصة.
قوله: "يسعط من العذرة" قال الأزهري: السُّعوط والنُّشُوق والنُّسُوغ في الأنف، ولخيته ولخوته وألخيته: إذا سعطته ويقال: أسعطته، وكذلك وحرته وأوحرته لغتان، وأما النشوق فيقال: أنشقته إنشاقًا وهو طيب السعوط والسعاط والإسعاط، وفي "المحكم": سَعَطَهُ الدواء يَسْعَطُه ويَسْعُطِه، والضم أعلى، والصاد في كل ذلك لغة، والسعوط اسم الدواء، والسعيط: المُسعط، والسعيط: دهن الخردل، والسعيط دهن البان والسَّعُوط من السَّعْطِ كالنُّشُوق من النشق، وفي "الصحاح": اسعطته واستعط هو بنفسه، وفي "الجامع": السَّعَوط والمُسْعَط والسَّعِيط: الرجل الذي يُفْعَل به ذلك والسعطة: المرة الواحدة من الفعل، والإسعاطة مثلها، قال أبو الفرج: الإسعاط هو تحصيل الدهن أو غيره في أقصى الأنف سواء كان بجذب النفس أو بالتفريغ فيه.
قوله: "ويُلَدُّ" من الإلداد، وقد لُدَّ الرجل فهو ملدود وألددته أنا، واللديدان: جانبا الوادي. قاله الأصمعي، وفيه؛ أحد اللدود، وهو ما يُصَبُّ من الأدوية في أحد شقي الفم، وتجمع علي ألدة، وقال ابن الأثير: لديدا الفم: جانباه، واللدود -بفتح اللام- من الأدوية: ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم.
ويستنبط منه أحكام:
فيه: جواز التداوي بالأدوية، وأنه لا ينافي التوكل؛ ردًّا على بعض المتصوفة.
وفيه: كراهة دَغَر العذرة.
وفيه: بيان فضيلة العود الهندي وأنه ينفع من أدواء كثيرة كما ذكرنا.
وفيه: بيان معالجة العذرة بالإسعاط، وذات الجنب بالإلداد.
وفيه: جواز التطبب، والإخبار عن طبائع الأدوية ومنافعها ومضارها عند العلم.
وفيه: أنه عليه السلام كان عالمًا بعلم الطب أيضًا وبمنافع الأدوية؛ وإن كان مبعوثًا بعلم الدين فإنه عليه السلام كان كاملًا في كل شيء.
وفيه: أن كل منفعة أخبر بها النبي عليه السلام من الأدوية فهي كذلك من غير ريب، بخلاف كلام سائر الأطباء؛ فإن كلامهم على الظن والتجربة، فخطأهم في ذلك أكثر من صوابهم.
وفيه: أن من أنكر ما قاله عليه السلام من منفعة دواء من الأدوية أو قال: بخلاف ذلك فقد كفر؛ نعوذ بالله من ذلك.
ص: وقد روي في ذلك أيضًا ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن بكر بن سوادة، عن رجل من صداء قال:"أتينا النبي صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلًا، فبايعنا وترك رجلًا منا لم يبايعه، فقلنا: بايعه يا نبي الله، فقال: لن أبايعه حتى ينزع الذي عليه، إنه مَن كان منَّا عليه مثل الذي عليه كان مشركًا ما كانت عليه، فنظرنا فإذا في عضه سير من لحاء شجرة، أو شيء من الشجرة".
ش: أي قد روي في كون التمائم مكروهًا أيضًا: ما حدثنا يونس -وهو ابن عبد الأعلى- يروي عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن عبيد الله بن زحْر الضمري الأفريقي، فيه مقال؛ فعن يحيى بن معين: ليس بشيء. وعن ابن المديني: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. روى له الأربعة.
عن بكر بن سوادة بن ثمامة المصري، ثقة، روى له الجماعة؛ البخاري في غير الصحيح.
عن رجل من صداء. . . . إلى آخره.
قوله: "من لِحَاء شجرة" بكسر "اللام" وبالمد، أي من قشر شجرة، يقال: لحوت الشجرة ولحيتها والتحيتها إذا أخذت لحائها وهو قشرها.
ص: حدثنا إبراهيم بن منقذ، قال: ثنا المقرئ، عن حيوة، قال: أخبرني خالد بن عبيد، قال: سمعنا مشرح بن هاعان يقول: سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومَن تعلق ودعةَ فلا ودع الله له".
ش: إبراهيم بن منقذ العصفري من أصحاب ابن وهب، قال ابن يونس: ثقة رضّى.
والمقرئ هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، شيخ البخاري.
وحيوة هو ابن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه العابد.
وخالد بن عبيد المعافري، سكتوا عنه.
ومشرح بن هاعان المعافري المصري، وثقه يحيى.
وأخرجه ابن يونس في ترجمة خالد بن عبيد: حدثني أبي، عن جدي أنه حدثه، ثنا ابن وهب، أخبرني حيوة بن شريح، عن خالد بن عبيد المعافري، عن مشرح بن هاعان قال: سمعت عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله عليه السلام قال: "من علق تميمة فلا أتم الله له، ومَن علق ودعة فلا ودع الله له".
وأخرجه البيهقي (1): من حديث حيوة بن شريح. . . . إلى آخره نحوه.
وقال الذهبي في "مختصر سنن البيهقي" عقيب هذا الحديث: قلت: أخرجه ابن وهب في كتبه عنه، وخالد لم يضعف، تفرد به.
قوله: "تميمة" تجمع علي تمائم، وهي خرزات كانت العرب تعلقها علي أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطله الإِسلام.
و"والودعة": شيء أبيض يُجْلب من البحر، يعلق في طوق الصبيان ونحرهم، ويجمع علي وَدَع بفتح الدال وسكونها.
قوله: "فلا ودع الله له" أي لا جعله في دعة وسكون، وقيل: هو لفظ مبني من الودَعة، أي: لا خفف الله عنه ما يخافه، وإنما نهى عنها؛ لأنهم كانوا يعلقونها مخافة العين.
ثم اعلم أن قوله: "لا ودع الله" يرد علي أهل التصريف قولهم: أماتوا ماضي يَدَعُ، واستغنوا عنه بـ"تَرَك" والنبي عليه السلام أفصح العرب، وإنما حمل قولهم علي قلة استعماله فهو شاذ في الاستعمال، صحيح في القياس، يقال: وَدَعَ الشيء يَدَعَهُ وَدَعًا إذا تركه، وقرئ قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (2) بالتخفيف.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، أن أبا بشير الأنصاري أخبره:"أنه كان مع رسول الله عليه السلام في بعض أسفاره -قال عبد الله بن أبي بكر: حسبت أنه قال: والناس في مبيتهم- فأرسل رسول الله عليه السلام مناديًّا ألَّا لا يَبقَيَن في عنق بعير قلادة ولا وتر إلا قُطعه". قال مالك: أرى أن ذلك العين".
ش: إسناده صحيح.
وأبو بشير الأنصاري المازني، ويقال: الحارثي المدني صحابي، قيل اسمه قيس ابن عبيد بن الحرير.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(9/ 350 رقم 19389).
(2)
سورة الضحى، آية:[30].
والحديث أخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف عن مالك، عن عبد الله ابن أبي بكر، عن عباد به.
وأخرجه أبو داود (2): عن القعنبي، عن مالك.
والنسائي (3): عن قتيبة، عن مالك.
قوله: "قلادة ولا وتر" القلادة معروفة، والوتر وتر القوس، نهاهم عن ذلك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن تقليد الدواب بالأوتار يدفع عنها العين والأذى، فتكون كالعوذة لها، فنهاهم عن ذلك، وأعلمهم أنها لا تدفع ضررًا ولا تصرف حدرًا.
وقال أبو عمر: قد فسر مالك هذا الحديث أنه من أجل العين، وهو عند جماعة أهل العلم كما قال مالك، لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من البهائم أو بني آدم شيء من العلائق خوف نزول العين؛ لهذا الحديث وشبهه، ويحمل ذلك عندهم فيما علق قبل نزول البلاء خشية نزوله، فهذا هو المكروه من التمائم، وكل ما يعلق بعد نزول البلاء من أسماء الله تعالى وكتابه رجاء الفرج والبُرءْ من الله تعالى فهو كالرقي المباح الذي وردت السنة بإباحته من العين وغيرها.
وقد قال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضي علي وجه التبرك بها إذا لم يُرِدْ معلقها بتعليقها مدافعة العين، وهذا معناه قبل أن ينزل به شيء من العين، ولو علم العائن لكان الوجه في ذلك اغتسال العائن للمعين.
وأما تخصيص الأوتار بالقطع وأن لا يعلقه الدواب شيئًا من ذلك قبل البلاء وبعده، فقيل: إن ذلك لئلا تختنق بالوتر في خشبة أو شجرة فتقتلها، فإذا كان خيطًا انقطع سريعًا، وروي عن عائشة رضي الله عنها "أنها كانت تكره ما تعلق النساء على
(1)"صحيح البخاري"(3/ 1094 رقم 2843).
(2)
"سنن أبي داود"(3/ 24 رقم 2552).
(3)
"السنن الكبرى"(5/ 251 رقم 8088).
أنفسهن وعلى صبيانهم من خلخال الحديد من العين، وتنكر ذلك على مَن فعله" قال أبو عمر: قد كره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال، قبل نزول البلاء وبعده، والقول الأول أصح في النظر والأثر.
ص: فكل ذلك عندنا -والله أعلم- على ما علق قبل نزول البلاء لدفع نزول البلاء، وذلك ما [لا](1) يستطيعه غير الله عز وجل، فنهى عن ذلك لأنه شرك، فأما ما كان بعد نزول البلاء فلا بأس؛ لأنه علاج. وقد روي هذا الكلام بعينه عن عائشة رضي الله عنها:
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث وابن لهيعة، عن بكير بن الأشج، عن القاسم بن محمَّد، أن عائشة زوج النبي عليه السلام قالت:"ليست بتميمة ما علق بعد أن يقع البلاء".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، عن عبد الله بن المبارك، عن طلحة بن أبي سعيد -أو سعد- عن بكير. . . . فذكر بإسناده مثله.
فقد يحتمل أن يكون أيضًا الكي نهى عنه إذا فعل قبل نزول البلاء وأبيح إذا فعل بعد نزول البلاء؛ لأن ما فُعِلَ بعد نزول البلاء فإنما هو علاج، وقد روي عن رسول الله عليه السلام في العلاج ما قد ذكرناه في هذا الباب.
ش: أي فكل ما روي من النهي عن تعليق التمائم والقلائد والأوتار ونحو ذلك محمول على ما إذا فعل ذلك قبل نزول البلاء لأجل دفع القضاء والقدر حتى لا ينزل البلاء، وليس ذلك إلا في قدرة الله تعالى، فنهى عن ذلك لأنه شرك، وأما إذا فعل من ذلك شيء بعد نزول البلاء فلا بأس به؛ لأنه يكون من باب العلاج وقد ورد عن النبي عليه السلام إباحة العلاج والتداوي مطلقًا على ما مَرَّ.
قوله: "وقد روي هذا الكلام بعينه" أراد به ما قاله من قوله: "وكل ذلك عندنا والله أعلم. . . ." إلي آخره، وبيَّن ذلك بقوله: حدثنا يونس. . . . إلى آخره.
(1) ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
وأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلي، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث وعبد الله بن لهيعة، كلاهما عن بكير بن الأشج، عن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وابن لهيعة ذكر متابعةً.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث ابن وهب، أخبرني عمرو، عن بكير، عن القاسم، عن عائشة نحوه.
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن عبد الله بن المبارك العابد الزاهد عن طلحة بن أبي سعيد -أو سعد- الإسكندري، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن القاسم، عن عائشة.
وأخرجه البيهقي أيضًا (2): من حديث ابن المبارك، عن طلحة بن أبي سعيد، عن بكير بن الأشج، عن القاسم، عن عائشة:"ليست التميمة مما يعلق قبل البلاء، وإنما التميمة ما يعلق بعد البلاء ليدفع بها المقادير".
ص: وقد روي عنه أيضًا ما حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء، فعليكم بألبان البقر؛ فإنها تَرُمُّ من كل الشجر".
حدثنا إبراهيم بن محمَّد بن يونس، قال: ثنا المقرئ، قال: ثنا أبو حنيفة. . . . فذكر بإسناد مثله.
(1)"سنن البيقهي الكبرى"(9/ 350 رقم 19392).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(9/ 350 رقم 19390).
ش: أي وقد روي عن النبي عليه السلام أيضًا في العلاج والتداوي ما حدثنا. . . . إلى آخره.
وأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن قيس بن مسلم الجدلي العدواني، عن طارق بن شهاب الصحابي، عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه النسائي (1): من طريق الثوري عن قيس مثله، ولكن رواه ابن مهدي عن الثوري فأرسله.
ورواه الربيع بن لوط، عن قيس [فوصله](2). وله طرق كثيرة (3).
الثاني: عن إبراهيم بن محمَّد بن موسي بن مروان؛ عن أبي عبد الرحمن عبيد الله ابن يزيد المقرئ شيخ البخاري، عن الإمام أبي حنيفة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله.
وأخرجه الطبراني نحوه من طريق المقرئ، عن أبي حنيفة. . . . إلى آخره.
قوله: "فإنها تَرُمُّ من كل الشجر" أي فإنها تأكل مِن رَمَمَ يَرْمُمُ باب نصر يَنْصُر، وفي رواية ترتم وهي بمعناها يقال: رمت الشاة من الأرض وإذا ولدت والمِرَمَّة -بكسر الميم وفتحها- من ذوات الظِّلْفِ كالفم من الإنسان.
وفي رواية أبي نعيم (4) من طريق إبراهيم بن مهاجر: "تداووا بألبان البقر؛ فإني أرجو أن يجعل الله تعالى فيه شفاء أو بركة؛ فإنها تأكل من كل الشجر".
(1)"السنن الكبرى"(4/ 194 رقم 6864).
(2)
في "الأصل، ك": "فوقفه"، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله. والحديث عند النسائي مرفوعًا.
(3)
انظر "السنن الكبرى"(4/ 194 رقم 6865).
(4)
ورواه الطبراني في "الكبير"(10/ 14 رقم 9788) من طريق الربيع بن ركين عن إبراهيم بن المهاجر به.
وكذا الخطيب في "تاريخ بغداد"(7/ 356).
وفي لفظ (1): "تداووا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل معه شفاء إلا السام والهرم، فعليكم بألبان البقر؛ فإنها تخبط من كل الشجر".
ص: وقد كره قوم الرقي، واحتجوا في ذلك بحديث عمران بن حصين الذي ذكرته في الفصل الأول.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشعبي وقتادة وسعيد بن جبير وآخرين؛ فإنهم كرهوا الرقي، وقالوا: الواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصامًا بالله وتوكلًا عليه وثقة به، وعلمًا بأن الرقية لا تنفعه وأن تركها لا يضره إذ قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل أيام المرض وزمن الداء وعلي تكثير أيام الصحة ما قدروا على ذلك؛ قال الله عز وجل:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (2).
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بها بأسًا، واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة وإبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي عليه السلام:"أنه رخص في رقية الحية والعقرب".
ففي هذا الحديث الرخصة في رقية الحية والعقرب، والرخصة لا تكون إلا بعد النهي، فدل ذلك أن ما أبيح من ذلك نسخ ما كان في حديث عمران بن الحصين.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وإبراهيم النخعي والزهري والثوري والأئمة الأربعة وآخرين كثيرين؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالرقى.
قال أبو عمر (3): ذهب جماعة من العلماء إلى إباحة الاسترقاء والمعالجة والتداوي، وقالوا: إن من سُنة المسلمين التي يجب عليهم لزومها لروايتهم لها عن نبيهم عليه السلام
(1) رواه أبو حنيفة في "مسنده"(1/ 212)، وعنه أبو يوسف في كتاب "الآثار"(1/ 235).
(2)
سورة الحديد، آية:[22].
(3)
"التمهيد"(5/ 273).
الفزع إلى الله عند الأمر يعرض لهم وعند نزول البلاء بهم في التعوذ بالله من كل شر وإلى الاسترقاء وقراءة القرآن والذكر والدعاء.
قوله: "احتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة رضي الله عنها.
أخرجه بإسناد صحيح عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي الحافظ، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن المغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة.
وأخرجه ابن ماجه (1): عن عثمان بن أبي شيبة، وهناد بن السري، عن أبي الأحوص. . . . إلى آخره نحوه.
قوله: "في رقية الحية" الرقية -بضم الراء: العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات، وقد جاء في بعض الأحاديث جوازها وفي بعضها النهي عنها، فمن الجواز قوله:"استرقوا لها فإن بها النظرة" أي اطلبوا لها مَن يرقيها. ومن النهي قوله: "لا يسترقون ولا يكتوون". والأحاديث في القسمين كثيرة، ووجه الجمع بينهما أن الرقي يكره منها ما كان بغير اللسان العربي وبغير أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة، وأن يُعْتَقَد أن الرقيا نافعة لا محالة فَيُتَّكل عليها، وإياها أراد بقول:"ما توكل من استرقى" ولا يكره منها ما كان في خلاف ذلك كالتعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى والرقى المروية؛ ولذلك قال للذي رقى بالقرآن وأخذ عليه أجرًا: "من أخذ برقية باطل فقد أخذت برقية حق"، وكقوله في حديث جابر أنه عليه السلام قال:"اعرضوها عليَّ، فعرضناها فقال: لا بأس بها، إنما هي مواثيق"، كأنه خاف أن يقع فيها شيء مما كانوا يتلفظون به ويعتقدونه من الشرك في الجاهلية، وما كان بغير اللسان العربي مما لا يعرف له ترجمة ولا يمكن الوقوف عليه ولا يجوز استعماله.
(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 1162 رقم 3517).
وأما قوله عليه السلام: "لا رقية إلا من عين أو حُمَّة" فمعناه لا رقية أولى وأنفع، وهذا كما قيل: لا فتًى إلا علي رضي الله عنه وقد أمر عليه السلام غير واحد من أصحابه بالرقية، وسمع جماعة يرقون فلم ينكر عليهم.
وأما الحديث الآخر في صفة أهل الجنة الذين يدخلون بغير حساب، وهم الذين يسترقون ولا يكتون وعلي ربهم يتوكلون، فهذا من صفات الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا، الذي لا يلتفتون إلى شيء من علائقها، وتلك درجة الخواص لا يبلغها غيرهم، فأما العوام فمرخص لهم في التداوي والمعالجات، ومن صبر على البلاء وانتظر الفرج من الله بالدعاء كان من جملة الخواص والأولياء، ومَن لم يصبر رخص له في الرقية والعلاج والدواء؛ ألا ترى أن الصديق رضي الله عنه لما تصدق بجميع ماله لم يُنكِر عليه؛ علمًا منه بيقينه وصبره، ولما أتاه الرجل بمثل بيضة الحمام من الذهب وقال: لا أملك غيره صرفه به، بحيث لو أجابه عقره، وقال فيه ما قال.
قوله: "ففي هذا الحديث" أي حديث عائشة: الرخصة من النبي عليه السلام في الرقية للحية والعقرب، والرخصة لا تكون إلا بعد النهي عن شيء، فدل ذلك أن ما كان في حديث عمران بن حصين من قوله:"ولا يسترقون" ليس على حاله، والذي حققناه آنفًا هو الفيصل بين هذه الأحاديث؛ فافهم.
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام في الأمر بالرقية للدغة العقرب ما حدثنا محمَّد بن سليمان الباغندي، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا ملازم بن عمرو، قال: ثنا عبد اللهَ بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه قال:"كنت عند رسول الله عليه السلام فلدغتني عقرب، فجعل يمسحها ويرقيه".
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا ملازم. . . . فذكر بإسناده مثله.
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن الباغندي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن ملازم ابن عمرو بن عبد الله اليمامي، عن عبد الله بن بدر بن عميرة بن الحارث اليمامي
جد ملازم بن عمرو لأبيه، وقيل: لأمه، وثقه يحيى وغيره، وروى له الأربعة، عن قيس بن طلق بن علي الحنفي اليمامي، وثقه العجلي وغيره، وروى له الأربعة، عن أبيه طلق بن علي بن المنذر الحنفي اليمامي الصحابي.
وأخرجه عبد الله بن أحمد (1) وقال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثني بعض أصحابنا، قال: ثنا عارم، قال: نا عبد الله بن بدر، عن قيس ابن طلق، عن أبيه طلق بن علي قال:"لدغتني عقرب عند رسول الله عليه السلام فرقاني ومسحها".
الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب البصري شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه، عن ملازم بن عمرو. . . . إلى آخره.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): ثنا إبراهيم بن متويه الأصبهاني، ثنا الحسن بن قزعة، ثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن طلق بن علي قال:"لدغت طلقًا عقرب عند النبي عليه السلام فرقاه النبي عليه السلام ومسحه بيده".
ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال:"لدغت رجلًا مِنَّا عقرب عند النبي عليه السلام، فقال رجل: يا رسول الله، أرقه؟ فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب، قال: ثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، نحوه.
ففي حديث جابر رضي الله عنه ما يدل على أن كل رقية تكون فيها منفعة فهي مباحة؛ لقول النبي عليه السلام: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
(1)"مسند أحمد"(4/ 23 رقم 16341) وفيه: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا علي بن عبد الله، حدثني ملازم بن عمرو، قال: حدثني عبد الله بن بدر، به.
(2)
"المعجم الكبير"(8/ 338 رقم 8263).
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر.
وأخرجه مسلم (1): حدثني محمَّد بن حاتم، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبي الزبير، سمع جابر بن عبد الله يقول:"لدغت رجلًا منا عقرب ونحن جلوسٌ مع رسول الله عليه السلام، فقال رجل: يا رسول الله أأرقي؟ قال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم، عن جابر رضي الله عنه.
ص: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحة الرقية من النملة:
حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: ثنا أبو معاوية، عن عبد العزيز بن عمر، عن صالح بن كيسان، عن أبي بكر بن أبي خيثمة، عن الشفاء وكانت بنت عَمٍّ لعمر رضي الله عنه قالت:"كنت عند حفصة، فدخل علينا رسول الله عليه السلام فقال: ألا تعلميها رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟ ".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن محمَّد بن المنكدر، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة، عن حفصة:"أن امرأة من قريش يقال لها: الشفاء، كانت ترقي من النملة، فقال النبي عليه السلام: علميها حفصة".
ففي هذا الحديث إباحة الرقية من النملة، فاحتمل أن يكون ذلك بعد النهى فيكون ناسخًا للنهي، أو يكون النهي بعده فيكون ناسخًا له.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1726 رقم 2199).
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ابن مروان بن الحكم القرشي الأموي المدني، روى له الجماعة، عن صالح بن كيسان المدني، روى له الجماعة، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، واسم أبي حثمة: عبد الله بن حذيفة، روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس القرشية الصحابية، قال أحمد بن صالح: اسمها ليلى وغلب عليها الشفاء.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي، قال: ثنا علي بن مسهر، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن صالح بن كيسان، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن الشفاء بنت عبد الله قالت:"دخل على النبي عليه السلام وأنا عند حفصة رضي الله عنها فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة، كما علمتيها الكتابة؟ ".
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر بن عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا عبد الله بن عمرو، ثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن حفصة:"أن امرأة من قريش يقال لها: الشفاء، كانت ترقي [من] (3) النملة، فقال النبي [لها] (3) عليه السلام: علميها حفصة".
قوله: "رقية النملة" قال ابن الأثير: رقية النملة شيء كانت النساء تستعمله يَعْلَمُ كُلُّ من سمعه أنه كلام لا يضرُّ ولا ينفع، ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن
(1)"سنن أبي داود"(4/ 11 رقم 3887).
(2)
"مسند أحمد"(6/ 286 رقم 26493).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المسند".
يقال: العروس تحتفل وتختضب وتكتحل وكل شيء تفتعل، غير أن لا تعصي الرجل، ويروى عوض تفتعل: تنتعل، وعوض تختضب: تَقْتال، فأراد عليه السلام بهذا المقال تأنيب حفصة؛ لأنه ألقى إليها سرًا فأفشته.
وقال الخطابي: النملة: قروح تخرج في الجنبين، ويقال أيضًا: أنها تخرج في غير الجنب، ترقى فتذهب بإذن الله تعالى.
وفي الحديث دليل على أن تعليم النساء الكتابة غير مكروه.
قوله: "فاحتمل أن يكون ذلك بعد النهي. . . ." إلى آخره. إشارة إلى أن هذا الحديث وإن كان فيه إباحة الرقية ولكنه يحتمل أن يكون بعد النهي، فيكون ناسخًا للنهي، وأن يكون قبل النهي فيكون منسوخًا، فبهذا الاحتمال لا تثبت الحجة، ولكن وردت أحاديث أخر تدل على أن النهي منسوخ؛ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام في إباحة الرقية من الجنون: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا فضيل بن سليمان، عن محمَّد بن زيد، عن عُمير مولى آبي اللحم قال:"عَرَضْتُ على النبي عليه السلام رقية كنت أرقي بها من الجنون، فأمرني ببعضها ونهاني عن بعضها، وكنت أرقي بالذي أمرني به رسول الله عليه السلام". فهذا يحتمل أيضًا ما ذكرنا في الرقية من النملة.
ش: إسناده صحيح.
والمقدمي هو: محمَّد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي، شيخ البخاري ومسلم.
وعُمير مولى آبي اللحم الغفاري الصحابي.
وأخرجه الطبراني (1): نا المقدام بن داود، ثنا أسد بن موسى، نا ابن لهيعة، نا نصر -يعني بن طريف- عن عبد الرحمن بن زياد، عن محمد بن زيد، عن عمير
(1)"المعجم الكبير"(17/ 68 رقم 134).
مولى آبي اللحم قال: "عرضت على النبي عليه السلام رقية كنت أرقي من الجنون، فجعل يقول: خذ منها كذا وزد فيها كذا"، وله في رواية أخرى (1):"اطرح منها كذا، واطرح منها كذا، وارق فيها كذا".
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام في الرقية من العين: ما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن معبد بن خالد، قال: سمعت عبد الله بن شداد، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"أمرني رسول الله عليه السلام أن استرقي من العين".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن معبد، عن عبد الله بن شداد، عن عائشة، مثله.
أو قال: قال عبد الله بن شداد: "أمر رسول الله عليه السلام عائشة أن تسترقي من العين".
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن شداد، عن عائشة.
وأخرجه مسلم (2): عن ابن نمير، عن أبيه، عن سفيان، عن معبد بن خالد، عن عبد الله بن شداد، عن عائشة نحوه.
وأخرجه البخاري (3): عن محمَّد بن كثير، عن سفيان. . . . إلى آخره.
الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره.
وأخرجه ابن ماجه (4): عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن سفيان. . . . إلى آخره نحوه.
(1)"المعجم الكبير"(17/ 68 رقم 135).
(2)
"صحيح مسلم"(4/ 1725 رقم 2195).
(3)
"صحيح البخاري"(5/ 2166 رقم 5406).
(4)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1161 رقم 3512).
ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا عبد الرزاق ابن همام، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله:"أن النبي عليه السلام قال لأسماء بنت عميس: ما لي أرى أجسام بني أخي صارعة نحيفة، أتصيبهم الحاجة؟ قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، أفأرقيهم؟ فقال: بماذا؟ فعرضت عليه كلامًا لا بأس به، فقال: ارقيهم".
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان وأحمد بن يونس، قالا: ثنا زهير، قال: ثنا ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن باباه، عن أسماء بنت عميس قالت:"قلت: يا رسول الله إن العين تسرع إلى بني جعفر، فأسترقي لهم؟ قال: نعم، فلو أن شيئًا يسبق القدر لقلت: إن العين تسبقه".
فهذا يحتمل ما ذكرنا في رقية النملة والجنون.
ش: هذان إسنادان صحيحان:
الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي.
وأخرجه مسلم (1): حدثني عقبة بن مكرم العمي قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "رخص النبي عليه السلام لآل حزم في رقية الحية، وقال لأسماء ابنة عميس: ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة تصيبهم الحاجة؟ قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، قال: ارقيهم، قالت: فعرضت عليه، فقال: ارقيهم".
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري وأحمد بن يونس، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، كلاهما عن زهير بن معاوية، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن عبد الله بن أبي نجيح -واسم أبي نجيح يسار، عن عبد الله بن باباه -ويقال له: ابن بابي، ويقال: ابن بابيه- المكي، روى له الجماعة سوى البخاري.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1726 رقم 2198).
وأخرجه الترمذي (1): ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي:"أن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله، إن ولد جعفر تسرع إليه العين، أفأسترقي لهم؟ قال: نعم، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقه العين".
وفيه من الفوائد: جواز الرقية للجن، وإصابة العين، وأن الرقية لا تجوز إلا بما ليس فيه شيء يخالف الكتاب والسنة.
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام الرخصة في الرقية مِن كل ذي حمة.
حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أسباط بن محمَّد، عن الشيباني، عن عبد الرحمن ابن الأسود، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"رخص رسول الله عليه السلام في الرقية من كل ذي حمة".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الشيباني. . . . فذكر بإسناده مثله.
فهذا فيه دليل على أنه كان بعد النهي؛ لأن الرخصة لا تكون إلا من شيء محظور.
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن محمَّد بن عمرو بن يونس، عن أسباط بن محمَّد الكوفي، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني الكوفي، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود بن يزيد النخعي، عن عائشة.
وأخرجه البخاري (2): نا موسى بن إسماعيل، قال: نا عبد الواحد، نا سليمان الشيباني، ثنا عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال:"سألت عائشة عن الرقية من الحمة، فقالت: رخص رسول الله عليه السلام[في] (3) الرقية من كل ذي حمة".
(1)"جامع الترمذي"(4/ 395 رقم 2059).
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2167 رقم 5409).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري".
وأخرجه مسلم (1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن الشيباني. . . . إلى آخره نحوه.
الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني المروزي، عن سفيان الثوري، عن سليمان الشيباني. . . . إلى آخره.
قوله: "من كل ذي حمة" بضم الحاء وفتح الميم المخففة وهو السم، وقد تشدد الميم وأنكره الأزهري، ويطلق على إبرة العقرب للمجاورة؛ لأن السم منها يخرج، وأصلها: حُمَوٌ أو حُمَيٌّ بوزن صُردَ، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة أو الياء.
وقال الخطابي: الحمة كل شيء يلدغ أو يلسع. ويقال: هي شوكة العقرب.
وقال ابن سيده: قال بعضهم: هي الإبرة التي تضرب بها الحية والعقرب والزنبور أو يلدغ بها، والجمع: حُمَاةٌ وحُمَىً، وفي كتاب "الحيوان" لعمرو بن بحر: من سمى إبرة العقرب حُمَةٌ فقد أخطأ، وإنما الحمة سموم ذوات الشعر كالدبر، وذوات الأنياب والأسنان كالأفاعي وسائر الحيات، وكسموم ذوات الإبر من العقارب، وأما النهس وما أشبهه من السموم فليس يقال له حمة.
وفي كتاب "اليواقيت" للمطرز: حُمَّة -بالتشديد- وقال كراع: جمعها: حُمون وحُمات، كما قالوا: برون وبرات، قال: وكأنها مأخوذة من حميت النار تحمي إذا اشتدت حرارتها.
قوله: "فهذا فيه دليل" أي قول عائشة رضي الله عنها: "رخص رسول الله عليه السلام في الرقية" دليل صريح على أنه كان بعد النهي؛ لأن الرخصة لا تكون إلا من شيء نهي عنه فحرم، فدل ذلك أيضًا على أن حديث الشفاء وعمير مولى آبي اللحم ونحو ذلك كله من باب الترخيص الدال على نسخ ما تقدم من النهي. فافهم.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1724 رقم 2193).
ص: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحة الرقي كلها ما لم تكن شركًا: ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال:"كنا نَرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كنا نَرقي في الجاهلية فما ترى في ذلك؟ قال: اعرضوا عليّ رقاكم، فلا بأس بالرقى ما لم تكن شرك".
فهذا يحتمل أيضًا ما احتمله ما روينا قبله، فاحتجنا أن نعلم: هل هذه الإباحة للرقى متأخرة لما روي في النهي عنها، أو ما روي في النهي عنها يكون متأخرًا فيكون ناسخًا لها، فنظرنا في ذلك، فإذا ربيع المؤذن قد حدثنا، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر:"أن عمرو بن حزم دُعِي لامرأة بالمدينة لدغتها حية ليرقيها فأبى، فأخبر بذلك رسول الله عليه السلام فدعاه، فقال عمرو: يا رسول الله، إنك تزجر عن الرقي، فقال: اقرأها علي، فقرأها عليه، فقال رسول الله عليه السلام: لا بأس بها، إنما هي مواثيق فارق بها".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا وكيع، قال: عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر رضي الله عنه قال:"لما نهى رسول الله عليه السلام عن الرقي أتاه خالي، فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقي وإني أرقي من العقرب، قال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، عن أبي سفيان، عن جابر قال:"كان أهل بيت من الأنصار يرقون من الحية، فنهى رسول الله عليه السلام عن الرقى، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، إني كنت أرقي من العقرب وإنك نهيت عن الرقى، فقال رسول الله عليه السلام من استطاع منكم أن [ينفع] (1) أخاه فليفعل. قال: وأتاه رجل كان يرقي من الحية، فقال: اعرضها عليَّ، فعرضها عليه، فقال: لا بأس بها إنما، هي مواثيق".
(1) في "الأصل، ك": "يفعل"، وأظنه سبق قلم من المؤلف رحمه الله، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
فثبت بما ذكرنا أن ما روي في إباحة الرقي ناسخ لما روي في النهي عنها، ثم أردنا أن ننظر في تلك الرقى كيف هي؟ فإذا عوف بن مالك حدث عن رسول الله عليه السلام:"أنه لا بأس بها ما لم تكن شرك".
ش: ملخص هذا الكلام إثبات الإباحة في الرقى ما لم تكن فيها ألفاظ تؤدي إلى الشرك وبيان أن ما روي من إباحة ذلك قد نسخ ما روي من النهي عنها.
وأخرج في ذلك عن عوف بن مالك الأشجعي وجابر بن عبد الله الأنصاري.
أما عن عوف فأخرجه بإسناد صحيح.
وأخرجه مسلم (1): نا أبو الطاهر، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال:"كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك".
وأما عن جابر: فأخرجه من ثلاث طرق:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر.
الثاني: إسناده صحيح. عن ربيع بن سليمان أيضًا، عن أسد السنة، عن وكيع، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر.
وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج، قالا: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال:"كان لي خال يرقي من العقرب، فنهى رسول الله عليه السلام عن الرقى، قال: فأتاه فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى وأنا أرقي من العقرب، فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
(1)"صحيح مسلم"(4/ 1727 رقم 2200).
(2)
"صحيح مسلم"(4/ 1726 رقم 2199).
الثالث: إسناده صحيح أيضًا. عن أبي بكرة بكار القاضي، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني البصري ختن أبي عوانة، شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع.
وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"(1): ثنا زهير، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال:"كان جار لي من الأنصار يرقي من الحمة، فنهى رسول الله عليه السلام عن الرقي، فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقى وإني كنت أرقي من الحمة، فقال رسول الله عليه السلام: اعرضها علي، قال: فعرضها فقال: لا بأس بهذا، هذه من المواثيق".
وأخرج عن عبد الله بهذا الإسناد (2) قال: "كان رجل من الأنصار يرقي من العقرب، فنهى رسول الله عليه السلام عن الرقي، فقال: يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقي وإني كنت أرقي من العقرب، فقال رسول الله عليه السلام: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل".
قوله: "إنما هي مواثيق" أي عهود، وهو جمع ميثاق، إفتعال من الوثاق وهو في الأصل حبل وقيد يشُدَّ به الأسير والدابة.
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام في ذلك أيضًا ما حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا عثمان بن حكيم قال: حدثتني الرباب، قالت: سمعت سهل بن حنيف يقول: مررنا بسيل، فدخلنا نغتسل، فخرجت منه وأنا محموم فنمي ذلك إلى رسول الله عليه السلام، فقال: مروا أبا ثابت فليتعوذ فقلت، يا سيدي إن الرقى صالحة؟ فقال: لا رقية إلا من ثلاثة: من النظرة، والحمة، واللدغة".
(1)"مسند أبي يعلى"(3/ 424 رقم 1913).
(2)
"مسند أبي يعلى"(3/ 424 رقم 1914).
فاحتمل أن يكون ما أباح رسول الله عليه السلام من الرقي هو التعوذ، فأما قول سهل:"لا رقيه إلا من ثلاثة" فيحتمل أن يكون علم ذلك من إباحة رسول الله عليه السلام بعد نهيه المتقدم ولم يعلم ما سوى ذلك مما روينا عن غيره أن رسول الله عليه السلام رخص فيه.
ش: أي قد روي عن النبي عليه السلام في إباحة الرقي أيضًا ما حدثنا. . . . إلى آخره. وهو حديث سهل بن حنيف.
وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني الكوفي -ثقة (1) - عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، روى له الجماعة، عن عثمان بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري الكوفي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، عن الرباب -بفتح الراء، وبباءين موحدتين بينهما ألف ساكنة- وهي جدة عثمان بن حكيم.
وأخرجه أبو داود (2): ثنا مسدد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا عثمان بن حكيم، قال: حدثتني جدتي الرباب، قالت: سمعت سهل بن حنيف يقول: "مررنا بسيل، فدخلت فاغتسلت منه فخرجت محمومًا، فنمي ذلك إلى رسول الله عليه السلام فقال: مروا أبا ثابت يتعوذ، قالت: فقلت: يا سيدي، والرقي صالحة؟ فقال: لا رقية إلا من عين أو حمة أو لدغة".
قوله: "وأنا محموم" الواو فيه للحال، والمحموم من الحمي.
قوله: "فنمي ذلك" من نميت الحديث إليه إذا بَلَّغْتُه على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بَلَّغْتُه على وجه الإفساد والنميمة قلت: نَمَّيْتُهُ -بالتشديد- قاله أبو عبيد وابن قتيبة.
قوله: "مروا أبا ثابت" وهي كنية سهل بن حنيف.
(1) قلت: الجمهور على تضعيفه، ورماه الإمام أحمد وابن نمير بالكذب. راجع ترجمته في "الميزان"، و"تهذيب الكمال".
(2)
"سنن أبي داود"(4/ 11 رقم 3888).
قوله: "من النظرة" أي نظرة العين، يقال: هذا منظور، إذا أصابته العين، وقد مرَّ تفسير الحمة.
و"اللدغة" باللام والدال المهملة والغين المعجمة من لدغته العقرب.
قوله: "فأما قول سهل. . . ." إلي آخره. جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: كيف يدل حديث سهل هذا على إباحة مطلق الرقية، وقد قال سهل:"لا رقية إلا من ثلاثة" وقد حصرها على هذه الثلاثة؟
وأجاب عنه بقوله: "فيحتمل أن يكون علم ذلك. . . ." إلى آخره. وهو ظاهر.
وقد يجاب عن هذا بما أجبنا عن قوله: "لا رقية إلا عن عين أو حمة" وقد مَرَّ فيما مضى عن قريب.
ص: حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا عبد العزيز بن صهيب، قال: ثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد "أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشتكيت يا محمَّد؟ قال: نعم، قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل ذي نفس وعين، الله يشفيك، بسم الله أرقيك".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن أزهر بن سعيد، عن عبد الرحمن بن السائب بن أخي ميمونة، قالت له:"ألا أرقيك"(1) المنهي عنه خلاف هذا.
ش: ذكر هذا الحديث شاهدًا لما قاله أهل المقالة الثانية من أن السمر إذا كان في شيء فيه قربة أو مصلحة للمسلمين فهو مباح غير مكروه، ألا ترى كيف بَيَّنَ عبد الله بن مسعود في حديثه هذا كيفية سمر رسول الله عليه السلام؟
وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن محمَّد الصيرفي، عن أبي الوليد هشام ابن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن أبي معاوية الضرير محمَّد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن ابن مسعود.
(1) سقطت ورقة من "الأصل"، و"ح" في هذا الموضع.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال:"كان رسول الله عليه السلام يسمُر عند أبي بكر الليلة كذلك في أمر من أمر المسلمين وأنا معه، وأنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه".
قوله: "ربما سمر" من السَّمَر -بفتحتين- وهو الحديث بعد العشاء وربما تسكن الميم فتكون حينئذ مصدرًا من سَمَرَ يَسمُر سمرًا، وأصل السمر: لون ضوء القمر؛ لأنهم كانوا يتحدثون فيه.
ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن عمر رضي الله عنه ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي وائل، عن عبد الله قال:"جَدَب لنا عمر السمر بعد العشاء الآخرة".
ففي هذا الحديث أن عمر رضي الله عنهم جدب لهم السمر بعد العشاء الآخرة، ولم يبيِّن لنا في هذا الحديث أي سمر ذلك السمر؟ فنظرنا في ذلك، فإذا سليمان بن شعيب قد حدثنا، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن الجريري، قال: سمعت أبا نضرة، عن أبي سعيد مولى الأنصار قال:"كان عمر رضي الله عنه لا يدع سامرًا بعد العشاء الآخرة، يقول: ارجعوا لعل الله يرزقكم صلاةً أو تهجدًا، فانتهى إلينا وأنا قاعد مع ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي ذر رضي الله عنهم فقال: ما يقعدكم؟ قلنا: أردنا أن نذكر الله، فقعد معهم".
فهذا عمر رضي الله عنه قد كان ينهاهم عن السمر بعد العشاء ليرجعوا إلي بيوتهم ليصلوا، أو ليناموا نومًا ثم يقومون لصلاة يكونون بذلك متهجدين، فلما سألهم ما الذي أقعدهم؟ فأخبروه أنه ذِكْرُ الله، لم ينكر ذلك عليهم وقعد معهم؛ لأن ما كان يقيمهم له هو الذي هم قعود له.
فثبت بذلك أن السمر الذي في حديث أبي وائل عن عبد الله أن رسول الله عليه السلام وعمر رضي الله عنه جَدَبا لهم هو الذي فيه قربة إلي الله عز وجل ، والمنهي عنه في حديث أبي برزة هو الذي لا قربة فيه لتستوي معاني هذه الآثار فتتفق ولا تتضاد.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 79 رقم 6689).
ش: أي وقد روي في حكم السمر أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما حدثنا محمَّد بن خزيمة. . . . إلى آخره.
وأخرجه بإسناد صحيح: عن ابن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود.
قوله: "ولم يبيِّن لنا عمر. . . ." إلى آخره. أشار بهذا الكلام إلي بيان المراد من قول عبد الله بن مسعود: "إن رسول الله عليه السلام جَدَب لنا السمر بعد صلاة العتمة، وكذا عمر بن الخطاب أنه جَدَب لنا السمر بعد العشاء" أن النبي عليه السلام وعمر ما أرادا من السمر، وأي سمر هو؟
فنظرنا في ذلك فإذا أبو سعيد مولى الأنصار بيَّن ذلك في حديثه، من أن المراد من ذلك هو السمر الذي فيه قربة إلى الله عز وجل، وأنه غير مكروه.
وأخرج ذلك بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن ابن زياد الثقفي، عن شعبة، عن سعيد بن إياس الجُرَيري -بضم الجيم وفتح الراء الأولى- نسبة إلى جُرير بن عباد أخي الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن وائل، عن أبي نضرة -بالنون والضاد المعجمة- هو المنذر بن مالك العوفي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، عن أبي سعيد مولى الأنصار، ذكره ابن حبان في الثقات التابعين، ولم يذكر له اسمًا، وقال: مولى لبني أسد الأنصاري.
قوله: "لا يدع سامرًا" أي لا يتركه.
قوله: "فثبت بذلك، أي بما ذكرنا من أثر أبي سعيد مولى الأنصار أن السمر الذي في حديث أبي وائل عن عبد الله "أن النبي عليه السلام جدب لنا السمر. . . ." الحديث، وعن أبي وائل عن عبد الله قال: "جدب لنا عمر السمر. . . ." إلي آخره هو السمر الذي فيه قربة إلي الله عز وجل فهذا الكلام ينادي بأعلي صوته؟؟؟ وغيره فافهم؛ فإنه موضع التأمل.
ص: وقد روينا عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهم: "أنهما سمرا إلي طلوع الثريا".
فذلك عندنا على السمر الذي هو قربة إلي الله عز وجل، وقد ذكرنا ذلك الحديث بإسناده فيما تقدم من كتبانا هذا.
ش: أخرج الطحاوي هذا في باب "الوتر من كتاب الصلاة".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا عبد الله بن إدريس، عن حصين، عن زياد بن يحيى، عن ابن عباس:"أنه والمسور بن مخرمة سمرا".
ص: وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أيضًا من طريق ليس مثله يثبت: أنها قالت: "لا سمر إلا لمصلٍ أو مسافرٍ" فذلك عندنا إن ثبت غير مخالف لما روينا؛ وذلك لأن المسافر يحتاج إلي ما يدفع النوم عنه ليسير، فأبيح بذلك السمر وإن كان ليس بقربة ما لم يكن معصية لاحتياجه إلي ذلك، معنى قولها:"أو مصلٍ"، فمعناه عندنا على المصلي بعد ما سمر فيكون نومه إذا نام بعد ذلك على الصلاة لا على السمر، فقد عاد هذا المعنى إلى المعنى الذي صرفنا إليه معاني الآثار الأول.
ش: أخرج حديث عائشة هذا معلقا.
وأخرج البيهقي (2) مثله: عن ابن مسعود، من طريق الثوري، عن منصور، عن خيثمة، عمن سمع ابن مسعود يقول: قال رسول الله عليه السلام: "لا سمر بعد الصلاة إلا لمصلٍ أو مسافر".
وفي إسناده مجهول.
وأشار الطحاوي بقوله: "من طريق ليس مثله يثبت" إلى أن حديث عائشة المذكور ضعيف، ثم أجاب عنه على تقدير ثبوته بقوله: "فذلك عندنا -إن ثبت- غير مخالف .. إلى آخره، وهو ظاهر.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 79 رقم 6691).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 452 رقم 1965).