الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب سرقة الثمر والكَثَر
ش: أي هذا باب في بيان حكم السرقة في الثمر والكَثَر -بفتح الكاف والثاء المثلثة على وزن مَدَد- وهو جمار النخل، وهو شحمه الذي في وسط النخل.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان:"أن عبدًا سرق وديًّا من حائط رجل فغرسه في حائط سيده، فخرج صاحب الودي يلتمس وديه، فوجده فاستعدى على العبد عند مروان بن الحكم، فسجن العبد وأراد قطع يده، فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج رضي الله عنه فأخبره أنه سمع رسول الله عليه السلام يقول: لا قطع في ثمر ولا كَثَر، فقال الرجل: فإن مروان بن الحكم أخذ غلامي وهو يريد قطع يده، وأنا أحب أن تمشي إليه فتخبره بالذي سمعت من رسول الله عليه السلام فمشى معه رافع حتى أتى مروان فقال: أخذت عبدًا لهذا؟ فقال: نعم، قال: ما أنت صانع به؟ قال: أردت قطع يده، فقال له رافع: إني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: لا قطع في ثمر ولا كَثَر. فأمر مروان بالعبد فأرسل".
حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: ثنا محمد بن إدريس، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان:"أن عبدًا سرق وديًّا من حائط رجل فغرسه في مكان آخر، فأتي به مروان، فأراد أن يقطعه، فشهد رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: "لا قطع في ثمر ولا كَثَر".
ش: هذان طريقان:
الأول: منقطع على ما يأتي: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن يحيى بن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة. . . . إلى آخره.
وأخرجه مالك في "موطئه"(1)، وأبو داود (2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. . . . إلى آخره نحوه.
وله في رواية أخرى قال: "فجلده مروان جلدات، فخلى سبيله".
وإنما قلنا: إنه منقطع؛ لأن محمد بن يحيى لم يسمعه من رافع.
الثاني: متصل: عن المزني، عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة. . . . إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(3): من طريق الشافعي.
والترمذي (4): عن قتيبة، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى ابن حبان، عن عمه واسع بن حبان، أن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "لا قطع في ثمر ولا كَثَر".
وكذا أخرجه النسائي (5) وابن ماجه (6) مختصرًا.
وقد خولف ابن عيينة في ذلك ولم يتابع عليه إلا ما رواه حماد بن دليل المدائني، عن سعيد؛ فإنه رواه عن شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن رافع. كما رواه مالك، وكذلك رواه الثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وأبو عوانة، ويزيد بن هرمز، وأبو خالد الأحمر، وعبد الوارث بن سعيد، وأبو معاوية. كلهم عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى، عن رافع ابن خديج.
وقال أحمد بن زهير: سمعت يحيى بن معين يقول: حماد بن دليل ليس به بأس، كان على المدائن قاضيًا، ولا أدري من أين أصله.
(1)"موطأ مالك"(2/ 839 رقم 1528).
(2)
"سنن أبي داود"(4/ 136 رقم 4388)، (4/ 137 رقم 4389).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 263 رقم 16980).
(4)
"جامع الترمذي"(4/ 52 رقم 1449).
(5)
"المجتبى"(8/ 87 رقم 4961 - 4967).
(6)
"سنن ابن ماجه"(2/ 865 رقم 2593).
قوله: "وَدِيًّا" بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء آخر الحروف، على وزن فَعِيل وهو صغار الفسيل، الواحدة وَدِيَّة، قاله الجوهري، وقال الأصمعي: الوَدِيّ صغار النخل، واحدتها وَدِيَّة، وهو أيضًا للفسيل واحدته فَسِيلة.
قوله: "من حائط" الحائط هاهنا البستان من النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار، ومنه:"على أهل الحوائط حفظها بالنهار" يعني البساتين.
قوله: "يلتمس" أي يطلب.
قوله: "فاستعدى على العبد" من العدوى وهو طلبك إلى الوالي ليعديك على من ظلمك، أي ينتقم منه، يقال: استعديت الأمير فأعداني، أي استعنت به عليه فأعانني عليه، والاسم منه العدوى وهي المعونة.
قوله: "لا قطع في ثمر" أراد به الثمر الذي هو معلق في النخل قبل أن يُجَذَّ ويحرز، وعلى هذا تأوله الشافعي وقال: حوائط المدينة ليست بحرز، وأكثرها تدخل من جوانبها، ومن سرق من حائط من ثمر معلق لم يقطع، فإذا أواه الحربي قطع.
قوله: "ولا كَثَر" بفتحتين، وقد فسرناه عن قريب.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أنه لا يقطع في شيء من الثمر ولا من الكَثَر، وسواء عندهم أُخِذَ من حائط صاحبه أو من منزله بعد ما قطعه وأحرزه فيه وقالوا أيضًا: لا قطع في جريد النخل ولا في خشبة؛ لأن رافعًا رضي الله عنه لم يسأل عن قيمة ما كان في الودية المسروقة من الجريد، ولا عن قيمة جذعها، ودرأ القطع عن السارق في ذلك؛ لقول النبي عليه السلام:"لا قطع في كثر" وهو الجمار.
فثبت بذلك أنه لا قطع في الجمار ولا فيما يكون عنه من الجريد والخشب والثمر. وممن قال ذلك: أبو حنيفة رحمه الله.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحكم بن عتيبة، والحسن البصري، وأبا حنيفة، ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: لا قطع في شيء من الثمر والكثر، ولا في جريده ولا خشبه.
وقال ابن حزم في "المحلى"(1): قال أبو حنيفة: لا يقطع في شيء من الفواكه الرطبة كانت في الدار أو في الشجر، في حرز كانت أو في غير حرز. وكذلك البقول كلها، وكذلك ما يسرع إليه الفساد من اللحوم والطعام كله كان في حرز أو في غير حرز، ولا قطع في الملح، ولا في التوابل، ولا في الزروع كلها.
وإذا يبس الزرع وضم إلى الأندر أو إلى البيوت وجب القطع في سرقة شيء منه إذا بلغ ما يجب فيه القطع.
وقال أبو عمر (2): ذكر أبو عوانة قال: كنت عند أبي حنيفة، فأتاه رسول صاحب الشرطة، فقال: أرسلني إليك فلان -يعني صاحب الشرطة- أتي برجل سرق وَدِيًّا من أرض قوم، فقال: إن كانت قيمة الودي عشرة دراهم فاقطعه، فقلت له: يا أبا حنيفة ثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن رافع بن خديج، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا قطع في ثمر ولا كثر". قال: وما تقول؟ قلت: نعم، أرسل في إثر الرسول؛ فإني أخاف أن يقطع الرجل، فقال: قد مضى الحكم؛ فقطع الرجل.
قال أبو عمر: هذا لا يصح عن أبي حنيفة؛ لأن مذهبه المشهور عنه أنه لا قطع في ثمر ولا كثر، ولا في أصل شجرة قلع، ولا في كل ما يبقى من الطعام وخشي فساده؛ لأنه عنده في معنى الثمر المعلق.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: هذا الذي حكاه رافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "لا قطع في ثمر ولا كثر" هو على الثمر والكثر المأخوذين من الحوائط التي ليست بحرز لما فيها، فأما ما كان من ذلك قد أحرز فحكمه حكم سائر الأموال، ويجب القطع على مَن سرق من ذلك المقدار الذي يجب القطع فيه.
(1)"المحلى"(11/ 331).
(2)
"التمهيد" لابن عبد البر (23/ 308).
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الزهري، والثوري، ومالكًا، والشافعي، وأبا يوسف؛ فإنهم قالوا: لا قطع في ثمر وكثر، إذا أخذ من الحوائط -أي البساتين- التي ليست بحرز لما فيها.
وأما الذي أحرز منه فحكمه حكم سائر الأموال، فيجب القطع على مَن سرق منه مقدار ما يجب القطع فيه.
قال أبو عمر: قال مالك: لا قطع في كثر، ولا في النخلة الصغيرة ولا الكبيرة، ولا في ثمر الأشجار، ولا في الزرع، ولا في الماشية، فإذا آوى الجرين الزرع أو الثمر، وآوى المراح الغنم، فعلى مَن سرق من ذلك قيمة ربع الدينار القطع.
وقال ابن المواز: مَن سرق نخلة أو ثمرة في دار رجل قطع؛ بخلاف شجر الحائط والجنان.
وقال أبو عمر: لم يختلف مالك ولا أصحابه أن القطع واجب على مَن سرق رطبًا أو فاكهة رطبة إذا بلغت قيمتها ثلاثة دراهم وسرقت من حرز، وهو قول الشافعي.
وقال الثوري: لا قطع في الثمر إذا كان في رءوس الشجر، ولكن يعزر.
وقال عطاء: يعزر، ولا قطع عليه إلا فيما أحرز الجرين.
وقال أبو ثور: إذا سرق ثمر نخل أو شجر أو عنب كرم، وذلك الثمر قائم في أصله، وكان محرزًا تبلغ قيمة المسروق من ذلك ما تُقطع اليد فيه؛ قطعت يده.
قال أبو عمر: وأما داود وأهل الظاهر فذهبوا إلى قطع كل سارق إذا سرق ما يجب فيه القطع من حرز ومن غير حرز على عموم قوله عز وجل وظاهره: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} (1)، وظاهر قول النبي عليه السلام:"القطع في ربع دينار فصاعدًا"(2)، ولم يذكر الحرز، وضعف داود حديث عمرو بن شعيب وحديث رافع بن خديج،
(1) سورة المائدة، آية:[38].
(2)
تقدم.
وشذَّ في ذلك عن جمهور الفقهاء، كما شذَّ أهل البدع في قطع كل سارق سَرَق قليلًا أو كثيرًا من حرز أو غيره.
وذكر ابن خواز منداد أن أحمد بن حنبل وأهل الظاهر وطائفة لا يعتبرون الحرز في السرقة.
قال أبو عمر (1): هذا غير صحيح عن أحمد بن حنبل، والصحيح عنه في هذا الباب ما ذكره الخرقي وإسحاق بن منصور قال: القطع فيما أوى الجرين والمراح، قال أحمد: المراح للغنم، والجرين للثمار، قال: وقال إسحاق بن راهويه كما قال.
ص: واحتجوا في ذلك بما قد رويناه عن رسول الله عليه السلام في هذا الكتاب في غير هذا الباب، لما سئل عن الثمر المعلق فقال:"لا قطع فيه إلا ما آواه الجرين وبلغ ثمن المجن ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثلية وجلدات نكال".
وقد حدثنا بذلك أيضًا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
ففرق رسول الله عليه السلام في الثمار المسروقة بين ما آواه الجرين منها وبين ما لم يأوه وكان في شجره، فجعل فيما آواه الجرين منها القطع، وفيما لم يأوه الجرين منها الغرم والنكال.
فتصحيح هذا الحديث وما روى رافع عن رسول الله عليه السلام من قوله: "لا قطع في ثمر ولا كثر" أن نجعل ما روى رافع هو على ما كان في الحوائط التي لم يحرز ما فيها على ما في حديث عبد الله بن عمرو ما زاد على ما في حديث رافع فهو خلاف ما في حديث رافع، ففي ذلك القطع، ولا قطع فيما سوى ذلك ليستوي هذان الأثران، ولا يتضادان، وهذا قول أبي يوسف رحمه الله.
(1)"التمهيد"(23/ 312).
ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
أخرجه الطحاوي عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وقد أخرجه في باب "الرجل يزني بجارية امرأته" عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث وهشام بن سعد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وقد ذكرنا هناك أن النسائي (1) أخرجه أيضًا.
قوله: "إلا ما آواه الجرين" أي إلا ما ضمه الجرين، والجرين -بفتح الجيم وكسر الراء- هو موضع تجفيف الثمر، ويجمع على جُرُن -بضمتين- قيل: الجرين البيدر، وهو للبُرِّ كالمسطح للتمر، والمِجَن -بكسر الميم- هو الترس، وقد ذكرناه فيما مضى.
قوله: "ففيه غرامة مثلية" قد مرَّ أن هذا كان في ابتداء الإسلام فنسخ بنسخ الربا.
وقال أبو عمر: لا أعلم أحدًا قال بتضعيف القيمة غير أحمد بن حنبل، وسائر العلماء يقولون بالقيمة أو المثل، وباقي الكلام ظاهر.
(1) تقدم.