الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب شراء الشيء الغائب
ش: أي هذا باب في بيان حكم شراء الشيء الغائب هل يجوز أم لا؟
ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عمر بن يونس بن القاسم اليمامي، قال: حدثني أبي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن الملامسة والمنابذة".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، عن سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي، قال: ثنا حسان بن غالب ويحيى بن عبد الله ابن بكير، قالا: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذه خمسة أسانيد صحاح: أحدها عن أنس، واثنان عن أبي سعيد الخدري، واثنان عن أبي هريرة.
الأول: أخرجه بعينه في باب: "بيع الثمار قبل أن تتناهى" بأتم منه، فقال:"نهى رسول الله عليه السلام عن المحاقلة والمزابنة والمخاضرة والملامسة والمنابذة. . . ." الحديث.
وأخرجه البخاري (1)، وقد استوفينا الكلام فيه هناك.
(1) تقدم.
وإسنادان عن أبي هريرة:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة.
وأخرجه مالك في "موطإه"(1): عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن الملامسة والمنابذة".
وأخرجه البخاري (2): عن إسماعيل، عن مالك.
ومسلم (3): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
والنسائي (4): عن قتيبة، عن مالك.
والترمذي (5): عن أبي كريب ومحمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزناد، به، وقال: حسن صحيح.
الثاني: عن الربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن حسان بن غالب بن نجيح الرعيني، وعن يحيى بن عبد الله بن بكير شيخ البخاري، كلاهما عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري المدني، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أبي صالح ذكوان الزيات، عن أبي هريرة.
وحسان بن غالب وإن كان فيه مقال، ولكنه ذكر متابعة، فلا يضر صحة الإسناد، على أنه قد وثقه ابن يونس.
والحديث أخرجه مسلم (6): عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل، عن أبيه أبي صالح، عن أبي هريرة:"أن النبي عليه السلام نهى عن الملامسة والمنابذة".
(1)"موطأ مالك"(2/ 666 رقم 1346).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 754 رقم 2039).
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1151 رقم 1511).
(4)
"المجتبى"(7/ 259 رقم 4509).
(5)
"جامع الترمذي"(3/ 601 رقم 1310).
(6)
"صحيح مسلم"(3/ 1152 رقم 1511).
وإسنادان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:
أولهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبي سعيد الخدري سعد بن مالك.
وأخرجه البخاري (1): عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبي سعيد:"أن النبي عليه السلام نهى عن لبستين وبيعتين: الملامسة والمنابذة".
وأخرجه مسلم (2): عن أبي الطاهر وحرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب. . . . إلى آخره، نحوه.
والثاني: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمد بن إدريس الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد.
وأخرجه البخاري (3) من حديث معمر، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد رضي الله عنه.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا ابتاع ما لم يره، لم يجز ابتياعه إياه، وذهبوا في ذلك إلى تأويل تأولوه في هذا الحديث، فقالوا: الملامسة ما لمسه مشتريه بيده من غير أن ينظر إليه بعينه، قالوا: والمنابذة هي من هذا المعنى أيضًا، وهو قول الرجل للرجل: انبذ إليَّ ثوبك وأنبذ إليك ثوبي، على أن كل واحد منهما مبيع لصاحبه من غير نظر من كل واحد من المشتريين إلى ثوب صاحبه، وممن ذهب إلى هذا التأويل مالك بن أنس رحمه الله.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 754 رقم 2037).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1152 رقم 1512).
(3)
"صحيح البخاري"(2/ 754 رقم 2040).
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي وأبا الزناد ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق فإنهم قالوا: إذا اشترى الرجل ما لم يره، فشراؤه فاسد. وعن مالك وأحمد: يصح بالوصف، ويثبت له الخيار إذا لم يكن بهذه الصفة. وهو قول الشافعي في القديم، وهو مختار الشافعية.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: من اشترى شيئًا غائبًا عنه فالبيع جائز، وله فيه خيار الرؤية، إن شاء أخذه وإن شاء تركه، وذهبوا في تأويل الحديث الأول أن الملامسة المنهي عنها فيه هي بيع كان أهل الجاهلية يتبايعونه فيما بينهم، فكان الرجلان يتراوضان على الثوب، فإذا لمسه المساوم به كان بذلك مبتاعًا له، ووجب على صاحبه تسليمه إليه.
وكذلك المنابذة كانوا أيضًا يتقاولون في الثوب وفيما أشبهه، ثم يرميه ربه إلى الذي قاوله عليه، فيكون ذلك بيعًا منه إياه ثوبه، ولا يكون له بعد ذلك نقضه، فنهى رسول الله عليه السلام عن ذلك، وجعل الحكم في البياعات أن لا يجب إلا بالمعاقدات المتراضى عليها، فقال:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فجعل إلقاء أحدهما إلى صاحبه الثوب قبل أن يفارقه غير قاطع لخياره، ثم اختلف الناس بعد ذلك في كيفية تلك الفرقة، على ما قد ذكرنا من ذلك في موضعه من كتابنا هذا، وممن ذهب إلى هذا التأويل أبو حنيفة رضي الله عنه.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي والنخعي والزهري وابن شبرمة والحسن وابن سيرين ومكحولًا وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر رحمهم الله، فإنهم قالوا: يجوز للرجل أن يشتري شيئًا غائبًا، وله خيار الرؤية إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء تركه، وهو مذهب أهل الظاهر أيضًا، إلا أنهم قالوا: إذا اشترى بالصفة ثم وجده كما وصف له فالبيع لازم، وإن وجده بخلاف ذلك فلا بيع بينهما إلا بتجديد صفقة أخرى برضاهما جميعًا.
قوله: "وذهبوا في تأويل الحديث الأول" أي ذهب هؤلاء الآخرون في تأويل الحديث الأول الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وهو ما رواه أنس وأبو هريرة
وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم: "أنه عليه السلام نهى عن الملامسة، والمنابذة" وقالوا: إن المنابذة التي نهى عنها عليه السلام هي بيع كان أهل الجاهلية يتبايعونه فيما بينهم، وكان الرجلان يتراوضان على الثوب، وهو من المراوضة، وهو التجاذب في البيع والشراء، وهو ما يجري بين المتابعين من الزيادة والنقصان، كأن كل واحدٍ منهما يروض صاحبه، من رياضة الدابة.
وقيل: هو المواصفة بالسلعة، وهو أن يصفها ويمدحها عنده، ومنه حديث ابن المسيب:"أنه كره المراوضة". وهو أن تواصف الرجل بالسلعة ليست عندك، وسمي بيع المواصفة.
قوله: "ثم اختلف الناس بعد ذلك في كيفية الفرقة" أي الفرقة المفهومة من قوله عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فقال إبراهيم النخعي والثوري وربيعة وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: المراد به هو التفرق بالأقوال، فإذا قال البائع: قد بعت، وقال المشتري: قد قبلت، فقد تفرقا، ولا يبقى لهما خيار بعد ذلك، ويتم البيع، ولا يقدر المشتري على رد البيع إلا بخيار العيب أو الرؤية أو خيار الشرط، وقال أبو يوسف وعيسى بن أبان: هي الفرقة بالأبدان وذلك أن الرجل إذا قال لآخر: قد بعتك عبدي بألف درهم، فللمخاطَب بذلك القول أن يقبل ما لم يفارقه صاحبه فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يقبل.
وقال سعيد بن المسيب، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وابن أبي ذئب، وابن عيينة، والأوزاعي، والليث بن سعد، وابن أبي مليكة، والحسن البصري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأبو سليمان، ومحمد بن جرير الطبري، وأهل الظاهر: الفرقة المذكورة في الحديث هي الفرقة بالأبدان فلا يتم البيع حتى يوجد التفرق بالأبدان، وقد استوفينا الكلام فيه باب:"خيار البيعين حتى يتفرقا".
ص: ولما اختلفوا في ذلك أردنا أن ننظر فيما سوى هذا الحديث من الأحاديث، هل فيه ما يدل على أحد القولين اللذين ذكرناهما؟ فنظرنا في ذلك، فإذا إبراهيم
ابن محمد الصيرفي قد حدثنا، قال: ثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد".
فدل على إباحة بيعه بعدما يشتد وهو في سنبله؛ لأنه لو لم يكن كذلك لقال حتى يشتد ويرى في سنبله، فلما جعل العلة في البيع المنهي عنه هي شدته ويبوسته؛ دل ذلك أن البيع بعد ذلك بخلاف ما كان عليه في البدء.
فلما جاز بيع الحب المغيب في السنبل الذي لم يَيْنعَ دَلَّ هذا على جواز بيع ما لم يراه المتبايعان إذا كانا يرجعان إلى معلوم كما يرجعان في الحنطة المبيعة المغيبة في السنبل إلى حنطة معلومة، فأولى الأشياء بنا في مثل هذا إذا كنا قد وقفنا على تأويل هذا الحديث واحتمل الحديث الآخر موافقته أو مخالفته؛ أن نحمله على موافقته لا على مخالفته.
وقد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب في تفسير الملامسة والمنابذة قال:"كان القوم يتبايعون السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها، والمنابذة أن يتنابذ القوم السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها؛ فهذا من أبواب القمار".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ربيعة قال:"كان هذا من أبواب القمار، فنهى عنه رسول الله عليه السلام".
فهذا الزهري وهو أحد من روي عنه هذا الحديث قد أجاز للرجل أن يشتري ما قد أخبر عنه، وإن لم يكن عاينه، ففي ذلك دليل على جواز ابتياع الغائب.
ش: أي ولما اختلف أهل المقالة الأولى، وأهل المقالة الثانية في الحكم المذكور أردنا أن ننظر هل نجد حديثًا غير هذا الحديث المذكور؛ يدل على صحة أحد القولين؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا حديث أنس رضي الله عنه يدل على صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية.
أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن محمد الصيرفي المصري شيخ أبي القاسم البغوي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن أنس.
وأخرجه الطحاوي بهذا الإسناد بعينه في باب: "بيع الثمار قبل أن تتناهى".
وأخرجه البيهقي (1) نحوه، وقد ذكرناه هناك مستوفى.
ووجه استدلالهم بهذا قد بينه مشروحًا.
قوله: "الذي لم يينع" من يَنَعَ الثمر يَيْنَع وأَيْنَع يُوِنعُ فهو يَانع ومُونِع: إذا أدرك ونضج، وأَيْنَع أكثر استعمالًا.
قوله: "وقد حدثنا يونس. . . . إلى آخره".
أخرجه من طريقين صحيحين شاهدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من التأويل الذي أولوه:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
والثاني: عن يونس أيضًا نحوه، ولكن عن ربيعة الرأي شيخ مالك رحمه الله، والباقي ظاهر.
ص: فقال قائل ممن ذهب إلى التأويل الذي قدمنا ذكره في أول هذا الباب: من أين أجزتم بيع الغائب وهو مجهول؟
قيل له: ما هو مجهول في نفسه؛ لأنه متى رجع إليه رجع إلى معلوم بنفسه، كبيع الحنطة في سنبلها المرجوع منها إلى حنطة معلومة، وإنما الجهل في هذا هو جهل البائع والمشتري، فأما المبيع في نفسه فغير مجهول، وإنما المجهول الذي لا يجوز بيعه هو المجهول في نفسه الذي لا يرجع منه إلى معلوم كبعض طعام غير
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 305 رقم 10403).
مسمى باعه رجل من رجل، فذلك البعض غير معلوم وغير مرجوع منه إلى معلوم، فالعقد على ذلك غير جائز، وقد وجدنا البيع يجوز عقده على طعام بعينه على أنه كذا وكذا قفيزًا والبائع والمشتري لا يعلمان حقيقة كيله، فيكون من حقوق البيع وجوب الكيل للمشتري على البائع ولا يكون جهلهما به يوجب وقوع العقد على شيء مجهول، إذا كانا يرجعان منه إلى طعام معلوم فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ش: أراد بالقائل المذكور: الشافعي؛ فإنه قال: بيع الغائب كيف يجوز وهو مجهول؟!
فأجاب عنه بقوله: "قيل له" أي لهذا القائل. . . . إلى آخره وهو ظاهر.
فإن قلت: قد نهى عليه السلام عن بيع ما ليس عند الإنسان.
قلت: نعم والغائب هو عند بائعه لا مما ليس عنده؛ لأنه لا خلاف في لغة العرب صدق من يقول: عندي ضياع وعندي دور وعندي رقيق، والحال أنها ليست عنده، والمراد من الحديث ما ليس في ملكه.
وقال ابن حزم: والبرهان على فساد قول الشافعي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) فبيع الغائب داخل فيما أحل الله وفي التجارة التي يتراضى بها المتبايعان، وكل ذلك حلال إلا بيعًا حرمه الله، على لسان رسوله عليه السلام في القرآن أو في سنة ثابتة، وما نعلم للشافعي في المنع من بيع الغائبات الموصوفات سلفًا.
ص: وقد روينا فيما تقدم من كتابنا هذا: "أن عثمان وطلحة رضي الله عنهما تبايعا مالًا بالكوفة فقال عثمان رضي الله عنه: لي الخيار لأني بعت ما لم أر، وقال طلحة رضي الله عنه: لي
(1) سورة البقرة، آية:[275].
(2)
سورة النساء، آية:[29].
الخيار لأني ابتعت ما لم أر، فحكَّما بينهما جبير بن مطعم رضي الله عنه فقضى أن الخيار لطلحة، ولا خيار لعثمان".
فاتفق هؤلاء الثلاثة بحضرة أصحاب رسول الله عليه السلام على جواز بيع شيء غائب عن بائعه ومشتريه.
ش: أخرج الطحاوي في باب: "تلقي الجلب" في كتاب البيوع: عن أبي بكرة ومحمد بن شاذان، قالا: ثنا هلال بن يحيى بن مسلم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن رباح بن أبي معروف المكي، عن ابن أبي مليكة، عن علقمة بن وقاص الليثي قال:"اشترى طلحة بن عبيد الله من عثمان بن عفان رضي الله عنهما مالًا، فقيل لعثمان: إنك قد غيبت وكان المال بالكوفة، قال: وهو مال آل طلحة الآن بها، وقال عثمان: لي الخيار لأني بعت ما لم أر، وقال طلحة: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أر، فحكم بينهما جبير بن مطعم، فقضى أن الخيار لطلحة، ولا خيار لعثمان".
وأخرجه البيهقي (1) نحوه.
قوله: "فاتفق هؤلاء الثلاثة" أراد بهم: عثمان وطلحة وجبير بن مطعم، وأشار بهذا إلى أن هؤلاء الثلاثة لما اتفقوا بحضرة الصحابة على جواز بيع شيء غائب، ولم ينكر عليهم أحد من الصحابة، وقع موقع الإجماع، فلا يجوز خلافه.
ص: وقد حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني سالم: "أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ركب يومًا مع عبد الله بن بحينة -وهو رجل من أزد شنوءة حليف لبني عبد المطلب وهو من أصحاب النبي عليه السلام إلى أرض له بريم، فابتاعها منه عبد الله بن عمر على أن ينظر إليها، وريم من المدينة على قريب من ثلاثين ميلًا".
فهذا عبد الله بن عمر، وعبد الله بن بحينة قد تبايعا ما هو غائب عنهما، ورأيا ذلك جائزًا.
(1)"سنن البيهقي"(5/ 268 رقم 10204).
ش: ذكر هذا تأييدًا لصحة: ما ذكره من قبل من جواز بيع شيء غائب.
وأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره.
وعبد الله بن بُحَيْنة -بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون- وهي أمه، وهي بحينة بنت الأرت، وعبد الله هو ابن مالك بن القشب الأزدي الصحابي.
قوله: "بريم" أي في ريم -بكسر الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره ميم- وقد فسره في الحديث بقوله: وريم من المدينة على قريب من ثلاثين ميلًا.
ص: فإن قال قائل: إنما جاز ذلك لاشتراط ابن عمر الخيار.
قيل له: إن ذلك الخيار لم يجب لابن عمر من جهة الاشتراط، ولو كان من جهة الاشتراط وجب؛ لكان البيع فاسدًا، ألا ترى أن رجلًا لو اشترى من رجل عبدًا أو أرضًا على أنه بالخيار فيها لا إلى وقت معلوم كان البيع فاسدًا؟ وابن عمر رضي الله عنهما في الحديث الذي رويناه عنه لم يشترط خيار الرؤية إلى وقت معلوم، فدل ذلك أن الخيار الذي اشترطه هو خيار يجب له بحق العقد، وهو خيار الرؤية الذي ذهب إليه طلحة وجبير رضي الله عنهما فيما رويناه عنهما، لا خيار شرط.
ش: تقرير السؤال أن يقال: جواز البيع في حديث عبد الله بن عمر ليس على ما ذكرتم من بيع شيء غائب، وإنما هو لأجل اشتراط عبد الله بن عمر الخيار وجوابه ظاهر.
ص: وقد حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: "كنا إذا تبايعنا، كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعين، قال: فتبايعت أنا وعثمان رضي الله عنه فبعته مالًا لي بالوادي بمال له بخيبر، قال: فلما بايعته طفقت أنكص على عقبي القهقرى خشية أن يترادَّني في البيع عثمان قبل أن أفارقه.
فهذا عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم قد تبايعا ما هو غائب عنهما، ورأيا ذلك جائزًا، وذلك بحضرة أصحاب رسول الله عليه السلام فلم ينكره عليهما مُنكِرٌ.
ش: ذكر هذا شاهدًا لصحة جواز بيع الغائب عن المتبايعين أو عن أحدهما.
أخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
وأخرجه البخاري (1) معلقًا، وقال: قال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر قال:"بعت من عثمان مالًا بالوادي بماله بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادَّني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا".
وأخرجه البيهقي (2) من طريق ابن زنجويه والرمادي والفسوي، قالوا: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث بهذا. ثم قال: ورواه أبو صالح أيضًا ويحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، بمعناه.
قوله: "طفقت أنكص على عقبي القهقرى" أي أخذت أتأخر وأرجع إلى ورائي، وطفقت من أفعال المقاربة يقال: طَفِقَ الرجل يفعل كذا، يعني أخذ في الفعل، وجعل يفعل.
قوله: "أنكص" من النكوص وهو الرجوع إلى الوراء وهو القهقرى، والقهقرى هنا منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله:"أنكص" من قبيل قولك: قعدت جلوسًا.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 745 رقم 2010).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 271 رقم 10230).
ص: وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن محمد بن عمير قال: قال أبو هريرة: "نهى رسول الله عليه السلام عن بيعتين: أن يقول الرجل للرجل: انبذ إليَّ ثوبك وأنبذ إليك ثوبي، من غير أن يقلبا أو يتراضيا، أو يقول: دابتي بدابتك من غير أن يقلبا أو يتراضيا".
ففي هذا الحديث: إجازة البيع بالتراضي، ودليل على أن المنابذة المنهي عنها ما ذهب إليه أبو حنيفة لا ما ذهب إليه مخالفه.
ش: ذكر هذا الحديث بيانًا أن تفسير المنابذة التي نهى عنها رسول الله عليه السلام هو ما ذهب إليه أبو حنيفة لا ما ذهب إليه مخالفه، وهو الشافعي ومن معه؛ وشاهدًا لإجازة البيع بالتراضي وإن كان المبيع غائبًا عنهما أو عن أحدهما.
وأخرجه بإسناد صحيح: عن ربيع المؤذن، عن أسد بن موسى، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي، عن أشعث بن أبي الشعثاء سليم الكوفي، عن محمد بن عمير المحاربي، عن أبي هريرة.
ومحمد بن عمير وثقه ابن حبان، وقال ابن أبي حاتم في ترجمته: روى عن أبي هريرة، قال:"نهى النبي عليه السلام عن بيعتين". وسكت عنه.