الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الإقرار بالسرقة التى توجب القطع
ش: أي هذا باب في بيان الإقرار بالسرقة هل يحتاج فيه إلى التكرار أم بإقرار واحد يجب عليه القطع؟.
ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سعيد بن عون مولى بني هاشم، قال: ثنا الدراوردي، عن يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"أتي بسارق إلى النبي عليه السلام فقالوا: يا رسول الله، إن هذا سرق، فقال: ما أخاله سرق، فقال السارق: بلى يا رسول الله، فقال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه ثم ائتوني به، قال: فذهب به، فقطع ثم حُسم، ثم أتي به فقال: تُب إلى الله عز وجل، فقال: تُبت إلى الله عز وجل، فقال: تاب الله عليك".
ش: سعيد بن عون القرشي مولى بني هاشم، قال أبو حاتم: بصري صدوق. والدراوردي هو عبد العزيز بن محمد وهو ثقة.
ويزيد بن خصيفة هو يزيد عبد الله بن خصيفة الكندي المدني روى له الجماعة.
وأخرجه البزار في "مسنده"(1): عن أحمد بن أبان القرشي، عن الدراوردي. . . . إلى آخره نحوه.
قوله: "ما أخاله" أي ما أظنه، يقال: خِلت إِخاله بالكسر والفتح، والكسر أفصح، والفتح أكثر استعمالًا، والفتح هو القياس، وقال الجوهري: إخال بكسر الألف هو الأفصح، وبنو أسد يقولون: أخال -بالفتح- وهو القياس.
قوله: "ثم حُسم" أي قطع الدم عنه بالكي.
ويستفاد منه أحكام:
(1) عزاه الهيثمي في "المجمع"(6/ 276) للبزار، وقال: رواه البزار عن شيخه أحمد بن أبان القرشي، وثقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.
فيه: فضيلة الستر على المسلمين، ألا ترى أنه عليه السلام قال:"ما إخاله سرق"؛ لأنه كره أن يصدقه وهو يجد السبيل إلى ستره، لكن لما تبيَّن له وقوع السرقة منه أقام عليه الحد. وقيل: إنما قال عليه السلام: "ما إخاله سرق". ظنًّا منه أنه لا يعرف معنى السرقة. ولعله قال إذا جلس يحسب أن حكم ذلك حكم السرقة، فاستثبت الحكم فيه؛ لأن الحدود تسقط إذا وجدت فيها شبهة.
وفيه: أن الإمام إذا ثبت عنده ما يوجب الحد لا ينبغي له أن يؤخر الحكم فيه.
وفيه: وجوب قطع يد السارق.
وفيه: الحسم بعد القطع لئلا يفضي القطع إلى هلاك.
وفيه: استتابة الإمام المحدود بعد إقامة الحد عليه.
وفيه: أن الإقرار مرةً واحدة يكفي في وجوب القطع كما ذهبت إليه طائفة، على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى.
ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا حسين نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن يزيد بن خصيفة. . . . فذكر بإسناده مثله.
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: سمعت ابن جريج يحدث، أن يزيد بن خصيفة أخبره، أنه سمع محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان يحدث، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذه ثلاث طرق في الحديث المذكور، وكلها مرسله، ورجالها ثقات.
الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن محمد بن إسحاق. . . . إلى آخره.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث ابن المديني نحوه مرسلًا، ثم قال: قال علي: فحدثنيه عبد العزيز بن أبي حازم، أخبرني يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان.
وثنا سفيان، ثنا ابن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان. . . . فذكره مرسلًا. قال علي: لم يسنده واحد منهم. قال: وبلغني عن ابن إسحاق، أنه رواه عن يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان، عن أبي هريرة. ولا أراه حفظه.
الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين، عن سفيان بن عيينة، عن يزيد بن خصيفة، عن ابن ثوبان، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا ابن عيينة، عن يزيد بن خصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان:"أن رجلًا سرق شملةً، فأتي به النبي عليه السلام، فقالوا: يا رسول الله، هذا سرق شملةً. فقال: ما إخاله سرق".
الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك ابن جريج، عن يزيد بن خصيفة.
وأخرجه ابن وهب في "مسنده".
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه:"أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس أتى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله إني سرقت جملًا لبني فلان، قال: فأرسل إليهم رسول الله عليه السلام فقالوا: إنا فقدنا جملًا لنا، فأمر به رسول الله عليه السلام فقطعت يده. قال ثعلبة: أنا أنظر إليه حين قطعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي ظهرني مما أراد أن يدخل جسدي النار".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 271 رقم 17032).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 520 رقم 28577).
ش: ابن لهيعة هو عبد الله، فيه مقال.
وثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري الصحابي عداده في أهل مصر.
والحديث أخرجه ابن منده في ترجمة عمرو بن سمرة: من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه:"أن عمرو بن سمرة أتى النبي عليه السلام. . . ." إلى آخره نحوه.
وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني (1) أيضًا: من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة، عن أبيه. . . . إلى آخره.
وأخرجه الطبراني (2): ثنا أبو حبيب يحيى بن نافع المصري، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا ابن لهيعة، ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه:"أن عمرو بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله، إني سرقت جملًا لبني فلان، فأرسل إليهم رسول الله عليه السلام، فقالوا: إنا فقدنا جملًا لنا، فأمر النبي عليه السلام فقطعت يده، قال ثعلبة: أنا أنظر إليه حتى وقعت يده، وهو يقول: الحمد للَّه الذي طهرني بك، أردت أن تدخل جسدي النار".
وأخرجه ابن ماجه (3): عن محمد بن يحيى، عن سعيد بن أبي مريم، عن ابن لهيعة. . . . إلى آخره نحوه.
ثم اعلم أنه وقع في رواية الطبراني: عمرو بن حبيب بن عبد شمس، وفي رواية الطحاوي: عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس. والصحيح ما في رواية الطحاوي؛ وقيل: هما واحد، وجعل أبو نعيم لهما ترجمتين؛ لأنه وهم أنهما اثنان. وقال ابن الأثير: لا شك أنهما واحد؛ وذلك لأن عمرو بن سمرة
(1)"معرفة الصحابة"(4/ 245 رقم 2123).
(2)
"المعجم الكبير"(2/ 86 رقم 1385).
(3)
"سنن ابن ماجه"(2/ 863 رقم 2588).
هذا هو أخو عبد الرحمن بن سمرة، وسمرة هو ابن حبيب بن عبد شمس بلا خلاف، والله أعلم.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا أقر بالسرقة مرةً واحدة قطع. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث. وممن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة ومحمد بن الحسن -رحمهما الله-.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح والثوري ومالكًا والشافعي؛ فإنهم قالوا: يقطع السارق بإقراره مرةً واحدةً، ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك كسائر الإقرارات في الحقوق، قال البيهقي: قال عطاء: "إذا اعترف مرةً واحدةً قطع"، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، منهم: أبو يوسف فقالوا: لا يقطع حتى يُقِرَّ مرتين.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سليمان الأعمش، والحسن بن صالح، وأبا يوسف، وأحمد، وزفر بن الهذيل؛ فإنهم قالوا: لا تقطع يد السارق حتى يعترف مرتين. وإليه مال الطحاوي.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن الحجاج ومحمد بن عون الزيادي، قالا: ثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرني إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أبي المنذر مولى أبي ذر، عن أبي أمية المخزومي:"أن رسول الله عليه السلام أُتي بلص اعترف اعترافًا ولم يوجد معه المتاع، فقال رسول الله عليه السلام: ما إخالك سرقت. قال: بلى يا رسول الله، فأعادها عليه رسول الله عليه السلام مرتين أو ثلاثًا، قال: بلى، فأمر به فقطع، ثم جيء به، فقال له النبي عليه السلام: قل: أستغفر الله وأتوب إليه. قال: أستغفر الله وأتوب إليه، قال: اللهم تُب عليه، اللهم تُب عليه".
ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام لم يقطعه بإقراره مرةً واحدةً حتى أقر ثانية، فهذا أولى من الحديث الأول؛ لأن فيه زيادة على ما في الأول.
ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث أبي أمية المخزومي؛ فإنه يخبر في حديثه أنه عليه السلام لم يقطع ذلك المعترف بالسرقة إلا بعد أن أعاد عليه رسول الله عليه السلام مرتين أو ثلاثًا فهذا فيه زيادة على الحديث الأول؛ والأخذ به أولى.
وأخرج حديث أبي أمية، عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن إبراهيم ابن الحجاج الشامي الناجي البصري شيخ أبي يعلى، قال النسائي: لا بأس به.
عن محمد بن عون الزيادي -بالزاي المكسورة وبالياء آخر الحروف- وثقه ابن حبان.
عن حماد بن سلمة ثقة مشهور بجلالة القدر، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن أبي المنذر مولى أبي ذر الغفاري، قال الخطابي: مجهول.
وهو يروي عن أبي أمية المخزومي ويقال: الأنصاري حجازي.
والحديث أخرجه أبو داود (1): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبي المنذر مولى أبي ذر، عن أبي أمية المخزومي، أن النبي عليه السلام. . . . إلى آخره نحوه، غير أن في روايته:"اللهم تب عليه، ثلاثًا".
قوله: "فهذا أولى" أي حديث أبي أمية أولى بالعمل من حديث أبي هريرة وحديث ثعلبة الأنصاري؛ لأن فيه زيادة يخلو عنها حديث أبي هريرة وثعلبة، وهي إعادة النبي عليه السلام على ذلك المعترف مرتين أو ثلاثًا.
فإن قيل: كيف يكون حديث أبي أمية أولى، وقد قال الخطابي: في إسناد هذا
(1)"سنن أبي داود"(4/ 134 رقم 4380).
الحديث مقال. والحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة، ولم يجب الحكم به؟.
وقال المنذري: كأنه يشير إلى أن أبا المنذر مولى أبي ذر لم يرو عنه إلا إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة من رواية حماد بن سلمة عنه، وكذا قال عبد الحق في "أحكامه": أبو المنذر لم يرو عنه إلا إسحاق بن عبد الله.
قلت: حديث أبي هريرة مداره على الإرسال، وحديث ثعلبة ضعيف، فيكون حديث أبي أمية أصح من الحديثين، وهو أولى بالعمل؛ لما فيه من الزيادة والترجيح؛ فافهم.
ص: وقد يجوز أن يكون أحدها قد نسخ الآخر، فلما احتمل ذلك رجعنا إلى النظر، فوجدنا السنة قد قامت عن رسول الله عليه السلام في المقر بالزنا أنه رده أربع مرات، وأنه لم يرجمه بإقراره مرة واحدة، وأخرج ذلك من حكم الإقرار بحقوق الآدميين التي يقبل فيها إقراره مرة واحدة، وردَّ حكم الإقرار بذلك إلى حكم الشهادة عليه، فلما كانت الشهادة عليه غير مقبولة إلا من أربعة، فكذلك جعل الإقرار به لا يوجب الحد الا بإقراره أربع مرات، فثبت بذلك أن حكم الإقرار بالسرقة أيضًا كذلك يرد إلى حكم الشهادة عليها، فكما كانت الشهادة عليها لا تجوز إلا من اثنين، فكذلك الإقرار لا يقبل إلا مرتين، وقد رأيناهم جميعًا لما رووا عن رسول الله عليه السلام في المقر بالزنا لما هرب، فقال النبي عليه السلام:"لولا خليتم سبيله" فكان ذلك عندهم على أن رجوعه مقبول، واستعملوا ذلك في سائر حدود الله عز وجل، فجعلوا مَن أقرَّ بها ثم رجع قُبِلَ رجوعه، ولم يخصوا الزنا بذلك دون سائر حدود الله عز وجل، فكذلك لما جعل الإقرار في الزنا لا يقبل إلا بعدد ما يقبل عليه من البينة؛ ثبت أنه لا يقبل الإقرار بسائر حدود الله عز وجل إلا بعدد ما يقبل عليها من البينة.
ش: أي قد يجوز أن يكون أحد الحديثين قد نسخ الحديث الآخر، بأن يكون هذا الحديث الذي لم يقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بإقراره مرة واحدة، ناسخًا لذلك
الحديث الذي أمر فيه رسول الله عليه السلام بقطعه بمجرد إقراره في أول الأمر، ولكن لما كان هذا بطريق الاحتمال دون التيقن، أحال الحكم فيه إلى النظر والقياس، وهو معنى قوله: فلما احتمل ذلك رجعنا إلى النظر. . . . إلى آخره.
وملخصه: أن الشارع لما أخرج حكم الإقرار بالزنا عن حكم الإقرار بحقوق الناس التي يكتفى فيها بمجرد الإقرار مرة واحدة، وجعل حكمه كحكم الشهادة عليه بالزنا حيث لا تقبل الشهادة فيه إلا من أربعة؛ فالنظر عل ذلك ينبغي أن يكون حكم الإقرار بالسرقة كحكم الشهادة بها حيث لا تجوز إلا من اثنين فلا يترتب عليه القطع إلا بالإقرار مرتين، والجامع بينهما كون كل واحد منهما حدًّا، والباقي ظاهر.
ص: فأدخل محمد بن الحسن في هذا على أبي يوسف، فقال: لو كان لا يقطع في السرقة حتى يقربها سارقها مرتين، لكان إذا أقر بها أول مرة صار ما أقر به عليه دَيْنًا ولم يجب عليه القطع بعد ذلك إذ كان السارق لا يقطع فيما وجب عليه بأخذه إياه دَيْنًا.
ش: هذا إيراد من جهة محمد على ما ذهب إليه أبو يوسف من اشتراطه في القطع في السرقة مرتين.
بيانه أن يقال: لو كان إقراره مرتين شرطًا في القطع لكان المعترف بالسرقة في أول إقراره مقرًّا به دينًا في ذمته، وإقراره بعد ذلك لا يوجب القطع؛ لأنه صار مديونًا، والمقر بما عليه من الدين لا يجب عليه القطع، فحينئذ ينتفي القطع عن كل سارق فينسد باب القطع.
ص: فكان من حجتنا لأبي يوسف عليه في ذلك: أنه لو لزم ذلك أبا يوسف في السرقة لزم محمدًا مثله في الزنا أيضًا؛ إذ كان الزاني -في قولهم- لا يحد فيما وجب عليه فيه مهرٌ كما لا يقطع السارق فيما وجب عليه دينًا، فلو كانت هذه العلة التي احتج بها محمد بن الحسن على أبي يوسف يحب بها فساد قول
أبي يوسف في الإقرار بالسرقة؛ للزم محمدًا مثل ذلك في الإقرار بالزنا؛ وذلك أنه لما أقر بالزنا مرة واحدة لم يجب عليه حَدٌّ، وقد أقر بوطء لا يحد فيه بذلك الإقرار، فوجب عليه المهر، فلا ينبغي أن يحد في وطء قد وجب عليه فيه مهر، فإذا كان محمد لم يجب عليه بذلك حجة في الإقرار بالزنا، فكذلك أبو يوسف لا يجب عليه بذلك حجة في الإقرار بالسرقة.
ش: أي فكان من دليلنا لأبي يوسف على محمد فيما أورده عليه من ذلك، وأراد بها الجواب عن إيراد محمد على أبي يوسف، وهو إلزام السائل بمثل ما يلزم به المجيب، فمهما كان جواب السائل فيما ألزمه به المجيب يكون هو جواب المجيب فيما ألزمه به السائل؛ فافهم.
ص: وقد رد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أقر عنده بالسرقة مرتين.
حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن القاسم ابن عبد الرحمن، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب:"أن رجلًا أقر عنده بسرقة مرتين، فقال: قد شهدت على نفسك شهادتين، قال: فأمر به فقطع، وعلقها في عنقه".
أفلا ترى أن عليًّا رضي الله عنه رد حكم الإقرار بالسرقة إلى حكم الشهادة عليها في عدد الشهود؟! فكذلك الإقرار بحدود الله عز وجل كلها لا يقبل في ذلك منها إلا بعدد ما يقبل من الشهود عليها.
ش: ذكر هذا تأييدًا لما ذهب إليه أبو يوسف، وتوضيحًا لصحة وجه النظر الذي ذكره من قوله: إن حكم الإقرار بالسرقة كذلك يرد إلى حكم الشهادة عليها، فكما كانت الشهادة على السرقة لا تجوز إلا من اثنين، فكذلك الإقرار لا يقبل ولا يحكم به إلا إذا كان مرتين.
وإسناد ما روي عن علي رضي الله عنه صحيح.
أخرجه عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الكوفي، عن علي بن أبي طالب.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: و"كنت قاعدًا عند علي رضي الله عنه، فجاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد سرقت، فانتهره، ثم عاد الثانية فقال: إني سرقت، فقال له: قد شهدت على نفسك شهادتين، قال: فأمر به فقطعت يده، فرأيتها معلقة، يعني: في عنقه".
قوله: "فقطع وعلقها" أي فقطع يده وعلقها في عنقه، وذلك لأجل الاشتهار.
وقال ابن أبي شيبة (2): ثنا عمر بن علي بن عطاء بن مقدم، عن حجاج، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن فضالة بن عبيد، قال:"سألته عن تعليق اليد في العنق، فقال: السنة، قطع رسول الله عليه السلام يد رجل ثم علقها في عنقه".
وهذا أخرجه أصحاب السنن الأربعة أيضًا (3).
وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن علي المقدمي، عن الحجاج بن أرطاة.
وعبد الرحمن بن محيريز هو أخو عبد الله بن محيريز، شامي، وقال النسائي: الحجاج بن أرطاة ضعيف لا يحتج بحديثه. وقال المنذري: قال بعضهم: وكأنه من باب التطويف والإشارة بذكره ليرتدع به ولو ثبت لكان حسنًا صحيحًا ولكنه لم يثبت.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 483 رقم 28190).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 561 رقم 28973).
(3)
"سنن أبي داود"(4/ 143 رقم 4411)، "جامع الترمذي"(4/ 51 رقم 1447)، "المجتبى"(8/ 92 رقم 4982)، "سنن ابن ماجه"(2/ 863 رقم 2587).
قوله: "أفلا ترى. . . . إلى آخره" توضيح لما ذكره قبله.
قوله: فكذلك الإقرار بحدود الله. . . . إلى آخره، هذا كله على أصل أبي يوسف لأنه يقول: إن حد السرقة والشرب خالص حق لله تعالى كحد الزنا، فيلزم مراعاة الاحتياط فيه باشتراط في الإقرار كما في الزنا إلا أنه يكتفي في السرقة والشرب بالمرتين، ويشترط الأربع في الزنا؛ استدلالًا بالسنة؛ لأن السرقة والشرب كل منهما يثبت بنصف ما يثبت به الزنا وهو شهادة شاهدين فكذلك الإقرار والله أعلم.