المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: القضاء بين أهل الذمة - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٤

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: رواية الشعر هل هي مكروهة أم لا

- ‌ص: باب: العاطس يشمت كيف ينبغي أن يرد على من يشمته

- ‌ص: باب: الرجل يكون به الداء هل يُجْتَنَب أم لا

- ‌ص: باب: التخيير بين الأنبياء عليهم السلام

- ‌ص: باب: إخصاء البهائم

- ‌ص: باب: كتابة العلم هل تصلح أم لا

- ‌ص: باب: الكي هل هو مكروه أم لا

- ‌ص: باب: نظر العبد إلى شعور الحرائر

- ‌ص: باب: التكني بأبي القاسم هل يصلح أم لا

- ‌ص: باب: السلام على أهل الكفر

- ‌ص: كتاب الصرف

- ‌ص: باب: الربا

- ‌ص: باب: القلادة تباع بذهب وفيها خرز وذهب

- ‌ص: كتاب الهبة والصدقة

- ‌ص: باب: الرجل ينحل بعض بنيه دون بعض

- ‌ص: باب: العمرى

- ‌ص: باب: الصدقات الموقوفات

- ‌ص: كتاب القضاء والشهادات

- ‌ص: باب: القضاء بين أهل الذمة

- ‌ص: باب: القضاء باليمين مع الشاهد

- ‌ص: باب: رد اليمين

- ‌ص: باب: الرجل تكون عنده الشهادة للرجل هل يجب أن يخبره بها؟ وهل يقبله الحاكم على ذلك أم لا

- ‌ص: باب: الحكم بالشيء فيكون في الحقيقة بخلافه في الظاهر

- ‌ص: باب: الحر يجب عليه دين ولا يكون له مال، كيف حكمه

- ‌ص: باب: الوالد هل يملك مال ولده

- ‌ص: باب: الوليد يدعيه رجلان كيف حكمه

- ‌ص: باب: الرجل يبتاع السلعة فيقبضها ثم يموت أو يفلس وثمنها عليه دين

- ‌ص: باب: شهادة البدوي هل تقبل على القروي

الفصل: ‌ص: باب: القضاء بين أهل الذمة

‌ص: باب: القضاء بين أهل الذمة

ش: أي هذا باب في بيان أحكام القضاء بين أهل الذمة، وهم أهل العهد من الكفار كاليهود والنصاري والسامرة.

و"الذمة" في اللغة العهد والأمان، وكذلك الذمام، وسمي أهل الذمة؛ لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم.

ص: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام رجم يهوديًّا ويهودية حين تحاكموا إليه".

ش: إسناده صحيح. ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن معبد بن شداد العبدي الرقي صاحب محمَّد الحسن الشيباني، وثقه أبو حاتم وغيره.

وأخرجه الجماعة فقال البخاري (1): ثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال: "إن اليهود جاءوا إلى رسول الله عليه السلام فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله عليه السلام: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمَّد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله عليه السلام فرجما، فرأيت الرجل ينحني على المرأة يقيها الحجارة.

وقال مسلم (2): حدثني الحكم بن موسى أبو صالح، قال: ثنا شعيب بن إسحاق، قال: أنا عبيد الله، عن نافع، أن عبد الله أخبره: "أن رسول الله عليه السلام أتي

(1)"صحيح البخاري"(6/ 2510 رقم 6450).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1326 رقم 1699).

ص: 411

بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله عليه السلام حتى جاء يهود، فقال: ما تجدون في التوراة على من زني؟ قالوا نسود وجوههما ونحممها، ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما، قال: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بها وقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله عليه السلام: مره فليرفع يده، فرفعها فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله عليه السلام فرجمهما، قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، ولقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه".

وأخرجه أيضًا (1) عن أبي الطاهر، عن عبد الله بن وهب، عن مالك. . . . نحو رواية البخاري.

وقال أبو داود (2): حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: قرأت على مالك بن أنس، عن نافع. . . . إلى آخره.

وقال الترمذي (3): ثنا إسحاق بن [موسى عن](4) معن، عن مالك مختصرًا:"أن النبي عليه السلام رجم يهوديًّا ويهودية". وقال: وفي الحديث قصة، وهو حسن صحيح.

وقال النسائي (5): أنا قتيبة بن سعيد، عن مالك .. إلى آخره مطولًا.

وقال ابن ماجه (6): ثنا علي بن محمَّد الطنافسي، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر .. إلى آخره.

قوله: "نفضحهم" أي نكشف مساوئهم، والاسم: الفضيحة والفضوح.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1326 رقم 1699).

(2)

"سنن أبي داود"(4/ 153 رقم 4446).

(3)

"جامع الترمذي"(4/ 38 رقم 1436).

(4)

ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "جامع الترمذي".

(5)

"السنن الكبرى"(4/ 321 رقم 73334).

(6)

"سنن ابن ماجه"(2/ 854 رقم 2556).

ص: 412

قوله: "يَجْنَأ" بفتح الياء آخر الحروف، وسكون الجيم وبعدها نون مفتوحة وهمزة، يقال: جَنَأَ الرجل الشيء، وجانأ عليه، وتجانأ عليه إذا أكَبَّ عليه، ويروي بضم الياء يقال: أجني عليه، يُجْنِئ إجناءً إذا أكب عليه يقيه شيئًا وروي يَحْني بفتح الياء وسكون الحاء المهملة أي يكب عليه، ويروى يحاني من المحاناة، ويروي بجيم ثم باء موحدة ثم همزة، أي يركع عليها، ويروي بعضهم "يُحَنِّي عليها" بفتح الحاء المهملة وتشديد النون.

قوله: "ونحممها" من التحميم، وهو تسويد الوجه بالحمم وهو جمع حممة، وهي الفحمة، وقال الحافظ المنذري: هذه المرأة المرجومة ذكر أبو القاسم الخثعمي عن بعض أهل العلم أن اسمها بسرة.

ويستفاد منه أحكام:

فيه: سؤال أهل الكتاب عن كتابهم، وفيه دليل على أن التوراة صحيحة لديهم ولولا ذلك ما سألهم رسول الله عليه السلام عنها ولا دعى بها.

وفيه: دليل على أن الكتاب الذي كانوا يكتبونه بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله، هي كتب أحبارهم وفقهائهم ورهبانهم، كانوا يضيفون لهم أشياء من عندهم وأهوائهم ويضيفوها إلى الله عز وجل، ولهذا وشبهه من أشكال أمرهم نهينا عن التصديق بما حدثونا به وعن التكذيب بشيء من ذلك؛ لئلا نصدق بباطل أو نكذب بحق، وقد خلطوا الحق بالباطل، ومن صح عنده شيء من التوراة ففعل مثل عبد الله بن سلام وغيره من أحبار اليهود الذين يعلمون جاز له أن يقرأه ويعمل بما فيه إن لم يكن مخالفًا لشريعتنا وسنة نبينا محمد عليه السلام.

وفيه: دليل على أنهم كانوا يكذبون على توراتهم ويضيفون كذبهم إلى ربهم وكتابهم، لأنهم قالوا وهم يقرءون في التوراة إن الزناة يفضحون ويجلدون محصنين كانوا بالنكاح أو غير محصنين وفي التوراة غير ذلك من رجم الزناة المحصنين.

وفيه: دليل على ما اليهود عليه من الخبث والمكر والتبديل.

ص: 413

وفيه: إثبات الرجم والحكم به على الثيب الزاني، وهو أمر أجمع عليه أهل الحق، وهم الجماعة أهل السنة والأثر، ولا يخالف في ذلك من بعده أهل العلم خلافًا.

وفيه: دليل على أن شرائع مَنْ قَبلَنا شرائع لنا إلا ما ورد في القرآن أو السنة نسخه.

وفيه: أن أهل الكتاب وسائر أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ورضوا بحكم حكامنا هل يحكمون بينهم أم لا؟ فيه خلاف سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن أهل الذمة إذا أصابوا شيئًا من حدود الله تعالى، لم يحكم عليهم بحكم المسلمين حتى يتحاكموا إليهم ويرضوا بحكمهم، فإذا تحكموا إليهم كان الإِمام مخيَّرًا؛ إن شاء أعرض عنهم فلم ينظر فيما بينهم وإن شاء حكم، واحتجوا في ذلك بقول الله عز وجل:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (1).

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عامرًا الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومالكًا والشافعي في قول؛ فإنهم قالوا: أهل الذمة إذا أصابوا شيئًا من حدود الله. . . . إلى آخر ما ذكره.

وقال ابن حزم: هل تقام الحدود على أهل الذمة أم لا؟ قال علي: اختلف الناس في هذا: جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا حد على أهل الذمة في الزنا، وجاء عن ابن عباس: لا حد على أهل الذمة في السرقة، وقال مالك: لا حد عليهم في زنا ولا في شرب الخمر، وعليهم الحد في القذف والسرقة، وقال الشافعي وأبو سليمان وأصحابهما: عليهم الحد في كل ذلك.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: على الإِمام أن يحكم بينهم بأحكام المسلمين، وكل ما وجب على الإمام أن يقيمه على المسلمين فيما أصابوا من الحدود وجب أن يقيمه على أهل الذمة، غير ما يستحلونه في دينهم كشربهم الخمر وما أشبهه فإن ذلك يختلف حالهم فيه وحال المسلمين؛ لأن المسلمين

(1) سورة المائدة، آية:[42].

ص: 414

يعاقبون على ذلك، وأهل الذمة لا يعاقبون عليه، وخلا الرجم في الزنا فإنه لا يقام عندهم على أهل الذمة. لأن الأسباب التي يجب بها الإحصان في قولهم: أحدها الإسلام، فأما ما سوى ذلك من العقوبات الواجبات في انتهاك الحرمات فإن أهل الذمة فيه كأهل الإسلام، ويجب على الإمام أن يقيمه عليهم وإن لم يتحاكموا إليه، كما يجب عليه أن يقيمه على أهل الإسلام وإن لم يتحاكموا إليه.

ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مجاهدًا وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي في قول.

ولكن فيما بينهم خلاف من وجه آخر، فقال أبو حنيفة: إذا جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل، فإن جاءت المرأة وحدها ولم يرضى الزوج لا يحكم.

وقال أبو يوسف ومحمد وزفر: بل يحكم.

وكذلك اختلف أصحاب مالك على هذين القولين، والمشهور من مذهب مالك في الذميين يشكو أحدهما ويأبى صاحبه من الحاكم عندنا أنه لا يحكم بينهما إلا بأن يتفقا جميعًا على الرضى بحكمنا، فإن كان ظلمًا ظاهرًا منعوا بأن يظلم بعضهم بعضًا.

وقال مالك وجمهور أصحابه في الذمي والمعاهد والمستأمن يسرق من مال ذِمِّي: أنه يقطع كما لو سرق من مال مسلم.

وقال أبو عمر: إذا سرق الذمي من ذمي ولم يترافعوا إلينا فلا تعرَّض لهم عندنا، وإن ترافعوا إلينا حكمنا عليهم بحكم الله بينهم، وإذا سرق ذمي من مسلم كان الحكم حينئذ إلينا فوجب القطع.

وقال أيضًا: اختلف الفقهاء في اليهوديَّيْن الذمين إذا زنيا هل يُحَدَّان أم لا؟ فقال مالك: إذا زني أهل الذمة أو شربوا الخمر فلا يعرض لهم الإِمام إلا أن يُظهروا ذلك في ديار المسلمين ويُدْخِلُون عليهم الضرر، فيمنعهم السلطان من الإضرار بالمسلمين.

ص: 415

وقال الشافعي: إن تحاكموا إلينا فلنا أن نحكم أو ندع وإن حكمنا رجمنا المحصن، وجلدنا البكر مائة وغربناه عامًا، واختار هذا القول جماعة من أصحابه، وقال في كتاب الجزية: لا خيار للإمام ولا للحاكم إذا جاءوا في حدٍّ لله تعالى، وعليه أن يقيمه عليهم.

وهذا القول اختاره المزني.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يحدان إذا زنيا كحد المسلم. انتهى.

وقال أبو بكر الرازي في "الأحكام" قال أصحابنا: أهل الذمة يُحْكَمون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإِسلام كالمسلمين إلا في بيع الخمر والخنزير فإن ذلك جائز فيما بينهم؛ لأنهم مُقِّرون على أن يكون مَالًا لهم ولا نعلم خلافًا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرًا: أن عليه قيمتها، وقد روي أنهم كانوا يأخذون الخمر في العشور فكتب إليهم عمر رضي الله عنه أن ولوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها، فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيهما، وما عدا ذلك فهم محمولون على أحكامنا، لقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (1).

ثم قال: فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات والحدود، وأهل الذمة والمسلمون فيها سواء، إلا أنهم لا يرجمون؛ لأنهم غير محصنين.

واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم. فقال أبو حنيفة: هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا بأحكامنا، فإن تراضى بها الزوجان حملًا على أحكامنا، وإن أبي أحدهما لم يعترض عليهم، فإن تراضيا جميعًا حملهما على أحكام الإِسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم، وكذلك إن أسلموا، وقال محمَّد: إذا رضى أحدهما حُمِلَا جميعًا على أحكامنا، وإن أبوا، إلا في النكاح بغير شهود فإنه يجيزه إذا تراضوا بها.

(1) سورة المائدة، آية:[49].

ص: 416

وقال زفر: يحملون في النكاح بغير شهود على أحكامنا، ولا نجيزه إذا تراضوا بها.

ص: وكان من الحجة لهم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي ذكرنا: أنه إنما أخبر فيه ابن عمر أن رسول الله عليه السلام رجم يهودية ويهودي حين تحاكموا إليه، ولم يقل: إن رسول الله عليه السلام قال: إنما رجمتهم لأنهم تحاكموا إلي، ولو كان قال ذلك لَعُلِم أن الحكم منه إنما يكون إليه بعد أن يتحاكم إليه، وأنهم إذا لم يتحاكموا إليه لم ينظر في أمورهم، ولكنه لم يجيء هكذا، وإنما جاء عنه أنه رجمهما حين تحاكموا إليه، فإنما أخبر عن فعل النبي عليه السلام وحكمه إذا تحكموا إليه، ولم يخبر عن حكمهم عنده قبل أن يتحاكموا إليه هل يجب عليهم فيه إقامة الحد عليهم أم لا؛ فبطل أن يكون في هذا الحديث دلالة في ذلك عن رسول الله عليه السلام ولا عن ابن عمر من رأيه.

ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. . . . إلى آخره، وأرد بذلك الجواب عن حديثه الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، حاصلة: أنه لا يدل على ما ادعوا من ذلك، وَبَيَّنَ ذلك بقوله:"ولم يقل: إن رسول الله عليه السلام قال. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر.

ص: ثم نظرنا فيما سوى ذلك من الآثار، هل فيه ما يدل على شيء من ذلك؟

فإذا أحمد بن أبي عمران قد حدثنا، قال: ثنا أبو خيثمة زهير بن حرب قال: ثنا حفص بن غياث، عن مجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، عن جابر بن عبد الله:" [أن] (1) اليهود جاءوا إلى رسول الله عليه السلام برجل وامرأة منهم زنيا، فقال لهم رسول الله عليه السلام: ائتوني بأربعة منكم يشهدون".

فثبت بهذا أن رسول الله عليه السلام قد كان نظر بينهم قبل أن يُحَكِّمه الرجل والمرأة المدعى عليهما الزنا، لأنهما جميعًا جاحدان، ولو كانا مقرين لما احتاج مع إقرارها إلى أربعة يشهدون.

(1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 417

ش: ذكر هذا شاهدًا لما قاله من قوله: إن الإِمام يجب عليه أن يحكم بأحكام المسلمين إذا تحاكموا إليه فيما أصابوا من الحدود إلا في المواضع المسستثناة على ما مَرَّ آنفًا.

أخرجه عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن زهير بن حرب بن شداد النسائي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن حفص بن غياث النخعي قاضي الكوفة، عن مجالد بن سعيد، فيه مقال، عن عامر الشعبي، عن جابر رضي الله عنه.

وأخرجه أبو داود بأتم منه (1): نا يحيى بن موسى البلخي قال: ثنا أبو أسامة، قال: نا مجالد، أنا عامر، عن جابر بن عبد الله قال:"جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم، فأتوه بابني صورياء، فنشدهما: كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة؛ رُجِمَا، فقال: ما يمنعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعى رسول الله عليه السلام بالشهود، فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله عليه السلام برجمهما".

وأخرجه (2) عن الشعبي أيضًا مرسلًا.

قوله: "بابني صُورياء" لعله أراد عبد الله وكنانة ابني صورياء.

وصُورِياء ممدود وبضم الصاد المهملة، وسكون الواو وكسر الراء.

ص: وقد روي عن البراء بن عازب، عن رسول الله عليه السلام ما يدل على ذلك أيضًا:

حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال:

(1)"سنن أبي داود"(2/ 561 رقم 4452).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 562 رقم 4453).

ص: 418

ثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن البراء رضي الله عنه قال:"مر رسول الله عليه السلام بيهودي قد حمم وقد ضرب، يطاف به، فقال رسول الله عليه السلام: ما شأن هذا؟ فقالوا: زنى، قال: فما تجدون في كتابكم؟ قالوا: نحمم وجهه ويعزر ويطاف به، فقال: أنشدكم بالله ما تجدون حده في كتابكم؟ فأشاروا إلى رجل منهم فسأله رسول الله عليه السلام فقال الرجل: نجد في التوراة الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكرهنا أن نقيم الحد على سفلتنا وندع أشرافنا، فاصطلحنا على شيء فوضعنا هذا، فرجمه رسول الله عليه السلام وقال: أنا أول من أُحيي ما أماتوا من أمر الله عز وجل".

ففي هذا ما قد دل أن النبي عليه السلام قد كان له أن يحكم بينهم وإن لم يحكموه؛ لأن في هذا الحديث أنهم مروا به عليه وهو يحمم. . . . فذكر باقي الحديث، ثم رجمه رسول الله عليه السلام، فلما دعاهم رسول الله عليه السلام؛ إنكارًا لما فعلوا من قبل أن يأتوه، فرد أمرهم إلى حكم الله الذي قد عطلوه وغيروه؛ ثبت بذلك أنه قد كان له أن يحكم فيما بينهم حَكَّمُوه أو لم يُحَكِّمُوه.

فهذا ما في هذه الآثار من الدليل على ما تكلمنا فيه.

ش: أي: قد روي عن البراء بن عازب، عن النبي عليه السلام ما يدل على أن الإِمام له أن يحكم فيما بين أهل الذمة سواء حكمَّوه أو لا، ويجب عليه أن يحكم بينهم بأحكام المسلمين.

وأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش. . . . إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): نا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن أبي معاوية -قال يحيى: أنا أبو معاوية- عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: "مُرَّ على النبي عليه السلام بيهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حَدُّ الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعى رجلًا من علمائهم فقال:

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1327 رقم 1700).

ص: 419

أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، قال رسول الله عليه السلام: اللهم إني أول من أُحيي أمرك إذا أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (1) إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} (1) يقول: ائتوا محمدًا عليه السلام فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2)، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْظَّالِمُونَ} (3)، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) في الكفار كلها".

وأخرجه أبو داود (5): عن مسدد، عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش. . . . إلى آخره نحوه.

وأخرجه النسائي (6) وابن ماجه (7) أيضًا.

قوله: "حمم" أي سوده بالحممة وهي الفحمة، وقد مَرَّ تفسيرها مرة.

قوله: "أنشدكم بالله" يقال: نشدتك بالله وناشدتك، وأنشدك عهد الله، وأنشدك الله، قيل: معناه سألتك بالله، وقيل: ذكرتك بالله، وقيل: هو من النشيد وهو رفع الصوت أي سألت الله يرفع صوتي لك بذلك.

(1) سورة المائدة، آية:[41].

(2)

سورة المائدة، آية:[44].

(3)

سورة المائدة، آية:[45].

(4)

سورة المائدة، آية:[47].

(5)

"سنن أبي داود"(4/ 154 رقم 4447).

(6)

"السنن الكبرى"(4/ 294 رقم 7218).

(7)

"سنن ابن ماجه"(2/ 855 رقم 255).

ص: 420

قوله: "على سَفَلَتِنَا" السَّفَلَة بفتح السين وكسر الفاء: السقاط من الناس، والسفالة: النذالة، يقال: هو من السفلة. ولا يقال: هو سفلة والعامة تقول: هو رجل سفلة من قوم سفل، وليس بعربي، وبعض العرب يخفف فيقول: فلان من سِفْلة الناس، فينقل كسرة الفاء إلى السين.

ويستنبط منه أحكام:

حكم النبي عليه السلام على اليهود بحكم التوراة، وأن حكم التوراة كان باقيًا في زمن رسول الله عليه السلام، وأن مبعث النبي عليه السلام لم يوجب نسخه، ودل ذلك على أن ذلك الحكم كان كائنا لم ينسخ بشريعة الرسول عليه السلام.

وفيه إيجاب الحكم بما أنزل الله وأن لا يُعدل عنه ولا يُحابي فيه مخافة الناس.

وفيه أن اليهود قد حرفوا أكثر التوراة لأجل الدنيا، وأخذوا الرشا على ذلك، قال الله تعالى فيهم:{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} (1).

وفيه أن من لم يحكم بما أنزل الله يطلق عليه الكافر والظالم والفاسق، ولكن المراد من الكفر كفران النعمة من غير جحود حكم، وقد اختلفوا في معنى الآية، فقال ابن عباس: هو في الجاحد لحكم الله، وقال: هي في اليهود خاصة، وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم: هي عامة.

يعني فيمن لم يحكم بما أنزل الله، وحكم بغيره أنه حكم الله، وفي رواية البراء: هي كلها في الكفار كما مَرَّ آنفًا، وقال إبراهيم النخعي:"الآية نزلت في بني إسرائيل ورضي لكم بها" وروى الثوري، عن زكرياء، عن الشعبي قال:"الأولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى". والله أعلم.

ص: وأما قول الله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (2) فإن الذين ذهبوا إلى تثبيت الحكم يقولون: هي منسوخة.

(1) سورة البقرة، آية:[41].

(2)

سورة المائدة، آية:[42].

ص: 421

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، عن سفيان، عن السدي، عن عكرمة {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قال: نسختها هذه الآية: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (1).

وقال الآخرون: تأويلها: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إن حكمت.

فلما اختلف في تأويل هذه الآية، وكانت الآثار قد دلت على ما ذكرنا؛ ثبت أن الحكم عليهم على إمام المسلمين ولم يكن له تركه؛ لأن في حكمه النجاة في قول جميعهم؛ لأن من يقول: عليه أن يحكم، يقول: قد فعل ما هو عليه أن يفعله، ومن يقول: هو مخير يقول: قد فعل ما له أن يفعله، وإذا ترك الحكم فمن يقول: عليه أن يحكم، يقول: قد ترك ما كان عليه أن يفعله، ومن يقول: له أن لا يحكم يقول: قد ترك ما كان له تركه، فإذا حكم شهد له الفريقان جميعًا بالنجاة، فإذا لم يحكم لم يشهدا بذلك.

فأولى الأشياء بنا أن تفعل ما فيه النجاة بالاتفاق دون ما فيه ضد النجاة بالاختلاف.

وهذا الذي ذكرنا من وجوب الحكم عليه هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: هذا جواب عن الآية التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه وهي قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (2)، وكانوا قد قالوا: إن الله تعالى قد خير نبيه عليه السلام بين الحكم والإعراض إذا ارتفع أهل الذمة إليه، فَدَلَّ ذلك أنه لا يجب على الإِمام أن يحكم عليهم إذا ارتفعوا إليه، وبيان الجواب عن ذلك أن التخيير منسوخ بقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (1).

(1) سورة المائدة، آية:[49].

(2)

سورة المائدة، آية:[42].

ص: 422

أخرج ذلك بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكوفي، عن عكرمة مولى ابن عباس.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) عن عكرمة نحوه.

وكذا روى سعيد بن الجبير، عن الحكم، عن مجاهد.

وكذا روى عثمان، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قال الجصاص: ذكر هؤلاء أن قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (2) ناسخ للتحيز المذكور في قوله تعالى:

{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (3) ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي والاجتهاد، وإنما طريقه التوقيف.

قوله: "وقال الآخرون" وأراد بهم أهل المقالة الأولى "تأويلها" أي تأويل الآية المذكورة وهي قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} (2) الآية، غير ناسخة لقوله تعالى:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ} (3) وإنما تأويلها: احكم بينهم بما أراك الله إن حكمت. ويقال: يحتمل أن يكون قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (2) قبل أن تعقد لهم الذمة ويدخلوا تحت أحكام الإِسلام بالجزية، ويكون قوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (2) بعد عقد الذمة لهم ودخولهم في أحكام الإِسلام، والدليل على ذلك ما روي عن ابن عباس: "أن قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (3) إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبني النضير، وذلك أن بني النضير كان لهم شرف ويدون دية كاملة، وأن بني قريظة يدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله عليه السلام، فأنزل الله ذلك فيهم،

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 428 رقم 21783).

(2)

سورة المائدة، آية:[49].

(3)

سورة المائدة، آية:[42].

ص: 423

فحملهم رسول الله عليه السلام على الحق في ذلك، فجعل الدية سواء، ومعلوم أن بني قريظة والنضير لم يكن لهم ذمة قط، وإنما كان بينه وبينهم عهد وهدنة فنقضوها فأخبر ابن عباس أن آية التخيير نزلت فيهم، فجائز أن يكون حكمها باقيًا في أهل الحرب من أهل العهد وحكم الآية الآخرى في وجوب الحكم في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله ثابتًا في أهل الذمة، فلا يكون فيها نسخ.

قال الجصاص: هذا تأويل سائغ لولا ما روي من السلف من نسخ التخيير بالآية الأخرى.

قوله: "ولم يكن له" أي للإمام "تركه" أي ترك الحكم، والباقي ظاهر.

ص: فإن قال قائل: فأنتم لا ترجمون اليهود إذا زنوا، فقد تركتم بعض ما في الحديث الذي به احتججتم!.

قيل له: إن الحكم كان في الزناة في عهد موسى عليه السلام هو الرجم على المحصن وغير المحصن، وكذلك كان جواب اليهودي الذي سأله رسول الله عليه السلام عن حد الزنا في كتابهم، فلم ينكر ذلك عليه رسول الله عليه السلام، فكان على النبي عليه السلام اتباع ذلك والعمل به؛ لأن على كل نبي اتباع شريعة النبي الذي كان قبله حتي يحدث الله شريعة تنسخ شريعته، قال الله عز وجل:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1)، فرجم رسول الله عليه السلام اليهوديين على ذلك الحكم ولا فرق حينئذ في ذلك بين المحصن وغير المحصن، ثم أحدث الله عز وجل لنبيه عليه السلام شريعة نسخت هذه الشريعة فقال:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (2) فكان هذا ناسخًا لما كان قبله، ولم يفرق في ذلك أيضًا بين المحصن وغير المحصن، ثم نسخ الله عز وجل ذلك فجعل الحد هو الأذى بالآية التي بعدها ولم يفرق في

(1) سورة الأنعام، آية:[90].

(2)

سورة النساء، آية:[15].

ص: 424

ذلك أيضًا بين المحصن وغير المحصن، ثم جعل الله لهن سبيلًا، فقال رسول الله عليه السلام:"خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" ففرق حينئذ بين حد المحصن وحد غير المحصن، فجعل حد المحصن الرجم، وحد غير المحصن الجلد.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قد استدللتم فيما ذهبتم إليه من وجوب الحكم على الإِمام بين أهل الذمة وإن لم يُحَكِّموه بحديثي جابر والبراء رضي الله عنهما وحديثاهما عام في المحصن وغير المحصن، ثم تركتم بعض ما فيه، حيث قلتم: إن اليهود إذا زنوا لا يرجمون، وشرطتم في وجوب الرجم الإِسلام، وجعلتموه من جملة شروط الإحصان.

فأجاب عنه بقوله: "قيل له. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر، ولكنا نتكلم في الآية الكريمة فنقول: لم يختلف السلف في حد الزانِيَيْن في أول الإِسلام ما قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (1) إلى قوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} (2) فكان حد المرأة الحبس والأذي بالتعيير، وكان حد الرجل التعيير، ثم نسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (3) ونسخ عن المحصن بالرجم، وذلك لأن في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي عليه السلام:"خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر. . . . الحديث". وكان ذلك عقيب الحبس والأذى المذكورين في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (1).

وقال الجصاص ما ملخصه: إن كون حد الزانيين في أول الإِسلام الحبس والأذى وكون المحصن وغير المحصن فيه سواء، دليل على أنه عليه السلام رجم اليهوديين بحكم

(1) سورة النساء، آية:[15].

(2)

سورة النساء، آية:[16].

(3)

سورة النور، آية:[2].

ص: 425

مبتدأ وأن الرجم الذي أوجبه الله تعالى في التوراة قد كان منسوخًا، ولما ثبت أنه رجمها؛ صح أنهما في حكم المسلمين في إيجاب الحدود عليهما إلا أنه لما رجمهما لم يكن من شرط الرجم الإحصان فلذلك رجمهما، فلما شُرِطَ الإحصان فيه، وقال عليه السلام:"من أشرك بالله فليس بمحصن" صار حدهما الجلد، وسيجيء زيادة تحقيق في هذا، وفي قوله عليه السلام:"البكر بالبكر. . . ." الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت وأخرجه في كتاب الحدود مستوفى.

وأما قوله عليه السلام: "من أشرك بالله فليس بمحصن".

فنقول: قال الدارقطني (1): ثنا عبد الله بن خشيش، ثنا سلم بن جنادة، ثنا وكيع، عن سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال:"من أشرك بالله فليس بمحصن".

ثنا دعلج (2)، ثنا ابن شيرويه، ثنا إسحاق، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"من أشرك بالله فليس بمحصن".

قال الدارقطني: لم يرفعه غير إسحاق، ويقال: إنه رجع عنه، والصواب موقوف.

وأخرجه البيهقي (3) أيضًا من حديث جويرية، عن نافع، أن ابن عمر كان يقول:"من أشرك بالله فليس بمحصن".

قال البيهقي: وهكذا رواه أصحاب نافع عنه، وقال البيهقي في "الخلافيات" وابن عمر إنما أرد به إحصان العفائف في حد القذف دون الإحصان الذي من شرائط الرجم، فهو يروي:"أن رسول الله عليه السلام رجم يهوديين زنيا" وهو لا يخالف النبي عليه السلام فيما روى عنه.

(1)"سنن الدارقطني"(3/ 147 رقم 198).

(2)

"سنن الدارقطني"(3/ 147 رقم 199).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 215 رقم 16713).

ص: 426

قلت: إسحاق هو ابن راهويه، حجة حافظ، فإذا رفع الثقة حديثا لا يضره وقف من وقفه فظهر أن الصواب فيه الرفع، وتأويل البيهقي لا دليل عليه، فلا يلتفت إليه، وليس ابن عمر مخالف لما رواه ولا يقال فيه ذلك، وكلها روايات صحيحة، أما روايته الأولى التي فيها:"أنه عليه السلام رجم يهوديين زنيا" فكان ذلك قبل اشتراط الإحصان كما ذكرنا، وأما روايته الأخرى فكان ذلك حين اشترط الإحصان؛ فافهم، والله أعلم.

وروى الدارقطني (1) أيضًا: ثنا عبد الله بن أحمد بن ثابت البزاز، حدثنا أحمد بن يوسف الثعلبي، ثنا أحمد بن أبي نافع، ثنا عفيف بن سالم، ثنا سفيان الثوري، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله عليه السلام "لا يحصن المشرك بالله شيئًا".

قال الدارقطني: وَهِمَ عفيف في رفعه، والصواب موقوف من قول ابن عمر.

قلت: عفيف ثقة. قاله ابن معين وأبو حاتم، ذكره ابن القطان، وقال صاحب "الميزان": محدث مشهور، صالح الحديث، وقد قلنا: إن الثقة إذا رفع الحديث لا يضره وقف من وقفه (2).

ص: ثم اختلف الناس من بعد في الإحصان، فقال قوم: لا يكون الرجل محصنًا بامرأته ولا المرأة محصنة بزوجها حتى يكونا حُرَّين مسلمين بالغين، قد جامعها وهما بالغان في نكاح صحيح، وممن قال بذلك: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: لما ذكر أن اليهود لا يرجمون إذا زنوا لعدم شرط الإحصان وهو الإِسلام؛ أخذ في بيان شروط الإحصان مع بيان الخلاف فيه، واعلم أن شروط إحصان الرجم

(1)"سنن الدارقطني"(3/ 146 رقم 197).

(2)

قلت: وفي هذا نظر، قد نبهنا عليه مرارًا، والصواب أن ينظر في حال من وقف ومن رفع، والحكم للأحفظ والأضبط. كما هو معلوم في علم علل الحديث.

ص: 427

سبعة: العقل والبلوغ والحرية والإِسلام والنكاح الصحيح، وكون الزوجين جُمعا على هذه الصفات وهو أن يكونا جميعًا عاقلين بالغين حُرَّين مسلمين، فوجود هذه الصفات فيهما معًا شرط لكون كل واحد منها محصنًا، والدخول في النكاح الصحيح بعد سائر الشروط متأخرًا عنها، وإن تقدمها لم يعتبر ما لم يوجد دخول آخر بعدها، فلا إحصان للصبي والمجنون والعبد والكافر، ولا بالنكاح الفاسد، ولا بنفس النكاح ما لم يوجد الدخول، وما لم يكن الزوجان جميعًا وقت الدخول على صفة الإحصان حتى أن الزوج العاقل البالغ الحر المسلم إذا دخل بزوجته وهي صبية أو مجنونة أو أمة أو كتابية، ثم أدركت الصبية وأفاقت المجنونة وأعتقت الأمة وأسلمت الكتابية، لا يصير محصنًا ما لم يوجد دخول آخر بعد زوال هذه العوارض، حتى لو زنى قبل دخول آخر لا يرجم، فإذا وجدت هذه الصفات صار الشخص محصنًا، وأشار إلى ذلك بقوله:"فقال قوم: لا يكون الرجل محصنًا. . . ." إلى آخره.

وأراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي وطاوسًا وموسى بن عقبة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا.

قال أبو عمر (1): اختلف الفقهاء في الإحصان الموجب للرجم، فجملة قول مالك ومذهبه أن يكون الزاني حرًّا مسلمًا بالغًا عاقلًا قد وطيء وطئًا مباحًا في عقد نكاح، ثم زنى بعد هذا، والكافر عنده والعبد لا يثبت لواحد منهما إحصان، وكذلك الوطء المحظور كالوطء في الإحرام أو في الصيام أو في الاعتكاف أو في الحيض، لا يثبت بذلك إحصان، إلا أن الأمة والكافرة والصغيرة تحصن الحر المسلم، ولا يحصنهن، هذا كله تحصيل مذهب مالك وأصحابه.

وَحَدُّ الحصانة في مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه على ضربين:

أحدهما: إحصان يوجب الرجم يتعلق بسبع شرائط: الحرية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والنكاح الصحيح، والدخول.

(1)"التمهيد"(9/ 84).

ص: 428

والآخر: إحصان يتعلق به حد القذف، له خمس شرائط في المقذوف: الحرية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والعفة.

ص: وقال آخرون: يحصن أهل الكتاب بعضهم بعضًا، ويحصن المسلم النصرانية ولا تحصن النصرانية المسلم، وقد كان أبو يوسف قال بهذا القول في "الإملاء" فيما حدثني به سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف رحمه الله.

ش: أي: وقال جماعة آخرون، وأراد بهم: سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: يحصن أهل الكتاب. . . . إلى آخره.

قال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن جابر بن زيد وسعيد بن المسيب:"في اليهودية والنصرانية تكون تحت المسلم ثم يفجر، قالا: يرجم".

ثنا إسماعيل (2) بن علية، عن يونس، عن الحسن قال كان يقول:"تحصن اليهودية والنصرانية المسلم".

حدثنا الضحاك (3) بن مخلد، عن ابن جريج، عن عطاء:"في الرجل يتزوج المرأة من أهل الكتاب أنها تحصنه".

حدثنا ابن مهدي (4)، عن إسرائيل، عن سالم قال:"سألت سعيد بن جبير عن الرجل يتزوج اليهودية والنصرانية والأمة، أيحصن معهن؟ قال: نعم".

وقال أبو عمر: قال الشافعي: إذا دخل بامرأته وهما حران ووطئها فهذا إحصان، كافرين كانا أو مسلمين، وقد قال مالك: تحصن الأمة الحر ويحصن العبد

(1)"مصنف بن أبي شيبة"(5/ 536 رقم 28756).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 536 رقم 28757).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 536 رقم 28758).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 537 رقم 28759).

ص: 429

الحرة، ولا تحصن الحرة العبد، ولا الحر الأمة، وتحصن اليهودية والنصرانية المسلم، وتحصن الصبية الرجل، وتحصن المجنونة العاقل، ولا يحصن الصبي المرأة ولا يحصن العبد الأمة، ولا تحصنه إذا جامعها في حال الرق، وإذا تزوجت المرأة خصيًّا وهي لا تعلم أنه خصي فوطئها ثم علمت أنه خصي فلها أن تختار فراقه ولا يكون ذلك الوطء إحصانًا.

وقال الأوزاعي في العبد تحته الحرة: إذا زنى فعليه الرجم.

وقال ابن حزم في "المحلى": اختلف الناس في المملوك الذكر إذا زنى، فقالت طائفة: حده حد الحر من الجلد والرجم والنفي، وقال مجاهد: إحصان العبد أن يتزوج الحرة، وإحصان الأمة أن يتزوجها الحر، وبهذا يأخذ أصحابنا كلهم.

وقال أبو ثور: الأمة المحصنة والعبد المحصن عليهما الرجم إلا أن يمنع من ذلك إجماع.

وقال الأوزاعي: إذا أُحِصَن العبد بزوجة حرة فعليه الرجم، وإن لم يعتق، فإن كان تحته أمة لم يجب عليه الرجم إن زنى، وإن أعتق، وكذلك قال أيضًا: إذا أُحْصِنَت الأمة بزوج حر فعليها الرجم، وإن لم تعتق، ولا تكون محصنة بزوج عبد.

وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد: حد العبد المحصن وغير المحصن والأمة: الجلد لا الرجم في شيء من ذلك.

قوله: "وقد كان أبو يوسف قال بهذا القول" أي بقول الجماعة الآخرين، روى الطحاوي ذلك عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب بن سليمان، عن أبي يوسف.

وقال أبو عمر: وقد روي عن أبي يوسف في "الإملاء": أن المسلم يحصن النصرانية ولا تحصنه، وروي عنه أيضًا أن النصراني إذا دخل بامرأته النصرانية ثم أسلما أنهما محصنان بذلك الدخول.

ص: 430

وروى بشر بن الوليد، عن أبي يوسف قال: قال ابن أبي ليلى: إذا زنى اليهودي أو النصراني بعد ما أحصنا فعليهما الرجم. قال أبو يوسف: وبه نأخذ.

ص: فاحتمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الثيب بالثيب: الرجم" أن يكون هذا على كل ثيب، واحتمل أن يكون على خاص من الثيب، فنظرنا في ذلك فوجدناهم مجمعين أن العبيد غير داخلين في ذلك، وأن العبد لا يكون محصنًا ثيبًا كان أو بكرًا، ولا يحصن زوجته حرة كانت أو أمة، وكذلك الأمة لا تكون محصنة بزوجها حرًّا كان أو عبدًا، فثبت بما ذكرنا أن قول النبي عليه السلام:"الثيب بالثيب: الرجم" إنما وقع على خاص من الثيب لا على كل الثيب، فلم يدخل فيما قد أجمعوا أنه وقع على خاص إلا ما قد أجمعوا أنه فيه داخل، وقد أجمعوا أن الحرين المسلمين البالغين الزوجين اللذين قد كان منهما جماع محصنين، واختلفوا فيمن سواهما، فقد أحاط علمنا أن ذلك قد دخل في قول رسول الله عليه السلام:"الثيب بالثيب: الرجم" فأدخلناه فيه، ولم نحط علمًا بما سوى ذلك فأخرجناه منه، وقد كان يجيء في القياس لما كانت الأمة لا تحصن الحر ولا يحصنها الحر، وكانت هي في عدم إحصانها إياه كهو في عدم إحصانه إياها؛ أن تكون كذلك النصرانية لما كانت لا تحصن زوجها المسلم كان هو أيضًا كذلك لا يحصنها، وقد رأينا الأمة أيضًا لما بطل أن تكون تحصن الحر، بطل أن تكون تحصن العبد، فكذلك يجيء في النظر أيضًا أن تكون النصرانية لما بطل أن تحصن المسلم بطل أن تحصن الكافر؛ قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا.

ش: أشار بهذا إلى الجواب عما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، محتجين بعموم قوله عليه السلام:"الثيب بالثيب: الرجم" وذلك أنه يعم المسلمين والكافرين ولا يُخَصُّ منه شيء إلا ما خصَّه الله ورسوله عليه السلام من العبيد والإماء.

وتقرير الجواب: أن يقال: إن قوله عليه السلام: "الثيب بالثيب" يحتمل أن يكون على عمومه فيشمل كل ثيب، ويحتمل أن يراد به الثيب الخاص، فلما نظرنا فيه فوجدنا

ص: 431

العبيد والإماء قد خرجوا منه باتفاق الخصوم، ظهر لنا أن المراد به الثيب الخاص لا مطلق الثيب، فإذا كان كذلك وقد كانوا أجمعوا على إحصان الحرين المسلمين البالغين الزوجين اللذين حصل بينها الجماع، واختلفوا فيمن سواهما فقد دخل ما أجمعوا عليه في قوله عليه السلام:"الثيب بالثيب: الرجم" لإحاطة علمنا بذلك، ولم يدخل ما اختلفوا فيه في ذلك لعدم إحاطة علمنا به، فلذلك قلنا: النص لا يتناول الكافرين كما لا يتناول العبيد والإماء؛ فافهم، هذا حاصل ما ذكره الطحاوي.

وقد يقال: إن قوله عليه السلام: "الثيب بالثيب: الرجم" خُصَّ بقوله: "من أشرك بالله فليس بمحصن" والذمي مشرك على الحقيقة فلم يكن محصنًا، والله أعلم بالصواب.

ص: 432