الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب المقدار الذي يحرم على مالكيه أخذ الصدقة
ش: أي هذا باب في بيان مقدار المال الذي يملكه الرجل فيحرم عليه أخذ الصدقة.
ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أيوب بن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، قال: حدثني سهل بن الحنظلية، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم". قلت: يا رسول الله وما ظهر غنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم أو ما يعشيهم".
حدثنا الربيع المرادي، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. . . . ثم ذكر مثله بإسناده.
ش: هذان طريقان:
الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أيوب بن سويد أبي مسعود الحميري السسيباني -بالسين المهملة- قال أحمد: ضعيف. وقال يحيى: ليس بشيء يسرق الأحاديث. وقال النسائي: ليس بثقة.
يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي الشامي الدمشقي روى له الجماعة، عن ربيعة بن يزيد الدمشقي روى له الجماعة، عن أبي كبشة السلولي الشامي، وثقه العجلي، وقال: تابعي شامي ثقة. وقال أبو حاتم: لا أعلم أنه سُمي.
روى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
يروي عن سهل بن عمرو الأنصاري، والحنظلية أمه، وقيل: أم أبيه، وقيل: أم جده، واسمها أم إياس بنت أبان.
وأخرجه أبو داود (1) بأتم منه: ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا مسكين، نا محمد بن المهاجر، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، نا سهل بن الحنظلية، قال:"قدم علي رسول الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فسألاه، فأمر لهما بما سألاه فأمر معاوية فكتب لهما بما سألاه، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه وأتى النبي عليه السلام مكانه، فقال: يا محمد أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس؟ فأخبر معاوية بقوله رسول الله عليه السلام، فقال رسول الله عليه السلام: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار -وقال النفيلي في موضع آخر- من جمر جهنم، فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ -وقال النفيلي في موضع آخر وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟ - قال: قدر ما يغديه ويعشيه، -وقال النفيلي في موضع آخر- أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم".
الثاني: عن الربيع بن سليمان المؤذن المرادي المصري صاحب الشافعي، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الدمشقي، عن ربيعة بن يزيد. . . . إلى آخره.
وأخرجه الطبراني (2): عن يحيى بن عبد الباقي المصيصي، عن محمد بن مصفى، عن عمر بن عبد الواحد، عن ابن جابر، عن ربيعة بن يزيد قال:"قدم أبو كبشة السلولي دمشق فسأله عبد الله بن عامر اليحصبي: ما الذي أقدمك، لعلك أردت أن تسأل أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: والله لا أسأل أحدًا شيئًا، بعد الذي حدثني سهل بن الحنظلية، قال: كنت عند رسول الله عليه السلام. . . ." الحديث بطوله، وفيه:"من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم. فقلت: يا رسول الله، وما ظهر الغنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم أو يعشيهم".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 117 رقم 1629).
(2)
"المعجم الكبير"(6/ 96 رقم 5620).
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن من ملك هذا المقدار حرمت عليه الصدقة ولم تحل له المسألة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: جماعة من أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل، روى عنه ذلك أبو عمر، وقال: ومِنْ أحسن ما رأيت من مذهب أهل الورع ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- يُسأل عن المسألة متى تحل؟ قال: إذا لم يكن عنده ما يغديه ويعشيه، على حديث سهل بن الحنظلية، قيل له: فإن اضطر إلى المسألة؟ قال: هي مباحة له إذا اضطر، قيل له: فإن تعفف؟ قال: ذلك خير له، ثم قال: لا أظن أحدًا يموت من الجوع، الله يأتيه برزقه.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: من ملك أوقية من الورق وهي أربعون درهمًا أو عدلها من الذهب حرمت عليه الصدقة ولم تحل له المسألة، ومن ملك ما دون ذلك لم تحرم عليه الصدقة.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم الحسن البصري، وأبا عبيد ومالكًا في رواية الوليد عنه، فإنهم قالوا: من ملك أربعين درهمًا أو ما يساويها من الذهب حَرُمت عليه الصدقة، وهو معنى قوله:"أو عدلها من الذهب" بفتح العين وبكسرها بمعنى المثل، وقيل: هو بالفتح ما عادله من جنسه، وبالكسر ما ليس من جنسه، وقيل بالعكس.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد قال:"أتيت رسول الله عليه السلام فسمعته يقول لرجل يسأله: من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا، والأوقية يومئذ أربعون درهمًا".
وبما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك. . . . فذكر بإسناده مثله.
وبما حدثنا يزيد، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم. . . . ثم ذكر بإسناده مثله.
ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث الرجل الأسدي.
أخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد.
وأخرجه مالك في "موطإه"(1) بأتم منه: عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد قال:"نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله عليه السلام فسله لنا شيئًا نأكله، وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله عليه السلام فوجدت عنده رجلًا يسأله ورسول الله عليه السلام يقول: لا أجد ما أعطيك، فتولّى الرجل وهو مغضب، وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت، فقال رسول الله عليه السلام: إنه ليغضب عليّ أني لا أجد ما أعطيه؟! من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا، فقال الأسدي: للقحتنا خير من أوقية، قال: والأوقية أربعون درهمًا، قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله عليه السلام بعد ذلك بشعير وزيت، فقسم لنا منه حتى أغنانا الله".
الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مالك.
وأخرجه أبو داود (2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم. . . . إلى آخره نحوه.
الثالث: عن يزيد أيضًا، عن محمد بن كثير العبدي شيخ البخاري وأبي داود، عن سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد.
(1)"موطأ مالك"(2/ 999 رقم 1816).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 116 رقم 1627).
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا".
قوله: "وعنده أوقية" قد مر الكلام فيه مستوفى في كتاب الزكاة، وقال أبو عمر: الأوقية إذا أطلقت فإنما يراد بها الفضة دون الذهب وغيره، هذا قول العلماء، والأوقية أربعون درهمًا وهي بدراهمنا اليوم ستون درهمًا أو نحوها.
قوله: "أو عدلها" يريد قيمتها، يقال: هذا عَدْل الشيء، أي: ما يساويه في القيمة، وهذا عِدْله -بكسر العين- أي: نظيره ومثله في الصورة والهيئة.
قوله: "إلحافًا" من ألحف في المسألة: إذا بالغ فيها وألح، يقال: ألح وألحف، وقيل: ألحف شمل بالمسألة، ومنه اشتق اللحاف.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: من ملك خمسين درهمًا أو عدلها من الذهب حرمت عليه الصدقة، ولم تحل له المسألة، ومن ملك ما دون ذلك لم تحرم عليه الصدقة.
ش: أي خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون فيما ذهبوا إليه، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وسفيان الثوري والحسن بن حي وعبد الله بن المبارك ومالكًا في رواية وأحمد في الأصح والشافعي في قول وإسحاق؛ فإنهم قالوا: تحرم الصدقة على من يملك خمسين درهمًا أو عدلها من الذهب.
وقال ابن قدامة: قال مالك والشافعي: لا حَدَّ للغنى معلومًا، وإنما يعتبر حال الإنسان بوسعه وطاقته، فإذا لم يكن محتاجًا حرمت عليه الصدقة، وهو اختيار أبي الخطاب من أصحابنا، وعن أحمد مثله.
وقال أبو عمر: قال الشافعي: يعطى الرجل على قدر حاجته حتى يخرجه ذلك من حد الفقر إلى حد الغنى، كان ذلك يجب فيه الزكاة أو لا، ولا أحدُّ
(1)"مسند أحمد"(4/ 36 رقم 16458).
لذلك حدًّا. ذكره المزني والربيع عنه ولا خلاف عنه في ذلك، وكان الشافعي يقول أيضًا: قد يكون الرجل بالدرهم غنيًّا مع كسبه، ولا غنية الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي.
وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، قالا: ثنا سفيان الثوري، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شيئًا أو كدوحًا أو خدوشًا في وجهه يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، وما غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب".
حدثنا أحمد بن خالد البغدادي، قال: ثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا سفيان الثوري. . . . فذكر بإسناده مثله غير أنه قال: "كدوحًا في وجهه" ولم يشك، وزاد: فقيل لسفيان: لو كان غير حكيم؟ فقال: حدثنا زبيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.
ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وأخرجه من ثلاث طرق:
الأول: عن حسين بن نصر، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن حكيم بن جبير الأسدي الكوفي، عن محمد بن عبد الرحمن ابن يزيد النخعي الكوفي، عن أبيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا وكيع، نا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)"مسند أحمد"(1/ 441 رقم 4207).
"من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشًا أو كدوحًا في وجهه، قالوا: يا رسول الله وما غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب".
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره.
وأخرجه الدارمي في "مسنده"(1): أنا أبو عاصم ومحمد بن يوسف، عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام. . . . بنحوه.
الثالث: عن أحمد بن خالد البغدادي، عن أبي هشام محمد بن يزيد بن محمد ابن كثير الرفاعي شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه، عن يحيى بن آدم بن سليمان القرشي الكوفي، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره.
وأخرجه الأربعة من هذا الطريق:
فقال أبو داود (2): حدثنا الحسن بن علي، ثنا يحيى بن آدم، ثنا سفيان عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله عليه السلام: "من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش أو كدوح أو خدوش في وجهه، فقيل: يا رسول الله وما الغنى؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب".
قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.
وقال الترمذي (3): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا يحيى بن آدم. . . . إلى آخره نحوه.
(1)"سنن الدارمي"(1/ 473 رقم 1641).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 116 رقم 1626).
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 41 رقم 651).
وقال النسائي (1): أنا أحمد بن سليمان، قال: ثنا يحيى بن آدم. . . . إلى آخره نحوه.
وقال ابن ماجه (2): حدثنا الحسن بن علي الخلال، قال: ثنا يحيى بن آدم. . . . إلى آخره.
فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟
قلت: قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث.
وقال ابن حزم: حكيم بن جبير ساقط، ولم يسنده زبيد، ولا حجة في مرسل.
وقال الخطابي: ضعفوا هذا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم، قالوا: أما ما رواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسنده، وإنما قال فيه: فقد حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد حسب، قال أحمد: فكأنه أرسله أو كره أن يحدث به.
وقال النسائي: لا نعلم أحدًا قال في هذا الحديث: زبيد، عن يحيى بن آدم، ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم بن جبير، وحكيم ضعيف، وسئل شعبة عن حديث حكيم فقال: أخاف النار، وقد كان روى عنه قديما، وسئل يحيى بن معين، هل يرويه أحد غير حكيم؟ فقال: نعم يرويه يحيى بن آدم، عن سفيان، عن زبيد، ولا أعلم أحدًا يرويه إلا يحيى بن آدم، وهذا وهم لو كان كذا لحدث الناس به جميعًا عن سفيان، ولكنه منكر.
قوله: "إلا جاءت شينًا" الضمير في جاءت يرجع إلى المسألة، وقوله "شينًا" نصب على الحال، و"الشَّيْن" بفتح الشين المعجمة، خلاف الزيْن.
قوله: "أو كُدوحًا" عطف عليه، وهو بضم الكاف بمعنى الخدوش، وكل أثر من خدش أو عضٍّ فهو كدح، ويجوز أن يكون الكدوح مصدرًا سُمِّي به الأثر القبيح في الوجه، وأن يكون جمع كدح.
(1)"المجتبى"(5/ 97 رقم 2592).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 589 رقم 1840).
و"الخدوش" من خدشت المرأة وجهها إذا خمشتها بظفر أو حديد، وهو أيضًا إما مصدر أو جمع خدش.
قوله: "فقيل لسفيان" قد فسر هذا القائل في رواية أبي داود: أنه عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري.
قوله: "حدثناه زُبيد" بضم الزاي وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف، وهو زبيد بن الحارث الكوفي الأيامي روى له الجماعة.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: من ملك مائتي درهم، حرمت عليه المسألة، ومن ملك دونها لم تحرم عليه المسألة، ولم تحرم عليه الصدقة أيضًا.
ش: أي خالف الفرق الثلاثة المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عبد الله بن شبرمة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يحرم السؤال على من ملك نصابًا من ذهب أو فضة، وإذا ملك أقل من ذلك لا يحرم عليه السؤال ولا الصدقة عليه أيضًا.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني أبي، عن رجل من مزينة:"أنه أتى أمه فقالت: يا بني لو ذهبت إلى رسول الله عليه السلام فسألته، قال: فجئت إلى النبي عليه السلام وهو قائم يخطب الناس، وهو يقول: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق سأل إلحافًا".
ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث الرجل المزني.
أخرجه بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي بكر الحنفي واسمه عبد الكبير بن عبد المجيد روى له الجماعة، عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري الأوسي روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، عن أبيه جعفر بن عبد الله بن الحكم بن شيبان بن رافع الأنصاري الأوسي المدني روى له الجماعة عن رجل من مزينة رضي الله عنه.
وجه الاستدلال به: أنه يخبر أن السؤال إنما يحرم إذا كان عنده عدل خمس أواق -أي قيمة خمس أواق- يريد ما يساوي خمس أواق في القيمة، وقد قلنا: إن الأوقية إذا أطلقت فالمراد بها أن تكون من الفضة، والأوقية أربعون درهمًا، فخمس أواق تكون مائتي درهم.
ص: فلما اختلفوا في ذلك وجب الكشف عما اختلفوا فيه؛ لنستخرج من هذه الأقوال قولًا صحيحًا، فرأينا الصدقة لا تخلو من أحد وجهين: إما أن تكون حرامًا لا يحل منها إلا ما يحل من الأشياء المحرمات عند الضرورة إليها، أو تكون تحل إلى أن يملك مقدارًا من المال الحرام فتحرم على مالكه، فرأينا من ملك دون ما يغديه أو دون ما يعشيه كانت الصدقة له حلالًا باتفاق الفرق كلها، فخرج بذلك حكمها من حكم الأشياء المحرمات التي تحل عند الضرورة، ألا ترى أن من اضطر إلى الميتة أي الذي يحل له منها هو ما يمسك به نفسه لا ما يشبعه، حتى تكون له غداء أو حتى تكون له عشاء، فلما كان الذي يحل له من الصدقة هو بخلاف ما يحل من الميتة عند الضرورة، ثبت أنها إنما تحرم على مالك مقدار، فأردنا أن ننظر في ذلك المقدار ما هو؟ فرأينا من ملك دون ما يغدي أو دون ما يعشي لم يكن بذلك غنيًّا وكذلك من ملك أربعون درهمًا أو خمسين درهمًا أو ما هو دون مائتي درهم، فإذا ملك مائتي درهم كان بذلك غنيًّا؛ لأن رسول الله عليه السلام قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الزكاة:"خذها من أغنيائهم واجعلها في فقرائهم" فعقلنا بذلك أن مالك المائتين غني، وأن مالك ما دونها غير غني، فثبت بذلك أن الصدقة حرام على مالك المائتي درهم فصاعدًا، وأنها حلال لمن يملك ما دون ذلك، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي فلما اختلف أصحاب هذه المقالات الأربع في الحكم المذكور، وجب الكشف عن جهة اختلافهم فيه حتى يستخرج من أقوالهم القول الصحيح الذي يُعتمد عليه، وبين ذلك بقوله:"فرأينا الصدقة. . . . إلى آخره" وكل ذلك ظاهر،
غير أن ابن حزم اعترض فيه بشيء لا يَرِد أصلًا، وملخص ما قاله: أن لا حجة لهم فيما ذكروا من وجوه:
الأول: أنهم يقولون بالزكاة على من له خمس من الإبل أو أربعون شاة، فمن أين وقع لهم أن يجعلوا حد الغنى بمائتي درهم دون خمس من الإبل أو دون أربعين شاة؟!.
الثاني: أنه يلزمهم أن من له الدور العظيمة والجوهر ولا يملك مائتي درهم أن يكون فقيرًا يحل له أخذ الصدقة.
الثالث: أنه ليس في قوله عليه السلام: "تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" دليل ولا نص بأن الزكاة لا تؤخذ إلا من غني ولا ترد إلا على فقير، وإنما فيه أنها تؤخذ من الأغنياء وترد إلى الفقراء فقط، وتؤخذ أيضًا بنصوص أخر من المساكين الذين ليسوا أغنياء، وترد على أغنياء كثيرين كالعامل، والغارمين، والمؤلفة قلوبهم، وفي سبيل الله، وفي ابن السبيل وإن كان غنيًّا في بلده؛ فهذه خمس طبقات أغنياء لهم حَقٌّ في الصدقة، وتؤخذ الصدقة من المسكين الذي ليس له إلا خمس من الإبل وله عشرة من العيال، وممن لم يصب إلا خمسة أوسق لعلها لا تساوي خمسين درهمًا، وله عشرة من العيال في عام سنة.
قلت: هذه كلها تخاليط صادرة عن غير تروٍّ:
الأول: أن قولهم: إن مالك المائتي درهم هو غني، ليس المراد منه أن يملك عين المائتين حتى يعد غنيًّا، بل الغني هو الذي يملك مائتي درهم أو ما يساوي مائتي درهم؛ فإنه يصير بذلك غنيًّا فتحرم عليه الصدقة، ألا ترى إلى ما قال في الحديث:"وله عدل خمس أواق" أي وله ما يساوي مائتي درهم، ومن ملك خمس من الإبل السائمة وأربعين شاة يصير غنيًّا فتحرم عليه الصدقة وتجب عليه الزكاة.
الثاني: أن من له الدور العظيمة إذا لم يملك مائتي درهم وكان محتاجًا إلى المسكن في دوره لا يصير به غنيًّا، فيجوز له أخذ الصدقة وقد روي عن الحسن أنه قال: "يعطى من الصدقة الواجبة من له الدار والخدم إذا كان
محتاجًا". وعن إبراهيم نحو ذلك، وعن سعيد بن جبير: "يعطى منها من له الفرس والدار والخدم". وعن مقاتل بن حيان: "يعطى منها من له العطاء في الديوان وله فرس". وهذا كله إذا كانت هذه الأشياء صاحبها محتاجًا إليها، حتى إذا كان غنى عنها فاضلًا عن حاجته الأصلية، وكان يساوي مائتي درهم يعد بذلك غنيًّا، فتحرم عليه الصدقة حينئذ، وأما الجوهر فلا يشبه هذه الأشياء؛ لأنه أعز الأموال وأنفسها، وليس هو من الحوج الأصلية، فصاحبه يعد غنيًّا إذا كان يساوي نصابًا.
والثالث: تخليط أعظم من الأولين؛ وذلك لأن الذين عندهم أغنياء كالعامل ونحوه، ثم قال: تصرف إليهم الزكاة وهم أغنياء فليس كذلك.
أما العامل فلأنه لا تصرف إليه الزكاة لكونه فقيرًا بل لأجل عمله حتى لا تصرف إليه إلا مقدار عمله، فيصير هذا في نفس الأمر جعالة إلا إذا كان العامل فقيرًا، فحيئنذ تصرف إليه أكثر من عمله.
وأما الغارم فهو المديون المستغرق وهو فقير بل أشد الفقراء.
وأما المؤلفة قلوبهم فقد سقطوا عن الزكاة، وأما الذي في سبيل الله فهو إما منقطع الحاج، أو منقطع الغزاة، وكل منهما في ذلك الوقت فقيرًا محتاجًا.
وأما ابن السبيل، فإنه فقير بلا شك، وإن كان غنيًّا بالنسبة إلى ماله الغائب عنه.
وأما الذين عندهم فقراء ثم قال: تؤخذ منهم الزكاة فليس كذلك؛ لأن من له خمس من الإبل السائمة أو خمسة أوسق تجب عليه الزكاة، فكيف يكون فقيرًا؟! والفقير من لا شيء له أو من له أدنى شيء؟ وهذا معه نصاب شرعي، فكيف يعد فقيرًا؟ ولو كان عنده عائلة مستكثرة، ألا ترى أنه لا تسقط عنه الزكاة لكثرة عياله؛ فافهم.