المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب ما يحرم من النبيذ - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٦

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الإقرار بالسرقة التى توجب القطع

- ‌ص: باب الرجل يستعير الحلي ولا يرده هل يجب عليه في ذلك قطع أم لا

- ‌ص: باب سرقة الثمر والكَثَر

- ‌ص: كتاب الأشربة

- ‌ص: باب الخمر المحرمة ما هي

- ‌ص: باب ما يحرم من النبيذ

- ‌ص: باب الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت

- ‌ص: كتاب الوصايا

- ‌ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق

- ‌ص: باب الرجل يوصي بثلث ماله لقرابته أو لقرابة فلان، مَنْ هم

- ‌ص: كتاب الفرائض

- ‌ص: باب الرجل يموت ويترك ابنةً وأختًا وعصبةً سواها

- ‌ص: باب مواريث ذوي الأرحام

- ‌ص: كتاب المزارعة

- ‌ص: باب الرجل يزرع في أرض القوم بغير إذنهم، كيف حكمهم في ذلك؟ وما يروى عن رسول الله عليه السلام في ذلك

- ‌ص: كتاب الإجارات

- ‌ص: باب الاستئجار على تعليم القرآن هل يجوز أم لا

- ‌ص: باب الجعل على الحجامة هل يجوز ذلك أم لا

- ‌ص: كتاب اللقطة والضالة

- ‌ص: كتاب الزيادات من شرح معاني الآثار

- ‌ص: باب صلاة العيدين كيف التكبير فيهما

- ‌ص: باب حكم المرأة في مالها

- ‌ص: باب ما يفعله المصلي بعد رفعه من السجدة الثانية من الركعة الأولى

- ‌ص: باب ما يجب للمملوك على مولاه من الكسوة والطعام

- ‌ص: باب إنشاد الشعر في المساجد

- ‌ص: باب شراء الشيء الغائب

- ‌ص: باب تزويج الأب ابنته البكر هل يحتاج في ذلك إلى استئمارها

- ‌ص: باب المقدار الذي يحرم على مالكيه أخذ الصدقة

- ‌ص: باب فرض الزكاة في الإبل السائمة فيما زاد على عشرين ومائة

الفصل: ‌ص: باب ما يحرم من النبيذ

‌ص: باب ما يحرم من النبيذ

ش: أي هذا باب في بيان ما يحرم من النبيذ، وهو فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير والذرة والأرز ونحو ذلك، من نبذت التمر إذا ألقيت عليه الماء ليخرج عليه حلاوته إليه، وسواء كان مسكرًا أو غير مسكر فإنه يقال له: نبيذ، ويقال للخمر المعتصر من العنب: نبيذ، كما يقال للنبيذ: خمر.

ص: حدثنا يزيد بن سنان وربيع الجيزي، قالا: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن زياد، عن مسلم بن يسار، عن سفيان بن وهب الخولاني، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام".

ش: عبد الله بن مسلمة القعنبي، شيخ البخاري وأبي داود.

وعبد الله بن عمر هو ابن غانم الإفريقي قاضيها. وثقه ابن يونس. وروي له البخاري وأبو داود والترمذي (1).

وعبد الرحمن بن زياد هو ابن أنعم الإفريقي، فيه مقال.

ومسلم بن يسار الأنصاري المصري الطُّنْبُذي، وثقه ابن حبان، وروي له مسلم وأبو داود وابن ماجه.

وسفيان بن وهب الخولاني الصحابي، عداده في أهل مصر.

وأخرجه أبو يعلى في مسنده (2): ثنا أبو خيثمة، نا عبد الله بن يزيد، ثنا عبد الرحمن بن زياد، عن مسلم بن يسار، عن سفيان بن وهب الخولاني قال:

(1) كذا في "الأصل، ك" والذي في "تهذيب الكمال" و"تقريب التهذيب" أن الذي روى له هو أبو داود فقط.

(2)

"مسند أبي يعلى"(1/ 213 رقم 248).

ص: 63

سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "كل مسكر حرام".

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أنا محمد ابن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".

حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة.

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن دينار، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن عمر رضي الله عنه، عن رسول الله عليه السلام نحوه.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الربيع الزهراني، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام، مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الخطاب بن عثمان، قال: ثنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام، مثله.

حدثنا محمد بن إدريس المكي، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام، مثله.

حدثنا محمد بن إدريس المكي، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، فذكر بإسناد مثله ولم يرفعه.

ش: هذه ثمان طرق كلها صحاح:

الأول: عن علي بن معبد بن نوح. . . . إلى آخره.

ص: 64

وأبو سلمة هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.

وأخرجه الترمذي (1): ثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي الكوفي وأبو سعيد الأشج، قالا: ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "كل مسكر حرام".

وقال: حديث صحيح.

الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه النسائي (2): عن ابن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة نحوه.

الثالث: عن محمد بن خزيمة بن راشد. . . . إلى آخره.

وقال الترمذي: وقد روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وعن أبي سلمة، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الربيع سليمان بن داود الأزدي الزهراني شيخ الشيخين وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه أبو داود (3): ثنا سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين قالوا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام. . . ." الحديث.

الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود أيضًا، عن الخطاب بن عثمان الفوزي

(1)"جامع الترمذي"(4/ 291 رقم 1864).

(2)

"المجتبى"(8/ 297 رقم 5587).

(3)

"سنن أبي داود"(3/ 327 رقم 3679).

ص: 65

الحمصي شيخ البخاري، عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الأزدي المكي، عن عبد الملك بن جريج، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه النسائي (1): أنا علي بن ميمون، نا ابن أبي رواد، ثنا ابن جريج، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".

السادس: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن محمد بن عجلان المدني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه النسائي (2): أنا سويد، ثنا عبد الله، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر".

السابع: عن محمد بن إدريس المكي وراق الحميدي، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه الترمذي (3): ثنا يحيى بن درست، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".

وقال: حديث حسن صحيح.

الثامن: وهو موقوف.

وأخرجه مالك في "موطإه": عن نافع، عن ابن عمر، موقوفًا نحوه.

ورواه روح بن عبادة، عن مالك مرفوعًا.

(1)"المجتبى"(8/ 297 رقم 5585).

(2)

"المجتبى"(8/ 297 رقم 5586).

(3)

"جامع الترمذي"(4/ 290 رقم 1861).

ص: 66

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا محمد بن جعفر، قال: أنا الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن عامر ابن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره".

ش: إسناده صحيح.

وسعد هو ابن أبي وقاص أحد المبشرة بالجنة رضي الله عنهم.

وأخرجه النسائي (1): من حديث الوليد بن كثير، عن الضحاك ابن عثمان. . . . إلى آخره نحوه.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن الحسن بن عمرو الفقيمي، عن الحكم بن عتيبة، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر".

ش: محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري.

وعبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي شيخ أحمد، روى له الجماعة.

والحسن بن عمرو الفقيمي التميمي، وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا بأس به صالح. وروي له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

والحكم بن عُتيبة -بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة- روى له الجماعة.

وشهر بن حوشب الأشعري، وثقه أحمد، وقال العجلي: شامي تابعي ثقة. روى له الأربعة ومسلم مقرونًا بغيره.

وأم سلمة أم المؤمنين اسمها هند بنت أبي أمية.

والحديث أخرجه أبو داود (2): نا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو شهاب

(1)"المجتبى"(8/ 301 رقم 5609).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 329 رقم 3686).

ص: 67

عبد ربه بن نافع، عن الحسن بن عمرو الفقيمي، عن الحكم بن عتيبة، عن شهر ابن حوشب، عن أم سلمة قالت:"نهى رسول الله عليه السلام عن كل مسكر ومفتر".

قلت: "المُفْتِر" الذي إذا شرب أحمى الجسد وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار، يقال: أَفْتَر الرجل فهو مُفْتِر: إذا ضعفت جفونه وانكسر طرفه.

ص: حدثنا حسين ويونس، قالا: ثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل حرَّم الخمر والميسر والكوبة. وقال: كل مسكر حرام".

ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.

وقيس بن حبتر -بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وفتح التاء المثناة من فوق وفي آخره راء- النهشلي الكوفي، وثقه أبو زرعة والنسائي وابن حبان، وروي له أبو داود.

والحديث أخرجه أبو داود (1) بأتم منه: ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن علي بن يزيد، قال: حدثني قيس بن حبتر النهشلي، عن ابن عباس رضي الله عنه قال:"إن وفد عبد القيس قالوا: يا رسول الله، فيما نشرب؟ قال: لا تشربوا في الدباء ولا في النقير ولا في المزفت، وانتبذوا في الأسقية، قالوا: يا رسول الله، فإن اشتد في الأسقية؟ قال: فصبوا عليه الماء، قالوا: يا رسول الله، فقال لهم في -الثالثة أو الرابعة-: أهريقوه، ثم قال: إن الله حرَّم عليَّ -أو حرَّم- الخمر والميسر والكوبة، وقال: كل مسكر حرام".

قوله: "والميسر" هو القمار بالقداح، وكل شيء فيه قمار هو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال:"الشطرنج من الميسر"، وقال عثمان وجماعة من الصحابة والتابعين:"الميسر: النرد".

(1)"سنن أبي داود"(3/ 331 رقم 3696).

ص: 68

وقال آخرون: القمار كله من الميسر، وأصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع فيه، وهو السهام التي يُجَزِّئونها، فمن خرج سهمه يستحق منه ما توجبه علامة السهم، فربما أخفق بعضهم حتى لا يحظى بشيء، ونجح البعض فيحظى بالسهام الفائزة، وحقيقته تمليك المال على المخاطرة، وهو لا يجوز.

قوله: "والكوبة" بضم الكاف وسكون الواو وفتح الباء الموحدة، قيل: هي النرد، وقيل: الطبل، وقيل: البَرْبَط.

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسحاق بن عيسى، قال: أنا مالك بن أنس، قال: حدثني الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"سئل رسول الله عليه السلام عن البِتع، فقال: كل شراب أسكر فهو حرام".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك ويونس، عن ابن شهاب: فذكر بإسناده مثله.

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سريج بن النعمان الجوهري، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام قال:"كل شراب أسكر فهو حرام".

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا مهدي بن ميمون، عن أبي عثمان الأنصاري، قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن ميمونة، وعن القاسم ابن محمد، عن عائشة، عن النبي عليه السلام قال:"كل شراب أسكر فهو حرام".

ش: هذه خمس وجوه طرقها كلها صحاح.

الأول: عن علي بن معبد، عن إسحاق بن عيسى بن نجيح الطباع شيخ

ص: 69

مسلم، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله ابن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة.

وأخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.

ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.

قوله: "عن البِتْع" بكسر الباء الموحدة وسكون التاء المثناة من فوق وفي آخره عين مهملة، وهو نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن، قال ابن الأثير: وقد تحرك التاء كقِمْعٍ وقِمَعٍ.

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس ويونس بن يزيد الأيلي، كلاهما عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن عائشة.

وأخرجه مسلم (3): حدثني حرملة بن يحيى التجيبي، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه سمع عائشة تقول:"سئل رسول الله عليه السلام عن البِتْع، فقال رسول الله عليه السلام: كل شراب أسكر فهو حرام".

الثالث: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن سُريج -بضم السين المهملة وفي آخره جيم- ابن النعمان الجوهري، روى له الجماعة إلا مسلمًا.

وأخرجه النسائي (4): عن إسحاق بن إبراهيم وقتيبة، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة. . . . إلى آخره.

الرابع: عن علي بن معبد أيضًا، عن سعيد بن منصور، عن مهدي بن ميمون،

(1)"صحيح البخاري"(5/ 2121 رقم 5263).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1585 رقم 2001).

(3)

"صحيح مسلم"(3/ 1586 رقم 2001).

(4)

"المجتبى"(8/ 297 رقم 5591).

ص: 70

عن أبي عثمان الأنصاري المدني ثم الخراساني قاضي مرو، واسمه عمرو بن سالم، وقيل: ابن سَلْم، وقيل: ابن سُليم، وقيل: ابن سعد، وثقه أبو داود وابن حبان، وروى له أبو داود والترمذي.

وأخرجه الترمذي (1) وأبو داود (2): ثنا مسدد وموسى بن إسماعيل، قالا: أنا مهدي بن ميمون، قال: أنا أبو عثمان -قال موسى: وهو عمرو بن سالم الأنصاري- عن القاسم، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفَرَق فملء الكف منه حرام".

قوله: "الفَرَق" بفتح الفاء والراء وفي آخره قاف، وهو مكيال يسع ستة عشر رطلًا، وهي اثنا عشر مدًّا وثلاثة آصع عند أهل الحجاز، فأما الفَرْق بسكون الراء فمائة وعشرون رطلًا.

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر العقدي واسمه عبد الملك ابن عمرو، عن زهير بن محمد التميمي العنبري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ابن أبي طالب القرشي المدني، متكلم فيه.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): ثنا أحمد بن عبد الملك، نا عبد الله بن عمرو، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن سليمان بن يسار، عن ميمونة زوج النبي عليه السلام قالت:"نهى رسول الله عليه السلام عن الدباء والنقير والجر والمقيرَّ، وقال: كل مسكر حرام".

وثنا (4) أحمد بن عبد الملك، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي عليه السلام مثله.

(1)"جامع الترمذي"(4/ 293 رقم 1866).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 329 رقم 3687).

(3)

"مسند أحمد"(6/ 333 رقم 26867).

(4)

"مسند أحمد"(6/ 333 رقم 26868).

ص: 71

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن وليد بن عبدة، عن عبد الله بن عمرو:"أن النبي عليه السلام نهى عن الخمر والميسر والكوبة، وقال: كل مسكر حرام".

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن عمرو بن شعيب، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي عليه السلام قال:"ما أسكر كثيره فقليله حرام".

ش: هذان طريقان:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق المدني، عن يزيد بن أبي حبيب، عن وليد بن عَبدة -بفتح العين والباء الموحدة- المصري، مولى عمرو بن العاص. وثقه ابن حبان. والحديث أخرجه أبو داود (1): نا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الوليد بن عبدة، عن عبد الله بن عمرو:"أن نبي الله عليه السلام نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغُبَيْراء وقال: كل مسكر حرام".

قال أبو داود: قال القاسم بن سلام أبو عبيد: الغُبيراء: السكركة تعمل من الذرة، شراب يعمله الحبشة.

الثاني: عن علي بن معبد بن نوح، عن يونس بن محمد بن مسلم البغدادي المؤدب روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وثقه ابن معين وقال: ثبت.

عن عمرو بن شعيب وثقه العجلي والنسائي، عن أبيه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد ينسب إلى جده، ذكر البخاري وغيره أنه سمع من جده عبد الله، ووثقه ابن حبان.

(1)"سنن أبي داود"(3/ 328 رقم 3685).

ص: 72

والحديث أخرجه النسائي (1): أنا عبيد الله بن سعيد، نا يحيى -يعني: ابن سعيد- عن عبيد الله، ثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام قال:"ما أسكر كثيره فقليله حرام".

وأخرجه ابن ماجه (2).

ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: أنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، قال: سمعت شيخًا يحدث أبا تميم، أنه سمع قيس بن سعد بن عبادة على المنبر يقول: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "كل مسكر حرام".

ش: ربيع الجيزي هو ابن سليمان الأعرج، شيخ أبي داود والنسائي، وثقه ابن يونس.

وأبو الأسود المصري اسمه النضر بن عبد الجبار، وثقه ابن حبان.

وابن لهيعة هو عبد الله المصري، فيه مقال.

وابن هبيرة هو عبد الله بن هبيرة السبائي الحضرمي المصري، روى له الجماعة سوى البخاري.

وأبو تميم هو عبد الله بن مالك الجيشاني الرعيني المصري وثقه يحيى وغيره.

وقيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الأنصاري الخزرجي، له ولأبيه صحبة.

وهذا الإسناد فيه مجهول وضعيف.

وأخرجه الطبراني (3): نا بشر بن موسى، نا أبو عبد الرحمن، نا ابن لهيعة، حدثني ابن هبيرة، سمعت شيخًا من حمير يقول: خطبنا قيس بن سعد بن عبادة

(1)"المجتبى"(8/ 300 رقم 5607).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1125 رقم 3394).

(3)

"المعجم الكبير"(18/ 352 رقم 898).

ص: 73

الأنصاري فقال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام".

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: أنا إسماعيل بن جعفر، عن داود بن بكر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله عليه السلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".

ش: إسناده حسن جيد.

وأخرجه الترمذي (1): ثنا قتيبة، نا إسماعيل بن جعفر.

ونا علي بن حُجر، قال: أنا إسماعيل بن جعفر، عن داود بن بكر بن الفرات، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه السلام قال:"ما أسكر كثيره فقليله حرام".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان الواسطي، قال: ثنا عثمان بن مطر، عن أبي حريز، عن الشعبي، قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله عليه السلام: "أنهاكم عن كل مسكر".

ش: سعيد بن سليمان المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود.

وعثمان بن مطر الشيباني البصري، فيه مقال، ضعفه يحيى، وقال: لا يكتب حديثه، وعنه: ليس بشيء. وعن النسائي: ليس بثقة.

وأبو حَريز -بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وفي آخره زاي معجمة- واسمه عبد الله بن الحسين الأزدي قاضي سجستان، فعن أحمد: منكر الحديث. وعن يحيى: ضعيف، وعنه: ثقة. روى له الأربعة.

والشعبي هو عامر بن شراحيل.

(1)"جامع الترمذي"(4/ 292 رقم 1865).

ص: 74

والحديث أخرجه الدارقطني (1): من حديث عثمان بن مطر، عن أبي حريز، عن الشعبي، نحوه.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن بحر، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: قرأت على فُضيل بن ميسرة أبي معاذ، قال: حدثني أبو حريز، أن الشعبي حدثه، قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه يخطب على منبر الكوفة يقول: قال رسول الله عليه السلام: "أنهاكم عن كل مسكر".

ش: هذا طريق آخر عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن بحر بن موسى القطان شيخ أبي داود والبخاري في التعليقات، عن معتمر ابن سليمان بن طرخان التيمي، عن فضيل بن ميسرة الأزدي المكنى بأبي معاذ، عن أبي حريز عبد الله بن الحسين، عن عامر الشعبي.

وأخرجه أبو داود (2) بأتم منه: ثنا مالك بن عبد الواحد أبو غسان، قال: ثنا معتمر، قال: قرأت على الفضيل بن ميسرة، عن أبي حريز، أن عامرًا حدثه، أن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر".

ص: حدثنا مبشر بن الحسن، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا الحَرِيش ابن سليم الكوفي، عن طلحة اليامي، عن أبي بردة، عن أبي موسىى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام".

وحدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، قال: سمعت أبي يحدث عن أبي موسى: "أن النبي عليه السلام لما بعث أبا موسى ومعاذًا إلى اليمن قال أبو موسى: إن شرابًا يصنع في أرضنا من العسل يقال له: البِتعْ، ومن الشعير يقال له: المزر، فقال النبي عليه السلام: كل مسكر حرام".

(1)"سنن الدارقطني"(4/ 252 رقم 33) من طريق فضيل أبي معاذ، عن أبي حريز.

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 326 رقم 3677).

ص: 75

ش: هذان طريقان:

الأول: عن مبشر بن الحسن بن مبشر القيسي البصري، وثقه ابن يونس، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي صاحب "المسند"، عن الحَرِيش -بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وفي آخره شين معجمة- بن سليم الجعفي، ويقال: الثقفي، قال أبو داود الطيالسي: ثقة. وقال ابن معين: ليس بثقة. روى له أبو داود والنسائي.

وهو يروي عن طلحة بن مصرف اليامي -بالياء آخر الحروف، روى له الجماعة.

عن أبي بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي.

وأخرجه النسائي (1): أنا يحيى بن موسى البلخي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حريش بن سليم، ثنا طلحة الأيامي، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام".

الثاني: إسناده صحيح. عن حسين بن نصر بن المعارك، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي المصري، عن شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه أبي بردة عامر، عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم (2): ثنا قتيبة، ثنا وكيع، عن شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال:"بعثني النبي عليه السلام أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، شرابًا يصنع بأرضنا يقال له: المزر من الشعير، وشرابًا يقال له البتع من العسل، فقال: كل مسكر حرام".

وأخرجه النسائي (3): أنا محمد بن آدم، عن ابن فضيل، عن الشيباني، عن أبي بردة، عن أبيه قال: "بعثني رسول الله عليه السلام إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله،

(1)"المجتبى"(8/ 298 رقم 5597).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1586 رقم 1733).

(3)

"المجتبى"(8/ 300 رقم 5604).

ص: 76

إن بها أشربة يقال لها البتع والمزر، قال: وما البتع والمزر؟ قلت: شراب يكون من العسل، والمزر يكون من الشعير، قال: كل مسكر حرام".

وأخرجه أبو داود (1): نا وهب بن بقية، عن خالد، عن عاصم بن كليب، عن أبي بُردة، عن أبي موسى قال:"سألت النبي عليه السلام عن شراب من العسل، فقال: ذاك البتع. قلت: وينتبذ من الشعير والذرة، قال: ذلك المزر، ثم قال: أخبر قومك أن كل مسكر حرام".

فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن ثلاثة عشر نفرًا من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأم سلمة، وعبد الله بن عباس، وعائشة الصديقة وميمونة زوجا النبي عليه السلام، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقيس بن سعد بن عبادة، وجابر بن عبد الله، والنعمان بن بشير، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم.

ولما أخرج الترمذي حديث عبد الله بن عمر وعائشة وجابر قال: وفي الباب عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمرو، وعبادة، وأبي مالك الأشعري، وابن عباس، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وأنس، والأشج العصري، وديلم، وميمونة، وقيس بن سعد، والنعمان بن بشير، ومعاوية، وعبد الله بن مغفل، وأم سلمة، ويزيد، ووائل بن حجر، وخوَّات بن جبير رضي الله عنهم.

قلت: وفي الباب أيضًا عن قرة بن إياس، وأم حبيبة، وطلق بن علي، وأبي قتادة، ومعقل بن يسار، ومعاذ بن جبل، وأبي وهب الجيشاني، والضحاك ابن النعمان، وأبي أمامة الباهلي، وأبي بردة بن نيار رضي الله عنهم.

فهؤلاء كلهم ستة وثلاثون نفرًا من الصحابة قد أخرج الطحاوي عن ثلاثة عشر نفرًا منهم، وقد ذكرناهم فبقي ثلاثة وعشرون نفرًا.

(1)"سنن أبي داود"(3/ 328 رقم 3684).

ص: 77

الأول: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:

أخرج حديثه أحمد بن حنبل (1): ثنا هشام بن سعيد، نا فليح، عن محمد بن عمرو بن ثابت، عن ثابت، عن أبيه قال:"مر بي ابن عمر، فقلت: إلى أين أصبحت غاديًا يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إلى أبي سعيد الخدري، فانطلقت معه فقال أبو سعيد: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: إني نهيتكم عن لحوم الأضاحي وادخاره بعد ثلاثة أيام، فكلوا وادخروا فقد جاء الله بالسعة، ونهيتكم عن أشياء من الأشربة والأنبذة فاشربوا، وكل مسكر حرام، ونهيتكم عن زيارة القبور فإن زرتموها فلا تقولوا هُجْرًا".

الثاني: عبادة بن الصامت رضي الله عنه:

أخرج حديثه ابن ماجه (2): ثنا الحسين بن أبي السري، ثنا عبد الله، ثنا سعيد ابن أوس، عن أبي بكر بن حفص، عن ابن محيريز، عن ثابت بن السمط، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله عليه السلام: "يشرب ناس من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه".

الثالث: أبو مالك الأشعري رضي الله عنه، قيل: اسمه الحارث، وقيل: عبيد، وقيل غير ذلك:

أخرج حديثه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا زيد بن الحباب، عن معاوية ابن صالح، قال: ثنا حاتم بن حريث، عن مالك بن أبي مريم، قال:"تذاكرنا الطلاء فدخل علينا عبد الرحمن بن غُنم فتذاكرناه، فقال: حدثني أبو مالك الأشعري، أن رسول الله عليه السلام يقول: يَشرب أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير".

(1)"مسند أحمد"(3/ 63 رقم 11624).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1123 رقم 3385).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 68 رقم 23758).

ص: 78

الرابع: علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

أخرج حديثه عبد الله بن وهب في "مسنده": حدثني شِمر بن نمير، عن حسين ابن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه، عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"ما أسكر كثيره فقليله حرام".

وهذا حديث ضعف.

الخامس: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

أخرج حديثه الدارقطني (1): ثنا الحسن بن أحمد بن سعيد الرهاوي، ثنا العباس بن عبيد الله، ثنا عمار بن مطر، ثنا جرير بن عبد الحميد، عن الحجاج، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام قال:"كل مسكر حرام. قال عبد الله: هي الشربة التي أسكرتك".

السادس: أنس بن مالك رضي الله عنه:

أخرج حديثه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا ابن إدريس، عن المختار قال:"سألت أنسًا عن النبيذ، فقال: نهى رسول الله عليه السلام عن الظروف المزفتة، وقال: كل مسكر حرام".

السابع: الأشج العصري واسمه المنذر بن الحارث:

أخرج حديثه أبو يعلى في "مسنده"(3) بلفظ: "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم في رفقة من عبد القيس. . . ." الحديث. وفيه: "إن الظروف لا تحل ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام".

أراد أن الاعتبار للسكر لا للظروف ولا لغيرها.

(1)"سنن الدارقطني"(4/ 250 رقم 23).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 67 رقم 23752).

(3)

"مسند أبي يعلى"(12/ 243 رقم 6849).

ص: 79

الثامن: ديلم بن فيروز الحميري:

أخرج حديثه أبو داود (1): ثنا هناد بن السري، قال: ثنا عبدة، عن محمد -يعني ابن إسحاق- عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن ديلم الحميري قال:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض باردة نعالج فيها عملًا شديدًا،، وإنا نتخذ شرابًا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا. قال: هل يُسكر؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، قال: قلت: فإن الناس غير تاركيه. قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم".

التاسع: معاوية بن أبي سفيان:

أخرج حديثه ابن ماجه (2): ثنا علي بن ميمون الرقي، ثنا خالد بن حيان، عن سليمان بن عبد الله بن الزبرقان، عن يعلى بن شداد بن أوس قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مسكر حرام على كل مؤمن".

العاشر: عبد الله بن مغفل:

أخرجه حديثه أحمد في "مسنده"(3): ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية -أو عن غيره- عن عبد الله بن مغفل، المزني قال:"أنا شهدت رسول الله عليه السلام نهى عن نبيذ الجر، وأنا شهدته حين رخص فيه، وقال: اجتنبوا المسكر".

الحادي عشر: بُريدة بن الحصيب:

(1)"سنن أبي داود"(3/ 328 رقم 3683).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1124 رقم 3389).

(3)

"مسند أحمد"(4/ 87 رقم 16850).

ص: 80

أخرج حديثه عبد الرزاق (1): عن معمر، عن عطاء، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله عليه السلام: "اجتنبوا كل مسكر".

وأخرجه الطبراني (2): عن الدبري، عن عبد الرزاق.

الثاني عشر: وائل بن حجر:

أخرج حديثه الطبراني (3) مطولًا جدًّا: عن يحيى بن عبد الله، عن عمه محمد بن حُجر، عن عمه سعيد بن عبد الجبار، عن أبيه، عن أمه أم يحيى، عن وائل بن حُجر قال:"لما بلغنا ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت وافدًا عن قومي حتى قدمت المدينة. . . ." الحديث بتمامه. وفيه "وكل مسكر حرام".

الثالث عشر: خوات بن جبير:

أخرج حديثه الدارقطني في "سننه"(4): ثنا محمد بن هارون، ثنا محمد بن يحيى القطعي، ثنا عبد الله بن إسحاق، قال: حدثني أبي، عن صالح بن خوَّات ابن صالح بن خوات بن جبير الأنصاري، عن أبيه، عن جده عن خوَّات ابن جبير، عن رسول الله عليه السلام قال:"ما أسكر كثيره فقليله حرام".

الرابع عشر: قرة بن إياس:

أخرج حديثه الطبراني (5): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن أبي نعيم، نا محمد بن زياد، عن زياد بن أبي زياد الجصاص، عن معاوية بن قرة، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام سئل عن الأوعية فقال: إن الأوعية لا تحرم شيئًا فانتبذوا فيما بدا لكم، واجتنبوا كل مسكر".

(1)"مصنف عبد الرزاق"(9/ 208، رقم 16957).

(2)

"المعجم الكبير"(2/ 19 رقم 1152).

(3)

"المعجم الكبير"(22/ 46 رقم 117).

(4)

"سنن الدارقطني"(4/ 254 رقم 44).

(5)

"المعجم الكبير"(19/ 22 رقم 43).

ص: 81

الخامس عشر: عن أم حبيبة رضي الله عنها:

أخرج حديثها البيهقي في "سننه"(1): من حديث عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو، أن دراجًا حدثه، أن عمرو بن الحكم حدثه، عن أم حبيبة:"أن ناسًا من أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمهم الصلاة والسنن والفرائض، ثم قالوا: يا رسول الله إن لنا شرابا نصنعه من القمح والشعير، فقال: الغبيراء؟ قالوا: نعم. قال: "تطعموه، ثم لمَّا كان بعد يومين ذكروه له أيضًا، فقال: الغبيراء؟ قالوا: نعم. قال: لا تطعموه، ثم لمَّا أرادوا أن ينطلقوا سألوه عنه، فقال: لا تطعموه".

السادس عشر: طلق بن علي:

أخرج حديثه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا ملازم بن عمرو، عن سراج ابن عقبة، عن عمته خالدة بنت طلق، قالت: حدثني أبي قال: "كنا جلوسًا عند نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء صحار عبد القيس، فقال: يا رسول الله ما ترى في شراب نصنعه من ثمارنا؟ قال: فأعرض عنه النبي عليه السلام حتى سأله ثلاث مرات، ثم قام بنا النبي عليه السلام فصلى، فلما قضى الصلاة قال: مَن السائل عن المسكر؟ يا سائلًا عن المسكر لا تشربه، ولا تسقه أحدًا من المسلمين، فوالذي نفس محمد بيده ما يشربه قط رجل ابتغاء لذة سكره؛ فيسقيه الله خمرًا يوم القيامة".

السابع عشر: أبو قتادة:

أخرج حديثه البخاري (3): ثنا مسلم، قال: ثنا هشام، أنا يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال:"نهى النبي عليه السلام أن يجمع بين التمر والزهو، والتمر والزبيب ولينتبذ كل واحدٍ منهما على حدة".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 292 رقم 17145).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 66 رقم 23743).

(3)

"صحيح البخاري"(5/ 2126 رقم 5280).

ص: 82

الثامن عشر: معقل بن يسار:

أخرج حديثه الطبراني (1): نا يعقوب بن إسحاق المخرمي، ثنا عفان، ثنا المثنى ابن عوف، ثنا أبو عبد الله الجسري، عن معقل بن يسار:"أنه سأله عن الشراب، فقال: كنا بالمدينة وكانت كثيرة التمر، فحرم علينا رسول الله عليه السلام الفضيخ".

التاسع عشر: معاذ بن جبل رضي الله عنه:

أخرج حديثه الطبراني (2): ثنا أحمد بن المعلى الدمشقي، ثنا هشام بن عمار. (ح).

وثنا موسى بن عيسى بن المنذر الحمصي، ثنا محمد بن المبارك الصوري، قالا: ثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن أبي إدريس، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان: عن شرب الخمر، وعن ملاحاة الرجال".

العشرون: أبو وهب الجيشاني، اسمه ديلم بن هوشع، وقيل: ابن الهميسع.

أخرج حديثه أبو نعيم (3): من حديث محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن أبا وهب الجيشاني سأل النبي عليه السلام أن يتخذ شرابًا من هذا المزر، فقال رسول الله عليه السلام: كل مسكر حرام".

الحادي والعشرون: الضحاك بن النعمان بن سعد:

أخرج حديثه أحمد بن عمرو بن أبي عاصم في كتاب "الأشربة"(4): ثنا كثير ابن عبيد، ثنا بقية بن الوليد، عن عتبة بن أبي حكيم، عن سليمان بن عمرو،

(1)"المعجم الكبير"(20/ 224 رقم 521).

(2)

"المعجم الكبير"(20/ 83 رقم 157).

(3)

"معرفة الصحابة"(6/ 3043 معلقًا بعد رقم 7044).

(4)

وأخرجه في "الآحاد والمثاني"(5/ 173 رقم 2708)، والطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 325 رقم 795) من طريق عبدان بن أحمد، عن كثير بن عبيد، به.

ص: 83

عن الضحاك بن النعمان بن سعد: "أن مسروق بن وائل قدم على رسول الله عليه السلام فأسلم وحسن إسلامه، فقال: أحب أن تبعث إلى قومي رجالًا يدعونهم إلى الإسلام، وأن تكتب إلى قومي كتابًا عسى الله أن يهديهم إليه، فأمر معاوية فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الأقيال من حضر موت؛ بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقة على التبعة ولصاحبها اليتمة، وفي السيوب الخمس، وفي البعل العُشر، لا خلاط، ولا وراط، ولا شغار، ولا جلب، ولا جنب، ولا شناق، والعون للسرايا المسلمين، لكل عشرة ما يحمل القراب، من أجبى فقد أربى، وكل مسكر حرام، فبعث إليه زياد بن لبيد".

قلت: "التَّبِعة" بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الباء الموحدة، وهي الأربعون من الغنم، وهذا نصاب الغنم، وقيل: هو اسم لأدنى ما تجب فيه الزكاة من كل الحيوان.

قوله: "ولصاحبها اليتمة" بالياء آخر الحروف ثم التاء المثناة من فوق، وأراد بها الشاة الزائدة على الأربعين حتى تبلغ الفريضة الأخرى، وقيل: هي الشاة تكون لصاحبها في منزله يحلبها وليست بسائمة.

قوله: "وفي السيوب" جمع سَيْب -بفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة- قال الزمخشري: يريد به المال المدفون في الجاهلية أو المعدن، وقال أبو عبيد: ولا أراه أخذ إلا من السيب وهو العطاء.

وقيل: السيوب عروق من الذهب والفضة تسيب في المعدن أي تتكون فيه وتظهر. وقال ابن الأثير: السيوب الركاز.

قوله: "وفي البَعْل" بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة، وهو الشجر الذي يشرب بعروقه من الأرض، من غير سقي من سماء ولا من غيرها.

قوله: "لا خِلاط" بكسر الخاء مصدر خالطه مخالطة وخلاطًا، وهو أن يخلط الرجلان أصلها فيمنعان حق الله تعالى.

ص: 84

قوله: "ولا وِرَاط" بكسر الواو هو أن يجعل غنمه في وهدة من الأرض لتخفى على المصدق. وقيل: هو أن يغيب إبله وغنمه في إبل غيره وغنمه.

قوله: "ولا شِغار" وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته من رجل على أن يزوجه هو أيضًا ابنته إياه أو أخته، ولا مهر بينهما إلا ذاك.

قوله: "ولا جَلَب" وهو أن ينزل المصدق موضعًا ويرسل إلى المياه من يجلب إليه الأموال فيأخذ زكاتها، وهو المراد هاهنا.

قوله: "ولا جَنَب" وهو أن يُبعد رب المال بماله عن موضعه فيحتاج المصدق إلى الإبعاد في اتباعه. وقيل: الجَلَب والجنب في السباق.

قوله: "ولا شِنَاق" بكسر الشين المعجمة وبالنون والقاف، الشَنَق بالتحريك ما بين الفريضتين من كل ما تجب فيه الزكاة، وهو ما زاد على الإبل من الخمس إلى التسع، وما زاد منها على العشر إلى أربع عشرة. أي لا يؤخذ في الزيادة على الفريضة زكاة إلى أن تبلغ الفريضة الأخرى، فمعنى قوله:"لا شناق" أي لا يشنق الرجل غنمه أو إبله إلى مال غيره ليبطل الصدقة، يعني: لا تشانقوا فتجمعوا بين متفرق، وهو مثل قوله:"لا خلاط".

قوله: "لكل عشرة ما يحمل القراب" أي من التمر، والقراب: شبه الجراب يطرح فيه الراكب السيف بغمده وسوطه، وقد يطرح فيه زاده من تمر وغيره.

قال الخطابي: الرواية بالباء هكذا ولا موضع له هاهنا، وأراه القراف جمع قرف، وهي أوعية من جلود يحمل فيها الزاد للسفر، وتجمع على قروف أيضًا.

قوله: "من أجبى" من الإجباء بالجيم وهو بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، وقيل: هو أن يُغيِّب إبله من المصدق، من أجبأته إذا واريته، والأصل في هذه اللفظة الهمزة، ولكنه روي هكذا غير مهموز، فإما أن يكون تحريفًا من الراوي، أو يكون ترك الهمزة للازدواج بأربى، وقيل: أراد بالإجباء العينة، وهو أن يبيع

ص: 85

من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بالنقد بأقل من الثمن الذي باعها به.

الثاني والعشرون: أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه، واسمه: صُدَيُّ بن عجلان:

أخرج حديثه ابن ماجه (1): ثنا العباس بن الوليد الدمشقي، ثنا عبد السلام ابن عبد القدوس، ثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذهب الأيام والليالي حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها".

الثالث والعشرون: أبو بُردة هانئ بن نيار:

أخرج حديثه ابن أبي شيبة (2): عن أبي الأحوص، عن سماك بن حرب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة بن نيار، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا".

وأخرجه الطبراني (3) من طريق ابن أبي شيبة نحوه.

ص: قال أبو جعفر - رحمة الله -: فذهب قوم إلى أن حرَّموا قليل النبيذ وكثيره، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح، وطاوسًا، ومجاهدًا، ومالكًا، والشافعي، وأحمد؛ فإنهم حرموا قليل النبيذ وكثيره، وقالوا: كل ما أسكر كثيره فقليله حرام. واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة.

وقال صاحب "المغني": كل مسكر حرام قليله وكثيره، وهو خمر، حكمه حكم عصير العنب في تحريمه، ووجوب الحد على شاربه.

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 1123 رقم 3384).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 85 رقم 23940).

(3)

"المعجم الكبير"(22/ 198 رقم 522).

ص: 86

وروي تحريم ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأُبَي بن كعب، وأنس، وعائشة رضي الله عنهم.

وبه قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، والقاسم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، ومالك والشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد، وإسحاق.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فأباحوا من ذلك ما لا يسكر، وحرَّموا الكثير الذي يُسكر.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سويد بن غفلة، وزر بن حبيش، والحسن البصري، وعلقمة بن قيس، وعمرو بن ميمون، ومرة الهمداني، وعامرًا الشعبي وابن أبي ليلى، وإبراهيم النخعي، وأبا حنيفة، وأبا يوسف رحمهم الله؛ فإنهم أباحوا من النبيذ ما لا يُسكر، وحرَّموا الكثير الذي يُسكر. وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وجابر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم.

وفي "المغني": قال أبو حنيفة في عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه، ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه، ونبيذ الحنطة والذرة والشعير ونحو ذلك نقيعًا كان أو مطبوخًا: كل ذلك حلال إلا ما بلغ السكر.

فأما عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده، أو طبخ وذهب أقل من ثلثيه، ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ؛ فهذا يحرم قليله وكثيره.

وقال أبو عمر (1): أجمع المسلمون في كل عصر وبكل مصر -فيما بلغنا وصح عندنا- أن عصير العنب إذا رمى بالزبد وهدأ وأسكر الكثير منه أو القليل أنه خمر، وأنه ما دام على حاله تلك حرام كالميتة والدم، رجس نجس كالبول، إلا ما روي عن ربيعة في نقط من الخمر لم أر لذكره وجهًا؛ لأنه خلاف لإجماعهم، وقد جاء عنه في مثل رءوس الأبر من نقط البول نحو ذلك، وقد روي عن ربيعة

(1)"التمهيد"(1/ 245).

ص: 87

والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين أنها طاهرة، وأن المحرم هو شربها، وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسكبها في طرق المدينة. قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم، ولنَهى عنه رسول الله عليه السلام كما نهى عن التخلي في الطرق، وقد ذكر ابن خواز منداد: أنها تملك، ونزع إلى ذلك بأنها يمكن أن تزال بها الغصص ويطفأ بها الحريق وهذا نقل لا يعرف لمالك رحمه الله.

قال أبو عمر رحمه الله (1): اختلف العلماء في سائر الأنبذة المسكرة. فقال العراقيون: إنما الحرام منها السكر وهو فعل الشارب، وأما النبيذ في نفسه فليس بحرام ولا نجس؛ لأن الخمر من العنب لا غير، بدليل قوله تعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (2).

وقال أيضًا (3): قال أحمد بن شعيب في كتابه: إن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي وهذه زلة من عالم، وقد حُذِّرْنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة.

وزعمت طائفة أن أبا جعفر الطحاوي -وكان إمام أهل زمانه- ذهب إلى إباحة الشرب من المسكر [ما لم يسكر](4).

قال أبو عمر: وهذا لو صح عنه لم يحتج به على مَن ذكرنا قولهم من الأئمة المتَّبَعين في تحريم المسكر مع ما ثبت من السنة.

قلت: الطحاوي: لم يذهب إلى إباحة المسكر، وإنما ذهب إلى أن شرب ما لا يُسكر من الأنبذة مباح إلى أن يُسكر، فيحرم حينئذٍ، والله أعلم.

(1)"التمهيد"(1/ 245).

(2)

سورة يوسف، آية:[36].

(3)

"التمهيد"(1/ 255).

(4)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد"(1/ 256).

ص: 88

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن هذه الآثار التي ذكرنا قد رُويت عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام، ولكن تأويلها يحتمل أن يكون كما ذهب إليه من حرَّم قليل النبيذ وكثيره، ويحتمل أن يكون على المقدار الذي يسكر منه شاربه خاصةً.

فلما احتملت هذه الآثار كل واحد من هذين التأويلين نظرنا فيما سواها لنعلم به أي المعنيين أريد بما ذكر فيها، فوجدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهو أحد النفر الذين روينا عنهم عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"كل مسكر حرام"- قد روي عنه في إباحة القليل من النبيذ الشديد ما قد حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم، عن همام بن الحارث، عن عمر رضي الله عنه:"أنه كان في سفرٍ، فأتي بنبيذ فشرب منه، فقطب ثم قال: إن نبيذ الطائف له غرام -فذكر شدةً لا أحفظها- ثم دعى بماءٍ فصب عليه ثم شرب".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال:"شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن، فجاءه الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك؟ قال: النبيذ، فَاُتِيَ بنبيذ فشربه فخرج من إحدى طعناته".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون مثله.

وزاد: قال عمرو: وكان يقول: "إنا نشرب من هذا النبيذ شرابًا يُقطع لحوم الإبل في بطوننا من أن يؤذينا. قال: وشربت من نبيذه فكان كأشد النبيذ".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، عن عامر، عن سعيد بن ذي لعوة قال:"أتي عمر رضي الله عنه برجل سكران فجلده، فقال: إنما شربت من شرابك، فقال: وإن كان".

ص: 89

حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني أبو إسحاق، عن سعيد بن ذي حُدّان -أو ابن ذي لعوة- قال:"جاء رجل قد ظمئ إلى خازن عمر رضي الله عنه فاستسقاه فلم يسقه، فأتى بسطيحة لعمر رضي الله عنه فشرب منها فسكر، فأتي به عمر رضي الله عنه فاعتذر إليه وقال: إنما شربت من سطيحتك، فقال عمر رضي الله عنه: إنما أضربك على السكر، فضربه عمر رضي الله عنه".

حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني حبيب بن أبي ثابت، عن نافع بن علقمة قال:"أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنبيذٍ له فصنع في بعض تلك المنازل، فأبطأ عليهم ليلة، فأتي بطعام فطعم، ثم أتي بنبيذ قد أخلف واشتد فشرب منه، ثم قال: إن هذا لشديد، ثم أمر بماء فَصُبَّ عليه ثم شرب هو وأصحابه".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا خالد الحذاء، عن أبي المعذل، عن ابن عمر:"أن عمر رضي الله عنه انتبذ له في مزادة فيها خمسة عشر أو ستة عشر قائمة، فذاقه فوجده حلوًا، فقال: كأنكم أقللتم عكره".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، أن أباه عبدالرحمن بن عثمان قال:"صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة شرفها الله، فأهدى له ركب من ثقيف بسطيحتين من نبيذ - والسطحِة فوق الإداوة ودون المزادة- قال عبد الرحمن: فشرب عمر رضي الله عنه إحداهما، ولم يشرب الأخرى حتى اشتد ما فيه، فذهب عمر يشرب منه فوجده قد اشتد، فقال: اكسروه بالماء".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري. . . . فذكر بإسناده مثله.

ص: 90

قال: فلما ثبت بما ذكرنا من عمر رضي الله عنه إباحة قليل النبيذ الشديد، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كل مسكر حرام"؛ كان ما فعله من هذا دليلًا أن ما حرَّم رسول الله عليه السلام بقوله ذلك عنده من النبيذ الشديد هو السكر منه لا غير. فإما أن يكون سمع ذلك من النبي عليه السلام قولًا أو رآه رأيًا، فأقل ما يكون منه في ذلك أن يكون رآه رأيًا، فرأيه ذلك عندنا حجة ولاسيما إذ كان فعله المذكور في الآثار التي رويناها عنه بحضرة أصحاب رسول الله عليه السلام، فلم يُنكره عليه منهم منكر. فدل ذلك على متابعتهم إياه عليه.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى من قوله عليه السلام: "كل مسكر حرام"، أو "اجتنبوا المسكر"، أو نحو ذلك يحتمل أن يكون ذلك على إطلاقها، على معنى أن يحرم قليل المسكر وكثيره كما ذهب إليه هؤلاء.

ويحتمل أن يكون المراد: هو القدر الذي يسكر منه شاربه خاصة، ولا يحرم ما دون ذلك.

فلما كان الأمر كذلك وجب الرجوع إلى غيرها من الآثار؛ لنعلم به أي المعنيين أريد به، فوجدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أحد الرواة عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"كل مسكر حرام" قد روي عنه من فعله ما يدل على إباحة النبيذ الشديد على المقدار الذي لا يُسكر كما نُبينه الآن إن شاء الله.

فدل ذلك أن المراد من قوله عليه السلام: "كل مسكر حرام" هو السكر منه لا غيره؛ إذ لو كان ذلك على الإطلاق كما زعم الخصم لما شرب عمر رضي الله عنه من النبيذ الشديد ما دون الإسكار، ففعله ذلك لا يخلو إما أن يكون بطريق السماع من رسول الله عليه السلام، وإما أن يكون برأي نفسه قد رآه ذلك، فأقل الأمرين أن يكون ذلك منه بطريق الرأي، ورأيه حجة لا تدفع خصوصًا وقد كان فعله المذكور عنه في الآثار التي تأتي كان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم فلم يُنكر ذلك عليه أحد منهم.

ص: 91

فدل ذلك على موافقتهم إياه في المعنى الذي قصده، والفعل الذي فعله؛ إذ لو كان الأمر بخلاف ذلك لما وسعهم اتباعهم إياه، ولأنكروا عليه في ذلك، وهذا ظاهر.

فإن قيل: هذا يتمشى في قوله عليه السلام: "كل مسكر حرام"، ولكن ما تقول في قوله:"ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" كما مر ذكره في حديث عائشة رضي الله عنها؟

وفي رواية عنها أخرجها الدارقطني (1): "ما أسكر الفرق فالأوقية منه حرام".

وفي رواية عنها أيضًا (2): "ما أسكر الفرق فالحسوة منه حرام".

وفي رواية (3): "ما أسكر الفرق فالجرعة منه حرام".

قلت: الكل يرجع إلى معنى واحد، وهو أنه يحرم منه بعد الإسكار ملء الكف والجرعة والحسوة، لا أنه قبل الإسكار يحرم شيء من ذلك.

ثم إنه أخرج ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من تسع طرق.

الأول: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص النخعي الكوفي شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث النخعي، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث النخعي الكوفي، عن عمر رضي الله عنه.

وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا فهدًا.

وقال ابن حزم: هذا خبر صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام قال: "أتي عمر رضي الله عنه بنبيذ زبيب من نبيذ زبيب الطائف.

(1)"سنن الدارقطني"(4/ 254 رقم 46)، (4/ 255 رقم 50).

(2)

"سنن الدارقطني"(4/ 255 رقم 52، 54)، (4/ 256 رقم 55).

(3)

"سنن الدارقطني"(4/ 255 رقم 53).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 79 رقم 23877).

ص: 92

قال: فلما ذاقه قطب، فقال: إن لنبيذ زبيب الطائف لعرامًا، ثم دعى بماءً فصبه عليه وشرب، وقال: إذا اشتد عليكم فصبوا عليه الماء واشربوا".

قوله: "فقطب" من قطب وجهه تقطيبًا: إذا عبس.

قوله: "له عُرام" بضم العين المهملة، أي: شدة وقوة.

فإن قلت: قال ابن حزم: هذا لا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس فيه أن ذلك النبيذ كان مسكرًا، ولا أنه كان قد اشتد، وإنما فيه إخبار عمر رضي الله عنه بأن نبيذ الطائف له عُرام وشدة، وأنه كسر هذا بالماء ثم شربه، فالأظهر فيه: أن عمر رضي الله عنه خشي أن يعرم ويشتد فتعجل كسره بالماء، وهذا موافق لقوله لا لقولهم أصلًا.

وقال أبو جعفر النحاس في هذا الحديث: هذا لعمري إسناد مستقيم ولا حجة لهم فيه، بل الحجة عليهم؛ لأنه إنما يقال: قطب لشدة حموضة الشيء، ومعنى قطب في كلام العرب: خالطت بياضه حمرة، مشتق من قطبت الشيء أقطبه: إذا خلطته.

قلت: كلام ابن حزم صادر عن غير روية وهو فاسد؛ لأن قوله: لأنه ليس فيه أن ذلك النبيذ كان مسكرًا تعليل فاسد؛ لأنا ما ادعينا أن ذلك النبيذ كان مسكرًا، ولا أحد يقول بذلك، ولا يجوز لأحد أيضًا أن ينسب عمر رضي الله عنه إلى شرب النبيذ المسكر، وإنما قلنا: إنه روي عنه إباحة القليل من النبيذ المشتد.

وقوله: ولا أنه كان مشتدًا. يُبطله قول عمر رضي الله عنه: "إن نبيذ الطائف له عُرام" أي شدة وقوة، وأيضًا لو لم يكن مشتدًا لما قطب عمر رضي الله عنه، ولا دعى بماء فصب عليه.

وقول النحاس يرده أيضًا ما في رواية ابن أبي شيبة، وهو قوله:"فلما ذاقه قطب" أي عبس وجهه لشدته، ولهذا طلب الماء فصب عليه حتى انكسرت شدته ثم شرب.

ص: 93

فالحاصل أن "قطب" هاهنا بمعنى عبس وجهه لشدته؛ بقرينة طلب الماء لكسر شدته، وبقرينة قوله:"إن نبيذ الطائف له عُرام" وإن كان قطب أيضًا تجيء بمعنى مزج، يقال: قطب الشراب وأقطبه: إذا مزجه.

فإن قيل: ذكر الأثرم في كتاب "الناسخ": أن عبد الله بن عمر العمري فسر "قطب" بمعنى كسره بالماء من شدة حلاوته.

قال: وكذلك قال الأوزاعي، قال: وأهل العلم أولى بالتفسير.

قلت: تفسير قطب بالمعنى المذكور لا يُنكر، ولكنه هاهنا لا يمشي هذا التفسير، لأن قول عمر رضي الله عنه:"إن نبيذ الطائف له عُرام" يستدعي كون ذلك النبيذ شديدًا في الحموضة، وهذا ينافي ما ذكره الأثرم؛ فافهم.

الطريق الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير بن معاوية بن خديج الكوفي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن ميمون الأودي الكوفي.

وهذا أيضًا إسناد صحيح، ورجاله ثقات أثبات.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، نحوه.

فإن قيل: قال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن أبا إسحاق لم يقل: حدثنا عمرو، وهو مدلس، فلا تقوم بحديثه حجة حتى يقول: حدثنا، وما أشبهه.

قلت: يرد هذا قول ابن حزم: هذا خبر صحيح. مع شدة قيامه في دفع ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية الذين احتجوا بهذا الحديث وأمثاله، وأيضًا فرجاله ثقات، وعدالتهم والاتصال فيما بينهم معروفة، فلا يُرد الخبر بما ذكره النحاس.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 80 رقم 23882).

ص: 94

الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحراني شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو السبيعي، عن عمرو بن ميمون.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر رضي الله عنه: "إنا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا، فمن رابه من شرابه شيء فليمزجه بالماء".

وقال ابن حزم: وهذا خبر صحيح، ولا حجة لهم فيه؛ لأن النبيذ الحلو اللفيف الشديد اللفة الذي لا يُسكر يقطع لحوم الإبل في الجوف، وليس في هذا الخبر أن عمر رضي الله عنه شرب من ذلك الشراب الذي شرب منه عمرو بن ميمون، فإذا ليس فيه دليل، فلا متعلق لهم بهذا الخبر أصلًا.

قلت: قول عمرو بن ميمون: "وشربت من نبيذه فكان كأشد النبيذ". يرد كلام ابن حزم على ما لا يخفى على المتأمل.

الرابع: عن روح بن الفرج أيضًا، عن عمرو بن خالد الحراني، شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عامر الشعبي، عن سعيد بن ذي لَعْوَة -بفتح اللام، وسكون العين المهملة، وفتح الواو، وفي آخره هاء- واسم ذي لعوة: عامر بن مالك.

وأخرجه أبو جعفر النحاس في كتابه "الناسخ والمنسوخ"(2) ثم قال: وابن ذي لعوة لا يُعرف. وقال ابن حزم: مجهول. وقال ابن حبان: شيخ دجال.

وقال البخاري: يخالف الناس في حديثه. وقال ابن الجوزي: وحديثه محال.

قلت: روى عنه مثل الشعبي وأبو إسحاق السبيعي، وذكره العجلي في "تاريخه" وقال: كوفي ثقة، وكذا ذكره أبو العرب القيرواني في "تاريخه" عن

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 79 رقم 23875).

(2)

"الناسخ والمنسوخ"(1/ 178).

ص: 95

يحيى بن معين، وذكره أبو أحمد العسكري في كتابه "معرف الصحابة"، وقال: يروي مرسلًا ولا تصح صحبته.

الخامس: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص النخعي شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث، عن سليمان الأعمش، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سعيد بن ذي حُدَّان -أو ابن ذي لعوة-.

وهذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات.

وقد ذكرنا أن سعيد بن ذي لعوة وثقه العجلي وغيره، ويقال له أيضًا: ابن ذي حُدَّان -بضم الحاء المهملة وتشديد الدال- وقال ابن حبان: وهم مَن قال فيه سعيد بن ذي حُدَّان.

قوله: "ظمئ" أي عطش يقال: ظَمِئَ يَظْمَأُ ظَمَأً، قال الله تعالى:{لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} (1) والاسم الظِمء -بالكسر- وقوم ظِماء أي عطاش.

قوله: "بسطيحة" قال ابن الأثير: السطيحة من المزاد: ما كان من جلدين قوبل أحدهما بالآخر فسطح عليه، وتكون صغيرة وكبيرة، وهي من أواني المياه.

وقال الجوهري: السطيحة: المزادة.

وحديث ابن ذي لعوة هذا صريح فيما أسكر كثيره، فالشرب من قليله مباح، ولا يحرم عليه من ذلك إلا المسكر، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لذلك الرجل الذي شرب من سطيحته فسكر:"إنما أضربك على السكر".

السادس: عن فهد أيضًا، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث النخعي، عن سليمان الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت دينار البصري، عن نافع بن علقمة.

وهذا إسناد صحيح في غاية الصحة.

(1) سورة التوبة، آية:[120].

ص: 96

فإن قلت: كيف تقول بذلك وقد قال أبو جعفر النحاس: وهذا الحديث فيه غير علة:

منها: أن حبيبًا على محله لا تقوم بحديثه حجة لمذهبه، وكان مذهبه أنه قال: إذا حدثني رجل عنك بحديث ثم حدثت به عنك كنت صادقًا. ومن هذا أنه روى عن عروة، عن عائشة حديث القبلة.

وقال الشافعي: لا يثبت بهذا حجة لانفراد حبيب به.

ومنها: أن نافعًا ليس بمشهور بالرواية، ولو صح الحديث عن عمر رضي الله عنه لما كانت فيه حجة؛ لأن اشتداده لا يكون من حموضته.

قلت: كيف يقول النحاس: لا تقوم بحبيب حجة وقد قال يحيى بن معين: حبيب بن أبي ثابت ثقة حجة. وقال ابن المبارك: قال سفيان: حدثنا ابن أبي ثابت وكان دعامة -أو كلمةً تشبهها- وكان مفتي الكوفة قبل حماد بن أبي سليمان؟!.

وقوله: نافع بن علقمة ليس بمشهور بالرواية غير صحيح؛ لأن أبا عمر بن عبد البر ذكره في كتاب "الاستيعاب" في جملة الصحابة، وقال: سمع النبي عليه السلام.

قال: وقيل: إن حديثه مرسل، وفي كتاب ابن أبي حاتم: يقال: إنه سمع من النبي عليه السلام.

قال: وسمعت أبي يقول: لا أعلم له صحبة، ولما ذكره أبو موسى المديني في كتابه "معرفة الصحابة" قال: ذكره ابن شاهين.

وأما قوله: لأن اشتداده قد يكون من حموضته. فهو قول بالظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا.

قوله: "قد أخلف": أي تغير، يقال: خَلِفَ الطعام واللبن إذا تغير طعمه أو رائحته، وأَخْلَف لغة فيه، يقال: أخلف فوه إذا تغير كما يقال: خَلِف فوه.

ص: 97

السابع: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن أبي المُعَذَّل -بضم الميم، وفتح العين المهملة، وتشديد الذال المعجمة المفتوحة- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه": ثنا ابن علية، عن الحذاء، عن أبي المعذل، عن ابن عمر "أن عمر رضي الله عنه نُبذ له في ذي خمس عشرة قائمة، فجاء فذاقه، فقال: كأنكم أقللتم عكره".

فإن قلتَ: قال ابن حزم: أبو المعذل مجهول، فلا يصح هذا الخبر.

قلتُ: قال أبو أحمد الحاكم: أبو المعذل الطفاوي -ويقال البكري- روى عن عبد الله بن عمر وأم سلمة، حديثه في البصريين، روى عنه خالد الحذاء وعوف ابن أبي جميلة الأعرابي وسماه عطية، وكذا قاله أبو العباس بن محمد عن يحيى بن معين، وفي كتاب الدارقطني: روى عن أبويه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وزاد في الرواة عنه: سلميان التيمي، فزال بحمد الله جهالة حاله وعينه.

قوله: "عكره" العكر -بفتحتين- دُرْدِيّ الشراب. قال الجوهري: عكر الشراب والماء والدهن: آخره وخاثره، والعكر: دُرْدِيّ الزيت ونحوه.

الثامن: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي صالح عبد الله بن صالح وراق الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي الصحابي.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث شعيب وغيره، عن الزهري، أخبرني معاذ بن عبد الرحمن التيمي، أن أباه عبد الرحمن بن عثمان قال: "صاحبت عمر رضي الله عنه إلى مكة، فأهدى له ركب من ثقيف سطيحتين من نبيذ -

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 305 رقم 17226).

ص: 98

والسطحة فوق الإداوة ودون المزادة- قال عبد الرحمن: فشرب عمر رضي الله عنه إحداهما، ثم أهدي له لبن فعدله عن شرب الآخر حتى اشتد ما فيها، فذهب عمر رضي الله عنه ليشرب منها فوجده قد اشتد، فقال: اكسروه بالماء".

فإن قيل: روى البيهقي هذا فقال: إنما كان اشتداده بالحموضة أو بالحلاوة.

قلت: يضعف هذا التأويل ما رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن ابن جريج، أخبرني إسماعيل:"أن رجلًا عبَّ في شراب نُبذَ لعمر رضي الله عنه بطريق المدينة فسكر، فتركه عمر رضي الله عنه حتى أفاق، فحده ثم أوجعه عمر بالماء فشرب منه".

قال: "ونبذ نافع بن الحارث لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في المزاد -وهو عامل له- فاستأخر عمر رضي الله عنه حتى عدا الشراب طوره، فدعى به عمر فوجده شديدًا، فأوجعه بالماء ثم شرب وسقى الناس".

فقوله. فسكر يضعف تأويل البيهقي.

التاسع: عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري. . . . إلى آخره.

وأخرج ابن شيبة في "مصنفه"(2): عن عبدة بن سليمان، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب:"أن قومًا من ثقيف لقوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قريب من مكة، فدعاهم بأنبذتهم، فأتوه بقدح من نبيذ، فقربه من فيه ثم دعى بماء فصبه عليه مرتين أو ثلاثًا، وقال: اكسروه بالماء".

قلت: هذا مرسل جيد.

ص: وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهو أحد النفر الذين رووا عن النبي عليه السلام: "كل مسكر حرام" قد روي عنه عن النبي عليه السلام ما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا

(1)"مصنف عبد الرزاق"(9/ 224 رقم 17015).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 80 رقم 23878).

ص: 99

أبو نعيم، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن عبد الملك ابن أخي القعقاع بن شور، عن ابن عمر قال:"شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب، فأدناه إلى فيه، فقطب فرده، فقال رجل: يا رسول الله، أحرامٌ هو؟ فرد الشراب ثم دعى بماء فصبه عليه -ذكر مرتين أو ثلاثًا- ثم قال: إذا اغتلمت هذه الأسقية عليكم فاكسروا متونها بالماء".

حدثنا وهبان بن عثمان البغدادي، قال: ثنا أبو همام، قال: ثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: حدثني قرة العجلي، قال: حدثني عبد الملك ابن أخي القعقاع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مثله.

حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: حدثني أسباط بن محمد، عن الشيباني، عن عبد الملك بن نافع قال:"سألت ابن عمر فقلت: إن أهلنا ينتبذون نبيذًا في سقاء لو أنهكته لأخذني؟ فقال ابن عمر: إنما البغي على مَن أراد البغي، شهدت رسول الله عليه السلام عند هذا الركن، فأتاه رجل بقدح من نبيذ. . . ." ثم ذكر مثل حديث ابن أمية، غير أنه قال:"فاكسروها بالماء".

ففي هذا إباحة قليل النبيذ الشديد، وأولى الأشياء بنا إذا كان قد روى هذا عن النبي عليه السلام، وروي عنه عن النبي عليه السلام:"كل مسكر حرام" أن يجعل كل واحد من القولين على معنى غير المعنى الذي عليه القول الآخر، فيكون قوله:"كل مسكر حرام" على المقدار الذي يُسكر من النبيذ، ويكون ما في الحديث الآخر على إباحة قليل النبيذ الشديد.

ش: ذكر هذا أيضًا شاهدًا لصحة التأويل الذي ذكره في قوله عليه السلام: "كل مسكر حرام" وهو أن المراد منه المقدار الذي يُسكر من النبيذ، بيانه: أن عبد الله بن عمر هو أحد الرواة عن النبي عليه السلام أنه قال: "كل مسكر حرام".

ثم روي عنه عن النبي عليه السلام ما فيه دلالة على إباحة قليل النبيذ الشديد، فدل ذلك أن المراد من قوله:"كل مسكر حرام" هو المقدار المسكر لا ما دون ذلك، كما ذكرناه مستقصًى.

ص: 100

وأخرج ما روي عنه عن النبي عليه السلام من ثلاث طرق:

الأول: عن أبي أمية عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين شيخ البخاري، عن عبد السلام بن حرب الملائي، عن ليث بن أبي سُليم القرشي، عن عبد الملك بن نافع الشيباني الكوفي ابن أخي القعقاع بن شور، ويقال: عبد الملك بن القعقاع، ويقال: عبد الملك بن أبي القعقاع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه النسائي (1): أنا زياد بن أيوب، ثنا هشيم، أنا العوام، عن عبد الملك بن نافع، قال: قال ابن عمر: "رأيت رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه نبيذ وهو عند الركن، ودفع إليه القدح، فرفعه إلى فيه فوجده شديدًا، فرده على صاحبه، فقال له رجل من القوم: يا رسول الله، أحرام هو؟ فقال: عليَّ بالرجل، فأتي به، فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه، ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضًا فصبه فيه، ثم قال: إذا اغتلمت عليكم هذا الأوعية فاكسروا متونها بالماء".

الثاني: عن وَهبان بن عثمان البغدادي، عن [. .](2)، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد هرمز البجلي الأحمسي، عن قرة العجلي، عن عبد الملك بن أخي القعقاع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا وكيع، عن إسماعيل، عن قرة العجلي، عن عبد الملك بن القعقاع، عن ابن عمر قال: "كنا عند النبي عليه السلام فأتي بقدح فيه شراب، فقربه ثم رده. فقال له بعض جلسائه: حرامٌ هو يا رسول الله؟

(1)"المجتبى"(8/ 323 رقم 5694).

(2)

بيض له المؤلف، والذي في السند هو أبو همام، وأبو همام الذي يروي عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة هو: الوليد بن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 78 رقم 23867).

ص: 101

قال: فقال: ردوه، فردوه، ثم دعى بماء فصب عليه ثم شرب، فقال: انظروا هذه الأشربة إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء".

الثالث: عن محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي، عن أسباط بن محمد القرشي، عن أبي إسحاق سليمان الشيباني، عن عبد الملك بن نافع. . . . إلى آخره.

وأخرجه النسائي (1): أخبرني زياد بن أيوب، عن أبي معاوية، ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن عبد الملك بن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام بنحوه.

وأخرجه الدارقطني (2): ثنا إسحاق بن محمد بن الفضل الزيات، ثنا يوسف ابن موسى، ثنا جرير، عن أبي إسحاق الشيباني، عن مالك بن القعقاع:"سألت ابن عمر عن النبيذ الشديد فقال: جلس رسول الله عليه السلام في مجلس، فوجد من رجل ريح نبيذ، فقال: ما هذه الرياح؟ قال: ريح نبيذ. قال: فأرسل فليؤت منه فأرسل فأتي به فوضع فيه رأسه فشمه ثم رجع فرده، حتى إذا قطع الرجل البطحاء رجع قال: أحرامٌ هو يا رسول الله أم حلال؟ قال: فوضع رأسه فيه فوجده شديدًا، فصب عليه الماء ثم شرب، قال: إذا اغتلمت أسقيتكم فاكسروها بالماء".

فإن قيل: قال البيهقي: عبد الملك مجهول، ويقال: ابن القعقاع، وقيل: ابن أبي القعقاع، وقيل: مالك بن القعقاع، وقيل: عبد الملك بن نافع. قال البخاري: لم يتابع على حديثه عن ابن عمر في النبيذ. وقال النسائي: ليس بمشهور ولا يحتج بحديثه، وقال الدارقطني: هو رجل مجهول ضعيف، والصحيح عن ابن عمر عن النبي عليه السلام:"ما أسكر كثيره فقليله حرام" وفي "العلل" عن ابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث منكر، وعبد الملك بن نافع شيخ مجهول. وقال في كتاب "الجرح والتعديل": شيخ مجهول لم يرو إلا حديثًا واحدًا، قطع الشيباني ذلك الحديث فجعله حديثين، لا يثبت حديثه، منكر الحديث.

(1)"المجتبى"(8/ 324 رقم 5695).

(2)

"سنن الدارقطني"(4/ 262 رقم 83).

ص: 102

وقال ابن حزم: أسباط بن محمد وليث بن أبي سُليم وقرة العجلي والعوَّام كلهم ضعفاء. وعن يحيى بن معين: قرة العجلي عن عبد الملك ابن أخي القعقاع ضعيف لا شيء. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه.

قلت: أما عبد الملك بن نافع فذكره ابن حبان في "الثقات"، حكى عنه صاحب "الجوهر النقي".

وأما أسباط بن محمد القرشي فإنه من رجال الصحيحين، وأخرجت له الجماعة، ووثقه يحيى بن معين ويعقوب بن شيبة، وفي رواية عن يحيى: ثَبْت. وذكره ابن حبان وابن شاهين في "الثقات".

وأما ليث بن أبي سُليم فلا يقال: إنه ضعيف على الإطلاق للاختلاف في حاله، وأكثر الناس وثقوه، فإطلاق الضعف عليه غير مقبول، واحتجت الأربعة بحديثه.

وأما قرة العجلي فقد ذكره ابن حبان في "الثقات".

قوله: "فقطب" أي عبس وجهه من التقطيب، وقد ذكرناه عن قريب.

قوله: "إذا اغتلمت هذه الأسقية" أي إذا جاوزت حدها الذي لا يُسكر إلى حدها الذي يُسكر. وأصله من غلم غلمةً واغتلم اغتلامًا. وهو هيجان شهوة النكاح من المرأة والرجل وغيرهما. والأسقية جمع سقاء وهي الدلو.

قوله: "متونها" أي قوتها وشدتها المتون والمتانة بمعنى.

قوله: "لو أنهكته" أي: لو بالغت في شربه وكثرت منه لأخذني من شدته وقوته.

قوله: "إنما البغي" البغي: مجاوزة الحد.

ص: وقد روي عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي عليه السلام نحو حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 103

أخبرنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: حدثني يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن منصور، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود رضي الله عنه قال:"عطش النبي عليه السلام حول الكعبة فاستسقى فأُتي بنبيذ من نبيذ السقاية، فشمه فقطب، فصب عليه ماء من ماء زمزم ثم شرب، فقال رجل: أحرام؟ فقال: لا".

ش: محمد بن سعيد بن الأصبهاني -شيخ البخاري.

ويحيى بن اليمان الكوفي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره.

وسفيان هو الثوري.

ومنصور هو ابن المعتمر.

وخالد بن سعد مولى أبي مسعود الأنصاري، وثقه يحيى وغيره، وروى له البخاري والنسائي وابن ماجه.

وأبو مسعود الأنصاري اسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة.

وأخرجه النسائى (1): عن الحسن بن إسماعيل بن سليمان، عن يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن خالد بن سعد، إلى آخره نحوه.

وقال النسائي: هذا خبر ضعيف؛ لأن يحيى بن اليمان انفرد به دون أصحاب سفيان، ويحيى لا يحتج به لسوء حفظه وكثرة خطئه.

وقال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا يحل لأحد من أهل العلم أن يحتج به؛ لأن ابن يمان انفرد به عن الثوري دون أصحابه، وابن اليمان ليس بحجة.

وأصل هذا الحديث أنه من رواية الكلبي، فغلط يحيى بن يمان فنقل متن حديث إلى حديث آخر، وقد سكت العلماء عن كل ما رواه الكلبي فلم يحتجوا بشيء منه.

ولما أخرج ابن أبي عاصم هذا الحديث في كتاب "الأشربة" قال: لا خلاف بين أهل الحديث والمعرفة أن هذا حديث منكر.

(1)" المجتبى"(8/ 325 رقم 5703).

ص: 104

ثم خالد بن سعد هو مجهول عندي لا يروي عنه إلا منصور، ومن لم يرو عنه إلا واحد فهو مجهول.

حدَّث عن أبي سعيد في "النهاية" وعن أم ولد لأبي مسعود: "أنها كنت تنبذ له في جَرٍّ أخضر". ولم يقل: سمعت أبا مسعود ولا حدثنا أبو مسعود، فأرى أن يكون بينه وبين أبي مسعود إنسان، فوجب أن لا يقبل خبره عن أبي مسعود إلا بأن يقول: حدثنا أو شبهه.

وقال أبو أحمد الجرجاني: الذي ينكر على خالد بن سعد حديث النبيذ وحديث "لا تتم على عبد نعمة إلا بالجنة" وفي موضع آخر روى عن أبي مسعود في النبيذ ولا يصح، هو موقوف.

وقال الدارقطني: حديث أبي مسعود معروف بيحيى بن يمان، ويقال: إنه انقلب عليه الإسناد واختلط عليه بحديث الكلبي عن أبي صالح، وقال ابن أبي حاتم في كتاب "العلل" (1): قال أبو زرعة: هذا إسناد باطل عن الثوري عن منصور، وَهِمَ فيه يحيى، وإنما ذاكرهم سفيان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب بن أبي وداعة مرسل. ولعل الثوري إنما ذكره تعجبًا من الكلبي حين حدث بهذا الحديث، ومُنْكِرًا عليه.

قال: وقال أبي: أخطأ ابن يمان في إسناده، والذي عندي أن يحيى دخل له حديث في حديث رواه الثوري عن منصور، عن خالد مولى أبي مسعود:"أنه كان يشرب نبيذ الجر".

وعن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب، عن النبي عليه السلام:"أنه كان يطوف بالبيت. . . ." الحديث.

فسقط عنه إسناد الكلبي وجعل إسناد منصور، عن خالد، عن أبي مسعود، لمتن حديث الكلبي، وقال أحمد: الكلبي متروك.

(1)"العلل" لابن أبي حاتم (2/ 25 - 26 رقم 1550 - 1552).

ص: 105

وأبو صالح اسمه باذان وهو ضعيف، وقال الأثرم في كتاب "الناسخ والمنسوخ": هذا حديث يحتج به من لا فهم له في العلم ولا معرفة له بأصوله، وقد سمعت من أبي عبد الله ومن غيره من أئمة الحديث كلامًا كثيرًا وبعضهم يزيد على بعض في تفسير قصته؛ فقال بعضهم: هذا حديث لا أصل له ولا فرع، قال: وإنما أصله من الكلبي وهو متروك، وكان ابن يمان عندهم ممن لا يحفظ الحديث ولا يكتبه؛ فكان يحدث من حفظه بأعاجيب، وهذا من أنكر ما روي.

قلت: هذا الكلام كله على يحيى بن يمان، ويحيى بن يمان من رجال مسلم والأربعة. وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال ابن المديني: صدوق. وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": ثقة، أحد أصحاب سفيان. وذكره ابن شاهين في كتاب "الثقات" وقال: قال عثمان بن أبي شيبة: كان صدوقًا ثقة. وقال الخليلي: ثقة.

وذكره البُستي في جملة "الثقات"، وقال العجلي: كان ثقة جائز الحديث، معروفًا بالحديث صدوقًا.

فإذا كان كذلك كيف يقال فيه: يحيى بن يمان لا يحتج به؟! وما بال حديثه يُضعف إذا انفرد.

وأما خالد بن سعد فإنه من رجال صحيح البخاري، فكيف يقول ابن أبي عاصم فيه: مجهول لا يروي عنه إلا منصور؟! وهذا فاسد؛ لأن إبراهيم النخعي وأبا حصين عثمان بن عاصم رويا عنه أيضًا، وقال يحيى بن معين: ثقة. وذكره ابن حبان وابن خلفون في كتاب "الثقات". وخرَّج البخاري حديثه في "صحيحه" على سبيل الاحتجاج به.

قوله: "من نبيذ السقاية" وهو ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام، وقد

ص: 106

ورد في الحديث "كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلَّا سقاية الحاج وسدانة البيت".

قوله: "فقطب" أي عبس وجهه من التقطيب.

ويستنبط منه:

إباحة القليل من النبيذ المشتد؛ لأنه يدل صريحًا عليه.

وأن ما أسكر كثيره فقليله يباح ما لم يُسكر، ألا ترى أنه عليه السلام قد شرب من نبيذ السقاية وكان مشتدًا، ولما سأله ذلك الرجل بقوله:"أحرام هو؟ فقال: لا" فدل أن الشرب من النبيذ المشتد مباح ما لم يُسكر. وقد احترق بعضهم في التشنيع على مَن يذهب إلى هذا الحديث وأمثاله، وقال هؤلاء: زعموا أنه عليه السلام شرب من نبيذ السقاية نبيذًا شديدًا، فجعلوه حجةً في تحليل المسكر، وأنه لم يقطب إلا من شدته، فيقال لهم: أيكون من النقيع ما يشتد وهو حلو قبل غليانه؟ فيقولون: لا. فيقال لهم: أرأيتم نبيذ السقاية أنقيع هو أم مطبوخ؟ فيقولون: نقيع. فإذا هم قد تكلموا بالكفر أو شبهه حين زعموا أن النبي عليه السلام شرب نقيعًا مشتدًا، وأنه لا يشتد حتى يغلي، وأنه إذا غلى النقيع فهو خمر.

فهم يرون بأنه خمر، وهم يزعمون بأن النبي عليه السلام قد شربه.

قلت: هذا كلام خباط؛ لأنهم متى حللوا المسكر حتى يقيموا عليه حجة: فهل يحلل المسلم المسكر؟! وهل يصدر من مسلم نسبة النبي عليه السلام إلى شرب المسكر من النبيذ؟! غاية ما في الباب أنهم قالوا: إن شرب القليل من النبيذ المشتد مباح، وما أسكر كثيره فقليله لا يحرم إلا بالإسكار. ثم احتجوا على ذلك بأنه عليه السلام قد شرب من نبيذ السقاية وكان مشتدًا، وشربه عليه السلام منه ما كان مسكرًا وإنما كان مشتدًا، فلذلك قطب، ثم صب عليه ماء من زمزم. ولكن هؤلاء لفرط تعصبهم وشدة حطهم على مَن يذهب إلى هذا المذهب يتكلمون بالخرافات من غير تروي، ولا مبالاة عما يترتب عليهم من ذلك عند الله تعالى.

ص: 107

ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذًا إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله، إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير أحدهما يقال له: المزر، والآخر يقال له: البِتع، فما نشرب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشربا، ولا تسكرا".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال:"بعثني رسول الله عليه السلام أنا ومعاذًا إلى اليمن، فقلنا: إنك بعثتنا إلى أرض كثير شراب أهلها. فقال: اشربا، ولا تشربا مسكرًا".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا الفضيل بن مرزوق، عن أبي إسحاق. . . . فذكر بإسناده مثله.

فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما حين سألاه عن البِتع: "اشربا ولا تسكرا" أو: "لا تشربا مسكرًا" كان ذلك دليلًا أن حكم المقدار الذي يسكر من ذلك الشراب خلاف حكم ما لا يُسكر منه، فدل ذلك أن ما ذكر أبو موسى عن رسول الله عليه السلام مما ذكرناه عنه في الفصل الأول من قوله:"كل مسكر حرام" إنما هو على المقدار الذي لا يُسكر، لا على العين التي كثيرها يسكر.

وقد روينا حديث أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها في جواب النبي عليه السلام للذي سأله عن البِتع بقوله:"كل شيء أسكر فهو حرام". فإن جعلنا ذلك على قليل الشراب الذي يسكر كثيره ضاد جواب النبي عليه السلام لمعاذ وأبي موسى، وإن جعلناه على تحريم السكر خاصة لا على تحريم الشراب في عينه وافق حديث أبي موسى. وأولى الأشياء بنا حمل الآثار على الوجوه التي لا تتضاد إذا حملت عليها.

ش: أي قد روي أيضًا -فيما ذكرنا من أن المراد من قوله عليه السلام: "كل مسكر حرام" هو المقدار الذي يُسكر- عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، فإنه

ص: 108

هو ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما لما سألا رسول الله عليه السلام عن البِتع قال لهما: "اشربا ولا تسكرا" وفي رواية قال: "اشربا، ولا تشربا مسكرًا" فدل ذلك أن المنهي هو المقدار الذي يُسكر لا مطلق الشراب؛ لأنه أباح لهما الشرب من البتع ونحوه بشرط عدم الإسكار، ودل أيضًا أن ما روى أبو موسى [عن النبي] (1) عليه السلام من قوله:"كل مسكر حرام" على ما مضى ذكره في هذا الباب إنما هو القدر الذي يُسكر لا مطلق الشراب، فلو لم يذهب إلى هذا التأويل يلزم التضاد بين حديث عائشة الذي فيه جواب النبي عليه السلام للذي سأله عن البتع بقوله:"كل شي أسكر فهو حرام" وبين حديث أبي موسى هذا، يظهر ذلك بالتأمل، والأولى -بل الأوجب- تنزيل معاني الآثار على الوجوه التي لا تتضاد إذا حملت عليها. وفيما ذكرنا من التأويل تتفق معاني الآثار، ويطابق بعضها بعضًا.

ثم إنه أخرج حديث أبي موسى من ثلاث طرق:

الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن يونس بن محمد المؤدب البغدادي، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي بردة عامر بن أبي موسى، عن أبيه أبي موسى الأشعري.

وذكره ابن حزم في "المحلى"(2) ثم قال: وهذا لا يصح؛ لأنه من طريق شريك، وشريك مدلس وضعيف فسقط. وقد رواه الثقات بخلاف هذا كما روينا من طريق عمرو بن دينار وزيد بن أبي أنيسة وشعبة بن الحجاج، كلهم عن سعيد بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي عليه السلام قال:"كل مسكر حرام، كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام، أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة"، فهذا هو الحق الثابت، لا رواية كل ضعيف ومدلس وكذاب ومجهول.

(1) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها.

(2)

"المحلى"(7/ 499).

ص: 109

وقال أبو عمر: هذه اللفظة يعني: "ولا تسكر" إنما رواها شريك وحده، والذي روى غيره:"ولا تشربوا مسكرًا".

قلت: قال يحيى بن معين: شريك صدوق ثقة إلا أنه إذا خالف فغيره أحب إلينا. وقال العجلي: كوفي ثقة، كان حسن الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ثقة. وقال الذهبي: شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي الحافظ الصادق، أحد الأئمة. وقال ابن المبارك: شريك أعلم بحديث الكوفيين من سفيان، واحتجت به الأربعة.

فهذا يرد كلام ابن حزم وغيره.

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو السبيعي عن أبي بردة عامر، عن أبيه أبي موسى.

وأخرجه النسائي (1): أنا أحمد بن عبد الله بن علي، ثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه قال:"بعثني رسول الله عليه السلام أنا ومعاذ إلى اليمن، فقال معاذ: إنك تبعثنا إلى أرض كثير شراب أهلها، فما أشرب؟ قال: اشرب، ولا تشرب مسكرًا".

الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن الفضل بن مرزوق الأغر الرقاشي الكوفي، عن أبي إسحاق. . . . إلى آخره.

وأخرجه البزار (2): ثنا عمرو بن علي، ثنا عبيد الله بن عبد المجيد، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: "بعثني رسول الله عليه السلام ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقال: بَشِّرا ولا تنفِّرا، ويَسِّرا ولا تُعَسِّرا. فقال

(1)"المجتبى"(8/ 298 رقم 5596).

(2)

"مسند البزار"(8/ 117 رقم 3119).

ص: 110

معاذ: إنك تبعثنا إلى أرض كثيرة الأشربة، فما نشرب؟ قال: اشربوا، ولا تشربوا مسكرًا".

ص: وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في ذلك أيضًا ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن أبيه، عن لبيد بن شماس، قال: قال عبد الله: "إن القوم ليجلسون على الشراب وهو حل لهم، فما يزالون حتى يحرم عليهم".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا حماد، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس:"أنه أكل مع عبد الله بن مسعود خبزًا ولحمًا. قال: فأتينا بنبيذ شديد نبذته امرأته سيرين في جرة خضراء، فشربوا منه".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم وغيره، قالوا: أنا جرير، قال: ثنا حجاج، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة قال:"سألت ابن مسعود عن قول رسول الله عليه السلام في المسكر، فقال: الشربة الأخيرة".

فهذا عبد الله بن مسعود قد روي عنه في إباحة قليل النبيذ الشديد من فعله وقوله ما ذكرنا، ومن تفسيره قول رسول الله عليه السلام:"كل مسكر حرام" على ما وصفنا.

ش: أي قد روي عن عبد الله بن مسعود أيضًا فيما ذكرنا من أن المراد من قوله عليه السلام: "كل مسكر حرام" هو المقدار الذي يُسكر، وأن القليل من النبيذ الشديد مباح؛ وذلك لأنه صرح بقوله:"إن المحرم هو الشربة الأخيرة" في تفسير قوله عليه السلام: "كل مسكر حرام"، وفعله أيضًا طابق قوله؛ وذلك لأن علقمة قد حكى عنه أنه شرب نبيذًا مشتدًا كان قد عمل في جرة خضراء، فهذا فعله، وقوله: وتفسيره قول النبي عليه السلام: "كل مسكر حرام" دل على إباحة شرب القليل من النبيذ الشديد، وعلى أن المراد من قوله عليه السلام:"كل مسكر حرام" هو المقدار الذي يُسكر.

ص: 111

ئم إنه أخرج عن ابن مسعود من ثلاث طرق:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمد بن كثير العبدي شيخ البخاري وأبي داود، عن سفيان الثوري، عن أبيه سعيد بن مسروق، عن لبيد بن شماس.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن شماس، قال: قال عبد الله: "ما يزال القوم وإن شرابهم لحلال [فما يقومون] (2) حتى يصير عليهم حرامًا".

فإن قلت: قال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا يصح؛ لأن لبيدًا اختلف في اسمه، فقيل: لبيد بن شماس، وقيل: شماس بن لبيد، وهو لا يعرف، ولم يرو عنه أحد إلا سعيد بن مسروق، ولا رُوِيَ عنه إلا هذا الحديث، والمجهول لا تقوم به حجة. وكذا قال ابن حزم: لبيد مجهول.

قلت: لبيد بن شماس هو شماس بن لبيد، وكلاهما واحد، وقد ذكر ابن حبان شماسًا في كتاب الثقات، فزالت الجهالة بذلك.

الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن حزم (3) وقال: هذا خبر صحيح، وليس في شيء مما أوردوا لقولهم وفاق إلا هذا الخبر وحده، إلا أنه يسقط تعلقهم به بثلاثة أوجه.

أحدها: أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله عليه السلام.

والثاني: أنه قد صح عن ابن مسعود تحريم كل ما قل أو كثر

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 80 رقم 23881).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف".

(3)

"المحلى"(7/ 489).

ص: 112

مما يُسكر كثيره، وعن غيره من الصحابة أيضًا، وإذا اختلف قوله وخالفه غيره من الصحابة فليس بعضه أولى من بعض.

والثالث: أنه قد يحتمل أن يكون قول علقمة نبيذًا شديدًا، أي: خاثرًا لفيفًا حلوًا فهذا ممكن.

قلت: يكفينا اعتراف الخصم بصحة ما احتججنا به، ثم قوله:"إلا أنه يسقط. . . ." إلى آخره فيه أشياء:

أما الأول: فلأن فعل الصحابي وقوله حجة.

وأما الثاني: فقد صح عنه ما ادعينا، وإن كان صح عنه غيره أيضًا.

وأما الثالث: فهو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا.

قوله: "نبذته امرأته سرين". أي امرأة عبد الله بن مسعود، وهي أم أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود.

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد المروزي وغيره، عن جرير بن عبد الحميد، عن الحجاج بن أرطاة النخعي، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس. . . . إلى آخره.

وأخرجه الدارقطني (1): ثنا الحسن بن أحمد بن سعيد الرهاوي، ثنا العباس ابن عبيد الله، ثنا عمار بن مطر، ثنا جرير بن عبد الحميد، عن الحجاج، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام قال:"كل مسكر حرام، قال عبد الله: هي الشربة التي أسكرتك".

قال: وحدثنا عمار بن مطر، ثنا شريك، عن أبي حمزة، عن إبراهيم.

قوله: "كل مسكر حرام؛ هي الشربة التي أسكرتك". وهذا أصح من الذي قبله، ولم يسنده غير الحجاج، واختلف عنه.

(1)"سنن الدارقطني"(4/ 250 رقم 23).

ص: 113

وعمار بن مطر ضعيف. وحجاج ضعيف وإنما هو من قول إبراهيم النخعي.

حدثنا (1) أبو سعيد محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن مشكان المروزي، ثنا عبد الله بن محمود، ثنا العباس بن زرارة، ثنا جرير، عن الحجاج، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود قال:"كل مسكر حرام؛ هي الشربة التي تُسكرك".

حدثنا (2) أبو سعيد، ثنا عبد الله بن محمود، ثنا عبد الكريم بن عبد الله، عن وهب بن زمعة، عن سفيان بن عبد الملك، أنه ذكر عنده حديث ابن مسعود:"هي الشربة التي تسكرك". فقال عبد الله بن المبارك: هذا حديث باطل.

ثنا (3) أحمد بن محمد بن زياد، ثنا محمد بن حماد بن ماهان، ثنا عيسى بن إبراهيم، ثنا المعافي بن عمران، عن مسعر بن كدام، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال في هذا الحديث الذي جاء:"كل مسكر حرام، هو القدح الذي يُسكر منه". هذا هو الصحيح عن حماد أنه من قول إبراهيم انتهى.

قلت: صرَّح علقمة بأنه سأل ابن مسعود رضي الله عنه عن قوله عليه السلام: "كل مسكر حرام" فأجاب عنه بأنه الشربة الأخيرة. ولئن سلمنا أن هذا من قول إبراهيم النخعي، ففيه كفاية في هذا التفسير. وإبراهيم ليس بقليل.

ص: وقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ما يدل على هذا أيضًا:

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن قيس بن حبتر قال: "سألت ابن عباس عن الخمر الأبيض والخمر الأحمر؟ فقال: إن أول من سأل النبي عليه السلام عن ذلك وفد عبد القيس، فقال: لا تشربوا في الدباء ولا في المزفت ولا في النقير، واشربوا في الأسقية، فقالوا:

(1)"سنن الدارقطني"(4/ 251 رقم 24).

(2)

"سنن الدارقطني"(4/ 251 رقم 25).

(3)

"سنن الدارقطني"(4/ 251 رقم 26).

ص: 114

يا رسول الله فإن اشتد في الأسقية؟ فقال: صبوا عليه من الماء. وقال لهم في الثالثة أو الرابعة: فأهريقوه".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا إسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس:"أنه سئل عن الجَرّ. . . ." فذكر مثل ذلك.

ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام أباح لهم أن يشربوا نبيذ الأسقية وإن اشتد.

ش: أي: فقد روي عن ابن عباس أيضًا ما يدل على أن شرب القليل من الشديد مباح؛ فإنه أخبر في حديثه أنه عليه السلام أباح الشرب من نبيذ الأسقية وإن كان شديدًا، ودل ذلك على أن معنى قوله عليه السلام:"كل مسكر حرام" هو المقدار المسكر.

وأخرجه من طريقين صحيحين.

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الأسدي، عن سفيان الثوري، عن علي بن بذيمة الجزري الحراني، عن قيس بن حبتر -بفتح الحاء المهملة، وسكون الباء الموحدة، وفتح التاء المثناة من فوق- التميمي النهشلي الكوفي، عن ابن عباس.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، قال: حدثني قيس بن حبتر النهشلي، عن ابن عباس قال: "إن وفد عبد القيس قالوا: يا رسول الله، فيما نشرب؟ قال: لا تشربوا في الدباء ولا في النقير ولا في المزفت، وانتبذوا في الأسقية. فقالوا: يا رسول الله، فإن اشتد في الأسقية؟ قال: فصبوا عليه الماء. قالوا: يا رسول الله، فقال لهم -في

(1)"سنن أبي داود"(3/ 331 رقم 3696).

ص: 115

الثالثة أو الرابعة-: أهريقوه. ثم قال: إن الله حرَّم عليَّ -أو حرَّم- الخمر والميسر والكوبة، وقال: كل مسكر حرام. قال سفيان: فسألت علي بن بذيمة عن الكوبة فقال: الطبل".

فإن قيل: كيف تقول: وإسناد هذا صحيح وقد قال ابن حزم: قيس بن حبتر مجهول؟! ولما أخرجه البيهقي في "سننه" قال: إسناده ضعيف، وخالفه أبو جمرة عن ابن عباس، فذكر الكسر بالماء من قول ابن عباس.

ثم أخرج من حديث عاصم بن علي، ثنا شعبة، أخبرني أبو جمرة، قال:"كان ابن عباس يُقعدني على سريره. . . ." فذكر الحديث. ثم قال: "قلت: إن عبد القيس ينبذ في مزاد نبيذًا شديدًا. قال: فإذا خشيت شدته فاكسره بالماء، إن عبد القيس لما أتوا رسول الله عليه السلام. . . ." الحديث. وإنما أراد الكسر بالماء في هذا وفي غيره إذا خشي شدته قبل بلوغه إلى حد الإسكار، بدليل قوله:"كل مسكر حرام" والحرام لا يحله دخول الماء فيه.

قلت: أما قول ابن حزم: قيس بن حبتر مجهول فلا يصح عنه ذلك؛ لأن أبا زرعة قال فيه: ثقة كوفي كان يكون بالجزيرة. وقال النسائي وابن حبان: ثقة. وأما قول البيهقي: إسناده ضعيف. فغير مُسَلَّم؛ لأن رجاله ثقات. وأما مخالفة أبي جمرة فلا تضر؛ لأن الزيادة من الثقة مقبولة.

الطريق الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن علي بن بذيمة. . . . إلى آخره.

وأخرجه البيهقي (1): من حديث إسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس قال: "إن أول من سأل رسول الله عن النبيذ: عبد القيس، أتوه فقالوا: يا رسول الله، إنا بأرض ريف، وإنا نصيب من البقل، فمُرنا بشراب. قال: اشربوا في الأسقية، ولا تشربوا في الجر، ولا في الدباء، ولا

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 303 رقم 17208).

ص: 116

المزفت، ولا النقير، وإني نُهيت عن الخمر والميسر والكوبة -وهي الطبل- وكل مسكر حرام. قالوا: يا رسول الله، فإذا اشتد؟ قال: صُبوا عليه الماء. قال -في الثالثة أو الرابعة-: فإذا اشتد فأهريقوه".

قوله: "في الدباء" هي القرع واحدها دباءة، ووزن الدباء فُعَّال ولامه همزة؛ لأنه لم يعرف انقلاب لامه عن واو أو ياء. قاله الزمخشري، وأخرجه الهروي في باب "الدال مع الباء" على أن الهمزة زائدة.

وأخرجه الجوهري في المعتل على أن همزته منقلبة، وكأنه أشبه، وكانوا ينتبذون في الدباء فَتُسرع الشدة في الشراب.

وتحريم الانتباذ في الظروف المذكورة كان في صدر الإسلام ثم نسخ، وهو المذهب، وذهب مالك وأحمد إلى بقاء التحريم.

و"المزفت" هو الإناء الذي طلي بالزفت، وهو نوع من القار.

و"النقير" هو أصل النخلة يُنقر وسطه، ثم ينبذ فيه التمر ويلقى عليه الماء ليصير نبيذًا مسكرًا والنهي واقع على ما يعمل فيه لا على اتخاذ النقير، وهو فعيل بمعنى مفعول.

ص: فإن قال قائل: فإن في أمره إياهم بإهراقه بعد ذلك دليل على نسخ ما تقدم من الإباحة.

قيل له: وكيف يكون ذلك كذلك؟! وقد روي عن ابن عباس من كلامه بعد رسول الله عليه السلام: "حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب" وقد ذكرنا بإسناده فيما تقدم من هذا الكتاب، وهو الذي روي عنه ما ذكرت، فدل ذلك أن التحريم في الأشربة كان على الخمر بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من غيرها، فكيف يجوز على ابن عباس مع علمه وفضله أن يكون قد روى عن النبي عليه السلام ما يوجب تحريم النبيذ الشديد، ثم يقول: حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب، فيعلم الناس أن قليل الشراب من غير الخمر وإن كان كثيره يُسكر حلال؟! هذا غير جائز عليه

ص: 117

عندنا، ولكن معنى ما أراد بإهراق النبيذ في حديث قيس: أنه لم يأمنهم عليه أن يُسرعوا في شربه فيسكروا السكر المحرم عليهم، فأمرهم بإهراقه لذلك.

ش: هذا السؤال مع جوابه ظاهران.

قوله: "فيما تقدم من هذا الكتاب" ذكره في الباب المتقدم عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم، عن مسعر بن كدام، عن أبي عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقد مرَّ الكلام فيه هناك مستوفىً.

ص: وقد روي في مثل هذا أيضًا ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عثمان بن الهيثم المؤذن، قال: ثنا عوف بن أبي جميلة، قال: حدثني أبو القموص زيد بن علي، عن أحد الوفد الذين وفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وفد عبد القيس إلا يكون قيس بن النعمان فإني قد نسيت اسمه:"أنهم سألوه عن الأشربة، فقال: لا تشربوا في الدباء ولا في النقير، واشربوا في السقاء الحلال الموكأ عليه، فإن اشتد منه فاكسروه بالماء، فإن أعياكم فأهريقوه".

ش: أي وقد روي أيضًا في مثل ما ذكرنا -من أن أمره عليه السلام بالإهراق إنما كان خوفًا عليهم أن يسرعوا في شربه فيسكروا السكر المحرم عليهم فأمرهم بإهراقه لذلك لا لأن شرب النبيذ الذي لا يسكر قليله يحرم ككثيره إذا أسكر-: ما حدثنا محمد بن خزيمة بن راشد، عن عثمان بن الهيثم بن جهم بن عيسى القصري العبدي البصري مؤذن الجامع بالبصرة وشيخ البخاري، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن أبي القَمُوص -بفتح القاف، وضم الميم- زيد بن علي العبدي، ويقال: الكندي، عن قيس بن النعمان السكوني الصحابي رضي الله عنه فيما يحسب عوف الأعرابي.

وهذا إسناد صحيح.

ص: 118

وأخرجه أبو داود (1): ثنا وهب بن بقية، قال: ثنا خالد، عن عوف، عن أبي القموص زيد بن علي، قال: حدثني رجل كان من الوفد الذين وفدوا إلى رسول الله عليه السلام من عبد القيس يحسب عوف أن اسمه قيس بن النعمان فقال: "لا تشربوا في نقير ولا مزفت ولا دباء ولا حنتم، واشربوا في الجلد الموكَأ عليه، فإن اشتد فاكسروه بالماء، فإن أعياكم فأهريقوه".

وأخرجه البيهقي (2): من حديث عثمان بن الهيثم، ثنا عوف، عن أبي القموص زيد بن علي، عن أحد الوفد الذين وفدوا إلى النبي عليه السلام من عبد القيس إلا يكون قيس بن النعمان فإني نسيت اسمه، قال:"فقال رجل منا: يا رسول الله، إن أرضنا أرض وَبِيَّة، وإنه لا يوافقها إلا الشراب، فما الذي يحل لنا من الآنية؟ وما الذي يحرم علينا؟ قال: لا تشربوا في الدباء ولا النقير ولا المزفت، واشربوا في الحلال -أو قال: في الجلد الموكَأ عليه- فإن اشتد متنه فاكسروه بالماء، فإن أعياكم فأهريقوه".

قال البيهقي: فالروايات الثابتة عن وفد عبد القيس خالية من هذه اللفظة، وفي إسناده من يجهل.

قلت: رجال هذه الرواية كلهم ثقات، والزيادة من الثقات مقبولة، وجهالة الصحابي لا تضر صحة الإسناد على ما عرف.

قوله: "في السقاء الحلال" السقاء -بكسر السين-: ظرف الماء من الجلد، وتجمع على أسقية.

قوله: "الحلال" منصوب؛ لأنه مفعول "اشربوا" وهو ضد الحرام.

قوله: "الموكأ عليه" أي المشدود الرأس؛ لأن السقاء الموكأ قل ما يغفل عنه صاحبه لئلا يشتد فيه الشراب فينشق فيتعهده كثيرًا، يقال: أوكأت السقاء أوكئه إيكاء فهو موكأ.

(1)"سنن أبي داود"(3/ 331 رقم 3695).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 302 رقم 17206).

ص: 119

قوله: "فإن أعياكم" أي غلبكم من شدته ولم يكسر بالماء.

"فأهريقوه" أي أريقوه، من الإراقة، والهاء زائدة.

ص: فإن قال قائل: فقد رويت في هذا الباب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما ذكرت من حديث عمرو بن ميمون وغيره. وقد روي عنه خلاف ذلك، فذكر ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني السائب بن يزيد: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج فصلى على جنازة، ثم أقبل على القوم فقال لهم: إني وجدت آنفًا من عبيد الله بن عمر ريح شراب، فسألته عنه فزعم أنه طلاء، وإني سائل عنه فإن كان يُسكر جلدته. قال: ثم شهدت عمر رضي الله عنه بعد ذلك جلد عبيد الله ثمانين في ريح الشراب الذي وجد منه".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان يسكر جلدته، فجلده عمر رضي الله عنه الحد تامًّا".

قال: فهذا عمر قد حَدَّ في الشراب الذي يسكر، فهذا مخالف لما رويتم عن عمرو بن ميمون وغيره، عنه.

قيل له: ما هذا مخالف لذلك؛ لأن عمر رضي الله عنه قال في هذا الحديث: "وأنا سائل عما شرب، فإن كان يُسكر جلدته" فقد يحتمل أن يكون أراد بذلك المقدار الذي شرب. أي فإن كان ذلك المقدار يُسكر فقد علمت أنه قد سَكِر ووجب الحد عليه، وهدا أولى ما حمل عليه تأويل هذا الحديث حتى لا يضاد ما سواه من الأحاديث التي قد رويت عن عمر رضي الله عنه.

ش: هذا السؤال مثل الاعتراض من أهل المقالة الأولى. وهو وجوابه ظاهران.

وخرج الأثر المذكور عن عمر من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ

ص: 120

البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن السائب ابن يزيد بن سعيد الكندي الصحابي رضي الله عنه.

وقد أخرج الطحاوي هذا في باب "حد الخمر" عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد.

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن السائب بن يزيد.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1).

قوله: "طلاء" بالمد، وقد مَرَّ تفسيره مستوفىً.

وقد احتج مالك بهذا على وجوب الحد بوجود رائحة الخمر. وهو رواية عن أحمد.

وقال ابن قدامة: ولا يجب الحد بوجود رائحة الخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم، منهم: الثوري وأبو حنيفة، والشافعي. وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك. وهو قول مالك؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه جلد رجلًا وجد منه رائحة الخمر، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:"إني وجدت من عبيد الله ريح شراب، فأقر أنه شرب الطلاء، فقال عمر: إني سائل عنه، فإن كان يُسكر جلدته". ولأن الرائحة تدل على شربه، فجرى مجرى الإقرار.

والأول أولى؛ لأن الرائحة يحتمل أن تمضمض بها أو حسبها ماءً، فلما صار في فيه مجَّها، أو ظنها لا تُسكر، أو كان مكرهًا، أو أكل نبقًا بالغًا، أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يُدرأ بالشبهات.

والحديث حجة لنا؛ فإن عمر رضي الله عنه لم يحده بوجود الرائحة، ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر رضي الله عنه.

(1)"موطأ مالك"(2/ 842 رقم 1532).

ص: 121

ص: وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا في هذا ما حدثنا ربيع المؤذن قال: ثنا أسد بن موسى قال: ثنا مسلم بن خالد قال: حدثني زيد بن أسلم، عن سمي مولى أبي بكر رضي الله عنه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعامًا فليأكل من طعامه ولا يسأل عنه، فإن سقاه شرابًا فليشرب منه ولا يسأل عنه، فإن خشي منه فليكسره بشيء".

ففي هذا الحديث إباحة شرب النبيذ الشديد.

ش: أي قد روي عن أبي هريرة أيضًا فيما ذكرنا من إباحة شرب النبيذ القليل من النبيذ المشتد.

أخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى صاحب "المسند"، عن مسلم بن خالد المكي المعروف بالزنجي شيخ الشافعي، عن زيد بن أسلم القرشي، عن سُمي القرشي المخزومي المدني مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي صالح ذكوان الزيات المدني، عن أبي هريرة.

وهؤلاء كلهم ثقات غير الزنجي شيخ الشافعي فإن فيه مقالًا.

وأخرجه الدارقطني (1) وقال: قرئ على عبد الله بن محمد بن عبد العزيز وأنا أسمع، حدثكم علي بن الجعد، ثنا الزنجي بن خالد، ثنا زيد بن أسلم، عن سُمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه، فليأكل من طعامه ولا يسأله، وإن سقاه شرابًا فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه. وإن خشي منه فليكسره بالماء".

فإن قيل: هذا حديث ضعيف معلول بالزنجي فكيف يحتج به؟!

قلت: كثيرًا ما يحتج الخصم بحديث الزنجي أيضا، فمهما أجاب عنه إذا قيل له: كيف تحتج بحديث الزنجي وهو ضعيف؟! فهو جوابنا هاهنا، على أن هذا الحديث قد شدَّه ما رواه سفيان بن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن سعيد بن

(1)"سنن الدارقطني"(4/ 258 رقم 65).

ص: 122

أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال:"إذا أطعمك أخوك المسلم طعامًا فكل، وإذا سقاك شرابًا فاشرب، وإن رابك فأشجه بالماء".

قال ابن حزم: هذا خبر صحيح.

قوله: "فاشججه" بالشين المعجمة والجيمين، من شَجَّ الشراب: إذا مزجه بالماء.

فإن قيل: صح عن أبي هريرة من قوله عليه السلام: "كل مسكر حرام" فهذا ينافي ما روي عنه من المذكور.

قلت: لا منافاة؛ لأنا قد ذكرنا أن المراد من قوله عليه السلام: "كل مسكر حرام" هو القدر المسكر، ويؤيد ذلك ما رواه وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي لبيد، عن سالم، سمع أبا هريرة يقول:"مَن رابه من نبيذه فليسنّ عليه الماء، فيذهب حرامه ويبقي حلاله"، والله أعلم.

ص: فإن قال قائل: إنما أباحه بعد كسره بالماء وذهاب شدته.

قيل له: هذا كلام فاسد؛ لأنه لو كان في حال شدته حرامًا لكان لا يحل وإن ذهبت شدته بصب الماء عليه، ألا ترى أن خمرًا لو صُبَّ فيها ماء حتى غلب الماء عليها أن ذلك الماء حرام.

فلما كان قد أبيح في هذا الحديث الشراب الشديد إذا كُسر بالماء؛ ثبت بذلك أنه قبل أن يكسر بالماء غير حرام، فقد ثبت بما روينا في هذا الباب إباحة ما لا يُسكر من النبيذ الشديد، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن حديث أبي هريرة المذكور لا يدل على إباحة شرب القليل من النبيذ المشتد مطلقًا؛ لأنه إنما أباح عليه السلام شربه بعد كسره بالماء وذهاب شدته، فدل على أنه قبل ذلك غير مباح.

والجواب ظاهر.

قوله: "في هذا الحديث" أراد به حديث أبي هريرة.

ص: 123