المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب الخمر المحرمة ما هي - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٦

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الإقرار بالسرقة التى توجب القطع

- ‌ص: باب الرجل يستعير الحلي ولا يرده هل يجب عليه في ذلك قطع أم لا

- ‌ص: باب سرقة الثمر والكَثَر

- ‌ص: كتاب الأشربة

- ‌ص: باب الخمر المحرمة ما هي

- ‌ص: باب ما يحرم من النبيذ

- ‌ص: باب الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت

- ‌ص: كتاب الوصايا

- ‌ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق

- ‌ص: باب الرجل يوصي بثلث ماله لقرابته أو لقرابة فلان، مَنْ هم

- ‌ص: كتاب الفرائض

- ‌ص: باب الرجل يموت ويترك ابنةً وأختًا وعصبةً سواها

- ‌ص: باب مواريث ذوي الأرحام

- ‌ص: كتاب المزارعة

- ‌ص: باب الرجل يزرع في أرض القوم بغير إذنهم، كيف حكمهم في ذلك؟ وما يروى عن رسول الله عليه السلام في ذلك

- ‌ص: كتاب الإجارات

- ‌ص: باب الاستئجار على تعليم القرآن هل يجوز أم لا

- ‌ص: باب الجعل على الحجامة هل يجوز ذلك أم لا

- ‌ص: كتاب اللقطة والضالة

- ‌ص: كتاب الزيادات من شرح معاني الآثار

- ‌ص: باب صلاة العيدين كيف التكبير فيهما

- ‌ص: باب حكم المرأة في مالها

- ‌ص: باب ما يفعله المصلي بعد رفعه من السجدة الثانية من الركعة الأولى

- ‌ص: باب ما يجب للمملوك على مولاه من الكسوة والطعام

- ‌ص: باب إنشاد الشعر في المساجد

- ‌ص: باب شراء الشيء الغائب

- ‌ص: باب تزويج الأب ابنته البكر هل يحتاج في ذلك إلى استئمارها

- ‌ص: باب المقدار الذي يحرم على مالكيه أخذ الصدقة

- ‌ص: باب فرض الزكاة في الإبل السائمة فيما زاد على عشرين ومائة

الفصل: ‌ص: باب الخمر المحرمة ما هي

‌ص: كتاب الأشربة

ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الأشربة، وهي جمع شراب، وهو اسم لما يشرب وليس بمصدر؛ لأن المصدر هو الشرب بتثليث الشين، يقال: شرب الماء وغيره شَرْبًا وشُربًا وشِربًا، وقرئ:{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} (1) بالوجوه الثلاثة.

قال أبو عبيدة: الشَّرب بالفتح المصدر، وبالخفض والرفع اسمان من شربت.

‌ص: باب الخمر المحرمة ما هي

؟

ش: أي هذا باب في بيان أحكام الخمر المحرمة ما هي؟ وقد مرَّ الكلام في تفسير الخمر وأساميها في باب حد الخمر.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي كثير، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن الأوزاعي، وعكرمة ابن عمار، عن أبي كثير.

وهشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي كثير، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن حمران، قال: ثنا عقبة بن التوم الرقاشي، قال: حدثني أبو كثير اليمامي، قال: "دخلت من اليمامة إلى المدينة لما أكثر الناس في

(1) سورة الواقعة، آية:[55].

ص: 34

الاختلاف في النبيذ لألقى أبا هريرة فاسأله عن ذلك، فلقيته، فقلت: يا أبا هريرة إني أتيتك من اليمامة أسألك عن النبيذ، فحدثني عن النبي عليه السلام لا تحدثني عن غيره، فقال: سمعت النبي عليه السلام يقول: "الخمر من الكرمة والنخلة".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي الحافظ، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي كثير السحيمي الغبري اليمامي الأعمى، قيل: اسمه يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة، وقيل يزيد بن عبد الله بن أذينة، وقيل: ابن غفيلة. وثقه أبو حاتم وغيره، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".

وأخرجه الجماعة غير البخاري:

فمسلم (1): عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن الحجاج بن أبي عثمان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة".

وعن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن الأوزاعي، عن أبي كثير، عن أبي هريرة نحوه.

وعن زهير بن حرب، وأبي كريب، عن وكيع، عن الأوزاعي وعكرمة بن عمار، وعقبة بن التوم، عن أبي كثير، عن أبي هريرة.

وأبو داود (2): عن موسى بن إسماعيل، عن أبان، عن يحيى، عن أبي كثير، به.

والترمذي (3): عن أحمد بن محمد، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي وعكرمة ابن عمار، عن أبي كثير، به.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1573 رقم 1985).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 327 رقم 3678).

(3)

"جامع الترمذي"(4/ 297 رقم 1875).

ص: 35

وقال: حسن صحيح.

والنسائي (1): سويد، عن عبد الله، وعن حميد بن مسعدة، عن سفيان بن حبيب، جميعًا عن الأوزاعي، عن أبي كثير، به.

وعن زياد بن أيوب (2): عن ابن علية، عن حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي كثير، به.

وابن ماجه (3): عن يزيد بن عبد الله اليمامي، عن عكرمة بن عمار، عن أبي كثير، به.

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد -شيخ البخاري- عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. . . . إلى آخره.

وأخرجه مسلم (4) نحوه، وقد ذكرناه.

الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله القرشي الأموي البصري، عن عقبة بن التوم الرقاشي، عن أبي كثير. . . . إلى آخره.

وأخرجه مسلم (5) أيضًا نحوه.

قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" يقتضي بحسب الظاهر أن تنحصر الخمر على هذين الصنفين؛ لأن قوله: "الخمر" اسم للجنس، فاستوعب بذلك جميع ما سمي خمرًا، فانتفى بذلك أن يكون الخارج من غيرهما يسمى باسم الخمر، ولكن أصحابنا الحنفية خصصوا الخمر بعصير العنب المشتد، فأخرجوا ما يتخذ

(1)"المجتبى"(8/ 294 رقم 5572).

(2)

"المجتبى"(8/ 294 رقم 5573).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1121 رقم 3378).

(4)

تقدم ذكره.

(5)

"صحيح مسلم"(3/ 1573 رقم 1985).

ص: 36

من التمر من جنس الخمر، وأولوا الحديث بتأويل يأتي ذكره عن قريب مستقصى إن شاء الله.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الخمر من التمر ومن العنب جميعًا، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: فقهاء أهل المدينة وأهل الحجاز، ولكن بينهم أيضًا خلاف.

فذهبت طائفة إلى أن كل شيء أسكر فهو حرام شربه وملكه وبيعه وشراؤه واستعماله على كل أحد، وسواء كان من العنب أو التمر أو التين أو الحنطة أو الشعير أو نحو ذلك، وسواء طبخ أو لم يطبخ.

وهو قول الشافعي، ومالك، وأحمد أيضًا، وإليه ذهب أهل الظاهر أيضًا.

وذهبت طائفة إلى أن الرطب والبُسر إذا خلطا فشرابهما خمر محرمة، وكذلك التمر والبسر إذا خلطا.

وذهبت طائفة إلى أن عصير العنب إذا أسكر ونقيع الزبيب إذ أسكر ولم يطبخا هو الخمر المحرمة، قليلها وكثيرها، وما عدا ذلك حلال ما لم يسكر منه.

وذهبت طائفة إلى أن كل ما عصر من العنب ونبيذ التمر ونبيذ الزبيب والرطب والبُسر والزهو ولم يطبخ فهو خمر محرمة قليلها وكثيرها، فإن طبخ عصير العنب حتى يذهب ثلثاه وطبخ سائر ما ذكرنا فهو حلال أسكر أو لم يُسكر، إلا أن السكر منه حرام.

وكل نبيذ وعصير ما سوى ذلك مما ذكرنا فحلال أسكر أو لم يُسكر، طبُخ أو لم يُطبخ، والسكر أيضًا منه ليس حرامًا.

وقال ابن حزم: وفي هذا الباب اختلاف قديم وحديث بعد صحة الإجماع على تحريم الخمر قليلها وكثيرها.

ص: 37

وقال ابن قتيبة في كتاب "الأشربة": حرَّم الله عز وجل بالكتاب الخمر، وبالسنة السُّكر، وعوضنا منها صنوف الشراب من اللبن والعسل، وحلال النبيذ، وليس في شيء مما وقع فيه الحظر والإطلاق شيء اختلف فيه الناس اختلافهم في الأشربة، وكيفية ما حل منها وما حُرِّم على قديم الأيام مع قرب العهد بالرسول عليه السلام وتوافر الصحابة وكثرة العلماء المأخوذ عنهم المقتدى بهم، حتى يحتاج ابن سيرين مع بارع علمه وثاقب فهمه إلى أن يسأل عَبيدة السلماني عن النبيذ، حتى يقول عَبيدة -وقد لحق خيار الصحابة وعلمائهم منهم علي وابن مسعود رضي الله عنهما: اختلف علينا في النبيذ. وفي رواية: "أحدث الناس أشربة كثيرة ما في شراب منذ عشرين سنة إلا لبن أو ماء أو عسل". وإن شيئًا وقع فيه الاختلاف في ذلك العصر بين أولئك الأئمة؛ لحريُّ أن يشكل على من بعدهم، وتختلف فيه آراؤهم، ويكثر فيه تنازعهم.

وقد أجمع الناس على تحريم الخمر إلا قومًا من مُجَّان أصحاب الكلام وفُساقهم ممن لا يعبأ الله بهم؛ فإنهم قالوا: ليست الخمر محرمة، وإنما نهى الله عز وجل عن شربها تأديبًا، كما أمر في الكتاب بأشياء ونهى فيه عن أشياء على جهة التأديب وليس منها ما هو فرض كقوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (1)، وقوله:{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (2)، وكقوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (3). وقالوا: لو أراد تحريم لقال: حرمت عليكم الخمر، كما قال:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (4) وليس للشغل بهؤلاء وجه، ولا يستبق الكلام بالحجج عليهم معنى؛ إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على الإجماع.

(1) سورة النور، آية:[33].

(2)

سورة النساء، آية:[34].

(3)

سورة الإسراء، آية:[29].

(4)

سورة المائدة، آية:[3].

ص: 38

وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يخيل على عاقل ولا جاهل؛ لأن الناس أجمعوا على أن ما عدا وقذف بالزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر، وأنه لا يزال خمرًا حتى يصير خلًّا، وأنها ليست محرمة العين كما حرم عين الخنزير، وإنما حرمت بغرض دَخَلَها، فإذا زايلها ذلك الغرض عادت حلالًا كما كانت قبل الغليان حلالًا، كالمسك كان دمًا عبيطًا دائمًا ثم جف وحدثت رائحته فيه فصار طيبًا حلالًا.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الخمر المحرمة في كتاب الله عز وجل هي الخمر التي من عصير العنب إذا نش العصير وألقى بالزبد. هكذا كان أبو حنيفة يقول. وقال أبو يوسف: إذا نش وإن لم يلق بالزبد فقد صار خمرًا.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: الخمر التي حرمها الله تعالى في القرآن ونصَّ عليها هي التي من عصير العنب إذا نش، من نَشَّ يَنِشُّ نَشِيشًا، وهو صوت الماء وغيره عند الغليان. ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف في الإلقاء بالزبد بعد الغليان، هل هو شرط أم لا؟

فقال أبو حنيفة: شرط، وقال أبو يوسف: ليس بشرط. وقد ذكر صاحب "الهداية" والنسفي وغيرهما محمدًا مع أبي يوسف، وقالوا: قال أبو يوسف ومحمدًا: القذف بالزبد ليس بشرط، لأنه سمي خمرًا قبل ذلك. وبه قال مالك والشافعي وأحمد.

وأما الغليان والشدة فشرط بالإجماع، وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتابه "اختلاف العلماء": إن سفيان قال: اشرب العصير ما لم يغل، وغليانه أن يقذف بالزبد، فإذا غلا فهو خمر، وكذلك قال أصحاب الرأي، وهو قول الشافعي، وقال أحمد وإسحاق: يشرب العصير ما لم يغل، أو يأتي عليه ثلاثة أيام، فإذا أتى عليه ثلاثة أيام لم يشرب، غلا أو لم يغل.

ص: 39

واحتجوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "اشرب العصير ما لم يأخذه شيطانه، قال: في ثلاثة أيام".

وقال الشافعي: ما دام العصير حلوًا لم يشتد فهو حلال، وسواء أتى عليه ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر إذا لم يتغير عن حاله، وكان حلوًا مثل أول عصيره.

ص: وليس الحديث الذي رويناه عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام في أول هذا الباب مخالف لذلك عندنا؛ لأنه يحتمل وجوهًا:

أحدها: أن يكون كما قال أهل المقالة الأولى، ويحتمل أن يكون أراد بقوله:"الخمر من هاتين الشجرتين" إحداهما فعمها بالخطاب وأراد إحداهما دون الأخرى كما قال الله عز وجل: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (1) وإنما يخرج من أحدهما، وكما قال عز وجل:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} (2) والرسل من الإنس لا من الجن، وكما قال رسول الله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه إذ أخذ على أصحابه في البيعة كما أخذ على النساء أن لا يشركوا ولا يسرقوا ولا يزنوا ثم قال:"فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له".

حدثنا بذلك يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام.

وقد علمنا أن مَن أشرك فعوقب بشركه فليس ذلك بكفارة له، فدل ما ذكرنا أنه إنما أراد بقوله عليه السلام:"فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به". أنه إنما أراد ما سوى الشرك مما ذكر في هذا الحديث، فلما كانت هذه الأشياء قد جاء ظاهرها على الجميع، وباطنها على خاص من ذلك، احتمل أيضًا أن يكون قوله: "الخمر

(1) سورة الرحمن، آية:[22].

(2)

سورة الأنعام، آية:[130].

ص: 40

من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" ظاهر ذلك عليهما وباطنه على إحداهما، فتكون الخمر المقصودة في ذلك من العنبة لا من النخلة.

ويحتمل أيضًا قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" أن يكون عنى به الشجرتين جميعًا، ويكون ما خمر من ثمرهما خمرًا، كما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله في نقيع الزبيب والتمر، فجعلوه خمرًا.

ويحتمل قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" أن يكون أراد أن الخمر منهما وإن كانت مختلفة على أنها من العنب ما قد عقلنا من الخمر، وعلى أنها من التمر ما يسكر، فيكون خمر العنب هي عصير العنب إذا اشتد، وخمر التمر هي المقدار من نبيذ التمر الذي يُسكر.

فلما احتمل هذا الحديث هذه الوجوه التي ذكرنا لم يكن الأخذ بأحدها أولى من بقيتها، ولم يكن لمتأول أن يتاوله على أحدها إلا كان لخصمه أن يتأوله على ضد ذلك.

ش: لما كان حديث أبي هريرة الذي احتجت به أهل المقالة الأولى بظاهره حجة على أهل المقالة الثانية؛ أجاب عن ذلك نصرةً لهم.

تقريره: أن حديث أبي هريرة يحتمل وجوهًا متعددة من المعاني:

الأول: أن يكون الكلام على ظاهره كما قاله أهل المقالة الأولى، ويكون الخمر من الشجرتين النخلة والعنبة.

الثاني: يحتمل أن يكون ذلك واردًا على المجاز، وهو أن يكون المذكور شيئين ويكون المراد أحدهما، كما في قوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (1) فإن المذكور هاهنا بحران وهما: بحر فارس وبحر هند، وأسند خروج اللؤلؤ والمرجان إليهما، وفي الحقيقة لا يخرجان إلا من بحر فارس.

(1) سورة الرحمن، آية:[22].

ص: 41

وهذا باب واسع، وله شواهد كثيرة في كلام العرب في النثر والنظم، ومن ذلك قوله تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} (1) فإنه خاطب الإنس والجن وأسند إتيان الرسل إليهم، والحال أن الرسل من الإنس لا من الجن، ومن هذا القبيل ما ذكر فيه أشياء وأريد منها واحد، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فإن المذكور فيه الإشراك والسرقة والزنا، وأما الذي أريد منه فهو: ما سوى الإشراك؛ لأن مَن أشرك فعوقب بسبب شركه فإن ذلك ليس بكفارة له.

وإسناد الحديث المذكور صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

وأبو إدريس الخولاني اسمه عائذ الله.

وأخرجه البخاري (2): عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري. . . . إلى آخره نحوه.

وعن إسحاق بن منصور (3)، عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهري، عن الزهري.

وعن عبد الله بن محمد (4)، عن هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري.

ومسلم (5): عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق ابن راهويه وابن نمير، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري.

وعن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.

والترمذي (6): عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري.

(1) سورة الأنعام، آية:[130].

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 15 رقم 18).

(3)

"صحيح البخاري"(3/ 1413 رقم 3679).

(4)

"صحيح البخاري"(6/ 2494 رقم 6416).

(5)

"صحيح مسلم"(3/ 1333 رقم 1709).

(6)

"جامع الترمذي"(4/ 45 رقم 1439).

ص: 42

وقال: حسن صحيح.

والنسائي (1): عن عبيد الله بن سعد، عن عمه يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب حدثه، عن عبادة، نحوه، ولم يذكر أبا إدريس.

وعن يعقوب بن إبراهيم (2)، عن غندر، عن معمر، عن الزهري، عن أبي إدريس نحوه.

وعن قتيبة (3)، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس، به.

وقد طعن بعضهم فيما ذكره الطحاوي فقال:

أما الأول: فلا نسلِّم أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من أحد البحرين، بل يخرجان من كليهما جميعًا.

وأما الثاني: فلأن الجن منهم رسل؛ لأنهم بنص القرآن متعبدون، موعدون بالنار وموعودون بالجنة.

ثم ذكر ما رواه مسلم (4): عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"فضلت على الأنبياء بستٍّ. . . ." فذكر فيها: "وأرسلت إلى الخلق كافة".

وأما الثالث: فلأن قوله: "فمن أصاب من ذلك شيئا. . . . إلى آخره" على العموم؛ وذلك لأن الملائكة والرسل والأنبياء والصالحين والفساق والكفار وإبليس وفرعون وأبا جهل وأبا لهب كلهم في مشيئة الله عز وجل، يفعل فيهم ما يشاء من عقوبة أو عفو، إلا أنه تعالى قد بيَّن أنه يعاقب الكفار ولابد، وإبليس

(1)"المجتبى"(7/ 141 رقم 4161).

(2)

"المجتبى"(7/ 148 رقم 4178).

(3)

"المجتبى"(7/ 161 رقم 4210).

(4)

"صحيح مسلم"(1/ 371 رقم 523).

ص: 43

وأبا جهل وأبا لهب وفرعون ولابد، ويرضى عن الملائكة والرسل والأنبياء والصالحين ولابد، وكلهم في المشيئة لا يخرج شيء من ذلك عن مشيئة الله تعالى، مَن عاقب فقد شاء أن يعاقبه، ومَن أدخله الجنة فقد شاء أن يدخله الجنة.

قلت: هذا كلام مدخول كله.

أما الأول: فلأنه صادر عن عناد؛ لأنه لم ينقل عن أحد أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحرين جميعًا.

وهذا معلوم بالمشاهدة والعيان فلا يحتاج في ذلك إلى إقامة البرهان.

وأما الثاني: فلأنه يخالف أقوال الجمهور من أئمة التفسير؛ فإنهم قالوا: لا يجوز كون الرسل إلا من الملائكة إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم السلام، أو من البشر إلى البشر أو إلى البشر والجن؛ قال الله تعالى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} (1)، وقال تعالى في صفة الرسل:{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} (2). والجن لا يأكلون الطعام (3) فلا يكون منهم رسول.

فالذي ذهب إليه هذا المعترض هو منقول عن مقاتل، وهو مخالف لأقوال أئمة التفسير، وقول ابن عباس أيضًا فإن قوله مثل قول الجمهور.

وأما الثالث: فلأنه كلام يُبنى على رأي الفلاسفة يظهر ذلك بالتأمل، ولا يخفى على مَن له يد في علم الكلام.

(1) سورة الحج، آية:[75].

(2)

سورة الأنبياء، آية:[8].

(3)

يعكر على هذا الاستدلال قول النبي صلى الله عليه وسلم عن العظم والروث: "هو طعام إخوانكم من الجن". كما عند البخاري في "صحيحه"(3/ 1401 رقم 3647) من حديث أبي هريرة. ومسلم في "صحيحه"(1/ 332 رقم 450) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 44

الوجه الثالث من الاحتمالات: يُحتمل أن يكون المراد به الشجرتين جميعًا، ويكون ما خُمِّر من ثمرهما خمرًا، كما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد في نقيع الزبيب والتمر، فجعلوه خمرًا.

وقال صاحب "التقريب": روى ابن رستم، عن محمد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة قال: الأنبذة كلها حلال إلا أربعة: الخمر، والمطبوخ إذا لم يذهب ثلثاه، ونقيع التمر ونقيع الزبيب.

وكان قول أبي يوسف فيما رواه ابن سماعة: أن كل شراب يبقى عشرة أيام بعد بلوغه فلا خير فيه.

ثم رجع إلى قول أبي حنيفة.

وروى هشام، عن محمد قال: كل ما أسكر كثيره فلا أحرمه، وأحب إليَّ أن لا أشربه.

وذكر في "الأصل" قال أبو يوسف: يكره كل شراب يزداد جودةً على طول الترك في الأيام دون عشرة أيام؛ فإن كان يحمض في عشرة أيام أو أقل منه فلا بأس به.

وهو قول محمد، ثم رجع أبو يوسف وقال: لا بأس بذلك كله.

قلت: الذي ذكره محمد بن رستم عن محمد، عن أبي يوسف عن أبي حنيفة؛ لا يحفظ عن أبي حنيفة، والمحفوظ عنه ما ذكره محمد في "الجامع الصغير": أنا يعقوب، عن أبي حنيفة قال: الخمر قليلها وكثيرها حرام في كتاب الله، والسُّكر عندنا حرام مكروه، ونقيع الزبيب عندنا إذا اشتد وغلى حرام مكروه، والطلاء ما زاد على ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فهو مكروه، وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به.

الوجه الرابع: يحتمل أن يكون أراد أن الخمر تكون من هاتين الشجرتين، وإن كانت مختلفة، ولكن يكون المراد من العنب هو الذي يفهم منه، وهو الخمر سواء

ص: 45

كان قليلًا أو كثيرًا، أسكر أو لم يُسكر، ويكون المراد من التمر هو الذي يكون مسكرًا منه، ولا يكون غير المسكر داخلًا فيه، فيكون خمر العنب هي العصير منه إذا غلى واشتد، وخمر التمر هو المقدار الذي يُسكر، لا مطلق ذلك؛ فافهم.

فهذه أربع احتمالات ليس الذهاب إلى أحدها أولى من الآخر، ولا لمتأول أن يتأوله على أحدها إلا ولخصمه أن يتأوله على خلاف ذلك.

فإن قيل: ما الحاجة إلى هذه التأويلات، فَلِمَ لا يعمل بما يتناوله اللفظ، فما الحاجة إلى العدول عن ذلك؟.

قلت: لأن اسم الخمر في الحقيقة يتناول التي من ماء العنب إذا غلى واشتد، وتسمية ماء التمر وغيره من الأشربة المحرمة باسم الخمر بطريق التشبيه بالخمر، والدليل على ذلك اتفاق المسلمين على تكفير مستحل الخمر في غير حال الضرورة، واتفاقهم على أن مستحل ما سواها من الأشربة غير مستحق لسمة الكفر، فلو كانت خمرًا لكان مستحلها كافرًا خارجًا عن الملة كمستحل المشتد من عصير العنب، فإذا كان كذلك، يحتاج الحديث إلى التأويل، وقد ذكرنا أنه يحتمل تأويلات متعددة.

فإن قيل: كل ما أسكر يطلق عليه أنه خمر، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام أنه قال:"كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".

قلت: المعنى في هذا الخبر وفيما هو مثله من الأخبار: أنه يسمى خمرًا حالة وجود السكر دون غيره، بخلاف ماء العنب المشتد فإنه خمر سواء أسكر أو لم يُسكر، وقد تواترت الأخبار عن جماعة من السلف شربت النبيذ الشديد، منهم: عمر، وعبد الله، وأبو الدرداء، وبريدة في آخرين، فينبغي على قول مَن يُطلق الخمر حقيقة على غير ماء العنب أن يكون هؤلاء قد شربوا خمرًا، وحاشى هؤلاء من ذلك.

ص: فإن قال قائل: فما معنى حديث ابن عمر رضي الله عنه؟ يريد ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، قال: سمعت ابن إدريس، قال:

ص: 46

سمعت أبا حيان التيمي، عن الشعبي، عن ابن عمر، قال: سمعت عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله عليه السلام يقول: "أما بعد أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي يومئذٍ من خمسة: من التمر، والعنب، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل".

ش: توجيه السؤال أن يقال: إنكم قد خصصتم الخمر بالنيء من ماء العنب المشتد، وأولتم حديث أبي هريرة الناطق بأن الخمر هي التي تكون من العنب والتمر بما أولتم فيما مضى، فما تقولون في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ فإنه يصرِّح في حديثه أن الخمر تكون من خمسة أشياء وهي: التمر، والعنب، والعسل، والحنطة، والشعير.

وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن عبد الله بن نُمير الهمداني الكوفي الحافظ شيخ الشيخين وأبي داود وابن ماجه، عن عبد الله بن إدريس الزعافري، عن أبي حيان -بالحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- التيمي، واسمه يحيى بن سعيد بن حيان الكوفي، عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن عبد الله بن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخرجه البخاري (1): ثنا أحمد بن أبي رجاء، ثنا يحيى، عن أبي حيان التيمي، عن الشعبي، عن ابن عمر قال:"خطب عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله عليه السلام فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمر ما خامر العقل. . . ." الحديث.

ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن ابن عمر والنعمان رضي الله عنهم، عن النبي عليه السلام.

حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أن رسول الله عليه السلام قال: "إن من

(1)"صحيح البخاري"(5/ 2122 رقم 5266).

ص: 47

العنب خمرًا، ومن العسل خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن الحنطة خمرًا، ومن التمر خمرًا. وأنا أنهاكم عن كل مسكر".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، عن النبي عليه السلام مثله. غير أنه لم يذكر قوله: "وأنا أنهاكم عن كل مسكر.

ش: أي قد روي مثل ما روي عن عمر بن الخطاب، عن عبد اللَّه بن عمر والنعمان بن بشير.

أما حديث ابن عمر: فأخرجه عن الربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- الأسود بن عبد الجبار المصري راوية ابن لهيعة، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن أبي النضر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثني أبي، ثنا ابن لهيعة، حدثني أبو النضر، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن النبي عليه السلام قال:"إن من العنب خمرًا، ومن العسل خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، [ومن التمر خمرًا] (2)، ومن الحنطة خمرًا، وأنا أنهى عن كل مسكر".

وأما حديث النعمان: فأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي الكوفي، عن عامر الشعبي، عن النعمان بن بشير الأنصاري الصحابي رضي الله عنه.

(1)"المعجم الكبير"(12/ 295 رقم 13159).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الكبير".

ص: 48

وأخرجه أبو داود (1): ثنا الحسن بن علي، قال: ثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، عن النبي عليه السلام أنه قال:"إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا، وإن من البر خمرًا، وإن من الشعير خمرًا".

وأخرجه الترمذي (2): نا محمد بن يحيى، قال: ثنا محمد بن يوسف، قال: ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن عامر الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن من الحنطة خمرًا، ومن الشعير خمرًا، ومن التمر خمرًا، ومن الزبيب خمرًا، ومن العسل خمرًا".

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب.

ص: قيل: يحتمل هذان الحديثان جميع المعاني التي شملها الحديث الأول غير معنى واحد، وهو ما احتمله الحديث الأول، حمله عليه مَن ذهب إلى كراهة نقيع الزبيب والتمر؛ فإنه لا يحتمله هذا الحديث؛ لأنه قد قرن مع ذلك خمر الحنطة وخمر الشعير، وهم لا يقولون ذلك؛ لأنهم لا يرون بنقيع الحنطة والشعير بأسًا، ويفرقون بينهما وبين نقيع التمر والزبيب؛ فذلك التأويل لا يحتمله هذا الحديث، ولكنه يحتمل التأويلات الأخرى كما يحتمله الحديث الأول.

ش: هذا جواب عن السؤال المذكور، وبيانه أن يقال: يحتمل هذان الحديثان -يعني حديث عمر بن الخطاب، وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جميع المعاني -أي التأويلات- التي يحتملها الحديث الأول -يعني حديث أبي هريرة- غير معنى واحد وهو التأويل الثالث وهو أن يكون المراد به الشجرتين جميعًا ويكون ما خمر من ثمرهما خمرًا، كما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحباه في نقيع الزبيب والتمر فجعلوه خمرًا فإن هذا لا يحتمله هذا الحديث؛ لأنه قرن مع ذلك خمر

(1)"سنن أبي داود"(3/ 326 رقم 3676).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 297 رقم 1872).

ص: 49

الحنطة وخمر الشعير وهم لا يقولون ذلك -يعني من ذهب إلى كراهة نقيع الزبيب والتمر لا يقولون ذلك- لأنهم لا يرون بنقيع الحنطة والشعير بأسًا، ويفرقون بين هذين النقيعين بين نقيع التمر والزبيب حيث لا يرون ذاك بأسًا ويمنعون هذا، فإذا كان كذلك لا يحتمل هذا الحديث ذلك التأويل، ولكن يحتمل التأويلات الأُخر، وهي التأويلات الثلاث الباقية:

الأول: ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى، وهو ظاهر الكلام.

الثاني: أن يكون المراد من هذه الأشياء المذكورة هو شيئًا واحدًا، وهو ماء العنب على طريق ذكر أشياء وإرادة شيء واحد، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

الثالث: أن يكون أراد أن الخمر من هذه الأشياء وإن كانت مختلفة ولكن يكون المراد من العنب هو الذي يُفهم منه، وهو الخمر أسكر أو لم يُسكر، ويكون المراد من غيره وهو التمر والعسل والحنطة والشعير هو المقدار المسكر منه.

فإذا احتمل هذان الحديثان هذه التأويلات المذكورة؛ لم يكن الأخذ بأحدها أولى منه ببقيتها، وكل مَن يتأوله على أحد هذه المعاني يتأوله خصمه على ضده؛ فافهم.

ص: فإن احتج محتج في ذلك بما روي عن أنس رضي الله عنه، وهو ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا أبو الأحوص، قال: ثنا أبو إسحاق الهمداني، عن بُرَيد بن أبي مريم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"كنا في عهد النبي عليه السلام ننتبذ الرطب والبُسر، فلما نزل تحريم الخمر هرقناهما من الأوعية، ثم تركناهما".

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، قال: ثنا حميد الطويل، عن أنس قال: "كان أبو عبيدة بن الجراح وسهيل بن البيضاء وأبي بن كعب عند أبي طلحة رضي الله عنهم وأنا أسقيهم من شراب،

ص: 50

حتى كاد يأخذ منهم، قال: فمر بنا مارّ من المسلمين، فنادى: ألا هل شعرتم أن الخمر قد حرمت، فوالله ما انتظروا أن أمروني أن أكفئ ما في الآنية ففعلت، فما عادوا في شيء منها حتى لقوا الله عز وجل، وإنها لَلْبُسْر والتمر؛ وإنها لخمرنا يومئذٍ".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حميد، عن أنس مثله.

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أنا ثابت وحميد، عن أنس قال:"كنت أسقي أبا طلحة وسهيل بن بيضاء وأبا عبيدة بن الجراح وأبا دجانة خليط البُسر والتمر حتى أسرعت فيهم، فمر رجل فنادى: ألا إن الخمر قد حرمت، ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فوالله ما انتظروا حتى يعلموا أحقًّا ما قال أم باطلًا؟ فقال: أكفئ إناءك يا أنس فكفأتها، فلم ترجع إلى رءوسهم حتى لقوا الله عز وجل، قال: وكان خمرهم يومئذٍ البُسر والتمر".

حدثنا عبد الله بن خُشَيْش، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال:"إني لأسقي أبا طلحة وأبا دُجانة وسُهيل بن بيضاء خليط بُسر وتمر؛ إذْ حرمت الخمر، فأرقتها وأنا ساقيهم يومئذٍ وأصغرهم، وإنا نعدها يومئذٍ خمرًا".

قالوا: ففي هذه الآثار ما يدل على أن ذلكم أيضًا خمر.

ش: أي: فإن استدل مستدل من أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه -من أن الخمر تكون من غير العنب أيضًا- بما روي عن أنس رضي الله عنه؛ لأنه يخبر في أحاديثه المذكورة أن ما يُعمل من التمر خمر، كالذي يُعمل من العنب.

وأخرجها من خمس طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني، عن بُرَيد -بضم الباء الموحدة وفتح الراء

ص: 51

المهملة وسكون الياء آخر الحروف- ابن أبي مريم مالك بن ربيعة السلولي البصري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن بُريد بن أبي مريم، عن أنس بن مالك قال:"كنا ننتبذ الرطب والبُسر على عهد رسول الله عليه السلام، فلما نزل تحريم الخمر أهرقناها من الأوعية، ثم تركناها".

الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد الرقي، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن حميد الطويل، عن أنس.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا [إسماعيل بن جعفر](3) عن حميد، عن أنس قال:"كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهل بن بيضاء ونفرًا من أصحابه عند أبي طلحة، فأنا أسقيهم حتى كاد الشراب أن يأخذ فيهم، فأتى آتٍ من المسلمن فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فما قالوا: حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس، اكفئ ما بقي في إنائك. قال: فوالله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذٍ".

الثالث: عن علي بن شيبة، عن عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي البصري، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه النسائي (4): أنا سويد بن نصر، ثنا عبد الله، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال:"حرمت الخمر حين حرمت وإنه لشرابهم البُسر والتمر".

الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني وحميد الطويل، عن أنس.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 92 رقم 24014).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 181 رقم 12892).

(3)

كذا في "الأصل، ك"، وفي "المسند" بدل إسماعيل بن جعفر: يحيى، والباقي سواء بسواء.

(4)

"المجتبى"(8/ 288 رقم 5543).

ص: 52

وأخرجه أبو يعلى (1): عن أبي الربيع، عن حماد، عن ثابت، عن أنس قال:"كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر، فإذا منادي ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فجرت في سكك المدينة، فقال أبو طلحة: أخرج فأرقها. قال: فأهرقتها. . . ." الحديث.

الخامس: عن عبد الله بن محمد بن خُشَيْش -بالمعجمات وضم الأول- عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس.

وأخرجه مسلم (2): عن يحيى بن أيوب، عن ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال:"كنت أسقي أبا طلحة وأبا دجانة ومعاذ بن جبل في رهط من الأنصار، فدخل علينا داخل فقال: حدث خبرٌ، نزل تحريم الخمر، فأكفأناها يومئذٍ وإنها لخليط البُسر والتمر".

وأخرجه أيضًا (3): عن أبي غسان وابن مثنى وابن بشار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس قال:"إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل ابن بيضاء من مزادة فيها خليط بسر وتمر. . . ." بنحو حديث سعيد.

وأخرجه البخاري (4): ثنا مسلم، ثنا هشام، نا قتادة، عن أنس قال:"إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن البيضاء خليط بُسر وتمر؛ إذْ حرمت الخمر، فقذفتها وأنا ساقيهم وأصغرهم، وإنا نعدها يومئذٍ الخمر".

قوله: "كنا ننبذ" بفتح النون، من نبذت التمر والعنب: إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا، وانتبذته: اتخذته نبيذًا، وروي في رواية ابن أبي شيبة:"كنا ننتبذ" وفي رواية الطحاوي: "كنا ننبذ" وكلاهما صحيح.

(1)"مسند أبي يعلى"(6/ 101 رقم 3362).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1571 رقم 1980).

(3)

"صحيح مسلم"(3/ 1572 رقم 1980).

(4)

"صحيح البخاري"(5/ 2126 رقم 5278).

ص: 53

قوله: "هرقناهما" أي أرقناهما من الإراقة، والهاء قد تبدل من الهمزة، وفي

رواية ابن أبي شيبة: "أهرقناهما" أي أرقناهما، والهاء زائدة.

قوله: "من الأوعية" جمع وعاء، وهي الظرف.

قوله: "أن أكفئ" من كفأت القِدر إذا كببتها لتفرغ ما فيها، وقال ابن الأثير: يقال: كفأت الإناء، وأكفأته إذا كببته وإذا أملته.

قوله: "وانها للبسر" أي وإن الخمر للبسر والتمر، و"اللام" فيه للتأكيد.

قوله: "إني لأسقي أبا طلحة" اللام فيه للتأكيد. وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري.

وأبو دُجانة اسمه سماك بن خرشة الأنصاري، قتل يوم اليمامة، وهو أحد من قتل مسيلمة الكذاب.

ص: قيل له: ليس فيه دليل على ما ذكرت؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك الشراب نقيع تمر مخمر، فثبت بذلك قول من كره نقيع التمر، ولا يجب بذلك حرمة طبخه، ويحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك لعلمهم أن كثير ذلك يُسكر، فلم يأمنوا على أنفسهم الوقوع فيه لقرب عهدهم به، فكسروه لذلك.

وأما قول أنس رضي الله عنه: "وإنها لخمرنا يومئذٍ" فيحتمل أن يكون أراد: أن ذلك ما كنا نخمر.

ش: أي قيل للمحتج المذكور بأحاديث أنس المذكورة، وأراد بهذا الجواب عن ذلك، تقريره: أن يقال: ليس فيما ذكرتم دليل على كون الخمر من غير العنب؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك الشراب الذي كان أنس يسقيه لأولئك الرهط من الأنصار نقيع تمر مخمر، فأطلق عليه الخمر لذلك لا لكونه خمرًا حقيقة.

والتحقيق فيه أن نقول: إنهم اتفقوا على أن عصير العنب النيء المشتد هي الخمر، ولم يخالف أحد في ذلك، ثم بعد ذلك إطلاقهم الخمر على ما يعمل من

ص: 54

التمر ونحوه يكون بطرق التشبيه بالخمر، كالفضيخ -وهو نقيع البُسر ونقيع التمر وإن لم يتناولها اسم الإطلاق- وقد روي في معنى الخمر آثار مختلفة، منها ما روى مالك بن مغول، عن نافع، عن ابن عمر قال:"لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء"(1)، وقد علمنا أنه كان بالمدينة نقيع البُسر والتمر وسائر ما يتخذ منها من الأشربة، ولم يكن ابن عمر ممن يخفى عليه الأسماء اللغوية، فهذا يدل على أن أشربة الخل لم تكن عنده تسمى خمرًا.

وروى عكرمة عن ابن عباس قال: "نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ"(2).

فأخبر أن الفضيخ خمر، وجائز أن يكون سماه خمرًا من حيث إنه كان شرابًا حرامًا.

وكذلك ما روي عن أنس: "أنها لَلْبُسر والتمر، وإنها لخمرنا يومئذٍ"(3) فأخبر أنس أن الخمر يوم حرمت البُسر والتمر، وهذا جائز أن يكون لما كان محرمًا سماه خمرًا، وأن يكون المراد ما كانوا يجرونه مجرى الخمر ويقيمونه مقامه، لا أن ذلك اسم له على الحقيقة، ويدل على ذلك أن قتادة روى عن أنس أنه قال:"وإنا نعدها يومئذٍ خمرًا"(3) فأخبر أنهم كانوا يعدونها خمرًا على معنى أنهم يجرونها مجرى الخمر.

وروي عن المختار بن فلفل أنه قال: "سألت أنس بن مالك عن الأشربة فقال: "حرمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، وما خمرت من ذلك فهو خمر"، فذكر في حديثه الأول أنه من البُسر والتمر، وذكر في هذا الحديث أنها من ستة أشياء، فكان عنده أن ما أسكر منه من هذه الأشربة فهو خمر، وهذا يدل على أنه إنما سمى ذلكم خمرًا في حال الإسكار، وأن ما لا يسكر منه فليس بخمر".

(1) أخرجه البخاري في "صحيحه"(5/ 2120 رقم 5257).

(2)

انظر "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 23).

(3)

تقدم.

ص: 55

قوله: "فثبت بذلك" أي بما ذكرنا من جواز كون ذلك الشراب نقيع تمر مخمر.

"قول مَن كره نقيع التمر"، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.

قوله: "ويحتمل أن يكونوا. . . ." إلى آخره. جواب آخر، وهو ظاهر.

ص: والدليل على ذلك أن فهدًا قد حدثنا، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى:"أن أباه بعثه إلى أنس رضي الله عنه في حاجة، فأبصر عنده طلاءً شديدًا"(1).

والطلاء ما يُسكر كثيره، فلم يكن ذلك عند أنس خمرًا وإن كثيره يسكر، فثبت بما وصفنا أن الخمر لم يكن عند أنس من كل شراب يُسكر، ولكنها من خاص. من الأشربة.

ش: أي الدليل على أن أنسًا رضي الله عنه قد أراد بقوله: "وإنها لخمرنا يومئذٍ" ما كنا نخمر، ما قد حدثنا فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ الشيخين وأبي داود، عن أبي شهاب الصغير عبد ربه بن نافع الكناني الحناط -بالنون- الكوفي نزل المدائن، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي الكوفي، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى:"أن أباه عبد الرحمن بن أبي ليلى بعثه إلى أنس بن مالك رضي الله عنه في حاجة، فأبصر عنده طلاءً شديدًا". انتهى.

والطلاء ما يُسكر كثيره، فلم يكن ذلك عند أنس خمرًا والحال أن كثيره يُسكر.

فثبت بذلك أن الخمر لم يكن عند أنس من كل شراب يُشرب ويُسكر، وإنما هي اسم لشراب خاص من بين الأشربة.

(1) أخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 112 رقم 12120)، وأبو يعلى في "مسنده"(7/ 50 رقم 3966).

ص: 56

وهذا الأثر يدل على أن أنسًا كان يشرب الطلاء.

قال ابن أبي شيبة (1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان ووكيع، عن عبيدة، عن خيثمة، عن أنس رضي الله عنه "أنه كان يشرب الطلاء على النصف"، وكذا روي عن البراء وأبي جحيفة، وجرير بن عبد الله، وابن الحنفية، وشريح القاضي، وقيس، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والشعبي رضي الله عنهم (2).

وقال أصحابنا الحنفية: العصير المسمى بالطلاء إذا طبخ فذهب أقل من ثلثيه يحرم شربه. وقيل: الطلاء هو الذي يذهب ثلثه، وإن ذهب نصفه فهو المنصف، وإن طبخ أدنى طبخة فهو الباذق، والكل حرام إذا غلى واشتد وقذف بالزبد.

وكذا يحرم نقيع الرطب وهو المسمى بالسَّكر إذا غلى واشتد وقذف بالزبد. وكذلك نقيع الزبيب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد.

ولكن حرمة هذه الأشياء دون حرمة الخمر، حتى لا يكفر مستحلها، ولا يجب الحد بشربها ما لم يُسكر، ونجاستها خفيفة في رواية، وغليظة في أخرى، ويجوز بيعها عند أبي حنيفة، وتضمن قيمتها بالإتلاف. وقال: لا يحرم بيعها ولا يضمنها بالإتلاف. وقد قال بعضهم: إن الباذق: الخمر المطبوخ.

قال ابن التين: هو اسم فارسي عرَّبته العرب. وقال الجواليقي: باذه أي باذق، وهو الخمر المطبوخ. وقال الداودي: هو يشبه الفقاع، إلا أنه ربما يشتد.

وقال البخاري (3): باب الباذق: ثنا محمد بن كثير، أنا سفيان، عن أبي الجويرية قال:"سألت ابن عباس عن الباذق، فقال: سبق محمد عليه السلام الباذق، فما أسكر فهو حرام. قال: الشراب الحلال الطيب؟ قال: ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 94 رقم 24037).

(2)

انظر "مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 94 - 95 رقم 24034 - 2045).

(3)

"صحيح البخاري"(5/ 2125 رقم 5276).

ص: 57

وقال ابن التين: هو بفتح الذال، وقال أبو الحسن عن بعض الحذاق: لم يُرد ابن عباس أن الباذق اسم حدث بعد سيدنا رسول الله عليه السلام وأنه لم يكن قديمًا في العرب.

وسئل عن فتح الذال فقال: ما وقفنا عليه، ولكن الذي قرأ بكسرها.

وقال ابن بطال: يعني سبق محمد عليه السلام بتحريم الخمر قبل تسميتهم لها بالباذق، وهو من شراب العسل، وزعم ابن قرقول أنه طلاء مطبوخ من عصير العنب، كان أول من صنعه وسماه بنو أمية لينقلوه عن اسم الخمر، وكان مسكرًا.

والاسم لا ينقلب عن معناه الموجود فيه، وقال ابن سيده: هو الخمر، وقال القزاز: هو ضرب من الأشربة.

ص: وقد وجدنا من الأثار ما يدل على ما ذكرنا أيضًا مما تأولنا عليه أحاديث أنس رضي الله عنه.

حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا مسعر بن كدام، عن أبي عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابن عباس قال:"حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب".

فأخبر ابن عباس رضي الله عنه أن الحرمة وقعت على الخمر بعينها، وعلى السكر من سائر الأشربة سواها، فثبت بذلك أن ما سوى الخمر التي حرمت مما يُسكر كثيره قد أبيح شرب قليله الذي لا يُسكر على ما كان عليه من الإباحة المتقدمة لتحريم الخمر، وأن التحريم الحادث إنما هو في عين الخمر خاصة، والسكر مما سواها من الأشربة؛ فاحتمل أن تكون الخمر المحرمة هي عصير العنب خاصة، واحتمل أن يكون كل ما خمر من عصير العنب وغيره، فلما احتمل ذلك وكانت الأشياء قد تقدم تخليلها جملة ثم حدث التحريم في بعضها، لم يخرج شيئا مما قد أجمع على تخليله إلا بالاجماع يأتي على تحريمه، ونحن نشهد على الله عز وجل أنه قد حرم عصير

ص: 58

العنب إذا حدثت فيه صفات الخمر، ولا نشهد عليه أنه حرم ما سوى ذلك إذا حدث فيه مثل هذه الصفة، فالذي نشهد على الله عز وجل بتحريمه إياه هي الخمر التي آمنا بتأويلها من حيث قد آمنا بتنزيلها، والذي لا نشهد على الله أنه حرمه هو الشراب الذي ليس بخمر، فما كان من الخمر فقليله وكثيره حرام؛ وما كان سوى ذلك من الأشربة فالسكر منه حرام، وما سوى ذلك منه مباح، هذا هو النظر عندنا.

ش: أي قد وجدنا من الأحاديث ما يدل على ما ذكرنا من التأويل في أحاديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو حديث ابن عباس، أخرجه بإسناد صحيح عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن مسعر بن كدام، عن أبي عون محمد بن عبد الله بن سعد الأعور الثقفي الكوفي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابن عباس.

وأخرجه قاسم بن أصبغ: ثنا أحمد بن زهير: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، عن مسعر، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، قال:"حرمت الخمر بعينها، القليل منها والكثير، والسكر من كل شراب".

وأخرجه ابن حزم أيضا من هذا الطريق، وقال: هذا خبر صحيح، ثم قال: ولا حجة لهم فيه لأنا رويناه من طريق أحمد بن شعيب يعني النسائي، أنا محمد بن عبد الله: ثنا محمد، وأنا الحسين بن منصور: ثنا أحمد بن حنبل: نا محمد بن جعفر: نا شعبة، عن مسعر، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، قال:"حرمت الخمر بعينها، قليلها وكثيرها، والمسكر من كل شراب"، ثم قال: وشعبة إلى ثلاث أضبط وأحفظ من أبي نعيم، وقد روي فيه زيادة على ما روى أبو نعيم، وزيادة العدل لا يحل تركها.

قلت: أراد بالزيادة: لفظة الميم في "المسكر" في رواية النسائي: "المسكر من

ص: 59

كل شراب" على صيغة اسم الفاعل، وهي رواية شعبة عن مسعر، ورواية أبي نعيم عن مسعر: "والسكر من كل شراب" على صيغة المصدر.

وعن هذا قال أبو جعفر النحاس: إثبات الميم فيه هو الصحيح.

قلت: تابع أبو نعيم جعفر بن عون؛ فرواه عن مسعر كذلك -يعني على صيغة المصدر- وتابع مسعر الثوري؛ فرواه عن أبي عون كذلك.

وأخرجه الطبري: ثنا محمد بن موسى الحرشي: ثنا عبد الله بن عيسى: ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس، قال:"حرم الله الخمر بعينها، والسكر من كل شراب".

وأخرجه أبو حنيفة رضي الله عنه في "مسنده": عن عون بن أبي جحيفة، قال: قال ابن عباس: "حرمت الخمر لعينها، قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب"، فهذان وجهان آخران بدون لفظة الميم.

فإن قلت: قال الأصيلي: لم يسمع عبد الله بن شداد هذا الحديث من ابن عباس، قاله الإمام أحمد بن حنبل، وقال: قد بينه هشيم، فقال: أخبرني الثقة عن ابن عباس.

قلت: قول المثبت أولى من قول النافي، والدليل على صحة رواية الطبري وأبي حنيفة.

ثم إن هذا الحديث يدل على شيئين:

الأول: أن تحريم الخمر لذاتها ولعينها، فلذلك يستوي فيها القليل والكثير، والسكر وعدمه؛ فصارت كالنجاسة المغلظة لذاتها.

الثاني: أن غير الخمر إنما يحرم لأجل الإسكار، حتى إذا لم يسكر لا يحرم، وأشار الطحاوي إلى هذا بقوله:"فثبت بذلك أن ما سوى الخمر التي حرمت. . . . إلى آخره".

ص: 60

قوله: "هذا هو النظر عندنا" أي القياس الصحيح، ووجه ما بينه مستقصى.

ص: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله غير نقيع الزبيب والتمر خاصةً فإنهم كرهوه، وليس ذلك عندنا في النظر كما قالوا؛ لأنا وجدنا الأصل المجتمع عليه أن نيء العصير وطبيخه سواء، وأن الطبخ لا يحل ما لم يكن حلالًا قبل الطبخ إلا الطبخ الذي يخرجه من حد العصير إلى أن يصير في حد العسل فيكون بذلك حكمه حكم العسل، ورأينا طبيخ الزبيب والتمر مباحًا باتفاقهم، فالنظر على ذلك أن يكون فيهما كذلك، فيستوي نبيذ التمر والعنب النيء والمطبوخ كما استوى في العصير وطبيخه، فهدا هو النظر.

ولكن أصحابنا خالفوا ذلك التأويل الذي تأولوا عليه حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما اللذين ذكرنا؛ لشيء رووه عن سعيد بن جبير، فإنه حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم، عن ابن شبرمة، عن سعيد بن جبير، أنه قال في ذلك:"هي الخمر فاجتنبها". والله أعلم.

ش: أي الذي ذكرناه من النظر هو قول أبي حنيفة وصاحبيه.

قوله: "غير نقيع الزبيب والتمر خاصة" استثناء من الحكم السابق. وإنما استثنى أبو حنيفة وصاحباه نقيع الزبيب والتمر من بين سائر الأشربة المباحة، وألحقوهما بالخمر مع أن وجه النظر والقياس كان يقتضي إلحاقهما بالأشربة المباحة؛ لأجل ما روي عن سعيد بن جبير؛ فإنه قال في ذلك:"هي الخمر فاجتنبها".

أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي البزاز، عن هشيم بن بشير، عن عبد الله بن شبرمة القاضي، عن سعيد بن جبير.

ص: 61

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا حفص بن غياث، عن ليث، عن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أنه سئل عن نقيع الزبيب، فقال: الخمر اجتنبوها".

نا حفص (2)، عن أشعث، عن بكير، عن سعيد بن جبير قال:"لأن أكون حمارًا يستقى عليَّ أحب إليَّ من أن أشرب نبيذ زبيب معتق". والله أعلم.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 76 رقم 23841).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 76 رقم 23842).

ص: 62