المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب مواريث ذوي الأرحام - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٦

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الإقرار بالسرقة التى توجب القطع

- ‌ص: باب الرجل يستعير الحلي ولا يرده هل يجب عليه في ذلك قطع أم لا

- ‌ص: باب سرقة الثمر والكَثَر

- ‌ص: كتاب الأشربة

- ‌ص: باب الخمر المحرمة ما هي

- ‌ص: باب ما يحرم من النبيذ

- ‌ص: باب الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت

- ‌ص: كتاب الوصايا

- ‌ص: باب ما يجوز فيه الوصايا من الأموال، وما يفعله المريض في مرضه الذي يموت فيه من الهبات والصدقات والعتاق

- ‌ص: باب الرجل يوصي بثلث ماله لقرابته أو لقرابة فلان، مَنْ هم

- ‌ص: كتاب الفرائض

- ‌ص: باب الرجل يموت ويترك ابنةً وأختًا وعصبةً سواها

- ‌ص: باب مواريث ذوي الأرحام

- ‌ص: كتاب المزارعة

- ‌ص: باب الرجل يزرع في أرض القوم بغير إذنهم، كيف حكمهم في ذلك؟ وما يروى عن رسول الله عليه السلام في ذلك

- ‌ص: كتاب الإجارات

- ‌ص: باب الاستئجار على تعليم القرآن هل يجوز أم لا

- ‌ص: باب الجعل على الحجامة هل يجوز ذلك أم لا

- ‌ص: كتاب اللقطة والضالة

- ‌ص: كتاب الزيادات من شرح معاني الآثار

- ‌ص: باب صلاة العيدين كيف التكبير فيهما

- ‌ص: باب حكم المرأة في مالها

- ‌ص: باب ما يفعله المصلي بعد رفعه من السجدة الثانية من الركعة الأولى

- ‌ص: باب ما يجب للمملوك على مولاه من الكسوة والطعام

- ‌ص: باب إنشاد الشعر في المساجد

- ‌ص: باب شراء الشيء الغائب

- ‌ص: باب تزويج الأب ابنته البكر هل يحتاج في ذلك إلى استئمارها

- ‌ص: باب المقدار الذي يحرم على مالكيه أخذ الصدقة

- ‌ص: باب فرض الزكاة في الإبل السائمة فيما زاد على عشرين ومائة

الفصل: ‌ص: باب مواريث ذوي الأرحام

‌ص: باب مواريث ذوي الأرحام

ش: أي هذا باب في مواريث ذوي الأرحام، والمواريث جمع ميراث، والأرحام جمع رحم وهو خلاف الأجنبي، وهو في الأصل منبت الرجل، ثم سميت القرابة والوصلة من جهة الولادة رحمًا لهذا.

وفي الشريعة عبارة عن كل قريب ليس بذي سهم ولا عَصَبَة، وقال ابن الأثير في "النهاية": ذو الرحم: الأقارب، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب، ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار:"أن رجلًا من الأنصار جاء إلى رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله، رجل هلك وترك عمته وخالته، فسأل النبي عليه السلام وهو واقف على حماره، فوقف ثم رفع يديه وقال: اللهم مات رجل وترك عمته وخالته فيسأله الرجل ويفعل النبي عليه السلام ذلك -ثلاث مرات- ثم قال: لا شيء لهما".

حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني حفص بن ميسرة وهشام بن سعد وعبد الرحمن بن زيد، عن زيد بن أسلم:"أن رسول الله عليه السلام دعي إلى جنازة من الأنصار، حتى إذا جاءها قال لهم رسول الله عليه السلام: ما ترك؟ قالوا: ترك عمته وخالته، ثم تقدم فقال: قفوا الحمار، فوقف فقال: اللهم رجل ترك عمته وخالته فلم ينزل عليه شيء، فقال رسول الله عليه السلام: لا أجد لهما شيئًا".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم ومحمد بن عبد الرحمن بن المجبرَّ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: "أتى رجل من أهل العالية رسول الله عليه السلام، فقال:

ص: 242

يا رسول الله، إن رجلًا هلك وترك عمته وخالته، فانطلق يقسم ميراثه، فتبعه رسول الله عليه السلام على حمار، فقال: يا رب رجل ترك عمةً وخالةً، ثم سار هنيَّة ثم قال: يا رب رجل ترك عمةً وخالةً، ثم سار هنيَّة، ثم قال: يا رب رجل ترك عمةً وخالةً، ثم قال: لا أرى ينزل عليَّ شيء؛ لا شيء لهما".

ش: هذه ثلاث طرق منقطعة:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى. . . . إلى آخره، ورجاله ثقات.

وأخرجه أبو داود في "المراسيل"(1): نا عبد الله بن مسلمة، نا عبد العزيز -يعني ابن محمد- عن زيد بن أسلم، عن عطاء:"أن رسول الله عليه السلام ركب إلى قباء يستخير في ميراث العمة والخالة، فأنزل الله عليه: لا ميراث لهما".

الثاني: عن بحر بن نصر. . . . إلى آخره. وعبد الرحمن بن زيد هو ابن زيد بن أسلم، ضعفه جماعة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا وكيع، قال: ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال:"دعي رسول الله عليه السلام إلى جنازة رجل من الأنصار، فجاء على حمار فقال: ما ترك؟ قالوا: ترك عمةً وخالةً، قال رسول الله عليه السلام: رجل مات وترك عمةً وخالةً، ثم سار، ثم قال: رجل مات وترك عمةً وخالةً، ثم قال: لم أجد لهما شيئًا".

الثالث: عن علي بن شيبة. . . . إلى آخره.

ومحمد بن مطرف -ويقال: ابن طريف، ومطرف أصح- أبو غسان الليثي المدني روى له الجماعة.

ومحمد بن عبد الرحمن بن المجبر -بالجيم والباء الموحدة- فيه مقال، فعن يحيى: ليس بشيء. وقال أبو زرعة: واهي الحديث. وقال ابن حبان: لا يحتج به.

(1)"المراسيل لأبي داود"(1/ 263 رقم 361).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 249 رقم 31123).

ص: 243

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث محمد بن مطرف .. إلى آخره نحوه.

قوله: من "أهل العالية". قد ذكرنا غير مرة أن العالية أماكن بأعلى أرض المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وتجمع على عوالي.

قوله: "هنية" أي قليلًا من الزمان، وهو تصغير هنة، ويقال له: هنيهة أيضًا.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا مات وترك ذا رحم ليس بعَصَبَة ولم يترك عَصَبَةً غيره أنه لا يرث من ماله شيئًا. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب، ومكحولًا، والأوزاعي، ومالكًا، والشافعي، وأهل المدينة، وأهل الظاهر، فإنهم قالوا: لا ميراث لذوي الأرحام، فمن مات ولم يخلف وارثًا ذا فرض أو عَصَبَة فماله لبيت المال، إلا أن أصحاب الشافعي يفتون اليوم بتوريث ذوي الأرحام على قول أهل التنزيل لفساد بيت المال، ونقلوا مذهبهم ذلك عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: يرث ذو الرحم إذا لم يكن عصبة بالرحم التي بينه وبين الميت، كما يورث بالرحم التي يُدْلي بها، فيكون للعمة الثلثان، وللخالة الثلث؛ لأنها تدلي برحم الأم.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي، والنخعي وشريحًا القاضي، ومسروق بن الأجدع، وعلقمة بن الأسود، وطاوسًا، والثوري، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، ويحيى بن آدم، وضرار بن صرد، ونوح بن دراج، وأبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمدًا، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه؛ فإنهم قالوا بتوريث ذوي الأرحام، وهو قول عامة الصحابة رضي الله عنهم منهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس في أشهر الروايتين، ومعاذ بن

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 212 رقم 11983).

ص: 244

جبل، وأبو الدرداء، وأبو عبيدة بن الجراح، وحكى القاضي أبو خازم أنه مذهب الخلفاء الأربعة.

ثم اعلم أن القائلين بتوريث ذوي الأرحام ثلاث فرق:

الأولى: يسمون أهل القرابة وهم: أبو حنيفة وصاحباه، وزفر، وعيسى بن أبان؛ وسموا بذلك؛ لأنهم يقدمون الأقرب فالأقرب، والأقوى فالأقوى.

الثانية: يسمون أهل التنزيل وهم: الشعبي، ومسروق، والنخعي، ونعيم ابن حماد، وأبو نعيم، وابن أبي ليلى، ومحمد بن سالم، والثوري، وضرار بن صرد، ويحيى بن آدم، والحسن بن زياد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وشريك؛ وسموا بذلك لأنهم ينزلون المدلى منزلة المدلى به في الاستحقاق، وهو مذهب علي وابن مسعود أيضًا.

الثالثة: يسمون أهل الرحم، منهم: نوح بن دراج؛ سموا بذلك لأنهم سووا بين القريب والبعيد، والذكر والأنثى؛ فورثوا بالرحم وعلقوه بأصل الرحم.

قوله: "فيكون للعمة الثلثان وللخالة الثلث". مذهب أهل التنزيل؛ فإنهم رووا عن علي وعبد الله بن مسعود في عمة وخالة: أن المال بينهما أثلاثًا: ثلثاه للعمة وثلثه للخالة، إقامةً لهما مقام من يدليان به.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الحديث الذي احتج به عليهم مخالفهم حديث منقطع، ومن مذهب هذا المخالف لهم أن لا يحتج بالمنقطع، فكيف يحتج عليهم بما لو احتجوا به عليهم لم يسوغُهم إياه؟!.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه، وأراد بها الجواب عن الحديث المذكور الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بيانه أن يقال: إن هذا الحديث منقطع؛ لأنه رواية عطاء بن يسار عن النبي عليه السلام، وهؤلاء المخالفون لا يحتجون بالمنقطع لأنفسهم، فكيف يحتجون هاهنا على حجتهم بما لو احتج به هؤلاء عليهم لما سوغوه ذلك؟!

ص: 245

فإن قيل: قد أخرجه الحاكم موصولًا (1) وقال: أنا أبو بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة، ثنا أحمد بن موسى بن إسحاق التميمي، ثنا أبو نعيم ضرار بن صرد، نا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري:"أن رسول الله عليه السلام ركب حمارًا إلى قباء فقال: أستخير الله في ميراث العمة والخالة، فأوحى الله إليه أن لا ميراث لهما".

قلت: ذكر هذا البيهقي في "الخلافيات" وقال: والصحيح أن الحديث مرسل، وسكت عن ضرار بن صرد وهو متروك الحديث، كذا قال النسائي، وكان ابن معين يكذبه، ثم وإن سلمنا اتصاله وصحته، فمعناه ما ذكره عبد الحق في "أحكامه" بعد ذكر هذا الحديث فقال: قال أبو داود: معناه لا سهم لهما، ولكنهم يورثون للرحم.

فإن قيل: قد روى الدارقطني في "سننه"(2): ثنا إسماعيل بن علي الحطني، ثنا موسى بن إسحاق الأنصاري، ثنا الربيع بن ثعلب، نا مسعدة بن اليسع الباهلي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:"سئل رسول الله عليه السلام عن ميراث العمة والخالة، فقال: لا أدري حتى يأتيني جبريل عليه السلام، ثم قال: أين السائل عن ميراث العمة والخالة؟ قال: فأتى الرجل، فقال: سارني جبريل عليه السلام أنه لا شيء لهما".

قلت: قال الدارقطني: لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف، والصواب مرسل.

فإن قيل: روي البيهقي في "سننه"(3): من حديث شريك بن أبي نمر، أخبرني الحارث بن عبد:"أن رسول الله عليه السلام سئل عن ميراث العمة والخالة فسكت، فنزل عليه جبريل عليه السلام، فقال: حدثني جبريل عليه السلام أن لا ميراث لهما".

(1)"المستدرك على الصحيحين"(4/ 381 رقم 7998).

(2)

"سنن الدارقطني"(4/ 99 رقم 98).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 212 رقم 11984).

ص: 246

قلت: قد اختلف في هذا الحديث.

فرواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن شريك، عن النبي عليه السلام. . . . الحديث من غير ذكر الحارث بن عبد.

وكذا ذكره الدارقطني في "سننه"(2).

ثم إن الحارث هذا لا يعرف حاله ولا له ذكر في شيء من الكتب التي بأيدي الناس سوى "المستدرك" للحاكم؛ فإنه مذكور فيه في هذا الحديث مستشهدًا به، وابن أبي نمر فيه كلام كثير.

ص: ثم لو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه أيضًا عندنا حجة في دفع مواريث ذوي الأرحام؛ لأنه قد يجوز "لا شيء لهما" أي لا فرض لهما مسمى كما لغيرهما من النسوة اللاتي يرثن، كالبنات والأخوات والجدات، فلم ينزل عليه شيء، فقال:"لا شيء" على هذا المعنى، ويحتمل أيضًا "لا شيء لهما" لا ميراث لهما أصلًا؛ لأنه لم يكن نزل عليه حينئذٍ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (3)، فلما نزل ذلك جعل لهما الميراث، فإنه قد روي عنه في مثل هذا أيضًا ما حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان قال:"توفي ثابت بن الدحداح وكان أَتِيًّا وهو الذي ليس له أصل يعرف، فقال: رسول الله عليه السلام لعاصم بن عدي رضي الله عنه: هل تعرفون له منكم نسبا؟ قال: لا يا رسول الله، فدعى رسول الله عليه السلام أبا لبابة بن عبد المنذر ابن أخته، فأعطاه ميراثه".

فهذا رسول الله عليه السلام قد ورَّت أبا لبابة بن ثابت برحمه التي بينه وبينه، فثبت

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 249 رقم 31125).

(2)

"سنن الدارقطني"(4/ 99 رقم 99).

(3)

سورة الأحزاب، آية:[6].

ص: 247

بذلك مواريث ذوي الأرحام، ودلَّ سؤال رسول الله عليه السلام ربه عز وجل في حديث عطاء بن يسار عن العمة والخالة هل لهما ميراث أم لا؟ أنه لم يكن نزل عليه في ذلك فيما تقدم شيء، فثبت بما ذكرنا تأخر حديث واسع هذا عن حديث عطاء بن يسار؛ فصار ناسخًا له.

فإن قلتم: إن حديث واسع هذا منقطع.

قيل لكم: وحديث عطاء بن يسار منقطع أيضًا، فمن جعلكم أولى بتثبيت المنقطع فيما يوافقكم، من مخالفكم فيما يوافقه.

ش: هذا جواب بطريق التسليم، وهو على وجهين:

الأول: أن هذا لا يدل على منع ذوي الأرحام من الميراث، لأن معنى قوله:"لا شيء لهما" يحتمل أن يكون لا فرض لهما، فسمى مقدرًا كما كان لغيرهما من النساء الوارثات كالبنات والأخوات والجدات، ولم يكن نزل على النبي عليه السلام شيء في ذلك إلى هذا الوقت، فلذلك قال:"لا شيء لهما" على المعنى المذكور.

الثاني: يحتمل أن يكون معناه: لا ميراث لهما أصلًا؛ لأنه لم يكن نزل عليه شيء في ذلك، فلما نزل قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (1) جعل عليه السلام لهما الميراث، والدليل على ذلك، أنه روي عن النبي عليه السلام في توريث ذوي الأرحام، وهو حديث واسع بن حَبَّان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة.

أخرجه بإسناد رجاله ثقات.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان قال: "هلك ابن دحداحة وكان ذا رأي فيهم، فدعى رسول الله عليه السلام عاصم بن عدي

(1) سورة الأحزاب، آية:[6].

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 250 رقم 31132).

ص: 248

فقال: هل كان له فيكم نسبٌ؟ قال: لا، قال: فأعطى رسول الله عليه السلام ميراثه ابن أخته أبا لبابة بن عبد المنذر".

وقال أيضًا (1): حدثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن رجل من أهل المدينة، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان قال:"كان ثابت بن الدحداح رجلًا أَتِيًّا -يعني طارئًا- وكان في بني أنيف أو بني العجلان، فمات ولم يدع وارثًا إلا ابن أخته أبا لبابة بن عبد المنذر، فأعطاه النبي عليه السلام ميراثه".

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث الثوري، عن ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن واسع بن حبان:"أن ثابت بن الدحداح -وكان رجلًا أَتِيًّا في بني أنيف أو في بني العجلان- مات فسأل النبي عليه السلام: هل له وارث؟ فلم يجدوا له وارثًا، فدفع ميراثه إلى ابن أخته وهو أبو لبابة بن عبد المنذر".

قوله: "توفي ثابت بن الدحداح" وقيل: الدحداحة بن نعيم، يكنى أبا الدحداح، ويقال: أبا الدحداحة.

قوله: "وكان أتِيًّا" بفتح الهمزة وكسر التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف، ومعناه كان غريبًا يقال: رجل أَتِيّ وأتاوي، وقد فسره في الحديث بقوله:"وهو الذي ليس له أصل يعرف".

قوله: "لعاصم بن عدي" هو عاصم بن عدي بن الجد بن عجلان العجلاني.

قوله: "أبا لبابة". بضم اللام وبالباءين الموحدتين، وهو أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري المدني، قال الزهري: وخليفة بن خياط: اسمه بشير بن عبد المنذر.

قوله: "فإن قلتم: إن حديث واسع هذا منقطع. . . . إلى آخره".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 250 رقم 31134).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 215 رقم 11997).

ص: 249

سؤال من جهة المخالفين الذين يحرمون ذوي الأرحام عن الميراث، وهو وجوابه ظاهران، وحاصله: إنه مرسل صحيح يقتضي الاحتجاج به.

وقال البيهقي: أجاب الشافعي عنه في القديم فقال: ثابت قتل يوم أحد قبل أن تنزل الفرائض، ثم روى من حديث شعيب، عن الزهري، عن ابن المسيب في قصة ذكرها قال:"فلم يلبث ابن الدحداحة إلا يسيرًا حتى جاءه كفار قريش يوم أحد، فخرج مع النبي عليه السلام فقاتلهم، فقتل شهيدًا".

ثم قال: قال الشافعي: نزلت الفرائض فيما بينت أصحابنا في بنات محمود بن مسلمة قتل يوم خيبر. وقيل: نزلت بعد أحد في بنات سعد بن الربيع. وهذا كله بعد أمر ثابت بن الدحداحة.

قلت: ذكر صاحب "الاستيعاب" عن الواقدي قال: وبعض أصحابنا الرواة للعلم يقولون: إن ابن الدحداحة برئ من جراحاته ومات على فراشه من جرح أصابه، ثم انتقص به مرجع النبي عليه السلام من الحديبية.

وشهد لهذا القول ما أخرجه مسلم (1) وأبو داود (2) والنسائي (3) والترمذي (4) عن جابر بن سمرة قال: "أتي النبي عليه السلام بفرس معرورًا فركبه حتى انصرف من جنازة ابن الدحداح، ونحن حوله".

وقال ابن الجوزي في "الكشف لمشكل الصحيحين": اختلفت الرواة في موته، فقال بعضهم: قتل يوم أحد في المعركة، وقال آخرون: بل جرح وبرئ ومات على فراشه مرجع رسول الله عليه السلام من الحديبية. وهذا أصح؛ لهذا الحديث.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 664 رقم 965).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 205 رقم 3178).

(3)

"المجتبى"(4/ 85 رقم 2026).

(4)

"جامع الترمذي"(3/ 334 رقم 1013).

ص: 250

وأما ما نقله عن الشافعي أن آية الفرائض نزلت في بنات محمود بن مسلمة فليس هذا معروف ولا ذكره أحد في كتب الحديث والتفسير وأسباب النزول، وإنما المذكور فيها أنها نزلت في جابر أو ابنتي سعد بن الربيع.

وفي "الصحيحين"(1) في حديث جابر فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (2).

ص: وقد روي مثل هذا عن رسول الله عليه السلام في آثار متصلة الأسانيد منها:

ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان (ح).

وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن حكيم ابن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف:"أن رجلًا رمى رجلًا بسهمٍ فقتله وليس له وارث إلا خال، فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فكتب عمر رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام قال: الله ورسوله مولى مَن لا مَولى له، والخال وارث مَن لا وارث له".

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"الخال وارث مَن لا وارث له".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم. . . . فذكر بإسناده مثله، ولم يرفعه.

حدثنا أبو يحيى عبد الله بن أحمد بن زكرياء بن الحارث بن أبي ميسرة المكي، قال: ثنا أبي، قال: حدثني هشام بن سليمان، عن ابن جريج. . . . فذكر بإسناده مثله.

(1)"صحيح البخاري"(4/ 1669 رقم 4301)، و"صحيح مسلم"(3/ 1234 رقم 1616).

(2)

سورة النساء، آية:[11].

ص: 251

قال أبو يحيى: أراه قد رفعه.

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال بديل بن مسرة العقيلي: أخبرني علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهوزني، عن المقدام بن معدي كرب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من ترك كلًّا فعليَّ -قال شعبة: وربما قال: فإليَّ- ومَن ترك مالًا فلورثته، وأنا وارث مَن لا وارث له، أَعقل عنه وأرثه، والخال وارث مَن لا وارث له، يعقل عنه ويرثه".

حدثنا ابن أبي مسرة، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا شعبة. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن بديل. . . . فذكر بإسناده مثله، إلا أنه قال:"فإليَّ، أرث ماله وأفك عانه، والخال وارث مَن لا وارث له، يرث ماله ويفك عانه".

حدثنا ابن أبي مسرة، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني راشد بن سعد، أنه سمع المقدام بن معدي كرب يحدث عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"الله ورسوله مولى مَن لا مولى له، يرث ماله ويفك عُنُوَّه، والخال وارث مَن لا وارث له يرث ماله ويفك عُنُوَّه".

فهذه آثار متصلة تواترت عن رسول الله عليه السلام بما يوافق ما روى الواسع بن حبان وتخالف ما روى عطاء بن يسار، وقد شد ذلك كله وثبته قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1).

ش: أي وقد روي مثل حديث واسع بن حبان عن رسول الله عليه السلام في أحاديث متصلة الإسناد في توريث ذوي الأرحام، ولما كان حديث واسع بن

(1) سورة الأحزاب، آية:[6].

ص: 252

حبان منقطعًا لا يراه الخصم حجةً؛ أورد أحاديث متصلة الإسناد في تورثة ذوي الأرحام، ليقطع بها شغب المخالف، وأخرجها عن عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين والمقدام بن معدي كرب.

أما حديث عمر رضي الله عنه فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -هو إسحاق بن راهويه شيخ الجماعة غير ابن ماجه- عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن أبي ربيعة -واسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حُنيف بن واهب الأنصاري المدني، عن ابن عم أبيه أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاري.

وأخرجه النسائي (1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره نحوه.

وأخرجه ابن ماجه (2): أيضًا عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد كلاهما عن وكيع، عن سفيان. . . . إلى آخره نحوه.

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(3).

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري، عن سفيان الثوري. . . . إلى آخره.

وأخرجه الترمذي (4): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حُنيف، عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف قال: "كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(1)"السنن الكبرى"(4/ 76 رقم 6351).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 914 رقم 2737).

(3)

"صحيح ابن حبان"(13/ 400 رقم 6037).

(4)

"جامع الترمذي"(4/ 421 رقم 2103).

ص: 253

إلى أبي عبيدة: أن رسول الله عليه السلام قال: الله ورسوله مولى مَن لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

وأخرجه البيهقي (1): من حديث قبيصة، ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حُنيف بن أبي أمامة بن سهل قال:"كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه: أن علِّموا غلمانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي. قال: وكانوا يختلفون بين الأغراض، فجاء سهم غَربٌ فأصاب غلامًا فقتله في حجر خال له لا يُعلم له أصل، قال: فكتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه يسأله إلى من يدفع عقله؟ قال: فكتب إليه عمر: أن رسول الله عليه السلام كان يقول: الله ورسوله مولى مَن لا مَولى له، والخال وارث مَن لا وارث له" انتهى.

ولفظة "المولى" تقع على معاني كثيرة: بمعنى الرب، والمالك، والسيد، والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والعقيلة، والصهر، والولي، والعبد، والمُعتَق، والمنعَم عليه، وأكثرها قد جاء في الحديث فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه، فالمولى هاهنا في حق الله تعالى، بمعنى الرب والمالك والسيد وفي حق النبي عليه السلام بمعنى الولي على معنى أنه عليه السلام ولي مَن لا ولي له، يرثه ويعقل عنه.

فإن قيل: المذكور هنا شيئان وهما الله ورسوله، وهما مرفوعان بالابتدائية، والخبر مفرد ولابد من تطابق الخبر والمبتدأ في الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث.

قلت: خبر المبتدأ الأول محذوف، اكتفى بذكر خبر الثاني عنه، والتقدير: الله ولي مَن لا ولي له، ورسوله ولي مَن لا ولي له، وإنما لم يقل موليان مَن لا مولى له؛ لئلا يلزم الاشتراك، فافهم.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 214 رقم 11988).

ص: 254

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فأخرجه من ثلاث طرق:

الأول: مرفوع وإسناده صحيح، عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد -شيخ البخاري- عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عمرو بن مسلم الجَنَدي -بفتح الجيم والنون- من رجال مسلم، عن طاوس بن كيسان، عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه الترمذي (1): ثنا إسحاق بن منصور، قال: أنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له".

الثاني: موقوف: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة، ولم يرفعه.

وأخرجه البيهقي (2) نحوه: من حديث أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة، قالت:"الله ورسوله مولى مَن لا مولى له، والخال وارث مَن لا وارث له". ثم قال: تابعه عبد الرزاق.

الثالث: مرفوع أيضًا من طريق أبي يحيى عبد الله بن أحمد المكي، روى عنه الطحاوي، عن أبيه أحمد بن زكريا بن الحارث، عن هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد المكي، عن عبد الملك بن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام.

وأخرجه النسائي (3): عن عبد الحميد بن محمد، عن مخلد بن يزيد، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم. . . . إلى آخره نحوه.

فإن قلت: بم حكمت في حديث عائشة هذا؟

(1)"جامع الترمذي"(4/ 422 رقم 2104).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 215 رقم 11995).

(3)

النسائي الكبرى (4/ 76 رقم 6353).

ص: 255

قلت: بالصحة؛ لثقة رواته وصحة اتصاله ورفعه.

فإن قلت: قال البيهقي في "سننه": عمرو بن مسلم فيه كلام فحكي عن ابن حنبل وابن معين أنهما قالا فيه: ليس بالقوي. وذكر أيضًا أنه روي موقوفًا أيضًا، قال: والرفع غير محفوظ، وقال النسائي أيضًا: عمرو بن مسلم ليس بذاك القوي، وقد اختلف عن ابن جريج فيه.

قلت: الرفع زيادة ثقة فوجب قبوله.

وقد أخرجه الحاكم في "مستدركه"(1) مرفوعًا، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

وعمرو بن مسلم احتج به مسلم في "صحيحه"، وقال الذهبي: قواه ابن معين.

وأما حديث المقدام بن معدي كرب فأخرجه من خمس طرق:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن بديل بن مسرة العُقيلي -بضم العين- البصري، عن علي بن أبي طلحة سالم الهاشمي، عن راشد بن سعد المقرائي الحمصي، عن أبي عامر عبد الله بن نجي الهوزني الحمصي، عن المقدام بن معدي كرب بن عمرو الكندي الصحابي رضي الله عنه.

وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شبابة، ونا محمد بن الوليد، نا محمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، حدثني بُديل بن ميسرة العقيلي، عن علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهوزني، عن المقدام بن كريمة -رجل من أهل الشام من أصحاب رسول الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالًا فلورثته، ومَن ترك كلًّا فإلينا -وربما قال: فإلى الله

(1)"المستدرك"(4/ 383 رقم 8004).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 914 رقم 2738).

ص: 256

وإلى رسوله- وأنا وارث مَن لا وارث له، أعقل عنه وأرثه، والخال وارث مَن لا وارث له يعقل عنه ويرثه".

الثاني: عن أبي يحيى عبد الله بن أحمد بن أبي مسرة المكي، عن بدل بن المحبر -بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- التميمي شيخ البخاري، عن شعبة، عن بديل بن ميسرة، عن علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر، عن المقدام.

وأخرجه أبو داود (1): عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن بديل. . . . إلى آخره.

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن بُديل. . . . إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا سليمان بن حرب، في آخرين، قالوا: ثنا حماد، عن بُديل -يعني ابن ميسرة- عن علي بن أبي طلحة، عن راشد بن سعد، عن أبي عامر الهوزني، عن المقدام الكندي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينًا أو ضيعةً فإليَّ، ومن ترك مالًا فلورثته، وأنا مولى مَن لا مولى له أرث ماله وأفك عانه، والخال مولى مَن لا مولى له، يرث ماله ويفك عانه".

قال أبو داود: وضيعة معناه: عيال.

الرابع: عن أبي يحيى عبد الله بن أحمد، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن بديل، عن علي بن أبي طلحة، عن راشد، عن أبي عامر، عن المقدام.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 137 رقم 2899).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 137 رقم 2900).

ص: 257

وأخرجه النسائي (1): عن قتيبة، عن حماد، عن بديل، عن علي، عن راشد، عن أبي عامر، عن المقدام نحوه.

الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي، عن راشد بن سعد المقرائي، عن المقدام بن معدي كرب الكندي.

وأخرجه النسائي (2): عن محمد بن عبد الرحيم بن البرقي، عن أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح، حدثني راشد بن سعد، أنه سمع المقدام. . . . نحوه مرفوعًا.

فإن قلت: بم حكمت في حديث المقدام هذا؟

قلت: بالصحة؛ لثقة رواة الطرق الخمسة المذكورة، وصحة اتصالها، ورفعها.

ولهذا أخرجه الحاكم في "مستدركه"(3): من طريق راشد، عن أبي عامر، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(4) وقال: إن راشدًا سمعه من أبي عامر، عن المقدام، ومن أبي عائذ عنه، فالطريقان محفوظان، والمتنان متباينان.

وقال أبو داود: رواه الزبيدي، عن راشد، عن أبي عائذ، عن المقدام.

ورواه معاوية بن صالح، عن راشد، سمعت المقدام.

وذكر الدارقطني في "علله" أن شعبة وحمادًا وإبراهيم بن طهمان رووه عن بديل، عن ابن أبي طلحة، عن راشد، عن أبي عامر، عن المقدام.

وأن معاوية بن صالح خالفهم فلم يذكر أبا عامر بين راشد والمقدام.

(1)"السنن الكبرى"(4/ 77 رقم 6355).

(2)

"السنن الكبرى"(4/ 90 رقم 6419).

(3)

"المستدرك"(4/ 382 رقم 8002).

(4)

"صحيح ابن حبان"(3/ 400 رقم 6036).

ص: 258

ثم قال الدارقطني: والأول أشبه بالصواب.

وقال ابن القطان: وهو على ما قال؛ فإن ابن أبي طلحة ثقة، وقد زاد في الإسناد من يتصل به فلا يضره إرسال من قطعه وإن كان ثقة، فكيف وفيه مقال؟! فنرى هذا الحديث صحيح. انتهى كلام ابن القطان.

وما ذكره أبو داود صريح في أنه لا إرسال في رواية معاوية، فإن راشد صرح فيها بالسماع، وراشد قد سمع ممن هو أقدم من المقدام كمعاوية وثوبان، فيحمل على أنه سمعه من المقدام مرةً بلا واسطة، ومرة بواسطة أبي عامر، ومرة بواسطة أبي عائذ.

وكذلك في رواية الطحاوي صرح بسماع راشد عن المقدام حيث قال: حدثني راشد بن سعد أنه سمع المقدام رضي الله عنه.

قوله: "من ترك كلًّا" بفتح الكاف وتشديد اللام، وهو العِيال قال تعالى:{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} (1).

قوله: "أعقل عنه" أي أؤدي الدية عنه وهو من العقل وهو الدية.

قوله: "ويفك عانه" أي عانيه وهو الأسير فحذفت الياء، وفي رواية "عُنِيَّه" بضم العين، وكسر النون وتشديد الياء، يقال: عَنَا يَعْنو عُنُوًّا وعُنِيًّا، ومعنى الأسر هاهنا: ما يلزمه ويتعلق به بسبب الجنايات التي سبيلها أن تتحملها العاقلة.

قوله: "ويفك عُنُوَّه" بضم العين والنون وتشديد الواو، وقد ذكرنا أنه مصدر من عَنَا يَعْنُو، وكذلك العُنِيّ، والمعنى: ويفك أسره.

واعلم أن هذا الحديث روي عن أبي هريرة أيضًا.

(1) سورة النحل، آية:[76].

ص: 259

أخرجه الدارقطني في "سننه"(1): ثنا ابن صاعد، ثنا محمد بن عمارة بن صبيح، ثنا أبو نعيم، ثنا شريك، عن ليث، عن أبي هبيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله عليه السلام قال:"الخال وارث".

وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه"(2) ثم قال: ليث بن أبي سليم غير محتج به.

قلت: ليث أخرج له مسلم في "صحيحه"، واستشهد به البخاري في كتاب الطب. والله أعلم.

ص: فقال المخالف لنا: لا دليل لكم في هذه الآية على ما ذهبتم إليه من هذا؛ لأن الناس كانوا يتوارثون بالتبني، كما تبنى رسول الله عليه السلام زيد بن حارثة، فكان يقال: زيد بن محمد، وكان من فعل هذا ورث المتبنِّي ماله دون سائر أرحامه، وكان الناس يتعاقدون في الجاهلية على أن الرجل يرث الرجل، فأنزل الله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (3) دفعًا لذلك وردًّا للمواريث إلى ذوي الأرحام، وقال تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (4).

وذكر في ذلك ما حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال أنا ابن المبارك، قال: أنا ابن عون، عن عيسى بن الحارث قال: "كانت لأخي شريح بن الحارث جارية، فولدت جاريةً فشبَّت، فزوجها فولدت غلامًا، وماتت الجدة، فاختصم شريح والغلام إلى شريح، قال: فجعل شريح يقول: ليس له ميراث في كتاب الله إنما هو لابن بنت، فقضى للغلام، فقال: {وَأُولُو

(1)"سنن الدارقطني"(4/ 86 رقم 62) لكن من طريق ليث عن ابن المنكدر، عن أبي هريرة، وأما رواية أبي هبيرة عن أبي هريرة فهي في الحديث الذي قبل هذا رقم (61).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 215 رقم 11993).

(3)

سورة الأحزاب، آية:[6].

(4)

سورة الأحزاب، آية:[5].

ص: 260

الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1)، قال: فركب ميسرة بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فحدثه بالذي قضى شريح. قال: فكتب ابن الزبير رضي الله عنهما إلي شريح: أن ميسرة حدثني أنك قضيت بكذا وكذا، وقلت عند ذلك:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1) وإنما كانت تلك الآيات في العصبات في الجاهلية، وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول: ترثني وأرثك، فلما نزلت هذه الآية ترك ذلك. قال: فقدم الكتاب على شريح فقرأه، وقال: إنما أعتقها حيتان بطنها، وَأَبَى أن يرجع عن قضائه".

ش: أراد بهذا المخالف: الشافعي، فإنه قال: لا دليل لكم في هذه الآية يعني قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1) ولما استدل أبو حنيفة وأصحابه في توريث ذوي الأرحام بهذه الآية؛ لأنها نزلت في ميراث ذوي الأرحام، ولهذا نسخت الموالاة والهجرة التي كانت مشروعة، فشرع لهم التوارث من غير فصل بين ذي رحم له فرض وتعصيب أو ليس له ذلك، فتناول الكل، منع الشافعي هذا الاستدلال، وقال: ليس لكم فيما ذهبتم إليه؛ لأن الناس كانوا يتوارثون بالتبني. . . . إلى آخره وهو ظاهر.

و"التَّبَنِّي" بفتح التاء المثناة من فوق والباء الموحدة وتشديد النون بعدها، من "البنوة" بالباء الموحدة قبل النون.

قوله: "وذكر في ذلك"، أي وذكر هذا المخالف فيما قاله من المنع ما حدثنا علي بن زيد الفرائضي. . . . إلى آخره.

وابن المبارك هو عبد الله بن المبارك.

وابن عون هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، يروي عن عيسى ابن الحارث [. .](2).

(1) سورة الأحزاب، آية:[6].

(2)

بيض له المصنف في "الأصل، ك".

ص: 261

ص: فكان من الحجة للآخرين على أهل هذه المقالة: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قد أخبر في حديثه هذا أنهم كانوا يتوارثون بالتعاقد دون الأنساب، فأنزل الله عز وجل ردًّا لذلك:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1) فكان في هذه الآية دفع الميراث بالمعاقدة وإيجابه لذوي الأرحام دونهم، ولم يبين لنا في هذه الآية أن ذوي الأرحام هم العَصَبَة أو غيرهم، فقد يحتمل أن يكونوا هم العَصَبَة، وقد يحتمل أن يكون كل ذي رحم على ما جاء في تفصيل المواريث في غير هذا الحديث، فلما كان ما ذكرنا كذلك، ثبت أن لا حجة لأحد الفريقين في هذا الحديث، وإنما هذا الحديث حجة على ذاهب لو ذهب إلى ميراث المتعاقدين بعضهم من بعض لا غير ذلك، فهذا معنى حديث ابن الزبير رضي الله عنهما.

ش: أي فكان من الدليل والبرهان للجماعة الآخرين، وأراد بها الجواب عما احتج به الشافعي في منع استدلال أبي حنيفة ومن تبعه بقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (1).

بيانه: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أخبر في حديثه المذكور أن هذه الآية الكريمة نزلت في منع الميراث بالمعاقدة وإيجابه لذوي الأرحام، ولكن لم يبين في الآية أن ذوي الأرحام هم العَصَبَة أو غيرهم، وفيها احتمال للمعنيين.

فإذا كان كذلك لا يكون فيها حجة لأحد الفريقين على الآخر في الصورة المتنازع فيها، وإنما يكون حجة عل مَن يذهب إلى ميراث المتعاقدين بعضهم من بعض لا غير ذلك.

قلت: يمكن أن نقول: لما بينت الآية التوارث لذوي الأرحام من غير فصل بين ذي رحم له فرض وتعصيب أو ليس له ذلك، تناولت الكل بطريق العموم والشمول، واعترض عليه بأن المراد به من له فرض أو تعصيب بقوله: {فِي

(1) سورة الأحزاب، آية:[6].

ص: 262

كِتَابِ اللَّهِ} (1) لأنه إذا أُطِلق كتاب الله يراد به القرآن عرفًا فينصرف إليه، وإنما ذكر فيه من له فرض أو تعصيب.

وأجيب بأن المراد به: في حكم الله تعالى، يدل عليه قوله عليه السلام:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"(2) أي ليس في حكمه؛ لأن غير ما ذكره عليه السلام من الأحكام ليس بمذكور في القرآن، بل بعضه فيه وبعضه في السنة؛ لأنها كتاب الله لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3)، وقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (4).

ص: وقد ذهب أهل بدر إلى مواريث ذوي الأرحام، فمما روي عنهم في ذلك ما قد ذكرناه فيما تقدم من كتابنا هذا، عن عمر رضي الله عنه في كتابه إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فلم ينكر أبو عبيدة ذلك عليه، فدل أن مذهبه فيه كان كمذهبه.

وقد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال:"أُتي زياد في رجل مات وترك عمته وخالته، فقال: هل تدرون كيف قضى عمر رضي الله عنه فيها؟ قالوا: لا، قال: والله إني لأعلم الناس بقضاء عمر رضي الله عنه فيها، جعل العمة بمنزلة الأخ والخالة بمنزلة الأخت، فأعطى العمة الثلثين والخالة الثلث".

حدثنا علي، قال: ثنا يزيد، قال: أنا يزيد بن إبراهيم والمبارك بن فضالة، عن الحسن، عن عمر رضي الله عنه:"أنه جعل للعمة الثلثين وللخالة الثلث".

حدثنا علي، قال: ثنا يزيد، قال: أنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن

(1) سورة الأحزاب، آية:[6].

(2)

أخرجه أحمد في "مسنده"(6/ 183 رقم 25543) وابن ماجه في "سننه"(2/ 842 رقم 2521) وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها، والحديث عند البخاري ولكن بلفظ آخر (2/ 981 رقم 2584).

(3)

سورة النجم، آية:[3].

(4)

سورة الحشر، آية:[7].

ص: 263

مسروق، قال:"أتي عبد الله رضي الله عنه في إخوة لأم وأم، فأعطى الإخوة لأم الثلث، وأعطى الأم سائر المال، وقال: الأم عَصَبَة من لا عَصَبَة له، وكان لا يرد على إخوة لأم مع أم، ولا على ابنة ابن مع ابنة الصلب، ولا على أخوات لأب مع أخت لأب وأم، ولا على امرأة، ولا على جدة، ولا على زوج".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد، قال: أنا قيس بن الربيع، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عبد الله قال:"الخالة والدة".

حدثنا علي، قال: ثنا يزيد، قال: أنا حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد:"أن عمر رضي الله عنه قضى للعمة الثلثين والخالة الثلث".

حدثنا علي، قال ثنا يزيد، قال: أنا حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله، عن عمر رضي الله عنه مثله.

حدثنا علي، قال: ثنا يزيد، قال: أنا سفيان الثوري عن منصور، عن فُضيل، عن إبراهيم قال:"كان عمر وعبد الله رضي الله عنهما يورثان الأرحام دون الولاء. قلت: أَفكان عَلِيّ رضي الله عنه يفعل ذلك؟ قال: كان علي رضي الله عنه أشدهم في ذلك".

حدثنا علي، قال: ثنا يزيد، قال: أنا عبيدة، عن حيان الجعفي، عن سويد بن غفلة، أن رجلًا مات وترك ابنته وامرأته ومولاه، قال سويد:"إني لجالس عند علي رضي الله عنه إذ جاءته مثل هذه الفريضة، فأعطى ابنته النصف، وامرأته الثمن، ثم ردَّ ما بقي على ابنته ولم يعط المولى شيئًا".

حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن حيان الجعفي، قال: كنا عند سويد بن غفلة. . . . ثم ذكر مثله.

حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا شريك، عن جابر، عن أبي جعفر، قال:"كان علي يرد بقية المواريث على ذي السهام من ذوي الأرحام".

ص: 264

حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن مطرف، عن الشعبي، قال:"أتي زياد في عم لأم وخالة، فقال: ألا أخبركم بقضاء عمر رضي الله عنه فيهما؟ أعطى العم للأم الثلثين، وأعطى الخالة الثلث".

حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا شعبة، عن سليمان، قال: قال عبد الله بن مسعود: "للعمة الثلثان، وللخالة الثلث، فقلت: أسمعته من إبراهيم؟ فقال: هو أول ما سمعته منه".

حدثنا علي قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله.

فهؤلاء أهل بدر قد وَرثَّوا ذوي الأرحام بأرحامهم وإن لم يكونوا عَصَبَة، فإن كان إلى التقليد فتقليد هؤلاء أولى.

وإن كان إلى ما روي عن رسول الله عليه السلام فقد ذكرنا ما روي عنه في هذا الباب.

وإن كان إلى النظر فإنا قد رأينا العَصَبَة يُورِثِّون إذا كانوا ذكورًا، ورأينا بعضهم إذا كان لهم من القرب ما ليس لبعض كان بذلك القرب أولى بالميراث ممن هو أبعد منه وكان المسلمون إذا لم يكن للميت عَصَبَة يرثونه جميعًا، فإذا كان بعضهم أقرب إليه من بعض فالنظر على ما ذكرنا أن يكون من قرب منه أولى بالميراث ممن هو أبعد منه فمن من المتوفى من المسلمين.

فثبت بالنظر أيضًا ما ذكرنا وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد رحمهم الله.

ش: أشار بهذا الكلام إلى أن مذهب من يرى بتوريث ذوي الأرحام أقوى المذاهب، وأحقها بالعمل وأحراها بالقبول؛ وذلك لأنه مذهب أهل بدر المغفور لهم، نحو: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، ووردت به السنة أيضًا، وشهد له النظر أيضًا، وأشار إلى ذلك بقوله: فإن كان إلى التقليد. . . . إلى آخره.

ص: 265

أي فإن كان الأمر في مثل هذا راجعًا إلى تقليد أحد، فتقليد مثل هؤلاء السادات من الصحابة أولى، وإن كان الأمر في ذلك إلى السنة فقد رويت في ذلك أحاديث كثيرة على ما مضى ذكرها في هذا الباب، وإن كان الأمر في ذلك إلى النظر والقياس فوجه النظر أيضًا يشهد لذلك وهو قوله: فإنا قد رأينا العَصَبَة. . . . إلى آخره.

ثم إنه أخرج عن البدريين من ثلاثة عشر وجهًا:

الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن داود بن أبي هند دينار البصري، عن عامر الشعبي، قال:"أتي زياد. . . ." وهو زياد بن حدير الأسدي أبو المغيرة الكوفي.

هذا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن إدريس، عن داود، عن الشعبي، عن زياد، قال:"إني لأعلم ما صنع عمر رضي الله عنه، جعل العمة بمنزلة الأب، والخالة بمنزلة الأم".

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث يزيد، نا داود بن أبي هند، عن الشعبي:"أتي زياد في رجل توفي وترك عمته وخالته، فقال: هل تدرون كيف قضى عمر رضي الله عنه؟ قالوا: لا، فقال: والله إني لأعلم الناس بقضاء عمر رضي الله عنه فيها، جعل العمة بمنزلة الأخ، والخالة بمنزلة الأخت، فأعطى العمة الثلثين، والخالة الثلث".

وقال: ورواه الحسن، وأبو الشعثاء، وبكر بن عبد الله:"أن عمر رضي الله عنه جعل للعمة الثلثين، وللخالة الثلث".

وهذه مراسيل، ورواية المدنيين عن عمر أولى.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 248 رقم 31114).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 216 رقم 12000).

ص: 266

قلت: رواية زياد، عن عمر رضي الله عنه صحيحة متصلة.

وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عمر رضي الله عنه:"أنه قسم المال بين عمته وخالته".

وهذا أيضًا سند صحيح متصل.

وقال صاحب "الاستذكار": ولم يختلف أهل العراق أنه وَرَّثهما، واختلفوا فيما قسمه لهما.

الثاني: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن يزيد بن إبراهيم التستري البصري، والمبارك بن فضالة بن أبي أمية القرشي، كلاهما عن الحسن البصري، عن عمر رضي الله عنه.

وهذا منقطع.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، عن عمر رضي الله عنه قال:"للعمة الثلثان، وللخالة الثلث".

الثالث: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن مسروق، قال: "أتي عبد الله في أم وإخوة لأم، فأعطى الأم السدس، والإخوة الثلث، ورد ما بقي على الأم، وقال: الأم

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 248 رقم 31113).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 248 رقم 31115).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 253 رقم 31167).

ص: 267

عَصَبَة من لا عَصَبَة له، وكان ابن مسعود لا يرد على أخت لأب مع أخت لأب وأم، ولا على ابنة ابن مع ابنة صلب".

الرابع: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي -فيه مقال كثير- عن أبي حَصِين -بفتح الحاء وكسر الصاد- عثمان بن عاصم الأسدي، عن يحيى بن وثاب الأسدي الكوفي المقرئ، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث يزيد بن هارون، عن محمد بن سالم، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله، قال:"الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب، وابنة الأخ بمنزلة الأخ، وكل ذي رحم بمنزلة الرحم التي تليه إذا لم يكن وارث ذو قرابة".

الخامس: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن حبيب بن أبي حبيب الجرمي النصري -صاحب الأنماط- عن عمرو بن هرم الأزدي البصري، عن جابر بن زيد اليحمدي الجوفي -بالجيم والفاء- عن عمر رضي الله عنه.

وهذا منقطع؛ لأن جابر بن زيد هو أبو الشعثاء لم يدرك عمر رضي الله عنه.

وأخرجه البيهقي معلقًا (2).

السادس: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني البصري، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وهذا أيضًا منقطع؛ لأن بكرًا لم يدرك عمر رضي الله عنه.

وأخرجه البيهقي معلقًا (3).

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 217 رقم 12001).

(2)

"السنن الكبرى"(8/ 58 رقم 15845).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 216 بعد رقم 12000).

ص: 268

السابع: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن فضيل بن عمرو الفقيمي، عن إبراهيم النخعي، عن عمر.

وهذا أيضًا منقطع.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا جرير، عن منصور، عن فضيل، عن إبراهيم، قال:"كان عمر وعبد الله رضي الله عنهما يعطيان الميراث ذوي الأرحام. قال فضيل: قلت لإبراهيم: فعلي رضي الله عنه؟ قال: كان أشدهم في ذلك أن يعطي ذوي الأرحام".

الثامن: عن علي بن شيبة أيضًا، عن يزيد بن هارون، عن عَبِيَدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- بن حميد الكوفي، عن حيان -بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف- بن سليمان الجعفي، عن سويد بن غفلة.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا وكيع، عن سفيان، عن حيان الجعفي، عن سويد بن غفلة:"أن عليًّا رضي الله عنه أتي في ابنة وامرأة وموالي، فأعطى الابنة النصف، والمرأة الثمن، ورد ما بقي على الابنة، ولم يعط الموالي شيئًا".

التاسع: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان المروزي، عن عبد الله ابن المبارك المروزي، عن سفيان الثوري، عن حيان الجعفي، عن سويد.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(3): من حديث أبي عوانة، عن منصور، عن حيان -بيَّاع الأنماط- قال:"كنت جالسًا مع سويد بن غفلة. . . .".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 252 رقم 31158).

(2)

"مصنف بن أبي شيبة"(6/ 252 رقم 31161).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 242 رقم 12171 - 12172).

ص: 269

ومن حديث الثوري، عن حيان الجعفي، قال:"كنت عند سويد، فأتي في ابنة وامرأة ومولى، فقال: كان علي رضي الله عنه يعطي الابنة النصف، والمرأة الثمن، ويرد ما بقي على الابنة".

العاشر: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن شريك بن عبد الله، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

وهذا إسناد منقطع ومعلول بجابر الجعفي.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر:"أن عليًّا رضي الله عنه كان يرد على ذوي السهام من الأرحام".

الحادي عشر: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن مطرف بن طريف الحارثي، عن عامر الشعبي، قال:"أتي زياد وهو زياد بن حدير".

وهذا إسناد صحيح.

الثاني عشر: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة بن الحجاج، عن سليمان الأعمش، قال: قال عبد الله بن مسعود.

وهذا منقطع.

قوله: "فقلت: أسمعته من إبراهيم؟ " أي: قال شعبة: فقلت لسليمان الأعمش: أسمعت هذا من إبراهيم النخعي؟.

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا سعيد بن عمرو، ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: "للعمة الثلثان، وللخالة الثلث".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 253 رقم 31170).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 248 رقم 31119).

ص: 270

الثالث عشر: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة، عن المغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي، عن عبد الله بن مسعود.

وهذا أيضًا منقطع.

ص: وقد ذكرنا في هذه الآثار التي قد رويناها عن أصحاب رسول الله عليه السلام اختلافا بينهم في بعضها، بعد إجماعهم فيها على الوراثة بالأرحام التي لا تعصب أهلها.

فمما اختلفوا فيه من ذلك في ميراث ذوي الأرحام دون الموالي، فقد ذكرنا ذلك عن عمر، وعلي، وعبد الله رضي الله عنهم.

ش: أراد بهذه الآثار التي أخرجها عن عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم.

وأراد بالاختلاف في بعضها هو اختلافهم في حكم الولاء، والاختلاف في حكم الرد، ومع هذا هم مجمعون على توريث ذوي الأرحام كما ذكرنا.

وقد مرَّ فيما مضى عن عمر، وعلي، وابن مسعود أنهم كانوا يورثون الأرحام دون الولاء، ومذهب جمهور الصحابة -منهم زيد بن ثابت- أن الولاء مقدم على ذوي الأرحام، وعلى الرد أيضًا، وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وبه قال الشعبي، وعطاء، وابن أبي ليلى.

واحتجوا في ذلك بقضية ابنة حمزة رضي الله عنهما على ما نذكرها الآن إن شاء الله تعالى.

ص: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك.

حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا أبان بن تغلب، عن الحكم، عن عبد الله بن شداد بن الهاد:"أن ابنة حمزة رضي الله عنهما أعتقت مولى لها، فمات المولى وتركها وترك ابنته، فأعطاها النبي عليه السلام النصف، وأعطى بنت حمزة النصف".

ص: 271

حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا شعبة، عن الحكم، قال:"سمعت عبد الله بن شداد يقول: هي أختي. . . .". ثم ذكر مثله.

حدثنا عليٌّ، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: "انتهيت إلى عبد الله بن شداد وهو يحدث القوم، وهو يقول: هي أختي، فسألتهم فقالوا: ذكوان وهو مولى لابنة حمزة رضي الله عنه. . . . ثم ذكر مثله.

حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن منصور بن حيان الأسدي، عن عبد الله بن شداد، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا جرير بن حازم، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، وأبي فزارة، قالا: ثنا عبد الله بن شداد. . . . فذكر مثله ثم قال: "هل تدرون ما بيني وبينها؟ هي أختي من أمي، كانت أمنا أسماء بنت عميس الخثعمية".

فهذا رسول الله عليه السلام قد ورَّث ابنة حمزة من مولاها ما بقي بعد نصيب ابنته بحق فرض الله عز وجل لها، ولم يرد ما بقي على البنت، فدلت هذه الآثار أن مولى العتاقة أولى بالميراث من الرحم الذي ليس بعَصَبَة.

ش: أي وقد روي عن النبي عليه السلام خلاف ما روي عن عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم في حكم الولاء، وهو أن مولى العتاقة أولى بالميراث من الرحم الذي ليس بعصبة، ألا ترى أن النبي عليه السلام قد ورَّث ابنة حمزة من مولاها ما بقي بعد نصيب بنته وهو النصف ولم يردّ ذلك على البنت.

وأخرجه من خمس طرق:

الأول: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان المروزي، عن عبد الله بن المبارك، عن أبان بن تغلب الربعي الكوفي، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي المدني:"أن ابنة حمزة. . . ." إلى آخره.

ص: 272

وهذا إسناد رجاله ثقات، ولكنه منقطع.

وأخرجه البيهقي (1): من حديث شعبة، عن الحكم، عن عبد الله بن شداد:"أن ابنة حمزة أعتقت غلامًا لها، فتوفي وترك ابنة وابنة حمزة، فزعم أن النبي عليه السلام قسم لها النصف ولابنته النصف".

وأخرجه ابن أبي شيبة (2): عن وكيع، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه.

وابنة حمزة اسمها فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب القرشية الهاشمية ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: اسمها أمامة، وقيل: عمارة، قاله أبو نعيم، وتكنى أم الفضل، وقال محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر: هي أخت عبد الله بن شداد لأمه، وكذا جاء في رواية أخرى على ما يجيء عن الحكم، قال: سمعت عبد الله ابن شداد يقول: هي أختي.

وقال البيهقي: روي عن سلمة والشعبي عن عبد الله بن شداد، والحديث منقطع.

وابن شداد أخو بنت حمزة من الرضاعة.

قلت: هذا غلط، بل أخوها لأمها.

قد أخرج أبو داود في "المراسيل"(3) بسند صحيح عنه أنه قال: "أتدرون ما ابنة حمزة مني؟ قال: كانت أختي لأمي".

وكذا في رواية الطحاوي رحمه الله، وقال ابن سعد: أم عبد الله بن شداد سلمى بنت عميس أخت أسماء بنت عميس كانت تحت حمزة رضي الله عنه فولدت له عمارة، وقيل: فاطمة، وقتل عنها يوم أحد، فتزوجها شداد بن الهاد، فولدت له عبد الله.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 241 رقم 12165).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 250 رقم 31137).

(3)

"مراسيل أبي داود"(1/ 266 - 267 رقم 364).

ص: 273

قلت: أم عبد الله بن شداد سلمى بنت عميس الخثعمية، أخت أسماء بنت عميس وكانتا أختي ميمونة بنت الحارث زوج النبي عليه السلام، وأختي أم الفضل بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب، وأختى لبابة الصغرى بنت الحارث لأمهن، وأمهن هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير.

وكانت أمه تحت حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فولدت له ابنته عمارة، ويقال: فاطمة، ويقال: أمامة، ويقال: أم الفضل، وقتل عنها يوم أحد، فتزوجها شداد بن الهاد فولدت له عبد الله بن شداد وهو أخو فاطمة بنت حمزة لأمه، وابن خالة عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم.

الثاني: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة قال: سمعت عبد الله بن شداد.

وهذا أيضًا سند صحيح ولكنه منقطع.

وأخرجه ابن أبي شيبة (1) نحوه: عن وكيع، عن شعبة.

الثالث: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن عبد الله بن شداد.

وهذا أيضًا مثل ما قبله من صحة السند وانقطاعه.

الرابع: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن منصور بن حيان الأسدي، عن عبد الله بن شداد. وهذا مثل ما قبله.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث سفيان، عن منصور بن حيان الأسدي، عن عبد الله بن شداد، قال:"مات مولى لابنة حمزة وترك ابنةً وابنة حمزة، فجعل رسول الله عليه السلام لابنته النصف، ولابنة حمزة النصف".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 250 رقم 31137).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 241 رقم 12166).

ص: 274

الخامس: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن جرير بن حازم، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب التميمي الضبي، وعن أبي فزارة راشد بن كيسان العبسي الكوفي، كلاهما عن عبد الله بن شداد.

وهذا أيضًا مثل ما قبله.

وأخرجه ابن أبي شيبة (1) نحوه: ثنا ابن إدريس، عن الشيباني، عن عبيد بن أبي الجعد، عن عبد الله بن شداد قال: لا تدري ما ابنة حمزة مني؟ هي أختي لأمي، أَعْتَقَت رجلًا فمات، فقسم ميراثه بين ابنته وبينها، قال: على عهد رسول الله عليه السلام".

ص: وقد روي مثل هذا أيضًا عن علي رضي الله عنه، حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا فطر، عن الحكم بن عتيبة، قال:"قضى عليٌّ رضي الله عنه في أناسٍ منا فيمن ترك ابنته ومولاته، فأعطى ابنته النصف ومولاته النصف".

حدثنا علي، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال:"رأيت المرأة التي ورَّثها علي رضي الله عنه من أبيها النصف وورَّث مولاها النصف".

فهذا هو النظر عندنا أيضًا؛ لأنا رأينا المولى إذا لم يكن معه بنت ورث بالتعصيب كما ترث العصبة من ذوي الأرحام، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك هو إذا كانت معه بنت يرث معها كما ترث العصبة من ذوي الأرحام.

فهذا هو النظر في هذا، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد رحمهم الله.

ش: أي وقد روي مثل ما روي عن النبي عليه السلام-من تقديم مولى العتاقة في الميراث على الرحم الذي ليس بعصبة- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد مرَّ أنه روي عن علي تقديم ذوي الأرحام على الولاء، وروي عنه أيضًا تقديم الولاء على ذوي الأرحام كما هو مذهب جمهور الصحابة.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 250 رقم 31135).

ص: 275

وأخرج عنه في ذلك من طريقين رجالهما ثقات ولكنهما منقطعان.

الأول: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن فطر بن خليفة، عن الحكم بن عتبة.

الثاني: عن علي بن زيد أيضًا، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" هذا من ثلاث طرق متصلة:

الأول (1): عن علي بن مسهر، عن الشيباني، عن الحكم، عن شموس الهندية، قالت:"قاضيت إلى علي رضي الله عنه في أبي، مات ولم يترك غيري ومولاه، فأعطاني النصف ومولاه النصف".

الثاني (2): عن إدريس، عن الشيباني، عن الحكم، عن شموس، عن علي مثله.

الثالث: (3) ثنا علي بن مسهر، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن أبي الكنود، عن علي:"أنه قضى في ابنة ومولى، أعطى البنت النصف، والمولى النصف".

ص: وأما ما ذكرنا أيضًا عن عبد الله رضي الله عنه أنه كان لا يرد على إخوة لأم مع أم شيئًا، ولا على ابنة ابن مع ابنة الصلب، ولا على أخوات لأب مع أخوات لأب وأم.

فقد ذكرنا عن علي رضي الله عنه خلاف ذلك، وأنه كان يرد بقية المواريث على ذوي السهام من ذوي الأرحام، فإن النظر عندنا في ذلك أيضًا ما ذهب إليه علي رضي الله عنه؛ لأنهم جميعًا ذووا أرحام، وقد رأيناهم في فرائضهم التي قد فرضها الله عز وجل لهم قد ورثوها جميعًا بأرحام مختلفة، ولم يكن بعضهم بقرب رحمه أولى بالميراث من غيره منهم ممن بَعُدَ رحمه، فالنظر على ذلك أن يكونوا جميعًا فيما يرد عليهم من فضول

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 250 رقم 31139).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 251 رقم 31140).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 251 رقم 31141).

ص: 276

المواريث كذلك، وأن لا يقدم منهم مَن قرب رحمه على مَن كان أبعد رحمًا من الميت منه، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أشار بهذا الكلام إلى بيان الاختلاف في حكم الرد، وقد ذكر فيما مضى أن عبد الله بن مسعود كان لا يرد على هؤلاء المذكورين، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يرد بقية المواريث على ذوي السهام من ذوي الأرحام.

وأشار أيضًا إلى صحة قول علي رضي الله عنه بشاهد النظر والقياس، وأشار أيضًا إلى أنه هو قول أبي حنيفة وصاحبيه وهو قول جمهور الصحابة رضي الله عنهم، والحاصل أن مذهب جمهور الصحابة جواز الرد على ذوي الفروض بقدر حقوقهم إلا على الزوجين، وبه أخذ أصحابنا.

وذكر صاحب "الغنية" أنه يرد على الزوجين في زماننا لفساد بيت المال، وقال زيد بن ثابت: الفاضل لبيت المال، وبه أخذ مالك، والشافعي، وروي عن عثمان رضي الله عنه:"أن الرد لا يجوز أصلًا" ولم يثبت هذا عن عثمان، وروي عن ابن عباس أنه قال: "لا يرد إلا على ثلاثة: على الزوجين مطلقًا، وعلى الجدة إذا كان معها ذو فرض ممن يرث بالرحم وإن لم يكن في المسألة ذو فرض آخر يرث بالرحم كأحد الزوجين أو مولى العتاقة أو مولى الموالاة، حينئذٍ يرد على الجدة دون أحد الزوجين.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه يرد إلا على ستة نفر: ثلاثة هؤلاء، والرابع: بنت الابن مع بنت الصلب، والخامس: الأخت لأب مع الأخت لأبوين، والسادس: أولاد الأم معها، فيرد الباقي بعد أصحاب الفرائض على البنت والأخت لأبوين والأم.

ص: وقد روي عن إبراهيم فيما ذكرناه عن رسول الله عليه السلام في إعطائه ابنة حمزة النصف، وبنت مولاها النصف، أن ذلك إنما كان طعمة من رسول الله عليه السلام لابنة حمزة.

ص: 277

حدثنا بذلك فهدٌ، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا حسن بن صالح، عن منصور، عن إبراهيم.

وهذا عندنا كلام فاسد؛ لأن ابنة مولى بنت حمزة إن كان قد وجب لها ميراث أبيها برحمها منه فمحال، أن يطعم النبي عليه السلام شيئًا قد وجب لها ابنة حمزة، وإن كان ذلك لم يجب لها كله، وإنما وجب لها نصفه فما بقي بعد ذلك النصف راجع إلى مَن أعتقه وهي ابنة حمزة رضي الله عنه، فاستحال ما ذكر إبراهيم في ذلك، وثبت أن ما دفع رسول الله عليه السلام إلى ابنة حمزة كان بالميراث لا بغيره.

ش: ذكر هذا ليكون جوابًا عن سؤال مقدر، تقرير السؤال أن يقال: كيف تستدلون بقضية ابنة حمزة رضي الله عنهما في تقديم الولاء على ذوي الأرحام، وقد قال إبراهيم النخعي رضي الله عنه: إن النصف الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنة حمزة حين مات مولاها وترك ابنته إنما كان طعمة أطعمها رسول الله عليه السلام إياها ولم يكن ذلك بحق الولاء؟.

أخرجه الطحاوي، عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين شيخ البخاري، عن حسن بن صالح بن حي الهمداني، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي.

وأخرجه ابن أبي شيبة (1)، عن عبدة، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال:"ذكر عنده حديث ابنة حمزة أن النبي عليه السلام أعطاها النصف، فقال: إنما أطعمها إياه رسول الله عليه السلام طعمة".

وأجاب عنه بقوله: "وهذا عندنا فاسد. . . . إلى آخره"، وهو ظاهر.

وقال البيهقي في هذا الموضع: إن هذا غلط، وقد قال شريك: تقحمًا إبراهيم هذا القول تقحمًا إلا أن يكون سمع شيئًا فرواه.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 251 رقم 31144).

ص: 278

ص: فإن قال قائل: فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا في توريث مَن ليس بعصبة ولا رحم، فذكر ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عوسجة مولى ابن عباس يحدث، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رجلًا مات على عهد رسول الله عليه السلام ولم يترك قرابةً إلا عبدًا هو أعتقه، فأعطاه النبي عليه السلام ميراثه".

قال: فهذا رسول الله عليه السلام قد ورث المولى الأسفل من المولى الأعلى، وأنتم لا تقولون بهذا.

قيل له: إنه ليس في هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام قال: المولى الأسفل يرث من المولى الأعلى، وإنما فيه أنه دفع ميراثه -وهو تركته- إليه، وليس مما روي عنه في الحال أنه وارث من لا وارث له، فقد يحتمل وجوهًا.

منها أن يكون دفعه إليه؛ لأنه ورَّثه إياه بما للميت عليه من الولاء.

ويحتمل أن يكون مولاه ذا رحم له فدفع إليه ماله بالرحم وورثه به لا بالولاء، ألا تراه يقول في الحديث:"ولم يترك قرابةً إلا عبدًا هو أعتقه" فأخبر أن العبد كان قرابةً له فورثه بالقرابة.

ويحتمل أن يكون دفع إليه ميراثه؛ لأن الميت كان أمر بذلك، فوضع رسول الله عليه السلام ماله حيث أمر بوضعه فيه، كما قد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

فإنه حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن الشعبي، عن عمرو بن شرحبيل، قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إنه ليس حي من العرب أحرى أن يموت الرجل منهم ولا يعرف له وارث منكم معشر همدان، فإذا كان ذلك فليضع ماله حيث أحب".

قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: حدثني همام بن الحارث، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله مثله.

ص: 279

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله مثله.

حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله مثله.

حدثنا سليمان، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن سلمة، قال: سمعت أبا عمرو السيباني يحدث عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال:"السائبة يضع ماله حيث أحب".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر وأبو الوليد، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن عمرو، عن عبد الله نحوه.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة، عن سلمة، عن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله مثله.

ويحتمل أن يكون النبي عليه السلام أطعمه المولى الأسفل؛ لفقره كما للإمام أن يفعل ذلك فيما في يده من الأموال التي لا ربَّ لها.

وقد سمعت أن ابن أبي عمران يذكر أن هذا التأويل الأخير قد روي عن يحيى بن آدم، فلما احتمل هذا الحديث ما ذكرنا لم يكن لأحد أن يحمله على تأويل منها إلا بدليل يدل عليه، إما من كتاب الله عز وجل، وإما من سنة، وإما من إجماع.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم تقدمون الولاء على ذوي الأرحام، وتورثون المولى الأعلى بالولاء، فما بالكم لا تورثون المولى الأسفل من المولى الأعلى وقد ورث رسول الله عليه السلام المولى الأسفل من المولى الأعلى على ما في حديث ابن عباس؟.

ص: 280

أخرجه عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار المكي، عن عوسجة المكي، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأخرجه الأربعة.

فأبو داود (1): عن إسماعيل بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن عوسجة.

والترمذي (2): عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن عمرو، عن عوسجة بمعناه، وقال: حسن.

والنسائي (3): عن قتيبة، عن سفيان به.

وابن ماجه (4): عن إسماعيل بن موسى، عن ابن عيينة به.

فإن قيل: ما حال هذا الحديث؟

قلت: قد حسنه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن.

وقال النسائي في عوسجة: ليس بالمشهور، ولا نعلم أحدًا يروي عنه غير عمرو.

وقال البخاري: لم يصح حديثه.

وقال البيهقي (5): رواه حماد بن سلمة، وابن عيينة، عن عمرو، عن عوسجة، عن ابن عباس:"أن رجلًا مات. . . . إلى آخره".

وخالفهما (6) حماد بن زيد، فرواه عن عمرو بن دينار، عن عوسجة مولى ابن عباس:"أن رجلًا مات. . . ." الحديث.

(1)"سنن أبي داود"(3/ 124 رقم 2905).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 423 رقم 2106).

(3)

"السنن الكبرى"(4/ 88 رقم 6409).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 915 رقم 2741).

(5)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 242 رقم 12174).

(6)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 242 رقم 12175).

ص: 281

وكذلك (1) أرسله روح بن القاسم، عن عمرو، عن عوسجة، وقال: قال البخاري: عوسجة روى عنه عمرو ولم يصح حديثه، وروى عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، وهو خطأ.

وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلم أن يكون في الحديث دلالة على توريث المولى الأسفل من المولى الأعلى؛ لأنه لم يقل فيه: أنه عليه السلام قال: المولى الأسفل يرث من المولى الأعلى، وإنما فيه: أعطاه النبي عليه السلام ميراثه -يعني تركته- وهو يحتمل وجوهًا:

الأول: يحتمل أن يكون دفعه المال إلى العبد بسبب ما كان للميت عليه من الولاء.

الثاني: يحتمل أن يكون كان المولى ذا رحم للعبد، فدفع إليه ماله بسبب الرحم لا لأن المولى الأسفل يرث من المولى الأعلى بسبب الولاء.

والدليل على هذا الاحتمال أنه أخبر في الحديث: "أنه لم يترك قرابةً إلا عبدًا هو أعتقه". فحينئذٍ يكون توريثه بالقرابة لا بالولاء.

الثالث: يحتمل أن يكون الميت قد أوصى بأن يدفع ماله إليه لعدم وارثه، فأنفذ رسول الله عليه السلام وصيته، ووضع ماله حيث أمر بوضعه فيه، وذلك كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال:"إنه ليس حي من العرب. . . ." الحديث.

الرابع: يحتمل أن يكون كان النبي عليه السلام جعل ماله لعبده من بعده؛ طعمةً له لأجل فقره واستحقاقه؛ لأنه مال ليس له صاحب، والإمام له الخيار فيه حيث يتصرف فيه كيف يشاء، فرأى صرف ذلك إليه مصلحةً، لا لكونه يستحق ذلك بسبب الولاء.

فإذا كان هذا الحديث يحتمل هذه الاحتمالات، لم يكن لأحد أن يحمله على

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 242 رقم 12176).

ص: 282

تأويل واحد منها فيحتج به إلا بدليل يدل عليه من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإذا كان كذلك فقد سقط الاحتجاج به، فلا يصح توريث المولى الأسفل من المولى الأعلى.

وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء من التابعين ومَن بعدهم، وروي عن الحسن البصري والحسن بن زياد أنهما قالا: يرث المولى الأسفل من المولى الأعلى، واحتجا على ذلك بالحديث المذكور، وقالا أيضًا: إن كان الولاء سبب يوجب الميراث من أحد الجانبين؛ فيجب أن يوجب من الجانب الآخر كما في النكاح.

والصحيح قول العامة لقوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق"، ولقول علي وزيد رضي الله عنهما:"لا ميراث للمعتق".

وقد أجاب بعضهم عن حديث ابن عباس أنه منسوخ بهذا، والله أعلم.

والقياس على النكاح فاسد لأنه أصل القرابات.

ثم إنه أخرج أثر ابن مسعود رضي الله عنه من سبع طرق رجاله كلهم ثقات.

الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الجرار الفاخوري، عن سليمان الأعمش، عن عامر الشعبي، عن عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، عن شعبة بن الحجاج، عن سلمة بن كهيل، عن أبي عمرو السيباني -بفتح السين المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الباء الموحدة- نسبة إلى سيبان بن الغوث بن سعد.

وأبو عمرو هذا اسمه زرعة، وثقه ابن حبان.

الثالث: عن سليمان بن شعيب أيضًا، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله.

ص: 283

الرابع: عن سليمان أيضًا، عن عبد الرحمن بن زياد، عن شعبة، عن سلمة ابن كهيل، عن أبي عمرو السيباني، عن ابن مسعود.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي عمرو السيباني، قال: قال عبد الله: "السائبة يضع ماله حيث شاء" انتهى.

"السائبة" هو العبد؛ لقول مولاه إذا أعتقه: هو سائبة. فلا عقل بينهما ولا ميراث، وأصله من تسييب الدواب وهو إرسالها تذهب وتجيء كيف شاءت، وفي كلام ابن مسعود أن العبد الذي يعتق سائبة لا يكون ولاؤه لمعتقه، ولا وارث له فيضع ماله حيث شاء، وهو الذي ورد النهي عنه.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه: المولى الأعلى يرث من الأسفل سواء كان أعتقه لوجه الله تعالى، أو لوجه الشيطان، أو أعتقه سائبةً، أو شرط أن لا الولاء عليه؛ لعموم قوله عليه السلام:"الولاء لمن أعتق"(2).

وقال مالك: إن أعتقه لغير وجه الله لا يرث؛ لأن هذه صلة شرعية، فإنما يستحق هذه الصلة من يعتق لوجه الله، وأما من أعتق لوجه غير الله فَجَانٍ في قصده، فيحرم هذه الصلة، وهو محجوج عليه بإطلاق الحديث.

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن بكر التنيسي أحد مشايخ الشافعي، وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، كلاهما عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله.

السادس: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن بشر بن بكر، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث النخعي الكوفي، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 283 رقم 31434).

(2)

تقدم.

ص: 284

السابع: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي عمرو زرعة السيباني -بالسين المهملة- عن عبد الله.

قوله: "وقد سمعت ابن أبي عمران" هو أحمد بن موسى بن عيسى الفقيه البغدادي أحد أصحاب أبي حنيفة. ويحيى بن آدم بن سليمان القرشي الكوفي الفقيه الثقة، روى له الجماعة.

ص: وقد روي في نحو من هذا ما حدثنا يونس ومحمد بن خزيمة، قالا: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا شريك، عن أبي بكر بن أحمر، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال:"توفي رجل من خزاعة، فأتي النبي عليه السلام بميراثه، فقال: اطلبوا له وارثًا أو ذا قرابة -هكذا قال يونس، وقال محمد بن خزيمة: أو ذا رحم- فطلبوا فلم يجدوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادفعوا إلى أكبر خزاعة".

فهذا عندنا -والله أعلم- على ما قال يحيى بن آدم في الحديث الذي قبل هذا.

ش: أي قد روي في مثل ما روي عن ابن عباس المذكور آنفًا الذي فيه: "أعطى النبي عليه السلام ميراث المولى الأعلى للمولى الأسفل"، وهو حديث بريدة بن الحصيب.

أخرجه بإسناد جيد: عن يونس بن عبد الأعلى ومحمد بن خزيمة بن راشد، كلاهما عن عمرو بن خالد الحراني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي بكر بن أحمر -واسمه جبريل الجملي الكوفي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة بن الحصيب.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبد الله بن سعيد الكندي، قال: نا المحاربي، عن جبريل بن أحمر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: "أتى النبي عليه السلام رجلٌ، فقال: إن عندي ميراث رجل من الأزد، ولست أجد أزديًّا أدفعه إليه، قال: فاذهب فالتمس أزديًّا حولًا، قال: فأتاه بعد الحول، فقال: يا رسول الله، إني لم

(1)"سنن أبي داود"(3/ 124 رقم 2903).

ص: 285

أجد أزديًّا أدفعه إليه، قال: فانطلق فانظر أول خزاعي تلقاه فادفعه إليه، فلما ولى قال: عَلَيَّ الرجلَ، فلما جاء قال: انظر كُبْرَ خزاعة فادفعه إليه".

وقال أبو داود (1) أيضًا: ثنا الحسن بن الأسود العجلي، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا شريك، عن جبريل بن أحمر أبي بكر، عن ابن بريدة، عن أبيه قال:"مات رجل من خزاعة، فأتي النبي عليه السلام بميراثه، فقال: التمسوا له وارثًا أو ذا رحم، فلم يجدوا له وارثًا ولا ذا رحم، فقال رسول الله عليه السلام: أعطوه الكبر من خزاعة".

قال يحيى: قد سمعته مرة يقول في هذا الحديث: "انظروا أكبر رجل من خزاعة".

وأخرجه النسائي (2) وقال: جبريل بن أحمر ليس بالقوي والحديث منكر.

قلت: أبو داود قد سكت عنه، فذا دليل رضاه به، وجوابه أنه محمول على ما ذكره يحيى بن آدم في الحديث السالف.

ص: وقد حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن مجاهد، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن مولى للنبي عليه السلام وقع من نخلة فمات، فقال النبي عليه السلام: انظروا هل له وارث، فقالوا: لا، قال: أعطوه بعض القرابة".

فقد يجوز أن يكون النبي عليه السلام أراد بذلك قرابته هو، لا قرابة الميت فأراد أن يجعله فيهم صلةً منه لهم، والله أعلم.

ش: ذكر هذا الحديث الذي هو أيضًا من جنس الحديث الذي قبله ليجيب عنه.

وأخرجه بإسناد جيد: عن علي بن شيبة. . . . إلى آخره.

ومجاهد هذا هو ابن وردان المدني وليس هو بمجاهد بن جبر المكي.

(1)"سنن أبي داود"(3/ 124 رقم 2904).

(2)

"السنن الكبرى"(4/ 85 رقم 6395 - 6397).

ص: 286

وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد قال: ثنا يحيى، قال: ثنا شعبة، المعنى.

وثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع بن الجراح، عن سليمان، جميعًا عن ابن الأصبهاني، عن مجاهد بن وردان، عن عروة، عن عائشة:"أن مولى للنبي عليه السلام مات وترك شيئًا ولم يدع ولدًا ولا حميمًا، فقال النبي عليه السلام: أعطوا ميراثه رجلًا من أهل قريته".

وحديث سفيان أتم.

وقال مسدد: فقال النبي عليه السلام: "هاهنا أحد من أهل أرضه؟ قالوا: نعم، قال: فأعطوه ميراثه".

وأخرجه الترمذي (2): عن بندار، عن يزيد بن هارون، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن مجاهد وهو ابن وردان، عن عروة، عن عائشة:"أن مولى للنبي عليه السلام وقع من عذق نخلة فمات، فقال النبي عليه السلام: انظروا هل له مِن وارث، قالوا: لا، قال: فادفعوه إلى بعض أهل القرية".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

وأخرجه النسائي (3): عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، عن شعبة.

وعن عبد الله بن محمد، عن سفيان، جميعًا عن عبد الرحمن، به.

وأخرجه ابن ماجه (4): عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان، به نحوه.

(1)"سنن أبي داود"(3/ 123 رقم 2902).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 422 رقم 2105).

(3)

"السنن الكبرى"(4/ 84 رقم 6391).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 913 رقم 2733).

ص: 287

وأخرجه البيهقي (1): من طريق سفيان أيضًا نحوه، ثم قال: هذا يحتمل أن يكون مولى له بغير العتاق فلم يأخذ ميراثه، وجعله في أهل قريته على طريق العالة، والله أعلم.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 243 رقم 12180).

ص: 288